الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح العقيدة الطحاوية
علم الكلام
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
شهرته
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ومن كلام أبي حامد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه الذي سماهإحياء علوم الدين وهو من أجل كتبه، أو أجلِّها (فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف فمن قائل: إنه بدعه وحرام، وإن العبد أن يلقي الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل: إنه فرض، إما عَلَى الكفاية، وإما عَلَى الأعيان، وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال عن دين الله، قَالَ: وإلى التحريم، ذهب الشَّافِعِيّ ومالك وأَحْمد بن حَنْبَل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف وساق ألفاظاً عن هَؤُلاءِ قَالَ: وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، قالوا: ما سكت عنه الصحابة -مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم- الإ لما يتولد منه من الشر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(هلك المتنطعون) أي المتعمقون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كَانَ من الدين لكان أهم ما يأمر به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ويعلِّم طريقه ويثني عَلَى أربابه، ثُمَّ ذكر بقية استدلالهم، ثُمَّ ذكر استدلال الفريق الآخر. إِلَى أن قال فإن قلت: فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل، فقَالَ: فيه منفعة، وفيه مضرة: فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب، كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام.
قَالَ: فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص. فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيتها في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم عَلَى الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل، قَالَ: وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها عَلَى ما هي عليه وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، قَالَ: وهذا إذا سمعته من محدَّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إِلَى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إِلَى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام، وتحقق أن الطريق إِلَى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن عَلَى الندور) . انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه الله] اهـ.
الشرح
هذا الكلام الذي نقله المصنف، جدير بأن يتأمل كثيراً لأنه منقول عن عَلَمٍ من أعلام الفقه والأصول، والتصوف والكلام، وله شهرة واسعة وكبيرة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وهو أبو حامد الغزالي، يقول:"وإذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا" لأن من المعروف أن أهل الحديث وأهل السنة أعداء لعلم الكلام.
تغلغله في علم الكلام
ثُمَّ يقول: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إِلَى منتهى درجة المتكلمين] وهذه حقيقة تنطبق عليه، فالرجل قد خبر هذا العلم، وبلغ منه مبلغاً عظيماً، ووصل فيه إِلَى الرتبة العليا في علم الكلام، والجدل.
ومع ذلك يقول: اسمع هذا الكلام، وانظر ما أقوله لك عن مضار هذا العلم، وعلى ما فيه من تناقض، لأن من المشكلات العويصة في فكر أبي حامد الغزالي، التناقض والاضطراب، فمن يقرأ في أي كتاب من كتب الغزالي يجد أنه متناقض، فأحياناً يتناقض بعد صفحة أو صفحتين، فضلاً عن الكتاب أو الكتابين، وسبب التناقض سنعرفه عندما نتعرض لحياة أبي حامد الغزالي وكيف عاش؟ فإننا نجد في معرفة حياته أهمية نأخذ منها العبرة، ولو أن كل مسلم، وكل عالم، وكل داعية تأمل في حياة الغزالي، وسيرته، وما تقلب فيه من الأفكار، لأخذ العبرة والعظة، ولبدأ من حيث انتهى. فالرجل ذو العقل الضخم، والفكر الواسع، والمؤلفات الكبيرة، لماذا نجرب نفس التجربة؟ لماذا لا نبدأ من حيث انتهى؟
أبو حامد الغزالي: رحل من بلاد العجم، من بلاد دوس شرق إيران، ولد سنة 450 للهجرة فأول ما برع في الفقه وبلغ فيه منزلة عالية، حيث كَانَ هناك العلماء والفقهاء من الشافعية حتى أصبح فقيها من فقهاء الشافعية يتكلم ويفتي ويعلق وهو لا يزال في مقتبل العمر.
تأثره بمذهب شيخه الجويني في علم الكلام
لقد دخل عَلَى الغزالي الداء العضال من قبل شيخه الإمام الكبير المشهور أبي المعالي الجويني، وشيخة هذا عَلَى شهرته وإمامته في مذهب الشافعية، وقع في الخطأ الكبير كما قال عن نفسه في الرسالة النظامية: لقد ركبت البحر الخضم، وخضت في الذي نهى عنه علماء الإسلام، وهو علم الكلام، وفي آخر المطاف تمنى أن يموت عَلَى عقيدة عجائزنيسابور، ولا يموت عَلَى علم الكلام والجدل الذي تعلمه وأضاع عمره فيه، فهل اتعظ التلميذ؟ كلا لم يتعظ.
لقد علَّم أبو المعالي تلميذه الشك؛ لأن علم الكلام كما قال الغزالي: يولد الشك والحيرة، مع أن الغزالي من قوة ذكائه، وبراعته في العلم كَانَ يفتي الناس، وأصبح طلاب العلم يتوافدون، ويتزاحمون عَلَى منبره وعلى بابه، ومع ذلك كَانَ الشك في قلبه، والنَّاس يسمعونه يفتي في الفقه وفي الأحكام من الخارج ولا يدرون بحقيقة هذا الشك، فالغزالي احتار وقَالَ: أين نجد اليقين الذي لا يعدله شيء في الدنيا؟ فليحمد الإِنسَان الله عز وجل إذا وفق لليقين وللإيمان، وللاعتقاد الصحيح.
أما أهل الحيرة والشك، فلا يشبعهم في هذه الدنيا أي متاع أبداً، مادام عنده شك في دينه، مثل الفلاسفة، واليهود والنَّصَارَى والشيوعيين وأمثالهم يفكرون ليلاً ونهاراً في هذه المجرات يُقَالَ: إنها بالملايين وأعمارها بالملايين: ما الهدف منها؟ أشياء كثيرة محيرة لا حل ولا علاج لها إلا باليقين وبالإيمان الذي يأتي نتيجة قراءة كتاب الله وسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا أبو حامد وُلد عَلَى الفطرة، ولكن علم الكلام أفسده عن طريق الشيخ الإمام أبي المعالي فهذا الشك جعلأبو حامد يقول: -كما ذكر عن نفسه في كتابه المنقذ من الضلال -: فكرت وفكرت فقلت: إن الحق لا يخرج عن أربعة أصناف - المتكلمون: أهل علم الكلام لعل الحق عندهم، واليقين يُستفاد عن طريقهم، ثُمَّ الباطنية، وهَؤُلاءِ قد سبق أن تحدثنا عنهم حيث يقولون: إنهم تلقوا العلم والهدى عن طريق الإمام المعصوم، وأهل الكلام يقولون: اليقين يتلقى عن طريق العقل والبحث، ثُمَّ الفلاسفة: قالأبو حامد: لو دخلت في الفلسفة ربما اهتديت ووجدت اليقين، ثُمَّ الصوفية.
أما علماء الإسلام منأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فلم يأتِ بهم؛ لأنه تعلم من علم الكلام: أن إيمان العوام، وإيمان النَّاس بالدين، وبالأدلة السمعية، مجرد تقليد والعياذ بالله، قالوا: هذا اليهودي يأخذ اليهودية عن أبيه عن جده، والمسلم يأخذها عن أبيه عن جده، فأغفلوه عن الحق ونسي أن في هذا الدين اليقين، وأنه دين الفطرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جَاءَ بالهدى التام، وبالحق الكامل، الذي يغني عما عند المتكلمين والباطنية والفلاسفة والصوفية، لكن هذه هي بداية الانحراف، وبداية الزلل، فقد كانت هذه الأشياء كلها تتفاعل في نفس الغزالي
ومع ذلك هو يعلم ويفتى النَّاس ويتحدث إليهم، وهؤلا النَّاس لا يدرون، فأقبل عَلَى كتب المتكلمين، فأخذ منه ونهل كما قَالَ: حتى بلغ فيه درجة عليا، وأخيراً لم يجد فيه اليقين، لأنها نفسية حساسة شفافة، وفي منتهى الذكاء والفهم، وجد فيه تناقضاً واضطراباً فرفضه، بعد أن ألف فيه كتباً وقَالَ: إنه علم عظيم.
ودخل في الباطنية، ولم يجد عندهم إلا الشر والشؤم والكفر والضلال المحض، فرفضهم ورفض ما هم عليه، ثُمَّ دخل في الفلسفة مع أنه رد عَلَى الفلاسفة في كتاب سماه تهافت الفلاسفة وهو من أكبر الردود عليهم، وكفَّرهم، لكنه دخل وتعمق فيهم، وأخيراً قال: لم أجد اليقين.
ودخل في الصوفية أخيراً، ولما كتب كتابه المنقذ من الضلال الذي هو في نظره التصوف يقول فيه: الآن وجدت الحق وعرفت الطريق، وأن الهدى واليقين لا يُتلقى لا عن طريق العقل كما يقول علماء الكلام، ولا عن طريق الإمام المعصوم كما تقول الباطنية، ولا عن طريق الفلسفة، وإنما يتلقى اليقين عن طريق الكشف والذوق والوجد وهذا هو مصدر الحق واليقين، ثُمَّ بعد أن تعمق في التصوف كتب: إحياء علوم الدين وهو أجل وأكبر كتب أبي حامد الغزالي في هذه الفترة التي رأى أنه لا بد أن ينتقل فيها إِلَى التصوف.
التصوف الذي دخل عَلَى الإمام أبي حامد الغزالي أتاه من مدخل يأتي إِلَى كثير من النَّاس في زمانه وفي كل زمان دائماً وهو من باب ترك الدنيا، والانعتاق منها، والتجرد والخروج عنها، وكذلك تضخيم حقارة الإِنسَان، وإزدراء عمله، وأنه غير مقبول، وأنه مرذول عند الله، وأن الله لا يتقبل منه، وأن صلاته، وأعماله لا تساوي شيئاً، فضخموا هذا بشكل كبير حتى حالهم، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كمن بنى قصراً ولكنه هدم مصرا، فيؤدي بهم إِلَى إحباط شديد لدى الإِنسَان وعدم ثقته لا بالدين ولا بالعمل، وقد يؤدي بهم -والعياذ بالله- إِلَى الضياع والضلال، حتى أصبحوا يشربون الخمر ويعربدون ويسكرون، ويستعملون الحشيش -والصوفية أول من اكتشف الحشيش، ولهذا يسمونها: حشيشة الفقراء، والفقراء معناها: الصوفية، كانوا يسمون أنفسهم وما يزالون الفقراء- والشاهد: أنهم كانوا يريدون الهروب من الواقع، كما فعل الحارث المحاسبي وغيره، من التيئيس والتنفير من الدنيا.
يقول الغزالي أنه لما عرف طريق التصوف بدأ يتهم نفسه، قَالَ: أنا في مدرسة عظيمة -النظامية- وهي مدرسة كبيرة أشهر مدرسة في الدنيا، وفي بغداد عاصمة الدنيا جميعاً، وكان يأتي إِلَى حلقته أربعمائة عمامة، أي: أربعمائة من العلماء يجلسون في حلقته، يقول: إذا عرفت أن هذا هو الطريق الصحيح، واحتقرت عملي، وعرفت أني كنت فيه مرائي كما يقول عن نفسه: وجدت أن أعمالي الماضية في العلم كلها رياء، ولما وجدت أن هذه الأعمال كلها فيها رياء قررت أن أنسلخ، فتحايل بحيلة، وقَالَ: أريد أن أحج حتى يسمح له الوزير بالخروج: فاحتال أنه يريد أن يحج فخرج من بغداد ولم يرجع، قَالَ: وقررت أن لا أعود إليها أبداً.
وخرج إِلَى بلاد الشام وقرر أن يعتكف ويعيش هناك في عزلة بعيدة عن كل الناس، تلميذه أبو بكر ابن العربي الإمام المحدث المعروف، يبحث عنه وتلميذه هذا هو صاحب العبارة التي يقول فيها عن شيخه أبي حامد:(دخل في الفلسفة فلم يستطع أن يخرج منها) وقَالَ: (كنت أمشي في البرية، في صحراء دمشق، وإذا بشيخي أبي حامد يمشي ومعه عكازه وهو لابس لباساً مرقعاً، ومعه ركوة فيها ماء وهو يمشي في البر، قَالَ: فتعجبت قلت: يا شيخ ألم يكن تدريسك في بغداد ومقامك فيها خير لك من هذه الحال؟ كيف تركت الحلقة الكبيرة والنَّاس والخليفة والوزراء يحترمونك ويقدرونك، وينفع الله بك هناك، أما الآن ماذا تصنع؟ فأجاب أبو حامد عَلَى طريقة الصوفية، قال له شيخة: لما طلع قمر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول إِلَى عالم الأصول، وأخذ بعد ذلك يقول أبياتاً:
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل وعدت إِلَى تصحيح أول منزل
أي يقول: نبدأ من الآن بعمل خالص لله، ونترك تلك الدنيا بكل ما فيها.
ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل
غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
يقول في البيت الأخير لما كنت في بغداد، كنت أعطيهم علوماً دقيقة، والعلم الذي أريد أن أقوله لن يستوعبوه، ولن يفهموه، هذا علم -كما يقول في بعض كتبه-: المظنون به عَلَى غير أهله، هذا علم توحيد التوحيد، وخاصة الخاصة، لذا قَالَ: فكسرت مغزلي، أي: ترك المدرسة النظامية، وترك العلم وأخذ يحمل هذه الركوة، فالتناقض في هذه الأبيات واضح، لأنه إذا كَانَ يعلم أنها لغير الله، ويريد أن يصحح أول منزل، ويمشي الطريق من أوله، فكيف يقول في البيت الثالث: السبب أني لم أجد أحداً يستوعب العلم الذي أريد أن أقوله، وإنما وجدت أناساً لا يستحقونه فهناك تناقض لأنه لو كَانَ الغرض هو: التنفير من الدنيا، أو طلب الآخرة لصحح أول منزل وهو هناك، وقد يجد من يستمع إليه.
فالمقصود أن الرجل قال لتلميذه هذه الأبيات وذهب في الخلاء، وترك الماضي ولا يريد أن يعود إليه، ولما كتب المنقذ من الضلال، ذكر كل فرقة من هذه الفرق وما وجد عندها من الاضطراب، فَقَالَ عن علماء الكلام: لم أجد عندهم إلا الحيرة، والشك، والتناقض، وليس عندهم يقين أبداً، فتركتهم وانتقلت إِلَى الباطنية، فوجدتهم يتلقون عن هذا الإمام المعصوم كما يزعمون وفي نفس الوقت قتل الباطنية الوزير نظام الملك صاحب المدرسة واغتالوا الخليفة المقتدي، قَالَ: فطلب منه الخليفة المستظهر أن يؤلف كتاباً ضدهم، فكتب كتاباً سماه فضائح الباطنية أو المستظهِري نسبة إِلَى الخليفة - في الرد عَلَى الباطنية، ورد عَلَى الفلاسفة لأنه وجد أنها لا تصلح، ثُمَّ قبل في آخر الأمر التصوف ولما وصل إِلَى هناك واعتزل الناس، بدأ يكتب الإحياء، وهو أعظم كتبه، واهتم في كتابه الإحياء بالكلام عن الدنيا والتنفير منها والتحذير من علماء السوء، لأنه جرب أنه كَانَ عالم سوء، وكان يفتي النَّاس بهذا العدد الضخم، ولا يوجد عنده يقين.
ولم يتعرضالغزالي في كتابه الإحياء للجهاد نهائياً، وإنما أتى بكل الأبواب -الزكاة والصلاة، والمعاملات، والأخلاق، إلا الجهاد لم يأتِ به أبداً، ولم يتعرض له؛ لأن الإِنسَان إذا دخل في الصوفية وتعمق فيها لا يفكر في الجهاد أبداً.
الجهاد عند الصوفية
والجهاد عند الصوفية هو: مجاهدة النفس، ولو كانوا حقاً يجاهدون النفس لجاهدوا ولتكلموا عن الجهاد، ولأمروا بالمعروف، ولنهوا عن المنكر؛ لأن النفس لن تصل أبداً في أي مرحلة من مراحل العمر إِلَى اليقين الكامل الذي يزعمونه، إنما بمجاهدتها بالصلاة وبقراءة القرآن، وبالأمر بالمعروف، وبقتال الكفا ممكن أن تتقوى لتصل؛ لكن يريدونها أن تصل أولاً! فيموتون ولم تصل؛ هذا هو واقع النفس جعلها الله تَعَالَى متقلبة مترددة، وليست كأي علم من أنواع العلوم يتعلمه الإِنسَان حتى يبلغ النهاية ويثبت.. لا. فهذه يمكن أن ترتفع وتنخفض عَلَى حسب نسبة الإيمان.
فالشاهد أن الغزالي كتب عن هذه المعاني جميعاً.
بعض تناقضات الغزالي
ولما كتب في كتاب الإحياء عن العقيدة، كتب عن التوحيد وعقد له باباً أسماه قواعد العقائد، ضمن كتاب الإحياء، وهذا الكلام المنقول هنا هو منه، ولهذا نرى التناقض والاضطراب في حياة الغزالي وفي كلامه، فإذا كنت قد رفضت علم الكلام، وهو أول ما بدأت به، ووصلت إِلَى الاقتناع.
فلماذا ترجع في الإحياء إِلَى علم الكلام، لأنه بدأ الكلام بالذم لعلم الكلام وبعد، صفحتين بدأ يقول: إن علم الكلام يدفع الشبهات، وينفع في تثبيت العقيدة، وينفع في الرد عَلَى الملحدين، فهذا تناقض كيف يكون هذا الكلام؟ وأبو حامد لما كَانَ فيبيت المقدس يتعبد، جاءت الحروب الصليبية وسمع بمقدمها وعاد مرة ثانية إِلَى بلاد المشرق، وهنالك قبيل آخر أيام حياته ألف كتاباً اسماه إلجام العوام عن علم الكلام بدأ من جديد يرد، ويرفض علم الكلام ويقول: إنه علم كله شر وكله فساد، وكله لا خير فيه، وفي تلك الفترة التي رفض فيها علم الكلام يظهر أنه اقتنع أن التصوف لا خير فيه، ولهذا فإنه أخذ يقرأ في كتب السنة، حتى ذكروا أنه مات وصحيح البُخَارِيّ على صدره، وهذه الأبيات التي قالها عندما لقي أبا بكر ابن العربي تنطبق عَلَى آخر مرحلة من حياته.
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل وعدت إِلَى تصحيح أول منزل.
والأصل أن الغزالي لما بدأ من صحيح البُخَارِيّ، هنا يكون أول منزل؛ لأن الكتاب والسنة هي: المنزل الأول الذي يجب أن ينطلق منه الإِنسَان، ويبدأ منه الطريق، ويترك ما عداها، ويترك الهوى الآخر، والكلام والباطنية، والفلسفة والتصوف وتوفي رحمه الله سنة خمسمائة وخمس.
وهذه كانت آخر مرحلة في حياته، والغربيين لم يكتبوا عن أحد من علماء الإسلام مثل ما كتبوا عن أبي حامد الغزالي، ألفوا عنه وكتبوا، وإلى الآن تحضر رسائل ماجستير ودكتوراه عن الغزالي، وذلك لأن الغزالي تأثر به رجل غربي مفكر مشهور، وهو ديكارت حيث يعتبرديكارت من دعائم وأسس النهضة العقلية والفكرية فيأوروبا.
لقد قرأ ديكارت كلام الغزالي في مرحلة الشك -لما شك في كل شيء- يقول: أشك في العلم التقليدي، أي: الدين -الكتاب والسنة- أي أنه: أول ما بدأ يشك -والعياذ بالله- في هذا الدين.
يقول: هذا تقليد لما شك فيه الغزالي. يقول: الشك يُوصل إِلَى النظر، والنظر يوصل إِلَى اليقين، أولاً تشك ثُمَّ تتأمل ثُمَّ تفكر ثُمَّ تنظر، وتصل إِلَى اليقين بعد ذلك -هكذا كَانَ يظن ولم يصل- ثُمَّ تنقل في هذه المذاهب الأربعة الفكرية وأخيراً رجع إِلَى أول منزل، وهو إِلَى الكتاب والسنة، وديكارت، أخذ هذا الشك وقَالَ: كانت أوروبا تعيش فعلاً في ظلام دامس وكان هذا الظلام نتيجة التقليد، وكان البابوات ورجال الدين يفرضون أي شيء، ويؤمنون بالأناجيل عَلَى ما فيها من تناقض، وبكتب ورسائل بولس وأمثاله عَلَى ما فيها من كذب وتناقض واضطراب، فكان الإِنسَان الغربي يؤمن بأي شيء إيماناً وتقليداً أعمى.
فلما جَاءَ ديكارت قَالَ: لا بد أن نشك، ومن الشك ننطلق إِلَى النظر، ومن النظر نصل إِلَى اليقين، لكن هناك فرقاً بين من يشك في الإسلام لأنه يشك في الحق، وبين من يشك في النصرانية لأنه يشك في الباطل، فلما شك ديكارت وقال العبارة المشهورة:"أنا أفكر إذاً أنا موجود" شك في كل شيء حتى في نفسه، فبدأ يقول: ما الدليل عَلَى أنني موجود؟ قَالَ: لأني أفكر هل أنا موجود أو غير موجود، وما دمت أفكر هل أنا موجود أو غير موجود إذاً: أنا موجود، وبدأ من أول الطريق، ومن أول منزل كما قال الغزالي.
فأخذت أوروبا واستفادت منديكارت أنها تشك في كل ما جاءها عن الكنيسة ورجال الدين والأناجيل المحرفة، ولما شكت أوروبا ونظرت، وجدت أنها فعلاً كانت تعتقد الضلال، فبذلك انتقلت من العلم التقليدي، ومن منطق أرسطو، ومن علم الدين والضلال الذي كانت عليه إِلَى العلم التجريبي. والعلم التجريبي: الحق فيه واضح لأن العلم الغيبي لا يظهر الحق فيه إلا في الدار الآخرة، فأوروبا بدأت تسلك هذا الطريق، فتجربة وراء تجربة وتقدمت في المجال الصناعي نتيجة أخذ هذا العلم عن طريق الْمُسْلِمِينَ وقضايا أخرى.
ديكرت والنهضة الأوروبية
يُعَّدُديكارت من دعائم عصر النهضة الأوروبية، فالغربيون أعجبوا بهذا للسبب المتقدم، ولسبب آخر هو: أن الغزالي إمام كبير من أئمة الإسلام وشك في دينه الإسلام، وسمى الوحي بالعلم التقليدي، وهذا هو الذي يريدونه، فكل طالب ابتعث إِلَى أوروبا، وخاصة في جامعة الصوربون في فرنسا وهي مهتمة كثيراً بالغزالي وعلومه.
فإذا جَاءَ أحد قالوا: تعال ابدأ فقدوتك الإمام الغزالي، ابدأ فشك في كل شيء ثُمَّ في القُرْآن والسنة ثُمَّ في نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، وبعد ذلك انظر وابحث واجتهد حتى تصل إِلَى اليقين، ولهذا نجد كثيراً من المتصوفين الكبار، تخرجوا من الصربون، وما يزالون يتخرجون وعلى منهج الغزالي يسيرون، فهم أخذوا العبرة الخطأ والضلال.
ونحن لم نأخذ العبرة وهي أن الإِنسَان يبدأ من حيث انتهى إليه الغزالي، نبدأ بالكتاب والسنة، لماذا نجرب ونجرب؟!
الغزالي رجل غير تقليدي هذا صحيح، لكنه جعل الدين من التقليد، لكنَّ كونه تنقل في هذه الأربعة دليل عَلَى أنه غير تقليدي، ولو كَانَ تقليدياً لتمسك بواحدة من هذه المراحل التي مر عليها وبقي عليها، ولربما كَانَ بقي عَلَى الأصل الإيمان، وهو الدين والإسلام، لكنه شك ثُمَّ شك في أول الأمر، فهو ولد عَلَى الفطرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يولد عَلَى الفطرة) وفي آخر الأمر يموت والفطرة عَلَى صدره وهي هذا الدين، فلف لفةً طويلة حتى رجع، لماذا لا يبدأ الطريق من أوله؟! فالدعاة والمربون والموجهون والعلماء، الذين يأتون بالمناهج الشرقية أو الغربية المنحرفة، أو البدع الضالة من صوفية أوعلم كلام أو فلسفات أو نظريات، لماذا لا يأخذون العبرة ويبدأون جميعاً من حيث انتهى أبو حامد، وتكون البداية بأول منزل وهو كتاب الله وسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، هذه العبرة التي يجب أن نأخذها جميعاً.
يقولأبو حامد: فإن قلت فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه، فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف، فمن قائل: إنه بدعة حرام وأن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام -فنفهم أن هذا إفراط وإسراف- ومن قائلٍ إنه فرض إما عَلَى الكفاية، وإما عَلَى الأعيان، وإنه أفضل الأعمال، وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله، فهناك إفراط عند من قَالَ: حرام وعند من قَالَ: واجب، وإلى التحريم ذهب الشَّافِعِيّ ومالك وأَحْمد بن حَنْبَل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف سُبْحانَ اللَّه! جعل هَؤُلاءِ الأئمة مفرطين ومنهم الإمامالشَّافِعِيّ.
والغزالي شافعي وهو من أكبر أئمة الشافعية ويكتب دائماً الشافعي في اسمه، وله كتاب المنخول في أصول الفقه عَلَى طريقة الشافعية، وكتبه في مذهب الشَّافِعِيّ معروفة.
فكيف تجعل الذي تقلده وتنتمي وتنتسب إليه في مقابل طرف غلو وتجعل علماء الكلام المذمومين، المرذولين في طرف غلو آخر، فكيف هذا التناقض؟ وسبق أن قلنا إن من أسباب هذا التناقض: أن الرجل مر بعدة أطوار فأصبحت عقليته مضطربة مختلطة، مع قوة الحافظة والذكاء، وغزارة الفهم، يفهم الكل، ومع فهم الكل بلا منهج ولا معيار يقيس ما حفظ وما علم وما فهم صار يكتب كلاماً وينقضه فيما بعده، ثُمَّ نقل عن هَؤُلاءِ، ألفاظاً كثيرة منها:
كلمة الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله التي قالها: (لأن يلقى العبد الله تَعَالَى بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام) .
وكلمة مالك لما قَالَ: (لا تقبل شهادة أهل الأهواء)، وفسرها ابن خويز منداد فقَالَ:(إن مالكاً يعني بأهل الأهواء: أهل الكلام أشعرياً كَانَ أو غير أشعري) ، فإن علماء الكلام هم أهل الأهواء وكلام سفيان وكلام الإمام أَحْمَد وجميع أئمة الحديث من السلف والنقول عنهم معلومة، قَالَ:[وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، أي: عَلَى ذم علم الكلام، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، وَقَالُوا: ما سكت عنه الصحابه -مع أنهم أعرف بالحقائق، وأفصح بترتيب الألفاظ- إلا لما يتولد منه من الشر] وهذا حق لأن أي علم من العلوم لو كَانَ خيراً، فالصحابة أسبق النَّاس إليه، ولن يأتي بعدهم من يسبقهم إِلَى خير أبداً.
يقول: [وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون) أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء] .
[واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كَانَ من الدين لكان أهم ما يأمر به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ويعلم طريقه ويثني عَلَى أربابه] لأنه إذا كَانَ لا يمكن أن نصل إِلَى اليقين، إلا بعلم الكلام، لكان أول علم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الأمة هو هذا العلم لأنه جَاءَ ليعلمهم اليقين، ويذهب عنهم الشك والضلال: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] فجاء يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا، ويبعدنا عن طريق الضلال، فلو كَانَ الذي يزيل وينقذ من الضلال هو علم الكلام؛ لكان هو أول علم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة هو علم الكلام، ونقول أيضاً للغزالي: لو كَانَ المنقذ من الضلال هو التصوف لكان أول علم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الأمة لينقذهم به من الضلال، ثُمَّ ذكر بقية استدلالهم.
وذكر استدلال الفريق الآخر، حيث يقولون: فيه دفاع عن الدين، ومناظرة الملحدين، وقمع للشبهات، هكذا ذكر ذلك وهي موجودة في الجزء الأول من الإحياء كما قلنا قواعد العقائد.
قَالَ: [فإن قلت: فما المختار عندك؟] بعد أن ذكر أن السلف جميعاً مجمعون عَلَى شيء، وأن أهل الكلام خالفوهم؛ فأجاب بالتفصيل فقَالَ: فيه منفعة، وفيه مضرة؛ لأن السلف ذموه بإطلاق قالوا: لا نفع فيه ولا خير فيه وذكر أنهم مجمعون عَلَى ذلك، فلماذا تخالف إجماع السلف؟
فهو كما يقول: تركت التقليد وأخذت انتهج سبيل النظر حتى أصل إِلَى اليقين؛ كأنه يعتذر من اتباع السلف؛ لأنه من باب التقليد، وترك كلام السلف وإجماعهم، ويقول: فيه منفعة، وفيه مضرة، فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام، قَالَ: فأما مضرته فإثارة الشبهات فهذا ضرر، وهذا يكفي وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم وذلك مما يحصل بالابتداء، وأي إنسان يتعمق في الجدل وعلم الكلام فإنه تحصل عنده الزعزعة، ورجوعها في الدليل مشكوك فيه..... إلخ، وهذا ينطبق عليه رحمه الله.
أهذا لديه اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وللسلف الصالح؟ فلو أنالغزالي قَالَ: نَحْنُ مع هَؤُلاءِ السلف، لأراح نفسه واتخذ موقفاً واضحاً، لكنه قَالَ: فيه تفصيل وقد يكون واجباً، ثُمَّ يقول كلاماً يوجهه إِلَى كل باحث، وإلى كل مطلع، وإلى كل قارئ من أي اتجاه.
قَالَ: [وهذا] أي: إن كلامي هذا عندما قلت: إنه ضار [إذا سمعته من محدث، أو حشوي] والحشوية: هم الذين ليس عندهم حشو الكلام وهم ينبزون علماء الحديث بهذا [ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا] أي: هَؤُلاءِ علماء حديث ما عندهم إلا قال الله وقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعن فلان عن فلان، فلان ضعيف، وفلان ثقة، ما عندهم شيء،..فلذلك لا تستغرب أنه يَذُّم علم الكلام، ويذم علم الفلسفة.
قَالَ: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه، إِلَى منتهى درجة المتكلمين] كَانَ يقول: فَخُذْ عني فأنا متأكد، وقد خبرت كل هذا، فقد بلغت إِلَى منتهى درجة المتكلمين، إذاً: وصل إِلَى منتهى درجة المتكلمين [وجاوز ذلك إِلَى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام] يقول: أنا كذلك الآن جاوزت إِلَى التعمق في علوم أخرى، في الباطنية، وفي الفلسفة، وفي التصوف، فتعمق حتى قال كما في المنقذ من الضلال:"وجدت علم الكلام علماً وافياً بمقصوده غير وافٍ بمقصودي" أي أن هذا العلم في ذاته عَلَى قدر أهله يكفي؛ لكنه بالنسبة لرغبتي غير كافٍ لها لأنه يقول: أنا أريد اليقين وأبحث عنه، لكن مقصود هذا العلم الجدال والنزاع وإثارة القضايا والإستنباطات؛ لأنه علم كامل، يغرق فيه الإِنسَان، فوجدته كافياً بمقصوده غيركافٍ بمقصودي، ثُمَّ يقول:"وجاوز ذلك إِلَى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام: وتحقق أن الطريق إِلَى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود " يقول: أنا تحققت أن الطريق ومعرفة الحق عن طريق علم الكلام مسدودة.
ثُمَّ يقول أخيراً: [ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن عَلَى الندور] فبعض النَّاس يفك الحجاب الذي كتبه المشعوذ ويجد أن آية الكرسي وقل هو الله أحد -اسم الله الأعظم فيه- فيقول الْحَمْدُ لِلَّهِ وتطمئن نفسه، ولا ينظر إِلَى تلك الطلاسم من فوق ومن تحت وجميع الأطراف، وهكذا كل العلوم لا بد أن تأتي بشيء من الحق لتعمي عَلَى الناس، والبريء منهم والساذج أو المغفل عندما يرى هذا الشيء من الحق ينسى تلك الطلاسم وتلك الحواشي، فهو مثل علم النجوم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الجني يتلقى الكلمة فيلقيها إِلَى وليه قبل أن يدركه الشهاب، فيحفظها الولي من الإنس، فيضع معها تسعة وتسعين كذبة، والنَّاس دائماً يتعلقون بذكر الواحدة، وينسون التسعة والتسعين فهذه طريقة الشيطان، وهذا تلبيسه، فعلم الكلام في هذا مثل خبر الكاهن، صدقه واحدة ولكن معها تسعة وتسعون كذبه، هذه هي غاية ما في علم الكلام.
هدم الدين وإفساده
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[وكلام مثله في ذلك حجة بالغة والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً عَلَى معان صحيحة، كالاصطلاح عَلَى ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة عَلَى الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله عَلَى أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعّروا الطريق إِلَى تحصيلها وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وأحسن ما عندهم فهو في القُرْآن أصح تقريرا، وأحسن تفسيرا، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد كما قيل:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كُتْبُ التناظر لا المغني ولا العمد
يحللون بزعمٍ منهمُ عقدا وبالذي وضعوه زادت العقد
فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبهه والشكوك والفاضل الذكي يعلم أن الشبهه والشكوك زادت بذلك] اهـ. .
الشرح:
لقد دخل أهل الكلام في هذا الدين كما دخل المنافقون من قبل وأخذوا يهدمون ويفسدون في هذا الدين، فمما أفسدوا في هذا الدين قولهم: إن القُرْآن غير معجز وأنه بإمكان أي إنسان أن يأتي بمثل هذا القُرْآن إلا أن الله صرفهم عنه، وقد سبق هذا مبحث الكلام عَلَى القُرْآن والخلق وقولهم كما قال النظام: إن الخبر لا يقبل إلا إذا رواه جمع عن جمع، وأنكروا خبر الآحاد، يريدون بذلك هدم السنة؛ لأننا إذا اشترطنا في أي حديث أن يرويه جمع عن جمع، وهذا الجمع اختلفوا في تحديده، حتى قيل عن بعضهم: لا بد أن يكون سبعين عن سبعين، ولا يوجد عندنا إلا النادر وقليل جداً الذي يمكن أن يرويه هذا العدد جيل عن جيل إِلَى جيل.
الهدف من وضع مصطلحات جديدة لعلم التوحيد
هناك أناس يهدفون إِلَى إبطال دلالة الكتاب والسنة، وهَؤُلاءِ لا يمكن وصف غرضهم بأنه وضع اصطلاحات جديدة لعلم التوحيد بحجة تفهيمه للأمة لتسير عليه، وإذا نظرنا إِلَى واقع السلف الذين أنكروا عَلَى أهل هذا العلم نجدهم لا ينكرون أي اصطلاحات في أي علم من العلوم، مادام ليس فيها بدعة وضلال.
وكذلك إذا نظرنا إِلَى حال من أنكر عليهم السلفُ من أمثال بشر ومن جَاءَ بعده من أصحاب الكلام كعبد الجبار لم ينكر عليهم لوضع اصطلاحات جديدة إلا لأنها تهدف إِلَى إبطال دلالة النصوص الشرعية، وألفت الكتب المعروفة في كتب العقيدة التي تضع أبواباً في ذم علم الكلام لما ظهر أئمة البدع.
سبق أنه لم يكن أحد من علماء السلف ينتقد هَؤُلاءِ لمجرد أن هناك اصطلاحات جديدة، وأيضاً إذا نظرنا إِلَى حال الذين وضعوا علم الكلام لا نجدهم من علماء الإسلام الذين اشتغلوا واهتموا به ولكنهم وضعوا اصطلاحات جديدة لهذا العلم كما وضع الفقهاء اصطلاحات فقهية وكما وضع النحاة والمفسرون وسائر العلماء لسائر العلوم، فالسلف إذاً: لم يكرهوا الدلالة والاستدلال عَلَى الحق والمناظرة.
تكفير الإمام الشافعي لأحد أعلام المعتزلة
إن الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله ناظر حفصاً الفرد أحد المعتزلة وقال كفرت -بالله العظيم عَلَى هذا الاعتقاد وناظر غيرهم من أهل البدع.
والمعتزلة لا يخفى عَلَى أحد من الْمُسْلِمِينَ أنهم خارجون عن الطريق المستقيم وعن السنة والجماعة.
هل الأشاعرة على طريق أبي الحسن الأشعري أم لا؟
لكن الذين اشتغلوا بعلم الكلام ممن ينتسبون إِلَى أبي الحسن الأشعري يقولون: نَحْنُ علماء كلام أهل السنة، والمعتزلة علماء كلام أهل البدعة، ونحن ندافع عن السنة، وهدفنا إثبات الحق والعقيدة الصحيحة، والاستدلال للحق، وهَؤُلاءِ ينتسبون وينتمون إِلَى الإمامالشَّافِعِيّ، ولهذا نجد كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إِلَى الإمام الأشعري الذي ألفه الحافظ ابن عساكر وقد وقع الحافظ رحمه الله في هذه الغلطة مع أنه أورد معظم كتاب الإبانة للأشعري ضمن كتابه الذي يقول فيه أبو الحسن الأشعري: إنه في الأصول والفروع في العقيدة عَلَى ما كَانَ عليه الإمام أَحْمد بن حَنْبَل -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- والسلف الصالح وأثبت جميع الصفات وأثبت أن الإيمان قول وعمل وأثبت القدر، أثبت كل شيء عَلَى منهج السلف ومع ذلك هم متمسكون بما كَانَ عليه من قبل.
وابن عساكر مع أنه جَاءَ بقطعة كبيرة جداً من الإبانة ضمن الكتاب هذا؛ لكنه استدرك في ترجمة الأشعري ابتداءً من صفحة (333) من الكتاب الذي حققه الكوثري يقول في معنى كلامه: فإن قيل إن غاية ما مدح به الأشعري ومن اتبعه أنه متكلم، وقد ورد في ذم علم الكلام ما هو معلوم عند السلف فكيف توفقون بين هذا وهذا؟ فأورد الإشكال وأراد أن يحله، لكنه لم يستطع.
فنقل عن الشَّافِعِيّ رحمه الله وعن غيره ما ذموا به الكلام وأهله ثُمَّ حل المشكلة فقَالَ: (إن ما ذَمَّ به الشَّافِعِيّ وغيره من العلماء علم الكلام إنما هو علم الكلام البدعي وأما ما اشتغل به الأشعري ومن اتبعه فإنه علم الكلام السني) ، فهل هذا الكلام صحيح؟
لو نظرنا ودققنا فإنه ما دام أنه علم كلام فهو مذموم، واستدل بأن الشَّافِعِيّ رحمه الله الذي أورد هذا الذم لعلم الكلام نقد حفصاً الفرد وغيره، وذكر بعض النصوص التي نقلها عن طريق الخطيب البغدادي وغيره أن الشَّافِعِيّ ناظر وجادل أهل البدع. وكما قال المصنف: هنا لا يكره السلف الصالح ولا يمنعون الدلالة عَلَى الحق ولا المحاجة لأهل الباطل.
فكتاب الله عز وجل فيه المحاجة للمشركين وفيه المحاجة لليهود وللمنافقين، وفيه أيضاً بيان ومنهج في محاجة أصحاب المعاصي الذين يغفلون عن الله عز وجل ويرتكبون ما حرم الله، فنجد أن في القُرْآن ما ينير لنا الطريق ويدلنا كيف نجادل جميع أنواع المنحرفين حتى قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القُرْآن (ما من شبهة إِلَى أن تقوم الساعة إلا وجوابها في كتاب الله عز وجل علمها من علمها وجهلها من جهلها) ففيه الهدى الكامل والشفاء الكامل، والجواب الكامل عن كل شبهة.
إن الجدل ليس ممنوعاً بإطلاق ولا ممدوحاً بإطلاق.
وأعظم من ذلك أننا نستدل عَلَى الحق بالبراهين العقلية والنظرية؛ فالله عز وجل استدل عَلَى أعظم قضية كَانَ ينكرها المُشْرِكُونَ -وهي قضية البعث بعد الموت- بالأدلة العقلية الحسية المشاهدة، مثل ضرب المثل في الأرض الهامدة كيف أن الله ينزل عليها الماء فتحيا وكذلك يحي الموتى، وغير ذلك من الآيات التي جعلها الله سبحانه وتعالى أمثلة وعبر، فالجدال والاستدلال للحق ليس مذموماً.
لكن الاستدلال للحق بالمنهج الكلامي هو المذموم، وهذا هو الذي كرهه السلف الصالح -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فكرهوه، كما قَالَ:[لاشتماله عَلَى أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعروا الطريق إِلَى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها] ثُمَّ ذكر المثل المعروف عند العرب [فهي لحم جمل غث، عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى] فحال علماء الكلام غاية ما فيه أنهم يحصلون قضايا بدهية، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل وهو الخبير بهم وبأحوالهم يقول: إن ما اتفق عليه الخائضون في الأمور العقلية من فلاسفة ومتكلمين لا يكادون يتفقون إلا عَلَى ما يتفق عليه عقلاء بني آدم الذين لم يتعلموا من علم الكلام شيئاً. وإذا أراد علماء الكلام أن يضربوا مثلاً في قضية متفق عليها ماذا يقولوا؟ كما أن الكل أكبر من الجزء.
إذاً: ما دام الجزء من الشيء فالشيء كله أكبر من جزئه، فيأتون بهذا المثال من شدة ما أفلسوا في القضايا البرهانية لم يبق لديهم إلا الاستدلال عَلَى أمور لا ينكرها ولا يكابر فيها أحد من العقلاء حتى الذين لم يشغلوا أنفسهم بهذه العلوم، وقوله:[وأحسن ما عندهم فهو في القُرْآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد] هذا هو حال علماء الكلام: فلو أرادوا أن يثبتوا صفة الإرادة مثلاً يقولون: إذا نظرنا إِلَى الكون نجد أن فيه تخصيص. هذا طويل، وهذا قصير، وهذا غني، وهذا فقير، ويطيلون بكلام لا يكاد يفهم صفحات طويلة تخرج منها بأن الخالق الذي خلق هذا البشر مريد، وهذه القضية بدهية عند كل مسلم: أن الله سبحانه وتعالى يريد ويفعل ما يريد، كما هو في الكتاب والسنة لكنهم لا يريدون هذه الطريق، وإنما يريدون الطرق العقلية كما يقولون، ولهذا قال هذا الشاعر الذي لم نعثر عَلَى اسمه، ولا عَلَى عصره؛ لكنه قال بيتين وهما في معناهما من أجود ما قيل يقول:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كُتْب التناظر لا المغني ولا العمدُ
يحللون بزعم منهم عقدا وبالذي وضعوه زادت العقدُ.
التنافس في الدنيا هو الذي أدى إِلَى أن توضع كتب التناظر وكتب المقالات وذكر مثالين: المغني وهو كتاب للقاضيعبد الجبار المعتزلي المتوفي سنة (415) وهو أكبر وأجمع كتاب من كتب المعتزلة وهو في علم الكلام وفي الضلال، والقاضيعبد الجبار هو: إمام المعتزلة المتأخرين، ولم يظهر في المعتزلة بعده مثله وحتى قبله النظام والعلاف كانا في الابتداء، وأكبر مصدر ومرجع للمعتزلة هو كتاب المغني.
وكتب القاضي عبد الجبار مجلدات ومنها: كتاب الأصول الخمسة الذي شرح فيه الأصول الخمسة التي هي أصول المعتزلة، وقد نقب المستشرقون وأتباعهم وأذنابهم عن كتاب المغني في جميع مكتبات العالم، وهو مكون من عشرين مجلداً ولم يستطيعوا أن يظفروا إلا بأربعة عشر مجلداً متفرقة غير مرتبة، والستة الأخرى ضائعة، وهم متحسرون عليها، ونرجو أن لا يجدوها، ولا يوجد فيه إلا كما قَالَ المُصنِّفُ هنا:[لحم جمل غث، عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى] بعد طول الكلام المعقد غير المفهوم يقرر شيئاً جَاءَ في آية، أو في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويُغني عن كل ما كتب هذا الرجل من تعقيد وتطويل.
وأما كتاب العمد هذا، فهو لأبي الحسن الأشعري: ويمتاز كتاب العمد عن بقية كتب الأشعري بأنه ذكر فيه كتبه وهي تعد بالمئات قيل: إنها مائتين وقيل إنها ثلاثمائة كتاب ألفها الأشعري قد تكون رسائل صغيرة، وقد تكون مجلدات، فقد قال في كتابه العمد: رددت عَلَى المجوس وعلى النَّصارَى وعلى الثنوية وعلى النظام وعلى العلاف وعلى ابن الراوندي وعلى ابن الخياط وعلى الكعبي وعلىالخالدي وعلى كذا وعلى كذا.. ذكر أصنافاً من أهل الضلالة، ومن أمم الكفر رد عليها.
وكتاب العمد خاص لإثبات الرؤية؛ لكن كيف يثبت الأشعرية الرؤية؟ وننظر كلام المُصنِّفُ لنرى التطويل والتعقيد.
يقولون: هذه الرؤية ليست في جهه، يعني: ليس أحد لا الرائي ولا المرئي في جهة وليس فيها تقابل، أي أن: الإِنسَان ليس في مقابل الله عز وجل وليس فيها أبعاد ولا فيها كذا ولا كذا فعقدوا الموضوع؛ ولو جئنا إِلَى أحد من أهل السنة وقلنا له: هل تثبت الرؤية؟ فسيقول: نعم، قال الله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] تقول له: كيف يُرى؟ يقول: قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] لا نعلم الكيفية، فهذا عالم الآخرة لا ندركه، وإننا لا ندرك حقائق الجنة والنَّار ونعيمها، فضلاً عما يتعلق بالله عز وجل.
هذه الخلاصة أن تأتي بآية أو بآيتين من كتاب الله عز وجل وتريحك عما عداها، وهم يأتون بفلسفات: هل النظر لا بد أن يكون من شعاع ينطلق من العين ويقع عَلَى المرئي؟ أو يخرج من المرأي، والبعد والجهة والمقابلة كلام طويل جداً، وفي الأخير نثبت رؤية لا تتفق مع ما جَاءَ في الكتاب والسنة. وغاية ما فيها أننا دحضنا شبهات المعتزلة في إنكار الرؤية بحجج لو جَاءَ في المعتزلة من هو أذكى لنقض هذه الحجج، ولقَالَ: لا تتصور المقابلة إلا بين اثنين متناظرين.... إلخ.
ولكن إذا قلنا: قال الله، وقال رَسُول الله، ألجمنا المخالف إلجاماً تاماً، وأثبتنا ما جَاءَ في الكتاب والسنة وكنا عَلَى يقين وثقة من أننا لم نقلد فلاناً من النَّاس الذي قد يرد عليه فلان، إنما اتبعنا ما أنزل الله عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام مالك:(أو كلما جَاءَ أحد هو ألحن بحجته من الآخر تركنا ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لقول ذلك الآخر) لا نقف عند حد إذاً: لا المغني ولا العمد يعطينا الحق الذي نريده، وإنما تطويل وتعقيد وتكلف، والشاعر بهذين المثالين يشير إِلَى أن علم الكلام وكتب المناظرات والمقالات لكلا الفرقتين المعتزلة والأشاعرة لم يحصلوا فيها العلم النافع، ولم يدلونا عليه ولن يفعلوا ذلك فإنما وضعت الكتب في هذا العلم من أجل التنافس عَلَى الدنيا فأشار بالمغني إِلَى المعتزلة وبالعمد إِلَى الأشعرية.
والمقصود بالتنافس عَلَى الدنيا هنا ليس بمعنى الحصول عَلَى المال، وإنما هو إثبات أن الإِنسَان لم يفحم في المناظرة، فالتنافس كَانَ عَلَى المكانة الدنيوية، وكان يعز عَلَى أي متكلم أن يُقَالَ: إن فلاناً قد غلبك وأفحمك، فالتنافس من أجل أن يُقَالَ: فلان رد عَلَى فلان وفلان غلب فلاناً، هذا الذي كَانَ عليه علماء الكلام في السابق، وهم لا يسمون علماء إلا بالتقييد، ولا يدخلون في العلماء -وكما سبق أن أوضحنا أنه إذا وقف أحدٌ ماله، وقَالَ: هذا وقف للعلماء أو لطلبة العلم، فلا يدخل فيه علماء الكلام - لأن علم الكلام ليس بعلم كما في فتاوى أهل العلم، وحتى لا يُقَالَ: فلان غلب فلاناً، كَانَ كل منهم يفتعل الحجج والبراهين، ويفتري عَلَى الخصم الآخر ليبين أنه لم يغلب وأنه لم يهزم.
ومن الأدلة عَلَى ذلك: أنهم يكتبون عن مذهب السلف الصالح فيقولون: قالت الحشوية: إنه تَعَالَى جسم عَلَى العرش يمسه كما يمس الجسم الجسم إذا وضع عليه، ثُمَّ يردون عَلَى هذا الكلام الذي هو من وضعهم وعندهم فيه خبرة، وعندهم كلمة "المثلية" فيقولون: لا يمكن أن يكون جوهر عَلَى جوهر، ولا جسم عَلَى جسم
…
، وهم لم يردوا عَلَى منهج السلف وإنما ردوا عَلَى الكلام الذي وضعوه ثُمَّ نقضوه، فالتنافس يمكن أن يفسر بأنه تنافس في المناظرة والمجادلة.
والمناظرة والمجادلة غالباً ما تحمل صاحبها عَلَى التمحل، وعلى أن يكون للنفس حظ في هذا الجدل؛ ولهذا نُهينا عن الجدال إلا لحاجة وبالتي هي أحسن؛ حتى مع أهل الكتاب كما قال الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن [النحل:125] أي: نبين الحق وندحض الباطل ولا نكثر الجدال معهم. ولا نسترسل ليصبح مراءً، فالأمر عند هَؤُلاءِ ليس أمر اقتناع ولا نقص في الحجج ولا ضعف فيها، ولكنه هوىً يجمح بهم، فعلينا أن نوضح لهم الطريق، فإذا استبانت سبيل المجرمين، تركناهم وشأنهم.
أما قول الشاعر عن المتكلمين:
يحللون بزعم منهم عقدا وبالذي وضعوه زادت العقد
معناه: أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا تعقيد عندهم، فمثلاً: في إثبات صفات الله عز وجل، نأخذ كتاب العقيدة الواسطية لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله فإنه يأتي بالآيات والأحاديث، وأيُّ إنسان عنده فهم يستطيع أن يقرأ هذه الآيات وهذه الأحاديث؛ فيجد أن هذا منهج واضح في إثبات صفات الله تبارك وتعالى ولا شبه فيه ولا شك ولله الحمد، لكن إذا قارنت هذا بالمغني أو بالعمد أو بأي كتاب من كتب الكلام قديمها وحديثها تجد الفرق والبون شاسعاً بين منهج يقوم عَلَى الوحي ميسر مقرب واضح، وبين منهج يقوم عَلَى الكلام، والفلسفة والجدال.
فأعقد مسألة في العقيدة وأكثرها إشكالاً -مثلاً مسألة الصفات- وربما تكون أكثر من ذلك وهي مسألة القدر، وإذا سمعت من يتكلم في القدر بمجرد الكلام العقلي، فإنك تسمع كلاماً كثيراً جداً!! إن كَانَ مؤلفاً فقد يكون مجلدات، وإن كَانَ كلاماً فقد يكون ساعات أو محاضرات من أجل إثبات القدر، وهذه حقيقة معروفة.
واسألوا من قرأ في هذه الكتب التي كتبت عَلَى الطريقة الكلامية في القدر، ماذا استفاد بعد أن انتهى من الكتاب؟ يشك، ويحتار كثيراً، ويذهب ليسأل العلماء، ويكون حاله بعد أن قرأ أسوأ من حاله قبل أن يقرأ، وإذا سمع كلاماً من هذا النوع عن القدر، تزداد لديه الشبهات، أن يقول: وفي الأخير يقول: لم أفهم ما قال؛ فيذهب يبحث عند هذا المتكلم أو عند غيره، وتستمر عملية البحث فيصبح في حيرة وقد لا يخرج منها -والعياذ بالله- وقد تنقدح في قلبه شبهات لا تحل أبداً نسأل الله السلامة والعافية.
ولو نظرنا في منهج السلف الصالح في أي كتاب من كتب السلف يمكن أن نثبت كل موضوعات القدر من أولها إِلَى آخرها بعدة آيات وأحاديث، ولا يبقى بعد ذلك شبهة أبداً.
فمراتب القدر عند أهل السنة نثبتها بآيات وأحاديث لا تعقيد فيها:
مرتبة العلم
فنثبت العلم لله عز وجل أنه عليم بما كَانَ وماسيكون يقول الإمام أَحْمَد رحمه الله: "ناظروا القدرية بالعلم" فاختصر علينا الطريق، ومعنى ذلك: قولوا لهم: هل يعلم الله ما سنفعل من خير أو شر، وما سيقع إِلَى أن تقوم الساعة؟
فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كَفَرُوا أي: أننا من غير أن نبحث عن علاقة فعل العبد بفعل الرب، والتأثير، والكشف، نمسك الطريق من أوله، ونقول له: أتؤمن أن الله يعلم ما كَانَ وما سيكون إِلَى قيام الساعة، ويعلم من سيطيعه ومن سيعصيه، فإذا أقر بهذا خصم حينئذ يقال له: من علم ذلك، أليس هو الذي خلقه؟! أليس هو الذي أوجده؟! أليس مبنياً عَلَى العلم والعلم مقتضاه الحكمة والعدل والرحمة؟!
وإذا أنكروا علم الله كفروا؛ لأنهم أنكروا ما هو معلوم من كتاب الله وعند جميع الْمُسْلِمِينَ بالضرورة. .
مرتبة الكتابة
والمرتبة الثانية: بعد مرتبة العلم أن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(أول ما خلق الله القلم، فَقَالَ له: اكتب، قال: وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) فكتب ما كَانَ وما سيكون من خير أو شر، من مصيبة أو طاعة أو معصية، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] .
فنقول لمن يشكك في القدر: هل تؤمن بالمرتبة الثانية، وهي: أن الله كتب مقادير كل شيء؟ فَيَقُولُ: نعم، ولا يستطيع أن ينكر هذا؛ لأنه لو أنكره لكان حكمه كحكم من أنكر العلم.
مرتبة المشيئة
المرتبة الثالثة: وهي أن نثبت أن لله تَعَالَى مشيئة، وأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، كما قال الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29] وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99] آيات كثيرة في إثبات المشيئة.
مرتبة الخلق
المرتبة الربعة: مرتبة الخلق فأمر علمه الله وكتبه وشاءه، فما المانع من أن يخلقه؟ فخلق الله تَعَالَى هذا الفعل طاعة كَانَ أم معصية.
فإن قَالَ: قائل أمر كتبه الله وشاءه وخلقه إذاً ماذا أعمل؟ نقول: هذا الكلام سبق إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أبداً أن يأتي أي جيل من الأجيال أذكى وأدق وأعلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في الأمور السياسية، وفي فن القتال، ونحن نتحدى كل العالم في الزمان الماضي وفي المستقبل أن يأتوا في منهج السياسة العادلة الحكيمة مثل سياسة عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أو في القضاء مثل أي قاضي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو في فن القتال والتخطيط الحربي مثل أي أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والله لا يستطيعون ولن يستطيعوا أبداً، فكيف يكون حالهم في أمر الدين والعقيدة، الذي تفجرت به هذه الطاقات ووجدت هذه المعارف وهذه العلوم التي لا تُحصّل أبداً بدون الإيمان!!
فالصحابة -رضوان الله عليهم- انتبهوا لهذه اللفظة وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رَسُول الله: ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم)، وهذا الحديث صحيح روي بعدة روايات وفي رواية أخرى (قالوا: ففيم العمل يا رَسُول الله؟) .
السؤال سألوه وهم أفضل وأذكى جيل. قالوا: يا رَسُول الله إن كَانَ العمل في أمر قد قضي ومضي وجفت به الصحف ورفعت الأقلام ففي أي شيء العمل؟
قَالَ: النبي صلى الله عليه وسلم (بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كَانَ من أهل السعادة فهو ميسر لعمل أهل السعادة، ومن كَانَ من أهل الشقاوة فهو ميسر لعمل أهل الشقاوة، وقرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] }
أذكى النَّاس في الدنيا سألوا هذا السؤال، وأجابهم أعلم الخلق عَلَى الإطلاق بالله عز وجل وبالقضاء والقدر، قال لهم:(اعملوا) وقَالَ: (كلٌ مُيَسرٌ لِمَا خُلِقَ لهُ) وعندما يأتي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وأن الملك يكتب عند نفخ الروح أربع كلمات (رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) نفهم هذا الحديث بنفس كلامعبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - لما قَالَ: (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) فالمعنى واحد: السعادة كتبت عَلَى الإِنسَان فيسر لها، والشقاوة كتبت عَلَى الإِنسَان فسوف ييسر لعمل أهل الشقاوة. ومع ذلك أمرنا بالعمل. إذاً: لا يوجد لأي إنسان مجال أن يقول نريد في أمور الدين أن نشقق وأن نحلل وأن نوضح؛ لأن هذه التفريعات والتشقيقات والتحليلات لا تزيد الأمر إلا تعقيداً، كما قال هذا الشاعر:
يحللون بزعم منهم عقدا وبالذي وضعوه زادت العقد
فيعقدون المسألة في أي باب من أبواب الإيمان بالله سبحانه وتعالى وستأتي النقولات عن أئمة الكلام واعترافاتهم وبعضهم لا يعترف إلا عند الموت كما فعل الجويني، والرازي أو قريب الموت كما فعل الغزالي حين يكون العمر لا يسمح للإنسان بأن يبدأ الطريق من أوله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين؛ بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله ويعرف برهانه ودليله إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقول الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا.
فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِلَ وإن أرادوا بها ما يُخالفه رُدَّ، وهذا مثل لفظ المركب، والجسم، والمتحيز، والجوهر، والجهة، والحيز، والعرض ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة بل هم يختصون بالتعبير بها عن معاني لم يعبر غيرهم عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل مثال ذلك في التركيب فقد صار له معان:
أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء، ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركبا بهذا المعنى المذكور.
الثاني: تركيب الجوار كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضا من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة.
الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم -مثلاً- هيولاه الفضة وصورته معروفة وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه وهو أنه: هل يمكن التركيب من جزئين أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر، وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى، وعلوه على خلقه، والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة، ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً، فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً، لم يحرم بهذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها؟ هذا محال، فترى أهل الكلام يقولون هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل] اهـ.
الشرح:
قوله: [ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين] يقول هؤلاء: إنهم يؤلفون هذا العلم ويقعدون هذه القواعد من أجل أن يحصل اليقين، ويبطلوا شبه الملحدين والمارقين حتى تتقوى العقيدة كما ذكر ذلكالغزالي عنهم قال: إنهم يقولون: إن علم الكلام إنما نريد به إثبات العقائد وتأكيدها وتقوية العامة، ودفع الشبهات والشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام.
فيقول لهم المصنف رحمه الله: [ومن المحُال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله] فالله سبحانه وتعالى أنزل القرآن شفاءً لما في الصدور وأنزل فيه الهدى الكامل، والعلم النافع الذي لا يمكن أن يأتي الإنسان إلا من طريق الوحي، هذا العلم الذي لو اجتمع الإنس والجن لم يهتدوا ولم يصلوا إليه أبداً.
فالعلم الموجود اليوم في الأرض على كثرته ما هو في الحقيقة إلا بحث في الأمر الظاهر من الحياة الدنيا؛ كما الله تبارك وتعالى يقول عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون [الروم:7] فهم يبحثون في طبيعة المادة وفي الفلك وفي الإنسان وفي كذا وفي كذا.. أمور هي ظواهر فقط، ومع هذا فهم لا يصلون إلى شيء؛ بل كما قالوا بأنفسهم: إن العلم الحديث اليوم يمكن أن يفسر لك كيف، ولكنه لا يستطيع أبداً أن يفسر لك لماذا؟ ويسمونها في الفلسفة أو المنطق: العلة الصورية، والعلة الفاعلة، أو العلة الحقيقية، والعلة الصورية هي: ما تراه أنت علة في الظاهر، مثل الشمس عندما تسطع على البحار فيتبخر الماء فتتكون السحاب، هذه علة صورية.
وهذا في كيفية تكوين السحاب؟ لكننا إذا قلنا: لماذا الشمس وسيلة إلى هذا الشيء؟ ولماذا يرتفع السحاب بهذا الشكل؟ ولماذا يأتي فيمطر مدينة ويدع مدينة أخرى؟ لا يستطيعون ذلك، فهو يصف لك السحابة كيف مشت بسرعة من كذا إلى مكان كذا، فتكاثفت وحصلت الكهربائية في الجو، ثم سقط المطر. وصف طويل جداً كله في العلة الصورية في الشيء الظاهر. ولكن لماذا وقع؟ لا يوجد جواب، يقولون لك: أنت الآن نقلتنا إلى قضية فلسفية خارج إطار العلم، نحن ننظر في الموجود. والأمور والقضايا الفلسفية هي خارج نطاق المعامل والمراصد، فليست من شأن العلم والعلماء.
نأتي إلى مسألة: لماذا خلق هذا الإنسان؟ لا يمكن أن يجيبوا عليه أبداً؛ لأنه لا يعرف إلا عن طريق الوحي، ولهذا كريس مرسون مؤلف كتاب العلم يدعو إلى الإيمان كان رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك أكبر بلد في العالم في هذه العلوم المادية، وهو رئيس الأكاديمية المختصة بهذا الشأن، لما تكلم في الجانب العلمي في هذا الكتاب، تكلم عن آخر ما وصلت إليه الإنسانية في هذا الفن، لكنه يريد أن يثبت أن الدين حق. وليس أصل عنوان كتاب العلم يدعو إلى الإيمان وإنما هو الإنسان لا يقوم وحده رداً على الكتاب الذي ألفه جوليان هكسلي وهذا من أكبر الملاحدة في العالم، وهو من الدروينة الحديثة ألف كتاباً اسمه الإنسان يقوم وحده أي: بدون خالق فرد عليه هذا العالم، وكتب كتاب الإنسان لا يقوم وحده ودلالته ترجمت بالعلم يدعو إلى الإيمان.
فالشاهد: أنه تحدث فيه عن قضايا علمية في منتهى ما وصل إليه الإنسان من العلم، لكنه لما ربط هذه بالدين؟ لا يوجد عنده إلا التوراة، فجعل يقول: قال في الإصحاح رقم كذا وذكرت التورة كذا، وهذا الكلام لا يتناسب مع ما جاء به، فلو قورن كلام هذا العالم وما جاء به من التوراة -الوحي الذي جاء من عند الله كما يزعم اليهود والنصارى- لكان الوحي أقل بكثير جداً من العلم، وهذه هي الفكرة العامة عند الغرب وهي التي كانت راسخة في العقلية اليونانية القديمة التي أوجدت لنا الفلسفة وعلم الكلام فترجمها المسلمون، فكانت اللوثة والمرض الخطير الذي نتحدث عنه، وهو علم الكلام، وهي نفس القضية: أن العلم البشري يمكن أن يكون أرقى مما جاء به العلم الإلهي الذي جاء به الأنبياء.
وأول ما في التوراة هو سفر التكوين، وفيه يقول: كانت الأرض مظلمة ثم بعد ذلك أراد الرب أن يخلق، قال الرب: لتكن سماءً، فكانت سماءً، وقال: لتكن أرضاً، فكانت أرضاً، ثم قال ليكن الإنسان، فوجد الإنسان، ثم جاء وخلقه، ثم يقول: كان الرب يمشي في الجنة -هكذا قال؟! يتمشى في الجنة- يبحث عن الإنسان، فلم يجده فقال: أين أنت يا آدم؟ فقال: اختبأت عنك يا رب -كلام لا يدخل في الذهن- أهذا دين؟! فقال: إنني ها هنا اختبأت، فقال: لماذا اختبأت؟ لأنك عريان. قال: نعم يا رب!! قال: لماذا أكلت من الشجرة؟ وهكذا تمضي القصة، وما الذي جعله يأكل من الشجرة، وما الذي جعله يتعرى، قال: الحية، يقول في نفس التوراة: وكانت الحية أحيل الحيوانات في البرية، فجاءت إلى حوى وأغرتها، وحواء أغرت آدم ليأكل من الشجرة.
قال: فعاقبها الرب -كما تقول التوراة المحرفة- بأن قال من الطين تأكلين، أي: عقوبتها أنها لا تأكل إلا من الطين من التراب، وأنها تطرد ويكرهها الناس ويقتلونها، فيحاول المؤلف في هذا الكلام أن يقول: إن العلم مهما ترقى لا يمكن أن يتنافى مع الدين فيحاول حذف بعض المقاطع التي فيها مثل قصة الحية هذه، فلو ذكر هذه الأمور فإن الملحد الذي ألف الكتاب إلإلحادي، سيفحمه ويغلبه، فيأتي بمقاطع معينة من التوراة، ومع ذلك يمكن أن يقول هكسلي: هذا الكلام الذي جئت به باطل؛ كيف يكون الرب يمشي مثل الإنسان والعياذ بالله؟ وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وما يدري أنه أكل من الشجرة، وكيف تكون الحية بهذا الشكل، متى تكلمت الحية، ويثير عدة إشكالات.
ونحن أحوج ما نكون إلى معرفة أمور الغيب -الحشر والصراط والميزان والجنة والنار- من معرفتنا للمجرات والكواكب وغيرها، هذا الذي يحتاجه كل إنسان مهما بلغ من القوة والمنصب في أي بلد وفي أي أمة. يحتاج أن يعرف لماذا جئت؟ وكيف أموت؟ وإذا مت إلى أين أذهب؟ وما هي الطريقة التي سأصل إليها؟ وما هي نهاية كل إنسان؟ وهذه لا توجد أبداً إلا في الوحي "في القرآن والسنة" فإذا كان هذا الحال مع علماء العصر على ما وصولوا إليه، فما بالكم بعلماء الكلام من الفلسفة واليونان ومن قبلهم. فلو جمعت علومهم اليوم وأعطيت إلى أصغر طالب في الكيمياء أو الفيزياء أوفي أي علم من العلوم المعروفة اليوم لاعتبر أن علومهم من أتفه العلوم في الكون.
إذاً: فالشفاء التام من جميع الأمراض القلبية والحسية في كتاب الله عز وجل والهدي التام الذي لا ضلال معه على الإطلاق كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي) والعلم اليقين هو العلم الذي لا يمكن أن تشوبه أدنى شائبة من الجهل أو الخطأ أو النسيان؛ بل لا يمكن أن يرقى البشر إلى معرفته أبداً وهو ما جاء به القرآن والسنة، وأفضل العقول وأكملها هو من يستطيع أن يفهم كتاب الله ويستنبط منه هذا العلم الذي يحتاجه جميع البشر والذي يضطر كل إنسان إلى معرفته، وكذلك اليقين: لا يقين أعظم من اليقين الذي يولده كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في القلوب، ففيهما، كما قال ابن عباس رضي الله عنه (جواب لكل شبهة إلى قيام الساعة علمها من علمها وجهلها من جهلها) فالشبهة في أي موضوع كانت: فهي موجودة في القرآن مع حلها إما بالنص وإما بالاستنباط لمن كان من أهل العلم والاستنباط، فيؤخذ الحق، والهدى، والعلم، واليقين من كلام الله ورسوله، ولا يؤخذ من كلام هؤلاء المتحيرين.
فالكلام الذي يقوله المصنف رحمه الله يرسم لنا منهجاً علمياً نظرياً يقول: [بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل - في أي قضية نقول: ما قاله الله ورسوله هذا هو الأصل- ويتدبر معناه ويعقله ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري والسمعي] أي: نعرف دليل هذه القضية من الكتاب ومن السنة ومن العقل الذي يؤيدها ونستنبط أيضا حتى تكون قضية واضحة بين أيدينا، وبعد ذلك نعرض دلالته على هذا وهذا بتفاصيل تلك الدلالات، ثم نجعل أقوال الناس التي تخالفه أو توافقه متشابه مجملة، فهذا هو المعيار: أقوال الناس مهما كانوا نجعلها في حكم المتشابه المجمل الذي يحتمل الخطأ والصواب.
ثم نأتي بكلام الناس هذا ونعرضه على هذا المعيار السابق، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، مثل الكلام الذي يأتي به هنا، فكلمة الجسم تحتمل كذا وكذا، وكلمة الجهة تحتمل كذا وكذا، فما وافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قبلناه وما خالف ذلك رددناه، وسبق أن أوضحنا مسألة الجهة وقلنا: إن كان المراد بالجهة العلو فنحن نثبت أن لله جهة كما قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وهناك أدلة كثيرة جداً من العقل والفطرة على إثبات أن الله -سبحانه تعالى- فوق المخلوقات وإن أردتم بالجهة شيئاً وجودياً حيزاً محصوراً محدوداً، فلا نثبت هذا المعنى على اصطلاحكم ونأتي بالاصطلاح أو بالكلمة الشرعية لأنها لا تحتمل ذلك.
وكذلك لفظة الجسم: هل نثبت أن الله جسم أو غير جسم وكذلك هل هو مادة أو غير مادة، وهل هو جوهر أو غير جوهر؟ والجوهر اختلف فيه هل هو أصل الأشياء وخلقتها أم لا؟ يقولون: الجوهر هو: الحقائق، والأعراض هي: ما يقوم بالجواهر من الصفات.
وهذا كلام نحن في غنى عنه، فهم لا يستطيعون -حتى أصحاب العلم الحديث- أن يميزوا بين شيء ذاتي وبين شيء عرضي فمثلاً كان الأولون يقولون: الشمس ذاتها هي الجرم. والنور الساطع منها عرض من أعراضها، فهل نستطيع أن نفصل بين أشياء ذاتيه وبين أشياء عرضية فبعض الأشياء التي تبدوا لنا عرضية ربما تكون ذاتية، فيصعب جداً أن نفصل بين أشياء ذاتية وأشياء عرضية، فمثلاً: زيد ذاته هذا الجسم؛ لكن علمه وطوله ولونه عرض، فهذه الأشياء العرضية يمكن أن تتغير وتزول، لكننا لو دققنا في الموضوع لما استطعنا أن نفصل فصلاً تاماً بين الأشياء العرضية التي تنفك عن الإنسان وبين الأشياء الذاتية التي لا تنفك عن حقيقته، فمثلاً لوجئنا إلى صفات أخرى عضوية أو معنوية نجد أننا لا نستطيع أن نفصل بين ما كان ذاتياً وبين ما كان عرضياً، فهذه أمور معقدة لا داعي لها.
ثم يقول المصنف: [فإن هذه الألفاظ لم تأتِ في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح بل ولا في اللغة] أي: لغة العرب، ليس فيها هذه الكلمات وهذه الاصطلاحات، إنما هي اصطلاحات وضعية مترجمة ومنقولة عن اليونان وغيرهم، فيقول:[بل هم يخصون بالتعبير بها عن معاني لم يعبر غيرها عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية] فيقال لهم: فسِّروا معنى الحيز والجوهر فإذا قالوا الجوهر كذا وكذا، نقول: ننظر إلى هذا المعنى هل دل عليه القرآن، وهل يتفق مع معناه أو يخالفه؟ [وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل]
ثم ذكر المصنف أن التركيب له عدة معانٍ وهي كالتالي:
التركيب المزجي
المعنى الأول: التركيب المزجي: وهو أن يتكون الشيء من متباينين، فأكثر كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع، وهذا الكلام لا يتماشى مع الطب الحديث، فلا يمكن أن نتعسف الأدلة، ونقول: إن معناها كذا، عَلَى خلاف ما هي عليه، فكلام ابن القيم في الطب النبوي يدور عَلَى هذه الطبائع الأربع، وقد كَانَ في مرتبة عالية من العلم حتى في الطب؛ لأنه كَانَ ينتقد حتى الأطباء، وكان في عصره ابن سينا وداود الأنطاكي، وأمثالهم من أكبر الأطباء الذين تكلموا في خواص الأشياء، فكل الطب مبنى عَلَى هذه الأربع؛ لكن الطب الحديث الآن لا يقر بهذا الكلام ولا يعترف به ولا يدري ما معنى رطب ويابس.
وينبغي ملاحظة أمر مهم: وهو أننا نأخذ من كلام ابن القيم رحمه الله الحديث وشرحه في الطب، لكن الكلام في هذه الأربع لا تقرأ؛ لأنه كلام مبني عَلَى علم عصري في عصرهم انتهى زمانه، وانتهى مفعوله الآن، ولو نسبت إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم لكنا في مشكلة، فلنحذر من أن ينسب إِلَى الله ورسوله شيء مما وصلت إليه العلوم في هذا العصر بقطع ويقين، وغاية ما في الأمر أنها قد تفسر بعض ما دل عليه القُرْآن في الجملة، وأمر به من القول أو النظر في الآفاق أو النظر في الأنفس، فتركيب الحيوان من الطبائع الأربع عَلَى قولهم، منفي عن الله سبحانه وتعالى فنحن نحلل المعاني معنى معنى، وننظر أنه -جل شأنه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا- يتركب كما تتركب أعضاء المخلوقات -عياذاً بالله- فهذا المعنى نرده ولا نقبله ولا يلزم من وصف الله تَعَالَى بالعلو، أو بأي شيء من الصفات الثابتة بالوحي أن يكون مركباً بهذا المعنى
تركيب الجوار
المعنى الثاني: [تركيب الجوار: كتركيب مصراعي الباب ونحو ذلك ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تَعَالَى إثبات هذا التركيب] ، فالباب يتركب من مصراعين، وهذا يسمى تركيب جوار؛ لأن هذا جاور هذا، وليس تركيب مزج، والفرق بينهما: أن التركيب المزجي لحم وأعضاء وعصب تركب منها الكائن الحي، أما تركيب الجوار فهو عبارة عن جسمين تلاصقا فكونا شيئاً واحداً وهو الباب، وهذا التركيب أيضاً لا نثبته لربنا تبارك وتعالى.
التركيب من الأجزاء المتماثلة
[الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة] والجسم يتركب من أجزاء متماثلة كلها سواء -فمثلاً- الخلايا، أو الذرات أو أي شيء، كالمعادن فإنها تتركب من أشياء متماثلة، فهذه يسمونها بالجواهر المفردة وتسمى اليوم بالذرة، والذرة تتركب من النواة والالكترونات الموجبة والسالبة، ولم يأتِ في الكتاب والسنة أن هذا التركيب يطلق عَلَى الله عز وجل فلا نثبته.
التركيب من الهيولي والصورة
الرابع: التركيب من الهيولي والصورة كالخاتم، والهيولى: هي مصدر الأشياء التي تتكون منها الأشياء، فالمثال الذي ذكره هنا أن الخاتم هيولاه الفضة وصورته معروفة، تشكلت المادة أو المصدر بشكل خاتم، فمثلاً المكرفون ألمنيوم، والألمنيوم مادة هيولى تشكل بشكل مكرفون، هذا الشكل يسمى صورة، هذا هو الفرق بين الهيولى والصورة، مثال آخر الخشب والكرسي: الخشب كشيء وهمي متخيل في الذهن، هذا هو الهيولى والأخشاب المتعينة هيولى، والكرسي والباب أو أي شيء في الخارج نراه هذا يسمى صورة الهيولى أو المصدر، وهذا تجدونه كثيراً في كتب العقائد.
وقال أهل الكلام: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول ولا فائدة فيه أبداً، وهو أنه هل يمكن التركيب من جزئين، من أربعة، من ستة، من ثمانية، من ستة عشر إِلَى آخر ذلك.
يقول المصنف: [وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تَعَالَى وعلوه عَلَى خلقه] فنحن نعرض هذا الكلام في التركيب عَلَى الكتاب والسنة، هل هذا التركيب جَاءَ في الكتاب والسنة، من قرأ آية أو سمع حديثاً هكذا؟ لا يوجد قطعاً.
إذاً: هذا المعنى من معاني التركيب باطل ولا يثبت لله عز وجل، ثُمَّ يقول المصنف:[والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء وإنما قولهم مجرد دعوى وهذا مبسوط في موضعه] فتكلم في قضية لا نريد الخوض فيها.
التركيب من الذات والصفات
الخامس: التركيب من الذات والصفات يقول أهل الكلام: إننا إذا أثبتنا أن لله تَعَالَى يداً ووجهاً وسمعاً وبصراً وغير ذلك من الصفات، فإننا أثبتنا تركيباً، فنحن ننفي التركيب فيقولون: ليس له صفات والعياذ بالله.
قال أبو جعفر الطّّحاويّ:
[فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائها، شاكاً زائغاً لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[يتذبذب؛ يضطرب ويتردد، وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إِلَى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إِلَى الرأي والآراء المختلفة، فيؤول أمره إِلَى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد - وهو من أعلم النَّاس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم، في كتابه تهافت التهافت:"ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يُعتدُّ به؟ ! " وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقف في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إِلَى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثُمَّ أعرض عن تلك الطرق، وأقبل عَلَى أحاديث الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فمات وصحيح الإمام البُخَارِيّ عَلَى صدره، وكذلك أبو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في: أقسام اللذات:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفى عليلاً. ولا تروى غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إِلَيْهِ يَصعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] . وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] ثُمَّ قَالَ: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) .
وكذلك قال الشيخ: أبو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الكريم الشهرستاني، إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلِمين إلا الحيرة والندم، حيث قَالَ:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وكذلك قَالَ: أبو المعالي الجويني رحمه الله: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إِلَى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو قَالَ: عَلَى عقيدة عجائز نيسابور] اهـ.
الشرح:
كما هو معلوم أن العلم الذي يورث اليقين، والخشية، والثمرة الصالحة -وهي الأعمال الصالحة- التي تقرب إِلَى الله تعالى، هو العلم الذي جَاءَ به الكتاب والسنة، وأنزله الله تبارك وتعالى شفاء ورحمة وحياة ونوراً وهدىً للناس.
آثار العلم غير النافع
أما ما عدا ذلك، ما يناقضه ويضاده من أنواع العلوم والمعارف الأخرى، فإنها لا تفضي إِلَى اليقين، ولا تثمر العمل الصالح، بل مآلها إِلَى الخسارة والشك والحيرة والرّيب التي تقتل الإِنسَان وهو حي بين الناس، وتورث له العمى في بصيرته وعقله وفكره فالإِنسَان قد يولد سليماً معافى في بصره، ثُمَّ يصاب بآفة أو مرض أو عاهة، فيعمى بصره فيرى الدنيا وهي ظلام، فلا يهتدي فيه إِلَى شيء، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، فكذلك الإِنسَان يولد عَلَى الفطرة.
فإذا تعلم العلم النافع من الكتاب والسنة، وأخذ من العلوم التي لا تتعارض مع الكتاب والسنة، فإنه يزداد نوراً إِلَى نوره وهداية إِلَى هدايته، فإذا دخله الشك والريب نتيجة العلوم التي تورث ذلك ذهبت بصيرته، وذهب نور قلبه، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط ويحار ويضيق، فهو مريض ولكنه في هيئة المعافى، ألا ترون إِلَى الذي يبتلى بمرض من الأمراض النفسية تراه يرى وهو لا يدري ماذا يرى، ويرى البشر ولكنه في الحقيقة لا يراهم، كيف تكون حياة هذا الإِنسَان؟ ومن ذلك الإِنسَان الذي يغبطه عَلَى هذه الحياة، أو يتمنى أن يكون مثله؟ هذا هو الحاصل والواقع في عالم المادة، وفي عالم الحس وفي عالم البصيرة، وفي عالم الحقيقة.
أثر العلم غير النافع على أصحاب العقول
تجد ممن يستمون بالعلماء: أصحاب عقول راجحة، وأصحاب فكر ورأي ثاقب تركوا القُرْآن والسنة وأعرضوا عما أنزله الله تبارك وتعالى، مما يورث اليقين، ويذهب الريب والشك، واتجهوا إِلَى علوم اليونان من الفلسفة وعلم الكلام والجدل، والمناظرات في أمور لا خير فيها، أو ليست مما يدرك بالنظر، ولا بالعقل ولا بالبحث، ولا بالجدال، فآل أمرهم وحالهم إِلَى أن وقعوا في هذا الريب، وفي هذا الشك، الذي عبروا عنه، وكل منهم عبر عنه بما يتفق مع ما بذل من حياته، وجهده إن كَانَ قد وفق إِلَى التوبة في آخر عمره.
فهَؤُلاءِ نماذج نتحدث عن بعضهم:
ابن رشد الحفيد وعلم الكلام
فابن رشد الحفيد هو:مُحَمَّد بن أحمد بن مُحَمَّد بن رشد، من أكبر من يسمون بفلاسفة الإسلام، بل هو في الحقيقة أكبر الفلاسفة الذين ظهروا في القرون الوسطى كما يعبر عنها في التاريخ الأوروبي، والغربيون يعتبرونه الرجل، أو الفيلسوف المؤثر في الفكر الغربي كله، ويسمونه المعلم الثاني عَلَى أساس أن المعلم الأول هو أرسطو، فإن ابن رشد أضاف إِلَى كلام أرسطو الشيء الكثير: حذفاً وإضافة ونقداً وتعديلاً.
ابن رشد والأشاعرة
وقد نقد منهج الأشاعرة نقداً شديداً وبين ما فيه من تناقض وخلل واضطراب وهذا حق، لكن لم ينقده لأنه مؤيد لمنهج الكتاب والسنة كما فهم الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه عَلَى الشرح، وملخص رأي ابن رشد الذي يخالف فيه رأي الأشاعرة كما ظنه الأرناؤوط أن الأشاعرة يرون أن كلام الفلاسفة باطل أو كثير منه باطل، وأنه يجب أن يردوا عليه، وابن رشد يرى غير ذلك.
فهو يرى أن الفلسفة التي يسميها الحكمة، والشريعة لا يتعارضان، يعني: أن ما جَاءَ به الوحي، إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من عند الله لا معارضة ولا منافاة ولا تناقض بينه وبين ما قرره أرسطو من العقليات في الإلهيات، وليس الكلام في الطبعيات، ولا في الرياضيات؛ بل الكلام في الإلهيات، فيقول ابن رشد: إن الحكمة للشريعة رضيعة، فكلاهما أختان من الرضاع، وكلاهما يدعون إِلَى أمر واحد، ويتفقان في منهج واحد، ومن هنا اشتغل بالدفاع عن الفلسفة وأنها لا تتعارض مع الشريعة.
ولذلك ألَّف كتاباً اسمه" فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " ذكر فيه أن الشريعة والحكمة -أي الفلسفة وهي ليست بحكمة بل هي ضلال- متصلتان تؤديان نفس الغرض ونفس المنهج، وهذا الكلام أكثر ضلالاً ممن يقول إنه يرد عَلَى الفلاسفة من غير منهج الكتاب والسنة.
ابن رشد الحفيد وموقفه من الإلهيات
يقولابن رشد: (ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به) وهذه فلتة لسان أراد الله تَعَالَى أن يظهر بها الحق، وإلا فبالنظر إِلَى حياته ومنهجه يعلم أنه لا يقرها، لكنه قالها لحكمة من الله عز وجل وهو الإقرار بالحق، والإِنسَان لو ترك فطرته عَلَى السجية لنطقت بالحق، فهو يقول: إذا كَانَ الأمر أمر الإلهيات، فمن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به، يريد: من أهل العقول، ومن أهل الآراء.
وأما الحق الخالص النقي في باب الإلهيات هو في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ورَسُول الله مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أكمل النَّاس عقلاً وفهماً لم يكن يعلم عن هذا الأمر شيئاً حتى أنزل الله تبارك وتعالى عليه جبريل بالرسالة، ولهذا قال تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [الضحى:7] فحصلت له الهداية من الله تبارك وتعالى بهذا النور، وإلا فما كَانَ يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولم يكن يعرف عن ربه عز وجل هذه المعرفة العظيمة قبل أن ينزل عليه الوحي، وهو أكمل النَّاس بلا شك عقلاً وفهماً وصحابته الكرام هم أعظم النَّاس رأياً وعقلاً وفكراً، ومع ذلك كيف كانت حياتهم في الجاهلية؟! فلما نزل القُرْآن واتبعوا الرَّسُول وأخذوا من نوره، واقتبسوا من العلم الذي جَاءَ به أصبحوا أعقل النَّاس وأعلم الناس، وأفضل النَّاس وأكمل النَّاس في الإلهيات وفي معرفة الله تبارك وتعالى، فمن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به من غير الرسل، ومن غير طريق الوحي؟ لم يأت أحد بشيء أبداً.
امتحان العلماء للآمدي
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/134) : قرأت بخط الحافظ الذهبي فيتاريخ الإسلام قَالَ: كَانَ شيخنا القاضيتقي الدين سليمان يحكي عن الشيخ شمس الدين ابن أبي العز أنه كَانَ يحضر مجالسسيف الدين الآمدي، قَالَ: فأردنا أن نمتحنه، لأنهم رأوه يتخلف عن الصلاة، فلم يدروا أيصلي الرجل أم لا؟ فوضعنا الحبر في رجله فمكث أكثر من يومين وهو باق لم يذهب! فعلموا أنه لا يتوضأ ولا يصلي- نسأل الله العافية- فماذا كَانَ يقول الآمدي؟ كَانَ يجلس ويقرر المسائل العظيمة في علم الكلام وفي الأصول، وفي الجدل والمناظرة والبحث حتى أن العز بن عبد السلام يقول: ما تعلمت أصول البحث والمناظرة إلا من السيف الآمدي، وكان يحفظ المستصفى وغيره من كتب الأصول وهي من أعقد وأصعب العلوم، وله كتاب اسمه: الإحكام في أصول الأحكام، في الأصول.
فكان متبحراً في العقليات وفي الجدليات، وفي النظريات، وفي علم الكلام، وفي الأصول لكن كَانَ حاله في الدين ماذكرنا، وليس الأمر كما قال الأرنؤوط:"ثُمَّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه، ونسبوه إِلَى فساد العقيدة، وانحلال الطوية"، ليس الأمر كذلك، وإنما اجتمع العلماء أو الفقهاء، وكتبوا عليه محضراً لفساد العقيدة والطوية وميله إِلَى آراء الفلاسفة فكان ما كَانَ هذا الرجلسيف الدين الآمدي، كَانَ إمام الأشعرية في عصره، وإمام علماء الكلام في عصره، وكان يقول العز بن عبد السلام: لو أن زنديقاً جَاءَ ليجادل الْمُسْلِمِينَ لوجب أن ينبري الآمدي لمناظرته، لقوته في الجدل وفي الحجج العقلية، لكن حاله في نفسه كَانَ كما نقل عنه الذهبي.
فالأمر إذاً ليس أمر عقليات ولا كلاميات أو حفظ مسائل ومتون، وإنما الأمر أمر إيمان ويقين، والعلم إذا لم يثمر الإيمان واليقين وتقوى الله تبارك وتعالى وخشيته في السر والعلن فلا خير فيه، بل هذا دليل عَلَى أن ذلك العلم خبيث، وإن كَانَ العلم حقاً، وكانت النية لغير الله عز وجل فإن صاحبه لا ينتفع به، فكيف إذا اجتمع الأمران: علم لا ينفع، ونية فاسدة نسأل الله العفو والعافية.
ويقاس عَلَى هذا نظريات علم الاجتماع، وعلم النفس، والقوانين الوضعية بجميع أنواعها، وأكثر هذه العلوم التي تسمى العلوم الإِنسَانية، التي لا تثمر هدى ولا صلاحاً، ولا فلاحاً ولا خيراً لمن يقرأها. فتجد أحدهم يتعمق فيها ويناقش الأدلة، ويرد من كلام هذا، ويأخذ من كلام هذا، ويؤلف المجلدات، أو يحصل عَلَى أعلى الشهادات، وكلها لا خير فيها، ولا فائدة من ورائها أبداً، والفرق بين هذه العلوم وبين علم الكلام: أن علم الكلام كَانَ النَّاس في ذلك الزمن ينظرون إليه بمنظار الدين، حتى في أوروبا، فقد كَانَ رجال الدين يمثلون حال الكنيسة التي تتحكم في كل شيء، وفي كل علم، بخلاف دين الإسلام فهذه العلوم عندما كانت لأنها تسمى علوماً إلهية، وتتعلق بصفات الله عز وجل، كَانَ النَّاس كانوا يتجهون إليها، فكان الواحد منهم -أي من علماء الكلام - يظن أنه يتعلم علم الكلام ليدافع عن الدين، وليعتقد اليقين -كما مر- وأن هذا علم نافع، وأنه مثل علم النحو، وعلم الفقه ونحو ذلك من العلوم، التي طورت ودونت وأحدثت لها مصطلحات جديدة.
أما العلماء المعاصرون اليوم في الاجتماع والقانون والنفس وأمثال ذلك فإنهم يأخذونها عَلَى أنها آراء لهم، لا أنها تقرب إِلَى الله، فلا يقولون: إنها هي الحق الذي يريده الله، بل يأخذونها عَلَى أساس أنها هي العلم الإِنسَاني الذي لو انتظمت الحياة عليه لصلحت الحياة الإِنسَانية؛ لأنهم يؤمنون مسبقاً بأن الدين لا دخل له في شئون الحياة، ولا يمكن أن ينظم الحياة، ولا يصلح في عصر الحضارة والتطور، لكن يقولون: إن الإِنسَان ارتقى في الماديات، وفي التقنية، وكذلك ارتقى في القانون وفي الاجتماع وفي الفلسفة، ويريدون أن تتواكب العلوم الإِنسَانية مع الزمن الحضاري، وذلك لأن الجانب الإِنسَاني قاصر جداً عن مجاراة التفوق في الجانب المادي؛ لأن الجانب المادي هو مما خُلِق عقل الإِنسَان ليعمل فيه، أما الجانب الآخر فهو مما حجب عنه العقل البشري، فالنتيجة واحدة لا إيمان ولا تقوى، ولا خشية ولا صلة بالله تَعَالَى.
توبة أبي حامد الغزالي في آخر عمره
أبو حامد الغزالي: هو الذي مر الحديث عنه، وانتهى آخر أمره إِلَى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، وألف في آخر عمره كتاب إلجام العوام عن علم الكلام كتبه ليبين أن علم الكلام لا يؤدي إِلَى الثمرة التي يظنها النَّاس منه، عَلَى ما في كتابه من اضطراب وتناقض سبق أن أشرنا إليه.
والمهم أنه أقبل عَلَى حديث رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومات وصحيح البُخَارِيّ على صدره، وأول منزل، وآخر منزل يجب عَلَى الإِنسَان أن يسير فيه من منازل الطريق هو الكتاب والسنة، وليس الأمر كما قال رحمه الله: أن أول المنازل هو التصوف.
أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي
ثُمَّ يقول المصنف: [وكذلك أبو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الرازي] ، الفخر أو فخر الدين، وقد ترجم له الحافظ الذهبي رحمه الله في الميزان في حرف الفاء وأخذ باللقب وقد أورد الحافظ ابن حجر رحمه الله في اللسان إشكالاً في ترجمة الآمدي، وقَالَ: إنه أي الذهبي أدخل ترجمة الآمدي وترجمة الفخر الرازي في الميزان وهما مما لا يدخل في موضوع الكتاب، وهذا نقلاً عن ابن السبكي صاحب طبقات الشافعية، عندما لام الحافظ الذهبي بقوله: لماذا تدخل الرازي في كتاب الميزان؟!، وكتاب الميزان وضع فيه الرجال المتكلم فيهم من الرواة. والفخر الرازي ليس من أصحاب الرواية، ثُمَّ اعتذر عنه فقَالَ: ولعله أراد أن يبين أمره لأنه عنده من المبتدعة. والآمدي أيضاً ذكر في قسم السيف الآمدي.
يقول الحافظ ابن حجر: ذكره باللقب دون الاسم، كأنه يشعر بالتقليل من شأنه فالله أعلم، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في لسان الميزان في ترجمة الشهرستاني: إن الشهرستاني له شيء من الرواية، ومع ذلك لم يدخله الذهبي في الميزان، فَيَقُولُ: إذا كَانَ الأمر أمر بيان لأهل البدع فليدخل كل أهل البدع، وإن كَانَ الأمر أمر الرواية فإن الرازي لا رواية له، وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كثيراً ما يسميالرازي بابن الخطيب، لأن أباه كَانَ خطيب الري، وهي من أكبر المدن في بلاد الفرس، ويُقَالَ: إنها هي التي تسمى اليوم طهران، والنسب إِلَى الري رازي، وهو خطأ مخالف للقياس؛ لأن الزاي هذه زيادتها مخالفة للقياس، وهكذا وقع الاصطلاح: أنهم يزيدونها، والرازي ألف كتاباً سماه أقسام اللذات يقول فيه هذه الأبيات:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال.
وكما بينا أن إقدام العقول وخوضها فيما لم تخلق له نهايته ضلال، وغايته لا خير فيه، يقولالرازي:
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال
وقد بينا لماذا توجد الوحشة والجفوة بين الروح والجسد وبيان ذلك وموجزه، أن الجسد يمشي وفق ما أمر الله، ووفق النظام الكوني، والأمر الكوني الذي جعله الله سبحانه وتعالى عليه، وجعل للروح الأمر الشرعي، فمن مشى متبعاً للشرع، وجعل قلبه وروحه متفق مع الشرع اتفق قلبه وجسمه، أو اتفقت روحه وجسمه، فلم يكن هناك وحشة بين الروح وبين الجسد.
أما إذا جعل الإِنسَانُ الجسدَ يمشي، وهو بطبيعته يمشي وفق الأمر الكوني، لكن لو اختار لقلبه طريقاً غير طريق الإيمان بالله، فهنا تحصل الوحشة، ولهذا تجد الذين ينتحرون وهم في غاية النعيم الجسدي من الأموال والملذات الدنيوية، وكل ما يطمح إليه الجسد موجود، فينتحر بسبب وجود الوحشة والتنافر بين الجسد والروح، بين القلب وبين هذه الحياة، لا يأنس ولا يطمئن لهذه الحياة أبداً لأنه لا راحة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى واتباع أمره، ونسبة الانتحار في المجتمعات الفقيرة نادرة جداً، ولكن نسبة الانتحار في المجتمعات الثرية عالية جداً، وكفى بهذا عبرة للإنسان إذا تأمل.
وليعلم أن الحياة السعيدة هي في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن أعظم تنمية يجب أن تسعى إليها جميع الشعوب، ويسعى إليها جميع الأفراد هي تنمية الإيمان بالله عز وجل لأنه هو الذي ينمي السعادة والراحة، والطمأنينة، وهو الذي يعقب أيضاً الرخاء في الحياة الدنيا، والنماء فيما يرزقه الله تبارك وتعالى كما قال نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ َ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً
[نوح:10-12] فالتنمية المادية، والرخاء المادي، والثروة الاقتصادية الوفيرة كل ذلك يأتي تبعاً للإيمان بالله تبارك وتعالى، فالإيمان بالله هو الأساس لسعادة الدنيا والآخرة فتلتئم النفس والروح مع الجسد، ويلتئم الفرد مع المجتمع، وتلتئم الحياة البشرية مع الكون الذي يحيط بها، لأن الصلة بالله عز وجل موجودة، وكل مافي الكون خلق الله سبحانه وتعالى. وعندما ننظر كيف كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نجد التآلف يصل بين المؤمن بالله عز وجل وبين الماديات، ليس فقط مع الأشخاص، فالمنبر -جذع النخلة- يحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الخطابة عليه، وجبل أُحد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: نحبه ويحبنا؛ لأن له إحساس، يحب أو يبغض سُبْحانَ اللَّه! فالقصد أنه إذا وجد الإيمان بالله عز وجل وجد التآلف حتى مع الأمور المادية، فأصلح أيها العبد العلاقة مع الله عزوجل، وأصلح صلتك بالله عز وجل فإن هذا الكون كله خلق الله سبحانه وتعالى.
وكل هَؤُلاءِ البشر عبيده سبحانه وتعالى يُسخٍرهم كما يشاء، لكن إذا أفسدت العلاقة مع الله عزوجل، وقطعت الصلة بالله -عزوجل- وجدت النفرة مع الزوجة ومع الأولاد، ومع الزملاء في العمل، ومع الحياة جميعاً، كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] يتلاعنون في النار، ويتخاصمون، وكل منهم يلوم الآخر وهكذا كل محبة في هذه الحياة الدنيا.
يقولالرازي:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أنا جمعنا فيه قيل وقالوا
هذا هو علم الكلام: قيل وقالوا، فإن قيل قلنا؛ لكن هل هذا الكلام يصدر عن يقين وعن اعتقاد، وهل هذا الكلام نافع أو هو علم مثمر؟ قلنا: ليس شيئاً من ذلك.
فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبالٍ قد علت شرفاتها رجال فزالوا والجبالُ جبالُ
وهنا حصل ما نسميه بيقظة الروح، أو يقظة الضمير، وذلك عندما يتفكر الإِنسَان أين مصير الناس، وهذا من أكثر ما يورث اليقين في القلب، ولو أن الرازي فطن إِلَى هذا الأمر وحده - كما ذكر في هذه الأبيات- لأغناه، وهذه العبرة كررها الله سبحانه وتعالى في القُرْآن ولأنها عظيمة، ولأنها مؤثرة، وهي التفطن والتفكر في الأمم الذين خلوا من قبل قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ َ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137] انظروا إِلَى الآثار التي خلفها الذين من قبلكم، الرومان، الفرس، الصينيون، الآشوريون، البابليون، الفينقيون، الفراعنة، أمم وحضارات ودول ذهبت وزالت كما يقولون: سادت ثُمَّ بادت، هذا هو المصير، ألا يكفي أن يثير هذا الأمر العبرة في كل ذي قلب وفي كل ذي عقل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ َ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [قّ:37] والرازي في لحظة اليقظة يقظة الضمير أو يقظة الروح، استطاع أن يعبِّر عن هذه القضية، وعن هذه العبرة وهكذا الحياة هذا شأنها، لو تأمل الإِنسَان إِلَى البحر كم ركبه؟ وكم طوى فيه؟ والأرض التي نَحْنُ فيها، كم علاها من أقوام، وكم صار فوقها، وربما كَانَ أحدهم يتبختر في مشيه، وكأنه لن يموت وكأنه كما قال الله عز وجل: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الاسراء:37] ثُمَّ في الأخير أين هو الآن؟ كما قال المعري -وكان من كبار الملاحدة -:
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
معنى قوله: أن من مات فهو أديم الأرض والطبقة العليا من الأرض، فتراب الأرض ما هو إلا ركام الأجساد التي كانت تسير عليها ثُمَّ ماتت وبادت، وفي زماننا لو أمكن النَّاس أن يبنوا عَلَى المقابر العمائر لفعلوا، فلا حول ولاقوة إلا بالله! ولم يكتفوا بذلك بل عصوا الله فوقها؛ فوق مقابر الذين عصوا الله وهلكوا -نسأل الله العفو والعافية، نسأل الله البصيرة في أمرنا.
اعتراف الرازي بحقيقة التوحيد وخاصة في الأسماء والصفات
ثُمَّ يقول الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية -وهما قريبان من بعض- فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً -وهذه المقولة مقولة مجرب عالم بصير- ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، بل الصواب محصور فيها وحدها، في طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] وكما هو معلوم أن أمر العقيدة يدور عَلَى مسألتين: عَلَى النفي والإثبات، ماذا نثبت لله عزوجل، وماذا ننفي عنه؟ بالأخص في موضوع الأسماء والصفات فَيَقُولُ: إذا قرأت في الإثبات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] الآيات.
أفهم بجلاء وبوضوح أن الله تبارك وتعالى فوق المخلوقات، عالٍ عَلَى جميع المخلوقات سبحانه وتعالى، مع أن الرازي له كلام شديد وطويل في نفي العلو، فَيَقُولُ: دعك من هذا كله واقرأ في الإثبات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] وإذا بك تجد نفسك مؤمناً بعلو الله تبارك وتعالى وبجميع الصفات، التي وردت في الإثبات ثُمَّ قَالَ: واقرأ في النفيلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] الآية تكفيك من أن تقول: ليس بجوهر ولا عرض، ولا مادة ولا مركب ولا متحيز، فكل كلمة من هذا الكلام تحتمل تفصيلات ونقاشات؛ لكن الله تَعَالَى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فتكفيك هذه في النفي، وفي التنزيه لله تبارك وتعالى وقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] .
فإذا عرفنا أننا لا نحيط بالله تبارك وتعالى علماً فهذا موجب لعدم الخوض في أمر من أمور الغيب، وفيما يتعلق بصفاته تبارك وتعالى، لأن علمنا قاصر محدود عن إدراك هذه الأمور، فنؤمن به كما أخبر، ونتبع قول أعلم النَّاس به وأتقاهم له وهو رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قلنا: إن العلم الصحيح يورث التقوى، فعندما كانت معرفة النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة حقيقية أورثت التقوى، فأصبح بذلك أعرف النَّاس بربه وأخشاهم وأتقاهم له، وكذلك كل من كَانَ عَلَى طريقتة إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فكلما كَانَ الإِنسَان أكثر علماً، كلما كَانَ أكثر خشية، كما قال سفيان رحمه الله: في تفسير هذه الآية ثُمَّ يقول الرازي: "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
والمشكلة أنهم يقولون هذا الكلام الصريح الجلي ويأتي تلاميذهم وينسون هذا الكلام، ويأخذون بما في كتبهم، وهكذا الجويني رأى مارآه الرازي ثُمَّ أعلن توبته كما سيأتي، ثُمَّ جَاءَ أبو حامد الغزالي تلميذه وأخذ يسلك المناهج وفي الأخير تاب أبو حامد، وعندما جَاءَ من بعده الرازي لم يقل: نبدأ من حيث انتهى الغزالي، فنبدأ من صحيح البُخَارِيّ بل بدأ بما نهى عنهالغزالي وألف في ذمه كتاب إلجام العوام عن علم الكلام ثُمَّ جَاءَ الرازي واشتغل طول عمره في علم الكلام، وفي الأخير عند الموت وإذا به يقول: هذا الكلام، ويقول: أقرب الطريق طريقة القرآن، ثُمَّ أتى الإيجي صاحب المواقف الذي هو حجة في علم الكلام عند أكثر أهل الكلام في هذا العصر، فترك كلام الرازي الأخير، وأخذ ينقل من كلامه في الأربعين، ومن كلامه في التفسير.
وهكذا نجد الخطأ يتكرر، وهذا من أعجب العجب! فالعاقل يتعظ بغيره، لكن هَؤُلاءِ لا يتعظون بقول الرازي: من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. الذي يتعظ بغيره لا يحتاج أن يجرب، ثُمَّ ضم إِلَى هذه العبارة قول أبي حامد الغزالي:"وهذا يعني ذم علم الكلام إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا" لأن أهل الحديث يكرهون علم الكلام.
يقول: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام -يعني: نفسه- ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إِلَى منتهى درجة المتكلمين] أي خذ هذا الذم لعلم الكلام ممن بلغ هذه الدرجة، وبعد هذا أين من يعتبر؟ وأين من يتعظ؟ فهَؤُلاءِ أربعة: ابن رشد، الآمدي، الغزالي، الرازي قد قالوا هذا الكلام.
حيرة الإمام الشهرستاني وتوقفه
الخامس أبو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الكريم الشهرستاني، وهذا أيضاً لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم حيث قال:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
ووقع الشيخشعيب أيضاً في نفس الخطأ -غفر الله لنا وله-، عندما قَالَ: هو مُحَمَّد بن عبد الكريم الشهرستاني من فلاسفة الإسلام! وكذا عرف من قبله، فهل في الإسلام فلاسفة؟! لا يوجد فلاسفة للإسلام، ولا يصح إطلاق هذه العبارة، فالإسلام له علماؤه الذين يتبعون الكتاب والسنة، أما من اشتغل بالفلسفة فهو من المبتدعة الضَُّلال، وكما ذكرنا أنابن السبكي اعتذر للذهبي رحمه الله عن إيراد الرازي والآمدي في الميزان ثُمَّ ابن حجر في اللسان، فقَالَ: لأنهم من أهل البدع فيريد أن يبين حالهم، وإلا فليسوا من أهل الروايات فالغرض هو بيان أنهم من أهل البدع، هكذا اعتذر ابن السبكي عَلَى تعصبه لهَؤُلاءِ.
ثُمَّ يأتي الشيخ شعيب -يغفر الله لنا وله- ويكون أكثر تعصباً حين يقول: من فلاسفة الإسلام! ومعنى هذه الكلمة أن هذا الدين يحتاج إِلَى فلاسفة، يحتاج إِلَى أناس يتعمقون في هذه العلوم، ويأتون بما يخالف الكتاب والسنة، فإن جاءوا بما يوافق الكتاب والسنة لم يعدوا فلاسفة بل فقهاء، فالفقيه هو الذي يستنبط من الكتاب ومن السنة، وإن جاءوا بعلوم اليونان وأباطيلهم فهذه هي الفلسفة، ومن هذا شأنه فليس من الدين في شيء، بل هو مبتدع مارق، ولا يضاف إِلَى الإسلام، ولا ينسب إليه.
القصد أن الشهرستاني كَانَ إماماً في علم الكلام عَلَى مذهب الأشعري، وكان إماماً في نحل الأمم ومذاهب الفلاسفة، وكان عَلَى معرفة عظيمة بأقوال الفلاسفة والنحل والفرق، ولهذا ألف كتاب الملل والنحل، وقد ذكر الإمام الذهبي في السير، وابن حجر في لسان الميزان أن الشهرستاني أخذ الكلام عن أبي نصر القشيري، وأبو نصر القشيري هو ابن القشيري صاحب الرسالة.
وهَؤُلاءِ وغيرهم كانوا في زمنهم عَلَى عداوة شديدة مع أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الذين كانوا يسمون أحياناً أو في بعض الكتب بالحنابلة، فكانت المعركة قائمة بين القشيري وتلامذته، وبين أهل السنة أو المسمون بالحنابلة ومن كَانَ معهم، وكان معروفاً عند العامة وعند الناس، أن من انتحل طريق ابن القشيري ومنهجه أنه من أهل البدع كما هو موضح في ترجمة ابن القشيري في كتاب المنتظم لابن الجوزي، فالمراد أن هَؤُلاءِ هم شيوخه. يقول ياقوت الحموي في وصفه: الفيلسوف المتكلم صاحب التصانيف، كَانَ وافر الفضل كامل العقل ثُمَّ يقول: ولولا تخبطه في الاعتقاد ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم لكان هو الإمام.
ونقل الحافظ ابن حجر في اللسان قريباً من قول ياقوت عن الخوارزمي.
ونقل أيضاً عن ابن السمعاني في اتهامالشهرستاني بالإلحاد، وهما أفضل وأوثق من ياقوت، وقول ياقوت: لولا تخبط الشهرستاني في الاعتقاد ومناصرته لأهل الإلحاد لكان هو الإمام لم يكن فيه الصراحة في النقد ولعل ذلك بسبب المحبة أو الهوى أو الميل أو التعصب المذهبي لأن بعضهم كانوا شافعية، وهذا شافعي، فتجدهم يصفونه بأعظم الأوصاف لأنه شافعي المذهب أو أشعري مثلهم، وهذا من الهوى الذي لا نجده عند علماء الجرح والتعديل الذين جعلهم الله تبارك وتعالى ميزاناً ومعياراً لمعرفة النَّاس والحكم عليهم، هذا من فضله تبارك وتعالى حماية لهذا الدين دون تعصب لأي أحد كائناً من كان، من تصانيفالشهرستاني كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام قال في بدايته: لما وجدت النَّاس في حيرة وضلال وشكوك ورأيتهم محتاجين إِلَى علم صحيح وعقيدة صحيحة ألفت هذا الكتاب! وليتأمل عنوان الكتاب مع أبيات الرازي مع ملاحظة أن الشهرستاني توفي عام خمسمائة وثمانية وأربعين، وتوفي الرازي عام ستمائة وستة، والرازي قطعاً اطلع عَلَى كتاب الشهرستاني، وتأمله، وهو من أعظم الكتب في مذهب الأشعرية وفي عقيدتهم.
فعندما قال الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
فكأنه يقول: ما كنا نعتبره النهاية في الإقدام في العلم وفي العقيدة، وغاية ما ألَّفه علماؤنا في هذا المذهب هو ضلال ووبال وخسارة ولا فائدة فيه، إِلَى أن قال:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
والشهرستاني ذكر في أول هذين البيتين أنه ما ألَّف هذا الكتاب إلا ليحل هذه المشكلة، يقول:(لعمري لقد طفت المعاهد كلها) مر عَلَى معاهد العلم وعلى الحلقات.
(وسيرت طرفي) -أي: عيني- بين تلك المعالم، فرأى النَّاس المشتغلين بعلم الكلام، فقَالَ:
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
أي: وجد أنهم في حيرة وفي ندم وفي تخبط سواء كَانَ الغزالي أو الجويني، وقبلهم الأشعري وعندما قَالَ: سأؤلف هذا الكتاب، ليقطع الريب، وليأتي بالعلم الصحيح، سُبْحانَ اللَّه! وهل هذا مما وكل إلىالشهرستاني أو إِلَى من هو أجل وأعظم منه؟ لا والله، فلم يرجع الله تبارك وتعالى النَّاس لمعرفة الحق واليقين والهدى إِلَى الشهرستاني ولا غيره، وإنما هو في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أنه -وهو يعبِّر عن حال هَؤُلاءِ الناس- قَالَ: كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من اتعظ بغيره" ورأى مصير هَؤُلاءِ، وهنا مسألة نريد أن ننبه عليها لها أثرها بالنسبة للشهرستاني وهي أن مقولة ابن السمعاني فيالشهرستاني: أنه كَانَ متهماً بالميل إِلَى أهل الإلحاد.
وكذا قالها الخوارزمي وياقوت الحموي.
وفسرها ابن حجر رحمه الله فقَالَ: وكان الشهرستاني مائلاً إِلَى مذهب الإسماعيلية وهم الذين يسمون أهل الإلحاد، وكان إلحادهم مشهوراً عند العامة والخاصة، عند أهل السنة، وعند الأشعرية، وعند المعتزلة بل حتى عند الشيعة الإثنى عشرية، يعتبرون الشيعة الإسماعيلية ملاحدة، فكان الشهرستاني مائلاً إِلَى قول الملاحدة وكانوا في تلك الفترة -أي فترة القرن السادس- لهم انتشار ووجود كبير، وهذا أيضاً مما يعين عَلَى فهم نفسية الرجل، ومع ذلك يعتبره بعض النَّاس من أئمة أهل السنة، ويقولون: كتابهنهاية الإقدام من أعظم ما كتب في نصرة مذهب أهل السنة، سُبْحانَ اللَّه كيف يكون من كَانَ متفلسفاً متكلماً مائلاً إِلَى نصرة الإسماعيلية من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟!
توبة الجويني وسببها
والسادس: أبو المعالي الجويني، والمصنف رحمه الله لم يراع الترتيب التاريخي، يقول الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إِلَى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته:"لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو قَالَ: عَلَى عقيدة عجائز نيسابور!..".
هذا الكلام ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي المعالي في سير أعلام النبلاء.
وذكره شَيْخ الإِسْلامِ في التسعينية في علم الكلام.
وذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضاً في فتح الباري، في كتاب التوحيد، والكلام مشهور عن الجويني.
ولمَّا تاب الجويني من علم الكلام ألف كتاب اسمه النظامية وهي الرسالة التي ألفها باسم نظام الملك وزير السلاجقة يقول فيها: "لما رأيت علماء الإسلام وهم الصحابة والتابعون منصرفين عن التأويل وهم أعلم النَّاس بالدين، وأحرصهم عَلَى حفظه
…
ثُمَّ قَالَ: ولو كَانَ ذلك خيراً لكانوا أسبق إليه من غيرهم".
وهذا دليل فطري منطقي سليم، لصاحب المنطق السليم الصحيح، فلا يمكن أن تُطبق القرون الثلاثة المفضلة عَلَى عدم التأويل، ويكون ذلك خطأً أو مفضولاً أو مرجوحاً ثُمَّ يأتي بعد ذلك من يؤول ويقول: تأويله هو الأعلم والأحكم والأسلم لا يمكن ذلك أبداً، وعلى هذا بنى رسالته النظامية، وهو يميل فيها إِلَى التفويض كما مر- ويظن أن مذهب السلف هو التفويض المطلق، يعني: تفويض المعنى والكيفية، وتقدم الفرق بينهما وأن السلف يفوضون في الكيفية، وأما المعاني فهم يثبتونها لصفات الله سبحانه وتعالى، كما فهمها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، والمفسرون وعلماء اللغة.
وكان موقف من المواقف سبباً من أسباب توبةالجويني، وذلك أنه لما وقف عَلَى المنبر وتكلم في أمر العقيدة وفي نفي العلو كَانَ أبو جعفر الهمداني جالساً في المسجد فَقَالَ له: أيها الشيخ " دع عنك هذا، دعنا من الجدل ومن النقاش ومن العقليات، وأخبرنا عن الضرورة، التي يجدها الإِنسَان حين يدعو الله عزوجل.
فما من داع يدعو الله إلا ويجد ضرورة أن يتجه إِلَى العلو فقَالَ: ما سر هذه الضرورة الفطرية المغروسة في كل نفس فأخذ الجويني يلطم بكمه في المنبر ويقول: حيرني الهمداني حيرنيالهمداني ونزل من عَلَى المنبر، وهذه واقعة ثابتة ومشهورة، نثبت بها أن علم الكلام مصادم للفطرة السليمة.
فالفطرة المغروسة في كل نفس، أن الإِنسَان إذا دعا يتجه إِلَى العلو، وليس هناك من حل يدفع هذه الضرورة إلا الإيمان فعلاً بأن الله تَعَالَى فوق مخلوقاته، وعند الموت أخذ الجويني يوصي تلاميذه، وهذه الوصية كَانَ عَلَى الغزالي أن يعمل بها، وكان مما يقَالَ: إنه ما من تلميذ غلب شيخه حتى طمس ذكره في حياة شيخه كأبي حامد الغزالي في حياة الجويني؛ لأن الشيخ خفتت سمعته وتضاءلت وهو حي لمَّا نبغ الغزالي في وفرة ذكائه وسعة إطلاعه، ومعرفته ودقته في العلوم فيقول الجويني لأصحابه:"لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم".
يعني أنه كَانَ يقول: هذه العلوم نقلية، وهذه العلوم علوم الحشوية والنابتة فنحن نتركها ونأخذ بالعلم اليقيني المحقق، بالعقل وبالدليل، وبالحجة وبالمجادلة، وبالنظر وما أشبه ذلك، فقَالَ:"خليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه".
ومن هنا نعلم أن علماء الإسلام ينهون عن علم الكلام، وأن هذا أقدم عَلَى علم الكلام وهو يعلم أن علماء الإسلام ينهون عنه، والجويني مذهبه شافعي، ومن أكثر الأئمة الذين ثبت عنهم ذم علم الكلام الإمام الشَّافِعِيّ كما ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر بالسند في كتابه " تبيين كذب المفتري " وكما ذكر المُصْنِّف رحمه الله هنا، فالجويني، والغزالي، والجويني، ومعظم أئمة الأشعرية شافعية، وتراهم يُقدمون عَلَى هذا العلم وهم يعلمون أن إمام مذهبهم ينهى عنه.
ثُمَّ يقول الجويني بعد ذلك عندما حصحص الحق وجاء اليقين، وأصبح الإِنسَان في حال إقبال عَلَى الآخرة، وإدبار من الدنيا وعندما لا ينفع الجاه ولا العلم، ولا التلاميذ، ولا الشهرة، ولا أقوال الناس، في تلك اللحظة التي يتخلى فيها الإِنسَان عن كل شيء وتتضح له حقيقته ونفسه وتنتهي كل البهارج والزخارف، يقول: والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني: يسأل الله الرحمة وألا يبتلى عند الموت، وألا يكون اشتغاله بعلم الكلام وخوضه فيما نهى عنه علماء الإسلام سبباً لسوء الخاتمة عافانا الله من ذلك؛ لأن الإِنسَان عند الموت غالباً ما يختم له بما كَانَ يشغل به نفسه في الدنيا، كما ذكر ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي أمثلة كثيرة في ذلك فكل من كَانَ مشغولاً بشيء في الدنيا تمثل عند موته سواء كَانَ مشغولاً بالتجارة أو بالعشق أو بالمال أو بالمتاع الزائل، أوبالأغاني أو بالمنصب؛ لأن الموت فراق لما يحب الإِنسَان فأي شيء كَانَ الإِنسَان يحبه، ويتأمل فيه يتذكره عند الموت، ومن كَانَ متعلقاً بالله، ومتعلقاً بالمساجد وبالذكر، فإنه يتذكر ذلك ويأتيه ذلك عند الموت، ونِعْمَ ما يتذكر حينئذ.
يقول: والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو قَالَ: عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، أبعد هذا الخوض وبعد هذا الإطلاع، وبعد ما ألف كتاب الشامل -وهو كتاب ضخم، ومطبوع حققه الدكتور علي سامي النشار وبعض تلاميذه- وكتاب الإرشاد -وهو مطبوع أيضاً- بعدما ألف هذه الكتب وظن أنه بَيَّن للناس الاعتقاد الصحيح وقال بوجوب التأويل، وبوجوب أخذ العقيدة عن طريق العقل وعرضها عَلَى العقل وفي الأخير يقول: وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، وياليتها تحصل، إذا حصلت لكل علماء الكلام فهذا حسن؛ لأن الأمهات والعجائز عَلَى الفطرة السليمة، بل تراهم يقولون في نهاياتهم إذا سلموا من العذاب: إنهم بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب!
هذا هو حال من أعرض عن كتاب الله، واتخذ أي منهج آخر من مناهج الضلال، يريد الإِنسَان منهم أن يعود إِلَى أول منزلة، منزلة الفطرة وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل:78] يريد أن يكون بمنزلة الأمي الذي لا يعلم شيئاً، فأما من علَّمه الله وفقهه في الدين حتى أصبح لديه من اليقين ما تبدوا أمامه كل الشبهات الفلسفية والكلامية مثل الهباءة في الهواء لا يأبه لها ولا يلتفت إليها فهذا الذي أراد الله به خيراً، وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه حال المؤمنين، وحال طلبة العلم الصادقين نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم.
الخسروشاهي
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يوماً، فقَالَ: ما تعتقده؟ قَالَ: ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ، فقَالَ: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقَالَ: نعم، فقَالَ: اشكر الله عَلَى هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما اعتقد؟ وبكى حتى أخضل لحيته ولابن أبي الحديد، الفاضل المشهور بـ العراق.
فيك يا أُغلوطةَ الفِكَرِ حارَ أَمري وانقضى عمري
سافرتْ فيكَ العقول فما ربحتْ إلا أذى السفر
فلحا اللهُ الأولى زعموا أنك المعروف بالنظر
كذَبوا إنَّ الذي ذكروا خارجٌ عن قوة البشر
وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إِلَى المرجح، ثُمَّ قَالَ: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.
وقال آخر: أضطجع عَلَى فراشي وأضع الملحفة عَلَى وجهي، وأقابل بين حجج هَؤُلاءِ وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء] اهـ.
الشرح:
مر بنا: ابن رشد، والآمدي، والغزالي، والرازي والشهرستاني، والجويني.
بقي الخسرو شاهي وشمس الدين الخسروشاهي قد عرَّفه المُصْنِّف رحمه الله فقَالَ: [وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي] توفي سنة 652 هجرية، وهذا شمس الدين الخسرو شاهي دخل عليه يوماً بعض الفضلاء ووجده مشتغلاً ومنهمكاً بالعلم الذي حذر منه، ونهى عنه شيخه فخر الدين الرازي وقَالَ: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فهذا المسكين اشتغل بالذي لا يشفي عليلاً، ولا يروي غليلاً، فزاره بعض الفضلاء من العلماء فَقَالَ الخسروشاهي للرجل: ما تعتقده؟
فقال الرجل: ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ، أعتقد في الله عزوجل -وفي الإيمان وفي الإلهيات- ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟
قَالَ: نعم، فهذه مسلمات لا مجال للشك فيه فَقَالَ له: اشكر الله عَلَى هذه النعمة، ثُمَّ قَالَ: لكني والله لا أدري ما أعتقد؟ والله لا أدري ما أعتقد؟ والله لا أدري ما أعتقد؟ وأخذ يبكي حتى اخضلت لحيته، أي: حتى أغرق لحيته بالدموع وهو يبكي، يقول: لا أدري ما أعتقد، أنت الذي تعتقد ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ احمد الله عَلَى هذه العقيدة، واحمد الله عَلَى هذه النعمة.
وبهذه القصة وبالتي قبلها يعلم الإِنسَان أن الإيمان والحق واليقين لا يكون إلا باتباع منهج الكتاب والسنة، فالفطرة التي عليها الْمُسْلِمُونَ موافقة لما في الكتاب والسنة، وزيادة عَلَى ذلك ما يعلمه علماء التفسير، وعلماء الحديث، والفقهاء في الدين، من أمر الله عز وجل، ومن علم صفات الله وأحوال الآخرة، وغير ذلك هو أضعاف ما يعتقده العامة.
أما هَؤُلاءِ القوم فإنهم لا يدرون ماذا يعتقدون، فإذا أراد أن يعتقد مثلاً مسألة القدر، وهو عَلَى مذهب الرازي والخسرو شاهي والجويني مذهب الأشعرية، فيمر عَلَى الكسب فلا يقدر عقله أن يحلله، أو أن يستوعبه، وإذا نظر إِلَى النَّاس الذين يعيشون في الدنيا وجدهم مؤمنين بالقدر، مطمئنين للإيمان بالقدر، فيظل غارقاً في الشبهات والنَّاس من حوله خيرٌ منه.
وقل ذلك في أي باب من أبواب العقيدة فإنهم يبنونها عَلَى حجج واهيات يسهل الرد عليها؛ كما أتى عليها شَيْخ الإِسْلامِ فهدم بنيانها لأنها ليست عَلَى شيء.
الإمام الجيلاني وقصة الرجلين
وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ قصة قريبة من حال هذا في أيام عبد القادر الجيلاني وهي أنه جَاءَ إليه رجلان: أحدهما عَلَى مذهب المعتزلة، والآخر عَلَى مذهب الأشاعرة، وقالوا له: ياشيخ إننا في حيرة من أمرنا، وإنه ترد لنا واردات وتخطر لنا خاطرات، ولا ندري ما الجواب عليها فهل عندكم من يقين؟
وقد كَانَ الشيخ الجيلاني معروفاً بأنه يربي المريدين- فقَالَ: نعم، عندنا يقين لا تأتيه هذه الخواطر ولا هذه الوساوس، فاحتارا.
فأما المعتزلي فإنه ترك الاعتزال ودخل مع الشيخ عبد القادر حتى أصبح من كبار طلاب الشيخ، ووجد اليقين في الإيمانيات.
وأما ذلك الآخر فإنه قَالَ: لا. وشك في الأمر، ثُمَّ تركه وبقي عمره في الحيرة وفي الشك.
والقصد أنهم يتعجبون ممن يمتلك اليقين في أبواب العقيدة، وهم مع خوضهم البحر الخضم لم يصلوا إليه! وهذا هو حال الملاحدة اليوم في الغرب، فالنَّصَارَى بالذات في الدول الأوروبية لا يعلمون ديناً غير دين النَّصَارَى.
ولو قلت لأحدهم: أيها أفضل دين النَّصَارَىأو الإسلام أو البوذية؟
فإنه يقول لك: لا توجد نسبة، دين النَّصَارَىدين عظيم وممتاز! والإسلام همجية، والبوذية همجية! فهو يتصور أن أعظم دين وأفضله دين النصرانية.
فإذا سألته هل أنت تؤمن بالنصرانية؟
فإنه يقول لك: لا؛ أنا إنسان أؤمن بالعلم فقط، ولا أؤمن بالدين؛ لأن فيه خرافات وكذا وكذا، والنتيجة تصبح أنه لا يؤمن بأي دين، فيكون حائراً ملحداً.
ثُمَّ يقول لك: أحسن شيء أنني لا أتكلم في الغيبيات والفلسفات بل أبقى إنساناً عملياً، أفكر في الأمور العملية فقط، مثل النظرية التي مشت عليها أمريكا الفلسفة العملية.
فتقول: أنت لا تنظر إِلَى الشيء من حيث أنه خطأ أو صواب، حق أو باطل فهذا لا يعنيك، يعنيك فقط، هل له ثمرة عملية موجودة؟
ويقول لك: لا تحكم لي عَلَى هذا العمل أهو أخلاقي أو غير أخلاقي؟ أصواب أم خطأ؟
بل قل لي: هل توجد ثمرة مادية أم لا؟
وهكذا إذا أتيت إِلَى عالم الفلك وقلت له: عندما تتأمل في الكون وفي المنظار تتأمل المراصد وترى هذه العجائب ألا يحدث عندك شيء من الإيمان بالله؟ فإنه يقول: إنني إنسان علمي، أتكلم في النتائج العلمية فقط، لا أحاول أن أُشْغِل نفسي بأمور فلسفية خارج النطاق.
واسأل عالم التاريخ وقل له: عندما تنظر في الأمم والدول، هل تلاحظ أن الأمم حينما تأخذ في شرب الخمر وفي الزنا تهلك وتضيع وتضل؟!
فسيقول لك: هذا موجود فإذا قلت له: لا تتكلمون عَلَى هذا الشيء وتنشرونه، فإنه يقول لك: لو تكلمت عن هذا الأمر لتحولت إِلَى عالم أخلاق، والأخلاق لها أناس متخصصون وأنا عملي أني إنسان مؤرخ فقط، أتعرض لوقت الحالات والأشياء، سُبْحانَ اللَّه! فما هي ثمرة التاريخ إذاً؟! وما فائدة دراسة التاريخ أصلاً إن لم يؤدِ بك إِلَى أن ترى سنن الله عزوجل في الذين خلوا من قبل، وتقولها لنفسك وللناس؟!
ابن أبي الحديد وحيرته
ابن أبي الحديد هو صاحب شرح نهج البلاغة الذي جمع كلمات بليغة منسوبة إِلَى عدة من الحكماء أو الخطباء، ونسبها جميعاً إِلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وقد كَانَ في درجة من الفصاحة، والبلاغة، يقول هذه الأبيات:
فيك يا أُغلوطةَ الفِكَرِ حار أمري وانقضى عمري
يقول: هذا العلم: علم الإلهيات وعلم معرفة اليقين والحق عن طريق الكدح الذهني والنظر والمجادلة وأشباه ذلك:
حار أمري وانقض عمري
فهذه العلوم تحار فيها العقول ولا تصل بها إِلَى نهاية
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر
فنهايتها مشقة السفر فقط والتعب والأذى ولم تصل فيها إِلَى نتيجة قط.
فلحا الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر
لحاهم الله يعني: عابهم ولا مهم وأهلكهم، فهو يدعو عليهم، فلحى الله الألى زعموا: أي: الذين زعموا أنك المعروف بالنظر وبالعقل. يقول:
كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر
نعم، فإن الذي ذكروه خارج عن قوة البشر، وهو الوصول إِلَى الحق من عالم الغيب أمر خارج عن قوة البشر، لا يمكن الوصول إليه عن طريق العلوم النظرية ولا العلوم البشرية أبداً، وإنما يوصل إليه عن طريق علم الغيب وهو الوحي، أما العلم البشري الحسي المحدود فإنه لا يستطيع أن يدرك عالم الغيب، فيقول:
فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر
كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر
وهذا مثلما قال الشاعر فيما مر معنا سابقاً:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كُتْبُ التناظر لا المغني ولا العمد
ابن أبي الحديد مشهور ومعروف فينبغي لنا أن نعرف عن حياته وعن وفاته وهو صاحب هذه الأبيات المشهورة:
فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر
فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر
كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر
كانابن أبي الحديد وزيرالمستعرم بالله آخر خلفاء بني العباس الذين هجم عليهم التتار وقضوا عَلَى دولتهم وقتلوا هذا الخليفة المستعصم بالله، وكان وزيره قبل ذلك الرافضي ابن العلقمي، وكان قد قرب الروافض جميعاًًًً وأقصى ونحى أهل السنة، وكان ممن قربه ابن أبي الحديد وهو الذي شرح نهج البلاغة يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله عنه:"إنه كَانَ حظياً عند ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب فهم عَلَى دين واحد، وفن واحد، هذا كَانَ حال ابن أبي الحديد وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله وإن كَانَ الآخر -يعني: موفق بن هبة - فاضلاً بارعاً أيضاً" وشرحه نهج البلاغة كَانَ سبباً لشهرته. أما شعره فلا يوجد الآن منه شيء.
ثُمَّ يقول ابن كثير رحمه الله في ترجمة الناصر داود من ملوك الدولة الأيوبية: "واشتغل في علم الكلام عَلَى الشمس الخسرو شاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الأوائل جداً وحكوا عنه أشياء تدل -إن صحت- عَلَى سوء عقيدته، عَلَى ذلك، وكان من جلساء الملكالناصر داود ملك الدولة الأيوبية.
روى عن الناصر داود أشياء تدل عَلَى سوء عقيدته لأن من جالس أناساً تأثر بهم فتأثر بمنطقهم وفلسفتهم وعلومهم الباطلة، ففسدت عقيدة هذا الملك.
أماالخونجي فهومُحَمَّد بن ناماور بن عبد الملك الخونجي أبو عبد الله فضل الدين توفي (646) أو (649) كَانَ من أعلم أهل زمانه بالفلسفة أو ما يسمى بالحكمة؛ وكان قد ولي قضاء مصر وكان ينشر هنالك فلسفته وعلم الأوائل -أي: علم اليونان - وأشهر كتاب كتبه الخونجي كشف الأسرار عن غوامض الأفكار كتبه في الفلسفة ويظن أنه كشف الأستار عن الأفكار الغامضة ووضحها وجلاها للناس، وعند الموت قَالَ:"ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إِلَى المرجح" ثُمَّ استدرك عَلَى نفسه فقَالَ: "الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً " نعوذ بالله من علم لا ينفع.
والخسرو شاهي وابن أبي الحديد والخونجي كلهم متعاصرون في زمن واحد.
والخسرو شاهي كان من أجل تلامذة الفخر الرازي، والرازي له كتاب الآيات البينات وشمس الدين الخسرو شاهي له تلخيص الآيات البينات وهو أشعري شافعي.
وابن أبي الحديد شيعي رافضي ومع ذلك فإن له كتاب اسمه شرح الآيات البينات، فتستنتج أنه يشترك في الاقتباس من علوم الفخر الرازي فقد جمع الرازي في كتبه بين مذاهب الرافضة والأشعرية والفلسفة والجامع المشترك لهذه المذاهب الفلسفة.
ومما يذكر أن رجلاً يهودياً يسمى يوسف بن ميمون كان من كبار الفلاسفة في الأندلس، ألف كتاباً في صفات الله سبحانه وتعالى ينفى صفات الله ويقرر الإيمان بالله عَلَى طريقة الفلاسفة، واسم كتابه المقدمات الخمس والعشرون ذكر خمساً وعشرين مقدمة في ذلك الشأن.
واهتم تلاميذ الرازي والذين كَانَ منهمشمس الدين بهذا الكتاب، وأخذوا يشرحونه ويستدلون به، حتى جَاءَ الكوثري الذي كَانَ من آخر كبار علماء الضلال والمحرفين والمؤولين فاهتم أيضاً بنشر هذا الكتاب وهو مؤلف مستشرق يهودي كَانَ يعيش في مصر قبل قيام دولة إسرائيل اسمه اسرائيل وليفنستن، فاشتغل الكوثري بهذا الكتاب وقدم له وأثنى عليه، وهكذا تجد ميل أهل البدع من الأشعرية والرافضة إِلَى الفلسفة والفلاسفة ويجمعهم عَلَى ذلك التعلق بعلوم اليونان وإنكار صفات الله سبحانه وتعالى وعداوة مذهب السلف الصالح.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[ومن يصل إِلَى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق كما قال أبو يوسف رحمه الله: "من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب" وقال الشَّافِعِيّ رحمه الله: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويُقَالَ: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل عَلَى الكلام" وقَالَ: لقد اطلعت من أهل الكلام عَلَى شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه - ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يُبتلى بالكلام". انتهى.
وتجد أحد هَؤُلاءِ عند الموت يرجع إِلَى مذهب العجائز فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كَانَ يقطع بها، ثُمَّ تبين له فسادها أولم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب؛ والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كَانَ طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله: إذا قام من الليل يفتتح الصلاة (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم) خرَّجه مسلم]
توسل صلى الله عليه وسلم إِلَى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكلَّ الله -سبحانه- هَؤُلاءِ الثلاثة بالحياة: فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إِلَى أجسادها، فالتوسل إِلَى الله -سبحانه- بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان] اهـ.
الشرح:
يذكر المُصنِّفُ رحمه الله أن من يصل إِلَى مثل هذه الحال إن لم يدركه الله برحمته وإلا تزندق، ومات عَلَى الزندقة، وبعض الزنادقة ما مرقوا من الدين وخرجوا منه إلا لما اشتغلوا أول أمرهم بعلم الكلام، ولذلك يقول الإمام أبو يوسف رحمه الله وهو صاحب الإمام أبي حنيفة:"من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب".
وهذا الكلام المنقول عن أبى يوسف قد نقله المُصنِّفُ في أول الكتاب وأيضاً نقله في موضع آخر، فهو يستشهد به أكثر من مرة رحمه الله لأنه من الكلام النفيس الذي يقوله هَؤُلاءِ العلماء، الشاهد أن علماء السلف كأبي يوسف والشَّافِعِيّ يقولون مثل هذا الكلام الذي يحمل الدرر، والذي إذا قرأه الإِنسَان أخذ منه العبرة والعظة.
وقد ذكرهما الحافظ ابن عساكر بسنده إِلَى كل منهما في كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام الأشعري صفحة (333) و (335) إلا أن الكلام الذي نُقل عن أبي يوسف نقل أيضاً عن الشعبي، ولكن الراجح أنه لأبي يوسف، وليس للشعبي لأن وفاة الشعبي متقدمة ولم يكن في عصره قد اشتهر علم الكلام، فالصحيح أنه لأبي يوسف.
ومعنى قوله: من طلب الدين بالكلام تزندق وذلك لأن علم الكلام يفضي إلي الشك والحيرة وهي الزندقة أو بابها ومن طلب المال بالكيمياء أفلس وكانوا يظنون أنه عن طريق الكيمياء يمكن تحويل المعادن الخسيسة إِلَى معادن نفيسة، وهذا عجزت عنه الكيمياء الحديثة، لأن الذهب لا يمكن أن يستخرج من الرصاص وإلا فالكيمياء الحديثة أقدر عَلَى ذلك ولو أمكن ذلك لما كَانَ هناك أزمة ذهب أو أزمة عملة صعبة كما يسمونها، لكن الذهب هو الذهب فطلبوا استخراج الذهب من غيره وفي هذا جهد ومشقة وضياع وقت وعمر.
والثالثة: من طلب غريب الحديث كذب، أي: أن الإِنسَان إذا أراد أن يجمع الحديث، واستكثر من غرائب الحديث اضطر إِلَى أن يكذب؛ لأن غريب الأسانيد أو غريب الألفاظ أو كلاهما أصبح مطلوباً، وهو ظاهر في المتأخرين أكثر منهم في المتقدمين، وهذه الثلاثة التي ذكرها أبو يوسف نتيجتها واحدة وهي الخسارة.
نقل ابن عساكر لكلام الشافعي
الرد عَلَى أهل الشبه في القديم والحديث في أي زمان ومكان إنما يكون بالكتاب والسنة أو بما دل عليه الكتاب والسنة ثُمَّ يقول: الشَّافِعِيّ رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل عَلَى الكلام.
فإن هذا من روائع كلام السلف نقله ابن عساكر في نفس الموضع تقريباً صفحة (335) كأن قائلاً أو سائلاً قال للإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله: ما رأيك في أهل الكلام، وبم تحكم عليهم؟ فذكر أن حكمه فيهم هو أنهم يزجرون ويردعون ويعزرون ويمنعون من الخوض في هذه العلوم، وهذه العقوبة إنما يستحقونها بناء عَلَى إعراضهم عن الكتاب والسنة واشتغالهم بعلم الكلام الذي يزعمون أنه لولا اشتغالهم به لما استطاعوا أن يدافعوا عن العقيدة ويذودون حياضها وذلك لما كثرت الشبهات، وكثرت الفتن أما السلف الصالح فلم يكونوا يشتغلون بذلك لقلة الشبهة في أيامهم!.
الرد على شبهة أهل الكلام
الرد عَلَى أهل الشبه في القديم والحديث في أي زمان ومكان إنما يكون بالكتاب والسنة أو بما دل عليه الكتاب والسنة ثُمَّ يقول الشَّافِعِيّ: " لقد اطلعت من علم أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله" بل وصل الأمر بهم إِلَى إنكار جميع أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى؛ بل وصل الأمر بالغلاة من الجهمية والقرامطة إِلَى أن يقولوا: لا نقول موجود ولا غير موجود، وهذا الكلام الذي يقوله فلاسفة اليونان C>.
وكان يقول أفلاطون: الله تَعَالَى كامل والكامل لا يفكر في الناقص فإذا قلنا: إن الله يعلم أحوال النَّاس أو يطلع عليها أو يراقبها أو يحصيها فنكون قد انتقصنا الله، وهذا لا يقوله إلا الزنديق المجوسي أو اليوناني المشرك الوثني.
ثُمَّ يقول الشَّافِعِيّ رحمه الله: "ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام". فجعل الشرك بالله والاشتغال بالكلام في منزلة واحدة؛ لأن الفتنة بهما هي أعظم أنواع الفتنة؛ فالشرك أعظم الذنوب؛ لأنه توجه بالعبادة لغير الله، فهو شرك في الطلب والإرادة والقصد، والاشتغال بعلم الكلام شرك في الأسماء والصفات، وصاحبه يصرف النَّاس عن معرفة الله المعرفة الحقيقية إِلَى الضلالات والبدع والآراء الباطلة.
ثُمَّ يقول المُصْنِّف رحمه الله: [وتجد أحد هَؤُلاءِ عند الموت يرجع إِلَى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كَانَ يقطع بها، ثُمَّ تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها] كما قال أبو المعالي الجويني: وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور -البلد التي كَانَ فيها-.
فغاية ما في الأمر أن الواحد منهم عند الموت يقول: أنا أموت عَلَى دين العجائز، أما الدقائق والغوامض التي ألفوا وأفنوا الأعمار فيها فهي إما قد ظهر لهم فسادها، وإما أنهم غير متأكدين من صحتها، مع أنهم كانوا في حياتهم يجزمون بها ويوالون ويعادون عليها كانوا يقولون: هذا هو الكتاب وهذا هو الحكم من لم يعتقده فليس عَلَى عقيدة الإسلام الصحيحة.
طعن الرازي في البخاري ومسلم وفي كتابيهما والرد عليه
الرازي الشيخ الكبير، شيخ المتأخرين منأهل الكلام وإمامهم لما كتب كتاب أساس التقديس لم يسلم منه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مما قَالَ: إذا أخذنا بالروايات التي في الصحيحين وغيرهما في الأسماء والصفات، فإن هذا هو مذهب المشبهة والحشوية، والبُخَارِيّ ومسلم ما كانا يعلمان الغيب! هكذا يطعن بغير حجة وبغير علم في الرجال أو في الروايات الصحيحة، فيزعم أنه لا يبعد أن الزنادقة قد أدخلا في كتابيهما أحاديث -أي في الأسماء والصفات- ولم يعلما من هَؤُلاءِ الزنادقة! كيف لا يدري البُخَارِيّ ومسلم ما في كتابيهما وهما مرويان بالسند. بل إنك تجد الذهبي رحمه الله -وهو متأخر- يترجم في سير أعلام النبلاء لرجل ويقول: ومن طريقه روينا كتاب أبي داود أو كتاب البُخَارِيّ أو كتاب مسلم، ويأتي بالسند من القرن الثامن حتى يصل إِلَى البُخَارِيّ ومسلم وغيرهما.
ثُمَّ تجدالرازي يقول: إنأبا هريرة قال كذا وخطأه فلان في كذا، وعَائِِِشَةَ استدركت عَلَى بعض الصحابة كابن عمر وعَلِيّ وغيرهما، ويأتي ببعض الروايات التي حصل فيها نوع من الخلاف بين الصحابة -رضوان الله تعالى- عليهم ليستشهد بها عَلَى أنه لا يؤخذ قولهم في هذه المسائل وأن الضبط لم يكن دقيقاً!
وقد رد عليه شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه نقض التأسيس الذي يُسمى بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ومطبوع بعض الكتاب، ولعله يخرج كاملاً -إن شاء الله- وهو كتاب عظيم ونفيس جداً في الرد عَلَى كتاب أساس التقديس للرازي، وكتاب الرازي مطبوع أيضاً طبعة قديمة في مصر. المقصود أن هذه الأمور التي كانوا يقطعون بها ويوالون فيها ويعادون من أجلها ويتهمون غيرهم ومخالفهم فيها بأنه عَلَى مذهب الحشوية أو النابتة أو غير ذلك، يقر أصحابها عند الموت بأنها كانت باطلاً وخطئاً.
ثُمَّ يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب-] يعني: إذا قدر الله تَعَالَى وكتب لهم حسن الخاتمة قبل الموت وسلموا من الموت عَلَى هذه البدع يكونون [بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب] بعد أن كانوا في حياتهم ينافسون أهل العلم وينتقدون أهل العلم كما كَانَ الرازي ينتقد البُخَارِيّ ومسلم وهما من هما في المكانة والثقة والتثبت، فهم الآن عند الموت يريدون أن يموتوا عَلَى دين العجائز، عَلَى دين أتباع أهل العلم من العجائز والصبيان والأعراب، حتى المعاصرين منهم المتعمقين في الكلام وأساتذة الكلام المتمرسين فيه في أرقى الجامعات التي تدرس علم الكلام يقولون: دين العجائز هو أصح الأديان! فإذا كَانَ دين العجائز أصح الأديان فلماذا تتعلمون علم الكلام؟! لكن المؤمنون الصادقون وعلماء السلف وأئمتهم عَلَى دين الراسخين في العلم الذين يكشفون الشبهات والذين يقيم الله سبحانه وتعالى بهم الحجة عَلَى الناس، وأتباع أهل السنة من العجائز وغيرهم هم أفضل من أولئك، فكيف بأولئك العلماء الأجلاء الذين جعلهم الله تبارك وتعالى في كل زمان فترة، مقيمين للحجة ينفون عن هذا الدين انتحال المغرضين وتأويل الجاهلين والمبطلين؟!
علماء الكلام يقولون: إن الدين دينان: دين التقليد وهذا ما عليه العوام ويدخلون فيهم العلماء المشتغلين بالحديث؛ لأنهم لم يشتغلوا بعلم الكلام فيقولون: هَؤُلاءِ مؤمنون عَلَى التقليد، ولدوا عَلَى الإسلام وتعلموا القُرْآن والسنة ولم ينقحوا الإيمان ولم يقووه بالدلائل العقلية!
والنوع الآخر إيمان علماءأهل الكلام الذي يقولون فيه: إنه إيمان راسخ، مبني عَلَى العلم، وعلى البرهان، والحجة والدليل. والواقع أن اعترافهم في آخر أعمارهم بأن دين العجائز أفضل مما هم عليه ينفي ذلك أي: أنه تقليد.
فالمسألة إذاً ليست تقليد، فهذا الدين هو فطرة الله التي خلق النَّاس عليها لا تبديل لخلق الله- فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] فالله تَعَالَى فطر النفوس عَلَى هذا الدين كما وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (كل مولود يولد عَلَى الفطرة) أي: يولد عَلَى الملة، وفي رواية:(عَلَى هذه الملة) وكلها معناها واحد وهو: أن كل مولود يولد عَلَى الإسلام، وعلى الملة الصحيحة القويمة، وهي الإسلام والتوحيد، ومعرفة الله تَعَالَى معرفة مجملة؛ لكنها صحيحة وسليمة، ولهذا لو سألت العجوز أو الأعرابي أو الطفل -المميز- أين الله تعالى؟ لقال لك: في السماء. حتى أولاد اليهود وأولاد النَّصارَى يولدون عَلَى أن الله واحد، وإذا كَبُرَ علَّموه أنه سبحانه ثلاثة تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن رحمة الله تَعَالَى وحكمته أنه لم يُقِمِ الحجةَ علينا بالمعرفةِ الفطرية وحدها، وإلَّا لكانت كافية قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] فهذا الميثاق الفطري الذي أخذه الله - تعالى- من الذرية من ظهور بني آدم، هو فطرهم عَلَى الشهادة والإقرار له سبحانه وتعالى بالوحدانية، فهو إذاً أمر موجود في النفوس؛ لكن من رحمة الله أنه لم يجعل ذلك مناط العقوبة، فيعاقبنا بناءً عَلَى العهد الذي أخذه منا، أو بناءً عَلَى الفطرة التي فطرنا عليها؛ بل بعث الله تَعَالَى الرسل رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وهذا من فضله تَعَالَى أنه لا يعاقب أحداً إلا بعد مجيء النذير وهو الرَّسُول أو القُرْآن أو الحق. فهذا من كمال عدل الله وحكمته.
ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رحمه الله: [والدواء النافع لمثل هذا المرض] مرض الشك والريب وعدم معرفة الأدلة ووضوحها أمام اختلاف الآراء فيها [ما كَانَ طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله: إذا قام من الليل يفتتح الصلاة] كما في صحيح مسلم [اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم] خرَّجه مسلم وهذا تعليم لنا، فنحن أحوج -بلا شك ولا ريب- إِلَى أن ندعو بهذا الدعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم هداه ربه إِلَى ما اختلف فيه من الحق من هذه الأمور، عَلَى أن كثيراً مما يختلف فيه علماء الكلام هو بالنسبة لنا إذا أخذناه من كلامالسلف الصالح ومنهجهم لا اختلاف فيه ولا شبهة ولا شك، لكن قد توجد أمور دقيقة في بعض المسائل مما يغمض ويدق فهذا الذي ندعو الله أن يرينا الحق فيه، وقد كَانَ أكابر العلماء كشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله يدعون بهذا الدعاء وأمثاله، إذا أشكلت عليهم المسائل وتعقدت عليهم الأمور فترى أحدهم يتوجه إِلَى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يعلم الغيب وهو الذي بيده كل شيء، وهو الذي سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علماً.
ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رحمه الله: [توسل صلى الله عليه وسلم إِلَى ربه بربوبية جبريل
…
] يعني: ربوبية الله -تعالى- لجبريل وميكائيل وإسرافيل [أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه إذ حياة القلب بالهداية] فإذا لم يكن القلب مهتدياً كَانَ ميتاً.
والقلوب ثلاثة أنواع:
1-
قلب حي.
2-
قلب ميت.
3-
قلب مريض.
وقد دل القُرْآن عليها وجاءت بذلك الأحاديث، والقلب يحيى بالهداية وبالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وبقراءة القرآن، وبذكر الله، وبالتفكر في آلاء الله، وشكره عليها.
والمناسبة في سؤال الله بهَؤُلاءِ الثلاثة من الملائكة أنهم موكلون بأمور الحياة هكذا جعلهم الله -تعالى-، فعندما يدعو العبد بهذا الدعاء فكأنه يدعو الله الذي جعل عَلَى أيدي هَؤُلاءِ الثلاثة الحياة وهو ربهم سبحانه وتعالى أن يحيي قلبه بالهداية قال المصنف:[فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب] جبريل أمين الوحي، وبالوحي تحيى القلوب وتحيى الأمم أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] فهذا النور هو القُرْآن العظيم، وهو الذي أحيا الله تبارك وتعالى به القلوب الميتة، وفتح به الآذان الصم، والأعين العمي: أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما أعطاه الله من الوحي.
[وميكائيل موكل بالقطر] والقطر المطر وهو سببٌ لحياة الحيوان، والنبات في هذه الحياة الدنيا.
[وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إِلَى أجسادها] ينفخ النفخة الثانية فيقوم الخلائق لله رَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويتوسل إليه سبحانه وتعالى بربوبيته لهؤلاء الملائكة العظام الثلاثة الذين بهم حياة القلوب، والأحياء، والأجساد بعد الموت، أن يمن عليه بمعرفة الحق المختلف فيه. [فاطر السماوات والأرض] هو الله سبحانه وتعالى الذي أنشأهما وذللهما ابتداء لم يشاركه فيه أحد وأوجدهما على غير مثال سابق لهما عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة [الأنعام:73] أحاط بكل شيء علماً يعلم الغيب والشهادة ولا يخرج عن علمه أي أمر مختلف فيه بين الناس، والنَّاس يختلفون لقلة أفهامهم في العلم؛ لأن النَّاس يتفاوتون في الفهم حتى العالم الكبير قد يخفى عليه أمور من العلم، لكن عالم الغيب والشهادة لا يخفي عليه شيء.
ثُمَّ قَالَ: [أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون -وهذا هو وجه الشاهد من الحديث- اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم] فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين عباده وقد اختلف أهل الكتاب من قبلنا واختلفت هذه الأمة والله -تعالى- هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون وجعل لذلك أجلاً مسمى ليبلو بعضهم ببعض قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [يونس:19] فهذا دعاء عظيم نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إِلَى الصراط المستقيم إنه سميع مجيب.
قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم، إذ كَانَ تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إِلَى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين الْمُسْلِمِينَ، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلَّ ولم يُصب التنزيه]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[يشير الشيخ رحمه الله إِلَى الرد عَلَى المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) الحديث، أدخل "كاف" التشبيه عَلَى "ما" المصدرية أو الموصولة بـ "ترون" التي تتأول مع صلتها إِلَى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي. وهذا بيَّنٌ واضحٌ في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟ !
فإذا سلط التأويل عَلَى مثل هذا النص كيف يستدل بنص من النصوص؟!
وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟!
ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] ونحو ذلك مما استعمل فيه "رأى" التي من أفعال القلوب، ولا شك أن "رأى" تارة تكون بصرية وتارة قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينه تخلص أحد معانيه من الباقي: وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني لكان مجملاً مُلغزاً لا مبيناً موضحاً وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟!
وهل يخفى مثل هذا إلا عَلَى من أعمى الله قلبه؟!
فإن قالوا: ألجأنا إِلَى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته -تعالى- محال لا يتصور إمكانها. فالجواب: أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض عَلَى العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال وقوله:(لمن اعتبرها منهم بوهم) أي: توهم أن الله تَعَالَى يرى عَلَى صفة كذا فيتوهم تشبيهاً، ثُمَّ بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف فهو مشبه وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم -فهو جاحد معطل. بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده ولا يعم بنفيه الحق والباطل فينفيهما رداً عَلَى من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق وإلى هذا المعنى أشار الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بقوله:(ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) فإن هَؤُلاءِ المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي وهل يكون التنزيه بنفي صفة كمال؟!
فإن نفي الرؤية ليس بصفة الكمال إذ المعدوم لا يُرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة كما في العلم، فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لايحاط به رؤية كما لا يحاط به علماً] اهـ
الشرح:
خرج المُصنِّفُ رحمه الله من موضوع الرؤية إِلَى موضوع التأويل وهو من أدق الموضوعات ومن أهمها التي ينبغي أن تفهم، فإنه إذا أُولت آيات الرؤية وأحاديث الرؤية وهي في غاية الوضوح كَانَ ما سوى ذلك أسهل في التأويل، ويستنبط الإمام أبي جعفر الطّّحاويّ أنه لا تأويل في شيء من صفات الله سبحانه وتعالى أبداً، ولذا كَانَ تأويل كل معنى يضاف إِلَى الربوبية من باب أولى؛ لأنه أعم فلا يؤول أي معنى يضاف إِلَى الله سبحانه وتعالى مطلقاً. .
أهل البدع يكفرون من قال إن الله يرى في الآخرة
قَالَ: [ولا يصح الإيمان بالرؤية -أي: برؤية المؤمنين لربهم في الجنة- لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم] وسيأتي الإيضاح في ذلك.
يقول المخالفون في الرؤية من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية والإباضية: من قال إن الله -تعالى- يرى في الآخرة فقد كفر، وعلى كلامهم هذا يكون أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كفاراً؛ لأنهم يعتقدون أن الله يُرى.
فهَؤُلاءِ يرون أن من قَالَ: إنه يُرى -سبحانه- في الدنيا أو في الآخرة فقد كفر! هكذا بإطلاق، وهو قول الإمامية أو الإثنا عشرية، ويسمى بهم أغلب الشيعة ويسمون أيضاً جعفرية من الناحية الفقهية، وهم أغلب الشيعة المعروفين اليوم؛ ولكن الإمامية أو الإثنا عشرية أو الجعفرية غالباً إذا ذكر اسم الشيعة فإنه ينصرف إليهم.
وكما قَالَ المُصْنِّفُ إن أبا جعفر رد عَلَى المعتزلة ومن تبعهم من المؤولة الذين يقولون: نؤول رؤية الله، فنوؤل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23]، ونؤول قول النبي صلى الله عليه وسلم:(سترون ربكم كما ترون هذا وأشار إِلَى القمر) وفي حديث آخر: (فأشار إِلَى الشمس) وقَالَ: (كما ترون الشمس في الظهيرة) وكان مما قالوه إنّ كلمة "ترى" أو "رأى" أو "أرى" تفيد الرؤية العلمية، لا الرؤية البصرية.
وقال الأشعرية: إنه يرى من غير جهة ولا مقابلة، فينكرون أن يكون المخلوق -مثلاً- في جهة، والله تَعَالَى عالٍ عليه فلا يتصورون ذلك، ويقولون: هذا شيء لا تدركه عقولنا، وهل ندرك الجنة ونعرف نعيمها أصلاً حتى نتكلم عن رؤية الله في الجنة؟! فالتجأوا إِلَى أن يقولوا: يرى من غير جهة ومن غير مقابلة، فأنكروا الجهة وأنكروا العلو لله تَعَالَى وأثبتوا رؤية هي أشبه ما تكون بالشيء المحال، فقالت لهم المعتزلة: من أثبت الرؤية ونفى الجهة فقد أضحك النَّاس عَلَى عقله! وهذا الذي قاله المُصْنِّف لو أنه عرض عَلَى العقل موجود قائم بنفسه ولا يمكن رؤيته، لحكم باستحالة ذلك، والمقصود أنهم أولوها وغيروها وحرفوا معناها بالأوهام وبالتأويلات الباطلة.
الرد على المعتزلة وذكر معاني "رأى"
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [يشير الشيخ رحمه الله إِلَى الرد عَلَى المعتزلة ومن يقول بقولهم] أي: من الفرق التي ذكرنا [في نفي الرؤية وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) الحديث أدخل كاف التشبيه عَلَى "ما" المصدرية أو الموصولة] كلاهما يصح ومما هو معلوم أن المصدر المنسبك والمؤول يتركب من ما المصدرية أو الموصولة، والفعل، أو أن والفعل كقوله تبارك وتعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم [البقرة: 184] أي: صيامكم خير لكم.
وفي الحديث: (كما ترون) أي: كرؤيتكم، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي، يعني: ترونه رؤية كرؤية القمر، فهل يعد هذا تشبيهاً لله تَعَالَى بالقمر تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً؟! لا يمكن، وقد فهم القوم من هذا الحديث أنه يوهم التشبيه فَقَالُوا: لابد أن نؤوله، فأعمى الله أبصارهم عن هذه الحقائق التي تتضح لمن يفهم لغة العرب وأسلوبها، ولجأوا إِلَى التأويل الباطل.
قَالَ: [ومن تأمل النصوص حق التأمل علم أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها] لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الروايات الأخرى- لما أشار أشار إِلَى القمر ثُمَّ قَالَ: (لا تُضامُّون في رؤيته) فلا يمكن بعد هذا البيان أن يؤول، وإذا أولنا مثل هذه الأمور الواضحة فما الذي لا يؤول؟! فذكر المُصْنِّف أنه [إذا سلط التأويل عَلَى مثل هذا النص كيف يستدل بنص من النصوص] فما هو النص الذي يمكن أن نقول: إنه صريح قطعي لا يحتمل التأويل؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه "أنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر"؟! هذا مما لا يقوله إنسان عربي فضلاً عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أعلم النَّاس بربه وأفصح العرب.
ثُمَّ يقول المصنف: ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] ونحو ذلك مما استعمل فيه رأى التي من أفعال القلوب] ، فالمؤولة يقولون: الرؤية التي في الحديث ليست رؤية حقيقة؛ وإنما هي رؤية قلبية كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] والنبي صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل ولم ير ما فعل الله بأصحاب الفيل.
فالرؤية إنما كانت رؤية قلبية أو مثلها قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [المجادلة: 7] يعني: ألم تعلم ذلك بقلبك! وهذا الاستدلال في غير موضعه فهو من أبطل الباطل في مثل هذه النصوص الواضحة نعم، تأتي "رأى" لثلاثة معان: بصرية وقلبية ومن الرؤيا التي تحصل في المنام، فكما في البيت الشعري المشهور
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
وقد نصبت مفعولين في هذا البيت: المفعول الأول: لفظ الجلالة "الله" والمفعول الثاني: أكبر، وكقولك: رأيت زيداً عالماً، أي: علمته عالماً أو وجدته عالماً فـ"زيد" مفعول أول.
و"عالماً" مفعول ثان، أما رأى البصرية فإنها تنصب مفعولاً واحداً، تقول: رأيت زيداً، أي: بعيني.
أما رأى التي تأتي بمعنى الرؤيا التي تحصل في المنام: فتتضح من خلال السياق مثالها: قول إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102] وقول يوسف عليه السلام لأبيه: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] فَقَالَ له أبوه: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ [يوسف:5] ومعنى هذا أنه قال له: إني رأيت ذلك في المنام، فَقَالَ له أبوه: لا تقصص رؤياك، وفي آخر الأمر قَالَ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ [يوسف:100] فعلم بعد هذا التفريق أن الثلاثة المعاني لا تشتبه ولا تلتبس في الكلام، وإذا جَاءَ شخص، وقَالَ: أنا لم أفهم من كلام فلان ماذا يقصد بالرؤية أهي القلبية أو البصرية أو المنامية؟! كَانَ هذا من ضعف تعبير المتكلم وعجزه وعيه، وليس هذا من فصاحته وبلاغته أو أن يكون تعمد عدم الإفهام، وهذه الاحتمالات لاترد بأي حال من الأحوال في كلام الله، ولا في كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقول المصنف: [ولا شك أن "رأى" تارة تكون بصرية وتارة قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو كلام من قرينه تخلص أحد معانيه من الباقي؛ وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني -الثلاثة- لكان مجملاً ملغزاً لا مبيناً موضحاً وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب، وهل يخفى مثل هذا إلا عَلَى من أعمى الله قلبه؟!] نسأل الله العافية فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فإذا عميت القلوب فإنها تعمى عن الأدلة الواضحة الجلية، ولا حيلة فيمن عمي قلبه عن فهم هذه النصوص، ولا نستطيع أن نهدي من أضل الله، والواجب عَلَى المتبصرين أن يقيموا الحجة عَلَى أهل العمى وأما هدايتهم وبصيرة قلوبهم فهي عَلَى الله سبحانه وتعالى متى أراد ومتى شاء الهداية منَّ بها عليهم، وإلا تركهم في ضلالهم يعمهون.
ثُمَّ يقول رحمه الله: [فإن قالوا: ألجأنا -أي: ألجأتنا قرينة عقلية- إِلَى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته تَعَالَى محال لا يتصور إمكانها! فالجواب: أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء] ومن الذي قال لكم: إن العقل يحكم في هذه الأمور، وإنه المرجع لها؟! ثُمَّ كيف وقد جَاءَ النص بتقرير هذه الأمور؟!
إيمان الصحابة برؤية الله تعالى في الآخرة
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعقل النَّاس ولا يوجد أعقل منهم ولا أذكى، وعندما سمعوا هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم أصبحوا يشتاقون إِلَى رؤية الله -تعالى- حتى قال عبد الله بن مسعود وهذا مما له حكم المرفوع:(إن منازل النَّاس من رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة كمنزلتهم منه في الحضور إِلَى صلاة الجمعة) فمن يبكر إِلَى صلاة الجمعة ويكون في الصف الأول؛ فإنه يكون يَوْمَ القِيَامَةِ في مقدمة من يرى الله سبحانه وتعالى.
فالصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم كانوا يفهمون هذا المعنى وكانوا يحثون التابعين وتلاميذهم عَلَى المبادرة والتبكير إِلَى صلاة الجمعة مقرين بهذا الأمر بأنكم ترون ربكم بمقدار ما تبكرون وتسبقون إِلَى صلاة الجمعة، فيكون النَّاس صفوفاً لرؤية الله تَعَالَى وأقربهم وأدناهم منه منزلة أقربهم إِلَى الإمام في يوم الجمعة، فكان هذا الذي فهمه الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- وربوا عليه من بعدهم.
فياترى من هو أكمل عقلاً: أفلاطون أو أرسطو أوالجهم وغيرهم ممن أعمى الله بصائرهم من أهل الشرك والوثنية والمجوسية، أم الصحابة رضوان الله عليهم؟ العقل الحقيقي، والفهم الصحيح، والعقلاء لا ينفون ذلك؛ بل يقول:[وليس في العقل ما يحيلها؛ بل لو عرض عَلَى العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال] لقال العقل: إن هذا محال، فما الذي جعل رؤيته مستحيلة وهو موجود قائم بنفسه؟ إن العقل السليم النقي لا يقول بذلك، ولا يحكم به؛ بل يستغرب ويتعجب! كيف لا وهو أعظم الموجودات، والموجودات الأخرى ما هي إلا آثار من موجوداته سبحانه.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وقوله: لمن اعتبرها منهم بوهم أي: توهم أن الله تَعَالَى يرى عَلَى صفة كذا فيتوهم تشبيهاً] فأول ما يأتي عَلَى ذهن أهل التأويل: يأتيهم الشيطان بوهم وبتشبيه معين، ثُمَّ بعدها يتوهمون أنهم إذا أثبتوا ما توهموه من الوصف فهم مشبهة، فانقسموا نوعين: منهم من أثبت هذا الوهم الذي ألقاه الشيطان في ذهنه، فهذا هو المشبه الذي يشبه الله -تعالى- بخلقه، والبعض الآخر قَالَ: مادام أنه لا يوجد إلا هذا الشكل فأنا أنفي الرؤية كليةً وأنفي الشكل الذي ألقاه الشيطان في ذهني! وذلك لأنه لم يتصور هذه الصفة إلا بهذا الشكل، فنتج عن ذلك أنه أنكرها بالكلية.
فيقول المُصْنِّف رحمه الله: [إن اثبت ما توهمه من وصف فهو مشبه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم فهو جاحد معطل، بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده] فإذا دفعت هذا الوهم عن عقلك فستجد نفسك بعد ذلك أنك تؤمن بأنه -تعالى- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وتؤمن بأنه سبحانه وتعالى يُرى، ويزول عنك كل تناقض قد يرد بل هذا هو الذي يؤمن به العقل وتؤمن به الفطرة يقول:[ولا يعم بنفيه الحق والباطل] ينفي الدليل وينفي الوهم [فينفيهما رداً عَلَى من أثبت الباطل] والصحيح والواجب هو رد الباطل: وهو التوهم والتشبيه وإثبات الحق: وهو الإثبات إثبات الصفة أو المعنى المضاف إِلَى الربوبية [وإلى هذا المعنى] أي: معنى إثبات الحق ورد الباطل أشار الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بقوله: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه] .
التنزيه لا يكون بنفي صفة الكمال
يزعم أهل البدع من المعتزلة وغيرهم أنهم بنفيهم للصفات ينزهون سبحانه وتعالى والأمر ليس كما توهموه وزعموه فإن التنزيه لا يكون بنفي صفة الكمال.
يقول: [فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال إذ أن المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي إدراك إحاطة]
أما نَحْنُ أهل السنة فنثبت الرؤية وننفي أن يكون أحد يرى ربه سبحانه وتعالى رؤية إدراك كما في العلم لا يحيطون به علما ولا يحيطون به -تعالى- كذلك رؤيةً [فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم] وهكذا يُقال في الرؤية: فالكمال هو في إثباتها لا في نفيها، ومع ذلك فإننا ننفي الإحاطة به رؤيةً -سبحانه- كما ننفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه وتعالى لا يحاط به رؤيةً كما لا يحاط به علماً، وهناك رسالة لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ اسمها الإكليل في المتشابه والتأويل مطبوعة مستقلة وموجودة أيضاً في ضمن الجزء الثالث عشر من مجموع الفتاوى، يمكن أن يرجع إليها من شاء.
إن موضوع التأويل موضوع مهم لكثرة ما يثار حوله.
فما هو التأويل؟
وما هي أنواعه؟
وهل نؤول أو نفوض في صفات الله تعالى أم ماذا نفعل؟
وهل التأويل يدخل في أمور أخرى غير العقيدة -الصفات- أم لا؟
ونظراً لتعدد معانيه فإن اللبس قد يقع لطالب العلم وهو يقرأ أي كتاب من الكتب حول هذا الموضوع؟
ولذلك سنوضحه إن شاء الله.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[وقوله: "أو تأولها بفهم" أي: ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وما يفهمه كل عربي من معناها، فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا: نحن نؤول ما يخالف قولنا فسموا التحريف: تأويلاً، تزييناً له وزخرفة ليقبل، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112] ، والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق، وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم [لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا]، ثم أكد هذا المعنى بقوله:[إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل، ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين] .
ومراده ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً وهو تحريف؛ ولكن الشيخ رحمه الله تعالى تأدب وجادل بالتي هي أحسن كما أمر الله تعالى بقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ، وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيئاً من الظواهر لبعض الناس لدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها وترك القول على الله بلا علم، فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية، وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، ثم قد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي.
فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فتأويل الخبر: هو عين المخبر به، وتأويل الأمر: نفس الفعل المأمور به كما قالت عائشة رضي الله عنها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأول القرآن، وقال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ [الأعراف:53]، ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل كقوله: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] وقوله: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث [يوسف:6] وقوله: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] وقوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صبْراً [الكهف:78] إلى قوله: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صبْراً [الكهف:82] .
فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل، والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟ وأما ما كان خبراً كالإخبار عن الله واليوم الآخر فهذا قد لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به، أو ما يعرفه قبل ذلك لم يعرف حقيقته التي هي تأويله بمجرد الإخبار، وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عني بها، وإن كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له.
والتأويل في كلام كثير من المفسرين كابن جرير ونحوه، يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالف وهذا اصطلاح معروف وهذا التأويل كالتفسير يحمد حقه ويرد باطله، وقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الآية [آل عمران:7] فيها قراءتان:
قراءة من يقف على قوله: إِلَّا اللَّهُ وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى: المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله.
ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره وهو تأويله، ولا يريد من وقف على قوله: إِلَّا اللَّهُ أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول ويكون الراسخون في العلم لاحظ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] .
وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، ولقد صدق رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال:(اللهم فقه في الدين وعلّمه التأويل) رواه البخاري وغيره ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد.
قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها.
وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله] اهـ.
الشرح:
قول الطحاوي رحمه الله: (أو تأولها بفهم) كلمة (تأولها) جعلت المصنف ابن أبي العز رحمه الله يستطرد الكلام في بيان ما هو التأويل، وبيان معانيه الثلاثة وهي: الحقيقة (حقيقة الكلام) .
ثانياً: التفسير.
وثالثاً: صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح لقرينة، فيقول رحمه الله:(أو تأولها بفهم) أي: ادعى أنه فهمها بتأويل يخالف ظاهرها، وما يفهمه كل عربي من معناها فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص.
التعريف المبتدع للتأويل
التعريف الثالث: هو تعريف المتأخرين، وهو تعريف مبتدع، وهو: صرف اللفظ عن معناه الظاهر الراجح إِلَى معنى مرجوح لقرينه أو احتمال مرجوح.
وبهذا تسلط المحرفون عَلَى النصوص، وَقَالُوا: نَحْنُ نؤول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف تأويلاً تزييناً له وزخرفة ليقبل، وقد ذم الله -تعالى- الذين زخرفوا الباطل لكننا نؤمن بجميع ما أثبت الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف -تأويل- ولاتعطيل.
فقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] هذا المعنى ظاهر اللفظ وما يفهمه كل عربي من الاستواء كما قال الإمام مالك.
وكما قال شيخهربيعة من قبل: (الاستواء معلوم) أي: معلوم في لغة العرب: وفسره السلف بأنه علا وارتفع وصعد، فعندما يأتي شخص ويقول: إن معنى (استوى) أي (استولى) فإن هذا تحريف، لا تأويل كما يدعي.
ومثال آخر في الحديث الصحيح (إن الله سبحانه وتعالى يضع قدمه في النَّار فتقول: قط قط) وفي بعض الروايات (يضع الجبار) الذي هو الله سبحانه وتعالى فإذا قال شخص: (الجبار) ملك من الملائكة أو رجل من أهل النَّار يأمره الله تَعَالَى فيضع قدمه في النَّار.
فنقول: هذا تحريف وصرف للفظ عن معناه الظاهر الواضح إِلَى معنى بعيد لا يكاد يخطر عَلَى ذهن الإِنسَان، ويقولون: نَحْنُ نضطر إِلَى التأويل حتى ندفع التشبيه، فنرد عليهم: بأنه ليس في إثبات صفات الله سبحانه وتعالى تشبيه وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أي معنى يضاف إِلَى الربوبية يوهم التشبيه، إنما أنتم قد تتوهمون في أنفسكم، وهذه الزخرفة أو تغيير المعنى من التحريف إِلَى التأويل ليقبل المعنى تسمية اصطلاحية بدعية حديثة لم تكن معروفة لا في نصوص الكتاب والسنة ولا في كلام سلف الأمة، إِلَى أن ظهر هَؤُلاءِ المبتدعة، واستخدموا كلمة التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره الواضح الذي يفهمه النَّاس إِلَى معنى آخر، وسموه تأويلاً ليقبل، فهذه هي الزخرفة التي أرادها المُصْنِّف رحمه الله.
ويقول رحمه الله: [وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]] ، فهم يزخرفون القول لكي يقبل عند من لا يفقه الحقيقة.
العبرة بالمعاني لا بالألفاظ
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق] أي: أن الذين يسمون نفي الصفات تنزيهاً، ويسمون تحريف المعاني تأويلاً، أياً كانت المسميات والأسماء والألفاظ والتحريفات والزخرفات، فإنها لا تغير الحقيقة، فقد يأتي إنسان بقولٍ كاذب ويزخرف أدلته ويظهره في قالب الحق كما هو في عصرنا، فكم من كتب وأفكار ونظريات وآراء باطلة، ولكنها مزخرفة ومموهة وكأنها هي الحق ولكنها في الواقع من أبطل الباطل، فالعبرة بالحقائق وليست بالاصطلاحات ولا بالألفاظ
ثُمَّ يقول: [وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم "لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا" ثُمَّ أكد هذا المعنى بقوله: إذ كَانَ تأويل الرؤية، وتأويل كل معنى يضاف إِلَى الربوبية بترك التأويل] وإذاً هنا: تعليلية، وتأويل الرؤية هو ترك التأويل، وكيف يكون التأويل هو ترك التأويل؟!
يقول المصنف [ومراده ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً] هذا هو الصحيح، لكن الإمام الطّّحاويّ رحمه الله تأدب وجادلهم بالتي هي أحسن، وتنزل معهم في العبارة كأنه يقول: التأويل هو ترك التأويل، فإذا كنتم ترون التأويل بأنه حق، وأنه واجب، فالواجب هو ترك التأويل.
فلهذا قَالَ: [وتأويل كل معنى يضاف إِلَى الربوبية: بترك التأويل] وليس مراد المُصْنِّف ترك كل ما يسمى تأويلاً، لأن التأويل له معانٍ منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل وهو يقصد المعنى الباطل لأنه عطف فقَالَ:[ولا ترك شيء من الظواهر لبعض النَّاس لدليل راجح من الكتاب والسنة] أي: لا يقصد ترك الحق لأجل النَّاس.
ليس كل ما في نصوص الكتاب والسنة يؤخذ على ظاهره
ليس في ظواهر نصوص الكتاب والسنة أي ممسك للمبتدعة بأن يقولوا: إن ظواهر نصوص الكتاب والسنة تفيد التشبيه، فيجب نفيها أو تحريفها، ونقول: كل لفظ في القُرْآن والسنة لا يؤخذ عَلَى ظاهرة مطلقاً.
بمعنى: أن بعض الألفاظ ليست عَلَى ظاهرها بإطلاق، لكن هذه الألفاظ ليست في باب الصفات والعقائد ولكنها في باب الأحكام، فمثلاً: الألفاظ العامة التي ورد ما يخصصها، فلا يراد به ظاهر اللفظ لأنه ما دام أنه قد خصص فلا يراد به الظاهر بإطلاق، وإنما يراد ظواهر الألفاظ العامة فيما لم يخصص، وكذلك المطلق: فإن الألفاظ جاءت في كتاب الله عز وجل مطلقة وورد تقييدها إما في القُرْآن وإما في السنة فلا نأخذ بظاهر المطلق في كل شيء؛ ولكن فيما لم يقيد، وكذلك الألفاظ المجملة لا يؤخذ بظاهرها مطلقاً، وإنما يؤخذ بظاهر الذي لم يبين، والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة جداً.
معنى النسخ عند السلف وعند المتأخرين
كان السلف الصالح رضي الله عنهم يسمون العام الذي خصص أو المطلق الذي قيد نسخاً، ففي أيام الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمون بعض الأحكام محكمة وبعضها منسوخة كما في آية: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] فالمنسوخ عندهم أي: الذي قيد أو خصص أو بُيِّن، فعدم إرادة الظاهر بإطلاق يسمى عندهم في الجملة منسوخ، لكن علماء الأصول المتأخرين حددوا هذه الألفاظ بتحديدات اصطلاحية فنية، وذهبوا إِلَى أن النسخ هو تغيير الحكم أو تبديله، وأن تخصيص العام وتقييد المطلق وبيان المجمل لا يسمى نسخاً.
فمثلاً: كل لفظ جَاءَ في الحث عَلَى إقامة الصلاة فهذا لفظ عام يشمل جميع الْمُسْلِمِينَ، لكن الحائض والنفساء، لا تدخل في هذا اللفظ العام. إذاً هذا العموم يُخصُ منه الحائض والنفساء، ومثل: عتق الرقبة في الكفارات، فقد جعل في بعض الآيات مطلقاً وفي بعضها مقيداً بالإيمان، كما قال تعالى:: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فذاك يسمى إطلاق وهذا يسمى تقييد وكذلك الآيات التي جاءت تدل عَلَى الجهاد مثل آيات الاستنفار انْفِرُوا خِفَافاً [التوبة:41] .
فهذه الآيات تدل عَلَى أن كل مسلم يجب عليه أن ينفر، فجاءت آيات وأحاديث أخرى تخصص الضعفاء والمرضى الذين لا يجدون نفقة الجهاد، والذي لم يستأذن أبويه، أو كَانَ أبواه ضعيفين وهكذا: فالألفاظ التي في الكتاب والسنة التي لا يؤخذ ظاهرها بإطلاق، مثل العام المخصص، أو المطلق المقيد، أو المجمل المبين وهذا لا يكون إلا في الأحكام إلا أنه قد تشتبه بعض المعاني، فنحتاج إِلَى أن نجمع بين النصوص في غير الأحكام في أمور العقيدة كما يأتي، مثل: أمور الوعد والوعيد وما أشبه ذلك، لكن هذه ليست هي الأصل فيما نقوله هنا؛ بل تدخل في قسم المتشابه عَلَى قول بعض السلف.
فالمقصود: أن نعرف أن بعض ألفاظ الكتاب والسنة يراد بها غير ظاهرها -كما سبق- أما أن يأتي لفظ من الكتاب والسنة ويغير معناه بالكلية إِلَى معنى آخر بعيد لمجرد قرينه عقلية كما يسميها أصحابها فلا. هذا هو التأويل الذي وقع فيه المتأخرون.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: [ليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً] لأن التأويل له معانٍ: منها حق ومنها باطل [ولا ترك شيء من الظواهر لبعض النَّاس لدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف التي يدل الكتاب والسنة عَلَى فسادها؛ وترك القول عَلَى الله بلا علم] ففي نفي شيء أثبته الله لنفسه، أو إثبات شيء لم يثبته الله لنفسه قول عَلَى الله تَعَالَى بغير علم، وكفى بذلك إثماً مبينا.
. بعض التأويلات الفاسدة
يقول: [فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية] فأولوا قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] قالوا: ناظرة اسم فعل من الانتظار فهي ناظرة أي: تنتظر رحمة الله، قوله:[وأدلة العلو] مثل: تحريف الاستواء بالاستيلاء [وأنه لم يكلم موسى تكليما] ، أولوا آيات التكليم، فَقَالُوا: الكلام ينسب إِلَى الشجرة، لأنه - تَعَالَى - قَالَ:(مِنَ الشَّجَرَةِ) فالشجرة: هي التي تكلمت.
ولهذا قال كثير منالسلف الصالح وهذا مروي عند الأئمة بالأسانيد، كما في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد والشريعة للآجرى والإبانة لابن بطة وغيرهم أن من يقول:"إنني أنا الله لا إله إلا أنا" وهو مخلوق فقد كفر، وقالوا في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] قالوا: نجعل موسى هو المتكلم والله هو المتكلَم معه، فقيل لهم: ما تقولون في قوله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فحرفوا معنى الكلام في "كلَّمه" وَقَالُوا: هو من التكليم الذي هو التجريح؛ لأن الكَلْم هو الجرح، فإذا قلنا: رجل مكلوم أي: مجروح.
ثُمَّ يقولون: [وهذا هو المعنى الحق، والذي يعتقد خلاف ذلك، فهو حشوي مشبه مجسم إِلَى آخره] كما يقول الكوثري وتلاميذه، ولهم كتب كثيرة ورائجة تدرس في أكثر جامعات العالم الإسلامي، أمثال هذه التأويلات عافانا الله منها.
ويقولون: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، وأنكروا المحبة، وَقَالُوا: إن الله لا يُحِب ولايُحَب ولهذا لما قتل خالد بن عبد الله القسري رحمه الله الجعد بن درهم كان هذا من أجل هذه البدعة، وإن كَانَ هناك من يقول: إنما قتله لقضية سياسية كانت بينهما.
معنى التأويل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [ثُمَّ قد صار التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي، فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام] والمآل هو: والعاقبة والنهاية، أي: ينتهي إليها الكلام وتراد بالكلام [فتأويل المخبر به] مثلاً أخبرنا الله عز وجل عن الجنة والنار، فَقَالَ في النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فتأويل هذه الآية -على هذا المعنى- أن العالمين جميعاً يردون فوق جسر جهنم هذا تأويلها.
وتأويل دخول الجنة أن يدخل المؤمنون الجنة.
وتأويل دخول النَّار أن يدخل الكفار النار.
وتأويل أخبار الدجال أن يظهر الدجال وتظهر الآيات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وتأويل أخبار الدابة أن تظهر الدابة فإذا خرجت قلنا قد وقع تأويل ذلك، فكل ما كَانَ من الأخبار فتأويله هو وقوع نفس المخبر به.
وتأويل الأمر: نفس الفعل المأمور به.
فعندما يقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] فتأويلها أن تصلي، فإذا كنت تصلي فأنت تأول هذه الآية بمعنى تأتي بما أمرك الله به وعلى هذا الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عَائِِِشَةَ قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن) أي: يتأول قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ َ تَوَّاباً [النصر:1-3] فالنبي صلى الله عليه وسلم لما تحقق له ذلك تأول القُرْآن أي: عَلَى لغتنا يطبق ذلك ويتمثله.
وقال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ [الأعراف:53] أي: هل ينظرون إلا أن يأتي تأويله: فالنبي صلى الله عليه وسلم يحدث كفار قريش وما أكثر ما يحدثهم بكتاب الله عن قيام الساعة؛ لكنهم ينكرونها ويكذبون بها كما قال تَعَالَى عنهم: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66] فلا يؤمنون بأن الساعة ستقوم والنبي صلى الله عليه وسلم يكرر عليهم الآيات والأحاديث في الإيمان بها فماذا ينتظرون بعد ذلك: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي: وقوع ذلك الشيء، فإذا وقع وجاء سيؤمنون! يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ فهم ينكرون البعث؛ فإذا نفخ في الصور وبعثر من في القبور، فإنهم حينئذ يقولون: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ لكن هل ينفع حينئذٍ؟ لا ينفع؛ لأن من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب قال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان سوف يموت كما قال تَعَالَى:حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] فتنزع روحه الملائكة، إما ملائكة الرحمة، إن كَانَ من أهل النعيم والإيمان، وإما ملائكة العذاب إن كَانَ من الشقاوة والجحيم، هكذا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمن بذلك ونصدق به، فتأويل هذا وتحققه أنه عندما تأتي الملائكة لقبض الروح لا يزداد المؤمن إيماناً، ولا يؤمن المنافق أو الكافر، وكذلك قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه [يونس:39] .
فقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي: القُرْآن هذه العلة الأولى من مناط التكذيب، الثانية: هو
وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه أي: لم يستطيعوا أن يستوعبوه بعقولهم ولا أن يفهموه، فنشاهد في هذه الآية أن الأمر عندهم دائر بين شيئين: أنهم لم يحيطوا بعلمه، وأنهم لمَّا يأتهم تأويله.
الفرق بين الإحاطة بالعلم وبين التأويل
هناك فرق بين الإحاطة بالشيء علماً وبين أن يأتي تأويله، فكثير من المكذبين الذين يكذبون بآيات الله، كعذاب القبر وغيرها يقولون: هذا شيء ليس معقولاً بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس:39] فهو لم يدرك ذلك بعقله الضعيف، ولم يستوعب هذا الشيء وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه أي: أمر لم يقع، ولم يؤمنوا به حتى يقع، هذا هو التفريق بين الإحاطة بالعلم وبين التأويل، ومن هذا نفهم آية آل عمران وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] وهذه الآية أشكل تفسيرها عَلَى أكثر المفسرين قديماً وحديثاً.
الكلام على قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))
إن التفريق بين الإحاطة بالعلم وبين التأويل يعين عَلَى فهم قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] لأن الراسخين في العلم يحيطون بمعاني القُرْآن علماً، ولكن لا يدركون تأويله عَلَى معنى الوقف عَلَى قوله: إِلَّا اللَّهُ فهذا أحد ما يُخَّرج به ذلك وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] .
فالراسخون في العلم لا يجهلون معاني كتاب الله عز وجل، كما ورد عن ابن عباس أنه كَانَ يوقفه تلميذه مجاهد عند كل آية ويسأله عن معناها، فلا توجد آية خَفْيَ معناها عَلَى ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- سواء كَانَ هذا التفسير صواباً، أو قد يكون هناك ما هو أولى منه، لكن المقصود أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- يعلم التأويل، إذاً هذا أحد الأوجه التي نفهم بها الآية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] فهم يعلمون معاني القُرْآن إذا كانت أخباراً، ولكنهم لا يعلمون تأويله، أي: حقيقته التي يؤول إليها، وأما الأوامر والنواهي فإن تأويلها معروف وذلك بتحقيقها وتطبيقها.
أمثلة لمعنى التأويل
يقول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: [ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل] أي: تفسيرها الذي ستقع وفقه، فملك مصر رأى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ [يوسف:43] فأرادوا تأويلها، فالذين لا علم لهم قالوا: أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44] لكن الذي أعطاه الله تَعَالَى العلم وعلمه من تأويل الأحاديث، قَالَ: هذه السبع السمان هي السنوات المخصبة التي فيها الخصب والنماء: يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ [يوسف:43] أي: يأتي بعد ذلك سبع سنين فيها جدب وقحط، فيأكل النَّاس ويستهلكوا ما ادخروه في أيام الخصب، فهذا تأويلها وتفسيرها، وكذلك لمَّا رأى يوسف عليه السلام الرؤيا، فقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] ثُمَّ قَالَ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] وقد قيل: إن بين الرؤيا وبين وقوع التأويل أربعون سنة، فتأويلها إذاً تفسيرها أو وقوعها، وتأويل العمل تفسيره، وبيان لماذا وقع بهذه الكيفية أي: بيان الحكمة.
ومثال آخر قوله تَعَالَى حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [الكهف:71] تعجب موسى عليه السلام: كيف يحسنون إلينا ويركبوننا في السفينة ثُمَّ نخرقها؟!
وبعدها لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الكهف:74] فَقَالَ موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس [الكهف:74] كأنه يقول: ما ذنب هذا الغلام الصغير حتى تقتلته؟
وفي الثالثة يذهب موسى والخضر إِلَى قرية من القرى فيستطعموا أهلها فيأبوا أن يضيفوهما، ثُمَّ يجدون فيها جداراً يريد أن ينقض فيقيمه الخضر حتى لا يسقط، فيتعجب موسى من ذلك فيقول: لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف:77] .
فما كَانَ من الخضر عليه السلام إلا أن قَالَ: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78] أي: أنا سأخبرك الآن بالعلة والسر والحكمة في الأفعال التي رأيتها ولم تستطع أن تصبر عليها، ثُمَّ أخذ يبين له: أَمَّا السَّفِينَةُ فتأويلها العملي فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79] عن أهلها وبعد أن نزل موسى والخضر عليهما السلام من السفينة، ذهب المساكين بسفينتهم إِلَى الميناء وجاء أعوان ذلك الملك الظالم، فَقَالُوا: نريد هذه السفينة إن كانت تصلح لنا وإلا تركناها؟ فخاف المساكين عَلَى سفينتهم فلما رأى أعوان الظالم الخرق قالوا: هذه مخروقة لو ركب فيها الجند لغرقوا فتركوها، ففرح المساكين وذهبوا وأصلحوا الخرق وسلمت لهم السفينة. إذاً هذا الخرق كَانَ خيراً لهم، لكن موسى عليه السلام لا يعلم تأويل ذلك، ولا يعلم الغيب الذي أطلع الله تَعَالَى عليه الخضر ولم يطلع عليه موسى، ولهذا قال له الخضر: أنت عَلَى علم من الله علمك إياه لا أعلمه، وأنا عَلَى علم من الله علمني إياه لا تعلمه.
وكذلك أولَّ لَهُ سببَ قتله للغلام وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً [الكهف:80] قال المفسرون: إن هذا الغلام طبع يوم طبع كافراً، فكان جزاؤه أن يُقتل لئلا يفتن أبويه.
وكذلك الجدار الذي أقامه لم يكن إكراماً لتلك القرية اللئيمة، وإنما كَانَ لحكمة غيبية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عز وجل عَلَى علم وذلك أنه كان: لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82] فجدد هذا البناء لكي يبلغا أشدهما ويستخرجا الكنز عندما يكبرا، ويطلعهم عَلَى ذلك الكنز.
قال في الأخير: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:82] فكل هذه المعاني التي جاءت في القُرْآن سواءً كَانَ وقوع حقيقة الشيء المخبر به، أو تأويل الرؤيا، أو تأويل العمل، فالمعنى فيها واحد، وهذا هو التأويل الذي جَاءَ في الكتاب والسنة.
يقول: [فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟]، هذا رد من المُصْنِّف رحمه الله عَلَى من فهم أن الإمام أبا جعفر أبا جعفر الطّّحاويّ ينكر التأويل بإطلاق فَيَقُولُ: هو لا ينكر التأويل بإطلاق لكن ينكر التأويل بالمعنى البدعي المحدث.
أمور الغيب لا يعلم تأويلها إلا الله
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [وأما ما كَانَ خبراً كالإخبار عن الله واليوم الآخر فهذا قد لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار؛ فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به، أو ما يعرفه قبل ذلك لم يعرف حقيقته التي هي تأويله بمجرد الإخبار وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله] كالحديث عن الجنة والنَّار وعن صفات الله سبحانه وتعالى وعن صفات بعض المخلوقات كالملائكة كما قال عبد الله بن المبارك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "قد بلغنا -وذلك كما في الحديث الصحيح- أن لجبريل ستمائة جناح، ونحن نعلم أن الطير ماله إلا جناحان فأين يكون الثالث؟ " أي: أن العقل لا يستطيع أن يتصور أين يكون الجناح الثالث؟ فكيف يستطيع العقل أن يتصور ستمائة جناح؟ فهذه من الأمور الغيبية التي أخبرنا الله بها ورسوله الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك صفات الله، وصفات العالم الغيبي، هذه أمور لا نعلم حقيقتها بمجرد الإخبار، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم أعلم النَّاس وأفهمهم للقرآن؛ لكنهم لم يعرفوا حقيقة هذه الأمور إلا ما أطلع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الإسراء، فمثلاً: نؤمن بأن الجنة فيها أنهار من عسل ولبن وخمر وماء وفواكه وغير ذلك، وكل ذلك لا نعلم حقيقته، إلا أنَّ هناك لفظاً مشتركاً يدل عَلَى قدر معين من العلم والشوق والرغبة إِلَى هذا الشيء، وإن كنا لا ندري حقيقته الكاملة، فذهب الجنة وزعفرانها وفضتها والحور العين واللؤلؤ والمرجان كل ذلك أسماء إلا أنها تدلنا عَلَى معنى الآخرة حتى قال بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى جعل في الأرض الأنهار والأشجار والنساء الجميلات
…
، وجعل هذه الأشياء، لكي يستدل العاقل بها عَلَى نعيم الجنة، فعندما تذهب إِلَى بلد من البلدان وترى منظراً لم يكن يخطر عَلَى بالك أن في الدنيا هذا
الجمال والأشجار والمياه والفاكهة والخضرة، فتتعظ وتعتبر، فكيف لو رأيت الآخرة؟!.
التأويل الباطني الخبيث
إن فائدة القول بهذا القدر اللفظي المشترك أنه يعيننا في الرد عَلَى الباطنية الذين أوّلوُا النعيم، وَقَالُوا: هذا ليس له أصل وإنما هو تقريب للأذهان، فينكرون الحقائق، ويقولون: هذا عالم غيب، وأنتم لا تعرفون عنه شيئاً، فنقول لهم: لكننا بناءاً عَلَى ما نعرف من الألفاظ التي أنزلها الله تعالى، ومعرفة أن هذه المعاني مراده، وأن لها مدلولات حقيقية هي فوق ما نتخيل من المعاني، فهذا القدر نرد به عَلَى أمثال هَؤُلاءِ المعطلين الذين عطلوا النصوص جميعاً، ولم يكتفوا بإنكار الصفات؛ بل أنكروا الحشر، وَقَالُوا: حشر روحاني، وأنكروا نعيم الجنة، وَقَالُوا: نعيم روحاني، وأنكروا عذاب النار، فَقَالُوا: عذاب روحاني، إِلَى آخر ما أبطلوا به الكتاب والسنة، فأبطلوا الصلاة والزكاة وصفات الله وأبطلوا الجنة ولم يُبقوا من كتاب الله عز وجل شيئاً.
فعندما نقول لهم قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] قالوا: الصلوات الخمس هي عَلِيّ وفاطمة والحسن والحسين، ومحسن، وقالوا في قوله تعالى: وَآتُوا الزَّكَاةَ أن تدفع المال للإمام المعصوم أو تنفق في كذا، وفي قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] هو حفظ أسرار الإمام المعصوم، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت [آل عمران:97] أن تذهب إِلَى الإمام المعصوم، فهذه هي حيلة اليهود والمجوس الذين أسسوا دين الرفض، ثُمَّ دين الباطنية والصوفية الذي هو أوسع من الرافضة، الذي يخرج الإِنسَان من جميع التكاليف ومن جميع التعبدات، فلا يؤمن بكتاب ولا بسنة، ولا بأمر ولا بنهي عافانا الله من ذلك
فالمقصود من ذلك: أن التأويل الذي هو معرفة حقيقة ما يؤول إليه المخبر عنه في الكتاب والسنة لا يعلمه إلا الله.
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه -ثُمَّ وضح ذلك فقال- فما في القُرْآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أو أن يُعلم ما عني بها وإن كَانَ من تأويله ما لا يعلمه إلا الله، فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف] .
إذاً مع قولنا: إن حقائق الأشياء لا يعلمها إلا الله، لكن هل يفهم من هذا أن معانيها لا تعلم؟ فهل نقول: الفاكهة أو الرمان والنخل والحور العين والأبكار واللحم والطير لا يعلم معناها؟ لا، ليس الأمر كذلك، فمعنى استوى نعلمه، ومعنى الجبار نعلمه، والقيوم والعزيز والحكيم كل هذه المعاني نعلم معناها؛ لكن حقائقها وكيفية اتصاف الله عز وجل بها لا نعلمه، فالمهم هو: معرفة أن نفي العلم بتأويل -حقيقة- الشيء لا يعني نفي معرفة المعنى، فلا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا.
لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى
ولا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي معرفة المعنى هذا أمر مهم جداً، فما في القُرْآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها.
فالمفوضة تقول: نَحْنُ لا نثبت أي معنى من هذه المعاني، فإذا قلت له: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يقول: الله أعلم بمراده فلا أنفي ولا أثبت! يقول: لأن الله تَعَالَى يقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] ، فنحن نتبع سبيل الراسخين في العلم، فنؤمن بأنها آية في القرآن؛ لكن لا نؤمن بأن لها معنى ولا نفسر هذا المعنى، وهذا مذهب خطير جداً.
ونتيجةً لجهل أكثر المتكلمين المتأخرين بهذا المعنى وقعوا في الحيرة، والاضطراب فأخذوا بهذا المبدأ، وَقَالُوا: نَحْنُ نفوض، فكانوا مفوضة، ومنهجهم خارج عن منهج السلف الصالح، وباطل كما أن مذهب المؤولة باطل، وهناك طائفة أخرى: لما رأوا أن هَؤُلاءِ أحجموا، وَقَالُوا: لا نثبت أي معنى من المعاني، قالوا: نَحْنُ نعرف هذه المعاني، ونعرف التأويل، ولهذا: أخذوا يؤولون الآيات ويخرجونها وفق قواعد اللغة العربية حسب زعمهم، والواقع أن كلاً منهما مخطئ من جهة، وهذا الذي يجب أن نعلمه في آية آل عمران.
يقول المصنف: [فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف وسواء كَانَ هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له] أي: إن كَانَ المقصود بكلمة " التأويل" تأويل المعنى فالأمر واضح أن المعنى قد يوافق الظاهر، وقد يخالفه، فالذين يتكلمون في معاني القُرْآن قد يفسرونه بالمعاني التي توافق الظاهر أو تخالفه هذا شيء آخر.
لكن المقصود: أنهم يفسرون القُرْآن بمعانٍ ولا يفوضون، ويقولون: لا نعلم منه شيئاً، وإن كَانَ المقصود أن هذا التأويل هو وقوع حقيقة الشيء، وقد تكون موافقةً للفظ وقد تكون مخالفة له وهذا الاحتمال قد يرد، وتوضيحاً لهذا نقول: عندما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن صفات الدجال، قد يفهم الإِنسَان من ظاهر هذه الصفات معنى معيناً في الدجال، فإذا ظهر الدجال قد يكون التأويل خلافاً لِمَا كَانَ مفهوماً من ظاهر النص.
وهنا لا بد من التنبيه عَلَى أمر مهم وهو:
التأويل قد يقع خلاف الظاهر المفهوم من النص
قد يقع التأويل خلاف الظاهر الذي كَانَ مفهوماً من ظاهر النص فيحتمل هذا المعنى أو ذاك
الأولى: في التفسير نرجع الضمير إِلَى المعاني وليس إِلَى وقوع الحقيقة؛ لأن كلمة "الظاهر": ومعرفة الظاهر ومعرفة ما عدا الظاهر، سواء كَانَ هذا معنى راجحاً أو مرجوحاً، هذه مسألة تعود إِلَى الفهم والفقه والاجتهاد، فالخلاف في هذا لا حرج أن يقع، ولهذا فالتفسير الذي يأتي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون منه ما هو خطأ لأنه فهم محض، فتجد آية فهمها أحد الصحابة عَلَى وجه والآخر فهمها عَلَى وجه آخر، ولا نستطيع أن نجمع بينهما، فنرجح فهم هذا عَلَى فهم ذلك كما في الأحكام، فقد يكون الواحد مخطئاً لكن له أجر، والآخر مصيب فله أجران، فمعاني القُرْآن التي يفسرها العلماء قد تكون موافقة لظاهره أو مخالفة، وقد تكون خطأً، وقد تكون صواباً -هذا بالنسبة لأفهام الناس- لكنه في ذاته -أي: القرآن- لا بد أن له مراداً يريده الله سبحانه وتعالى أو لا بد أن هذه الآية لها من يفهمها ولا يمكن أن يكون في القُرْآن آية يخفى معناها عَلَى جميع العلماء ويخطئ جميع العلماء في معناها
يقول المصنف: [والتأويل في كلام كثير من المفسرين كابن جرير ونحوه يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه] يقول ابن جرير في تفسيره: تأويل قوله تَعَالَى كذا، قال ابن عباس كذا ويأتي بسند إِلَى ابن عباس، وكذلك يأتي بسند إِلَى ابن جبير، وسند إِلَى جابر بن زيد، وسند إِلَى كذا، هذا هو التفسير، [سواء وافق ظاهره أو خالفه] فهو مجرد تفسير للكلمة [وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير يحمد حقه ويرد باطله] أياً كان، وقد يكون من الحق ما يوافق ظاهر اللفظ، وقد يكون الظاهر مخالفاً له، كَانَ يكون هذا الظاهر عاماً مخصصاً أو مطلقاً لكنه قيده في موضع آخر، أو مجملاً وبيَّن في موضع آخر.
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] وأن فيها قراءتين قراءة من يقف عَلَى قوله "إلا الله" ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ يستأنف.
والقراءة الأخرى -لِمن لا يقف- معناها: والراسخون في العلم حال كونهم قائلين آمنا به كل من عند ربنا، والقراءتان كلتاهما حق ولا اعتراض عليهما.
فإذاً يجوز لك أن تقف عَلَى قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ باعتبار، ويجوز لك أن لا تقف باعتبار آخر، ولذا قَالَ:[يراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره وهو تأويله ولا يريد من وقف عَلَى قوله "إلا الله" أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى] هذا مهم جداً، والمقصود به بيان أن هذه الآية مما أشكل فهمها وتفسيرها عَلَى كثير من الناس.
يرد متشابه القرآن إلى محكمه
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه أنزل القُرْآن عَلَى نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وأنه جعله عَلَى قسمين: محكم ومتشابه، فالسلف الصالح كابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، والحسن وكثير من مفسري السلف فسروا المحكم كما في الدر المنثور في أول الجزء الثاني -وهو ينقل المأثور سواء كَانَ عن ابن أبي حاتم أو البيهقي أو البغوي أو الحاكم بالسند إِلَى من قال القول ويقول: قال السلف إن المحكم هو: الحلال والحرام والأمر والنهي مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] .
والمتشابهات: مثل الوعد والوعيد، وما يؤمن به ولا يعمل به كثير من السلف كما في الدر المنثور، يعبرون عن أنفسهم وعن حالهم مع كتاب الله عز وجل. يقولون: نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهة، ونتدبر أمثاله وأقسامه فبعضهم يقول: إذاً المحكم هو الحلال والحرام والأمر والنهي أي: ما نعمل به مثل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ومثل: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ [الطلاق:1] فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] فهذه الآيات في الأحكام نعمل بها، وأيضاً في الأوامر والنواهي كما في الآيات التي في سورة الإسراء كالنهي عن الإسراف والتبذير والكبر والحقد والغل وغيرها من النواهي، والمتشابه مثل: الوعد والوعيد والأمثال، وكثير من النَّاس لا يفهم ما هو المراد بأمثال القرآن، ولكنه يؤمن به ويقول: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] وهذا قول أكثر السلف.
وقال بعض السلف رحمهم الله: المحكم هو الذي لم ينسخ، والمتشابه: المنسوخ، وهذا في الحقيقة جزء من ذلك، لأن الإحكام قد يقابل النسخ، فمثلاً سورة المائدة: قد روى الحاكم وصححه والنَّسَائِيُّ أن عَائِِِشَةَ رضي الله عنها قالت: هذه السورة من آخر ما نزل، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، أو: فإنها محكمة، أي: أن سورة المائدة محكمة. فليس فيها حكم منسوخ لأنها آخر ما نزل. بخلاف السور الأخرى التي نزلت من قبل فقد يكون فيها آيات منسوخة.
إذاً: فالمحكم يأتي مقابل المنسوخ كما في أصول الفقه، ولكن إذا جَاءَ المحكم مقابل المتشابه فمعناه الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً أو هو النص الواضح الجلي، والمتشابه: ما يلتبس معناه وما يخفى، وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] فهو ولا يريد الذين يتبعون المنسوخ بل الذين يتبعون ما تشابه منه مثل: الوعد والوعيد والأمثال والأقسام وأمثال ذلك مما قد يدق معناه ويخفى
ولهذا قَالَ: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وقد روي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يصح رفعه "إنهم الخوارج " هكذا فسرها المفسرون من السلف، وقد جَاءَ في الصحيحين أن أم المؤمنين عَائِِِشَةَ رضي الله عنها: لما قرأت هذه الآية قالت: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم" وكأن أم المؤمنين عَائِِِشَةَ رضي الله عنها تشير إِلَى الخوارج "الحرورية " فهم مثلاً يتبعون قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] فيجدون قاضي من قضاة الْمُسْلِمِينَ خالف أمر الله في مسألة فيقولون: هذا كافر، وآخر من الْمُسْلِمِينَ شرب الخمر فيقولون: هذا كافر؛ لأن معصية الله تَعَالَى عندهم كفر ويستدلون بقوله تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36] الضلال المبين هو الكفر كما في آيات أخرى.
إذاً: هذا كافر -هكذا يزعمون- فاتبعوا ما تشابه أي: ما تشابه معناه واحتمل عدة معاني، ولم يردوها إِلَى المحكم، ولوردوها إِلَى المحكم لوجدوا أن في كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فالآية محكمة واضحة المعنى جلية لا التباس في معناها، وكذلك كلمة الضلال المبين والضلال البعيد تارة تطلق عَلَى الكفر وتارة تطلق عَلَى المعصية فقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الضالين: اليهودكما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم واليهود كفار.
والضالين أيضاً تلطق عَلَى الخارجين عن السنة إِلَى البدعة قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم:26] أي: لمخطئون، تائهون عن الطريق، والمقصود هنا: أن الضلال يأتي بمعنى: الخطأ والذنب والكفر، لكن هذه الآية محكمة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فتدل عَلَى أن صاحب الكبيرة تحت المشيئة يغفر الله له إن شاء أو يعذبه إن شاء، وأما قوله تعالى: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] فهَؤُلاءِ ابتغوا الفتنة كالخوارج وأمثالهم وابتغوا المتشابه؛ كما قيل: إن النَّصَارَىقالوا: إن في القُرْآن ما يدل عَلَى أن الآلهة ثلاثة كما في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر:9] قالوا: ونحن عَلَى الجمع وأقل جمع ثلاثة إذاً هو ثلاثة كما في التوراة، يقال لهم إن: معنى "نحن" متشابه، فالواحد المعظم لنفسه يقول: نحن، والجماعة يقولون: نحن، وهذا لا يلتبس بكتاب الله؛ لأننا نرده إِلَى المحكم، وهو قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام:19] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] .
وكذلك من التبس عليه قوله تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] وقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [ص:75] فنردها إِلَى الأصل الثابت ليس كمثله شيء وليس ذلك لأن الآية متشابهة، فإن آيات الصفات ليست من المتشابة، ولكن قد يشتبه في الذهن معناها فنردها إِلَى المحكم.
وإذا أضفنا قوله: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ إِلَى قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فمعنى ذلك أن الذين يتبعون الفتنة يظنون أنهم سيعلمون كيفية حقائق الأسماء والصفات، وحقائق الجنة والنَّار والوعد والوعيد، في حين أنه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم يقولون في أمثال هذه الحقائق: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: ما فهمنا معناه وما كَانَ واضحاً جلياً لنا؛ وما كَانَ في أخبار الآخرة، أو ما كَانَ في حقائق الأشياء، أو ما كَانَ مما يدق علينا أن نفهمه وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والراسخون في العلم يقولون ذلك عَلَى المعنى الآخر وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي: أن أهل البدع الذين يتبعون المتشابهات ليسوا من الراسخين في العلم، وخطؤهم يأتي من جهة أنهم لا يفهمون كتاب الله، ولا يرجعون الأمر إِلَى الراسخين في العلم، كما قال الله تعالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْر [النحل:43] .
فالله تَعَالَى يذمهم بالجهل، ويعيب عليهم أنهم لا يعلمون هذا التأويل، وتأويله لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، وأولئك الذين يتبعون الفتنة ليسوا من الراسخين في العلم، ومن هنا يخرج قول ابن عباس رضي الله عنه لما قَالَ:(أنا من الراسخين في العلم) فنافع بن الأزرق الذي أوَّل كتاب الله، واستحل دماء الْمُسْلِمِينَ، لو ردَّ هذه الآيات إِلَى الراسخين في العلم من آيات الوعد والوعيد وغيرها إِلَى أمثال ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما لما وقعت الفتنة، ولكنه ردها إِلَى عقله وهواه، فقَالَ: هَؤُلاءِ كفار واستحل دمائهم وأموالهم.
فلذلك ذهب المُصْنِّف إِلَى أن الأرجح في الآية: أن يكون التأويل فيها بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء إذا وقفنا عَلَى قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ويكون الوقف عَلَى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إذا كَانَ المقصود بالتأويل هو المتشابه الإضافي.
الوقف على "إلا الله " ارجح
لكننا نقول: ما ميزة الراسخين في العلم وبمقدور كل إنسان أن يقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا؟ نقول: إذا كَانَ الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ولكنهم يؤمنون به وبمعانيه وبحقائقه وهم لا يعلمونها، فأولى وأحرى بمن كَانَ دونهم من الجهال والعوام والأتباع أن يتأسوا بهم، وهذا معنى عظيم في الآية.
فلا يتجرأ بعد ذلك مبتدع أو صاحب شبهة في التعدي والتقول عَلَى الله تعالى، وليقف حيث وقف القوم هذا هو الذي يقوي وجهة نظر القائلين بأن الوقف أولى.
وتعبير المُصْنِّف [المتشابه في نفسه الذي لا يمكن أن يعرفه أحد؛ لأنه في ذاته متشابه] كما إذا قلنا: إن حقائق اليوم الآخر لا يمكن أن يعرفها أحد، لأنها في ذاتها متشابه، أي: يدق معناها، ويصعب فهمها في ذاتها فلذلك نؤمن بها. هذا هو المتشابه في نفسه.
وأما المتشابه الإضافي: ما كَانَ متشابهاً بالإضافة، أو بالنسبة لأحد دون أحد كآية يعلم تفسيرها عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، ولكن لا يدرك معناها مجاهد أوسعيد بن جبير مثلاً، كما في عدد أصحاب الكهف، مثلاً فإن ابن عباس رضي الله عنهما، فهم المراد من الآية، وأن المعنى الصحيح في عددهم سبعة وثامنهم كلبهم، وهذا معنى يدق فهمه وتفسيره، وهو من المتشابه الإضافي الذي قلَّ من يفهمه من الناس، فمن لم يفهم معنى آية من الآيات فليردها إِلَى الراسخين في العلم ليبينوا له معناها.
ليس في القرآن آية لا يفهمها جميع الأمة
لابد أن يُعلم أنه ليس في القُرْآن آية لا يفهمها جميع الأمة، وهذا هو الذي من أجله ساق المُصْنِّف ذلك الكلام فلا يلبس علينا المؤولون والمحرفون ويقولون: إن معنى قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أن في القُرْآن آيات لا يعرف تفسيرها أحد إلا الله، ولازم ذلك: أن الله أنزل علينا كتاباً وأمرنا بتدبره وتعقله والتفكر في آياته، وفيه مالا يعقله منا أحد مطلقاً، ابتداءً من النبي صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بآخرنا، ولا مدخل للمؤولين من جهة الصفات من الباطنية أو المفوضة الذين يقولون: إن في القُرْآن مالا يعلم معناه، فالقرآن بالنسبة للمفسرين وللعلماء كله معلوم، وإن كَانَ هذا التفسير قد يكون فيه الخطأ والصواب فهذا شيء آخر عائد إِلَى الأشخاص، لكن الأمة بمجموعها تعلم القُرْآن كله ولا تخطئ في فهم آية منه، وليس فيه ما لم يرد الله تَعَالَى منهم أن يفهموا معناه، هذا بالمعنى، وأما بالحقائق التي يؤول إليها وهي أمور الغيب فهذه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
هذه الآية أشكلت عَلَى كثير من المفسرين وغيرهم من العلماء، واختلفت فيها آراؤهم قديماً وحديثاً، وقد سبق أن الوجه الراجح الذي يُختار في الآية وفي القراءة من حيث الوقف والوصل هو أن يكون معنى التأويل: ما يؤول إليه الكلام، أي: حقيقته التي يؤول إليها، وهذا هو المعنى الذي كَانَ متداولاً عند السلف لا المعنى الآخر الذي هو التفسير وإن كَانَ أيضاً معروفاً عندهم.
السلف لم يقروا المعنى الثالث للتأويل
أما المعنى الثالث للتأويل: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إِلَى احتمال مرجوح، فالسف الصالح لم يكن معروفاً عندهم إلا المعنيين السابقين، إما التفسير وإما الحقيقة التي يؤول إليها الشيء.
أما الاصطلاح الحادث، فهذا لم يتكلم فيه السلف، ولا يقرونه إنما يقرونه أهل الزيغ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
ولا نختار أن نقف هنا؛ لأن الذين في قلوبهم زيغ، ومنهم الفرق التي ظهرت في زمن الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، كالخوارج وأشباههم لم يكونوا يتبعون المتشابه من القرآن، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، بمعنى: ابتغاء تفسيره، وإنما ابتغاء الفتنة ليجادلوا ويماروا بالقرآن، (والمراء بالقرآن كفر) .
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالفرق المارقة وأصحاب البدع، يتبعون المتشابه من الآيات التي يشكل معناها، أو تحتمل معنيين، فلا يردون المتشابه إِلَى المحكم، وإنما يتبعون هذا المتشابه، ابتغاء الفتنة وإيقاعها في قلوب الناس، وتفريقاً بينهم وإبعاداً لهم عن الطريق المستقيم الذي عليه الجماعة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فأهل الزيغ يبتغون أن يعلموا ما تؤول إليه معاني وحقائق هذا القرآن، فمن ذلك: أنهم ينزلون بعض الآيات عَلَى أن معانيها منزلة عَلَى أشخاص معينين وهي لم تنزل فيهم، أو يريدون معرفة معانيها التي لا يمكن أن يعلمها أحد وعلى هذا المعنى يكون الوقف عَلَى قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أولى، والمعنى متناسق، لأن الله تَعَالَى وحده هو الذي يعلم ما يؤول إليه هذا الكلام، مع أن التشابه نسبي.
سيبقى الإشكال -إذا كَانَ هذا هو الوجه المختار- فلماذا خُص الراسخون في العلم بأنهم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: إذا قلنا: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، وإنما يقولون:"آمنا به" فكل جاهل وكل إنسان لا يعلم المعنى وبإمكانه أن يقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.
والله تَعَالَى إنما خص الراسخين في العلم تنبيهاً عَلَى من دونهم، فإذا كَانَ الراسخون في العلم من كبار الصحابة ومن بعدهم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: لا يعلم معناها وما تؤول إليه حقائقها إلا الله، ونرد تأويل ذلك إِلَى الله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك: أن من عداهم من باب أولى أن لا يتكلم وأن لا يخوض في تأويله.
ومنهم بطبيعة الحال الذين يريدون الفتنة لأن في قلوبهم زيغ؟ إذا قلنا مثلاً: إن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، كَانَ يقول في مثل هذه الآيات آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فكيف يجب أن يكون نافع بن الأزرق زعيم الخوارج الأزارقة الذي كَانَ يسائل عبد الله بن عباس كثيراً عن معاني القُرْآن في كثير من الآيات؟!.
هذا الذي في قلبه زيغ، أي: نافع يتبع الفتنة، وابتغاء تأويل هذه المعاني أولى وأحرى به أن يقول ما قاله الراسخون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فكذلك من بعدهم أولى وأحرى بذلك وأعظم، فيكون في ذكر الراسخين في العلم مناسبة وحكمة جليلة عظيمة لمن تأملها.
ليس في القرآن شيء لا تفهمه جميع الأمة
القضية الأخرى التي يجب أن نفهمها ونعلمها، هي أن الله تبارك وتعالى لا يذكر في القُرْآن شيئاً لا يعلم معناه أحد من الأمة! لا يمكن ذلك أبداً؛ لأن الله تَعَالَى لم ينزل هذا القرآن، إلا وأمرنا بتدبره، والتفكر في آياته، وأن نعقل أمثاله بحسب الاستطاعة، والنَّاس يتفاوتون في ذلك بحسب ما يعطيهم الله من مواهب ومن فهم يمنُّ به عَلَى من يشاء، وفقه في دين الله سبحانه وتعالى وتعليم لتأويل كتابه، فهذا فضل من الله يتفاوت فيه الناس، لكن أن توجد آية لا يعلمها كل الأمة بإطلاق، لا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد؟! لا يمكن أن يكون ذلك أبداً.
فهذا هو الوجه الذي يقول به من يقول: إن الوصل أولى، أي: أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل، ونحن نقول هذا كلام صحيح، نقرره ونؤكده مع ترجيح الوقف الأول، حتى لا يكون للتأويل كلمتان وردتا في آية واحدة، وتكون إحداهما لها معنى والأخرى لها معنى آخر، وإنما السياق يقتضي أن يكون معناهما واحداً.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، ويروى هذا عن ابن عباس، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كَانَ معناها معروفاً، فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً، وهي المتشابه كَانَ ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب، وأيضاً فإن الله قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادّين] اهـ.
الشرح:
إذا قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله: (وقول الأصحاب) ، فإنه يعني بالأصحاب الأحناف، لأنه حنفي المذهب، فهو يقول: إن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: إن الراجح في مذهب أبي حنيفة والمختار عندهم: أن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: (الم، حم، كهيعص، المص، ق، ن) إِلَى آخرها، جمعها بعض العلماء في عبارة (نص حكيم له سر قاطع) فهي النون والصاد والحاء والكاف والياء والميم والقاف والألف والطاء والعين واللام والهاء والسين والراء، هذه الحروف المقطعة التي وردت في أوائل السور، وقول الأصحاب هذا هو مما قيل في معاني الحروف المقطعة، فهناك قولان في معنى الحروف المقطعة.
القول الأول: أنها من المتشابه
فريق يقولون عن الحروف المقطعة - الله أعلم- بمراده، وهذا يروى كما ذكر المصنف، وكما هو في الدر المنثور، عن عبد الله بن عباس وعلى ذلك عدد من العلماء، كما في تفسير الجلالين فنجده دائماً عند الحرف المقطعة يقول: الله أعلم بمراده، ولا يتكلم فيه أبداً، إنما يكل علمه إِلَى الله. فيقولون: إن المتشابه الذي استأثر الله تَعَالَى بعلمه ولا يعلمه أحد، هو هذه الحروف.
القول الثاني: أن لهذه الحروف معنى
والفريق الآخر وهم أكثر العلماء يقولون: إن لهذه الحروف معنى، وهذا المعنى اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، ولم يجمعوا فيه عَلَى قول كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله، ولو ورد ذلك لألزم به الباقون.
إن هذه أسماء للسور، فـ"الم" كأنه اسم للسورة، ومنهم من قَالَ: إن هذه أسماء للقرآن، ومنهم من قَالَ: إنها فواتح يفتتح الله تبارك وتعالى بها القرآن، ومنهم من قَالَ: هي حروف من حروف المعجم ذكرها الله سبحانه وتعالى في أول القرآن، أو في أول الآيات، لينبه إِلَى أن القُرْآن مركب من هذه الحروف التي هي حروف المعجم، ومنهم من قَالَ: إن هذه أسماء من أسماء الله تبارك وتعالى.
حتى ورد عن بعض السلف أنه قَالَ: آلم، اسم الله الأعظم، وورد عن بعضهم الألف إشارة إِلَى الله، واللام إِلَى اللطيف، والميم إِلَى المجيد، وأمثال ذلك، والأقوال في المسألة اجتهادية، وللإنسان أن يختار ويرجح القول الذي يراه، لكن لو تأملنا الحكمة التي ذكرها العلماء.
هذه الحكمة تدلنا عَلَى المعنى الصحيح -إن شاء الله- كما ذكرها الحافظابن كثير رحمه الله واختارها وهي أنها بيان إعجاز القرآن، وبعضهم قَالَ: المقصود منها إثارة الْمُشْرِكِينَ؛ لأنهم يسمعون كلمات غريبة جديدة عَلَى أسماعهم فيصغون ويلقون السمع للقرآن، لكن مما هو معلوم أن في القُرْآن كثير من هذه الحروف المقطعة، كما في البقرة، وآل عمران، وغيرها من السور التي نزلت في المدينة، وهذا مما يضعف هذا القول كقولٍ من الأقوال.
القول الراجح في ذكر الحروف المقطعة
والقول الذي يختار ويرجح، والذي تظهر حكمته وفائدته جلية إن شاء الله، هو أن نقول: إن هذه الحروف ذكرها الله سبحانه وتعالى في أوائل السور، وكأنه يقول: إن القُرْآن يتركب من هذه الحروف، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله -لن تستطيعوا أن تأتوا بمثله- فآمنوا به، فإنكم لن تأتوا بمثله أبداً، ويرجح هذا القول: أن هذه السور التي وردت فيها هذه الحروف المقطعة عددها تسع وعشرون سورة، وأنها تشتمل عَلَى ما يدل عَلَى أن القُرْآن من عند الله، وينفي أقوال الْمُشْرِكِينَ بأنه مفترى، وتأتي فيها الإشارة إِلَى هذا القرآن، عقب ذكر هذه الحروف المقطعة، وهذا مما هو معلوم عند الجميع.
مثلاً: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)[البقرة:2،1] آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [آل عمران:1-3] . يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يّس:1،2] حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:1،2] حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1،2] ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [صّ:1] ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [قّ:1] .
فلو تأملنا لوجدنا أن هذا المعنى ظاهر، وهو أن الله سبحانه وتعالى، يأتي بما يدل في السورة -ولكن غالبها يأتي عقب هذه الحروف المقطعة- أن هذا القُرْآن من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه الحروف هي من كلام البشر العربي عموماً، فكلام أبلغ البلغاء وأقلهم بلاغة يتركب في هذه الحروف، وهذا القُرْآن أنزله الله تَعَالَى مركباً من هذه الحروف التي تقولونها، ومع ذلك فلن تستطيعوا أن تأتوا بمثله، ولو اجتمع الجن والإنس عَلَى ذلك، ولو كَانَ بعضهم لبعض ظهيراً، أو استعانوا أيضاً بمن شاءوا ممن عداهم لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بل ولا بعشر سور، بل ولا بسورة من مثله.
فهذا دليل عَلَى أن هذه الحروف لها حكمة واضحة، وأن هذا يعين عَلَى فهم معناها، بمعنى أنه لا يشترط أن نقول: النون لها معنى خاص، أو القاف لها معنى خاص، الحكمة من ذكرها تشير أو تدل عَلَى المراد، وهو أنه سبحانه وتعالى، يصدر كتابه بهذه الحروف للدلالة عَلَى ما قلنا: إن القُرْآن يتركب منها، ومن يريد أن يكذب ويقول: أن هذا ليس من عند الله، كما قيل: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:210] وقيل: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] وقيل: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5] وأمثال ذلك فهذه هي حروف القُرْآن التي تقولونها وتستخدمونها، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله؟!.
الرجل البهائي ورقم "19"
ومن المناسب أن نذكر لكم الشبهة التي خرجت مؤخراً، والتي اعتبرها النَّاس فتحاً عظيماً، وخطب بها خطباء الجمع، وكتبت في الجرائد والمجلات والكتب، وقيل: هذا من الإعجاز، وهذا من آيات القرآن، وهذا دليل عَلَى أن العصر الحديث، وأن الكمبيوتر يصحح أن القُرْآن من عند الله.
فإن قوماً افتروا فريةً وهي أن الحروف الموجودة في أوائل سور القُرْآن مركبة كلها عَلَى رقم (19) كما يزعمون، إما (19) أو أي مضاعف من مضاعفاته، وأمثال ذلك مما ذهب إليه بعض المفترين، ونحب أن نوضح أن الطائفة البهائية الخبيثة المجرمة التي نشأت في بلاد إيران في القرن الميلادي الماضي أو قبله، هي التي تركب عقائدها عَلَى الرقم (19) وجعلوا السنة (19) شهراً، والشهر (19) يوماً وهكذا، فركبوا عَلَى الرقم (19) معاني وعقائد وديناً كله يدور حول هذا الرقم.
وكما هو معلوم أن الباطنية هي التي تؤول كتاب الله عز وجل بالتأويل الباطني، الذي لا يقبله عقل ولا يدل عليه نقل، وهذه البهائية ما هي إلا فرقة حديثة من فرق الباطنية التي خرجت في نفس المنبت الذي هو منبت الرفض.
وأصلهم هو أصل التكذيب بكتاب الله، والتحريف لكلام الله سبحانه وتعالى، والذي كتب هذا وأشاعه رجل مصري، لكنه بهائي وهو الذي جَاءَ بهذه الفرية، وقَالَ: إن أول آية من القُرْآن هي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تسعة عشر حرفاً، والقرآن كله يتركب عَلَى هذا الأساس، وهذا من أول ما يدل عَلَى كذبه أن نفس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أكثر من تسعة عشر حرفاً.
وسبب خطئه أنه وضعها في الكمبيوتر، والكمبيوتر يسجل بحسب الحروف كما هي مكتوبة، ولا يحسب الحرف المكرر، ولا يحسب المد في مثل "الرحمان" فلذلك نجد أن هذا كلام إفك، وبهتان، وافتراء، المقصود منه تصحيح مذهب هذه الفرقة الضالة، وليس موضوعنا الآن بيان هذه الفرقة، ولا ما يتعلق بها، ولا حتى الاستطراد في شرح الحروف المقطعة.
لكن المقصود أنه يجب علينا قبل أن نفرح بأي نتيجة، أو نظن أنها تخدم ديننا، أو تهدف إليه، أن ندرك أن وراء هذا خططاً، فهذا الرجل أول ما أظهر هذا الكلام، اشتهر عند الْمُسْلِمِينَ وكتبوا عنه ونشروا اسمه، وعرف حتى أصبح كأنه من أعظم المكتشفين ومن أعظم العلماء الذين يؤخذ كلامهم في أي موضوع من موضوعات الدين، ومن جملة من أشهره أناس طيبون في الخطب عَلَى المنابر، والمجلات والجرائد الإسلامية.
وبعد سنوات أخذ يخرج السموم وينفثها ويقول: إن السنة لا حاجة لها، وحسبنا القرآن، هذا بعد أن اشتهر، فكيف يكون موقفنا بعد ذلك عندما نكذبه ونتهمه ونحن الذين رفعناه وأشهرناه؟! كَانَ الذي ينبغي علينا أن نقوم به أن نعرف دين الرجل وعلمه، فهذا الرجل يعيش في أمريكا وأتباعه في أمريكا كثير؛ لأن الجهل بالإسلام فيها كبير، فبحكم أنها بلد الصناعة والتكنولوجيا أدخلت الكمبيوتر في كل شيء.
فجاء هذا الرجل فأدخل السنة في الكمبيوتر فلم يستوعبها لكثرة رواياتها واختلطت عليه، فحينئذ ترك السنة لأن الكمبيوتر لم يتقبلها
…
؟! فالواجب علينا أن نعي ما يخطط أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، فهم لن يتركوا معاداة هذا الدين أبداً، كما قال الله عز وجل يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [الصف:8] فهم يحاولون ويحاولون وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] هذا هو عملهم، وهذا ما أحببنا أن ننبه إليه، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا جنوداً للدفاع عن دينه!! .
ثُمَّ قال المصنف: [مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كَانَ معناها معروفاً] إن كَانَ هذا المعنى عَلَى احتمال وافتراض أن ما قالوه من المعاني حقيقية، وأن معانيها معروفة [فقد عرف معنى المتشابه] ، إذاً ليس في كتاب الله عز وجل شيء، لا تعرف جميع الأمة معناه [وإن لم يكن معروفاً] عَلَى فرض أن غيرها قد عرف، فإذاً ما سواها هو المعلوم، فتكون هي المتشابه، وهذا هو المطلوب، أن آيات الصفات والآيات الأخرى ليست من المتشابه، فيبقى عَلَى هذا القول أن المتشابه رغم أنه ليس الراجح هو هذه الحروف المقطعة، وما عداها من القُرْآن ليس من المتشابه، إذاً القُرْآن ليس فيه حكم إلا وتعرفه الأمة، علمه من علمه منها وجهله من جهله، وهذا وجه في الجواب عن قول الأصحاب (إن الحروف المقطعة هي المتشابه) أي أنه قد تكلم في معناها كثير من النَّاس والوجه الثاني هو قوله: [فإن الله قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادّين] اهـ.
هنا رجع المُصْنِّف إِلَى مسألة اصطلاحية فنية، وهي أن الله تَعَالَى يقول: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وهذه الحروف عند البعض -سواءً صح أنها عند الجمهور، أو ليست عند الجمهور- ليست آيات، وإنما هي حروف، فلا تعد ولا تحسب آيات، وكما هو معلوم أن هناك اختلافاً بين العلماء رحمهم الله تَعَالَى في عدد آيات القرآن، وهذا لا يؤثر في ثبوت القرآن، وإنما هي أمور اصطلاحية فنية نقلية رآها العلماء، وليست مبنية عَلَى التوقيف، وهذا وجه من الأوجه التي قد تنفع في بيان أنه لا يوجد في القُرْآن شيء إلا وهو معلوم عند الأمة عامة، وليس فيه شيء لا يعلمه أحد من هذه الأمة والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين: هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية. فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه، وذكر في التبصرة أن نصير بن يحي البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه؟ فقال: نمرها كما جاءت، ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف، ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفتهُ مِنْ الفهم السّقيم
ِ
وقيل:-
عليَّ نحت القوافي من معادنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
فكيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث وهو الكتاب الذيأُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] إن حقيقة قولهم: إن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وإنه ليس فيه بيان ما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه!! هذا حقيقة قول المتأولين - والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه.
والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه! فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية: فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين، لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟
فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه، وإلا أقررناه!
قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟
فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع!
ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى!!
وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظمُ من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حنيئذٍ محذوران عظيمان:
أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب، يدَّعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيؤول الأمر إلى الحيرة.
المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول، إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه قبلوه، وإن خالفته أولوه! وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية] اهـ.
الشرح:
هذا هو المعنى الثالث من أنواع التأويل وهو التأويل الذي اصطلح عليه أهل البدع: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة، فيأتون إلى الآية أو الحديث الذي دلالته ظاهرة جلية، فيقولون: هذه الدلالة الظاهرة الجلية هي الاحتمال الراجح، لكن هناك احتمال مرجوح، فهم لا يستطيعوا أن يقولوا: إن ذلك الاحتمال أرجح، لأن هذا واضح لكل من يفهم البيان العربي، يقولون: لكن نصرف اللفظ من الراجح إلى المرجوح لقرينة الدلالة العقلية.
فهذا التأويل بهذا المعنى: هو الذي يقول المصنف رحمه الله فيه: [هذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية] لأن النصوص ترد على نوعين:
النوع الأول: الأخبار.
والنوع الثاني: الطلب.
أي: الأوامر والنواهي، فالأمة وقعت في خلاف حول هذا التأويل في كلا الجانبين، في الأمور الخبرية والأمور الطلبية، فيقول المصنف:[فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك، فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه] .
هذه العبارة يلاحظ فيها شيء من اللبس إذا دققنا النظر فيها، فهذا اصطلاح بدعي وهو صرف اللفظ إلى الاحتمال المرجوح، فكيف نقول: التأويل بهذا المعنى منه صحيح ومنه باطل؟ فالصحيح ما يوافق الكتاب والسنة، والباطل ما يخالفه، هكذا بإطلاق، وقد سبق أن قلنا: إن هذا المعنى بدعي، لكن كيف نُوجِّهُ كلام المصنف؟
لا شك أنه رحمه الله يقصد معنى حقيقياً، لا غبار عليه، ولكن نفس التعبير فيه نظر، فكأنه جعل هذا التأويل بدعي، وجعله على قسمين: قسم منه يوافق الكتاب والسنة، وقسم آخر يخالف الكتاب والسنة فظاهر العبارة قد يفهم هكذا، لكن المقصود هو مجرد صرف النصوص عن ظاهرها، وهل كل ظاهر في الكتاب والسنة، يؤخذ على إطلاقه؟ فهناك من النصوص ما لا يؤخذ على إطلاقه، كالعام المخصص، لأن هذا الإطلاق مخصوص.
والأحكام المطلقة أيضاً، فالمطلق لا يؤخذ ظاهره بإطلاق؛ بل يؤخذ مضموماً إلى النص المقيد له، وكذلك الألفاظ المجملة إذا جاء ما يبينها، فالمقصود هو أن نفهم أنه ليس كل ظاهر في الكتاب والسنة يؤخذ على إطلاقه، ومما يدل على أن هذه العبارة فيها نظر، أننا إذا قلنا: إن كان الدليل يقتضي صرف دلالة الآية أو الحديث عن الظاهر.
إذاً: فليس هذا الظاهر راجحاً ما دام أن هناك دليلاً صحيحاً على صرفه، بل ننظر إلى هذا النص نظرة واحدة وهي أن له ظاهراً، لكن هذا الظاهر مخصوص أو مقيد، إذاً فليس الظاهر راجحاً وما صرفناه إليه مرجوحاً، بل ذاك هو الراجح وهذا يسمى متبادر، أي أن هذا المعنى يتبادر إلى ذهن الإنسان في الأول، لكن إذا تأمل وضم الدلالات إلى بعضها وجد أن هذا الذي يتبادر إلى ذهنه من العموم مثلاً ليس على إطلاقه، لورود نص مخصص يبين ويوضح أن هذا ليس على إطلاقه.
التأويل بالمعنى الثالث كله مردود
ونخرج بنتيجة وهي أن التأويل بهذا المعنى كله مردود، وباطل وليس يصح منه شيء، أما مسألة الظاهر والقول به أو عدم القول به فترجع إِلَى أن الظاهر قد لا يكون هو المعنى المراد أصلاً من الشارع عندما خاطبنا، فإن كَانَ في الأمور الخبرية، فإنه لم يرد أن يخبرنا به، وإن كَانَ في الأمور الطلبية، فإنه لم يطلب منا ذلك بإطلاق عَلَى ظاهره، وإنما المقصود من الخبر أو من الطلب أمراً مخصوصاً أو معيناً، وأن غيره لا يدخل فيه.
وذكر المُصْنِّف أنه قد ذُكر في التبصرة -وهو كتاب تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي، من كتبهم في علم الكلام- بسندٍ عن مُحَمَّد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى، أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تَعَالَى ما يؤدي ظاهره إِلَى التشبيه وليس في الآيات ولا في الأحاديث ما يؤدي ظاهره إِلَى التشبيه في الحقيقة، لكن قد يتبادر عند من لا يفهم أنه يؤدي إِلَى التشبيه، مع أن الله هو الذي وصف نفسه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، مع العلم بالفرق بين صفات الخالق والمخلوق، وهذا دليل عَلَى أن ظاهرها حق، وأنها كما جاءت لا نغيرها عن ظاهرها، ولا نكيفها، كما قال الإمام مالك أو شيخه ربيعة (الاستواء معلوم، والكيف غير معقول أو الكيف مجهول)، فنمرها كما جاءت ولا نفسرها أي بمعنى: لا نكيفها.
آيات الصفات نمرها كما جاءت
هناك قاعدة في الصفات وهي: إن كل ما يأتي من نصوص الصفات، فإننا نمرها كما جاءت ونؤمن بها، من دون تحريف ولا تبديل ولا تغيير في المعنى، ولا نخوض في الكيفية
إذاً: أئمة المذهب الحنفي هم كغيرهم من الأئمة المعاصرين لهم كسفيان بن عيينة، ووكيع وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي ثُمَّ الإمام أَحْمَد، كل أُولَئِكَ العلماء الأجلاء، كانوا جميعاً عَلَى هذا المذهب وعلى هذه القاعدة الذهبية العظيمة، وهو: أن ما جَاءَ عن الله أو صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يؤمنون به ويثبتونه، ويعتقدون أن ظاهره حق، فنفهم من هذا أن مذهب السلف يتنافى مع التأويل، لأنه قَالَ:(كما جاءت) فلا تأويل، فلا نقول: استوى، بمعنى استولى، واليد بمعنى القدرة، وينزل ربنا أي تنزل رحمته، أو أمره، وإلا فإننا لم نمرها كما جاءت، وإنما حولناها وحرفناها، فالتحريف هو التأويل في حقيقته؛ لأنه يغير المعنى ويغيير اللفظ عما أراده المخاطب الذي قاله.
ويرد علىأهل التفويض الذين لا يثبتون المعنى، يقولون في: الرحمن عَلَى العرش استوى الله أعلم بمراده، وله يد الله أعلم بمراده، وهكذا، لكن السلف الصالح يثبتون المعنى فالاستواء معلوم والكيف غير معقول
فبعض المفوضة يستدل بمثل هذه النصوص، ويقول: إن مذهب السلف هو التفويض لأنهم قالوا: نمرها كما جاءت، بمعنى نثبت الحروف والألفاظ كما جاءت دون أي فهم، ولا معنى لها، وهذا خطأ، وإنما مقصود السلف، هو أن نثبت ظاهرها ونؤمن به، ونقره ونمره كما جاء، إذاً هذه العبارة التي وردت عن كثير من السلف بمعاني وألفاظ متقاربة ترد عَلَى أهل التأويل، كما ترد عَلَى أهل التفويض
المعنى الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه
ثُمَّ يقول المصنف: [ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه] أراد بهذا أن ينفى ما يقوله أهل البدع والذي قد يفهم من عبارته السابقة خطأً وهو لا يريده، فهنا وضح وقَالَ: المعنى الفاسد الكفري -كأن يقال مثلاً: إن لله يداً كيد المخلوقين- ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، فلا يدل قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] .
وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] عَلَى أنها كيد المخلوقين أبداً، فهذا المعنى الباطل الكفري الفاسد ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، ومن فهم ذلك وقَالَ: إن العرب لا يفهمون من اليد إلا الجارحة، فإننا نقول: إن كتب اللغة القديمة كانت تقول: إن اليد كذا أو اليد كذا، وتأتي للكلمة الواحدة بعدة معاني في لغة العرب، حتى ظهرت المعتزلة وهم أصحاب التأويل، ونفي الصفات.
الزمخشري يخالف أئمة اللغة
وممن كَانَ يفعل ذلك مخالفاً لأئمة اللغة الزمخشري في كتابه المعجم الذي سماه أساس البلاغة فيأتي بالمعنى ويقول: معناه كذا والمجاز منه كذا، ويأتي بعدة معاني يجعلها مجازية، ويجعل معنى واحداً هو الأصل.
وهذا لا يوجد في كلام الخليل، ولا أبي عبيدة، ولا الزجاج، ولا النضر بن شميل وهَؤُلاءِ الذين هم أئمة اللغة المتقدمين، ما كانوا يقولون: إن الكلمة لها معنى أصلي والباقي مجاز، فجاء المعتزلة وفعلوا ذلك ثُمَّ جعلوا المعنى الذي في المخلوق هو الأصل وهو والظاهر والحقيقة، والذي في الله هو المجاز، وَقَالُوا: مثلاً: ننفي عن الله سبحانه، الرحمة؛ لأنها رقة وإنكسار في القلب، وهي في المخلوق عَلَى الحقيقة وفي الخالق عَلَى المجاز!! ولو أنهم قالوا: ما يتصف به الله عز وجل هي الرحمة الحقيقية، وهي في المخلوق مجاز أو الملك أو الحكمة في المخلوق مجاز، وفي الله سبحانه وتعالى حقيقة لكان أقرب، أما أن يجعلوا الصفة في المخلوق عَلَى الحقيقة، وما يتصف به الله مجازاً، ثُمَّ ينفونه، فهذا من البدع ومن الضلال، ويكون هذا الظاهر غير مراد، فمن قال ذلك ففي فهمه ضعف وقصور.
وكم من عائب قولاً صحيحاً
ومن ظن أن الآيات والأحاديث فيها معان فاسدة كفرية باطلة في حق الله عز وجل، وأنها لا بد أن تؤول وأن تخرج عَلَى معاني لغوية، ليستقيم وصف الله تَعَالَى بها، فهذا من فساد عقله وفهمه، ولهذا استشهد المُصْنِّف بالبيت الذي قاله المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
والمتنبي شاعر مشهور وهو في هذا البيت يعتز بنفسه كما هي عادة الشعراء فهو يقول للذين يعيبون عليه شعره:-
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأفهام منه على قدر القرائح والعلوم
يقول: أنا أقول كلاماً ولا يفهمه كثير من الناس، لكن يجب عليهم أن يفهموا من كلامي عَلَى قدر عقولهم، وتبقى هناك معاني لا يفهمها الناس، سُبْحانَ اللَّه! هذا الوصف لا يصح أن يقال إلا في القُرْآن أو في الحديث، الذي فيه من الحكم والعبر ما تعجز عنه العقول، أما شعر شاعر لا نأخذ منه إلا عَلَى قدر عقولنا، والباقي عميق لا يفهمه النقاد، ولا حتى ابن جني، ولا حتى النقاد الكبار، الذين انتقدواالمتنبي؟! فهذا من الاعتداد والفخر الكاذب، فأولى بهذا الوصف أن يكون لكلام الله عز وجل وأنه:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
مثل ما تروى أحاديث القدر، كحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة..) قيل: للبدعي أتتهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لا، أتتهم ابن مسعود؟ قَالَ: لا، أتتهم أبا وائل؟ قَالَ: نعم، في رواية قَالَ: اتهم من بعده.
فهو لا يستطيع أن يتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وخاف كذلك أن يتهم الصحابي فقَالَ: أتهم الذي رواه من التابعين أو أتباع التابعين، فيقال له: أنت لم تفهم الحديث.
وهَؤُلاءِ النَّاس لو كانوا منصفين أو عَلَى الحقيقة لاتهموا عقولهم، فالنقلة الحفاظ الأثبات نقلوا الكلام بحق، وليسوا بمتهمين فيه، والصحابة والعلماء أجل النَّاس وأعظمهم فهماً وقد فهموا هذه النصوص بلا تعارض، إذاً فالمتهم هو عقول هَؤُلاءِ.
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ولو اتهموا عقولهم لما اتهموا أحداً من السلف، ولا من الرواة النقلة، كما فعل الرازي في أساس التقديس عندما اتهم أكثر الرواة حتى الشيخين، بل حتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال البحتري:
عليَّ نحت القوافي من معادنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
النقاد ينتقدون شعره فَيَقُولُ: أنا علي أن آتي بالقوافي من معادنها الأصلية والمعاني الجزلة البليغة، وما علي إذا لم تفهم البقر، وكأن الذين لا يفهمون شعره من البقر، فإذا كَانَ هذا ما قاله شاعر أو آخر في كلامه، فكلام الله عز وجل كما قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[فكيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام، وأحسن الحديث] كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكرره في خطبه الثابتة المشهورة [وهو الكتاب الذي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]] اهـ.
فإن الأفهام تعجز عن إدراك حقيقته، والعيب ليس فيه، ولكن في الذين لا يفهمونه، وحاشاه من العيوب.
حقيقة قول المتأولين
ثُمَّ يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [إن حقيقة قولهم إن ظاهر القُرْآن والحديث هو الكفر والضلال، وإنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه، هذا حقيقة قول المتأولين] اهـ.
يقول السنوسي في شرح العقائد الكبرى: من أصول الكفر الأخذ بظواهر النصوص، كآيات الصفات، كاليد والاستواء، وما أشبه ذلك فجعلوها من أصول الكفر عافانا الله وإياكم؛ لأن هذه الظواهر تدل عَلَى الكفر، فيقول لا بد أن نحولها ونحرفها عن معانيها، وقالأبو المعالي الجويني -وتبعه كثير من الأشعرية في هذا-: نَحْنُ نؤول تأويلاً كلياً، وكذلك قال الرازي: نؤول تأويلاً كلياً، أي: نقول كل آيات وكل أحاديث الصفات ظاهرها غير مراد: وهذا يسمى التأويل الإجمالي، لقيام القاطع والبرهان العقلي عَلَى أن الله لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً، فكلها مؤولة تأويلاً إجمالياً، ثُمَّ إن شئت قلت: الله أعلم بمعانيها الحقيقية، وإن شئت أخذت في التأويل التفصيلي.
التأويل عند الأشاعرة نوعان
التأويل عند الأشاعرة نوعان: التأويل الإجمالي: وهو أن ترد كل معاني الصفات في الجملة وتقول بأن ظاهرها غير مراد، لقواطع وبراهين عقلية قامت عَلَى أن الله لا يشبهه شيء، فهذا هو التأويل الإجمالي، أما التأويل التفصيلي: أن تأخذ كل آية من آيات الصفات، وتخرجها بتأويل عَلَى مقتضى أي وجه من أوجه اللغة أو أي معنى كان، ولو كَانَ معنى بعيداً، ومثال ذلك ما ذكرهأبو حامد الغزالي في قوله صلى الله عليه وسلم:"يضع الجبار قدمه " قَالَ: الجبار هو الرجل الظالم، أو ملك يخلقه الله، يضع قدمه في النَّار.
المهم أن نخرج الكلام بأي معنى من المعاني، فهذا هو التأويل التفصيلي، وقد سبق أنهم يقولون: إن ظاهر النصوص هو الضلال، ولا بد من تأويلٍ إما تفصيلي وإما إجمالي لهذه النصوص، إذاً فحقيقة قولهم هذا أن ظاهر القُرْآن هو الضلال، وأنه ليس فيه ما يصلح للاعتقاد، وليس فيه توحيد، ولا تنزيه، هذا حقيقة ما يقوله هَؤُلاءِ المؤولون.
يقول المصنف:
[والحق أن ما دل عليه القُرْآن فهو حق وما كَانَ باطلاً لم يدل عليه] اهـ.
فأي معنى باطل فإن القُرْآن والسنة لا يدل عليه، فلا نقول: القُرْآن دل عَلَى معنى باطل، ثُمَّ ننفي هذا المعنى، بل نقول: القُرْآن لا يدل عَلَى معنى باطل، وظاهر الآيات، والأحاديث لا يمكن أن تدل عَلَى معنى باطل، قال المصنف:
[والمنازعون يدعون دلالته عَلَى الباطل الذي يتعين صرفه] اهـ.
فيلاحظ الفرق بيننا وبينهم، نقول: هذا ظاهر القُرْآن والسنة، وهو حق، لا يمكن أن يدل عَلَى باطل، ولا يكون المعنى الباطل ظاهر النص ولا مقتضاه، فجاء هَؤُلاءِ وَقَالُوا: المعنى الذي يدل عليه ظاهر النص باطل، ومن هنا يتعين علينا أن نصرفه إما صرفاً إجمالياً كلياً، وإما صرفاً تفصيلياً، وهذا هو التأويل، فنرد عليهم بما قاله المُصنِّفُ رحمه الله.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: [فيُقَالُ لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به عَلَى إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية: فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع الْمُشْرِكِينَ والمبتدعين، لا تقدرون عَلَى سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القُرْآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله، وما لا يسوغ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي عَلَى استحالته تأولناه وإلا أقررناه، قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع عَلَى بطلان ظواهر الشرع! ويزعم الفيلسوف قيام القواطع عَلَى بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع عَلَى امتناع رؤية الله، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تَعَالَى!! وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات، أعظم من أن تنحصر في هذا المقام] .
قول أهل التحريف فتح باباً للمشركين والمبتدعين
هذا موضوع مهم جداً وهو: ما هو موقف الناس، وما هي آراؤهم في الأخذ بدلالات الكتاب والسنة؟ نستطرد في بيان هذه الحقيقة بإجمال، ثُمَّ نعود إِلَى الشرح الذي له علاقة فقط بموضعنا هنا، وهو الرد عَلَى الذين يؤولون في الصفات ممن ينتسبون إِلَى أهل السنة، الذين ليسوا باطنية،ولا روافض، ولا شبههم، بل نَحْنُ وهم متفقون عَلَى الرد عَلَى الرافضة والباطنية والقرامطة وأمثالهم.
وقد ذكر المُصنِّفُ بعض هذه الفرق في آخر الكتاب ولا بأس أن نأخذ هنا ما يهمنا حتى نفهم أقسام الفرق في الأخذ بالنصوص.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: [ولفرق الضُلال في الوحي: طريقتان: طريقة التبديل، وطريقة التجهيل، أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل، وأهل التحريف والتأويل، فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون: إن الأَنْبِيَاء أخبروا عن الله واليوم الآخر والجنة والنَّار بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه! لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون، ويتوهمون به، أن الله شيء عظيم كبير، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيماً محسوساً، وعقاباً محسوساً، وإن كَانَ الأمر ليس كذلك، لأن مصلحة الجمهور في ذلك، وإن كَانَ كذباً فهو كذب لمصلحة الجمهور، وقد وضع ابن سينا، وأمثاله قانونهم عَلَى هذا الأصل] اهـ.
أهل الوهم والتخييل (الفلاسفة)
فأصحاب التخيل بالجملة هم الفلاسفة، المنتسبين للإسلام، ابن سينا، والكندي والفارابي، وأمثالهم، ومذهبهم: أن كل ما جَاءَ في الكتاب والسنة فهو عبارة عن تخيلات، وهذه الخطابات التي خاطب الله بها عباده تخيلات، وإنما ذكرت لمصلحة الجمهور، وهم عامة النَّاس ومصلحتهم أن يُقال لهم: هناك عذاب، ونعيم وجنة، ونار حتى تقوم حياتهم وفق قانون منضبط، فتكون حياة عَلَى العدل والاستقامة والخير؛ لكن في الحقيقة هذه الأمور ليس لها أصل من الصحة -هكذا يقولون- والعياذ بالله، وليس بعد هذا الكفر كفر، وهَؤُلاءِ ليسوا من الإسلام في شيء بإطلاق.
ومن ذلك الرسالة الأضحوية لابن سينا مطبوعة حققها الدكتورسليمان دنيا، ذكر فيها أن البعث للأجساد ليس حقيقياً - والعياذ بالله - وإنما هو خيال، أي: هذه أشياء خيالية، أو روحانية، إِلَى آخر ما لا يجوز أن ينقل إلا عَلَى سبيل الذم - عافانا الله وإياكم- من هذه الخيالات، وهذه الأباطيل، فهذا المذهب مذهب أهل التخييل الذين يجعلون الخطابات الشرعية مجرد خيالات، فلا يثبتون لا ظواهر النصوص ولا ما دلت عليه، ولا ما نقل عن السلف في شرحها، وهذا هو الذي كَانَ عليه فلاسفة اليونان، والأوربيون من قديم، فإنهم قالوا: إن شرائعهم وأديانهم، ما هي إلا خيالات وتخيلات وإيهامات باطلة لمصلحة الناس، وإلا فلا حقيقة لما يوهمون به.
أهل التحريف والتأويل
الفريق الثاني أهل التحريف والتأويل قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وأما أهل التحريف والتأويل، فهم الذين يقولون: إن الأَنْبِيَاء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثُمَّ يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إِلَى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات، ولهذا كَانَ أكثرهم لايجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية مامعهم إمكان احتمال اللفظ] اهـ.
أي أن الفريق الثاني أهل التحريف والتأويل يقولون: إن هناك معاني جَاءَ بها الأنبياء، وقالوها وتدل عليها النصوص، لكن لا نأخذ معانيها عَلَى ظاهرها؛ بل لا بد أن نؤولها، والحق في نفس الأمر هو ما نعلمه، وما نستنبطه نَحْنُ من القواعد والبراهين العقلية، أما ظواهر النصوص فتُحرف لتوافق ما نَحْنُ عليه، فحسبهم في الرد عليهم وفي بيان بطلان مذهبهم قولهم: إن التأويل ظني، وهم متفقون عَلَى ذلك، وهذا ما جعلأبا المعالي الجويني في الرسالة النظامية يقول:"إن ترك التأويل والانكفاف عنه هو الصحيح" بعد أن كَانَ هو أول من توسع في التأويل؛ لأن شيخ الأشعرية المؤولين الذي ينتسب إليه الأكثر بعد الأشعري، هو القاضيأبو بكر بن الباقلاني، كَانَ يثبت صفة الوجه، ويثبت صفة اليد ويثبت كثيراً من الصفات التي تسمى خبرية؛ حتى جَاءَ أبو المعالي الجويني، فتوسع لهم في التأويل في الشامل، وفي الإرشاد، وبنى عليه بعد ذلك الغزالي، ثُمَّ الرازي المذهب، وأصبح التأويل مشهوراً معلوماً، كما قال صاحب الجوهرة:
وكل نص أوهمَ التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها
فإما أن تؤول، وإما أن تفوض.
فالمقصود أن مما جعل الجويني يرى أن ترك التأويل هو الصحيح، اتفاقهم عَلَى أن التأويل ظني، وعلى هذا يجوز هذا المعنى، ويجوز غيره، وحسبهم أنهم يتركون ما دل عليه الكتاب والسنة، وفهمه السلف بوضوح، ويحيلوننا إِلَى أمور ظنية ليست بأكيدة، ولا قطعية.
أهل التجهيل والتضليل
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [وأما أهل التجهيل والتضليل، الذين حقيقة قولهم: إن الأَنْبِيَاء وأتباع الأَنْبِيَاء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات، وأقوال الأَنْبِيَاء! ويقولون: يجوز أن يكون للنص تأويل لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه جبريل ولا مُحَمَّد ولا غيره من الأنبياء، فضلاً عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم كَانَ يقرأ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] ولا يعرف معاني هذه الآيات! بل معناها الذي دلت عليه لا يعرفه إلا الله تَعَالَى!! ويظنون أن هذه طريقة السلف] >اهـ.
الفريق الثالث: التي هي فرقة التجهيل والتضليل، ويسمون أنفسهم المفوضة وأحياناً يقولون نَحْنُ عَلَى مذهب السلف، نفوض المعنى، ونقول: لا يعلم تأويلها إلا الله كما مر معنا في معنى التأويل، فكل نصوص الصفات، وكثير من الآيات الخبرية أو الطلبية لا يعلم معناها إلا الله، هكذا بإطلاق، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا جبريل ولا الصحابة ولا أحد يعلم معناها، ويظنون أن هذا هو حقيقة الإيمان وحقيقة مذهب السلف، وهو في الحقيقة تجهيل للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وللراسخين في العلم، بأنهم لا يعلمون معاني كتاب الله سبحانه وتعالى.
الرد على أصحاب التأويل
أما أصحاب التأويل، وهم الأشعرية والماتريدية، فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به عَلَى من يثبتون الأسماء والصفات، وتسمونهم مشبهة، وتنتصرون عليهم في مواضع قليلة خفية، قد لا يدرك بعض النَّاس معناها، وبعض الأحاديث قد لا تبلغ بعض الناس.
يقول المصنف: [فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع الْمُشْرِكِينَ والمفسدين، لا تقدرون عَلَى سده، فإنكم إذا سوغتم -أي: جوزتم- صرف القُرْآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي عَلَى استحالته تأولناه، وإلا أقررناه] .
أي: أرجعونا إِلَى العقل! فما دلت البراهين والقواطع العقلية عَلَى تأويله أولناه، والذي لا تدل عليه آمنا به فهو بهذا يقول لك: ضع عقيدتك وراء عقلك، كما كتب بعضهم في مقدمة كتاب كبرى اليقينيات الكونية:(الإهداء إِلَى كل حر يضع عقيدته وراء عقله) ! فأول شيء تفكر فيه أن تعرض العقيدة عَلَى العقل فإن وافق عليها تماماً فتؤمن بها، وإن لم يوافق عقلك عليها فتردها، إذاً فأين الذين يؤمنون بالغيب؟! أين الذين وصفهم الله بـ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] ؟! فنقول: إذا كانت القضية قضية الدلالة العقلية، فما الضابط فيما يؤول، وما لا يؤول؟ قالوا: القاطع العقلي، نقول: بأي عقل نزن القاطع العقلي؟
فالرافضي مثلاً!! يقول له عقله: كل آية فيها وعيد للكفار، فالمقصود بها بنو أمية ومعاوية وعمرو بن العاص وعَائِِِشَةَ.
والباطني القرمطي يقول: كل آية في القُرْآن فيها وعيد أو عذاب، فهي مجرد تخييل ليس له دلالة ولا أصل في الواقع!، والصلاة هي فلان وفلان أسماء خمسة سبق ذكرهم، والصيام: حفظ الأسرار، والحج: أن نقصد الإمام المستور إِلَى آخر ذلك، وعندما نقول لصاحب العقل: لا بد أن تؤمن بالقرآن، فإنه يقول: إن القاطع العقلي عندي قام عَلَى أني لا أومن بظاهر النص.
بالتأويل الباطل تزندق من تزندق
وممن يستدل بالقاطع العقلي الباطنية والروافض وهم لا يرجعون إِلَى مجرد القاطع العقلي، لكن يضيفون إِلَى ذلك شيئاً آخر وهو العلم المستور، يأخذونه عن الأبواب والحجج، أو صيحة من ينوب عن الإمام المستور!!
وهو الإمام الغائب الذي في السرداب أو في غير السرداب، لأن عنده العلم الحقيقي، عنده الجفر والجامعة وهما كتابان، يقولون: إن فيهما كل العلم، وهو ينقل عنهما ويبلغه إِلَى الناس، فيقولون: نَحْنُ لا نؤمن بظاهر القُرْآن والسنة إلا عَلَى هذا المعنى، الذي دلت عقولنا عليه، وهَؤُلاءِ لهم أقوال كثيرة.
والفيلسوف يقول: قام القاطع العقلي عَلَى أن الحشر ليس حقيقياً، وإنما هو للأرواح.
والمعتزلي يقول: دل العقل عَلَى أن الرؤية ممتنعة في حق الله سبحانه وتعالى.
والآخر يقول: صفة العلم لله تَعَالَى أو الكلام أو الرحمة دل العقل عَلَى امتناعها، إذاً كل واحد يؤول عَلَى ما يهواه، والعقول تختلف، فما الذي يضبط هذه العقول؟ لأن كل لفظ يمكن أن يؤول حتى قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] إِلَى آخره، فلا يبقى لدينا أي شيء لا يمكن أن يؤول، إذاً لم يبق من ديننا شيء.
فإن قالت الأشاعرة والماتريدية: نَحْنُ لا نقصد هذا.
نقول: نعم، أنتم لم تقصدوا هذا، لكن إذا فتحتم هذا الباب جاءت الفلاسفة، والقرامطة، وَقَالُوا: لماذا تأويلكم أنتم صحيح، ونحن تأويلنا خطأ؟!، تؤولون الاستواء وتؤولون العلو -والعلو ثابت بأدلة تعد بالآلاف- ونحن نؤول البعث، فلا فرق بيننا، هذه آيات وهذا آيات، عندكم قاطع عقلي، وعندنا قاطع عقلي!
إذاً: لا بد أن يكون لدينا ما يلزم الجميع، وهو تفسير القرآن، بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وفهمها السلف، وما عدا ذلك فهو مبتدع، ثُمَّ قد يكون كفراً، وقد يكون ضلالاً، وقد يكون خطأً.
التأويل ثلاثة أنواع
التأويل ثلاثة أنواع: فمنه ما هو كفر، مثل تأويل الباطنية، والروافض فقد قالوا في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] :عَائِِِشَةَ وهذا كفر، لأن موسى يقول ذلك لليهود، وعَائِِِشَةَ لم تكن موجودة ذلك اليوم، وهو تحريف لكلام الله عز وجل مُتعمد.
ومن التأويل ماهو ضلال: مثل تأويل استوى بمعنى: استولى.
ومن التأويل ما هو خطأ: مثل ما يقع في كلام بعض السلف، لا عن قصد تحريف للكلام عن موضعه، لكنه يكون قد فهم من الآية فهماً خاطئاً، كما فهم بعضهم أن الكرسي هو العلم فهذا خطأ، والمخطئ في ذلك قد يكون له أجر الخطأ، وليس له أجر الصواب، لكن ليس ضالاً ولا كافراً.
لازم قول المؤولة
يلزم من قول المؤولة محذوران عظيمان: أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة، فإذاجاء أحدهم وقَالَ: قال الله تَعَالَى كذا، قلنا له: اصبر حتى نفكر، فيمكن أن يكون فيه ما يوجب تأويله، ويمكن أن يكون الظاهر غير مراد.. الخ الموانع العشرة التي قالها الرازي.
فعندما يأتيك بآية أو حديث لا بد أن تفكر فيه وتنظر هل الجويني أولها، أو أولها الرازي، أو يمكن العلماء قد أولوها؟! لأنهم يرون أن الإيمان بظواهر النصوص كفر كما قالوا:(من أصول الكفر الإيمان بالظاهر) .
المحذور الثاني: أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء مما تعتقده مما أخبر به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، كتأويلهم اليد فتارة يقولون: النعمة، القدرة، والجبار قالوا: ملك، وَقَالُوا: ظالم، وَقَالُوا: شيطان، فاختلفت التأويلات!!
فما آمنا بالكتاب والسنة، لأننا قلنا: إن ظاهره غير مراد، فيجب التأويل، فإذا ذهبت إِلَى التأويل وجدت المؤولين مختلفين، فبكلام من تأخذ؟! فالنتيجة هي الحيرة، فلا يوجد شيء نؤمن به، وهذا ضلال وخروج عن الصراط المستقيم، فترى أحدهم لا يؤمن بشيء مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتأكد عند شيخ من الشيوخ هل هو من قول أفلاطون! أم من قول أرسطو! أم من القواطع العقلية! أم من البراهين النظرية! فهذا كله من عدم الإيمان؛ لأن الله يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] بلا اعتراض، ولا منازعة، ولا مدافعة.
يقول: [وخاصة النبي: هي "الإنباء" والقرآن "هو النبأ العظيم"] فإذا كَانَ كلما أخبرنا الرَّسُول بشيء قلنا: انتظر حتى نعرضه عَلَى أئمتنا، فقد أفقدنا النبي صلى الله عليه وسلم خاصيته، ومن القُرْآن خاصيته، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة، للاعتضاد لا للاعتماد، واقرأ إن شئت شرح العضدية، أو النسفية، أو الجوهرة، اقرأ مائة ورقة، مائتين ورقة، لا تجد آية، وإذا وجدت فليست للاعتماد، بل للاعتضاد والاستئناس، يستأنسون بها مع أنهم متفقون عَلَى أن ظاهرها غير مراد، يقول: وهذا فتح باب الزندقة -نسأل الله العافية- بناءً عَلَى ذلك تزندق من تزندق، وألحد من ألحد، وكفر من كفر، وضل من ضل في كتاب الله سبحانه وتعالى.