الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح العقيدة الطحاوية
كلام الله
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
إثبات صفة الكلام من المواضيع الخطيرة الجليلة، فقد حدث فيها من الافتراق بين الأمة ما لم يحدث في أي موضوع آخر من موضوعات العقيدة، فقد كَانَ أكثر موضوعات العقيدة خلافاً هو موضوع الإيمان، وأكثر المجالات التي تصارعت فيها الفرق واختلفت فيها الآراء منذ أن ظهرت الخوارج إِلَى القرن الثاني.
فلما ظهر القول بخلق القُرْآن وإنكار كلام الله سبحانه وتعالى أصبحت قضية الكلام هي أخطر وأكبر قضية اختلف فيها الناس، وتجادلت فيها الفرق، وتنوزعت فيها الآراء.
هل عرف النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته التفلسف
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يعرفون التفلسف والتمنطق والابتداع، وإنما كانوا يؤمنون بما أنزل الله ويتبعون ما جَاءَ من عند الله ويعلمون أن ربهم تبارك وتعالى أجلَّ وأعظم من أن يكون صنماً لا يتكلم، كيف والهدى إنما نزل إليهم بكلام الله سبحانه وتعالى؟!
وكيف ذلك وهم إنما يحرصون عَلَى القرآن؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى؟! فالله تبارك وتعالى يقول لنبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ [التوبة:6] وكيف ذلك والله تبارك وتعالى يقول في حق اليهود: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] فالرب والإله المعبود الذي لا يتكلم ولا يهدي، يسمى جماداً وصنماً، فلا يستحق أن يعبد: كالأحجار التي يعبدها الكفار، والأشجار والنيران والأبقار وبقية الأوثان التي يعبدونها من دون الله لا تكلمهم ولا تهديهم سبيلاً.
هكذا كَانَ العجل الذي عبده بنو إسرائيل فجاء أحفاد عبدة العجل ليعلِّموا الْمُسْلِمِينَ أن ربهم تبارك وتعالى لا يُكلمهم ولا يهديهم سبيلاً: أما الكلام فقد أنكروه، وأما الهداية، فَقَالُوا: إن العقول تستقل بمعرفة الحق، والبراهين العقلية قائمة. وما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم موافقاً للبراهين العقلية قبلوه، وما جَاءَ مخالفاً لها ردوه فجعلوا لله تبارك وتعالى صفات العجل: لا يُكَلِّمُهُم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] وهذا ظلم منهم وشرك لاتخاذهم إلهاً غير الله، والدليل عَلَى كذبهم في ذلك وإفكهم وأنهم مُشْرِكُونَ، حال هذا الإله الذي عبدوه وهو أنه لا يُكَلِّمُهُم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] .
أول من عرف عنه بدعة القول بخلق القرآن
ومنذ أن ظهر القول بخلق القرآن، اُمِتَحنت الأمة من أجلها امتحاناً عظيماً، وأَحدثَتْ من الانشقاق والاختلاف بين الْمُسْلِمِينَ ما لا يُرأب صدعه إِلَى قيام الساعة، ولا يزال الخلاف إِلَى الآن قائماً، وسيظل إلا أن يرجع أهل البدع والضلال إِلَى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، من القرون المفضلة المشهود لها بالخيريه عَلَى لسان نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، حيث قال:(خير النَّاس قرني ثُمَّ الذين يلونهم ثُمَّ الذين يلونهم) لم تعرف عندهم هذه البدعة، ولم يقل بها أحد من السلف الصالح قط.
وأول من أثرت عنه وعرفت عنه من المبتدعة رجل شاذ لا قيمة له في العلم، ولا في الفقه، ولا معرفة له بما أنزل الله تبارك وتعالى، يُقال له: الجعد بن درهم كَانَ في آواخر عصر الدولة الأموية، وكان مؤدباً لمروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وعندما انتهى حكمه سنة مائة واثنين وثلاثين هجرية وقامت الدولة العباسية، هرب إِلَى مصر، ثُمَّ قبض عليه وقتل هناك وكان يُلقب بمروان الحمار؛ لأنه واجه في عصره شدائد، فقد ثارت عليه البلاد من كل ناحية، واستولى العباسيون وغيرهم عَلَى أجزاء من الدولة، وكان يحارب ويجاهد ويكافح من أجل بقاء الخلافة، فلقبه المؤرخون بالحمار لكثرة تحمله وشدة جلده.
الحمار أستاذه الجعد بن درهم
لقد كَانَ مؤدب ومعلم مروان: هو الجعد بن درهم ولهذا لا نستغرب أن تسقط دولة مروان؛ لأن من كَانَ المبتدعة أساتذته وهم الذين يربونه؛ لم تكن عاقبته إلا الخسارة.
ولذلك يقال لمروان: مروان الجعدي، لأنه اشتهر به لكثرة ملازمته وتربيته له، والجعد بن درهم لما أن أظهر بدعة القول بأن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم، ولم يكلم موسى عليه السلام ولا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا يكلم أحداً مطلقاً وأنكر أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يُحِبُ أو يُحَبُ، وأنكر أن يكون الله سبحانه وتعالى اتخذ إبراهيم، ومحمداً صلى الله عليه وسلم خليلين.
سند القول بخلق القرآن وفائدة في الأخبار المشهورة
لقد أخذ الجعد بن درهم مسأله القول بخلق القُرْآن عن بيان بن سمعان أحد المبتدعة، وهو أخذها عن طالوت اليهودي وطالوت أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ولبيد أخذها عن أحد اليهودباليمن، وليس من المهم معرفة أول من قال بها، ولا يشترط لمثل هذه القضية أن يكون لها إسناد صحيح؛ لأن أهل البدع لا يقبل حديثهم، ولاكلامهم، ولو نظرنا بالنظرة الحديثية وبالنقد الحديثي لم نقبل حديث الجعد ولا بيان ولا طالوت ولا لبيد فكلهم غير مقبولين عندنا في الحديث.
لكن مثل هذه الأخبار إذا نقلها علماء الإسلام وأظهروها، فإننا نأخذها لشهرتها كأي خبر تاريخي يشتهر فيؤخذ ما لم يوجد دليل عَلَى نفيه، وما لم يوجد دليل عَلَى ضده، وسند هذا الكلام ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وذكره قبلهم كثير ممن كتب في العقيدة عَلَى منهج السلف، ورووا ذلك بالأسانيد، وممن ذكر ذلك بالسند الخطيب البغدادي وأمثال هَؤُلاءِ العلماء الذين يذكرونها بالسند.
وقفة مع كلام الشيخ الأرنؤوط على هذا الاسناد
إذا أتى آت كالشيخ الأرنؤوط جزاه الله خيراً وقَالَ: إن هذا السند لم يذكره ابن كثير لا يعول عليه؛ لأن الحافظ الذهبي ترجم للجعد بن درهم في سير أعلام النبلاء (5/ 433) ، وذكر فيه أن إسناده في إنكار الصفات يرجع إِلَى اليهودبمثل ما ذكرنا.
وذكرالذهبي رحمه الله أيضاً أن خالد بن عبد الله القسري أحد ولاة بني أمية قتل الجعد بن درهم وضحى به في يوم الأضحى، عندما كَانَ النَّاس مجتمعين لصلاة العيد، فقام فيهم قائلاً: أيها النَّاس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعدِ بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلمَّ موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، ثُمَّ نزل من عَلَى المنبر فذبحه.
قال الشيخ الأرنؤوط: إن هذا السند غير ثابت، ولم يصلنا إسناد صحيح، وبناءاً عليه، فإن الرجل ربما قتل لأن القضية كانت سياسية، وليس من أجل العقيدة والابتداع، ويقول: إنه لم يعرف عن ولاة بني أمية أنهم كانوا يقتلون الرجل لأجل العقيدة، وإنما يقتلونه لأجل مخالفته لهم في السياسة والحكم.
قلتُ: وهذا الكلام احتمال لا دليل عليه وما دام أن الشيخ لم يأتينا بما يثبت أنه كَانَ بين الجعد بن درهم وبين خالد أو بين بني أمية قضية سياسية قتلوه من أجلها فيظل هذا مجرد احتمال، والاحتمالات لا نعمل بها مع ورود الخبر الذي نقله المؤرخون، مثل ابن عساكر والخطيب البغدادي في كتبهم، لا سيما وقد ذكر المؤرخون فيما بعد أنه قتل لهذا السبب وأن خالد بن عبد الله قَالَ: الكلام السابق، وعلى ذلك فإننا لا نستطيع رد هذا الكلام إلا بدليل، وليس هناك ثُمَّ دليل عَلَى أن السبب كَانَ قضية سياسية
وقفات مع خلفاء بني أمية
وأما القول بأن خلفاء بني أمية لم يكونوا يقتلون أحداً من أجل عقيدته، فهذا غير صحيح، فإن الدولة الأموية كانت بعد عصر الراشدين وقامت هذه الدولة مع وجود عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عبد الملك بن مروان -على سبيل المثال- صنواً ونظيراً لسيد التابعين سعيد بن المسيب رضي الله عنه، طلبا العلم معاً، وطلبا الحديث والفقه، وكان له ما كَانَ لسعيد من المكانة العلمية، لكنه انصرف في آخر أمره إِلَى الدولة وانشغل بتدبيرها، ثُمَّ كَانَ الوليد بن عبد الملك من بعده حريصاً عَلَى العلم وعلى الجهاد والدعوة، فالقصد أنه وجد في خلفاء بني أمية الكثير من أهل الفضل والتقوى والصلاح.
لا يطعن في معاوية إلا زنديق
وإن من خلفاء بني أمية معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وهو صحابي جليل لا يطعن فيه إلا زنديق، وابنه يزيد بن معاوية كَانَ قائد الجيش الذي فتح القسطنطينية وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(أول جيش من أمتي يغزو القسطنطينية مغفور له) .
الخلفاء الإثنى عشر وعمر بن عبد العزيز
وكذلك في بني أمية عمر بن عبد العزيز، ولا يستطيع أي مؤرخ أو عالم بالرجال أن ينكر فضله وحسن سيرته التي كانت مشابهة لسيرة جده عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وكان فيهم من الرجال الذين كانوا عزاً للإسلام ويشهد لذلك الحديث الصحيح المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لا يزال هذا الدين عزيزاً ما وليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) والتفسير الأوجه والأولى والأصح أن يقَالَ: إن الإثنى عشر خليفة هَؤُلاءِ قد مروا، وهم الخلفاء الذين سبقوا، فمنهم الخلفاء الراشدون الأربعة ثُمَّ الذين من بعدهم من بني أمية قطعاً؛ لأن الفتوحات في عهد بني أمية توسعت، وعز الإسلام عزاً عظيماً لم يبلغه في أية مرحلة من المراحل، وكان الدين عزيزاً أيضاً مع وحدة الكلمة، والْمُسْلِمُونَ كلهم جميعاً منضوون تحت لواء خلافة واحدة.
بخلاف الحال في بني العباس فقد تفككت الخلافة في عهدهم.
فتوحات قتيبه بن مسلم
أقسم قتيبة بن مسلم قائد جيوش الوليد بن عبد الملك في المشرق لما ولي القيادة أنه ليطأنَّ أرض الصين، وتوغل في بلاد ما وراء النهر إِلَى أن وصل إِلَى تركستان التي هي الآن خاضعة للصين فأرسل ملك الصين إليه وزراءه ووفده، وقالوا له: لا تدخل إِلَى أرضنا ونحن نرضيك بما تشاء وندفع لك من الجزية ما تشاء، فَقَالَ لهم: أقسمت أن أطأ أرض الصين قالوا: نَحْنُ نعطيك تحله اليمين، فذهب وفد ملك الصين وأخذوا تراباً من تراب الصين وحملوه وجاءوا به إِلَى قتيبة، فوطأه بقدمه ووقف عليه، وأخذ منهم الجزية وهم صاغرون، إذاً فهذا عز عظيم للإسلام.
وفي المغرب كَانَ موسى بن نصير وطارق بن زياد يريدان أن يفتحا الأندلس، ومنها ينطلقان فيفتحا جنوبأوروبا، ثُمَّ تكن حركة التفاف كبرى إِلَى أن يصلوا القسطنطينية التي هي اليوماسطنبول، وذلك عن طريق اقتحام أوروبا من الخلف حتى يصلوا إلىالقسطنطينية، ويلتقوا مع الجيش الذي جَاءَ من الشرق فيفتحوا هذه المدينة التي كَانَ فتحها نصراً وعزاً للإسلام، وكان الْمُسْلِمُونَ يتلهفون لفتحها دائماً فبلغ الإسلام قوة عظمى في عهد بني أمية وبهذا ينطبق عَلَى خلفائهم قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يزال هذا الدين عزيزاً ما وليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)
ثُمَّ نقول: إن القول بأن بني أمية لا يقتلون الرجل من أجل العقيدة ليس بصحيح، فهذا الجهم بن صفوان تلميذالجعد بن درهم قتل من أجل عقيدته وبدعته، حتى أن سلم بن أحوز الذي كَانَ والي الشرطة في خراسان لما قُبض عَلَى الجهم وجيء به قَالَ: له الجهم اصفح عني، واعف، فَقَالَ سلم بن أحوز: والله يا جهم لا أقتلك لأنك ذو شأن عندي، ولكنني منذ أن سمعت بدعتك أقسمت بالله أنني لن أفلتك من القتل أبداً متى ما ظفرت بك، وكذلك قتل الجعد من أجل بدعته كما سبق، وهذا الموقف الذي وقفه خالد بن عبد الله أوسلم بن أحوز وأمثاله من ولاة بني أمية في محاربة أهل البدع هو الذي يجب أن يكون عليه الْمُسْلِمُونَ دائماً، وهذا موقف محمود مشكور لولاة بني أمية، فلا يليق بنا بعد ذلك أن نحاول أن نطعن فيهم أو أن نقول: إن العمل هذا لم يكن لوجه الله، أولم يكن لأجل العقيدة، فالواجب عَلَى كل من وُليّ أمر الْمُسْلِمِينَ، ورأى من يفسد الدين بالعقيدة الفاسدة، أن يعاقبه بذلك، وهذه قاعدة متفق عليها بين العلماء، ويدل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة) فالمفارق للجماعة لبدعة من البدع التي تخل بالدين وتهدمه يجب قتله؛ لأن في ذلك مصلحة وراحة وإقامة للدين.
مكانة قتال المرتدين من قتال الفرس والروم
قتال المرتدين أهم من قتال الروم والفرس، فقد أجمع الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- عَلَى قتال الخوارج؛ لأنهم أهل بدع، وقتال أهل البدع أصل معروف مشهور عند علماء الْمُسْلِمِينَ قديماً وحديثاً.
ولا ينبغي لنا أن نخرج هذه الأعمال التي قام بها ولاة بني أمية عن هذا المجال، بل يشكرون عَلَى ذلك، وإن كانت لهم أخطاء أو عيوب، فإن المرء المسلم له حسنات وله سيئات والله تبارك وتعالى هو الذي يتولى الحساب وهو العليم بالسرائر.
توضيح ما أشكل على الشيخ الأرنؤوط
وأما ما قاله الشيخ الأرنؤوط وغيره: كيف يكونالجعد أخذ هذه المقالة عن اليهودمع أن المشهور عنهم هو التشبيه والتمثيل، وأن الرافضة كانوا عَلَى التشبيه؛ لأنهم نقلوه عن اليهود، وفي التوراة المحرفة -الموجودة إِلَى الآن- كثيرٌ من التشبيه والتمثيل لله سبحانه وتعالى بخلقه الذي لا يليق بجلال الله سبحانه وتعالى؟
فالجواب: أن الجعد بن درهم إنما نقل ذلك عن الفلاسفة اليهودلا عن الأحبار المتمسكين بالتوراة.
يوجد في كل أمة فلاسفتها، فكما أنه يوجد في الْمُسْلِمِينَ الفلاسفة الذين أنكروا حقائق الأسماء والصفات، فكذلك في اليهود والنَّصارَى، ويبين ذلك أنه لما طلب المأمون من ملك الروم أن يبعث له بما لديهم من كتب الفلسفة والمنطق وكتب اليونان وكتب الأوائل فاستاشار الملك بطانته فَقَالُوا: كيف نعطيهم تراثنا، فَقَالَ أحد الأساقفة وكان ذكياً لبيباً فطناً: ابعثوا بها إليهم فوالله ما تعلمها أصحاب دين إلا كانت وبالاً عليهم؟ وهذا هو الذي هدم دين موسى عليه السلام عندما دخل اليهود في الفلسفة وكان منهم الفيلسوف اليوناني المشهور أفلاطون وأفلاطين غيرأفلاطون فأفلاطون هو الفيلسوف اليوناني المعروف، وأما أفلاطين فإليك الحديث عنه.
أفلاطين ودخول الفلسفة في دين اليهود
أفلاطين رجل يهودي أدخل الفلسفة في دين اليهود، وأخذ كلام أفلاطون وعدل ونقح وزاد فيه كما فعل ابن رشد وأمثاله في الإسلام ويسمى مذهبه الأفلاطونية الجديدة أو الأفلاطونية الحديثة، أما الأفلاطونية القديمة هي أفلاطونية أفلاطون والأفلاطونية الجديدة هي الأفلاطونية اليهودية وأفلاطين اليهودي كَانَ قبل ميلاد المسيح عليه السلام بأكثر من قرنين واليهود كَانَ فيهم المتمسكون بالتوراة، وهَؤُلاءِ فيهم التمثيل والتشبيه، ولكن المتفلسفين من اليهودأمثال أفلاطين وأشياعه ينكرون الصفات، وكانوا عَلَى مذهب اليونان، فعندما نقول: إن أصل إنكار الصفات عن اليهودلا يعني بالضرورة أنه منقول عن الأحبار المؤمنين بالتوراة، وإنما هو عن فلاسفة اليهود والشيء الآخر الذي يؤيد ذلك أن الجعد بن درهم -كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ - كَانَ من أهل حران من بلاد الشام، وهَؤُلاءِ كانوا عَلَى دين الصابئة، وما تزال الصابئة في تلك البقاع إِلَى اليوم، وهم -والله أعلم- كانوا قوم إبراهيم عليه السلام الذين انحرفوا عن التوحيد، فقد كانوا يعبدون الكواكب، ثُمَّ دخلتهم الفلسفة، وأصبحوا يفلسفون العقائد والأمور بناءً عَلَى عبادة الكواكب، ومن فلاسفتهم من ينكر صفات الله سبحانه وتعالى عَلَى نفس المنهج اليوناني القديم.
نشأه الجعد بن درهم في بلاد الفلاسفة
كان الجعد يعيش في بلاد الفلاسفة، وتعلم من فلاسفتها بدعة القول بخلق القرآن، ومما يذكر أن بعض المؤرخين والباحثين يقولون إن المعتزلة أخذوا القول بإنكار الصفات من النَّصَارَى، فانبرى بعض الباحثين الْمُسْلِمِينَ، وقَالَ: إن هذا من تشويه التاريخ الإسلامي أو كلما كَانَ لدينا رجل مفكر أو مبتكر أو عبقري يأتي الغربيون وينسبونه إِلَى اليهود والنَّصَارَى، وأخذ يدافع عنهم ويقول: إن المعتزلة أخذوا هذا من القرآن، وأرادوا أن ينزهوا القرآن، وهذا المدافع مخطئ وكلامه غير صحيح، بل المعتزلة فعلاً ومن كَانَ مع الجعد أو بعده أخذوا القول بأن كلام الله مخلوق عن النَّصَارَى لأن النَّصَارَىيعتقدون أو يسمون عيسى عليه السلام الكلمة، ولا غبار عَلَى التسمية؛ لأن ذلك جَاءَ في الكتاب، وجاء في الحديث الصحيح أن عيسى عليه السلام هو كلمة الله، وهم يقولون: كما في إنجيليوحنا، وهو الإنجيل الذي كتب خصيصاً لإثبات ألوهية المسيح كما يعترف بذلك علماء النَّصَارَىالموجودين اليوم أن الكلمة -أي: عيسى عليه السلام كَانَ عند الله.
تناقض واضح في عقيدة النصارى
كان في البداية إطلاق الكلمة تعني عيسى عليه السلام. ثُمَّ أصبح عندهم هو الله فكيف كَانَ عند الله ثُمَّ هو الله؟ سُبْحانَ اللَّه هذا تناقض واضح في عقيدة النَّصَارَى، ولا يخفى ذلك عَلَى أي عاقل.
فالنَّصَارَى يقولون: إن عيسى هو الكلمة، وهذه الكلمة مخلوقة، أي: أن عيسى عليه السلام مخلوق إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ َ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] ، فعيسى عليه السلام كلمة الله بمعنى أن الله خلقه بكلمة منه كُنْ فَيَكُونُ، فكلام الله عز وجل الذي هو قوله كُنْ غير مخلوق، وإنما المخلوق هو عيسى عليه السلام أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فالأمر غير الخلق فكلمة كُنْ كلام الله وعيسى أو أي مخلوق آخر يقول له الله تعالى: كن فيكون، هو خلق الله عز وجل لكن القوم لما استمرؤوا أِن يسموه الكلمة، وهو في نفس الوقت يقولون: هو الله.
المعتزلة تناقش النصارى
وجاء بعض الْمُسْلِمِينَ المحتكون بعقائد النَّصَارَىمن أمثال المعتزلة فقال لهم النَّصَارَى: إن القُرْآن مخلوق، فَقَالَ المعتزلة: لا، إنه ليس بمخلوق، هذا كلام الله، فَقَالُوا: أنتم تقولون -أيها الْمُسْلِمُونَ-: إن عيسى كلمة الله، وتوافقون عَلَى أنه كلمة، وتقولون إن عيسى مخلوق!! ولنا نَحْنُ أن نقول: إن عيسى إله وذلك أنكم -أيها المعتزلة - تقولون: القُرْآن كلام الله غير مخلوق، بل هو من صفات الله، إذاً نَحْنُ وإياكم سواء! فما الذي تعيبون علينا.
أنكر المعتزلة ذلك، ثُمَّ قالوا: القُرْآن ليس كلام الله، القُرْآن مخلوق!! هكذا قال المعتزلة فِراراً من ذلك، وحتى لا يُقَالَ: إن القدماء متعددون كالنَّصَارَى، فالنَّصَارَى يقولون: في الأزل الآلهة القدماء -كما يسمونهم- متعددون وهم ثلاثة: الأب، والأبن، وروح القدس، أو الله، والكلمة، وروح القدس، هَؤُلاءِ كلهم قدماء.
أي: هَؤُلاءِ الثلاثة هم في الأزل، فَقَالَ النَّصَارَى للمعتزلة: إذا قلتم أيضاً: إن القُرْآن قديم، فقد صرتم مثلنا، إذاً فلماذا تنتقدوننا؟!
فأجاب المعتزلة وَقَالُوا: إن الله خلق القُرْآن كما خلق آدم، وخلق الشجر والحجر، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا يتبين لنا كيف كَانَ تأثير اليهود والنَّصَارَى عَلَى عقيدة القول بخلق القرآن، وأن الذين اختلقوا وابتدعوا هذه البدعة إنما كانوا في الأصل من فروخ الصابئة واليهود والنَّصَارَى، ولم يأخذوا هذه المقالة من كتاب الله، ولا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام الصحابة، ولا من كلام أحد من علماء الإسلام أبداً.
بل الثابت المنقول عن علماء الإسلام أن القُرْآن الكريم كلام الله غير مخلوق، وقد ذكر الأئمة من ذلك نقولاً كثيرة طويلة منهم عَلَى سبيل المثال الإمام اللالكائي.
الإمام اللالكائي ينقل لنا أقوال السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق
لقد ذكر الإمام اللالكائي صاحبشرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإنه ذكر أسماء العلماء من الصحابة إِلَى عقود متأخرة طبقة طبقة في المدينة، وفي الكوفة، وبغداد والبصرة، وفي كل البلاد: من علماء الحديث، والرجال، والفقه، والتفسير أنهم يقولون: القُرْآن كلام الله، ومن قَالَ: إنه مخلوق فقد كفر؛ لأنه كذَّب الله تبارك وتعالى، وسوف نعرض بإذن الله الأدلة والأقوال مذهباً مذهباً ونبين بطلان تلك المذاهب.
يوجد في كل أمة فلاسفتها، فكما أنه يوجد في الْمُسْلِمِينَ الفلاسفة الذين أنكروا حقائق الأسماء والصفات، فكذلك في اليهود والنَّصارَى، ويبين ذلك أنه لما طلب المأمون من ملك الروم أن يبعث له بما لديهم من كتب الفلسفة والمنطق وكتب اليونان وكتب الأوائل فاستاشار الملك بطانته فَقَالُوا: كيف نعطيهم تراثنا، فَقَالَ أحد الأساقفة وكان ذكياً لبيباً فطناً: ابعثوا بها إليهم فوالله ما تعلمها أصحاب دين إلا كانت وبالاً عليهم؟ وهذا هو الذي هدم دين موسى عليه السلام عندما دخل اليهود في الفلسفة وكان منهم الفيلسوف اليوناني المشهور أفلاطون وأفلاطين غيرأفلاطون فأفلاطون هو الفيلسوف اليوناني المعروف، وأما أفلاطين فإليك الحديث عنه.
أفلاطين ودخول الفلسفة في دين اليهود
أفلاطين رجل يهودي أدخل الفلسفة في دين اليهود، وأخذ كلام أفلاطون وعدل ونقح وزاد فيه كما فعل ابن رشد وأمثاله في الإسلام ويسمى مذهبه الأفلاطونية الجديدة أو الأفلاطونية الحديثة، أما الأفلاطونية القديمة هي أفلاطونية أفلاطون والأفلاطونية الجديدة هي الأفلاطونية اليهودية وأفلاطين اليهودي كَانَ قبل ميلاد المسيح عليه السلام بأكثر من قرنين واليهود كَانَ فيهم المتمسكون بالتوراة، وهَؤُلاءِ فيهم التمثيل والتشبيه، ولكن المتفلسفين من اليهودأمثال أفلاطين وأشياعه ينكرون الصفات، وكانوا عَلَى مذهب اليونان، فعندما نقول: إن أصل إنكار الصفات عن اليهودلا يعني بالضرورة أنه منقول عن الأحبار المؤمنين بالتوراة، وإنما هو عن فلاسفة اليهود والشيء الآخر الذي يؤيد ذلك أن الجعد بن درهم -كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ - كَانَ من أهل حران من بلاد الشام، وهَؤُلاءِ كانوا عَلَى دين الصابئة، وما تزال الصابئة في تلك البقاع إِلَى اليوم، وهم -والله أعلم- كانوا قوم إبراهيم عليه السلام الذين انحرفوا عن التوحيد، فقد كانوا يعبدون الكواكب، ثُمَّ دخلتهم الفلسفة، وأصبحوا يفلسفون العقائد والأمور بناءً عَلَى عبادة الكواكب، ومن فلاسفتهم من ينكر صفات الله سبحانه وتعالى عَلَى نفس المنهج اليوناني القديم.
نشأه الجعد بن درهم في بلاد الفلاسفة
كان الجعد يعيش في بلاد الفلاسفة، وتعلم من فلاسفتها بدعة القول بخلق القرآن، ومما يذكر أن بعض المؤرخين والباحثين يقولون إن المعتزلة أخذوا القول بإنكار الصفات من النَّصَارَى، فانبرى بعض الباحثين الْمُسْلِمِينَ، وقَالَ: إن هذا من تشويه التاريخ الإسلامي أو كلما كَانَ لدينا رجل مفكر أو مبتكر أو عبقري يأتي الغربيون وينسبونه إِلَى اليهود والنَّصَارَى، وأخذ يدافع عنهم ويقول: إن المعتزلة أخذوا هذا من القرآن، وأرادوا أن ينزهوا القرآن، وهذا المدافع مخطئ وكلامه غير صحيح، بل المعتزلة فعلاً ومن كَانَ مع الجعد أو بعده أخذوا القول بأن كلام الله مخلوق عن النَّصَارَى لأن النَّصَارَىيعتقدون أو يسمون عيسى عليه السلام الكلمة، ولا غبار عَلَى التسمية؛ لأن ذلك جَاءَ في الكتاب، وجاء في الحديث الصحيح أن عيسى عليه السلام هو كلمة الله، وهم يقولون: كما في إنجيليوحنا، وهو الإنجيل الذي كتب خصيصاً لإثبات ألوهية المسيح كما يعترف بذلك علماء النَّصَارَىالموجودين اليوم أن الكلمة -أي: عيسى عليه السلام كَانَ عند الله.
تناقض واضح في عقيدة النصارى
كان في البداية إطلاق الكلمة تعني عيسى عليه السلام. ثُمَّ أصبح عندهم هو الله فكيف كَانَ عند الله ثُمَّ هو الله؟ سُبْحانَ اللَّه هذا تناقض واضح في عقيدة النَّصَارَى، ولا يخفى ذلك عَلَى أي عاقل.
فالنَّصَارَى يقولون: إن عيسى هو الكلمة، وهذه الكلمة مخلوقة، أي: أن عيسى عليه السلام مخلوق إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ َ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] ، فعيسى عليه السلام كلمة الله بمعنى أن الله خلقه بكلمة منه كُنْ فَيَكُونُ، فكلام الله عز وجل الذي هو قوله كُنْ غير مخلوق، وإنما المخلوق هو عيسى عليه السلام أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فالأمر غير الخلق فكلمة كُنْ كلام الله وعيسى أو أي مخلوق آخر يقول له الله تعالى: كن فيكون، هو خلق الله عز وجل لكن القوم لما استمرؤوا أِن يسموه الكلمة، وهو في نفس الوقت يقولون: هو الله.
المعتزلة تناقش النصارى
وجاء بعض الْمُسْلِمِينَ المحتكون بعقائد النَّصَارَىمن أمثال المعتزلة فقال لهم النَّصَارَى: إن القُرْآن مخلوق، فَقَالَ المعتزلة: لا، إنه ليس بمخلوق، هذا كلام الله، فَقَالُوا: أنتم تقولون -أيها الْمُسْلِمُونَ-: إن عيسى كلمة الله، وتوافقون عَلَى أنه كلمة، وتقولون إن عيسى مخلوق!! ولنا نَحْنُ أن نقول: إن عيسى إله وذلك أنكم -أيها المعتزلة - تقولون: القُرْآن كلام الله غير مخلوق، بل هو من صفات الله، إذاً نَحْنُ وإياكم سواء! فما الذي تعيبون علينا.
أنكر المعتزلة ذلك، ثُمَّ قالوا: القُرْآن ليس كلام الله، القُرْآن مخلوق!! هكذا قال المعتزلة فِراراً من ذلك، وحتى لا يُقَالَ: إن القدماء متعددون كالنَّصَارَى، فالنَّصَارَى يقولون: في الأزل الآلهة القدماء -كما يسمونهم- متعددون وهم ثلاثة: الأب، والأبن، وروح القدس، أو الله، والكلمة، وروح القدس، هَؤُلاءِ كلهم قدماء.
أي: هَؤُلاءِ الثلاثة هم في الأزل، فَقَالَ النَّصَارَى للمعتزلة: إذا قلتم أيضاً: إن القُرْآن قديم، فقد صرتم مثلنا، إذاً فلماذا تنتقدوننا؟!
فأجاب المعتزلة وَقَالُوا: إن الله خلق القُرْآن كما خلق آدم، وخلق الشجر والحجر، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا يتبين لنا كيف كَانَ تأثير اليهود والنَّصَارَى عَلَى عقيدة القول بخلق القرآن، وأن الذين اختلقوا وابتدعوا هذه البدعة إنما كانوا في الأصل من فروخ الصابئة واليهود والنَّصَارَى، ولم يأخذوا هذه المقالة من كتاب الله، ولا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام الصحابة، ولا من كلام أحد من علماء الإسلام أبداً.
بل الثابت المنقول عن علماء الإسلام أن القُرْآن الكريم كلام الله غير مخلوق، وقد ذكر الأئمة من ذلك نقولاً كثيرة طويلة منهم عَلَى سبيل المثال الإمام اللالكائي.
الإمام اللالكائي ينقل لنا أقوال السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق
لقد ذكر الإمام اللالكائي صاحبشرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإنه ذكر أسماء العلماء من الصحابة إِلَى عقود متأخرة طبقة طبقة في المدينة، وفي الكوفة، وبغداد والبصرة، وفي كل البلاد: من علماء الحديث، والرجال، والفقه، والتفسير أنهم يقولون: القُرْآن كلام الله، ومن قَالَ: إنه مخلوق فقد كفر؛ لأنه كذَّب الله تبارك وتعالى، وسوف نعرض بإذن الله الأدلة والأقوال مذهباً مذهباً ونبين بطلان تلك المذاهب.
بعد أن قتل الجعد وقتل الجهم أيضاً، وجاء عصر المأمون وترجمت الكتب أنشأ المأمون دار الحكمة لترجمة علوم اليونان، وعلوم الأوائل، وجاء المترجمون، وكان بعض مترجمي الدار من الزنادقة المشهورين مثل عبد الله بن المقفع الأديب والكاتب المشهور المعروف وأمثاله.
فكانوا أيضاً ممن تشَّرب بتلك العقائد وآمن بها، فأخذوا يترجمون هذه الكتب ثُمَّ زينوا للمأمون أن يعتقد عقيدة خلق القُرْآن وقالوا له: إن لم تعتقد هذه العقيدة فإن النَّصارَى يفحموننا ويقولون: إننا نقول مثلهم بأن القدماء أو الآلهة متعددة، ونحن نقول إن الله وحده هو القديم.
دور بطانة السوء
زين رجال السوء للمأمون أن يعتقد القول بأن القُرْآن مخلوق حتى اعتقده واعتنقه وآمن به وكان له وزير يسمى أحمد بن أبي دؤاد وهو أبرز من زين له هذه البدعة، وكان من تلاميذ تلاميذ الجهم، فلما استقر المأمون على ذلك، لم يكتف بأن يعتقد البدعة؛ بل كتب أوامره إِلَى جميع الولاة في الدولة جميعاً أن يرغموا الناس، ويمتحنوهم عَلَى القول بخلق القرآن.
فمن قال به نجا، ومن لم يقل بذلك فإنه يجلد ويعذب ويضرب، حتى يقول بهذه العقيدة الضالة المبتدعة، ومن هنا عظمت المحنة عَلَى علماء الإسلام، وابتلوا في كل مكان بالحبس والسجن والأذى، واشتد الأمر، وعظم الخطب، ونكل بهم المبتدعة الذين ولاهم ابن أبي دؤاد، وكانوا شديدي الحقد عَلَى هَؤُلاءِ العلماء من أهل السنة الذين هم عَلَى العقيدة الصحيحة.
بلاء أهل السنة في هذه الفتنة
ومن لم يدن بهذه البدعة من الْمُسْلِمِينَ ناله بلاء عظيم ونكال كبير بسبب هذه الفتنة، ولم يبق من العلماء المشهورين إلا ثلاثة نفر، وكان الإمام أَحْمَد هو ثالثهم وأشهرهم، فأكثر العلماء تهربوا عن الجواب، أو جاملوا، وبعضهم سجن في بعض البقاع أو جلد، لكن لم يكن لهم من قوة التأثيرما كَانَ للإمام أَحْمَد.
فالإمام أَحْمَد كان في بغداد -العاصمة- وكان أكبر علماء الإسلام في عصره؛ لأن هذا الكلام كَانَ بعد وفاة الإمام الشَّافِعِيّ فقد قيل: إنه أدرك أول الفتنة.
لكن الامتحان الحقيقي كَانَ في آخر أيام المأمون، بدليل أن المأمون مات قبل أن يصل إليه الإمام أَحْمَد حين استدعاه.
وكان الإمام أَحْمَد أكبر علماء الإسلام في الحديث، وكانت الأمة مُصغية الآذان لما يقوله الإمام أَحْمَد، فإن وافق الإمام أَحْمَد لم يبق أحد إلا وافق، وإن رفض فلا موافقة، وإن كَانَ في ذلك من الأذى ما فيه، ولهذا لما جيء بالإمام أَحْمَد وسجن جَاءَ إليه بعض النَّاس فقَالَ: يا إمام!
قد ابتُليتَ وعُذبتَ، وقد جعل الله تبارك وتعالى لك فسحة في قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:10] فلماذا تعذب نفسك يا أَحْمَد؟!
الإمام أحمد يسترخص نفسه في سبيل الحق
لقد ضَرب الإمام أَحْمَد حتى انشقت خاصرته وخرجت أمعاؤه منها، من شدة ضرب السياط كل ذلك من أجل أن يقول: إن القُرْآن مخلوق، وهو يأبى أن يقول بدعتهم، وناظرهم بالحجة والبيان.
فلما أفحموا وعجزوا لجأوا إِلَى الضرب، وهذه حجة من لا يملك الحجة، وقد قال لهم الإمام أَحْمَد: تريدون أن أوافقكم عَلَى قولكم؟ قالوا: نعم.
قَالَ: اخرجوا فانظروا!
فخرجوا وإذا بالنَّاس أفواجاً وبأيديهم الأقلام، وعندهم المحابر والورق، فقالوا لهم: ماذا تنتظرون قالوا: ننتظر ما يقوله الإمام أَحْمَد فنكتبه.
فرجعوا إليه فَقَالَ لهم الإمام أَحْمَد: ماذا رأيتم؟
قالوا: رأينا النَّاس جالسين ينتظرون ما تقول، فيكتبونه.
قَالَ: والله لأن أموت أهون عليَّ من أن أُضل الناس؛ لأنه يعلم أن الكلمة التي سيقولها ستكتب وتؤخذ عَلَى أنها دين وتنتشر في الآفاق، والنَّاس لا يدرون أن الإمام أَحْمَد مُكَرَهَ؟! وأنه لا يرضى بذلك؟! وكيف يتدارك الأمر فيما بعد؟! هذا شيء غير مضمون.
ولذلك نفهم من هذا دقة فهم الإمام أَحْمَد، ففي حالة الإكراه يجوز للإنسان أن يقول كلمة الكفر، لكن إذا كَانَ الأمر يقتضي من الإِنسَان أن لا يقول الكفر وأن يقف موقف الحق، فإنه مهما أكره ومهما أوذي فإنه يجب ويتعين عليه أن لا يقولها.
فالإمام أَحْمَد رأى أن الأمة كلها تريد أن تسمع ما يقول، فلابد حينئذٍ أن يثبت أمام هذه الضلالات ولو أدى الأمر إِلَى قتله، فيقتل ويُقَالَ: قتل؛ لأنه لم يوافقهم عَلَى كلامهم، فيبقى الحق حقاً ولو قتل من قتل في سبيل بقاء هذا الحق هكذا كَانَ رأي الإمام أَحْمَد رحمه الله -وقد رفعه الله عز وجل بهذا الموقف وهذا الصبر.
لله درك يا أحمد
لقد قال كثير من علماء الإسلام: إن موقف الإمام أَحْمَد في المحنة كموقف أبي بكر الصديق يوم الردة وقد ذكرنا -سابقاً- أن المأمون لم يلتق بالإمام أَحْمَد لأن الإمام أَحْمَد دعا الله تَعَالَى أن لا يريه إياه، وفي الطريق جَاءَ الخبر بأن المأمون قد مات، وقد كَانَ الإمام أَحْمَد من قبل حدوث القول بخلق القُرْآن يتجنب السلاطين، فلا يدخل عليهم ولا يقبل هداياهم.
بل كَانَ ابنه صالح قاضياً وكان من أعدل القضاة وأعلمهم بالكتاب والسنة، وكان الإمام أَحْمَد لا يأكل من طعامه، قَالَ: لأنه يأخذ من أموال هَؤُلاءِ الظلمة، فهذا حال الإمام أَحْمَد أنه كَانَ لا يدخل عَلَى السلاطين حتى ولا في حال المودة؛ بل إن المتوكل الذي جَاءَ وأحيا السنة وأعادها، وزجر المبتدعة ونكل بهم وعذبهم حتى ماتوا ومنهم ابن أبي دؤاد، لم يكن الإمام أَحْمَد يدخل عليه، ولما أصر المتوكل عَلَى أن يزوره الإمام أَحْمَد ذهب إليه الإمام، واشترط عليه أن لا يحضر مجلسه، فكان يؤتى بالطعام فلا يأكله، وكان يواصل إلا أنه يشرب الماء، فبقي ثمانية أيام حتى كاد أن يهلك جوعاً، كما قال ابنه عبد الله وكان الذي تولى الخلافة من بعد المأمون المعتصم وهو الذي قام بتعذيب الإمام أَحْمَد رحمه الله.
المعتصم رجل عسكري والمأمون رجل فلسفي
لم يكن المعتصم مثل المأمون، فلقد كَانَ المأمون رجلاً فلسفياً متبحراً في العلم والجدال والفلسفة التي تعلمها، وكان يحضر في مجلسه العلماء من اليهود والنَّصَارَى والْمُسْلِمِينَ والفلاسفة فيتجادلون جميعاً ويشاركهم جميعاً، ويرى أن هذا من كثرة تمكنه وعبقريته وعقله، أما المعتصم فكان رجلاً عسكرياً، فقد كانت أمه تركية من الأتراك العسكر وتربى تربية عسكرية، ولم يكن يدرك هذه الأمور، فلم يكن يعرف إلا السوط، فلما تولى الخلافة وأراد أن يرفع الفتنة فزُين له الوزراء، وقالوا له: إنك إن فعلت ذلك تكون قد شهدت عَلَى من قبلك بالضلال.
فلا بد أن تستمر، وإلا يُقَالَ: إنه عجز منك وخور، كيف تترك رجلاً واحداً، ومن معه يعمل كل هذا العمل؟! فهل تعجز الدولة عن هَؤُلاءِ؟!
فلما زينوا له ذلك آذى العلماء وضربهم وعذبهم، واقتاد الإمام أَحْمَد بالقوة وأحضره إليه، وأخذ يحاول وينصح الإمام أَحْمَد كثيراً، ويقول: يا أَحْمَد! لا أريد عذابك، يا أَحْمَد! والله إني أكره أن أضرك، ويقول له: قل القُرْآن مخلوق، فيأبى الإمام، فيذهب الوقت الطويل في الاسترضاء، فيشتد الغضب بالمعتصم بعد ذلك فيأمرهم أن يضربوه، ويشتدوا في الضرب، وكان هذا حاله معه أياماً كثيرة.
فكانت هذه المحنة العظمى للأمة من أجل أن تقر وتوافق بأن كلام الله عز وجل مخلوق، وأنه ليس وحياً منزلاً من عند الله وأنه لم يتكلم به عَلَى الحقيقة.
المتوكل ونصره للسنة
عندما تولى المتوكل بعد المعتصم انتصر الإمام أَحْمَد -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- بل انتصر الحق فانتصرت السنة عَلَى البدعة، ولقي المبتدعة من النكال والأذى من الأمة أكثر مما لقوا من المتوكل عندما رجع إِلَى السنة، فإن المعتزلة وأمثالهم قد شهر الله تَعَالَى أمرهم وفضحهم في جميع البلاد وأصبح الْمُسْلِمُونَ -حتى العوام منهم في الأقطار المتنائية- إذا علموا أن فلاناً من المعتزلة يكادون أن يرجموه بالحجارة، ويحتقرونه ويطردونه ويذلونه، ولهذا يجب أن ندرس حقائق التاريخ، وكيف تقاوم البدع؟
فإن في ذلك عبراً كثيرة جداً، وأعظم عبرة في هذا هي أن الإِنسَان لا يرد البدعة ببدعة، وهذا من منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنهم يردون البدعة بالسنة ويردون الآراء والأهواء والفلسفات يقول الله، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة والتابعين وهذا هو منهجنا.
فلقد حاول القوم أن يتأولوا في الكلام، فتارة يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] أليس كذلك يا أَحْمَد؟
فَيَقُولُ: بلى.
فيقولون: أليس القُرْآن شيء؟
فَيَقُولُ: بلى.
فيقولون: إذاً القُرْآن مخلوق.
فيرد عليهم الإمام ويقول: ألم يقلِ اللهُ تبارك وتعالى عن الريح: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] .
قالوا: بلى.
قَالَ: أليست الأرض شيء والسماوات شيء؟
فيقولون: بلى.
فَيَقُولُ: فهل دمرتها الريح؟
فيقولون: لا، وهكذا كَانَ يقاوم الحجة بحجة أقوى منها.
فيقولون -مثلاً-: يقول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] أليست جعل بمعنى خلق؟
فَيَقُولُ: نعم.
فيقولون: ألم يقل الله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون [الزخرف:3] أي: خلقناه؟
وهكذا كانوا يحولون الأدلة والإمام أَحْمَد -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يرد عليهم ردوداً قوية، لكنه لما جَاءَ إِلَى مسألة القول بخلق القرآن.
قالوا: لم لا توافق؟ هل عندك دليل عقلي؟
فَيَقُولُ: ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة.
وهذا هو الذي نطالب به دائماً وأبداً، فكل من يأتينا ببدعة فإننا نطالبه بشيء من الكتاب أو بشيء من السنة، أما الجدليات والاستنباطات العقلية والتأويلات فهذه لا نهاية لها، حتى أنك تجد الذين عبدوا الأصنام والحجارة من دون الله عز وجل ما عبدوها إلا بتأويل وتفلسف، وبظنون يحسبونها حججاً وهكذا لا تجد أحداً يعمل شيئاً إلا ومعه شيء من هذا القبيل، لكن هل هذه حجة حقيقية؟ أم حجة داحضة؟ نعرف ذلك عندما نطالبه بشيء من الكتاب أو من السنة، وهذا هو منهجنا فلا نرد البدعة ببدعة، وإنما نرد البدعة بالسنة ونرد الباطل بالحق هذه هي العبرة الأولى.
والعبرة الأخرى هي أن الإمامأَحْمَد لم يتنازل عن شيء من الحق -كما هو واضح في الموقف السابق.
لكن عبد الله بن سعيد بن كلاب اتخذ موقفاً وسطاً، فقَالَ: لا حاجة إِلَى أن نتشدد كما تشدد أَحْمَد، بل نقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام الله النفسي، أي: الذي في نفس الله غير مخلوق، والذي أنزله في القُرْآن مخلوق!
ولو قيل له من أين جئت بهذا الكلام يا ابن كلاب؟ وهل هذا في الكتاب أو في السنة أو قال به أحد من الصحابة؟
لقال لك: نريد أن نأخذ موقفاً وسطاً فنحل به المشكلة.
وعلى هذا أصبح أهل السنة يحاربون بدعتين بدعة المعتزلة، وبدعة ابن كلاب؛ لأنه أراد أن يتوسط، مع أن الأمر واضح لا وسط فيه ولا هوادة ولا تهاون؛ بل هو حق مثل الشمس، وهذه من العبر التي نستفيدها من هذا الموقف.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
[وإنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ، مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وأَنْزَلَهُ على رَسُوله وَحْياً، وصدَّقَهُ المؤمنونَ على ذلك حقّاً، وَأَيْقَنُوا أنَّه كَلامُ اللهِ تعالى بالحقيقَةِ، لَيْسَ بمخلُوقٍ كَكَلامِ البَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ، فَزَعَمَ أنَّه كلامُ البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّه اللهُ وعابَه، وأَوْعَدَه بِسَقَرَ حَيْثُ قال تعالى: سَأُصلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26] فلما أوعدَ اللهُ بسقر لِمَنْ قَاْلَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] عَلِمْنَا وَأَيقَنَّا أنه قَوْلُ خالِقِ البَشَرِ ولا يُشْبِهُ قَوْلَ البَشَرِ] .
قال المصنف رحمه الله:
[هذه قاعدةٌ شريفةٌ، وأصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدين، ضَلَّ فيه طوائفُ كثيرةٌ من الناس، وهذا الذي حكاهُ الطحاوي رحمه الله هو الحَقُّ الذي دَلَّتْ عليهِ الأَدِلَّةُ مِنَ الكِتاب والسُّنَّةِ لمن تَدَبَّرَهما، وشَهِدَت به الفِطْرَةُ السليمةُ التي لم تُغَيَّر بالشُّبُهَاتِ والشُّكُوكِ والآراء الباطلة.
وقدِ افْتَرََ الناسُ في مسألةِ الكلامِ على تسعة أقوال:-
أحدها: أنَّ كلامَ اللهِ هو ما يَفِيضُ على النفوسِ من معاني، إما مِنَ العقلِ الفَعَّالِ عندَ بعضهم، أو مِنْ غيرِه، وهذا قولُ الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها: أنَّه مخلوقٌ، خَلَقهُ اللهُ مُنفصلاً عنه، وهذا قَوْلُ المُعتَزِلَة.
وثالثُها: أنَّهُ معنى واحدٌ قائمٌ بذاتِ اللهِ، هو الأمرُ والنَّهْيُ والخَبَرُ والاستخبارُ، إن عُبِّرَ عَنْهُ بالعربيةِ كانَ قُرآناً وإن عُبِّرَ عنهُ بِالعِبْرِية كانَ توراةً، وهذا قولُابنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وافَقَه كالأشعري وغيره.
ورابعُها: أنَّه حروفٌ وأصواتٌ أزلِيَّة، مجتمعةٌ في الأزَلِ، وهذا قولُ طائفةٍ مِنْ أهلِ الكلام وَمِنْ أَهْلِ الحديث.
وخامسُها: أنَّه حروفٌ وأصواتٌ، لكِنْ تَكَلَّمَ اللهُ بها بعدَ أن لم يَكنْ متكلِّماً، وهذا قولُ الكرَّامية وغيرهم.
وسَادِسُها: أن كلامَه يَرجعُ إلى ما يُحْدِثُه مِنْ عِلْمِهِ وإرادتِه القائم بذاته، وهذا يقولُه صاحبُ المعتبر، ويميلُ إليهِ الرازي في المطالبِ العالية.
وَسابِعُها: أنَّ كلامَهُ يَتَضَمَّنُ معنى قائماً بذاته هو ما خَلَقه في غيره، وهذا قولُ أبي منصور الماتريدي.
وَثْامِنُها: أنه مُشْتَرك بَيْنَ المعنى القديمِ القائم بالذات وبينَ ما يَخلُقُه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومَنْ تَبِعَهُ.
وتاسعُها: أنَّه تعالى لم يَزَلْ متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيفَ شاء، وهو يَتَكلَّم به بصوت يُسْمَعُ، وأنّ نوعَ الكلام قديمٌ وإن لم يَكُن الصوتُ المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة] اهـ.
الشرح:
هذه تسعة أقوال في إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، وسوف نشرحها إن شاء الله واحداً واحداً.
لكن ينبغي أن نَعلمَ أنَّ هذهِ الأقوالُ ليستْ كلّها على درجةٍ واحدة من الأهمية ومن الانتشار، فبعضها آراء فردية، وبعضها اجتهادات شخصية لأناس قالوها، وروجعوا عنها وما أشبه ذلك، ولكن الأقوال في هذه المسألة التي عليها مدار الخلاف قديماً وحديثاً ثلاثة أقوال:
مذهب المعتزلة.
ومذهب الأشاعرة.
ومذهب أهل السنة التي هي المذاهب الثاني والثالث والتاسع.
وأما قول الصابئة والمتفلسفة فهو تابع لقضية فلسفية عميقة، قد لا يحتاج إليها أحدٌ إلا مَن تخصص في دراسةِ الفِرَقِ الزائغةِ الخارجةِ عن الملةِ مثل النصيرية أوالدرزية أو الباطنية الإسماعيلية عموماً.
وأما القول الرابع والخامس، فإنها قريبة من القول الثالث، وقد اندثر من قال بها، ولم ينسبها إلا أنه نسب الخامس إلى الكرامية وقد انقرضت.
والقول السادس الذي يميل إليه صاحب المعتبر -وهو ابن ملكا - وكذلك الرازي، والرازي من أئمة الأشعرية وابن ملكا فيلسوف متحرر ليس بأشعري محض ولا بسلفي محض، وهو يندمج ضمن الأشعرية في الواقع وإن كان كل من الرجلين - أي ابن ملكا صاحب المعتبر والرازي - لم يؤسس مذهباً جديداً مستقلاً.
وكذلك القول السابع الذي هو قول الماتريدية، فهم في أكثر مذاهبهم المتأخرة مالوا إلى مذهب الأشعرية.
وأما القول الثامن فهو قول أبي المعالي الجويني أيضاً، وهو من أئمة الأشعرية.
فكأن المصنف -رحمه الله تعالى- فصَل الأقوال أو الخلاف الذي بين أئمة الأشعرية كـ الرازي وأبي المعالي وغيرهما وجعلها مذاهب وأقوال مستقلة، ولكن الذي استقرت عليه الآراء والذي عليه مدار الخلاف قديماً وحديثاً وعليه المعركة إلى اليوم في هذه المسألة هي ثلاثة أقوال كما سبق.
أصل جميع الضلالات
قبل أن نبدأ في شرح الأقوال ينبغي لنا أن نعرف قضية مهمة -وقد سبقت معنا في أول الكتاب ونعيدها الآن- وهي أصل جميع الضلالات، أو المنبع الذي نبعت منه هذه الضلالات جميعاً في باب الأسماء والصفات.
وهذا الأصل هو: أن المتكلمين وأولهم المعتزلة أرادوا أن يستدلوا عَلَى وجود الله سبحانه وتعالى وجعلوا قضية وجود الله هي القضية المتنازع فيها مع أنها لم تكن عَلَى الإطلاق في القُرْآن محل النزاع والخلاف بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وإنما النزاع في قضية الألوهية هل هي لله وحده؟ أم له مع غيره؟ أم لغيره من دونه؟
فأرادوا أن يستدلوا عَلَى وجود الله بالطريقة الفلسفية اليونانية وفي هذه المسألة كَانَ علماء اليونان وعلماء الإغريق ومن اتبعهم من الصابئة وعلماء المجوس وأمثالهم عَلَى رأيين:
الرأي الأول: أن هذا العالم قديم، بمعنى: أن هذا العالم وهذا الكون أزلي لا أول لوجوده، أي جَاءَ بنفسه هكذا يقولون: إنه خلق من غير شيء وهَؤُلاءِ من الفلاسفة الذين ينكرون وجود الله تبارك وتعالى.
وقد رد عليهم فلاسفة اليونان وعلماء الأغريق والصابئة وآخرون منهم فَقَالُوا: إن لهذا العالم خالقاً سموه واجب الوجود، أو ما أشبه ذلك.
وواجب الوجود موجود، وهذا العالم حادث، فواجب الوجود قديم لا أول لوجوده، وأما الكون والعالم، فهو حادث لوجوده أول، وأغلبهم يميل إِلَى أنه نشأ عنه كما تنشأ العلة عن المعلول، أي: أن النسبة بينهما مثل نسبة السبب إِلَى المسبب أو العلة إِلَى المعلول، أي: ليس له إرادة وليس له صفات أوجدت هكذا.
هذا هو مذهب الأكثرين من هَؤُلاءِ الفلاسفة الذين يثبتون وجود الله؛ لكنهم يريدون أن يثبتوا وجود الله، فأثبتوه علة تامة اقتضت معلولها وهو الكون، ولما أرادوا أن يبطلوا قول القائلين بأن العالم قديم وأزلي، قالوا لهم: الدليل عَلَى أن العالم حادث بعد أن لم يكن هو: أن الأعراض تلحق بهذا العالم، فالشمس تطلع وتغيب كما هو مشاهد، وتكون الصحة والمرض، وتكون الألوان والطعوم والروائح والأشياء المختلفة، فالتغير والأعراض التي تطرأ شيئاً بعد شيء عَلَى المخلوقات -كما يقول هَؤُلاءِ- دليل عَلَى أنها حادثة، وعلى أنها ليست قديمة؛ لأن القديم الموجود وجوداً أزلياً لا يمكن أن يلحق، وأن يطرأ عليه التغيير، هكذا قالت الفلاسفة.
فلما جَاءَ المتكلمون وجاء المعتزلة وترجموا كتب أُولَئِكَ مالوا مع القول الذي يثبت وجود الله؛ لأن هَؤُلاءِ ليسوا منكرين لوجود الله، فأخذوه وأخذوا أدلة أُولَئِكَ بأن الله سبحانه وتعالى موجود، وأن الكون حادث، وإن كانوا لا يقولون: مخلوق وخالق، وإنما يقولون: هو حادث وأزلي وقديم فقط، فَقَالَ لهم المتكلمون: نَحْنُ نستدل عَلَى أن هذا الكون حادث بأنه تطرأ عليه الأعراض والتغيرات عرض بعد عرض وحال بعد حال فهذا دليل عَلَى أن الكون غير قديم بل هو مخلوق، فلما جاءوا يطبقون هذا عَلَى صفات الله سبحانه وتعالى وقع الخلاف.
فالفلاسفة الذين يثبتون وجود الله يثبتون أنه علَّةٌ تامة، ولا يصفونه بأي صفة ثبوتية وجودية، وإنما يصفونه بالسلوب والإضافات.
يقولون: ليس بجاهل، ولا ظالم، ولا ذليل، ولا يصفونه بأنه عالم حكم عدل عزيز، فلما انتقلت هذه إِلَى الْمُسْلِمِينَ من المعتزلة وأمثالهم جاءوا فأرادوا أيضاً أن يأخذوا نفس الشيء لئلا ينتقض عليهم أصلهم؛ لأنهم قالوا: إن ما تقوم به الأعراض والأحوال، وتحل به الحوادث -كما يسمونها- لا يمكن أن يكون قديماً، وأزلياً لا أول لوجوده وإنما هو حادث، ويقرؤون في كتاب الله عز وجل أن الله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، وأنه يغضب، ويرضى، ويريد، ويشاء، ويختار، ويخلق، وفي الحديث الصحيح أنه ينزل، وأمثال ذلك.
فقالوا: هذه حوادث وأعراض وأحوال، فإذا قلنا: إن الحوادث والأعراض تحل بالله فهو حادث وليس بقديم؛ إذاً ليس هناك دليل لدينا عَلَى أن نثبت وجود الله، فأصبحنا كأننا ننفي وجود الله، فصاروا بين نارين:
إما أن يلتزموا القول بأن هذه فعلاً حوادث وأعراض تقوم بالله سبحانه وتعالى فهو حادث مثل سائر الحوادث والعياذ بالله.
وإما أن يقولوا: لا تقوم به هذه الحوادث، والأعراض وينفون عنه هذه الصفات، فيكون إذاً قديماً وأزلياً.
فاختار المعتزلة والمتكلمون القول الثاني، وَقَالُوا: نُجرده من الصفات، ونُثبِتُ وجوده، وأنه خالق هذا الكون خير من أن نجعل له صفات كما أن للمخلوقين صفات فإذا قلنا: إن البشر يغضب، ويرضى، وينزل، ويتكلم، وهذه أعراض وحالات وحوادث تحدث في كل إنسان، وقلنا: إن الله يتكلم، وينزل، ويغضب، ويرضى وهذه هي نفس الأعراض والأحوال.
إذاً: لابد أن ننفيها عن الله عز وجل فنفوا صفات الله سبحانه وتعالى ليوافقوا قول الفلاسفة المثبتين لوجوده، أي: المثبتين بأن الكون حادث وليس بقديم فكانت أهم وأبرز صفة ظهرت في أثناء النقاش والجدال والمعركة الجدلية هي صفة الكلام، وكما ذكرنا أن للنصارى دوراً في إثارة هذه القضية؛ لأنهم يقولون: عيسى كلمة الله -كما يقول بعضهم- ومنهم من يقول: ن الكلمة مخلوقة، وبعضهم يقول: لا! إنه كلمة الله ولكنه إله مثل الله، أي: ذات مستقلة، فالآلهة الثلاثة لكلٍ منها ذات مستقلة.
فهَؤُلاءِ قالوا: إذا قلنا: إن القُرْآن كلام الله أيضاً، وقلنا: إنه ليس بمخلوق، فيلزمنا أن يكون ذاتاً مستقلة؛ لأنهم لا يفهمون من الصفة إلا أمراً عينياً متعيناً موجوداً، وليس صفة تقوم بشيء موصوف، فيثبتون الذات عَلَى أنها لا صفة لها، ويثبتون الصفات عَلَى أنها ذوات مستقلة منفصلة.
فإذا قلنا: إن لله تسعة وتسعين اسماً، فإنهم يتصورون أنها تسعة وتسعين ذات منفصلة مستقلة، وهكذا نظرت النَّصَارَىوالعياذ بالله إِلَى أن الآلهة ثلاثة منفصلة مستقلة، وهي في نفس الوقت واحدة.
فحصل من هذا وهذا أن نشأت قضية الجدل في صفة الكلام فَقَالُوا: إن كَانَ الله عز وجل لم يكن متكلماً ثُمَّ تكلم، فقد حلت به الحوادث -هكذا رأت عقولهم والعياذ بالله- وما كَانَ محلاً للحوادث فهو حادث.
وإذا قلنا لهم: إن الآيات والأحاديث في كلام الله سبحانه وتعالى أنه كلم الملائكة قبل أن يخلق آدم وكلم آدم وكلم موسى وهذا كله كلام الله.
قالوا: لا، هذه مخلوقات أي أن القُرْآن مخلوق خلقه الله.
وَقَالُوا: إنما قلنا ذلك حتى ننزه الله أن يكون محلاً للحوادث فننفي عنه الكلام مع أن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا في بيان أجلى وأوضح من الشمس أنه سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وكان عَلَى هذا البيان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، فليس كلامه ونظره ورضاه ورحمته ونزوله كنظر المخلوقين ورضاهم ورحمتهم ونزولهم ليس كمثله شيء أبداً، ولم يكن له كفواً أحد أبداً.
وإذا أثبتنا لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، فإننا لا نُثبِتُ له ما هو في حق المخلوقات من الأعراض، أو الحوادث، أو الأحوال، أو التغيرات، ومن فهم ذلك فإنما الفساد جاءه من قبل عقله وفهمه، وليس من نصوص الكتاب والسنة أبداً بالإضافة إِلَى أن أصل قضية إثبات وجود الله بهذه الطريقة التي سلكوها نَحْنُ في غنى عنها وعن استيراد كتب الفلسفة وترجمتها وفي غنى عن الرد عَلَى الفلاسفة المنكرين لوجود الله بالرد عَلَى منهج الفلاسفة الذين يثبتونه علة تامة لا صفاتَ لها عَلَى الإطلاق، كُلُّ هذا الكلام نَحْنُ في غنى عنه لأن الله سبحانه وتعالى قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالنور وبالهدى التام المستبين.
وكما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وقرره غيره من العلماء أيضاً: إن نفس أمة اليونان الدولة الرومية عموماً واليونان خاصة كانوا عَلَى دين الفلسفة وعلى الشرك حتى دخلت عليهم النصرانية المنحرفة سنة 325م فانتقلوا من الشرك ومن الوثنية الفلسفية إِلَى النصرانية، وهي عَلَى ما فيها من الشرك إلا أنها أفضل وأنسب حالاً لأن فيها آثاراً من كلام النبوة، أو آثاراً من الوحي الرباني، فانتقلوا من ذلك إِلَى ما هو أحسن حالاً وجاء الإسلام وأنزل الله سبحانه وتعالى عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم الفرقان الواضح فقضى عَلَى الأديان وأبطلها سواءً النصرانية أو غيرها، وإن كانت أفضل من الفلسفة اليونانية إلا أنها كفر وشرك.
وكُلُّ من دان بها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كافر كما هو في الكتاب والسنة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ [آل عمران:19] ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) فلا يقبل الله غير هذا الدين فكيف ينتكس ويرجع هَؤُلاءِ المتكلمون وغيرهم إِلَى ما كَانَ عليه هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ.
هذا هو غاية ما يُرِيدُ هَؤُلاءِِ النَّاس أن يقولوه أو يدعو إليه، أما نَحْنُ فنبطل هذه القضايا جميعاً لأن لدينا - ولله الحمد- المنهج والبرهان الواضح، فلا حاجة بنا إِلَى الخوض في مسألة وجود الله عَلَى طريقتهم، ولا حاجة بنا إِلَى ترجمة كلامهم، ولا حاجة للمسلمين إِلَى الاستعانة بكلام المثبتين منهم ضد النفاة، فنحن نرد عَلَى الجميع، ولكن هذا الذي حصل ووقع تاريخياً، أن المعتزلة التزموا القول بأن ينفوا صفات الله تبعاً لنفي حلول الحوادث في ذات الله سبحانه وتعالى متبعين للقول بأن إثبات الصفات يستلزم إثبات لذوات متعددة -تعدد القدماء أو تعدد ذوات مختلفة- وبناءً عَلَى ذلك أنكروا أن يكون القُرْآن كلام الله سبحانه وتعالى، وَقَالُوا: إنه مخلوق، وسيأتي تفصيل كلامهم إن شاء الله تَعَالَى في قولهم: إن إضافته إِلَى الله إضافة تشريف، أو -مثلاً- استدلالهم بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [الزخرف:3] أواللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] وأمثال ذلك من الشبهات التي سنعرض لها إن شاء الله بالتفصيل.
للطوائف أقوال مختلفة في كلام الله نفصلها فيما يأتي:
قول الصابئة والمتفلسفة
وهَؤُلاءِ يقولون: إن كلام الله تَعَالَى هو ما يفيض عَلَى النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
فهَؤُلاءِ النَّاس يقولون: إنه سبحانه وتعالى لا يُوصفُ بأي صفة ثبوتية وجودية. إذاً فهو مجرد علة تامة نشأ عنها المعلول، ونشأت عنها المخلوقات، وليس أكثر من ذلك.
فكلام الله في نظرهم: هو الفيض الذي يفيضه العقل الكلي أو العقل الفعال.
ويقول بعضهم: إنه يفيض عَلَى النفس الكلية ثُمَّ النفس الكلية تفيضه عَلَى النفوس الجزئية.
ومنهم من يقول: العقل الكلي يفيضه عَلَى العقول الجزئية.
وهذه المسألة مختلف فيها ولا يهمنا هذا الخلاف؛ بل الذي يهمنا أن كلام أفلاطون وأمثاله الذين قالوا: إن العلة التامة الذي هو "الله" عندهم -كما يسمونه- لمَّا كَانَ لا يتصف بأي صفة، إنما نشأ عنه الكون بهذه الطريقة، نشأ عنه أول ما نشأ العقل الفعال، أو العقل الكلي، وهذا العقل موجود في الفضاء، ثُمَّ أصبحت هذه العقول بعد ذلك عشرة كما فصلها بعضهم، فالعقل الأول خلق الثاني، والثاني خلق الثالث، إِلَى أن صارت عشرة، ثُمَّ بعد ذلك: العقول العشرة هي التي خلقت الفلك.
وبعضهم يقول: خلقت الأفلاك، والأفلاك هي التي تدير الكون -فنسأل الله السلامة والعافية- وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] كلام لا صحة له ولا دليل عليه لا من نقل ولا من عقل وإنما هي تخرصات وافتراضات.
فكلام الله أو الوحي عندهم هو الفيض الذي يحصل من العقول أو من النفوس الكلية إِلَى العقول أو النفوس الجزئية، العجيب في هذا الأمر أن أبا حامد الغزالي وهو الذي كتب كتابهتهافت الفلاسفة في الرد عَلَى الفلاسفة وإبطال مذهبهم هو نفسه: يقول إن الوحي هو انتقاش العلم من العقل الكلي أو النفس الكلية في العقول الجزئية؛ لأن أبا حامد الغزالي الذي كتب ضدهم والذي اشتهر عنه أنه ضد الفلاسفة في مواضع من كتبه، يقول: إن الوحي هو الفيض الذي يحصل من العقل الكلي إِلَى العقل الجزئي، أو انتقاش العلم من النفس الكلية إِلَى النفس الجزئية، وما أشبه ذلك.
ولهذا لما تعرض لذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ قَالَ: "إن كثيراً ممن قرأ لأبي حامد وجدوا أن الرجل يتناقض فإنه يرد عليهم في أمور وهو يقول بها في بعض كتبه حتى أنشد بعضهم في ذلك فقَالَ:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدنان
"
أي أنه: أحياناً يكون مع الفلاسفة، وأحياناً يكون مع المعتزلة ضدالفلاسفة، فَقَالَ في أول كتابالتهافت نَحْنُ نرد عَلَى الفلاسفة بكل قول، أي: بقول المعتزلة، وبقول الكرامية، وما أشبههم، ومعنى هذا أنه ليس لأبي حامد مذهب معين ثابت ينطلق منه من أول حياته إِلَى قريب من نهايتها. المهم أن يرد عليهم، ثُمَّ هو في موضع آخر يرد عَلَى المعتزلة، أو يرد عَلَى غيرهم، فكان يأخذ من كلامالأشعرية، ومن كلام المعتزلة، ومن كلام الكرامية، ويرد به عَلَى الفلاسفة ثُمَّ هو في نفس الوقت يرد عَلَى الأشاعرة في بعض المواضع وينتقدهم، ويرد عَلَى المعتزلة أيضاً ثُمَّ يوافقهم في بعض المواضع، مع أنه أكثر ما كَانَ يميل إِلَى الأشعرية، وهكذا كَانَ منهجه مضطرباً.
والذي يهمنا هنا أن نقول: كَانَ هذا المذهب هو مذهب الصابئة ومذهب المتفلسفة، والمنتسبين أيضاً إِلَى الإسلام من الفرق والطوائف التي اتبعتهم كالباطنية والإسماعيلية والنصيرية والدروز وأمثالهم.
والخلاف الذي بين الفلاسفة في تحديد هذه الأمور بالدقة هو أيضاً موجود بين الفرق الإسماعيلية والدروز.
وأيضاً وقع في هذه القضية أو تأثر بها أبو حامد الغزالي وهو ممن دخل في الفلسفة، ودخل أيضاً مع الباطنية، ثُمَّ ترك الطائفتين، ولكنه كما قال تلميذه الإمام أبو بكر ابن العربي دخل شيخناأبو حامد في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها، فقد بقيت آثارها فيه، ولم يستطع أن يتجرد ويتخلى منها بالكلية.
فهذا القول قول الصابئة والفلاسفة قول كفري يخرج من الملة لم يقل به إلا الخارجون عن الملة، وما وقع في كلام أبي حامد فهو من آثار ذلك مع أنه مؤمن مسلم، ويدافع عن الإسلام ولا يخرجه ذلك من الملة، ونريد التنبيه عَلَى هذا، وهذا قد يقوله من هو مسلم وإن كَانَ هذا القول في الأصل قولاً كفرياً لا يقول به أي مسلم فمن قال بالقول الأول فهو خارج من الملة ولا خلاف في ذلك أي أن المعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم يوافقوننا عَلَى أن من أثبت الكلام بهذه الصفة، ومن قَالَ: إنه هو سبحانه وتعالى مجرد علة تامة، أو أنه هو الذي خلق العقل الكلي، والعقل الكلي خلق سائر الكون، إِلَى غير ذلك، فإن هذا كافر وخارج عن الإسلام، وبعضهم ينتسب إِلَى الإسلام مثل ابن سينا، ولكن ابن سينا كان يظهر أنه شيعي رافضي، وهو في حقيقته فيلسوف لا يؤمن بأي دين من الأديان، ولو كَانَ فعلاً شيعياً فهو أيضاً حكمه كحكم الشيعة، هذا هو قول أُولَئِكَ القوم في مسألة كلام الله سبحانه وتعالى.
قول المعتزلة
وتقول المعتزلة: إن كلام الله مخلوق، خلقه الله منفصلاً عنه، وهذا هو القول الذي يجمع طوائفالمعتزلة عَلَى اختلافهم، وقد سبق أن ذكرنا السبب الذي أوقع المعتزلة في هذا الخوض.
ولما نشأ الخلاف بين المعتزلة وبين أهل السنة في هذه المسألة كما مرَّ معنا، وكانت الفتنة للإمام أَحْمَد رحمه الله ومن معه من علماء السنة، خرج القول الثالث، ولهذا يذكر العلماء من القواعد الأصولية: إذا اختلفت الأمة عَلَى قولين واستقر الخلاف بينهم عَلَى أحدهما، فالقول الثالث -الذي يحدث بعد ذلك- قول محدث مبتدع والقول الثالث -وسيأتي- كَانَ منبعه من هذه القضية.
اختلاف أهل السنة والمعتزلة في الكلام، فيقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، هو كلام الله عز وجل غير مخلوق، وتقول المعتزلة هو كلام مخلوق، وعلى هذا استقر الخلاف، وكانت الفتنة والمحنة والأذى والعذاب.
قول ابن كُلاب
وعبد الله بن سعيد بن كُلاب المعروف بالقطان، وقد ذكر عقيدته أبو الحسن الأشعري في آخر كتابه المقالات، وذكر أنه رجل أوتي جدلاً، وكان له باع طويل في النظر، ومن مآثره: أنه رد عَلَى المعتزلة والفلاسفة رداً قوياً، وأفحم كثيراً منهم وألزمهم.
لكن ابن كُلاب أخطأ عندما لم يكن ينطلق في ردوده من الكتاب والسنة، وإنما من قوة عقله وتفكيره، فقوة الذكاء والعقل والتفكير والجدل لا تكفي وحدها أبداً، فانطلق يرد عَلَى هَؤُلاءِ ويجادلهم ويفحمهم، فلما رأى الأمة منقسمة بشأن القول بخلق القُرْآن إِلَى هذين القولين، فكّر فخرج بقول جديد ثالث، وهو قول باطل مبتدع، فقَالَ: نقول إن كلام الله عَلَى نوعين: كلام النفس وحديث النفس، أو المعنى القائم بالنفس وهذا نقول: إنه قديم غير مخلوق، وأما الكلام المركب من الحروف والأصوات الموجودة في المصاحف فهذا نقول إنه مخلوق.
ومعنى قوله: خرجنا وسطاً لا مع أَحْمد بن حَنْبَل، ولا مع الذين عذبوا أَحْمد بن حَنْبَل، وهذا قول جديد.
وقَالَ: إن هذا القول أفضل وأحسن لكي يجمع الناس، ولذلك تجدون الكوثرى في تعليقاته عَلَى كتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر يقول لو أن أهل السنة اتبعوا عبد الله بن سعيد بن كلاب لاستراحوا من الفتنة، واستراحوا من العذاب، ومما نزل بهم من الأذى، فإن المسألة بسيطة ولا تحتاج إِلَى نقاش وجدال، إنما الشد والأخذ والجدل هو الذي دفع بعضهم بتطرف المعتزلة في جهة وبتطرف أهل الحديث من جهة، وإلا فالمسألة بسيطة. حلها هذا الرجل، وجمع ووفق بين القولين، أي كَانَ ابن كلاب قام بعملية صلح بين الطرفين فكلامك أنت بأنه مخلوق صحيح، لأنه في المصاحف مخلوق، وكلامك أنت الآخر بأنه غير مخلوق وصحيح؛ لأن المعنى الذي في ذات الله غير مخلوق، وانتهت المشكلة ولا تحتاج إِلَى جدال!!
ولكن المسألة ليست قضية صلح بين فريقين اختلفا في الكلام وأصلح بكلام، بل المسألة دين واتباع، وهذا القول الثالث فيه من الابتداع في الدين ما الله تَعَالَى به عليم، عَلَى أي شيء بنى ابن كلاب هذا القول، وتبعه في ذلك الأشعرية، وما يزالون عَلَى ذلك إِلَى اليوم، بنى قوله عَلَى أن الكلام ليس هو الحروف والألفاظ والأصوات، إنما الكلام هو المعاني القائمة في النفس، والدليل أن الأخطل الشاعر النصراني يقول:
إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما جُعْلِ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
فَيَقُولُ: إذاً فالكلام حقيقته أنه في النفس، وأما الألفاظ فهي دليل أو تعبير عما في النفس، ولذلك فكلام الله عز وجل هو ما في نفسه بناءً عَلَى هذا القول!!
ويقول: هذا الكلام الذي في النفس معنى واحد قائم بالذات، فالخبر والنهي والأمر كُلُّ هذه المعاني سواء، فإذا عُبِّرَ عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عُبِّرَ عنه بالعبرية فهو التوراة، وهكذا، فليس له حروف ولا أصوات، وليس هذا المسموع أو المقروء هو كلام الله سبحانه وتعالى لأن المعاني القائمة بنفس الله لا يمكن لأحد أن يسمعها، ولا يمكن لأحد أن يقرأها ولا يحفظها، وما نسمع ونحفظ ليس كلام الله عَلَى مذهب الأشعرية الكلابية والعياذ بالله.
واختلفوا بعد ذلك في هذه الألفاظ الموجودة، أو الكلام الموجود في المصحف من الذي عبَّر به أو من الذي حكاه.
يقول الباقلاني كما في رسالته الموسومة بالإنصاف أو "رسالة الحرة" كما تُسمى وقد علق عليها الكوثري يقول: "إما أن جبريل هو الذي عبر بهذه الحروف والأصوات أو أنه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم" انظروا إِلَى الباطل والابتداع إِلَى أي شيء يؤدي، فعلى هذا فما نقرؤه وما نتعبد به في صلاتنا ونتلوه من نظم جبريل أو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم. سُبْحانَ اللَّه! وأين كلام الله؟ قالوا: كلام الله: هو المعاني القائمة بالنفس فقط ومن هنا قال الطّّحاويّ رحمه الله: [فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه، وأوعده بسقر حيث قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، فلما أوعد الله بسقر لمن قال إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر] .
يقول شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ "إن الأشعرية في هذا الباب قد وافقوا الْمُشْرِكِينَ في نصف قولهم" فانظر كيف كانت عبارته دقيقة لم يقل: إنهم مثل الْمُشْرِكِينَ الذين يقولون: إن القُرْآن كلام بشر؛ بل يقول: إنهم وافقوا الْمُشْرِكِينَ في نصف قولهم، فالمعاني من الله، وأما الألفاظ فهي من كلام البشر من جبريل أو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فعجباً لابن كُلاب يستدل بيت لشاعر نصراني في صفات الله، وأعجبُ مِنْ ذلك أنَّ البيتَ محرفٌ.
وذلك أن الأخطل لم يَقُل إن الكلام لفي الفؤاد، وإنما قال إن البيان لفي الفؤاد، فالرواية المشهورة في نقل الرواة الثقاة عن الأخطل أنه قال:
إنَّ البيانَ لفي الفؤادِ وإنَّما جُعلَ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
والأخطل شاعر نصراني لا نأخذ بكلامه في مسألة من أمر ديننا، أنزلها الله سبحانه وتعالى وأوضحها في كتابه، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً، واعتقدها الصحابة والتابعون ومن بعدهم، فلم يحوجنا الله عز وجل في معرفة الحق إِلَى أن نلجأ إِلَى شاعر نصراني، ويجب أن نعلم أن من عقيدة النَّصَارَىالاعتقاد بأن كلام الله مخلوق، لا يُستغرب ذلك منهم؛ لأنهم يُؤلهون عيسى عليه السلام، ومنهم من يقول: مع أنه الكلمة فإنه مخلوق، ويفهمون كلمة عَلَى أنها صفة، فهذا لا يستغرب من النَّصَارَى، ولكن لم يحوجنا الله سبحانه وتعالى في مسألة العقيدة والدين إِلَى كلام أهل اللغة عامة، فضلاً عن كلام شاعر أو نصراني أو غير نصراني.
فالحق إذاً أن نأخذ ديننا من الكتاب والسنة، وما كَانَ عليه السلف الصالح لا ما يقوله هَؤُلاءِ وأمثالهم.
ثُمَّ إن الأدلة كثيرة جداً في إبطال قولهم: إن الكلام هو كلام النفس، وإثبات أن الكلام إنما هو الألفاظ أو الأصوات أو الحروف في حق أيُّ إنسان يُقال ذلك، ولهذا لا يأتي في القُرْآن ولا في السنة الكلام النفسي إلا مقيداً كما قال الله: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8] لو لم يقل الله تَعَالَى في أنفسهم، لفهمنا أنهم يصرحون بذلك لكن قوله: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ هنا مقيد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل) .
فلو أن إنساناً خطرت له شبهة شيطانية وحدث بها نفسه، فهل نجعله مثل من تكلم بها، ودعا إليها، وجاهر بها؟
الجواب: ليس هذا مثل هذا عَلَى قول ابن كلاب إن الكلام هو ما في النفس،. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في معاوية بن الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة:(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس إنما هي قرآن وذكر وتسبيح) فإذاً كَانَ حديث النفس كلاماً فكل مصلٍ يتحدث ويتكلم وعلى هذا فصلاة النَّاس باطلة، لأنه لا يخلو مخلوق إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى من أنه يحدِّث نفسه ولو في فريضة من الفرائض أو أكثر في العمر، فإذاً لو كَانَ كلام النفس هو الكلام الحقيقي، فعلى هذا القول فكل واحد صلاته باطلة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر ما يدور في النفس كلاماً، ولم يُسم الشرع ولا العرف اللغوي ولا لسان العرب حديث النفس كلاماً.
هذه بعض أدلة من أدلة كثيرة لا مجال للاستطراد فيها وقد يأتي بعضها بالتفصيل إن شاء الله في بيان بطلان مذهب الأشعرية الكلابية، وهو قولهم: إن كلام الله عز وجل هو المعاني، وأن حقيقة الكلام هو ما يقوم بالنفس، أو بالذات من المعاني، وأما الأصوات والحروف، فإنها مخلوقة لله سبحانه وتعالى كغيرها من المخلوقات!!
قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث
أن كلام الله حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث، وهذا القول من الأقوال التي نشأت بسبب الضلال والاضطراب والجدل والمناقشات، فخاض بعض النَّاس بآراء لم يتبينوا أدلتها، ولم يعرفوا حقيقتها، فقالوا إذاً نقول كل كلام الله سبحانه وتعالى قديم، فهو عبارة عن حروف وأصوات أزلية قديمة في الأزل، وهذا المذهب تبين بطلانه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لمَّا نادى موسى وخاطبه كَلَّمَهُ بِكَلامٍ سمِعهُ موسى عليه السلام، ولما كَلَّمَ الملائكة عندما اعترضوا عَلَى خلق آدم كما قال تَعَالَى خالياً عنهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] وجعلوا يسألون ويجيبهم الله سبحانه وتعالى فهل هذا الكلام في الأزل الذي لا بداية له؟ وهل كُلُّ كَلامٍ تَكَلَّمَ به الله سبحانه وتعالى أو أوحى به إِلَى نوحٍ، ثُمَّ هودٍ، ثُمَّ إبراهيمَ، ثُمَّ صالح، ثُمَّ موسى، ثُمَّ عيسى، ثُمَّ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، هل كل هذا كلام قديم لا أول لوجوده، مجتمعة حروفه وأصواته في الأزل، أم أنها كلام يأتي بعد كلام؟ وفي القُرْآن ما يرد ذلك، ويدل عَلَى بطلانه بأنه ينزل كلام بعد كلام ويأتي به جبريل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم مبلغاً ومؤدياً.
فالقول هذا إذاً ليس بمذهب مشهور معروف، وإنَّما هو من ضمن الأقوال التي نشأت أثناء المعارك الجدلية والخلافية، ولم تُبنَ عَلَى أساس علمي صحيح سليم.
قول الكرامية
تقول الكرامية: إن القُرْآن حروف وأصوات، ولكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن مُتكلِّماً.
إذاً قد يُقَالَ: ما الفرق بين مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وبين مذهب الكرامية؟
الفرق أن الكرامية يقولون: إن الكلام كَانَ ممتنعاً عليه؛ أي: أنه لم يتكلم ولم يكن موصوفاً بكلام ولا بخلق ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا رزق، ثُمَّ تحولت من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي فحدثت له قدرة وإرادة وكلام، سُبْحانَ اللَّه! كيف تضل هذه العقول إذا انحرفت عن هدي الله عز وجل فهذا الكلام الذي قالوه ما الدليل عليه: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143] قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] من الذي قال لكم أن الله عز وجل كَانَ كذا ثُمَّ صار كذا، هل يوجد دليل في كتاب الله أو في سنة رَسُول الله أو في كلام أحد من الصحابة؟ لا يوجد أبداً إنما هذه أهواء وظنون وتخرصات.
إذاً: فالفرق: أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يقولون إن الكلام كَانَ مستحيلاً عَلَى الله عز وجل ثُمَّ تكلم! وإنما يقولون -والعبارة دقيقة ولابد أن نحفظها ونفهمها- " إنَّ كلامَ الله سبحانه وتعالى قديمُ النوعِ حادثُ الآحاد أي: أن نوع الكلام قديم أو أزلي النوع، فالله سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً متى شاء كيف شاء، ولكنه متجدد الآحاد أنزل التوراة، ثُمَّ أنزل الإنجيل، ثُمَّ أنزل القُرْآن وقولهم: "ولكن نوع الكلام أزلي لا أول له".
أي: لم يكن الله عز وجل في الأزل غير متكلم ثُمَّ ظهر وبدا له الكلام وتحول من الامتناع إِلَى الإمكان، كما تقول الكرامية.
وقد سبق أن قلنا إن قولهم مندثر، فقد انقرضت هذه الفرقة ونسأل الله عز وجل أن تندثر وتنقرض كل الضلالات، وأن يمحوها سبحانه وتعالى ببرهان السنة والحق إنه سميع مجيب.
قول ابن ملكا ويميل إليه الرازي في المطالب العلية
يقول صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي إن كلام الله يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته.
وابن ملكا هو صاحب كتاب المعتبر ويسمونه أبو البركات ابن ملكا كَانَ يهودياً ثُمَّ أسلم ويقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ إن كل إنسان من هَؤُلاءِ الفلاسفة يتأثر بالبيئة التي نشأ فيها فإن ابن رشد نشأ بين الأشعرية الكُلابية ومن هنا اشتد عليهم.
فإذا قرأتم كتب ابن رشد تجدون أنه اشتد عَلَى الأشعرية جداً، وابن سينا نشأ في بيئة كلامية اعتزالية فاختلفت وجهته، وأما أبو البركات ابن ملكا صاحب المعتبر، فإنه نشأ في بغداد، وفيبغداد كانت قوة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بعد أن أظهر الله سبحانه وتعالى الإمام أَحْمد بن حَنْبَل وأيده بالحق، ودحر المعتزلة والمبتدعة وقهرهم وأذلهم، فبقيت في بغداد قوة عظيمة لأهل السنة إِلَى القرن التاسع الذين يسمونهم أحياناً الحنابلة، ويقولون في كتب التاريخ مثل الكامل لـ ابن الأثير -ومؤلفه متشيع.
ولذلك يقول: فتنة الحنابلة- يسميها فتنة- ويقول: في سنة كذا هجم الحنابلة عَلَى بغداد أو عَلَى الشوارع، فضربوا القيان، وكسروا القنان والخمور وأراقوها، وكسروا آلات اللهو وفعلوا وفعلوا -يتكلم عليهم- فبقيت لهم قوةٌ وبَقي لهم وجود، وابن ملكا نشأته في بغداد جعلته أقرب المتفلسفة إلى الحق، فهو يثبت من الصفات كثيراً مما ينفيه ابن رشد وابن سينا، فكتاب ابن ملكا موجود مطبوع طباعة هندية ولكنه نادر، والقليل من يهتم بمثل هذه الأمور أو يقرؤها.
وأما الرازي فقد يطول الحديث عنه، وهو من أكبر أئمة الأشعرية بل هو إمام المتأخرين؛ لأن الأشعرية الكلابية لهم ثلاثة أئمة أبو الحسن الأشعري وهو أول من أسس المذهب قبل أن يرجع إِلَى السنة، ثُمَّ أبو بكر الباقلاني وهو من تلاميذ تلاميذه، ثُمَّ الفخر الرازي،.
وأحياناً يقول شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ وغيره من العلماء: قال الفخر، وكذلك الذهبي في الميزان في حرف الفاء يقول مثلاً ترجمة الفخر، هذا الفخر هو فخر الدين الرازي.
وأحياناً يقولون: هذا مذهب ابن الخطيب؟ وهو الفخر الرازي وهذه قد تخفى عَلَى البعض، فيقال هذا مذهب ابن الخطيب أو قال ابن الخطيب. فقد كَانَ أبوه خطيب الري فسمي ابنه ابن الخطيب، هذا مما ينبغي أن نعرفه عن الرازي.
ويعتبر الفخر الرازي متمكناً في العقليات والجدليات، كما يلاحظ في كتابه التفسير الكبير، ولكنه كَانَ مرتكباً لأخطاء كبرى في الأصول التي بنى عليها مذهبه، ومن أخطر الأصول التي جَاءَ بها الرازي ونقلها واتبعها واتخذها قدوة وهدى وإماماً من بعده: القول بأنه إذا تعارض العقل والنقل فإننا نقدم العقل.
ولهذا فإن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ حينما ألف كتابه الكبير العظيم المشهور درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول رد عَلَى هذا المبدأ، وعلى هذا القانون، وقد قال به قبل الرازي أناس، ولكن الرازي هو أكثر من أشهر وأظهر هذا القانون، وعليه بنى عضد الدين الإيجي كتابهالمواقف، ثُمَّ بقي أصلاً من أصول القوم وهو من أخبث الأصول التي هدم بها الكتاب والسنة.
وكتب الرازي كتاباً آخر هو أكبر وأقوى كتاب في الشبهات في نفي صفات الله سبحانه وتعالى، وهو كتابأساس التقديس.
وهو الذي نقضه شَيْخ الإِسْلامِ في كتابه نقض التأسيس، وهو الكتاب المعروف المطبوع وإن كَانَ المطبوع منه ما هو إلا جزء منه، وقد كَانَ الدكتور مُحَمَّد رشاد سالم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وهو قد توفي منذ حوالي أسبوعين كما بلغنا يعمل في تحقيق هذا الكتاب، فيكون آخر ما حققه الدكتورمُحَمَّد رشاد سالم رحمه الله هو كتابنقض التأسيس، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون قد أكمله ليخرج، لأن الموجود الآن ليس بكامل فشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ لما أراد أن يرد عَلَى شبهات منكري الصفات، رد ونقض أقوى كتاب جمعوه وألفوه كما يشهد لذلك ترجمة الرازي في كتاب طبقات الشافعية
لـ ابن السبكي، حيث جعله أعظم الأئمة وأثنى عليه بمدح عظيم.
أنه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وسادسُها: أن كلامه يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي في المطالب العالية]
وذكرنا أن صاحب المعتبر هو أبو البركات ابن ملكا البغدادي وأنه من الفلاسفة الذين يدعون إِلَى الفلسفة والكلام؛ لكنه كَانَ أقرب إِلَى السنة من أكثر الفلاسفة، كما بيّن ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في منهاج السنة يقول: إن الفلاسفة يتأثر كل واحدٍ منهم بحسب البيئة التي عاش فيها فابن رشد نشأ في بيئة كلابية أشعرية؛ ولهذا يكثر في كتب ابن رشد نقد الأشعرية بشدة، ومن ذلك نقدهللغزالي فلما كتب الغزالي تهافت الفلاسفة ردَّ عليه ابن رشد بكتاب تهافت التهافت.
أما ابن سينا فإنه نشأ بين المعتزلة والشيعة وذكرنا أن ابن سينا هو في أصله شيعي من الإثنى عشرية الرافضة؛ ولكنه في حقيقته باطني زنديق فهو من الشيعة الغلاة القرامطة العبيديين
وأما أبو البركات ابن ملكا فإنه نشأ في بغداد حيث السنة والحديث، فتأثر بتلك البيئة فكان أخف المتفلسفة وأقربهم إِلَى منهج الحق والصواب بخلاف أُولَئِكَ الذين أوغلوا في التجديدات عَلَى طريقة الفلاسفة اليونان، وكتابه المعتبر هو في علم الكلام.
وأما الرازي فالمقصود به هنا: صاحبالمطالب العالية وهوفخر الدين الرازي عبد الله، ويُقال له ابن الخطيب أو ابن خطيب الري؛ لأن أباه كَانَ خطيبَ الري، ثُمَّ ورث الخطابة أيضاً بالري من بعده، فإذا جَاءَ في أحد الكتب قال الفخر أو قال ابن الخطيب، فالمقصود به هذا.
وإذا قيل: قال الرازي والرازي نسبة إلىالري، فمن كَانَ من العلماء أو المتكلمين أو الفقهاء من أهل الري فإنه يُقال له رازي، وهي نسبة من حيث اللغة خاطئة؛ لأن النسبة إِلَى الري ريي وليست رازي، ولكن هذا جرى عليه الاصطلاح.
وإذا قيل الرازي في علم الكلام أو الفلسفة خاصة فإنه يحتمل اثنين:
إما الفخر الرازي.
أو الطبيب أبو زكريا الرازي المشهور بالطب أكثر منه في علم الكلام، أو في التفسير أو في الدين، ولكن التمييز بينهما ممكن واضح بأمور:
أولاً: أنأبا زكريا الرازي الطبيب توفي سنة 311هـ، بينما الفخر الرازي توفي سنة 606هـ، فهناك ثلاثة قرون بينهما، فهذا مما يعين عَلَى معرفة صاحب القول.
ثانياً: أنه إذا كَانَ في موضوع الفلسفة البحتة الإلحادية وفي مجال الطب أو ما يسمى بالعلوم الطبية أو العلوم الطبيعية، إذا أطلق الرازي فهو الرازي الطبيب وقد كَانَ زنديقاً مُلحداً -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا الذي يفتخر به الباحثون في العلوم أو في الطب، ويقولون: إنه ممن أسهم من الْمُسْلِمِينَ في تقدم البحث، فهذا هو الطبيب وليسالرازي فخر الدين المفسر المتكلم.
وهو بلا شك مفخرة للإسلام في ظل حكم الإسلام وفي ظل حضارة الإسلام، أن ينبغ أي إنسان في أي مجال أو أن يخترع أو يكتشف أو يتفوق، حتى لو فرضنا أن هذا الإِنسَان يهودي أو نصراني؛ ولكنه نبغ في ظل الدولة الإسلامية أو العالم الإسلامي، واشتهر واخترع وابتكر، فهذا مفخرة للحضارة الإسلامية؛ لأن المكتشفين والمخترعين في الغرب، في ظل حكم الكنيسة النصرانية قبل القرن السادس عشر والسابع عشر كانوا يتعرضون للحرب والإعدام والصلب والسجن، وأمثال ذلك من العقوبات.
لكن في ظل سماحة الإسلام ويُسره تتقدم وتنمو، أو تترقى هذه العلوم من طب أو هندسة أو فيزياء أو رياضيات أو ما أشبه ذلك، وإن كَانَ المبدع فيها ليس مسلماً، فإن الفضل للإسلام وللحضارة الإسلامية، فابن سينا أوالرازي هذا الطبيب كلاهما كَانَ مُلحداً زنديقاً بلا شك؛ ولكن علمهم وأمثالهم هو من إنتاج الحضارة الإسلامية، أي: ما أبدعوه في جانب الرياضيات والطب وغيرها فالفضل يعود فيه للإسلام، ولا نتكلم في جانب الإلهايات والعقيدة؛ لأنه مردود عليهم قطعاً، والمقصود أن الرازي الذي هو فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير وصاحب الأصول هو صاحبالمطالب العالية الذي ذكره المُصْنِّف هنا.
عيبان ظاهران في كتب الرازي
ومن عجائب الفخر الرازي التي ذكرها عنه العلماء أنه يورد الشبهة ويستدل لها، ثُمَّ لا يستطع أن ينقضها، ولهذا قال بعض العلماء: إنه يأتي بالشبهة نقداً، ويجعل الجواب عنها نسيئة، فالذي يقرأ كتبه قد يتشكك من إيراد الشبهات؛ ولكنه لا يجد الرد عليها، فالرازي كَانَ أولاً يطول النفس في الكتابة ثُمَّ ينقطع، فطول نفسه يذهب في إيراد الشبهات، فإذا أراد أن يُجيب كَانَ قد تعب فلا ينقض هذه الشبهات، ولهذا قيلت فيه هذه العبارة.
وهناك ظاهرة أخرى موجودة وملحوظة في كتبه وهي التناقض والافتراض، وهذه تهمنا هنا فالرازي في موقفه من قضية الكلام -التي هي موضوع حديثنا- مضطرب ومتناقض في عدة كتب من كتبه وقد كتب أحد الباحثين بحثاً طويلاً بعنوان فخر الدين الرازي وآراءه الكلامية فأقر هذه النتيجة أن الرازي مضطرب متردد متقلب في موقفه من العقيدة ومن علم الكلام خاصة.
فمثلاً في بعض كتبه يقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام قديم وهو المعاني القائمة بالنفس، وكلام حادث مخلوق وهو: الألفاظ والحروف والأصوات، وهذا هو مذهب الكلابية.
وفي بعض كتبه يصرح بأن القُرْآن مخلوق، وأن الكلام لا يمكن أن يكون إلا مخلوقاً، وهو بذلك يشبه المعتزلة فهو مرة أشعري ومرة معتزلي.
وفي كتب أخرى ينقض قول المعتزلة، وينقض قول الأشعرية، ويُقرر كلاماً من نوعٍ آخر، وهنا كما فيالمطالب العالية ذكر هذا الكلام: أن كلامه -تعالى- يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته فيقول الرازي: إن كلام الله لا يخلو أن يكون خبراً أو إنشاءً أمراً أو نهياً فمثلاً أمر الله في شيء ليس هو كلامه الذي يأمر به، وإنما إرادته وإخباره بأنه سوف يثيب من فعل كذا وكذا، ونهيه عن شيء هو إرادته وإخباره بأن من فعل كذا وكذا فسوف يعاقب، وهذا القول نقده الأشعرية أنفسهم الذين يدعون أن الرازي من أعظم أئمتهم وهو - كما قلنا - إمام المرحلة الثالثة من مراحل تطور المذهب الأشعري حتى أن الشركساني صاحب المقاصد ذكر ذلك وقَالَ: إن هذا القول ضعيف؛ بل قَالَ: وهذا ظاهر الضعف؛ لأن إرادة الثواب للمطيع الممتثل للأمر، أو إرادة العقاب لمرتكب النهي هذه لوازم الأمر والنهي أو من نتائجه، وليست هي الأمر والنهي فإذا هذا الوجه ظاهر الضعف.
وكما أشرنا إِلَى أن المذاهب الرئيسة هي الثلاثة التي ذكرناها:
مذهب المعتزلة.
ومذهب الأشعرية الكلابية.
ومذهب السلف.
وقول الرازي يعد من فروع مذهب الأشعرية الكلابية، وإن كَانَ أراد أن يتفلسف فيه قليلاً، لكن المذهب نفسه فيه التناقض والاضطراب، وهذا الذي حصل ووقع للرازي من بدايته، فقد تأرجح الرازي بين كونه فيلسوفاً، وبين كونه معتزلياً، وبين كونه أشعرياً، وفي آخر عمره يقول في وصيته وفي بعض كتبه: إن منهج القُرْآن هو الصحيح، وهو صاحب الأشعار التي يقول فيها:
نِهَايةُ إِقْدَامِ العقولِ عِقَالُ وغَايةُ سعي العَالمِينَ ضلالُ
وَلم نستَفِد مِنْ بحثِنَا طوُلَ عُمرِنَا سِوَى أنْ جَمعنَا فيه قِيلَ وقالوا
هو الذي اعترف بذلك في قصيدة له ضمن أقسام اللذات، وأوصى عند موته بطريقة القرآن، وقَالَ: رأيت المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية فما وجدتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ووجدت أفضل الطرق طريقة القُرْآن أقرأ في الإثبات قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2،1] والرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] واقرأ في النفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فهو في آخر أمره رجع إِلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهذا ما حصللأبي حامد الغزالي، وحصل مثله للجويني الذي سيأتينا مذهبه وهو المذهب الثامن.
وهذا الاضطراب الذي يقع فيه أكثر أئمة الأشعرية، ومنهم أبو الحسن الأشعري نفسه الذي انتقل من قول إِلَى قول؛ يدلنا عَلَى حيرة المتكلمين عموماً، ولا سيما المتكلم الذي يريد أن يوفق بين الفلسفة، والمنطق والكلام الذي هو كلام اليونان وأمثالهم؛ وبين الكتاب والسنة، فمن كَانَ لديه حظ من الكتاب السنة ومحبة للكتاب والسنة كما كَانَ هَؤُلاءِ، لكنه في الوقت نفسه لديه قناعة بصحة كلام الفلاسفة وأمثالهم؛ نجد أنه يضطرب ولا يزال عَلَى هذا الاضطراب حتى يتمحص في الأخير لأحدهما، فالجويني أبو محمد رجع إِلَى عقيدة السلف، وابنه أبو معاذ الجويني رجع إليها، وألف الرسالة النظامية، ومن قبل رجع أبو حامد الغزالي، والرازي؛ لكن بعضهم لم يرجع وإنما اضطرب وتخبط وتناقض، فهذا التناقض ظاهرة عامة.
ولذلك نجد هنا أن المذهب السادس، والسابع، والثامن، والرابع، هي في الحقيقة ترجع إِلَى المذهب الثالث، وهو المذهب الأشعري الكُلابي، وقد يكون السبب -والله أعلم- في هذه الحيرة أنه لضعف الحجج التي يحتج بها الأشعرية إذا أتي المعتزلي رد عليها ونسفها، فنتيجة لهذا الضعف يضطر أصحاب هذا المذهب أن يبحثوا عن تعليلات وعن تخريجات، ومن هنا كثرت الأقوال المتشعبة من هذا المذهب بل يمكن أن نعتبر منها أيضاً المذهب السابع الذي هو مذهب الماتريدية.
إذاً المذهب السادس لا يُخالف أصحابه في أن القُرْآن مخلوق، فهم يقولون: إنه مخلوق، وإنما كلامهم في وصف حقيقة الكلام النفسي، وكفى بذلك بدعة وضلالا نسأل الله السلامة والعافية.
السابع أنه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره
قَالَ المُصْنِّفُ رحمة الله:
[وسابعُها أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قولأبي منصور الماتريدي] .
أبو منصور الماتريدي هذا رجل من الحنفية من أصحاب الرأي، عاش في بلاد ما وراء النهر، وتوفي في منتصف القرن الرابع حوالي سنة 350هـ، وهو إمام الطائفة والفرقة المسماه بالماتريدية، وهذه الفرقة أقرب شيء إِلَى الأشعرية، إلا أن بين الفرقتين خلافات أكثرها كلامي نابع من الاجتهادات الكلامية البحته، وليس في قضايا النصوص وفي معرفة الأدلة، المهم أن أبا منصور الماتريدي هذا ينتمي إِلَى الإمام أبي حنيفة بحكم أنه حنفي، ويدعي أن ما هو عليه من المذهب هو مذهب الإمام أبي حنيفة.
ولهذا نجد أن المُصْنِّف رحمه الله يقول في نفس البحث، بعد حوالي أربع ورقات أو خمس في آخرها، يقول لما ذكر كلام الإمام أبي حنيفة في الفقة الأكبر:[والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقرائتنا له مخلوقه، والقرآن غير مخلوق]
لما ذكر المُصْنِّف هذا قال في شرح هذا الكلام: ففهم منه -يعني من كلام أبي حنيفة - ففهم منه الرد عَلَى من يقول من أصحابه: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء.
وسيأتي هذا إن شاء الله ونشرحه في موضعه، والمقصود أن قول الماتريدي قد شرحه المُصْنِّف بعد هذه الصفحات في هذا الموضع، وهو أن كلام الله سبحانه وتعالى معنىً قائماً بنفسه تعالى، ولا يمكن أن يسمع ولا يتصور أن يسمع، فليت شعري يا أبا منصور فماذا سمع موسى عندما كلمه الله؟
ويقول: إن هذا خلقه الله، خلق الله الألفاظ وخلق الأصوات والحروف، وأما حقيقة الكلام النفسي فإنه لا يمكن أن يسمع لكن يطلق الكلام عند أبي منصور الماتريدي على المعنى الحقيقي الذي هو المخلوق، ولكن المخلوق يتضمن المعنى النفسي، وهذا هو الفرق بينه وبين المذهب الثامن.
والمذهب الثامن يرى أن الإطلاق مشترك؛ فإذا قيل كلام الله، فإنه مشترك بين النفسي والحروف والأصوات بزعمهم، أما هذا فَيَقُولُ: كلامه هو ما خلقه في غيره لكنه يتضمن ما في نفسه، وليس عَلَى هذه الأقوال من دليل إلا الابتداع والظن واتباع الرأي، فيجهد الواحد منهم نفسه الليالي والأيام ليخرج برأي باطل، ولو أنهم اتبعوا الكتاب والسنة، وسألوا علماء الإسلام لما كَانَ نهاية فعلهم الوبال والضلال نسأل الله السلامة والعافية.
فهل سمعت أو قرأت لأحد ممن اشتغل بعلم السنة ولم يشتغل بقيل وقال، وإنما اشتغل بكلام الله وكلام رسوله، وكلام علماء السلف، مثل الإمامأَحْمد بن حَنْبَل ومالك والشَّافِعِيّ وأبي حنيفة والفضيل وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة وأمثال هَؤُلاءِ الأعلام، هل سمعت أحداً نشأ عَلَى كتبهم، وتربى عَلَى أقوالهم، وقرأ سيرهم وأحوالهم، شكى الاضطراب أو التناقض أو الحيرة، أو رجع عن ذلك -والعياذ بالله- إِلَى الفلسفة، أو إِلَى عكس ما كَانَ عليه؟ لا يوجد أبداً، وإنما يعيش الواحد منهم ويموت وهو مرتاح البال، مطمئن واثق من دين الله عز وجل.
الثامن: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات
قَالَ المُصْنِّفُ رحمة الله:
[وثامنُها: وهو أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهو قول أبي المعالي ومن تبعه]
أبو المعالي هو الذي تمنى عند موته أن يموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، وكان من بلدة نيسابور.
صحيح أن عقيدة عجائز نيسابور خير، وأفضل من عقيدة أهل الكلام وأهل الحيرة والضلال والشك -عافانا الله وإياكم- من ذلك؛ لكن أليس هناك ما هو أفضل من دين العجائز، أو عقيدة العجائز؟
بلى عقيدة الراسخين في العلم، لماذا لا نتمنى أن نموت عَلَى عقيدة الراسخين في العلم؟ الذين قال قائلهم لو كشف لما ازددت يقيناً، وقال الآخر: لو أني رأيت الجنة والنَّار لما كَانَ إيماني بها أقوى من إيماني بها الآن، قيل: وكيف ذلك؟
قال لأني رأيتهما بعيني النبي صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى يقول: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] ، ولو رأيتهما بعيني لربما زاغ بصري أو طغى، فسُبْحانَ اللَّه ما أعظم التمسك بالسنة، وما أبعده عن الشك والريب!
بل هو اليقين كله والطمأنينة كلها والخير كله؛ أما هَؤُلاءِ فتجد الحيرة والتخبط والتناقض، كما هو ظاهر في أقوالهم، ولو أننا نسترسل في حكاية أقوالهم وفي تفصيلها، لمللت وسئمت من كلام معقد لا طائل تحته، ولا دليل عليه -نسأل الله العافية- ولكن نحاول أن نشرح بقدر ما نفهم الفكرة في الجملة ونستوعبها.
وأبو المعالي الجويني هذا هو الملقب بإمام الحرمين وهو شيخ أبي حامد الغزالي، من أسباب خطأ الجويني في أول حياته أنه كَانَ جاهلاً بعلم الحديث، ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ إنه لما ألف كتاباً كبيراً في مذهب الشافعية -لأنه كَانَ شافعي المذهب- لم يأت فيه بحديث صحيح إلا حديثاً واحداً.
وهذا الحديث عزاه للبخاري وليس فيه؛ لكن لو سُئل في علم الكلام، أولو قرأت كتاب الإرشاد، وهو مطبوع، لوجدت أنه مطلع عَلَى علم الكلام، وعلى الأقوال وعلى هذه الفلسفات والأمور التي لا خير فيها، ولا ثمرة ترجى منها، ولهذا رجع الجويني في آخر الأمر إِلَى عقيدة السلف في الجملة، وذلك في الرسالة النظامية، وإن كَانَ هو يظن أن السلف يفوضون المعنى، لكن يكفي أنه هدم المذهب الأشعري الذي كَانَ عليه هو وأصحابه، وهو التأويل.
وقَالَ: ""لما رأينا أن السلف والصحابة والتابعين ومن بعدهم مطبقون ومجمعون عَلَى عدم التأويل"" وهذه حقيقة، فلا يوجد أبداً في الصحابة ولا في التابعين مؤول عَلَى الإطلاق، قَالَ:""وهم أزكى النَّاس وأعلم النَّاس وأحفظهم للدين"" هذا معنى كلامه، ""فلو كَانَ التأويل حقاً لسبقوا إليه ولكانوا أولى النَّاس به"" وهذا كلام صحيح.
فترك التأويل وقال في صفات الله: نثبتها ونفوضها، بينما التفويض عند السلف في الكيفية فقط، والسؤال عن ذلك بدعة، والله عز وجل هو الذي يعلم ذلك، لكن نثبت المعنى، فالاستواء مثلاً معناه معلوم وهو: استقر، وعلا، وارتفع، وصعد، كما ذكر السلف، وهذا معنى معروف في لغة العرب؛ لكن الكيفية أمرها إِلَى الله في جميع الصفات، ونحن نجهل كيفية صفات الله عز وجل مثلما نجهل ذاته، وصفاته فرع عن ذاته، وأما إثبات الصفات، ومعرفة معناها، فإننا نعرف معناها، ونرى آثار الرحمة، ونفرق بين الرحمة وبين الحكمة وبين العلم. لأن لكل منها معاني وآثار كل منها تختلف في لغة العرب.
والشاهد أن أبا المعالي فوّض بإطلاق، فقول أبي المعالي وهو القول الثامن، هو أن كلام الله مشترك، بين المعنى القائم بالنفس، وبين المخلوق الذي هو الحروف والأصوات، لا كما يقول الأشعرية أن الكلام فقط هو ما في النفس، فكأن أبا المعالي جدد كلام ابن كلاب، فابن كلاب يقول: هو ما في النفس فقط، وأما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، مثل أي خلق من مخلوقات الله، لا يطلق عليها كلام الله، وأبو المعالي يطلق كلام الله عَلَى النوعين عَلَى كلام الله الذي هو ما في نفسه من المعاني، وعلى كلام الله الذي هو ما خلق.
التاسع: مذهب أهل السنة
المذهب التاسع هو الذي يهمنا، وينبغي أن نفهمه ونعرفه الآن بالجملة، ثُمَّ نأخذ تفصيله إن شاء الله قليلاً قليلاً في أثناء البحث. قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وتاسعها: أنه تَعَالَى لم يزل متكلماً، إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وهو يتكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة]
مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله سبحانه وتعالى يتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، وأن الله يتكلم بصوت يسمعه من يريد اللهُ تبارك وتعالى أن يسمعهم ذلك الصوت، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء في الأزل في ما لا أول له أو في ما لا نهاية له كما شاء، لا حجر عَلَى ذلك أبداً، وهذه العبارة رد عَلَى الكرامية أصحاب المذهب الخامس الذين قالوا: إن الكلام تحول من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، أي كَانَ ممتنعاً ثُمَّ تكلم ويتفلسفون في ذلك، كما ذكرنا في قضية حوادث لا أول لها، لكن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنه سبحانه وتعالى يتكلم كما يشاء في أي وقت شاء، وكذلك في الأزل فيما لا أول له، فالنوع قديم، وأما آحاد أو أعيان الكلام فإنها متجددة -مثلاً- أن الله سبحانه وتعالى لما كلم موسى هل كلمه بما كلم به الملائكة لما خلق آدم؟ لا.
إنما تكلم مع الملائكة، ثُمَّ تكلم مع موسى، وهكذا نجد أن سبحانه وتعالى يخاطب من شاء ويتكلم سبحانه وتعالى كما يشاء متى شاء، وأما الكيفية فكما قلنا في جميع الصفات: إن كيفية كلام الله سبحانه وتعالى أمر لا يستطيع العبد أن يدركه، وإنما نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام بالصوت الذي يسمعه المخاطب الذي يريد الله سبحانه وتعالى مخاطبته وإعلامه وإفهامه به، كما سيأتي إن شاء الله في تفصيل الأدلة عَلَى ذلك، والمقصود أن نعلم أن هذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
قَالَ المُصْنِّفُ رحمة الله:
[وقولُ الشيخ رحمه الله: وإنَّ القُرْآن كلامٌ الله "إنّ" بكسر الهمزة عطفٌ عَلَى قولهِ: "إنّ الله واحد لا شريك له" ثُمَّ قَالَ: وإنَّ محمداً عبده المصطفى، وكسر همزة (إنّ) في هذه المواضع الثلاثة لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله.
وقوله: كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً، رد عَلَى المعتزلة وغيرهم، فإن المعتزلة تزعم أن القُرْآن لم يبدُ منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يُحرِفوُن الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل.
فإنَّ المضافَ إِلَى الله تَعَالَى مَعَانٍ وأَعْيَان، فإِضَافةُ الأعيان إِلَى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره، فإن هذا كلُّه من صفاته، لا يُمكن أنَّ يكون شيء من ذلك مخلوقاً] اهـ.
الشرح:
القاعدة في اللغة العربية أن الهمزة بعد القول تكون مكسورة دائماً، وهذا يقول:[وإن القُرْآن كلام الله] هذا عطف عَلَى ما سبق في أول العقيدة، ثُمَّ يقول:[منه بدا بلا كيفية] أي نَحْنُ لا نفسر الكيفية ولا نعرفها وقوله: [بدا] يمكن أن تكون [بدأَ] من البدء، ويمكن أن تكون [منه بدا] أي ظهرَ، والذي مشى عليه المُصْنِّف رحمه الله هو أن كلمة بدا من بدا يبدو، وبعض العلماء يقول:"منه بدأَ وإليه يعود" فالعبارة هنا بعد ذكر [وإليه يعود] يترجح أن تكون بدأَ من البدء لأن البدأَ يقابله العودة، لكن الإمام الطّّحاويّ هنا لم يذكر كلمة [وإليه يعود] وإن كَانَ هو يؤمن بها، فبقي الأمر محتملاً للاحتمالين.
والذي يبدوا لي أن المُصْنِّف اختار كلمة بدا أي ظهر، ولم يختر كلمة بدأ؛ لأن الحنفية شرحوا العقيدة الطّّحاويّ ة شرحاً ماتريدياً، وقد ألمحنا إِلَى ذلك فيما سبق، فإذا قَالَ:"منه بدأ" أي منه ابتدأ، فقد يفهم بعضهم أنه قبل ذلك لم يكن متكلماً، أو أنه ابتدأ الكلام، وأن جنس الكلام، أو نوع الكلام ليس بقديم، فحتى يزيل هذا الإشكال مال إِلَى قوله [منه بدا] مع أن هذا الإشكال له جوابه، وليس هذا موضعه، لكن فيما يبدو من اختيار المُصْنِّف أنه تعمد أن يختار "بدا" ولم يشر إِلَى "بدأَ" لأنه يقول:"وإلى هذا أشار الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بقوله: "منه بدا بلا كيفية قولاً" أي ظهر منه، ولا ندري كيفية تكلمه به.
وأكّد هذا المعنى في قوله "قولاً" فأتى بالمصدر المعرف للحقيقة؛ كما أكد الله تَعَالَى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ونجد أن المُصْنِّف رحمه الله عندما يتكلم في أصحابه الحنفية يذكر أنهم قالوا: إن إطلاق الكلام عَلَى القُرْآن هو من قبيل المجاز، فكأنه أراد أن يأتي بمعنىً لا يحتمل الشبهة ولا الشك ولا المجاز، فقَالَ:[منه بدا] أي ظهر منه كما سيأتي.
شبهة المعتزلة والجواب عليها:
تقول المعتزلة إذا قلنا: إن القُرْآن كلام الله، لا يمنع أن يكون مخلوقاً.
ودليلهم أنهم قالوا: نَحْنُ نقول بيت الله والبيت مخلوق، وناقة الله والناقة مخلوقة، إذاً كلام الله مخلوق، وهذه شبهة تبدو قوية.
لكن -والْحَمْدُ لِلَّهِ- الجواب عليها واضح وسهل، فقد أجاب عليهاالسلف بأن ما يضاف إِلَى الله عَلَى نوعين: معانٍ وأعيان، الأعيان أي الأشياء الحسية، وهذه واضحة أنها مخلوقة، مثل بيت الله الكعبة، وناقة الله، وماء الله، وأي شيء نضيفه إِلَى الله عز وجل من الأشياء الحسية فإن هذا يكون من الأعيان، وتكون الإضافة هنا للتشريف.
وإذا أضيفت المعاني إِلَى الله تَعَالَى مثل حياة الله، حكمة الله، علو الله، عزة الله، فهي صفات، فإذا قلنا: حكمة الله فالمقصود بها صفة الله التي هي الحكمة، ورحمة الله أي: الصفة التي يتصف بها الله عز وجل، وكلام الله أيضاً معناه الصفة التي يتصف بها الله، فهي ليست مخلوقة، وإلا للزم عَلَى كلام المعتزلة أن جميع صفات الله مخلوقة، لأننا نقول: رحمة الله، وعلم الله وحياة الله، فهل حياة الله مخلوقة والعياذ بالله؟ حتى هم لا يقولون ذلك؛ فعُلم أن قول المعتزلة هذا ظاهر الفساد وظاهر البطلان، ولا بد أن نفرق بين الأعيان وبين المعاني، فما أضيف إِلَى الله عز وجل من الأعيان أي من الذوات فهذا يضاف للتشريف، فمثلاً كل النوق خلقها الله فكلها نوق لله، لكن عندما نقول: ناقة الله (بالذات) فهذه فيها إضافة تشريف، لأن هذه الناقة أخرجها الله سبحانه وتعالى لتكون آية لثمود، فهي تختلف عن أي ناقة أخرى ولدت بطريقة طبيعية، كما شاء الله عز وجل أن يطبع المخلوقات في التناسل والتتابع.
وبيت الله مثلاً، كل البيوت بيوت الله، والمساجد (بالذات) بيوت الله فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36] لكن إذا قلنا: بيت الله فإن التشريف هنا يحصل للكعبة أول بيت وضع للناس، وهكذا مثلاً رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذات معينة مخلوقة فنقول: رَسُول الله هنا للتشريف صلى الله عليه وسلم.
أما إذا قلنا: حكمة الله، حياة الله، علم الله، ومنها كلام الله؛ فلا يمكن أن يكون هذا مخلوقاً وإنما هي صفات، ولذلك لا نضيف إِلَى الله إلا الحق لأننا إذا أضفنا إليه شيئاً فإن هذا يدخل ضمن ما يوصف به الله في الجملة، وهذه الشبهة الأولى من شبهات المعتزلة:
ونقضها قول المُصْنِّف رحمه الله:
[والوصفُ بالتكلُّم مِنْ أوصافِ الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] .
فَكَانَ عُبَّادُ العِجْلِ مع كُفْرِهم، أَعْرَفُ باللهِ من المعتزلة، فإنَّهم لَمْ يقولوا لِموسى: وَرَبُكَ لا يتَكَلمَ، أيضاً.
وقال تَعَالَى عن العجل أيضاً: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه: 89] فعُلِمَ أَنْ نفي رَجع القولِ، ونفي التَكلِيم نقصٌ يُستَدلُ بِهِ عَلَى عْدَمِ ألوهيةِ العِجل] اهـ.
الشرح:
هذا أحد الأدلة البرهانية التي تؤمن بها العقول السليمة، والفطر القويمة، ومن خلالها نثبت أن الله عز وجل متكلم، وهو أن الكلام وصف كمال، بخلاف الخرص فإنه وصف نقص وعيب وذم، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة وهي كل ما كَانَ صفة كمالٍ بإطلاق أي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله تَعَالَى أولى به من المخلوقين، حتى لو كانت هذه الصفة في المخلوق.
وقيدنا بقولنا: "على الإطلاق"؛ لأن من الصفات ما تكون كمالاً في المخلوق، وهي لا تليق بالخالق كالنكاح مثلاً فإن المخلوق الذي يتزوج أكمل من المخلوق العاقر، أو العقيم، أو الذي لا يتزوج؛ لكن هذا في حق الله -عز جل- يكون نقصاً، فلذلك قيدنا وقلنا "لا نقص فيها بوجه من الوجوه" أو "لا نقص فيها عَلَى الإطلاق" ومن ذلك أنه جل شأنه مُتَكلِّم؛ لأن صفة الكلام ممدوحة وهي كمال في حق المخلوق، والدليل عَلَى ذلك قوله تبارك وتعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] فدلت الآية عَلَى أن الإله الحقيقي يتكلم، ويأمر وينهى ويشرع، أما هذا الذي لا يتكلم ولا يهديهم سبيلاً فكيف يتخذُّ إلهاً؟
وهنا أمر دقيق نريد أن ننبه عليه وإن استطردنا لكنه مهم، وهو أن الذين يدخلون في قضية لم يرد فيها شيء من الكتاب والسنة ويتعبون أنفسهم فيها، وهي قضية التجسيم، فيقولون: ما ثبت أنه جسم فليس بإله، نقول: ففي هذه الحالة عباد العجل ألم يكن العجل جسداً موجوداً أمامهم؟ أما كَانَ يكفي الله عز وجل وهو العليم أن يقول: ألم يروا أنه جسد، فما دام العجل جسداً إذاً فليس بإله.
وكذلك في صفة الدجال فقد كَانَ يمكن أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس بإله لأنه جسم، والله ليس بجسم، ولكن الألفاظ المسكوت عنها في الكتاب والسنة، السكوت عنها له دلالته، وهذا دليل عَلَى أن الوحي من عند الله، والقرآن وكلام الرَّسُول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الأدلة وأصدق البراهين.
فلهذا لم يأت في القُرْآن والسنة لا إثبات الجسم ولا نفيه؛ بل هو أمر مسكوت عنه، ويجب علينا أن نسكت عنه ولا نخوض ولا نبحث فيه، ولا نتعرض لشيء مسكوت عنه، وإذا أثبتنا شيئاً لله فنثبت ما أثبته لنفسه ولا نزيد عليه، فلا نقول: جسم ولا غير ذلك من الزيادات، وإذا نفينا فننفي ما نفاه تَعَالَى عن نفسه في الجملة، ولا نقول: ليس بجسم، ولا بد أن نعلم أننا كلما تمسكنا بالوحي، فإننا نكون في عين اليقين، وبعيدين أيضاً عن كل شبهة، فالله عز وجل أتى بدليل واضح بَيِّن عَلَى أن العجل لا يمكن أن يكون إلهاً فقال: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] فالعجل له خوار لكن لا يتكلم بمعنى لا يهدي لا يقول كلاماً فيه هداية؛ فليس بإله.
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فكان عباد العجل مع كفرهم] بل هم من أكفر خلق الله عز وجل، لأنهم عبدوا العجل والنبي بين ظهرانيهم، وقد دعاهم إِلَى التوحيد فليسوا مثل الأمم الجاهلة، هذا غاية الكفر؛ لكن مع كفرهم [كانوا أعرف بالله من المعتزلة] ومن نفاة كلام الله جميعاً [فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً] وإلا لأفحموا موسى عَلَى زعمهم، ولكنهم فهموا أن الله عز وجل يتكلم، وأنه كلم موسى، كما هو معلوم في القرآن، ونقول: إن هناك مناسبة بين قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ [الأعراف:148] وبين ما يعلمه قوم موسى ويفخرون به من هذه الميزة العظيمة، وهي أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى عليه السلام، وهذا لا شك مفخرة وميزة لكن كيف تثبتون أن الله كلم موسى نبيكم هذا ثُمَّ تعبدون العجل الذي لا يتكلم ولا يهدي؟! ومع ذلك فهَؤُلاءِ أعرف بالله من المعتزلة، ومن نفاة كلام الله عز وجل وإلا لقالوا إن ربك لا يتكلم أيضاً، فلو كَانَ عباد العجل معتزلة أو كلابية لقالوا: إن ربك لا يتكلم.
فالمعتزلة والكلابية جعلوا الله -تعالى -عن ذلك علواً كبيراً- مثل العجل مع أن العجل له خوار، وهَؤُلاءِ أيضاً لم يثبتوا له شيئاً، ويقول الله تبارك وتعالى عن العجل: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89][فعلم أن نفي رجع القول، ونفي التكليم نقص يستدل به عَلَى عدم ألوهية العجل] فالإله الحقيقي -ولا إله إلا الله سبحانه وتعالى يرجع القول ويتكلم ويقول، وأيضاً هو الذي يملك الضر والنفع فسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عما تقوله المعتزلة علواً كبيراً.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وغايةُ شُبهتهُم أنهم يقولون: يَلزمُ مِنه التشبيه والتجسيم؟
فيُقال لهم: إذا قلنا: إنَّهُ تَعَالَى يَتَكلَّمُ كَما يليقُ بِجَلالهِ انتفتْ شُبهتُهم. ألا ترى أنه تَعَالَى قَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يّس:65] فَنحنُ نُؤمنُ أنَّها تكَلَّم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] وكذلك تسبيح الحصا والطعام وسلام الحجر كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد عَلَى مقاطع الحروف.
وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: "منه بدا بلا كيفية قولاً"، أي ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به، وأكد هذا المعنى بقوله "قولاً"، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تَعَالَى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] . فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة-: أُرِيدُ أَنْ تَقرأ:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى [النساء:164] بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقالأبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] ؟ فبهت المعتزلي!] اهـ.
الشرح:
شبهتهم متكررة قلّ أن يتركها أهل البدع في جميع صفات الله سبحانه وتعالى وهي أنهم يأتون بلوازم تخترعها عقولهم الكليلة القاصرة في حق الله تعالى، فيقولون يلزم كذا ويلزم كذا إِلَى غير ذلك. ونذكر ما حدث لابن فورك عند دخوله عَلَى المجاهد محمود بن سبكتكين الذي فتح أكثر بلادالهند.
فكان ذات مرة يتكلم وعنده أحد علماء أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فسأل عن علو الله سبحانه وتعالى، فأنكر ابن فورك ذلك وهو من أئمة الأشعرية في التأويل ألف كتاب مشكل الحديث وبيانه كله تأويلات.
فَقَالَ لمحمود وهو سلطان قائد عسكري فاتح لا يعرف علم الكلام ولا يعرف الأدلة واستنباطاتها: يلزمك إذا أثبتَّ له فوق أن تثبت له تحت، فَقَالَ له محمود السلطان بكل بساطة وهدوء: أنا لا يلزمني شيء؛ لأنه هو الذي أخبر أنه فوق، فأنا أقولُ بما أَخبرَ، أي إن كَانَ هناك ما يلزمني فيلزمه هو سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي قال ذلك، وهل بإمكان أحد أن يلزم الله سبحانه وتعالى بشيء!
فيقول يا رب: أثبتَّ لنفسك العلو فيلزمك أن تثبت كذا عياذاً بالله!! فهذا هو الجواب الفطري الصحيح عَلَى جميع شبهاتهم وضلالاتهم، وكل الإلزامات، وكل الإيرادات التي يوردونها تنتفي وتنتهي عندما نقول: إن هذا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد منكم أن يلزم فليلزمهما، أما نَحْنُ فلا يلزمنا شيء إلا أنه يلزمنا أن نؤمن بكلام الله ورسوله.
شبهة من قال: إن إثبات الكلام لله تعالى يلزم منه التشبيه والتعطيل
إن أرباب الكلام من معتزلة وكلابية وأشعرية وجهمية يقولون: إن إثبات الصوت يلزم منه هواء يتردد في الرئة، ويلزم منه شفتان، ويلزم منه حنجرة وقصبة هوائية! سُبْحانَ اللَّه! من أين جئتم بهذه اللوازم؟
حتى الذين يؤمنون بإثبات صفة الكلام، ومنهم بعض الكُتّاب المعاصرين ردوا عليهم بأن قالوا: ونحن نثبت لله كلاماً، لكن من غير شفتين ولا لسان ولا قصبة هوائية ولا رئة ولا هواء ولا نفس، فأولئك أخطؤا في حق الله عز وجل لما قالوا يلزم أن نثبت له هذا، والآخرون قالوا نثبت بلا كذا
…
، يكفيك أن تقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]
ومن الذي يرد في خاطره أو يجول في باله أن الله تبارك وتعالى كالمخلوق في هذه الأمور، أو في هذه اللوازم، إلا من كَانَ ضعيف الإيمان أو ضعيف العقل أو جاءه الشيطان بشبهة، وهذا عليه أن يطردها لا أن يقرَّرها، وقولهم هذا دليل عَلَى أنهم لم ينفوا ولم يعطلوا الصفات إلا لمَّا خطر في أذهانهم التشبيه، فأول الأمر شبهوا، فلما وقع التشبيه في قلوبهم لم يجدوا إلا أن يدفعوه بالنفي والتعطيل، فَقَالُوا: ما دام أن الكلام لا يتصور إلا بالشفة واللهاة والقصبة الهوائية والرئه والهواء والنفس وكذا.. إلخ.
إذاً ندفع ذلك كله ونقول: إنه لا يتكلم أبداً، فنجعله أصم لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى إِلَى آخر ما وصفوا الله تبارك وتعالى به، وما نفوا به صفاته.
الرد على هذه الشبهة
ولذلك يرد عليهم المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بقوله: [يُقالُ لهم إذا قلنا: إنه تَعَالَى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبههم] وكلامه -جل شأنه- يليق بجلاله، وكماله المقدس، وكلام المخلوقين يليق بهم. فكل شيء تكلم به، فإنه يتكلم بكلام يليق به، وعلى الصفة التي هو عليها دون أن نلزمه بصفة شيء آخر.
ومن أوضح الأمثلة عَلَى ذلك أننا في هذا العصر نسمع من آلات التسجل كلاماً، وهي لا يوجد فيها اللسان ولا الشفتان ولا اللهاة ولا القصبة ولا النفس، وإنما هي آلات مخترعة ومع ذلك تحتفظ بالصوت وتردده وتخرج الكلام من جنس ما صنعه الله سبحانه وتعالى أو ما صنعه الإِنسَان عَلَى الكيفية التي أرادها الله، ووفّق الله الإِنسَان فصنعها عليها، ومن الممكن أن توجد بطريقة وبأشكال أخرى، وكذلك مسألة الاحتفاظ بالصوت، فقد كانت بدائية قديمة، والآن تطورت وسيلة الحفظ، ويمكن أن تتطور إِلَى أشكال أخرى، ومع ذلك الصوت يسمع منها وهذا في المخلوقات.
وضرب المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُه تَعَالَى هنا أمثلة منها تكليم الأعضاء يَوْمَ القِيَامَةِ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يّس:65] .
فأعضاء الإِنسَان يَوْمَ القِيَامَةِ تتكلم وتنطق ويختم الله تَعَالَى عَلَى الأفواه، كما قال ذلك في سورة فصلت، وعندها يستغرب المجرمون الظالمون أن تشهد عليهم أعضاؤهم وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] فهو سبحانه أنطق كل شيء، وينطق كل شيء كما يشاء الله، ومتى شاء، فلو شاء لنطق الهواء، ولو شاء لنطقت الأرض، ولو شاء لأنطق أي شيء يريده سبحانه وتعالى، وكذلك تسبيح الحصا والطعام وكلام الحجر، هذا كله من الآيات البينات التي أظهرها الله تبارك وتعالى عَلَى يد النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد عَلَى مقاطع الحروف، وهذه كلها من غير الأصوات المعروفة لبني آدم، فليس هناك صوت وليس هناك شفة ولا لهاة إِلَى آخر اللوازم التي قدروها.
هذه الشبهة التي تلازمنا دائماً في عدة أبحاث؛ فنجدهم في الرؤية يقولون: يلزم من رؤية الله أن يكون جسماً، وأن يكون مقابلاً، ويلزم منه أن يكون منفعلاً سُبْحانَ اللَّه!
كل هذه شبهة واحدة يكررونها جميعاً فيلزمون ربهم تبارك وتعالى بما يلزمون به المخلوق، فهم يقيسون عَلَى ما يرون من هذا المخلوق العاجز الضعيف الكليل، الذي لا يستطيع أن يتكلم أو ينطق إلا بالوسائل التي جعلها الله تبارك وتعالى له، والذي نردُّ به عليهم دائماً هو أن كلام الله يليق بجلاله تبارك وتعالى، ولا يشبهه أحد من خلقه لا في كلامه ولا في غير ذلك من صفاته ويقول المُصْنِّف إن أبا جعفر الطّّحاويّويّ صرح بنفي الكيفية عندما قَالَ:[إن القُرْآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً] فأشار إِلَى أن الكيفية التي تتخيلها أو تتوهمها عقول البشر منفية عن الله تبارك وتعالى.
ثُمَّ قال المصنف: (قولاً) وكلمة قولاً هنا مهمة، فالإمام أبو جعفر الطّّحاويّويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لما قال قولاً إنما يؤكد عَلَى حقيقة القول، وأن القُرْآن الذي هو كلام الله: هو هذا المتلو أو المسموع أو المحفوظ المكتوب بين الدفتين وليس الكلام المخفي وهذا احتراز جيد من الإمام ابن أبي العز رحمه الله عندما نبه إِلَى هذه الكلمة، لأنه سبق أن قلنا: إن بعض الماتريدية شرح العقيدة الطّّحاويّويّة عَلَى أساس أنهم حنفية والإمام أبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله حنفي، فأولوها بما يوافق مذهبهم، لكن الإمام ابن أبي العز رحمه الله، هنا إذا مرت به كلمة حاسمة في الموضوع لا تحتمل التأويل أكدها ليرد عليهم، ولذلك يقول المُصْنِّف [أتى بالمصدر المعرف للحقيقة تأكيداً، كما أكد الله تَعَالَى في التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز الذي يقطع أي احتمال في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]] .
فالله سبحانه وتعالى لما ذكر المصدر المؤكد "تكليماً" أكد الحقيقة ونفى أي احتمال للمجاز أو التأويل أو التحريف.
كما تقول: رأيت فلاناً رؤيةً، أو شاهدته مشاهدة، فإنك تقطع بذلك احتمال أن تكون رأيته في المنام، أو رأيته عن طريق واحد بالإخبار، وتقول: كلمته كلاماً، فمعنى ذلك أنه مشافهة ولم تكلمه مثلاً في رسالة أو في كتاب خطي أو نحو ذلك.
ومع ذلك قال المعطلة: نقرأها وكلم اللهَ موسى تكليماً بنصب لفظ الجلالة (اللهَ) ، فيكون موسى هو الذي كلم اللهَ سبحانه وتعالى.
فرد عليهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بما جَاءَ في الآية الأخرى، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فكيف يمكن أن يؤولوا هذه! مع العلم أن القُرْآن إنما يقرأ بالتلقي، بل حتى القراءات وإن كانت صحيحة الإسناد، ولكنها ليست متواترة لا يجوز أن نقرأ بها، وإنما هي كتفسير أو ما أشبه ذلك، كما هو معلوم في مباحث علوم القرآن.
وأولوها بتأويل آخر فَقَالُوا: إن التكليم: هو التجريح كما في لغة العرب: فيُقَالُ: فلان كَلَّمه أي جَرَّحه، فَقَالُوا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] أي جَرَّحه تجريحاً. ما معنى هذا الكلام ولماذا جرحه؟
إنما هي شهوة المروق من الحق، وشهوة التأويل الفاسد، وعدم انقياد قلوبهم وأسماعهم وعقولهم لما أنزل الله تبارك وتعالى، ولما قاله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولو انقادوا لله ولرسوله وصدقوا ما قاله الله ورسوله لما خطر لهم أن ولا أن يحرفوا كلام الله تبارك وتعالى.
فلذلك عندما يذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى القصة التي وقعت لعمرو بن عبيد فقَالَ: لأبي عمرو ابن العلاء أحد القراء السبعة المعروفين المشهورين: أريد أن تقرأ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] بنصب اسم الله ل يكون موسى هو المتكلم لا الله.
قال أبو عمرو: هب أن قراءة هذه الآية كذا وقرأتها كما تقول، فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فبهت المعتزلي، فهذه القصة من ردود أهل السنة عَلَى المعتزلة، فهم يحاولون أن يؤولوا هذه الآيات بأي نوع من أنواع التأويل، وأن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ردوا كل وجه من هذه الوجوه ومنها هذا الوجه الذي أرادوا أن يقرؤها به، أو قالوا: لِمَ لا نقرأها به ردوه بما أثبته هنا وهي الآية الأخرى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وهي آية صريحة لا تحتمل أي تأويل، وكذلك لو قلنا من الناحية العقلية: وكذلك لو قلنا من الناحية العقليةوَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ما الميزة إذا كَانَ المراد أن موسى كلم الله أو خاطب الله أو دعا الله؟
فكل خلق الله يدعون الله عز وجل، نَحْنُ جميعاً كلنا ندعو الله تعالى، فما الميزة لموسى عن غيره، لو تأملنا بأي وجه من الوجوه فإننا لا نجد لهَؤُلاءِ القوم حجدة ولا سنداً إلا الهوى واتباع الظن ولهذا كَانَ هذا الفاجر عمرو بن عبيد إمام المعتزلة يتمنى ويقول: وددت أنني أحك سورة تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] من المصحف والعياذ بالله؛ لأن المعتزلة كانواقدرية، فلم يستطع عقله القاصر أن يستوعب أن أبا لهب من أهل النَّار رغم أنه ما زال حياً ومخاطب بالدعوة كما قال تعالى، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [سورة المسد] ؟ يقول: نزلت هذه السورة عَلَى أبي لهب وهو لا يزال حي ومخاطب بالدعوة، وفيها إخبار بأنه من أهل النار.
فجاءت الشبهة: هل أبو لهب مجبور، لماذا لم يقل: أنا آمنت؟
يقول عمرو بن عبيد: كَانَ في إمكان أبي لهب أن يقول: أنا أؤمن، ومن آمن، فإنه يدخل الجنة، ولا يدخل النار، فيكون قد كذَّب بالقرآن والعياذ بالله.
فلم يستطع عمرو بن عبيد أن يَحُلَ هذا الإشكال، فليس فيه إلا أن يقول إنه مجبور ويدخل النار، أو يؤمن ولا يكذب القرآن، فهذا الجاهل المسكين لما أخذ يفكر في القدر ويفكر في هذه الآيات وأمثالها بعقله القاصر، ولم يسأل أهل الذكر وقع في هذا الضلال المبين، وهَؤُلاءِ لم يعرف عنهم أنهم سألوا أهل العلم لا عمرو بن عبيد ولا واصل بن عطاء، إنما كانوا في حلقة الحسن البصري رحمه الله فلما خرجوا عن قول الأئمة بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، طردهم الحسن البصري من حلقته، فاعتزلوا وسموا المعتزلة.
فلو أنهم اتبعوا كلام أهل العلم وسألوهم، أو سلموا أمرهم إِلَى الله عز وجل وآمنوا بكتاب الله ما فهموا منه وما لم يفهموا، لما وقعوا في هذا التناقض. فلو أن المؤمن لا يؤمن بأي شيء من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا استوعبه عقله وفهمه وعرف أنه غير متناقض لما آمن أحد، وأكثر الْمُسْلِمِينَ لا يستطيعون أن يدركوا معاني الآيات ولا معاني الأحاديث، ولا يستطيعون أن يردوا شبهة الملحدين.
ومع ذلك هم ولله الحمد عَلَى الإيمان الصحيح، فالثقة في مصدر الكلام هي وحدها تكفي، وهذا أمر يعرفه البشر حتى في حدود أمورهم الدنيوية، فكيف بمن يعترض عَلَى الله تبارك وتعالى وعلى كتاب الله عز وجل بعقله القاصر الكليل، ويقول كيف تنزل هذه الآيات؟ أو إذا لم يفهمها سيقول وددت لو أنني حككتها والعياذ بالله، فهم لا يبالون في سبيل إقرار بدعتهم وشبهتهم أن يؤولوا أو يحرفوا، أو أن يفكروا في أن يحكوا الآية من المصحف.
وهذا من عدم الإيمان واليقين في قلوبهم، والحقيقة: أن الإِنسَان إذا تأمل في سير هَؤُلاءِ، كيف كانت حياتهم، وكيف كانوا يعملون لوجد أنهم أصحاب ضلالات، وأن الغالب عليهم أنهم متعمدون إفساد دين الْمُسْلِمِينَ، وإلا فلو أن الأمر شبهة أو خطأ أو لَبْس، لسألوا عنه أهل العلم ولديهم عقول تفكر، وتبحث عن الصواب؟ لكنها ما دامت مقرة بالفلسفات اليونانية القديمة وبكلام الصابئين والملحدين، وتريد أن تطعن في دين الإسلام، وأن توجه النقد إليه؛ فأقل ما يقَالَ: إنها تهدم بعضه وتثبت بعضه.
فتقر ما وافق هواها وفلسفاتها وعقولها، وتهدم ما تراه مخالفاً لها.
فمن هنا جاءتهم شهوة الهدم ومن هنا وقعوا في التخبط ووقعوا في الضلال.
ثبوت تكليم الله لأهل الجنة وغيرهم
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وكم في الكتاب والسنة من دليل عَلَى تكليم الله تَعَالَى لأهلِ الجنة وغيرهم قال تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] عن جابر رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (بين أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقَالَ: السلام عليكم يا أهل الجنة وهو قول الله تعالى::سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إِلَى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجه وغيره.
ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً، وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ ِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم وهو الصحيح، إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النَّار اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فلو كَانَ لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً، وقال البُخَارِيّ في صحيحه (باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة) وساق فيه عدة أحاديث، فأفضلُ نعيم أهلِ الجنة رؤيةُ وجهه تبارك وتعالى وتكليِمه لهم، فإِنكارُ ذلك إِنكَارٌ لروح الجنَّة، وأعلى نعيِمها وأَفضلِه الذي ما طابت لأهلها إلا به] اهـ.
الشرح:
ذكر المُصْنِّف رحمه الله: أنه توجد في الكتاب والسنة أدلة كثيرة عَلَى تكليم الله تَعَالَى لأهل الجنة وغيرهم، وأما الحديث الذي رواه ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه فإنه حديث ضعيف كما علق عَلَى ذلك المحققان والشيخ إنما ذكره -والله أعلم- مع كثرة الأحاديث الصحيحة التي سيذكر بعضها إن شاء الله لعلاقته بالآية، لأن الآية واضحة بأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يّس:58] لأن الآية تدل عَلَى ذلك، فذكر هذا الحديث تفسيراً لها ولأنه توسم فيه إثبات أكثر من صفة لأنه قال فيه إثبات صفة الكلام، وإثبات صفة الرؤية، وإثبات صفة العلو، ففيه أنه اشتمل عَلَى إثبات هذه الثلاث الصفات.
ولكن ما ذكره بعد ذلك واضح، وهو مثلاً قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ ِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] فنفى الله تبارك وتعالى التكليم عن أُولَئِكَ القوم الذين يشترون بآيات الله وبعهده وأيمانهم ثمناً قليلاً عقوبة لهم، وبين أن معناه أنه لا يكلمهم كلام تكريم، وإلا فإنه يقول لهم: اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فيكلمهم، لكن لا يكلمهم كلام تكريم.
من أدلة تكليم الله عز وجل لمن يشاء من خلقه
لو قلنا عن الله تعالى: إنه لا يتكلم بالكلية، لاستوى في ذلك الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، والذين يعلمون الصالحات من الأَنْبِيَاء والصديقين.
ويدل عَلَى ذلك الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البُخَارِيّ رحمه الله وهي أحاديث كثيرة كما ذكر المُصْنِّف هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ".
ويقول لهذا المؤمن: ألم أعطك ألم أغفر لك؟ فيكلمه سبحانه وتعالى حين يدنيه منه بكلام التكريم، وهذا يختلف عن الكلام الذي هو من جنس كلامه لأهل النَّار والعياذ بالله الذين لا يكلمهم، بمعنى: أنه لا يكلمهم كلام رضى، وإنما كلام الإهانة والسخط اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] .
وقد ذكر الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كتاب التوحيد من صحيحه ذكر عدة أبواب في بيان إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى وقد ردَّ كذلك في كتاب الإيمان، وفي كتاب التوحيد، عَلَى أصناف المبتدعة والجهمية والزنادقة كما عنون لكتابه بذلك، فإنه رد عَلَى أصناف هَؤُلاءِ جميعاً بآيات وأحاديث صحيحة ثابتة، بمعانٍ عديدة مستنبطة، وتَعْجَب من دقته في الفهم، ومن دقته في الاستنباط، ومن ذلك أنه في مجال إثبات كلام الله تبارك وتعالى عقد باباً لكلام الله سبحانه وتعالى لأهل الجنة وباباً لقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وباباً لتكليم الله سبحانه وتعالى للملائكة، وذكر في كل باب من هذه الأبواب أحاديث صحيحة.
منها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالكلام سمعته الملائكة كسلسلة عَلَى صفوان، فتضع الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله ثُمَّ تختلف روايات الحديث فمنها، فيمر جبريل عليه السلام بأهل كل سماء فيفيقون فيقولون ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير، وهذا الحديث هو تفسير لقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] فهذه الملائكة تصاب من وقع صوت كلام الله سبحانه وتعالى عليها بالخضعان -الإغماء- حتى تفيق بعد ذلك ويكون أول من يفيق جبريل، ثُمَّ يمر عَلَى كل أهل سماء فيخبرهم بما يسألون؟ ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير، حتى يمر إِلَى السماء الدنيا فيقول ذلك، فيسمعه الجن والشياطين الذين كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع.
ويذكر الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أيضاً في باب كلام الرب تبارك وتعالى لأهل الجنة حديث (إن الله سبحانه وتعالى إذا أَدْخَلَ أهل الجنة الجنة يناديهم)، ومنها حديث آدم:(يقول الله تبارك وتعالى: يا آدم يا آدم، فيقول لله تبارك وتعالى: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إِلَى النار) هكذا الرواية، وكما هو معلوم أن البعث إِلَى النَّار بأن يخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلَى النار، وواحداً إِلَى الجنة، ولذلك لما جزع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أخبرهم أن هَؤُلاءِ هم من قوم يأجوج ومأجوج نسأل الله العافية، وأن الأمة المحمدية ما هي في بقية الأمم إلا مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود.
وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام البُخَارِيّ أيضاً في هذا الباب معلقاً (أنه سبحانه وتعالى ينادي عباده يَوْمَ القِيَامَةِ بصوت يسمعه من بَعُدْ كما يسمعه من قَرُبْ) ، وفي ذلك دليل عَلَى أن كلام الله عز وجل يختلف عن كلام جميع المخلوقين، فقوله:(يسمعه من بَعُدْ كما يسمعه من قَرُبْ) هذا خاص بكلامه جل شأنه (فيقول لهم الله تبارك وتعالى أنا: الملك أنا الديان) حتى يسمع ذلك كل من في المحشر فتكون العبرة العظة لنا في هذه الحياة الدنيا، ولكل من يتكبر ويتجبر عَلَى الله تبارك وتعالى، فحينما يقول يَوْمَ القِيَامَةِ (لمن الملك اليوم) ، فلا يجيب أحد من شدة الهول ومن كرب الموقف، فيجيب عَلَى نفسه، (لله الواحد القهار) نسأل الله أن يرحمنا.
ومما أورد الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أيضاً في هذا الباب كلام الرب لجبريل في باب كلام الله مع الملائكة وأورد فيه الحديث الصحيح المعروف (إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً، نادى جبريل، فَيَقُولُ: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه
…
) الحديث.
فهذا كلام من الله عزوجل يخاطب به جبريل، وجبريل يسمعه. وأورد أيضاً حديثاً آخر وهو حديث:(يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويصعدون إِلَى الجبار تبارك وتعالى، فيسألهم -وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) وهذا خطاب بين الله تَعَالَى وبين الملائكة، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي يخاطب الله تبارك وتعالى فيها خلقه، كما خاطب الملائكة لمّا خلق آدم عليه السلام، وكما خاطب موسى عليه السلام، وكما يخاطب يَوْمَ القِيَامَةِ المؤمنين في الجنة ويخاطب الملائكة.
ومما ذكره الإمام البُخَارِيّ رحمه الله أيضاً: خطاب الله تَعَالَى لأهل الجنة وهو: (إن الله تبارك وتعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة يسألهم جل شأنه فَيَقُولُ: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين؟ فَيَقُولُ: أفلا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك! فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا رب؟ فيقول أن أرضى عليكم فلا أحل عليكم سخطي أبداً) .
وهذا تفسير لقوله تبارك وتعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] فرضوان الله تبارك وتعالى أكبر من كل نعيم نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل رضوانه وجنته.
والمصنف رحمه الله أشار هنا إِلَى عدة مواضع ذكرها البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في صحيحه، وهي قوله باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة، وساق فيه عدة أحاديث قَالَ:[فأفضل نعيم لأهل الجنة هو رؤية وجهه تبارك وتعالى، وتكليمه لهم؛ فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به] وهذا حق، وسوف نأتي -بإذن الله سبحانه وتعالى عَلَى مبحث إثبات الرؤية وهناك نأتي عَلَى هذه الأحاديث بالتفصيل.
ويتبين لنا أن رؤية الله سبحانه وتعالى هي أعظم نعيم في الجنة، وهي المزيد الذي يجعله الله سبحانه وتعالى كما قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فرؤية وجه الله تَعَالَى زيادةٌ عَلَى الجنة، فهي أعظم النعيم، فمن أنكر كلام الله سبحانه وتعالى لأهل الجنة ورؤيتهم له فقد أنكر أعلى وأفضل نعيم في الجنة.
ولهذا قال أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كيف يرجو من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى ويرد الآيات والأحاديث في ذلك أن يراه، وقد كَانَ في الدنيا ينكر ذلك؟ وكيف يرجو أن يدخل جنته؟ وأعظم نعيم في هذه الجنة هي رؤيته تبارك وتعالى فيزعم الإسلام والإيمان ويرجو أن يدخل الجنة وهو ينفي أعظم نعيم في الجنة جَاءَ التصريح به في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، هذا عجيب في أمره.
والآن ننتقل إِلَى إحدى الشبهات في قولهم: إن القُرْآن مخلوق.
رد شبهتهم في الاستدلال بقوله تعالى: ((الله خالق كل شيء))
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وأما استدلالهم بقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] والقرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم "كل " فيكون مخلوقاً!! فمن أعجب العجب.
وذلك: أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم "كل" وأدخلوا كلام الله في عمومها مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة، إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر [الأعراف:54] ففرق بين الخلق والأمر، فلو كَانَ الأمر مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر، إِلَى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل وهو باطل، وطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته تَعَالَى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم كل، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً] اهـ.
الشرح:
هذا الاستدلال حقاً عجيب، وهو مما ناظروا به الإمام أَحْمَد والكناني وغيره، يقولون: إن الله تَعَالَى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] أليس القُرْآن شيء؟
فيُقَالُ: نعم شيء.
فيقولون إذاً القُرْآن مخلوق، فيجعلونه مخلوقاً وهو كلامه سبحانه وتعالى يتكلم به.
فيقول المُصْنِّف رحمه الله: إن هذا من أعجب العجب أن تقولوا إن أفعال العباد كلها خلقها العبد، وهي شيء، ولا تدخل في قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] وتقولون إن كلام الله شيء، ويدخل تحت قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] فهو مخلوق عندكم، انتقل من الرد عليهم بالأدلة العلمية المعروفة، إِلَى الرد عليهم من داخل مذهبهم، كما سبق أن أوضحنا.
ونرد عليهم بأن كلمة "كل" هنا لا تعني كل المخلوقات بلا استثناء ولا عَلَى الإطلاق، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال عن الريح التي أرسلها وسلطها عَلَى عاد تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] فمعنى ذلك عَلَى كلامهم: أنها تدمر السموات والأرض والجبال وكل ما يطلق عليه شيء، والواقع أنها لم تدمر إلا ما أُمِرَتْ بتدميره، وما كلفت أن تدمره، فليس معنى كلمة (كل شيء) عَلَى الإطلاق الذي لا استثناء فيه، وكذلك في قصة بلقيس ملكة سبأ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]
فهل معنى ذلك: أنها أوتيت من كل خزائن الدنيا وملكها؟ لا، إنما أوتيت من كل شيء يحتاجه الملوك، أي: أنها ملكة ومملكتها فيها كل شيء من لوازم الملك، فلها مملكة مثلما أن لسليمان عليه السلام مملكة، فالعموم في كلمة كل بحسب موضعها، وبحسب موقعه، لكن المُصْنِّف رحمه الله عمد إِلَى الاستدلال عَلَى المعتزلة من واقع مذهبهم.
قول المعتزلة في خلق أفعال العباد والرد عليهم
تقول المعتزلة: إن الإِنسَان يخلق فعل نفسه، والله عز وجل لم يخلق في الإِنسَان الشر، ولم يرد منه أن يفعل الشر، وإنما الإِنسَان هو الذي يخلق المعاصي ويخلق فعل نفسه.
ويقولون: إن هذا تنزيه لله سبحانه وتعالى، وهذا من توحيد الله، مع أن هذا هو الشرك؛ لأن إثبات خالقين ليس توحيداً وإنما هو الشرك، كما كانت الثنوية المجوس يثبتون إلهين، فقالوا أي المعتزلة: إن الإِنسَان يخلق فعل نفسه ويستدلون بقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] عَلَى أن القُرْآن مخلوق.
فيقال لهم: لماذا لم تدخلوا أفعال المخلوقات في عموم كل، وقد قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] فالله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات؛ وخلق أفعالهم، وكلمة كل شيء هنا تشمل أفعال المخلوقات وأنتم تنكرون ذلك.
ومثل هذا فعل عمرو بن عبيد الذي كَانَ يظهر التنسك والزهد والعبادة الشديدة، فجاءه أعرابي فرآه في تلك الحالة
فقال له: إن ناقتي قد سرقت فادع الله أن يردها لي، فرفع عمرو بن عبيد يده
فقَالَ: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقة هذا الأعرابي، اللهم فارددها عليه، فالأعرابي عَلَى سذاجته لا يفهم شيئاً لكن بفطرته قَالَ: لا حاجة لي في دعائك
قال عمرو: ولِمَ؟
قَالَ: أخشى ما دام أنه لم يرد أن تسرق فسرقت أن يريد أن ترد فلا ترد.
فالعقل السليم الفطري يرد أقوالهم هذه جميعاً، فهم يريدون أن ينزهوا الله بأنه لا يريد الشر ولا يخلقه، فهذه السرقة مثلاً يقولون: لا يريدها الله ولم يقدرها، ولم يخلقها وإنما العبد هو الذي يفعل.
وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فيقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو خالق الإِنسَان، وخالق أفعاله، وأنه سبحانه وتعالى جعل للإنسان إرادة مخلوقه خلقها سبحانه وتعالى، ولذلك يُحاسِب ويجازي عَلَى نتيجتها، وهذا الرجل من شدة تمسكه بمذهبه لم يرد أن يتخلى عنه حتى وهو يدعو للأعرابي، وأراد الله عز وجل أن يفضحه عَلَى يد ذلك الأعرابي الذي لم يتعلم علم الكلام، وليس هو من أهل العلم بالكتاب والسنة، وإنما توسم في عمرو بن عبيد الخير، ورأى فيه علامات الزهد، فطلب منه الدعاء، فبين له الأعرابي بعد أن سماع دعاءه أنه عَلَى هذا الأصل الفاسد عافانا الله وإياكم.
كلام الله غير مخلوق لأن بكلامه يكون الخلق
استدل المُصْنِّف رحمه الله بدليل عقلي واضح عَلَى أن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وذلك لأن بكلامه سبحانه وتعالى يكون الخلق: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يّس:82] وكما قال أيضاً: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فهو يأمر ويخلق، فإذا كَانَ كلامه وأمره مخلوقاً فبم يكون الخلق؟
فكلمة "كُنْ" إذا كانت مخلوقة تحتاج إِلَى أمر يخلقها، وهكذا تتسلسل إِلَى ما لا نهاية.
الفرق بين الخلق والأمر
إن الذي تقطع به العقول التي رزقها الله سبحانه وتعالى الفهم الصحيح، أن الأمر غير الخلق، فخلق الله هو هذه المخلوقات التي خلقها سبحانه وتعالى مما نرى ومما لا نرى، وأمره سبحانه وتعالى وكلماته غير مخلوقة، بل بها يكون الخلق، وبها يكون الإخبار، وبها يكون الأمر والنهي.
وفي هذا قطع لشبهتهم هذه في قولهم: إن القُرْآن مخلوق، وإن كلامه كله مخلوق، وقد بين المُصْنِّف رحمه الله: أنه عَلَى ذلك تكون جميع صفات الله تَعَالَى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرها؛ لأنا إذا استدللنا بقوله تعالى: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:102] عَلَى أن كل شيء مخلوق، فعلمه شيء، وقدرته شيء، وإرادته شيء وهكذا، فتصبح كل صفات الله عز وجل مخلوقة، وهذا كفر، وهم كذلك يقولون: هذا الكلام كفر.
فنقول لهم: وكلامه سبحانه وتعالى صفة من صفاته، كسائر الصفات التي لا توصف بأنها مخلوقة؛ بل الله سبحانه وتعالى له الخلق وله الأمر.
والآن ننتقل إِلَى شبهة من الشبهات التي يرددونها كثيراً، وهي قولهم: إن المُتكلّم هو من قام به الكلام لا من فَعَلَ الكلام.
رد شبتهتهم أن المتكلم هو من قام به الكلام لا من فعل الكلام
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وكيفَ يَصِحُ أن يكونَ مُتكلماً بكلام يَقُومُ بغيره؟ ولو صَحَّ ذلك لَلَزِمَ أن يكونَ ما أَحَدَثه مِن الكلام في الجمادات كلامه!
وكذلك أيضاً ما خَلَقهُ في الحيوانات ولا يُفرَّقُ حينئذ بين نَطَقَ وأَنْطَقَ وإنَّما قالت الجُلُودُ أَنطَقَنَا اللَّهُ [فصلت:21] ولم تَقُلْ نطقَ الله؛ بل يلزم أن يكونَ مُتكلّماً بِكُلِّ كلامٍ خَلَقَهُ في غيرِه زوُراً كَانَ أو كذباً، أو كُفراً أو هذياناً!! تَعَالَى الله عن ذلك. وقد طرَّدَ ذلك الاتحادية فَقَالَ ابن عربي:
وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
ولو صَحْ أن يُوصَفَ أَحَدٌ بصفةٍ قامتْ بغيره لَصَحَّ أنْ يُقالَ للبصير: أعمى وللأعمى بصير! لأن البصيرَ قد قَام وصفُ العمى بغيره والأعمى قد قَامَ وَصفُ البصرِ بغيره، ولَصَحَّ أن يُوصَفَ اللهُ تَعَالَى بالصفاتِ التي خَلََقَها في غيره من الألوان والروائِح والطُّعُومِ والطول والقِصر ونحو ذلك] اهـ.
الشرح:
هذه شبهات ولكنها تبدوا لذى العقل السليم الناضج أنها لا تستحق أن يمارى ولا أن يجادل بها في كتاب الله عز وجل، ولكن شهوة الجدل، والاعتراض عَلَى الله ورسوله، وعدم التسليم والانقياد له، هي الدافع وراء هذه الشبهات، فأرادوا أن يأتوا بهذه الشبهة ليتخلصوا من إثبات صفة الكلام لله عز وجل.
فَقَالُوا: إنَّ المتكلم ليس هو من فعل الكلام؛ ولكن المتكلم من يقوم به كلام غيره، فيقولون -مثلاً- في كلام الله لموسى: إن الشجرة هي التي نطقت وتكلمت، فكلام الله قام بالشجرة، فقالوا الشجرة هي التي تكلمت، أما الله عز وجل فإنه لا يتكلم، ونفوا عنه الكلام، فالكلام عندهم ما يقوم بغير المتكلم.
ومعنى قول المُصْنِّف رحمه الله: [وكيفَ يَصِحُ أن يكونَ مُتكلماً بكلام يَقُومُ بغيره؟] وهو المتكلم.
نقول: هذا كلام الله قام بغيره [ولو صَحَّ ذلك لَلَزِمَ أن يكونَ ما أَحَدَثه مِن الكلام في الجمادات كلامه!] وغيرها كلامه، وبناءاً عَلَى كلامهم فإنه يمكن أن يكون كل كلام فإن الله هو الذي تكلم به وإنما قام بغيره، وعلى هذا لا يستقر للناس نظر ولا عقل.
وذكر المُصْنِّف أن الجلود تقول: أنطقنا الله، ولم تقل: نَطَقَ الله، فالله عز وجل هو الذي انطقها وهي التي تتكلم، وعلى كلام المعتزلة وأمثالهم يكون الكلام كلامه والنطق نطقه قام بغيره، وهكذا الاتحادية أي: أصحاب الاتحاد الذين يقولون: إن الخالق والمخلوق متحدان في ذات واحدة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- يقول: طردوا ذلك، أي عمموه وجعلوه قاعدة مطردة، فهذا اللازم الذي نَحْنُ نلزم به المعتزلة والكلابية ينفي أن يكون كلام أي شيء هو ما قام في غيره، هذا جعلته الاتحادية هو الحقيقة، ولهذا الاتحادية يقولون: إن كل متكلم في الوجود هو الله، وقد جَاءَ المُصْنِّف بكلام ابن عربي:
وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
فكل متكلم عندهم هو الله، حتى أن هذا الخبيث الكافر ابن عربي قَالَ: لما قال فرعون أنا ربكم الأعلى كَانَ صادقاً.
فإنه ما تكلم إلا الله -والعياذ بالله- فهو الذي قال أنا ربكم الأعلى، وكلام موسى كلام مَن؟!
إذاً كَانَ كله كلام الله، فكيف يكون كلامفرعونهو كلام الله، وكلام موسى هو كلام الله، إذاً كلام الله يناقض بعضه بعضاً، وهذا المذهب واضح البطلان، وواضح التهافت، ومن وضوح بطلانه وفساده وكفر صاحبه وردته نستدل به عَلَى الكلابية والأشعرية والمعتزلة، لأنه يُلزم من كلامهم هذا الشيء، إلا أن يثبتوا أن كلامه جل شأنه هو الذي تكلم به سبحانه عَلَى الحقيقة، وكلام المخلوقات هو الذي خلقه فيها، وهو الذي أنطقها به، فالكلام كلامان كلام الله عزوجل غير مخلوق، وكلام المخلوقات وهو الكلام المخلوق.
وذكر المُصْنِّف أيضاً بعض الأدلة العقلية التي لو تأملها العاقل لوجد أنها تقنعه يقول: لو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير أعمى وللأعمى بصير، لأن الإِنسَان هو بصير لكن العمى قام في غيره، فيصح أن يقال لك أيها المبصر: أنت أعمى، فإذا قلت له: أنا لست أعمى: فيقال لك: أليس فلان أعمى؟ فالعمى قام بغيرك إذاً أنت أعمى، أو العكس، وهذا الكلام لا يقوله عاقل. وهذا دليل عَلَى أن هَؤُلاءِ لا عقل لهم ولا نقل.
وقال أيضاً ولصح أن يوصف الله تَعَالَى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان والطعوم والروائح، والطول والقصر وهذا لازم ووارد، وهم يقولون إن من وصف الله بشيء منها فهو كافر، ويردون ما أثبت الله لنفسه من الصفات من أجل التنزيه، ويقولون مع ذلك: إن الكلام هو ما قام بغيره، فيقال لهم والعياذ بالله: إن هذه الطعوم والألوان والروائح وما في المخلوقات من الصفات نثبتها لله، فإذا قالوا: لا. كيف نثبتها لله؟ قلنا: هي له؛ ولكنها قامت بغيره كما تقولون في الكلام.
فالكلام صفة من صفات الله غير مخلوق، وكذلك سائر صفات الله عز وجل، فليس شيء من صفاته مخلوق أبداً، وما عداه سبحانه وتعالى، فإنه مخلوق، وكلامهم مخلوق.
قال المصنف رحمه الله:
[وبمثلِ ذلك ألزَم الإمامُ عبد العزيز المكي بِشْرَاً المريسي بينَ يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل وألزمه الحجة فقال بشر: يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
قال عبد العزيز تسألني أم أسألك؟
فقال بشر اسأل أنت وطمع فيَّ.
فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها:
إما أن تقول إن الله خلق القرآن -وهو عندي أنا كلامه- في نفسه أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟
قال: أقول خلقه كما خلق الأشياء كلها وحاد عن الجواب.
فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشراً فقد انقطع.
فقال عبد العزيز: إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون منه شيء مخلوقاً.
وإن قال خلقه في غيره، فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره، فهو كلامه فهو محال أيضاً؛ لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله.
وإن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته، فهذا محال لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله.
هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة.] اهـ.
الشرح:
حدثت مناظرة بشر المريسي مع عبد العزيز الكناني في عهد المأمون بعد أن ظهرت بدعة القول بخلق القرآن وأراد المأمون ومن تبعه من الجهمية والمعتزلة أن يرغموا الأمة به.
والأمر -كما سبق- بدأ بالتدرج حتى اقتنع المأمون في الأخير باستخدام القوة وتعذيب من لم يعترف بأن القرآن مخلوق، ومن ذلك ما جرى للإمام أحمد رحمه الله، ومع أن الإمام أحمد لم يدرك المأمون ولم يناظره لأن الإمام أحمد حمل إلى المأمون وتوفي المأمون والإمام أحمد في طريقه إليه، وكانت المناظرة قبل أن يأخذ المأمون الأمة بالعزيمة والقوة ويرغمها إرغاماً.
ولهذا كان الكناني حُراً في مناظرته، بشكل لم يتوفر للإمام أحمد مثل ما جرى للكناني، فالإمام عبد العزيز بن يحي الكناني المكي المتوفي سنة 240هـ مشهور بتلمذته على يد الإمام الشافعي وتتلمذ على سفيان بن عيينة ومن كان متتلمذاً على يد الشافعي وسفيان -وهما من خيار السلف ومن أئمة أهل السنة والجماعة - فلا غرابة أن تظهر فيه هذه القوة في المناظرة وفي الحجة والبرهان.
وأما مُنْاظره فهو المبتدع الضال بشر بن غياث المريسي وقد سُئِلَ عنه الإمام أحمد فقال كان أبوه يهودياً.
فماذا يتوقع من رجل كان أبوه يهودياً صباغاً في بغداد ثم ولد له بشر فدخل بشر في علوم الجدل وعلوم المنطق والفلسفة حتى برع في مناظرتها ومجادلتها، ولكنه كان متستراً مخادعاً، وكان يجالس العلماء والقضاة والفقهاء، وقد كفره كثيرٌ من علماء السلف منهم الإمام أحمد وقتيبة بن سعيد وغيرهما من الأئمة الذين حكموا بكفره وحرم الإمام أحمد الصلاة خلف بشر وما ذلك إلا لأنه كافر.
ومن أسباب كفره أنه يقول: إن القرآن مخلوق، وقد رد عليه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رداً مفحماً في كتابه المشهور، والعبرة التي نأخذها من رد الإمام عثمان على بشرٍ مهمة جداً؛ لأننا عندما نجد الشبهات التي رد عليها الإمام الدرامي ونقضها ونقدها في موضوع صفات الله تعالى نجد أن هذه الشبهات وهذه الأقوال هي التي تبناها الأشاعرة ووسعوها وعمموها.
ولذلك يقول شيخ الإسلامابن تيمية: إن من تأمل في كلام الدارمي وما رد به على بشر المريسي يعلم أن تأويلات الأشاعرة هي تأويلات بشر، وإذا عرفنا أصل هذا المذهب، وأنه يعود إلى بشر، فلا غرابة بعد ذلك أن نعلم مخالفته لأهل السنة والجماعة، ونعلم أن وراء التأويل في صفات الله تعالى والإلحاد فيها المؤامرة، والحقد والزندقة والنفاق، وليس هناك من حجة أو برهان علمي أو عقلي.
وقد ذكر الإمام الذهبي أنبشر المريسي لم يدرك الجهم بن صفوان وإنما أدرك تلاميذ جهم فتلاميذ جهم نقلوا التجهم إلى بشر فتلقفه بشر وكان الجهم بن صفوان مرذولاً مخذولاً وقتل بسبب مذهبه.
وأما بشر فإنه مُكنَّ له في أيام المأمون فتمكن، فتعود أصول وجذور البدع مثل بدعة التأويل وبدعة نفي الصفات، وبدعة الإرجاء في مسألة الإيمان إلى بشر ومن بشر تعود إلى جهم.
فالحاصل أن الإمامعبد العزيز بن يحيى الكناني المكي لما بلغته مقالة القول بخلق القرآن قرر وعزم عزيمة العالم الذي يرى أنه لا بد أن يبرِّأ ذمته وأن يقيم الحجة وأنه لا يجوز له أن يكتم العلم: أن يرحل إلى بغداد ويناظر الخليفة ويقنعه ويقنع من في مجلسه، فذهب إلى بغداد وكانت المناظرة بين يدي المأمون وكان مما دار فيها مما يتعلق بالقرآن، هذه المسألة التي ذكرها الشيخ هنا، وهي أن بشراً وكذلك ضرار بن عمرو شيخ الضرارية وزميله يسمى برغوث من كبار المعتزلة المبتدعة ناظروا الإمام أحمد، وكان هؤلاء هم بطانة المأمون وحاشيته، وكأن هؤلاء كانوا يناظرون ويناقشون بالعقل والرأي والجدل وإلا فهل يعقل أن برغوثاً أوضراراً أو بشراً وغيرهم من النكرات يكون كالإمام أحمد في العلم أو في السنة، إن الذي يتميز به ضرار أو برغوث أو بشر أو أمثالهم بالحجة العقلية في نظرهم وأنهم قرؤوا كتب الأوائل ومنطقهم وفلسفتهم فيستطيعون بذلك أن يفحموا الإمام أحمد أو الكناني أو أي إنسان.
فلما تناظر عبد العزيز الكناني مع بشر بالقرآن وبالسنة أفحمه بطبيعة الحال لأن أولئك خلو من هذه الأمور جميعاً فعندئذ اقترح بشر وقال للمأمون: يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل، لا يناظرني بالقرآن ولا بالسنة، ويناظرني بغيره، يعني: بالجدل العقلي، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
فكان بشر واثقاً من نفسه ثقة قوية أنه في باب المناظرة بالعقل لن يستطيع الكناني ولا غيره أن يمشي معه ويجاريه، أما بالقرآن والسنة فنعم! لكن نريد أن نناظره بغير التنزيل فوافق الإمام الكناني
وقال: لا يمكن أن أُقِرَّ له أو أُظهرَ أنني لا أُحسن أيضاً المناظرة العقلية.
فقال له: نعم أوافق.
فقال: تسألني أم أسألك؟
فقال بشر: اسأل أنت وطمع فيَّ؛ لأنه قال ما الذي يمكن أن يسألني فيه؟
فقال له الإمام الكناني: يلزمك واحدة من ثلاث، أي: لا بد لك أن تقر بواحدة من ثلاثة أمور قال ما هي؟
قال: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن في نفسه، وإما أن تقول: إن الله خلق القرآن في غيره، وإما أن تقول: إن الله خلق القرآن مستقلاً بنفسه، أي: أنه مخلوق آخر، فقال بشر: أقول خلقه كما خلق الأشياء كلها.
فهو يعلم أنه إذا التزم واحدة منها، فإن الجواب سيكون ضده، فحاد عن الجواب ولم يواجه، ولهذا سمى الإمام عبد العزيز الكناني كتابه كتاب الحيدة؛ لأنه كل مرة يمسك بشراً ممسكاً قويا فيحيد بشر عن الجواب ويمتنع وينقطع فيضطر المأمون إلى أن يتدخل ويقول: أجب أنت يا عبد العزيز فإن بشراً قد انقطع وأفحم وحاد عن الجواب.
فقال له عبد العزيز: إن التزم أن الله خلق القرآن في نفسه فهذا محال لأنه قد جعل الله محلاً للمخلوقات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فهم ينكرون صفات الله عز وجل بدعوى أن الله لا يكون محلاً للحوادث بزعمهم، فهم ينفون عن الله تعالى صفة الغضب والرضا والنزول والاستواء، ويقولون: إننا إذا أثبتناها فقد جعلنا الله محلاً للحوادث، فينفون هذه الأمور عن الله! فكيف يقولون: خلق القرآن في نفسه إذاً: قد جعلوه محلاً للحوادث فقال: هذا محال.
الثانية: فإن قال خلقه في غيره، فيلزمه أن كل كلام في الدنيا هو كلام الله؛ لأن الله خلق كلام زيد في زيد وخلق كلام عمرو في عمرو وخلق كلام بكر في بكر، وكل إنسان يتكلم فإن الله هو الذي خلق كلامه فيه فإذا كان كلام الله هو ما خلقه في غيره فكل متكلم إنما يتكلم بكلام الله ولا فرق حينئذ بين القرآن وبين هذيان من الهذيان، وهذا الذي أشرنا إليه في الشبهة الماضية عندما قلنا: إنه لو صح أن يكون المتكلم متكلماً بكلام يكون في غيره لكان كل كلام في الدنيا هو كلام الله، كما لو كان يتكلم عمرو وننسب الكلام إلى زيد ونقول: هذا الكلام كلام زيد لكنه قام بعمرو، وهذا اللازم الذي فرت منه المعتزلة والأشعرية التزمه ورضي به الاتحادية كما قال كبيرهم ابن عربي:
وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وقال أيضاً: لمّا أن قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] قال: هذا كلام الله، والمعتزلة وغيرهم لم يكونوا ممن يقرِّ بكلام الاتحادية ولا يوافق عليه، فإذاً لا يستطيعوا أن يقولوا: إن الله خلق كلامه في نفسه، ولا أنه خلق الكلام في غيره، وإلا لزمهم أن يكون كل كلام هو كلامه تعالى.
وأما الثالثة فلو قالوا: إن الله خلق القرآن قائماً بنفسه منفصلاً فهذا محال، أي: أن كلامه هو كلامه، ومع هذا خلقه خلقاً منفصلاً كما خلق السموات والأرض والجبال وفلان وفلان من الناس خلقاً منفصلاً قائماً بذاته، فيكون القرآن منفصلاً قائما بذاته فيكون هذا محال؛ لأن الكلام لا يكون إلا من متكلم، والإرادة لا تكون إلا من مريد، والعلم لا يكون إلا من عالم، وأي صفة من هذه الصفات لا بد أنها متعلقة بذات، ولا يمكن أن تكون هذه الصفة ذاتاً مستقلة.
فمثلاً نقول: إن علم عبد الله، هل يمكن أن يكون علمه شيئاً مستقلاً بذاته وعبد الله شيئاً مستقلاً بذاته ويكون علمه في الخارج لا يمكن ما دام أنه منسوباً إليه موصوفاً به، فإن الصفة لا تكون مستقلاً منفصلاً عن ذاته ولو أن المعتزلة تأملوا حقيقة في هذه الحجة لوجدوا أنها ملزمة وأنه ليس لهم وراءها أي شبهة، لكن القضية ليست قضية إقناع ولا حجة، هذه هي مشكلة الأنبياء مع أممهم، ومشكلة الدعاة مع المدعوين، ومشكلة أهل السنة مع المبتدعة دائما في كل زمان ومكان.
فالمسألة مسألة عناد واستكبار وتمرد وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14] فمهما جاءتهم من الآيات وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25] ومهما نوظروا به من الحجج فإنهم لن يهتدوا وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15،14] فمهما يعطون: إن فتحت لهم في الأرض أنفاقاً فمشوا فيها، وإن عرج بهم في السماء، ولو رأوا الجنة والنار؛ لقالوا سحر محمد أعيننا فرأينا أشياء ثم لما ذهب عنا السحر ذهب ما كنَّا نرى، ليس هناك مجال لأن يقتنع من لم يرد أن يهتدي.
فمن لم يوطن نفسه على الاقتناع، وعلى قبول الحق فإنه لن يقتنع، ومن طمس الله بصيرته، وأعماها عن الحق، فإنه لن يقبل، ولهذا لم يقبل بشر، ولم يقبل المأمون نفسه بعد أن سمع هذه الحجة وبعد أن رأى كيف انقطع بشر واستيقن من كلام الإمام الكناني فاستمر في الأمر وأمر أتباعه بأن يأخذوا الناس بقوة الحديد والنار، وأن يعذبوا ويمتحنوا العلماء واحداً واحداً؛ لكي يقولوا راغمين صاغرين: إن القرآن مخلوق وإلا فالويل والعذاب الشديد لمن لم يقر بذلك.
ثم قال المصنف رحمه الله:
[وعموم (كل) في كل موضع بحسبه ويعرف ذلك بالقرائن ألا ترى إلى قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] ومساكنهم شيء ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد: تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادةً، وما يستحق التدمير، وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام، إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها ولهذا نظائر كثيرة] اهـ.
الشرح:
إن مما يحتج به أهل البدع على أن القرآن مخلوق قولهم: إن القرآن شيء وقد قال تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] إذاً: فالقرآن مخلوق وكلمة "كل" للعموم يدخل فيها كل شيء.
فنرد عليهم من القرآن نفسه لنبين لهم أن كلمة "كل" في كل موضع بحسبه، فلا يعني ذلك أنه إذا جاءت كلمة "كل" أنها تعني العموم والشمول المطلق الذي لا قيد فيه ولا استثناء على الاطلاق، وإنما بحسب القرائن فكل كلام يُقالُ عادة فإنما يقال ضمن قرائن في موضع معين، فالقرائن تدل على ما يريده المتكلم فمثلاً: كل الطلاب يتمتعون بالعطلة يفهم من ذلك أنهم الطلاب الذي يدرسون على نظام وزارة التعليم العالي أو نظام وزارة المعارف؛ لكن لو كان هناك طلاب في شركات يتدربون أو في أعمال أخرى لا يشملهم هذا، وبطبيعة الحال لا نحتاج إلى أن تستثنيهم لأن المقام ليس مقام الحديث عن كل طالب في الدنيا، وإنما الكلام عن الشيء المعروف والمشاهد، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ما فسدت عقول الناس إلا لما تركوا منطق العرب ومالوا إلى منطق أرسطو.
فالعرب لهم منطق فطري يستدلون ويتكلمون بكلام معروف بقرائنه ولا يحتاج إلى أن يأتي أحد؛ فيقول: لا، هذا يكون عام أنت قصدت كل شيء، فأي إنسان من قريش ومن غيرهم نزل عليه القرآن اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا يمكن أن يرد في ذهنه أنه خالق صفاته؛ لأن صفاته شيء.
فهذه تأتي على منطق اليونان (منطق أرسطو) الذي هو منطق فاسد الفطرة، فمجرد الاحتمالات العقلية تتوارد على الذهن أمور كثيرة لكن المنطق الفطري السليم لا ترد عليه أمثال هذه الإشكالات.
ولذلك نستدل عليهم بالقرآن فنقول: إن الله تعالى قال في أصحاب الأحقاف: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] فالله تعالى لما سلط عليهم الريح العقيم ورأوا السحاب عارضاً فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24] كانوا يظنون أنه مطر وهذا من الاستهانة بعقوبات الله عز وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرى سحاباً عارضاً يتغير لونه صلى الله عليه وسلم ويخاف ويقول:(إن أمة قد ظنت أنه عارض ممطرها وكان عذاباً) .
فالمؤمن دائماً في قلبه وفي ذهنه الإحساس الدائم بأن هذا الكون بتدبير الله عز وجل وأن عقوبة الله قريب ممن يعصيه، فجاء العذاب ودمرهم ولم يبق إلا المساكن والآثار والديار الباقية بعد أن أصبحوا كأنهم أعجاز نخل خاوية فعندئذ يقول الله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فأخبر عن الريح أنها تدمر كل شيء بأمر ربها فلم تدمر المساكن بل بقيت ولم تدمر السماء ولا البحر ولا الصحراء وكل ما كان حولهم كلها باقية.
إذاً: قوله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ لا بد أن لها مفهوماً محدداً تحدده القرينة والواقع فيكون المعنى تدمر كل شيء كانت مأمورة بأن تدمره وأن تعاقبهم به، أو أي تفسير آخر يخرجها ولا يدخل فيها العموم والكلية المطلقة كالقول بأنها تدمر ما يقبل ويستحق التدمير.
وكذلك قوله تعالى حكايةً عن بلقيس وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] فالهدهد لما أخبر نبي الله سليمان عليه السلام فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل: 23] بلقيس امرأة كانت تملك تلك البلاد التي لم يكن سليمان يعلم بها ووصفها الهدهد بقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] فأوتيت كل شيء يلزم الملك أو يهيء لهم أو يستحقون به أن يكونوا ملوكاً فيريد أن يستثير سليمان عليه السلام إلى هذا الموضوع، فقال:أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ كأنه جاء بأمر جديد وغريب وأنها امرأة وأنها أوتيت من كل شيء ومع ذلك يعبدون شيئاً غير الله وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل: 24] .
ولذلك وصفها بهذه الصفة التي جعلت سليمان عليه السلام يهتم بالموضوع ويبذل كل الوسائل لكي يعرف ما هي حقيقة هذه المرأة التي جاء الهدهد بنبئها وخبرها، فالمراد إذاً: أنها ملكة أوتيت من أمور الملك ولوازمه ما يحتاجه الملوك عادة غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها.
وقال: [ولهذا نظائر كثيرة]، أي: أنه يوجد في القرآن وفي السنة وفي لغة العرب أن الكلمة العامة مثل "كل" وغيرها من ألفاظ العموم يكون عمومها بحسب الموضوع وبحسب القرينة.
ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[والمراد من قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أي كل شيءٍ مخلوق وكل موجود سوى الله تَعَالَى فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إِلَى هذا المعنى عند قوله: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم، فإذا كَانَ قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مخلوقاً لا يصح أن يكون دليلاً] اهـ.
الشرح:
بين المُصنِّفُ رحمه الله معنى العموم في قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ حيث يقول إن الله تَعَالَى خالق كل شيء مخلوق كل ما سوى الله تَعَالَى فهو مخلوق، فالله خالق كل شيء سواه، فلا يدخل في ذلك صفاته تعالى، ويُقَالَ: إنها مخلوقة؛ لأن صفاته تَعَالَى ليست ذواتاً منفصلة مستقلة، وإنما هي صفات لذاته سبحانه وتعالى فيقول إنه لا يدخل في العموم الخالق سبحانه وتعالى، ولكن يدخل فيه أفعال العباد ونص عَلَى هذا الكلام في هذا الموضع لأن المعتزلة يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وهم الذين يقولون: إن القُرْآن مخلوق فيجمعون بين قولهم: إن القُرْآن مخلوق وبين قولهم: إن العبد خالق لأنه يخلق فعل نفسه.
فَيَقُولُ: إذا كانت الآية عَلَى عمومها: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إذاً: فهو خالق أفعال العباد؛ لأن أفعال العباد تدخل ضمن كل. فهذا مما يلزمكم ويفحمكم.
أما صفات الله عز وجل ومنها كلامه، فإنها لا تدخل في عموم كل، لأن صفاته تَعَالَى لا يتصور انفصالها عنه، بل هو الموصوف سبحانه وتعالى بجميع صفات الكمال، كما تقدم في قوله [مازال بصفاته قديما قبل خلقه] .
ثُمَّ قَالَ: [بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم] أي أنه دليل عليهم فإن قوله تَعَالَى في الآية نفسها اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إذا كانت مخلوقة لا تصح أن تكون دليلاً.
وكما قلنا: إنه يلزم من ذلك التسلسل إِلَى ما لا نهاية؛ لأن الله عز وجل يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] والخلق يكون بالأمر إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فالله يأمر فيكون الخلق؛ فله الخلق وله الأمر، فإذا قلنا: إن كلامه وأمره مخلوق، فالأمر كله داخل ضمن الخلق فيحتاج إِلَى أمر آخر فكل أمر يتخيله فهو مخلوق، وإذاً جعلنا كلمة "كن" مخلوق.
فالله تَعَالَى إذا أراد: أن يقول للجبال: كوني أيتها الجبال فالجبال مخلوقة و"كن" مخلوقة فبأي شيء خلق "كن"؟ يحتاج إِلَى شيء آخر، وهكذا إِلَى ما لا نهاية. فلا بد: أن نقر بأن كلامه وأمره سبحانه وتعالى غير مخلوق وإنما بها يكون الخلق.
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رحمه الله إِلَى الشبه الأخرى وهي: استدلالهم بكلمة (جعل) عَلَى أن القُرْآن مخلوق.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وأما استدلالهم بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3]، فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كَانَ بمعنى خلق يتعدى إِلَى مفعول واحد كقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31،30] .
وإذا تعدى إِلَى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91] وقال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً [البقرة:224] وقال تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91] وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29] وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الإسراء:39] وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً [الزخرف:19] ونظائره كثيرة فكذا قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:30] اهـ.
الشرح:
إن من يستدل عَلَى أن القُرْآن مخلوق بقوله: إن جعل تأتي بمعنى خلق، شبهته باطلة فاسدة؛ لأنهم يقولون: أليس جعل تأتي بمعنى خلق في لغة العرب؟
فيقول اللغويون لهم: نعم.
فيقولون: إن الله تَعَالَى يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أي خلقناه قرآناً عربياً إذاً فالقرآن مخلوق.
يريدون أن يفحموا، ويلزموا بهذه الشبهة الواهية لمن تأملها وتدبرها، ويجاب عليهم بأن الفعل الماضي (جعل) يأتي في لغة العرب ناصباً لمفعولين، فإن أتى ناصباً لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق أو قريباً من معناها مثل قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور [الأنعام:1] جعل بمعنى خلق الظلمات والنور فـ"جعل" فعل ماضي والفاعل ضمير مستتر يعود إِلَى لفظ الجلالة، و"الظلمات" مفعول به وكذا قوله َجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] نفس الأولى "جعل" فعل ماضي و"نا" ضمير فاعل و"كل" مفعول به.
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي [الأنبياء:31] رواسي مفعول به، وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً [الانبياء:31] أيضاً مفعول واحد.
فمثل هذه المواضع تكون "جعل" بمعنى خلق؛ لكن هناك آيات تكون "جعل" فيها متعدية إِلَى مفعولين ولا يقول أحد إنها في هذه المواضع بمعنى خلق.
ولذلك نأتي بآيات قوية في الدلالة عَلَى هذا الشيء، لا يمكن للمعتزلي مهما مارى أن يقول إنها بمعنى خلق فقَالَ: إن قوله تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91] هل يمكن أن تقول: قد خلقتم الله عليكم كفيلاً، لا يمكن لأي معتزلي أن يقرأ جعلتم في الآية هذه بمعنى خلقتم أبداً، فلفظ الجلالة مفعول أول وكفيلا مفعول ثاني فـ"جعل" هنا بمعنى: صير، فتنصب المفعولين، وتكون بهذا المعنى وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة: 224] لا يمكن لأحد أن يقول: ولا تخلقوا الله، إنما معناه لا تجعلوه، ولا تتخذوه، ولا تصيروه، فلفظ الجلالة مفعول أول، وعرضة هو مفعول ثاني.
وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91] عضين أي أجزاء، فعضة أو عضو بمعنى جزء، فهَؤُلاءِ جعلوا القُرْآن أجزاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض أو قسموه فيما بينهم فمنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن. فنحن وأنتم نتناظر في مسألة القُرْآن نفسه هل هو مخلوق أو غير مخلوق، فإذا كَانَ قوله "الذين" تعود إِلَى الكفار كما في آخر سورة الحجر الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ فالكفار هم الذين خلقوا القُرْآن وأنتم لا تقولون بهذا أبداً إذاً فـ"جعل" ليس بمعنى خلق إنما بمعنى: اتخذوه عضين، أو صيروه عضين، أي: جعلوه أجزاءً.
وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29] فقوله: وَلا تَجْعَلْ ليس معناها ولا تخلق يدك، إنما معناها ولا تصير أو لا تتخذ يدك هذا هو المعنى القريب منها إذا كانت متعدية لمفعولين، وإذا كانت متعدية لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ [الأنعام:1]
والآية فيها عبرة ودقة، فلا يمكن أن يكون هذا من كلام البشر؛ لأنه خلق السموات والأرض والسموات والأرض، كما ترون جانب الخلق الحسي المشاهد عند الإِنسَان واضح فيها؛ لكن الظلمات والنور ليست أشياء يمكن للعقل أن يتصورها كمخلوقات محسوسة ملموسة أشبه ما تكون بالمعاني عَلَى الأقل في الذهن البشري.
في حسنا نَحْنُ البشر أن الظلمات والنور أشبه بالمعاني التي لا تنسب، ولا نستطيع أن نجعلها بنفس المستوى الذي هو للسموات والأرض، فهنا أتى بكلمة خلق، وهنا بكلمة جعل، ولله تَعَالَى في ذلك حكمة، وهكذا قد نظن وقد نتلمس الحكمة، ولكنَّ القُرْآن علمه عند الله عز وجل، ومن قال فيه برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً [الإسراء:39] معناها أي لا تتخذ مع الله إلها آخر وكذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَاد الرحمن إناثاً [الزخرف:19] ليس معناها أنهم خلقوا الملائكة ولكن صيروهم واتخذوهم أو اعتبروهم، فالملائكة مفعول أول وإناثاً مفعول ثاني: ونظائره كثيرة.
فخلاصة ما سبق أن "جعل" في لغة العرب تأتي متعدية ناصبة لمفعول واحد، وتكون بمعنى "خلق"، وتأتي متعدية وناصبة لمفعولين، وتكون بمعنى اتخذ أو صير، ولم يأتِ ذكر في القُرْآن بأن "جعل" تتعدى إِلَى مفعولين إلا بالمعنى الثاني الذي هو بمعنى اتخذ وصير لا بمعنى خلق وإذا خرج ذلك فإنه تبطل الشبهة ويبطل الاستدلال الذي يستدل به المعتزلة ومن حذا حذوهم في هذا الباب.
والشبهة الثانية وهي قولهم: إن الله خلق الكلام في غيره. أي هو كلامه لكنه خلقه في غيره، وفي ذلك كلام المُصنِّفُ الآتي.
شبهة من يقول: إن الله خلق الكلام في غيره والرد عليهم
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] عَلَى أن الكلام خلقه الله تَعَالَى في الشجرة، فسمعه موسى منها وعموا عما قبل هذه الكلمة، وما بعدها فإن الله تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن [القصص: 30] والنداء: هو الكلام من بعد: فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي ثُمَّ قَالَ: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] أي: أن النداء كَانَ في البقعة المباركة من عند الشجرة.
كما يقول سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كَانَ الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] وهل قَالَ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غير رب العالمين؟
ولو كَانَ هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] صدقاً إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله وقد فرقوا بين الكلامين عَلَى أصلهم: أن ذلك كلام خلقه في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله وسيأتي الكلام عَلَى مسألة أفعال العباد إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.
الشرح:
إن شبهة من يقول: إن كلامه هو ما يخلقه في غيره بينة البطلان وقولهم: إن خطاب الله لموسى عليه السلام هو أن الله خلق الكلام في الشجرة والشجرة هي التي خاطبت موسى عليه السلام ويستدلون بقوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] وقد نبه المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أنه يجب عليهم أن يتأملوا السياق من أوله ثُمَّ ما بعدها ليعلموا من هو المتكلم حقيقة، لأن أول الآية فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] والنداء هو الكلام عن بعد، فنودي موسى عليه السلام من شاطئ الوادِ الأيمن، فسمع موسى النداء من الشاطئ من عند البقعة المباركة من عند الشجرة فأنت عندما تقول: ناديت فلان من البيت. هل معنى ذلك أن البيت هو الذي ناداه؟ فالله تَعَالَى نادى نبيه موسى عليه السلام من تلك البقعة من الشجرة -أي من عند الشجرة- فـ"من" هنا تسمى ابتداء الغاية أي منها ابتداء أو سماع النداء إِلَى موسى عليه السلام.
فالشجرة إذاً ليست متكلمة لا بكلام تكلمت به، ولا بكلام خلقه الله تَعَالَى فيها، وإنما هي الموضع الذي سمع منه الكلام، وهذا واضح فيقول المُصْنِّف إِلَى قوله: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] فهل يمكن أن نقول الشجرة هذه العبارة؟ لا يمكن أبداً.
ولو قالت ذلك لكان قول فرعون (أنا ربكم الأعلى) وكلامها سواء!! بل كلام الإِنسَان الحي الناطق أولى بالقبول وأولى بأن يكون هو كلام الله أو أن يكون هو الحق والصدق من كلام الشجرة؛ لأن الإِنسَان يتكلم كما هو معلوم ففرعون أو غيره إنسان أعطاه الله الكلام فقوله: (أنا ربكم الأعلى) وقول الشجرة: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]
إذاً: كلاهما كلام الله!!
لكن ما الذي فعلته المعتزلة عكست الموضوع! فقالوا كلام فرعونخلقه فرعون في نفسه، وكلام الله خلقه الله في الشجرة، سُبْحانَ اللَّه! انحرفت العقول وضلت حتى أصبحت تثبت أن الإِنسَان هو خالق فعل نفسه، فكلمة فرعون (أنا ربكم الأعلى) هو الذي خلقها في نفسه، فلماذا لا يكون كلام الله هو الذي تكلم به عَلَى الحقيقة؟
فعلى قولهم هذا الكلام كلام الشجرة والله خلقه فيها فهو منها وهو كلام الله، وليس لله كلام إلا ما نطقت به الشجرة، فجعلوا الحق في موضع الباطل، والباطل في موضع الحق، عافانا الله من الضلالة، ولايكون هذا التفريق إلا إذا كَانَ مرجع الإِنسَان إِلَى الهوى والتحكم الذي لا دليل عليه، وهذا لا يمكن أن يضبط، وتجده يُجحف دائماً فيما كَانَ لغيره، ولكن ما كَانَ له فإنه يراه هو الحق وهو الصواب، ويعمي بصره عن قبول ما سواه.
وهَؤُلاءِ النَّاس لم يستمدوا الحق من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فأثبتوا أنفرعونإلهاً وأن كل إنسان هو خالق، والخالق هو الله سبحانه وتعالى من جهة.
ومن جهة أخرى: نفوا عن الخالق صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه ومنها صفة الكلام التي وقع فيها الجدال.
حتى قيل إن من أسباب تسمية العلم بعلم الكلام لما وقع فيه من الكلام والجدل
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
هذه هي حصيلة ما جمعوه.
دعوة الفلاسفة والمفكرين إلى التفكير فيما ينفع
إن الذي يضع رجله في الماء لكي لا ينام، ليفكر ويستنبط، وهذا أمثاله لو صرفت عقولهم إِلَى التفكير لا نقول في القُرْآن أو في التفسير أو في الحديث فقد كفى الله الأمة بهذه العلوم، ولكن لو أنها صرفت في التفكير الدنيوي مثل الرياضيات والحساب، أو في الفيزياء أو في الصناعة أو في الهندسة وفي غيرها من العلوم التي تنفع الأمة الإسلامية لكان للمسلمين في ذلك خير كثير، ولكن العقول الجبارة الضخمة اشتغلت بالشبهات والمناظرات والمناقشات في ذات الله، التي نهينا أن نفكر ونشغل عقولنا فيها، والكفار لما بدأ عندهم ما يسمى بعصر النهضة، شغلوا أنفسهم بالتجارب فقالوا دعونا من القياسات والاستنتاجات التي كَانَ يقول بها اليونانيون.
يقول أرسطو: إذا سقطت كرتان من مسافة برج عالي فإن الكبرى منهما تصل الأرض قبل الصغرى هذا استنتاج عقلي.
يقول العقل: الكبير يكون أثقل.
ويقول جاليلو: نجرب هذه قد لا تكون صحيحة فذهب ورمى كرتين فوقعتا عَلَى الأرض متساويتين فَقَالَ إن كلام أرسطو كلام غير صحيح. اعتبر الغربيون هذه الحادثة أول بداية النهضة وفي نظر كثير من الباحثين أن جاليلو اعتمد عَلَى التجربة الحسية وترك الاستنتاج العقلي المجرد، وهكذا لما عملت العقول، واستعملت فيما أذن الله أن تعمل فيه، وفيما شرع أن تشغل به وصلت إِلَى ماترون من التقنية لكن هَؤُلاءِ شغلوا عقولهم وعلومهم وأذهانهم بالشيء الذي أمرهم الله عز وجل أن يكفوا عنه، وأمرهم أن يسلموا فيه لله تَعَالَى وأن يقولوا كما قالالسلف الصالح كما ذكر الله عن الراسخين في العلم آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] آمنا بمحكمه وبمتشابهه بما علمنا وأدركنا وبما لم نعلم ولم ندرك بعقولنا.
فعقولنا أدركت بسهولة: أن الله هو الخالق الذي خلق الكون وآمنت به، فإذا جَاءَ العقل يوسوس كيف ينزل وكيف استوى.
نقول: كل من عند الله الذي قال هذه هو الذي قال هذه، وهكذا فالإِنسَان يؤمن بما جَاءَ من عند الله، ويكفيك أن هذا الكلام جَاءَ من عند الله، وبلّغه عنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل به الروح الأمين من عند الله سبحانه وتعالى، ثُمَّ نقله أصحاب مُحَمَّد إلينا، ثُمَّ من بعدهم من الثقات الأثبات، فيكفينا أن ينقلوا ذلك، وإذا كَانَ الإِنسَان لا يؤمن بشيء إلا إذا عرضه عَلَى عقله أو نظر هل يقبله العقل أولا يقبله؟
فما أكثر الضلال حينئذ، فأي عقول هذه التي نتحاكم إليها؟ عقلي أم عقلك!.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فإن قيل: فقد قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40والتكوير:19] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه، إما جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم.
قيل: ذِكْرُ الرسول معرَّف أنه مُبَلِّغٌ عن مرسله، لأنه لم يَقُلْ: إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأه من جهة نفسه.
وأيضاً: فالرسولُ في إحدى الآيتين جبريل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تُبَيِّن أن الإضافة للتبليغ، إذ لو أحدثه أحدُهُما امتنع أن يُحدِثَه الآخرُ.
وأيضاً: فقوله: رسول أمين، دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه، ولا ينقص منه؛ بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله.
وأيضاً: فإن الله قد كفَّر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر فمن جعله قول محمدٍ بمعنى أنه أنشأه فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً، لا من قاله مبلغاً ومن سمع قائلاً يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال: هذا شعر امرئ القيس، وَمَنْ سَمِعَهُ يقول:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) قال هذا كلامُ الرسول، وإن سمعه يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-4] قال هذا كلام الله، إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال لا أدري مِن كلام مَن هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذَّبه، ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له هذا كلام من؟ أهذا كلامك أو كلام غيرك] اهـ.
الشرح:
هذه الشبهة من الشبهات التي أثارها المبتدعة حول القرآن، وهي أحد الأقوال المشهورة في مذهب الأشعرية، ويقولون -كما قد سبق شرح مذهبهم-: إن القرآن الموجود بين أيدينا: هو عبارة أو حكاية عن كلام الله تعالى، وليس هو نفس كلام الله، وإنما كلام الله تعالى هو المعاني القائمة في نفسه، أو في ذاته ويستدلون بالبيت الذي ذكرناه سابقاً، وهو قول الأخطل الشاعر النصراني:
إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما جُعْلِ اللسانُ على الفؤادِ دليلاً
ويُردُّ عليهم أن الأخطل إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد) .
وثانياً: لاعبرة بقول الأخطل ولا بغيره في أمر من أصول الدين.
ويقولون: الكلام على معنيين: الكلام النفسي، أي: ما تنويه في نفسك أنت وتريده من المعاني والألفاظ التي تخرجها، فقالوا في حق كلام الله عز وجل: إن المعاني التي في نفس الله سبحانه وتعالى غير مخلوقة، لأنه من المُحال أن يحل في ذاته تعالى شيء من المخلوقات أو شيء من المحدثات، فيكون محلاً للحوادث، وأما الكلام المقروء المتلو المتعبد به المكتوب في المصاحف المحفوظ في الصدور فإنه مخلوق، هذا موجز لمذهب الأشعرية الذي هو في الأصل، مذهب عبد الله بن كُلاِّب الذي جاء به كمذهب وسط بين أهل السنة وبين المعتزلة، وراج هذا المذهب عند المتأخرين كثيراً.
وكان من أول من ذكر الإستدلال بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] وقال: إن معناه أن الذي عبر عن هذا الكلام هو: محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل هو القاضيأبو بكر الباقلاني المتوفي سنة (425) هـ، أو في أوائل القرن الخامس، إمام المذهب الأشعري، الذي أسس معظم القواعد المتبعة الآن، وانتشرت مؤلفاته في المغرب والمشرق، لأنه كان مالكي المذهب فانتشر مذهب الأشعرية في المالكية، وعلى هذا نص ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام الأشعري قال: إن المذهب إنما راج وانتشر في أول القرن الخامس، لانتشار كتب القاضي ابن الطيب الباقلاني سنة (410هـ) .
والباقلاني له رسالة اسمها رسالة الحرة، كتبها إلى إحدى الوجيهات أو سيدات في المجتمع في أيامه، ليبين عقيدته، وتسمى الإنصاف، وقد طبعت بعنوان "الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به " بتحقيق محمد زاهد الكوثري، وذكر فيها الاستدلال بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] والآيات الكثيرة التي ورد فيها ذكر نزول القرآن كقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاه) أو (نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) على أنه ليس المقصود به نزول حركة وانتقال، لأن الحركة والانتقال هي من شأن الأجرام، أو الأجسام، وإنما هو نزول إعلام وإفهام، فأوّلَ كذلك مسألة النزول؛ لأنهم لا يؤمنون بالعلو.
ثم قال: فالقرآن هو الكلام النفسي الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، يقول: وأما الذي بين أيدينا فإنما عبَّر عنه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انتشرت هذه المقالة في كثير من كتبهم، ولا تزال حتى اليوم، فالقرآن مخلوق بمعنى أنه كلام أو ألفاظ جبريل أو ألفاظ محمد صلى الله عليه وسلم، عبر به أحدهما عن كلام الله عز وجل النفسي، فالله خلق هذا الكلام فَعُبِّر عن كلامه به، فأحياناً يقولون عبارة وأحياناً يقولون حكاية، إلا أنهم يقولون كما نص على ذلك شارح كتاب الجوهرة بأنه يجب أن لا يُقال: إن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم فقط، ولا يُقال على العامة لأنه يُخشى أن يفهموا أن القرآن المخلوق هو كلام الله النفسي. وهذا لا يجوز، لكن إذا بينا لطلاب العلم أن مقصودنا بأن القرآن المخلوق هو هذا الذي في المصحف، فهذا لا بأس أن يُقال أو يُعلم.
هكذا نصوا على ذلك، واستدلوا بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] في آية الحاقة وفي آية التكوير.
الرد عليهم من عدة أوجه
ذكر المُصْنِّف رحمه الله الشبهة السابقة، وأخذ يرد عليها من عدة أوجه: الوجه الأول: (أنه ذكر الرَّسُول معرَّف بأنه مبلِّغ عن مرسِله) فعندما نقول قال الرسول، أو هو قول رسول، فإن كلمة "رسول" تدل عَلَى أنه مبلِّغ، وليس بمنشئ للكلام، فإذا قلت: قال لي رَسُول فلان كذا وكذا، فمعنى ذلك: أنك تقول إن فلاناً قال لي عَلَى لسان رسوله كذا وكذا، وهذا معروف ومفهوم في كلام العرب.
الوجه الثاني: أن الرَّسُول في إحدى الآيتين جبريل، وفي الأخرى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فقوله تَعَالَى كما في سورة الحاقةإِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول لٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وفي سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول لٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20] هو جبريل؛ لأنه هو المطاع الأمين، وهو الذي له القوة عند ذي العرش سبحانه وتعالى، ثُمَّ قال وَمَا صَاحِبُكُمْ أي: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ فالآيتان جاءتا بلفظ واحد إحداهما عن مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، والأخرى عن جبريل عليه السلام، فعلى كلامكم: لو أن هذه الحروف من نظم جبريل، أو من نظم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم! إذاً يكون كلٌ منهما قد تكلم بالقرآن أو نظَّم القرآن، وهذا غير صحيح، ولا يقبله العقل.
فإنه لا بد أن يكون الناظم أو المتكلم أحدهما، فإما أن يكون جبريل هو الذي نظمه ورتبه وقاله، أو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يمكن أبداً؛ بل هو يدل عَلَى أن كلاً من جبريل ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ما هما إلا رسول، والذي تكلم به وقاله بهذا الترتيب المعروف المقروء هو الله سبحانه وتعالى، لكن جبريل بلَّغه من الله إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل ثُمَّ بلغه إلينا.
فهذا رَسُول من الله إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ورَسُول الله مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم واسطة بيننا وبين جبريل عليه السلام، فالذي تلقاه من الله عز وجل أمين حفظه لم يزد فيه ولم ينقص، وإلا لحصل له الوعيد الذي توعد الله به في سورة الحاقة، وفي سورة الإسراء وغيرهما.
فإذاً الإضافة هنا للتبليغ كما قال المصنف، لأنه لو أحدثه أحدهما أو تكلم به أو نظمه لامتنع أن يكون الآخر محدثاً وناظماً له.
الوجه الثالث: قول المُصْنِّف فقوله: رَسُول لٌ أَمِينٌ دليل عَلَى أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه؛ بل هو أمين عَلَى ما أرسل به يبلغه عن مرسله، وهنا علق الشيخ الألباني كما علق الشيخأحمد شاكر في الطبعة القديمة، يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: (إن الآية التي ذكرها الشارح إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول لٍ كَرِيمٍ جاءت مرتين في سورة الحاقة آية 40، وسورة التكوير آية 19، ثُمَّ قال في سورة التكوير: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثُمَّ أَمِينٍ يقول: فتعبير المُصْنِّف بقوله: "رَسُول أمين" فيه شيء من التساهل؛ لأنه لم يرد به حكاية التلاوة "بمعنى: ليس هناك آية تقول رَسُول أمين من الآيتين" وإنما أراد المعنى فقط، ولو وصف الرَّسُول بأنه أمين لكان أدق وأجود، وهذا معنى واضح.
فقوله: رَسُول أمين، المقصود وصف الله تَعَالَى للرَسُول بأنه رَسُول أمين دليل عَلَى أنه لا يزيد في الكلام، الذي يؤمر بتبليغه، ولا ينقص منه شيئاً، ولو كَانَ هو الذي ينشأ الكلام ويحدث الكلام من عند نفسه، لما كَانَ لهذه الصفة ميزة، فإن الإِنسَان لا يُقال عنه: إنه أمين في كلامه إلا باعتبار ما ينقل أو ما يتكلم به عن الغير، أما إذا تكلم عن نفسه فلا يقَالَ: إنه أمين فيما قال عن نفسه، وإنما يقال صادق أو ما أشبه ذلك.
الوجه الرابع: أن الله سبحانه وتعالى قد كفَّر من جعله من كلام البشر، ولا شك في كفر من قال ذلك، لكن ما الفرق بين القولين؟
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: إن الفرق بين هَؤُلاءِ -أي الأشعرية - الذين يقولون إن القُرْآن له معنيان: المعنى النفسي غير المخلوق، والثاني الذي في المصاحف، فهو مخلوق من كلام البشر، أو من كلام جبريل أو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وبين الكفار الذين قالوا: إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ، بمعنى: أن معناه وحروفه من كلام البشر، أي أن الله لم ينزل هذا القُرْآن ولم يتكلم به.
الفرق أن هذا القول من الأشعرية فيه مضاهاةٌ للمشركين في نصف قولهم، إذ أن الْمُشْرِكِينَ قالوا: اللفظ والمعنى من كلام البشر، وهَؤُلاءِ قالوا: اللفظ من كلام البشر، فقالوا نصف ما قاله المُشْرِكُونَ، ومعلوم باتفاقأهل السنة والأشعرية وغيرهم أن الْمُشْرِكِينَ كفار؛ لأنهم أدعوا أن هذا القُرْآن هو من كلام البشر، يقول الشيخ فمن جعله قول مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بمعنى: أنه هو الذي أنشأه وتكلم به من عنده فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول إنه قول بشر أو جني أو ملك.
ثُمَّ انتقل المُصْنِّف رحمه الله إِلَى الاستدلال بما هو معروف في كلام العرب، وهو: أن الكلام إنما هو كلام من قاله مبتدئاً لا كلام من قاله مُبلّغاً، فمن قَالَ: كلام مَنْ هذا؟ فإنّما يسأل عن الذي أنشأه وتكلم به وأستأنفه وابتدأه، لا من بلغه أو حكاه أو نقله، ويضرب لذلك أمثلة يقول ممثلاً بالمعلقة المشهورة التي هي أشهر الشعر عند العرب معلقة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إلى آخر هذه المعلقة، فمن سمع قائلاً يقول هذا البيت، فإنه يقول هذا شعرامرئ القيس، وإن كَانَ معروفاً أن امرئ القيس توفي في الجاهلية، وإنما هو يعبر عما يسمعه الآن من قول، ولكن المقصود: أن هذا ليس هو كلام من ينطق به الآن، وإنما هو كلام من ابتدأه وقاله أولاً.
وأيضاً: نفس القائل لو سمعناه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) أو (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) قلنا: هذا كلام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فهل معنى هذا أن الإِنسَان الواقف أمامنا هو رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عياذاً بالله؟ لا. وإنما هو ينقل أو يحكي كلاماً عن غيره، فالكلام إذاً يطلق عَلَى من تكلم به مبتدئاً، أما هذا فهو ناقل لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً ابتدأنا بالشاعر ثُمَّ انتقلنا إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، والآن انتقلنا إِلَى درجة ثالثة.
ولو أن هذا القائل قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين أو تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] أو نحو ذلك، فنقول هذا كلام الله، ولا يعني أن الذي يتكلم وينطق بهذه الألفاظ هو الله عياذاً بالله، وإنما هذا كلام الله لأن الكلام لمن ابتدأه، وأما هذا الرجل فهو ينقل أو يحكي أو يقرأ كلام الله عز وجل بلسانه، فالقرآن هو كلام الله عز وجل، ولا يخرجه عن ذلك أن أحداً يقرأه أو يكتبه أو يسمعه.
ولهذا يُقَالَ: لو أن هذا الرجل الذي علم أن هذا كلام الله قَالَ: عندما سمعه لا أدري كلام من هذا وهو لا يدري حقيقة، فيأتي رجلٌ فَيَقُولُ: كيف لا تدري؟ وهذا المتكلم أمامك؟
فسيقول: أنا لم أقصد الذي ينطق به الآن، وإنما لا أدري الذي ابتدأ الكلام، فالذي يتكلم الآن أمامي واضح أعرفه، لكنه ليس من عنده، فهذا دليل فطري بدهي واضح عَلَى بطلان دعواهم وزعمهم.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وبالجملة فأهل السنة كلهم، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون عَلَى أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وقد يطلق بعض المعتزلة على القُرْآن أنه غير مخلوق ومرادهم أنه غير مختلق مفترى مكذوب؛ بل هو حق وصدق، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق الْمُسْلِمِينَ، والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته؟ وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه، ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع، معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر، لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع، ولو تُرِك النَّاس عَلَى فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة، لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إِلَى بعض النَّاس أغلوطة من أغاليطة، فرقَّ بها بينهم وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:76] اهـ.
الشرح:
يجب علينا أن ننتبه إِلَى هذه العبارة بدقة، لأنها قد تفهم عَلَى غير وجهها، وكان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يفصّل فيها وأن يوضحها أكثر من ذلك، لأنه يقول "وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف، متفقون عَلَى أن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء، وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم)
فيريد المُصنِّفُ رحمه الله أن يقول إن الذين قالوا: إن كلام الله مخلوق بدون تحفظ، هم مخالفون لمجموع الأمة كلها، فإن أكثر الأمة يقولون: إن القُرْآن غير مخلوق، وإنما اختلفوا في مفهوم القُرْآن هل هو المعنى القائم بالذات، أو هو الألفاظ والمعاني معاً، أو الحروف والأصوات معاً، أو أنه بدا له الكلام بعد أن لم يكن متكلماً كما هو مذهب الكرامية.
ففي هذه العبارة إجمال: لأن أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم قد انقسموا إِلَى من يقول إن القُرْآن مخلوق اللفظ والمعنى، وهَؤُلاءِ هم المعتزلة، وإلى الذين يتبعون السلف والأئمة الأربعة وهَؤُلاءِ يقولون: إن القُرْآن كلام الله ألفاظه ومعانيه غير مخلوق، ثُمَّ حدث الرأي الثالث.
وقد نص العلماء عَلَى أنه إذا اختلف السلف الصالح فقالوا قولاً وخالفهم رجل أو طائفة فأحدثت قولاً بخلاف ما كَانَ عليه السلف، وأصبحت المسألة عَلَى قولين، فإنه لا يصح لأحد أن يأتي فيحدث قولاً ثالثاً.
ولهذا نقول: إن الذين قالوا بالفرق بين الكلام المعنوي أو النفسي، وبين الكلام اللفظي إنما هم مبتدعة أحدثوا بدعة جديدة، لكن المُصنِّفُ رحمه الله كأنه يريد أن يقول: إن أهل السنة هنا بمعنى ما يقابل المعتزلة كذا، وتطلق بما يقابل الشيعة، فيُقَالُ:: قالأهل السنة كذا، وقال الشيعة كذا، وذلك كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في منهاج السنة وفي غيره، لاشتهار الشيعة في مخالفة الحق وعدم اتباع السنة، فأصبح من لم يكن شيعياً فإنه من أهل السنة مع أنه قد يكون فيه من البدع ما الله به عليم.
وكذلك أول ما حدث الأمر أيام فتنة الإمام أَحْمَد ومن معه من العلماء، كَانَ النَّاس يعرفون بأحد تعريفين، فيُقَالُ: هذا من المعتزلة، وهذا من أهل السنة، أي: من الذين ليسوا عَلَى مذهب المعتزلة، فابن كلاب ومن معه كانوا ضد المعتزلة، ولذلك لما أعلنأبو الحسن الأشعري توبته ورجوعه عن المعتزلة أعلنها بقوة، وانخلع وتجرد عن مذهب الجبائي وعن مذهب المعتزلة، واعتبر نفسه من أهل السنة مع أنه في تلك المرحلة لم يدخل في مذهب أهل السنة، وإنما دخل في عقيدة عبد الله بن سعيد بن كلاب التي هي برزخ بين السنة وبين الاعتزال، فيجب أن نتنبه إِلَى مقصود المُصنِّفُ بهذه العبارة.
وأما نزاع المتأخرين الذي أشار إليه هنا فيجب أن يُعتبر بدعة؛ لأنه لا يجوز إحداث قول ثالث، بل يجب أن يتبع كلام السلف الصالح وحدهم.
أقسام المذاهب في الحديث عن القرآن
وكلام المُصْنِّف فيه إشارة إِلَى الثلاثة المذاهب:
الأول: أنه معنى واحد قائم بالذات، وهذا كلام ابن كلاب.
الثاني: أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا هو مذهب الكرامية.
الثالث: أنه لم يزل مُتكلّماً إذا شاء ومتى شاء، وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وهذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وهو المذهب الحق في هذه الأقوال الثلاثة، أما قول الكلابية فهو مذهب مبتدع كمذهب المعتزلة.
وأما قول بعضالمعتزلة: إن القُرْآن غير مخلوق، بمعنى: أنه غير مختلق ولا مفترى، فيقول المصنف: إن هذا حق، فالقرآن غير مختلق ولا ريب أن هذا المعنى منتفٍ باتفاق الْمُسْلِمِينَ، فليس فيما قالوه جديد، وإنما النزاع والخلاف القائم في القُرْآن هل هو مخلوق خلقه الله مثل سائر المخلوقات؟ أو هل هو كلامه تكلم به عَلَى الحقيقة؟ هذا هو النزاع الحقيقي.
اعتراض المصنف على قول المعتزلة
ويتعرض المُصْنِّف رحمه الله في آخر الحديث إِلَى قضية مهمة منهجية، فَيَقُولُ:[إن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع، معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر، لم يتلقوه عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه] وهذا هو أساس البلاء والضلال والابتداع.
فالمعتزلة يقولون: إن البراهين العقلية تقطع بأنه يستحيل أن تقوم الحوادث بذات الله، فالعقل يدل عَلَى أن هذا القُرْآن ليس كلام الله، وليس عَلَى هذا القول دليل من الكتاب أو السنة، أو قول أحد من الصحابة أو التابعين.
وإنما يقولون: يدل عَلَى ذلك العقل والبراهين العقلية القطعية، وفي الحقيقة أن هذا العقل ليس هو عقل فلان ولا فلان من المعتزلة وغيرهم، إنما هذه العقول هي عقول الوثنيين الْمُشْرِكِينَ مناليونان، وهَؤُلاءِ نقلوا كلام اليونان وأدخلوه في كلام أهل الإيمان، فأفسدوا به العقول.
والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يقول: [ولو تُرك النَّاس عَلَى فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع] أي: في كلام الله عز وجل وفي توحيده، وفي القدر وغير ذلك من أمور العقيدة، لأنها واضحة ومعلومة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أكمل الله له الدين، فأعظم ما وضحه النبي صلى الله عليه وسلم هو أمور التوحيد والإيمان. والصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- هم أكثر النَّاس علماً وعقلاً وذكاءً وفهماً، وما تركوا شيئاً مما يقربهم إِلَى الله إلا وتلقوه عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، إما سماعاً منه، وإما سؤالاً منهم له صلى الله عليه وسلم، فهم أكمل النَّاس إيماناً، ومن مارى في ذلك أو جادل فلا شك في ضلاله وزيغه وإلحاده.
ويقول المصنف: [ولكن ألقى الشيطان إِلَى بعض النَّاس أغلوطة من أغاليطه] فالشيطان هو الذي سول لعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وابن كلاب وغيرهم أن يخرجوا عما كَانَ عليه السلف الصالح -رضوان الله تَعَالَى عليهم- وأن يقولوا بهذا: إما بالرد لكلام الله عز وجل ولكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإما بالتأويلات، وإلا فإن الفطرة القويمة والعقل السليم يقطع بأنه لا بيان أوضح من بيان الله عز وجل فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50] .
فلا حديث بعد القُرْآن يؤمن به، ففيه الحجة والبرهان الساطع، والدليل الواضح في جميع ما اختلفت فيه الأمة من المسائل، ولكن وقع الشقاق والخلاف في الأمة لما أن ركضوا وراء الأهواء، وأخذوا يلوكون كلام الله عز وجل، ويقولون فيه كما يشاءون، ويتقولون عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بما يريدون، وإذا جاءهم من يقول هذا كلام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أو كلام الصحابة أو التابعين، قالوا: هَؤُلاءِ حشوية ينقلون الكلام ولا يفهمون معناه ولا يعرضونه عَلَى عقولهم.
وقد سبق أن أوضحنا أن الرد إِلَى العقول رد إِلَى الحيرة والضلال والشك، فأي عقل يرجع إليه النَّاس مع أن عقولهم تتفاوت في الأمور المشاهدة بالعين، فهذا يقول: إنه كبير، وهذا يقول: لا بل صغير، وهذا يقول: لونه كذا، وهذا يقول: لونه كذا، في شيء رأوه جميعاً بأعينهم، فكيف تحكم العقول في الأمر الذي لم تخلق لمعرفته ولا لاكتشافه، وإنما خلقت لتتلقى عن مصدر معلوم موثوق، ثُمَّ لتعتقد بعد ذلك ما يأتيها من عند الله سبحانه وتعالى، فالله تبارك وتعالى جعل هذه العقول آلة لفهم ما ينزل إليها من عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا فالمجنون ومن لا عقل له غير مؤاخذ؛ لأنه لا يفهم ما ينزل من عند الله سبحانه وتعالى وما يقوله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لكن العاقل الذي أعطي هذه الآلة ليفهم بها كلام الله مؤاخذ إن لم يتدبر ويتفقه كلام الله، ويعمل به ويمشي بموجبه.
وليس المعنى: أن ما جَاءَ في الوحي يعرض عَلَى العقل، فما قبله كَانَ صحيحاً وما رده كَانَ خطأً أو باطلاً، فيصبح العقل حَكَماً عَلَى ما جَاءَ في الوحي، فإن هذا لا يمكن ولا يليق بحكمة الله عز وجل، لكن اللائق بحكمته أنه ينزل الهدى والحق والنور، ثُمَّ من رحمته بالإِنسَان أنه أعطاه الآلة التي يتدبر بها هذا الحق والهدى والنور، ويفهمه ويستنبط منه، ويجتهد في العمل به وفي تطبيقه، أما إذا كَانَ العقل نداً وخصماً، فيخطئ ويصوب، فليس هناك حكمة، ولا فائدة في إنزال الوحي إذا كانت العقول يمكن أن تدرك الحق والهدى والضلال، وتستقل بمعرفته من دون كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أساس التخبط والضلال.
ذكر المُصنِّفُ رحمه الله تَعَالَى أن هنالك طائفة من المتأخرين المنتسبين إِلَى الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والفضل يقولون: إنما نتلقى عن الأئمة أحكام الحلال والحرام، وأما ما يتعلق بمسائل الاعتقاد وأمور الإيمان والغيب، فهذا نأخذه من أهل الكلام مع إطباق الأئمة عَلَى ذم علم الكلام وأهله، كما هو منقول في هذا الكتاب عندما نقل كلام الأئمة رحمهم الله تعالى، ومنهم الإمام أبا حنيفة وصاحباه، والشَّافِعِيّ وغيرهم في ذم أهل الكلام، وقالوا ذلك في كتب الفتاوى الحنفية كالفتاوى الظهيرية وغيرها وقد نصت: عَلَى أنه إذا أوقف الرجل وقفاً وجعله لأهل العلم فإن أهل الكلام لا يدخلون فيه، لأن الإمام أبا حنيفة نص عَلَى أن علم الكلام ليس من العلوم الشرعية، وكذلك صاحباه.
فهكذا ينصون عليه في فتاواهم التي تقتفي أثر أئمتهم السابقين، ولكنهم مع ذلك يدَّعون ويزعمون أن الحق في أمور العقيدة ليس مع هَؤُلاءِ الأئمة، وأن هَؤُلاءِ الأئمة إنما كانوا عَلَى مذهب السلف الذي هو مجرد تفويض المعنى دون علم وفهم للصفات!
وليس الموضوع خاصاً بالصفات؛ بل بكل أبواب العقيدة؛ فهو متعلق بالإيمان، وبالقدر، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبغير ذلك من أبواب العقيدة، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.
ونجد أن كثير اً من المتأخرين من أتباع الأئمة قد خالفوا أئمتهم المتقدمين أعلام الهدى المجمع عَلَى الاقتداء بهم -وكما سبق- أن الانتساب عند المتأخرين أصبحت نسبة ثلاثية، فتجدهم يذكرون ثلاثة ألقاب فيقولون: فلان الحنفي مذهباً الماتريدي عقيدة الجنيدي أو القادري طريقة، فلان بن فلان الحنبلي مذهباً القادري طريقة الأشعري عقيدة، وكذلك المالكي وهكذا، فنجد أن هناك ثلاث نسب: نسبة في الفقه وهذه للإمام.
والنسبة الثانية: في العقيدة وهذه للمتكلمين والنسبة الثالثة: في السلوك وطريقة العبادة: وهذه يجعلونها لأحد أئمة الطرق الصوفية الذي ارتضوه شيخاً لهم، مع أن الأمة عندما أجمعت عَلَى فضل الأئمة الأربعة ارتضوا الآخرين كالإمامالأوزاعي، وابن المبارك، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينه، وسفيان الثوري، والطبري وأمثالهم من الأئمة الأجلاء، فعندما أجمعت الأمة عَلَى فضل هَؤُلاءِ الأئمة والاقتداء بهم لم تجمع عليهم لكونهم أئمة في الفقه فقط فقد يستنبطون أحكاماً دون أن يكون لهم منهج صحيح في العبادة، فلو أن لهم مخالفةً في أمورِ العقيدةِ لنُسِبوا إِلَى البدعةِ، ولُذِكَرَ ما عندهم من المخالفات في العقيدة، ولما كانوا أئمة يحتج بهم، ومجمعاً عَلَى فضلهم.
ولهذا لما أخطأ الإمامُ أبو حنيفة رحمه الله في مسألة الإيمان بيِّن الأئمة ذلك الخطأ مع إجلالهم له وإجماعهم عَلَى فضله -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وأنه من الأئمة الذين أجمعت عليهم الأمة، وكذلك الإمام مالك رحمه الله لا يستطيع أحد أن يطعن في عبادته أو يقلل من تقواه وورعه وزهده، وكان مضرب المثل في عصره ثُمَّ يأتي بعده من يقول: إنه المالكي مذهباً القادري طريقة!!
وهل الإمام مالك رحمه الله لم يكن لديه من التعبد والزهد والتقوى ما يجعلك لا تجد فيه أسوة في هذا الجانب أبداً؟ وإنما تذهب إِلَى عبد القادر الجيلاني أو الشاذلي أوالجنيد أو إِلَى أي فلان كائناً من كان! هذا الإِنسَان من القرون المتأخرة الذين لا يمكن أن يبلغوا من الفضل والتقى والورع والزهد مبلغ أُولَئِكَ الأئمة.
وكذلك الإمام الشَّافِعِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- كَانَ حجة في جميع العلوم حتى في اللغة والشعر ومع ذلك يقولون: لا نأخذ عن الشَّافِعِيّ في العقيدة، إنما نأخذ عنه الأحكام.
فمثلاً فخر الدين الرازي الإمام المتأخر من الأشعرية كتب كتاباً فيمناقب الشافعي يُدافع فيه عن مذهب الشَّافِعِيّ في الفروع، ولكنه في الأصول: كمسألة الإيمان يرجح غير ما رجحه الشَّافِعِيّ، وما ذكره الشَّافِعِيّ هو الصحيح، ونقل الإجماع عليه من الأئمة، ومع ذلك يخالفه!
والعجيب أن أتباع هَؤُلاءِ الأئمة هم من المقلدين المتعصبين للإمام في مسائل نجد أن الأئمة رحمهم الله خالفوا فيها الدليل وهذا لا يستغرب أن أحداً من الأئمة كائناً من كَانَ يكون له فتوى أو رأياً فقهياً مخالفاً للحديث الصحيح، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله أسباب ذلك في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام وذكر من الأسباب أنه قد لا يبلغ الإمام الحديث، وقد يفهمه عَلَى غير وجهه أو قد لا يرى صحته وغيرها من الأسباب.
فالمهم أن الإمام قد يخطئ ويكون له بذلك أجر واحد عَلَى اجتهاده. يقول المصنف رحمه الله: أو يذهب إلى قول مخالف للحديث الصحيح، مع أن الأئمة رحمهم الله جميعاً نصوا عَلَى أنه إذا خالف قول أحدهم الحديث الصحيح: فإنه يجب علينا أن نأخذ بالحديث وأن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، لكن أتباعهم خالفوهم في هذا الشأن، فيتعصبون لهم أشد التعصب في مسائل فقهية مرجوحة وضعيفة.
ومع ذلك فهم لا يأخذون بأقوالهم في العقيدة التي هي مسائل قطعية إجماعية لم يختلف فيها السلف ولم يختلف فيها الأئمة الأربعة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجمعين: كمسألة القُرْآن لم يختلف أحد من الأئمة الأربعة أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق وسنرى ماذا قاله الأتباع وماذا قال أئمتهم.
فمثلاً يأتي الحنفي فَيَقُولُ: إن شرب النبيذ حلال ما لم يسكر، وأن قليل الخمر الذي لا يسكر حلال.
فيُقال له: إن هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم وإن الأمر ليس مجرد الإسكار فقط بل الخمر قليلها وكثيرها حرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما أسكر كثيره فقليله حرام)(وكل مسكر خمر) ومع ذلك يقولون: لا، ويصرون عَلَى كلام الإمام.
وفي مذهب الحنفية: أنه إذا ضحك أحد في الصلاة يجب عليه أن يتوضأ، مع أن القهقهة لا تنقض الوضوء، ولم يثبت في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ أبا حنيفة رحمه الله ذكر ذلك فاتبعوه وتمسكوا بقوله أشد التمسك، ولا يقرون بأن أبا حنيفة أخطأ في هذه المسألة، بل الكرخي -أحد أئمتهم المتأخرين- يقول: كل حديث أو قول ليس في مذهبنا فإن الدليل أو الحديث الدال عليه إما منسوخ أو ضعيف أو مؤول والعياذ بالله، ولو كَانَ في صحيح البُخَارِيّ، أو كَانَ غير منسوخ من شدة تعصبهم لكلام الأئمة.
وكذلك الشافعية يأتون مثلاً إِلَى أمور مرجوحة كمسألة اللمس أو المس. فمجرد ملامسة البشرة للبشرة عندهم تنقض الوضوء، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم (لمس ولمسته أمهات المؤمنين وقبَّل نسائه ولم يتوضأ) ومع ذلك فهم يقولون: إن مجرد اللمس ينقض الوضوء ويتحرجون من ذلك تحرجاً شديداً حتى أن الإِنسَان إذا توضأ يأخذ عَلَى يده أي شيء حتى لا يلمس يد زوجته وهو لا يقصد الشهوة ولا يقصد أي شيء، لكن هذا من شدة التمسك بالمذهب.
فنقول لهم: مع هذا التمسك الشديد في الأمور الفرعية أين التمسك بالأصول القطعية المجمع عليها؟ فالإِنسَان في المسائل الفقهية بين الخطأ أو الصواب ولكنه في أمور العقيدة بين الكفر أو الإيمان، وبين السنة أو البدعة، فأيهما أولى بأن نكون حريصاً عليه؟
إنالسلف الصالح رضوان الله عليهم بينوا لنا ذلك، فالصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم اختلفوا في أحكام فقهية من الصلاة والغسل والوضوء والحج والمورايث وفي أمور معلومة، واختلافهم هذا رحمة بالنسبة لنا، لا كما يفهم بعض الذين ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم الحديث الموضوع (اختلاف أمتي رحمة) إنما هو من باب: أن ديننا يقبل الاجتهاد والنظر، ولو لم يختلفوا لما جاز لنا أن نجتهد إلا أن نقول كما قالوا، ولهذا فنحن نقول في مسائل العقيدة: إن الصحابة أجمعوا عليها فلا يجوز لنا أن نجتهد عَلَى الإطلاق، والصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- ومع اختلافهم في هذه المسائل فقد اتفقوا عَلَى محاربة أهل البدع.
فعندما ظهرت الخوارج قاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قتالاً بالسيف، ولما ظهرت الشيعة وجاءوا إِلَى عَلِيّ وَقَالُوا: أنت هو، قَالَ: من هو؟ قالوا: أنت الله، فحفر الأخاديد وأحرقهم بالنار ولم يخالفه أحد من الصحابة إلا أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: لو كَانَ الأمر إليَّ لقتلتهم بالسيف ولم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تعذبوا بعذاب الله)
فخالفه في الكيفية ولم يخالفه في نفس العمل أي: أنهم متفقون عَلَى أنهم يقتلون، واتفقوا كذلك عَلَى زجر القدرية وهجرهم وتبديعهم لهم والبراءة منهم، كما ورد عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فنجد أنهم مع اختلافهم في بعض الفروع فقد اتفقوا الاتفاق التام في العقيدة والأصول ومحاربة أهل الضلال والزيغ والابتداع.
وورث الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الْمُسْلِمِينَ وأئمتهم وفضلائهم؛ ما كَانَ عليه الصحابة والتابعون في هذا الشأن، حتى نبغ هَؤُلاءِ المتأخرون وخالفوا في ذلك، وقالوا كما ذكر المصنف: نأخذ من الأئمة ونتلقى عنهم الأحكام فقط، وأما في أمور العقيدة وأصول الدين والإيمان فإننا نأخذها من المباحث العقلية التي حررها فلان، وفلان من أهل البدع ومن أهل الكلام، وهذا الذي من أجله أراد المُصنِّفُ رحمه الله أن يرد عَلَى مذهب الماتريدية الحنفية بكلام الطّّحاويّ وكلام الإمام أبي حنيفة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[والذي يدل عليه كلام الطّّحاويّ رحمه الله: أنه تَعَالَى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر فإنه قَالَ:(والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن عن موسى عليه السلام وغيره من الأَنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام وعنفرعون وإبليس، فإن ذلك كله كلام الله إخباراً عنهم، وكلام الله غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) انتهى.
فقوله: ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له من صفاته يعلم منه أنه حين جَاءَ كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى كما يفهم ذلك من قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] ففهم منه الرد عَلَى من يقول من أصحابه: أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع وإنما يخلق الله الصوت في الهواء، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله: الذي هو من صفاته لم يزل رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً] اهـ.
الشرح:
في طبعة الشيخ الأرنؤوط أن المتن الذي نقله المصنف، نقله من نفس متن شرح الفقه الأكبر وقد سبق الحديث عن كتابالفقه الأكبر، ونسبته إِلَى الإمام أبي حنيفة صحيحة عند الحنفية، وأما إذا نظرنا إِلَى رجال السند فإنه يشك في نسبته إليه، بل لا يصح السند لأنه مروي من طريق أبي مطيع البلخي وهو الحكم بن عبد الله أحد فقهاء الحنفية في القرن الثالث، وهو ضعيف في الرواية؛ بل قد اتهم بأكثر من الضعف، ومع ذلك فهو من فقهاء الحنفية المعتبرين في الفقه، وهم يوثقونه، ويرون أن ما ينسبه إِلَى الإمام أبى حنيفة فهو كلام موثوق مقبول.
وكتاب الفقه الأكبر -على ما فيه من بعض الأخطاء التي هي من وضع أبي مطيع البلخي؛ إلا أن الذي يبدو عند التحقيق أن الكتاب له أصل عن الإمام أبي حنيفة، ولكن أبا مطيع البلخي أضاف إليه من عنده أشياء ونسبه كله للإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، ولو أن الحنفية -على ما في الكتاب من بعض المخالفات كما في مسألة الإيمان- التزموا بما فيه لكان أهون، ولكنهم ليسوا متمسكين بما في الفقه الأكبر مع أنهم يصححون نسبته إِلَى الإمامأبى حنيفة رحمه الله وليسوا أيضاً عَلَى ما في هذه العقيدة الطّّحاويّة (المتن) مع أن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ من كبار أئمتهم المعتبرين المعدودين، وهم مع ذلك قد خالفوا هَؤُلاءِ الأئمة.
مذهب الإمام أبي حنيفة في الكلام عن القرآن
يقول الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-كما في كتابه الفقه الأكبر: (والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقه، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن حكاية عن موسى وغيره من الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم وعنفرعونوإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى، إخباراً عنهم.
وكلام الله غير مخلوق وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تَعَالَى فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) اهـ.
هذا هو النص الموجود في الفقه الأكبر وفي شرحه للملا علي القاري أحد الحنفية المتأخرين المتوفي في القرن العاشر، وقد نقل المُصْنِّف هذا الكلام ليستدل به عَلَى أنه مطابق لما ذكره -أيضاً- الإمام الطّّحاويّ في المتن، فعندنا الإمامأبو حنيفة رحمه الله الذي أصَّل المذهب الذي يُنتسب إليه الأحناف المتوفي سنة (150هـ) ، والإمام الطّّحاويّ رحمه الله المتوفي سنة 321هـ والإمام ابن أبي العز هَؤُلاءِ الثلاثة هم من عمد المذهب، الأول إمام المذهب، والثاني من الأئمة المشهورين في عصره، والثالث كَانَ من كبار قضاة الحنفية بل وغيرهم في زمانه؛ لأنه وُلي ما يُسمى "قاضي القضاة"، أي رئيس القضاء الأعلى في البلد في أيام المماليك.
فهَؤُلاءِ الثلاثة يقولون قولاً واحداً وهو أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق، ويخالفون في ذلك الماتريدية، وقلنا إن أبا منصور الماتريدي: رجل عاش في القرن الرابع في بلاد ما وراء النهر وينتسب إِلَى الإمام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه لكنه تعلق بعلم الكلام، وناظر المعتزلة وناقشهم وأكثر من مخالفتهم، وكان متأثراً بالمنهج الكلامي في الجملة، فخرج عن كثير مما قرره الإمام -أبو حنيفة رحمه الله، وأصبح الأحناف ينتسبون إليه في العقيدة وينتسبون إِلَى الإمام أبي حنيفة في الفقه.
والمصنف يريد هنا أن يبين أن الحنفية مخطئون عندما يتبعون أبا منصور، ويتركون كلام الطّّحاويّ، والإمام أبو حنيفة الذي ينتسبون إليه، فيأتي من الفقه الأكبر بما يدل عَلَى مطابقته لكلام الطّّحاويّ؛ لأن بعض الحنفية يشرحون العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً، ويؤولون الألفاظ والكلمات التي جاءت فيها، ولا يستغرب ذلك لأنهم قد أولوا الآيات، وأولوا الأحاديث، فلا يستغرب أن يؤلوا أيضاً كلام الإمام الطّّحاويّ أو كلام الإمام أبي حنيفة لكن من كَانَ له فهم وعقل سليم فإنه يستطيع أن يقارن الكلام ويفهم، فهذا النص الذي قرأناه واضح كل الوضوح، في مخالفته لكلام الماتريدية.
والشراح المتأخيرن الذين شرحوا عقيدة الطّّحاويّ، وَقَالُوا: إن الإمام أبا حنيفة وأبا جعفر الطّّحاويّ يقولان بالكلام النفسي، وذلك أن في هذا النص كلمة وهي قول الإمام:[فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] قالوا: ومعنى ذلك: أن الإمام أبا حنيفة يقول: إن الله تَعَالَى لما كلم موسى كلَّمه بالكلام الذي هو من صفاته في الأزل وليس هناك من صفاته في الأزل إلا الكلام النفسي، أما الكلام الذي هو حروف وأصوات مسموعة فهذا ليس في الأزل، فحرفوا كلام الإمام مع أن أوله واضح كل الوضوح، أن القُرْآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء.
وكذلك نص أكثر من مرة أن القُرْآن غير مخلوق وأنه كلام الله، وهم يقولون: كلام الله هو الكلام النفسي فقط، أما الحروف فإنها مخلوقة.
فكلام الإمامأبي حنيفة رحمه الله واضح في الرد عَلَى هذا القول، لكنهم وجدوا هذه الكلمة فأخذوا يحرفونها ويحرفون بها بقية الكلام، فأتى الإمام هنا ليرد عليهم، ويقول: إن قوله: [ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] يُعلم منه: أنه حين جَاءَ موسى، كلمه الله تَعَالَى لا أنه لم يزل ولا يزال أبداً يتكلم؛ لأن كلمة (في الأزل) مضمونها أن الله سبحانه وتعالى اتصف بهذه الصفة في الأزل، ولو كَانَ عَلَى كلامهم أن الصفة التي في الأزل كلم بها موسى، لكان لا يزال وما يزال أبداً وأزلاً ينادي يا موسى يا موسى يا موسى، وهذا لا يقول به عاقل.
وإنما لما جَاءَ موسى كلمه، وهنا تكون الخصوصية لموسى عليه السلام أنه سمع كلام الله، أما إذا كَانَ كلام الله هو ما في نفسه، والذي سمعه موسى كلاماً مخلوقاً خلقه الله، فإنه لا ميزة لموسى بكونه كليم الله؛ لأن الله خلق الكلام في عمرو وفي زيد وفي فلان وفلان وأنا أسمع كلام الله الذي خلقه في فلان وفلان عَلَى قولهم، فعلى هذا ليس هناك أي فرق بين موسى عليه السلام وبين أي إنسان آخر، إلا أن يكون موسى سمع كلام الله عز وجل وكلمه وليس بينه وبين موسى ترجمان ولا واسطة، فإذاً هذا الكلام يرد عَلَى قول الماتريدية، والحنفية المتأخرين عموماً.
فقولهم -كما يقول المصنف-: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء) فيقولون: من المُحال أن يسمع كلام الله، لأن كلام الله صفة أزلية قائمة بنفسه تعالى، فكيف يمكن لأحد أن يسمع شيئاً في نفس الباري جل شأنه؟
لا يمكن هذا أبداً، فالإمام أبو حنيفة ينص عَلَى أن الله كلم موسى عليه السلام كما هو في القرآن، ويقول الماتريدي: إن الله يخلق صوتاً في الهواء فيسمعه المخاطب فيقول هذا كلام الله، فيقول المُصْنِّف رداً عليه: أين الدليل عَلَى أن الله خلق الصوت في الهواء؟ من كَانَ منكم حاضراً من أهل الكلام عندما كلَّم الله تبارك وتعالى موسى حتى تقولوا إن الله خلقه في الهواء! فهذا من التحريف والقول عَلَى الله بغير علم ومن الافتراء عليه سبحانه وتعالى.
فيقولون: لم يكن متكلماً ولكن حدث له الكلام بعد ذلك، فيقول المصنف: إن هذا الكلام من أبي حنيفة هو رد عَلَى أُولَئِكَ لأنه قَالَ: إنه القُرْآن كله كلام الله سبحانه وتعالى، ثُمَّ ذكر أنه كلم موسى بكلامه الذي هو له صفة وذكر أن الله تَعَالَى متصف بهذا الكلام في الأزل، وأنه يتكلم متى شاء كيف شاء، فهذا هو الرد عَلَى من يقول: إنه حدث له الكلام بعد أن لم يكن متكلماً تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فاتضح بذلك أن كلام الإمام أبو حنيفة موافق لما عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وكذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ وهو الذي رجحه هنا، وأن بقية الأقوال مرجوحة.
الرد على من زعم أن أبا حنيفة قال: (لفظي بالقرآن مخلوق)
أما قول الإمام أبو حنيفة رحمه الله في قوله: (القرآن كلام الله) حيث قَالَ: (لفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق) فهذه الكلمة لا بد أن تشرح وأن يعقب عليها؛ لأن الإمام أَحْمَد رحمه الله قَالَ: (ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع) والإمام أبو حنيفة يقول هنا: (لفظي بالقرآن مخلوق) .
فنقول: أولاً: أننا لا نستطيع أن ننسب إِلَى الإمام أبي حنيفة كل كلمة وردت في كتابالفقه الأكبر، وإنما الراجح المؤكد أنأبا مطيع البلخي أدخل كلمات كثيرة ضمن كلام الإمام أبي حنيفة ومن الأدلة عَلَى ذلك هذه الكلمة (لفظي بالقرآن مخلوق) ؛ لأن الكلام في قضية اللفظ: هل يُقال مخلوق أو غير مخلوق؟ لم يحدث إلا بعد حدوث الفتنة بفترة، أي: بعد سنة مئتين وعشرة هجرية.
والإمامأبو حنيفة رحمه الله توفي سنة مائة وخمسين هجرية، فلا يمكن أن يتكلم الإمام أبو حنيفة بشيء لم يكن قد وقع الخلاف فيه بعد، وإنما حدث هذا الكلام في بداية أيام المعتزلة الأوائل الذين كانوا قبله أو معاصرين له، فبدؤا يثيرون هذا الكلام بينهم، ولكن لم يصل الأمر إِلَى حد أن يتعمقوا في مسائل خلق القُرْآن وعدمها إِلَى أن يصلوا إِلَى القول بأن اللفظ مخلوق أو غير مخلوق، إذاً: لا يصح ذلك عن أحد من الأئمة قبل وقوع الفتنة.
ثانياً: أن هذه العبارة تحتمل معنىً خطأً ومعنىً صواباً والإمام أَحْمَد رحمه الله يريد بقوله: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع" أن يقطع ويحسم المادة نهائياً فلا يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ولهذا قال بعضهم: حيَّرنا هذا الرجل ماذا نقول؟ إن قلنا: مخلوق لا يرضى، وإن قلنا: غير مخلوق لا يرضى إذاً ما الذي يرضيه؟!
نقول: إن الذي يرضي الإمام أَحْمَد رضي الله عنه ويرضي علماء السلف هو ما يرضي الله ورسوله وهو أننا نقف عند كلام الله ورسوله ولا نزيد عليه.
فنقول: القُرْآن كلام الله غير مخلوق ونثبت لله سبحانه وتعالى هذا الكلام وننفي عنه ما أثبته له المبتدعة وغيرهم، ولا نجاوز ذلك إِلَى أن نتعمق في أمور أخرى هذا هو الأصل الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بذلك؛ لكن لما أن توسع النَّاس في هذا الكلام وتجادلوا واختلفوا فحينئذ لا بد أن نفهم ما الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بهذه الكلمة وما حكم من يقولها.
ذكر الإمام أَحْمَد رحمه الله أن الجهمية يقول أحدهم: لفظي بالقرآن مخلوق، وهم يريدون أن نقر بأن القُرْآن مخلوق؛ لأن الجهمية والمعتزلة والأشعرية -كلهم يسمون جهمية - لا يثبتون لله سبحانه وتعالى صفة الكلام، ويقولون: إن القُرْآن مخلوق، والقرآن هو ما نقرؤه ونحفظه ونكتبه، ومع ذلك يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، ومعنى كلامهم أن القُرْآن مخلوق فيتوصل بهذه التورية إِلَى أن يقول عقيدته ويجاهر بها، فالإمام أَحْمَد رحمه الله تنبه لهذا فقَالَ: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
ولكن الآخرين الذين قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق فهَؤُلاءِ وقعوا في بدعة أخرى، أرادوا أن ينزهوا كلام الله ولكنهم وقعوا في بدعة لم يقلها أحد من سلف الأمة؛ لأنه لم ينزه الله تَعَالَى بهذه اللفظة أحداً؛ لأن كلام البشر مخلوق، ولأن قراءة وكتابة البشر مخلوقة، فإذا قال السُني -الذي يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق- يقصد من ذلك: أن كلام الله تَعَالَى الذي أقرأه غير مخلوق، لكن يأتي الجهمي فَيَقُولُ: انظروا إِلَى هَؤُلاءِ الذين يقولون: إن حروفهم وأصواتهم أزلية وتعرفون أن الأشعرية 2000001>الجهمية - والمعتزلة يقولون: إن الحنابلة والحشوية يقولون: المداد قديم، والورق قديم، ولفظهم قديم وقد علق بعضهم في شرح عَلَى العقائد العضدية فقَالَ: فما بقي إلا أن يقولوا: إن الكاتب أزلي قديم.
فهم يعيبون أهل السنة ويسمونهم حشوية؛ لأنهم يقولون إن قراءتنا للقرآن لا تنفي عنه أنه كلام الله ولا يخرجه من كونه كلام الله. وكلام الله سبحانه وتعالى أزلي قديم، فيقولون: أنتم تقولون حروفكم أزلية، والمداد المكتوب به أزلي، إذاً: كل شيء أزلي حتى الكاتب فأنتم خرجتم وجئتم بكلام لا يقبله أي عاقل عَلَى الإطلاق.
ومقصود أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ليس هو هذا، وإنما مقصودهم: أن القُرْآن الذي نقرؤه نحن، سواء كَانَ مقروءاً بألسنتنا أو مكتوبا بأيدينا فهو غير مخلوق، ولا يعنون نفس الكتاب والمداد ونفس الحروف التي نخرجها من أفواهنا، وإنما يقصدون بذلك المضمون الذي هو القُرْآن نفسه كلام الله عز وجل، فالإمام أحمد رحمه الله لا يريد هذا ولا ذاك، وإنما نقف حيث وقف السلف الصالح.
لكننا نفصل القول ونبين فنقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق ويقصد بذلك أن قراءته وحروفه أو أصواته مخلوقة، فهذا صحيح ومن قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق أي: أن القُرْآن مخلوق -ولا قرآن إلا هذا الذي نقرأه ونتلفظ به- وليس لله سبحانه وتعالى صفة التكلم وإنما كلامه الذي خلقه فينا أو في الشجرة أو غيرها فهذا جهمي.
وكذلك الذي يقول: إنه غير مخلوق، نقول: إن كَانَ يريد بقوله: غير مخلوق، الكلام النفسي، فهو غير مخلوق فهذا الكلام صحيح، وإن كَانَ يريد به كلامه وأصواته وقراءته هو له، فهذا مردود؛ لأن القُرْآن يطلق ويراد به القراءة، ويطلق ويراد به ما في المصحف الذي هو كلام الله (المقروء) .
وكلمة قرآن في اللغة العربية: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرأ قرءاناً، وجاء ذلك في شعر العرب كقول أحدهم:
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي يقطع الليل تسبيحاً وقراءةً؛ بل جَاءَ ذلك في كتاب الله عز وجل حيث يقول الله تبارك وتعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] أي: قراءة الفجر، ليس المقصود هنا القُرْآن الذي هو كلام الله، بل قرآن الفجر: قراءته، وأيضاً منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(زينوا القُرْآن بأصواتكم) أي: زينوا قراءتكم بالتجويد والترتيل، ويأتي القُرْآن بمعنى كلام الله كما قال الله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77] أي كلام الله عز وجل فالذي يقصد القراءة فالقراءة مخلوقة بلا شك، والذي يقصد القُرْآن الذي هو كلام الله فكلام الله غير مخلوق بلا شك.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وبالجملة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل عَلَى أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فهو حق يجب قبوله، وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به، فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما] اهـ.
الشرح:
ذكر المُصنِّفُ رحمه الله: أن المعتزلة قالوا: إن القُرْآن مخلوق، ثُمَّ قالوا بعد ذلك: إنه يتعلق بقدرته ومشيئته، أي أنه متى شاء خلق الكلام، ثُمَّ قالوا: إنه يتكلم متى شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، ومعنى هذا: أنه يخلق الكلام متى شاء شيئاً بعد شيء.
توضيح كلامهم وشرحه
ولتوضيح كلامهم عندنا مقدمتان أولاً: قولهم: إن الكلام مخلوق، وثانياً: قولهم: إنه يكون شيئاً بعد شيء، وأنه متعلق بالقدرة والمشيئة؛ فنأخذ الصواب ونرد الخطأ، فأما قولهم: إنه تَعَالَى يتكلم متى شاء، ويكون كلاماً بعد كلام فهو صحيح، لكنهم اخطاؤا باعتباره مخلوقاً، أي: لما قالوا إنه مخلوق، والماتريدية والأشعرية لما عكسوا فَقَالُوا: إن الكلام هو ما في النفس فقط.
وبناءً عَلَى ذلك قالوا: إنه ما دام أنه في النفس فهو صفة له سبحانه وتعالى مثل بقية الصفات التي نثبتها لله تبارك وتعالى، وأن الصفة لا تقوم إلا بالموصوف لا كما يقول المعتزلة: إن الصفة تقوم بغيره!
نقول لهم: إثباتكم أنه تَعَالَى موصوف بالكلام والتكلم وأنه صفة أزلية له سبحانه وتعالى هذا حق لكنكم نفيتم الكلام الذي هو حروف وأصوات وقلتم: إن القُرْآن هذا المحفوظ والمقروء حكاية، أو عبارة عن كلام الله، أو دلالة عَلَى كلام الله النفسي، وليس هو كلام الله عَلَى الحقيقة، فنقول -كما نقول دائماً-: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يظلمون أية طائفة ولا فرقة من الفرق؛ بل يبينون ما عندها من الخطأ وما عندها من الصواب، فهم شهداء لله قائمون بالقسط لا يحيفون ولا يجورون في أحكامهم. فلذلك نقول للمعتزلي قد أصبت في هذا، ولكنك أخطأت في ذاك ونقول للأشعري والماتريدي: أحسنت في هذا، ولكنك أخطأت في ذاك، ولا نقول: إنه يجب الأخذ بما في قول كُلٍ منهما بمعنى أننا لم نعرف الحق إلا عن طريقهما.
فمقصود المُصْنِّف رحمه الله هنا أنه يجب الاعتراف أو الإقرار بما في قول أي منهما من الحق، وليس المعنى: أنه يجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وأنه يجب علينا أن نتبع ما قالته المعتزلة أو الأشعرية من الصواب؛ لأننا في غنى فالحق والصواب لا يمكن أن يخرج عن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فما كَانَ صواباً لدى أية فرقة من الفرق فإنه موجود عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لكن ما عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.. من الصواب ومن الحق لا يوجد عند أية فرقة من الفرق. فقول المصنف: [يجب الأخذ بما في قول كل منهما] أي الإقرار بصحته.
ولا نقول: كل كلام المعتزلة باطل، ولا كل كلام الأشعرية باطل، بل نقول: إثبات اتصاف الله عز وجل بالكلام صفة ذاتية وصفة أزلية، هذا حق كما قالت الأشعرية، وكما قالت الماتريدية ونقول: إن كونه تَعَالَى يتكلم متى شاء كيف شاء، وأن كلامه يأتي بعد كلام، وأن خطابه لموسى عليه السلام غير خطابه للملائكة، وغير خطابه لآدم، والقرآن غير التوراة والإنجيل والإنجيل غير التوراة وهكذا هذا أيضاً حق وصواب، فنأخذ الصواب ونرد الخطأ والباطل من أي كان، وهذا منه رحمه الله مشياً مع مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين هذا شأنهم ودينهم في كل أمر من الأمور، لا يجورون ولا يحيفون في أحكامهم رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم.
قيام الحوادث بالله من الألفاظ المجملة
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به.
قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تَعَالَى من الأئمة؟ ونصوص القُرْآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً مع صريح العقل] اهـ.
الشرح:
إذا قال أهل البدع: يلزم من إثبات أنه تَعَالَى يتكلم متى شاء كيف شاء أن تقوم به الحوادث وقيام الحوادث ممتنع
فنقول لهم أولاً: إن كلمة قيام الحوادث كلمة مجملة وطريقة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في أمور العقيدة في الدين: أنه إذا جَاءَ أحد بلفظ مجمل نقول له فصِّل ما تقول: فإن أتى بمعنى حسن قبلنا منه ذلك المعنى وقلنا: المعنى هذا صحيح ومقبول، ولكنَّ يجب أن تستخدم اللفظ الشرعي الصحيح فلا تقل: قيام الحوادث بالله تعالى، وقل كما قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] هذا الذي نقوله: ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن قَالَ: أعني بقيام الحوادث أنه يغضب ويرضى ويضحك وينزل فنقول: هذا المعنى غير صحيح وغير مقبول عندنا،
والمصنف يقول لهم هنا: من أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى الصحيح الذي لا مشابهة ولا تمثيل فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وصف نفسه بأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وهو الذي أخبرنا عن نفسه أنه كلم الملائكة وكلَّم موسى ويكلم من يشاء من عباده سبحانه وتعالى فليس فيه تشبيه.
فنقول: من الذي أنكر قبلكم هذا المعنى والنصوص وكلام الأئمة تدل عليه؟ هذه بدعة محدثة أول من أحدثها هم أهل الكلام؛ وإلا فغيركم من الأئمة ممن تقدمكم من أهل الفضل والتقى الذين يقتدى بهم كانوا عَلَى ما في القُرْآن والسنة وقرؤا الآيات والأحاديث في ذلك ولم ينكروا منها شيئاً أو يردوا أو يؤولوا أي شيء، فأنتم ابتدعتم في دين الله ما لم يأذن به الله، فنرد هذه الكلمة وهذا المعنى، فلا تقولوا: قيام حوادث ولا هذه أعراض والأعراض لا تلحق به ولا تقولوا: حيز ولا جوهر ولا عرض ولا كمية ولا غيرها من المصطلحات الكلامية، فهذا الكلام هذا كله مما أخذتموه عن الفلاسفة ومما لاتفهم عقولكم غيره، أما نَحْنُ فنؤمن بالله كما أخبر الله تبارك وتعالى، ونعلم أن العقول عاجزة عن إدراك حقيقة صفات الله عز وجل كما أنها لا تدرك ذاته تبارك وتعالى.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس، وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه؛ بل الذي أفهموهم إياه: أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، كما قالت عَائِِِشَةَ رضي الله عنها في حديث الإفك:(ولشأني في نفسي كَانَ أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى) ولو كَانَ المراد من ذلك كله خلاف مفهومه، لوجب بيانه، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفة غيره.
فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا وكذلك سائر الصفات وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أوحي لا تقوم به الحياة وقد قال صلى الله عليه وسلم:(أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهل يقول عاقل: إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق؟
بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك) .
وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) .
وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) كل هذه من صفات الله تعالى.
وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها وإنما أشير إليها هنا إشارة] اهـ.
الشرح:
ومما يبين أن القُرْآن غير مخلوق وأنه كلام الله: أن الأَنْبِيَاء جميعاً كما ذكر المُصنِّفُ رحمه الله: أخبروا أممهم بأن ربهم تبارك وتعالى كلمهم، وبينوا ذلك للناس، وأن الوحي الذي أنزل عليهم إنما هو كلامه تبارك وتعالى ولم يقل نبي من الأَنْبِيَاء حتى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: إن كلام الله مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه وإنما كَانَ الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- يفهمون من قولهم: كلام الله أنه سبحانه وتعالى يتكلم كلاماً يليق بجلاله.
مقولة عائشة بعد نزول القرآن فيها بتبرئتها
ولقد فهمت أم المؤمنين عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- كما جَاءَ في حديث الإفك الطويل أنها كانت تتوقع براءتها لأنها تعلم أنها بريئة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، وبرأها الله وطهرها، ولعن من رماها بالإفك قديماً أو حديثاً لعناً كبيراً، فعندما برأها الله لم تكن تتوقع أن ينزل الله سبحانه وتعالى فيها قرآناً يتلى إِلَى قيام الساعة.
ولم تكن تظن أن مسلماً يُؤمن بالله ورسوله يتهمها بالفاحشة عياذاً بالله، فربما وإن اتهمها المنافقون الذين اتهموها في عصره صلى الله عليه وسلم؛ لكنها لا يمكن أن تتخيل أنه يأتي لهَؤُلاءِ المنافقين من يعقبهم ويخلفهم في هذا القول ويقتدي بهم وهو ينتسب إِلَى الإسلام وإلى أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فكانت ترى أن الأمر أقل وأحقر من أن ينزل فيها قرءاناً.
لكن العجيب أنه بعد أن أنزل الله فيها القُرْآن لا يزال الرافضة قبحهم الله ولعنهم يتهمون أم المؤمنين عَائِِِشَةَ رضي الله عنها ويكذِّبون كلام الله وينسبون إليها ما برأها الله تبارك وتعالى منه وهذا من أعجب العجب.
وليس العجب من شأنهم هم، فإن أعداء الإسلام من يهود ومجوس يفترون عَلَى الله ورسوله وأصحابه مثل ذلك وأعظم، ولكن أشدُّ العجب هو ممن يسمعهم يقولون ذلك في حق أم المؤمنين ويقرأ ذلك في كتبهم ومع ذلك يخطر بباله أن هَؤُلاءِ من أهل القبلة والعياذ بالله.
فتقول رضي الله عنها: (لشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى)
والشاهد مما في مقامنا هنا هو: أن الأَنْبِيَاء -صلوات الله وسلامه عليهم- علَّموا أممهم وعلموا أصحابهم أنه -جل شأنه- يتكلم بالوحي وأن هذا الكلام هو الذي يقرأ وهو الذي يتلى، فالآيات التي نزلت في براءتها في سورة النور مثلها في ذلك مثل سائر القرآن، كله كلام الله عز وجل أنزله وحياً يُتلى، فنحن نتلوه ونقرأه وهو كلامه جل شأنه.
فلو أن ما تقوله الأشعرية وغيرهم هو الحق، لَمَا جاز للأنبياء أن يسكتوا عن بيانه؛ بل الواجب عليهم أن يقولوا للناس: إذا قرأتم آية فيها كلام الله، أو أن الله يتكلم، فأولوها بأنه خلقه، أو أن الشجرة هي التي تكلمت به أو غير ذلك!!
وإن لم يقولوا أو يبينوا للناس هذا، فما بلغوا رسالة الله كما قال تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس [المائدة:67] فأمر الله تَعَالَى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وحفظه وعصمه من النَّاس حتى لا يمنعه الخوف، فَيَقُولُ: لو بلغت لربما آذوني أو قتلوني. فالأذى يحصل لكنه ابتلاء ولم يصل إِلَى حد القتل؛ لكن الله عز وجل أمره فقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 7] فإن لم يقولوا ولم يفعلوا لكانوا كاتمين غير مبلغين للحق، وحاشاهم من ذلك وسيدهم صلى الله عليه وسلم: هو الذي بلغ ما أنزله إليه ربه، فتركنا عَلَى البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
يقول المصنف: [ولا يعرف في لغة ولا عقل، قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام] سبق أن بينا ذلك وقلنا: المتكلم هو من فعل الكلام، أما إذا قلنا: إن المتكلم هو من قام الكلام بغيره، فأنا أتكلم الآن، ويمكن أن ينسب كلامي هذا إِلَى فلان والآخر إِلَى فلان لأنه قام الكلام بغيره، فهذا لا يقول به عاقل لكن كما قال الإمام أبو حنيفة: يتكلم لا ككلامنا، ويعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وكثيرٌ من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعددُ والتكثر والتجزي والتَّبَعُّضُ في الحاصل في الدّلالات، لا في المدلولِ، وهذه العبارات مخلوقة، وسميت "كلام الله" لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عُبِّرَ بالعربية فهو قرآن، وإن عُبِّرَ بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام، قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً.
وهذا الكلام فاسد، فإن لازِمَهُ أن معنى قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] هو معنى قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] . ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين! ومعنى سورة الإخلاص هو معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده وعلم أنه مخالف لكلام السلف.
والحقُّ أن التوراةَ والإنجيلَ والزبورَ والقرآنَ من كلام الله حقيقة، وكلامُ الله تعالى لا يَتَنَاهى، فإنه لم يَزَلْ يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يَزَالُ كذلك، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف:109] وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] .
ولو كان ما في المصحف عبارةً عن كلام الله وليس هو كَلامَ الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءة القرآن.
بل كلامُ الله محفوظ في الصدور مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر وهو في هذه المواضع كلها حقيقة.
وإذا قيل المكتوب في المصحف كلام الله فهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته، فُهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به فهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل: فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب] اهـ.
الشرح:
هذا المذهب الذي أشار إليه المصنف -رحمه الله تعالى- هو ما ذهب إليه كثير من متأخري الحنفية وهو أن كلام الله عز وجل معنى واحداً ولكن تختلف العبارات فيه، وقد سبق شرح هذا الكلام، فمتأخري الحنفية هم في الحقيقة على مذهب ابن كلاب والأشعري ولم يأتوا في هذا الباب بجديد، وإنما قد تختلف بعض العبارات في التعبير، ولكن الفكرة والغاية واحدة فهم يقولون: إن التعدد والتكثر والتجزء والتبعض حاصل في الدلالات لا في المدلول.
فدَلالة أو دِلالة أو دُلاله بتثليث الدال هي: الألفاظ، والمدلول هو: المعنى.
فيقولون: إن التبعض والتكثر حاصل في الدلالات في الألفاظ التي عُبِّر عنها، سواء قلنا الذي عبر عنها هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم أو أن الله عز وجل خلق التعبير عنها، لكنها في ذاتها شيء واحد، أي: أن كلام الله عندهم صفة ومعنى قائم في ذاته سبحانه وتعالى.
فمثلاً التوراة والإنجيل والقرآن هذه كتب مختلفة وعبارات متنوعة فآية الكرسي وآية الدين وسورة الإخلاص وتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] إلى آخر هذه العبارات ألفاظها مختلفة، لكنهم يقولون: الأصل أن المعنى واحد ولا فرق فيه بين خبر ونهي ولا توراة ولا إنجيل ولا قرآن من حيث المدلول، أي: أن المعاني واحدة، لكن عند التعبير سواء كان المعبر هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن الله خلق هذا اللفظ الذي يعبر عن الكلام الذي في نفسه-أو في ذاته- عند هذا تختلف العبارات وتختلف الدلالات.
فيقولون: العبارات مخلوقة، سواءً كانت خلقاً خلقه الله منفصلاًُ، أو من كلام جبريل أو محمد، فهي مخلوقة، ويقولون: سميت كلام الله؛ لأنها دالة عليه ومؤدية لمعناه، فيفهم كلام الله الذي هو المعنى النفسي القائم به من خلال هذه العبارات والحكايات والألفاظ الدالة عليه، وتسميتها كلام الله من قبيل المجاز، فالكلام شيء واحد، والعبارات مختلفة، وكلها مخلوقة، ويطلق عليها كلام الله على سبيل المجاز؛ لأنها تدل على كلام الله عز وجل، هذا ملخص مذهب الحنفية المتأخرين، وهو مذهب غيرهم كالأشاعرة وأمثالهم.
الرد على من يقول بأن كلام الله معنى واحد
لقد رد المُصْنِّف هنا عليهم بردود سهلة لكل ذي عقل وبصيرة، فَيَقُولُ:[وهذا الكلام فاسد فإن لازمه أن معنى قوله وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى هو معنى قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب [المسد:1] .
وهذا القول لا يقول به عاقل ولا دليل عليه مطلقاً، فليس هناك من داع يدعو إِلَى هذا القول إلا مأزق كلامي أو أغلوطة ألقاها الشيطان في أنفسهم وعجزوا عن جوابها؛ حتى لا يثبتوا أن الحوادث تحل بالله وهذا يقتضي المماثلة والمشابهة وغيرها من التعليلات؛ فهل معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين؟! من المعلوم أن آية الكرسي أفضل وأعظم آية في كتاب الله عز وجل، وهي تتعلق بصفات الله تعالى، وآية الدين تتعلق بالأحكام، وكذلك هل معنى سورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هو نفس معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ وبينهما من الفرق ما يعرفه كل عاقل! فهما مختلفتان تماماً في المعنى واللفظ، فلا حاجة إِلَى هذا القول الذي يظهر لمن تأمله سقوطه وبطلانه.
وأما التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وكلام الله جملة فبين المُصْنِّف رحمه الله أن هذه الكتب جميعاً هي كلام الله عز وجل فهو تبارك وتعالى لم يزل يتكلم بما شاء متى شاء وكيف يشاء، يتكلم مع ملائكته الذين يصعدون كل يوم إليه -جل وعلا- بأعمال العباد فيسألهم عنها وهو بهم أعلم، ويتكلم بالأمر الذي يريد أن يقضيه مع من شاء من ملائكةٍ آخرين. فتخر الملائكة صعقاً من خشيته وهيبته، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يتكلم مع من يشاء من عباده، فقد تكلم الله بالتوراة وبالإنجيل وبالقرآن وتكلم فيما مضى ولا يزال يتكلم.
والتكلم: صفة فعلية لله عز وجل، لكن عَلَى كلامهم أنه معنى واحد في الأزل موجود، وإنما تختلف العبارات، إذا فكيف يمكن الجمع بين هذا الذي ثبتت به النصوص، وبين قولهم: إنه معنىً واحد؟ لا يمكن هذا!! لكنهم لو اتبعوا كلام الله ورسوله وآمنوا بأن هذه النصوص هي الحق والصواب، وأن الله تَعَالَى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، لما وقعوا في هذه الخلط. ويستدل المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عَلَى ذلك بقوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ َ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً فكلمات الله تبارك وتعالى لا تتناهى، فكيف يجعلون لها معنىً واحداً فقط؟!
وأيضاً قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] فهذا دليل آخر عَلَى أنها لا تتناهى، فكيف تكون معنى واحداً؟
ثُمَّ يستدل ببعض الأدلة الفقهية العقلية فَيَقُولُ: [ولو كَانَ ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله؛ لما حرم عَلَى الجنب والمحدث مسه] لأنه لو كَانَ مجرد معنى كلام الله عز وجل فهو إذا كَانَ معنىً مخلوقاً مثل سائر المعاني، ومثل كلام البشر الآخرين، فلماذا اختص وحده بأنه يحرم عَلَى الجنب والمحدث أن يمسه؟ لو جئنا بإنسان وكتب عن معنى من معاني سورة من السور كما يفهمها هو في ورقة.
فإن هذه الورقة يمكن لأيِّ إنسان أن يمسها ولو كَانَ جنباً؛ لأنه ليس فيها كلام الله، إنما فيها المعاني التي يدل عليها كلام الله عز وجل، فهناك فرق بين حقيقة نفس كلام الله عز وجل، وبين معانيه التي يدل عليها، ويقول أيضاً:[لو كَانَ ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم عَلَى الجنب والمحدث قراءة القرآن] وبالأخص الجنب.
فنفس الدلالة واحدة، أي: لو كَانَ هذا القُرْآن مجرد معانٍ، فإن المعاني يجوز أن يقرأها الإِنسَان أو يمسها عَلَى آية حال كان؛ لكن حقيقة كلام الله المقروء الذي في المصحف فإنه لا يقرأ، ولا يمس إلا عَلَى طهارة كما هو مذهب المُصْنِّف ورجحه هنا.
كلام الله حقيقة وليس مجازاً
فالمقصود بهذا الكلام الاستدلال به عَلَى أن القُرْآن كلام الله حقيقة، وأما المعاني فهي معاني هذا الكلام، وليس ما في المصحف هو معنى الكلام والمدلول هو في ذات الله سبحانه وتعالى كما يذهب إِلَى ذلك الخلف عموماً، ويقول:[بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف كما قال ذلك أبو حنيفة في الفقه الأكبر] .
أراد المُصْنِّف رحمه الله أن يرد عَلَى من يقول: إنه يطلق عَلَى القُرْآن كلام الله عَلَى سبيل المجاز وليس عَلَى الحقيقة، وأن يقرر: بأن القُرْآن في هذه الثلاث الحالات -حالة كونه في المصاحف مكتوباً، أو بالألسن مقروءاً، أو في الصدور محفوظاً- هو كلام الله عز وجل عَلَى الحقيقة، فهو حقيقة في الثلاث الحالات، لكن الإطلاقات تختلف.
ولو قلنا: إن فيه خط فلان مثلاً فيكون المعنى حقيقياً وليس مجازياً، ويفيد أن هذا الخطاط كتب كلام الله عز وجل وهو أيضاً كلام الله عَلَى الحقيقة؛ لأنه ينسب إِلَى من قاله مبتدءاً، وهو الله عز وجل.
فنقول: هذا كلام الله؛ لأنه هو الذي قاله وتكلم به سبحانه وتعالى وهذا كلام حقيقي لا مجاز فيه، ونقول: هذا خط فلان وهو حقيقي لا مجاز فيه لأننا نعني عملية رسم المصحف نفسها.
وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به فهم منه معنىً صحيحاً حقيقياً، أن هذا كلام الله، وفيه مداد، وقد كتب به، فهذا معنى حقيقي؛ لأن هذه الحروف كتبت بمداد معين، فالمعنى إذاً حقيقي وليس هناك مجاز في هذه الحالات الثلاث.
بعض إلزامات أهل البدع لأهل السنة في مسألة الكلام. والرد عليهم
قال المصنف: [وإذا قيل: المداد في المصحف] وأتى بها المُصْنِّف لأن الأشعرية والماتريدية ومن نحا نحوهم، يقولون لأتباع السلف نلزمكم بأحد قولين:
إما أن تقولوا مثل قولنا: إن القُرْآن مخلوق.
وإما أن تقولوا بكلام الحلولية.
فأنتم إذاً حلولية! لأنكم تقولون: إن ما في المصحف كلام الله.
إذاً كلام الله الذي هو صفة الله يحل في المصحف فهذه شبهة شيطانية ألقاها عَلَى أولئك، ولكنَّ ردها من أسهل وأبسط ما يمكن، فقد تطرق لها المُصْنِّف رحمه الله هنا.
فَيَقُولُ: إذا قيل: المداد مخلوق؟
نقول: نعم مخلوق.
وإذا قيل: المداد في المصحف.
فنقول: نعم صحيح.
فيقولون: كلام الله في المصحف؟
نقول: نعم.
يقولون: إذاً فكلام الله مخلوق؟
نقول: لا.
يقولون: لماذا فرقتم بينهما؟
نقول: "في" كلمة الظرفية تختلف من كلمة إِلَى كلمة، ومن معنى إِلَى معنى، وكلها حقيقة.
فإذا قلنا: المداد في المصحف فالظرفية هنا حقيقة؛ لأن الظرف في اللغة العربية هو الوعاء أو المكان أو الزمان فالظرفية كأنها شيء يحويه أو يستوعبه، ويكون حالّاً فيه مكاناً أو زماناً، والمداد الذي هو الحبر في المصحف لأن هذا القُرْآن الذي هو كلام الله كتب بمداد، إذاً هذا إطلاق حقيقي بالنسبة للمداد، لكن هذا الإطلاق يختلف عن قولنا: القرآن: فيه السماوات والأرض، وفيه: محمد، وعيسى عليهما السلام ونحو ذلك.
وقولنا: فإن معنى هذا: أن فيه لفظ السماوات، والأرض وفيه كلمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وفيه كلمة عيسى عليه السلام أو فيه خبرهما، فهنا كلمة "في" موجودة لكن لها هنا معنى وهو معنى حقيقي، ولها هناك معنى آخر.
فإذا قلنا: القُرْآن فيه كلام الله فهذا معنى ثالث، أي هو كلام الله عز وجل مثلما لو جئنا بكتاب مثلاً: ديوان شعر فقلنا هذا الكلام فيه شعرامرؤ القيس أو هذا شعر امرؤ القيس فالكلام صحيح في كلا الحالتين؛ لأنه ديوانه الذي فيه شعره، فالذي قاله مكتوباً في هذا الديوان، فلو قلت: هذا كلام امرؤ القيس فالكلام صحيح ولا مجاز فيه، فيتبين بذلك أن كلمة "في" تختلف بحسب الإطلاق.
فالظرفية تختلف من معنى إِلَى معنى آخر، وكون المداد بالمصحف، لأن الورق يحويه فهو ظرف له حوى المداد، ففيه القُرْآن وفيه السماوات والأرض، أي: فيه "كلمة السماوات والأرض" وليست نفس السماوات والأرض بحقيقتها في المصحف، لكن المداد نفس حقيقة المداد موجود في المصحف، وهذا المعنى حقيقي وذاك المعنى حقيقي، ولكن يختلف عن هذين المعنيين بمعنى أنه هو كلام الله عز وجل، فعلى هذا فالكلمة تختلف من إطلاق إِلَى إطلاق.
الفرق بين القراءة والمقروء
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ، والمقروء الذي هو قول الباري، من لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
من خط كاتب معروف، لقال هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا كل شيء حقيقة، وهذا حبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى] اهـ.
الشرح:-
أتى المُصْنِّف رحمه الله بمثال ليبين ويوضح به الفرق بين القراءة والمقروء، فيطلق كلام الله عَلَى المقروء وعلى القراءة، وذكر هذا المثال الذي فيه عدة معانٍ كلها حقيقة ليس فيها مجاز، وهي البيت المشهور عن لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، فَيَقُولُ: لو أن إنساناً وجد هذا البيت، مكتوباً في ورقة، فقَالَ: هذا كلام لبيد، فالكلام هذا حقيقة؛ لأنه شعره الذي قاله وأنشأه وابتدأه، مثلما نقول في القرآن: إن هذا كلام الله لأنه هو الذي قاله، وتكلم به وابتدأه، وإن قال شخص هذا خط أحد الطلاب أو المدرسين مثلاً كتب هذه الكلمة من كلام لبيد، ووضعها في ورقة فهذا إطلاق حقيقي أيضاً وليس فيه مجاز، ولذا قَالَ:[وهذا كل شيء حقيقة] .
معناها أصدق كلمة قالها شاعر، وهي كلمة يشير إِلَى اللفظة ولا يشير إِلَى كل الأشياء التي خلقها الله في هذه الورقة، فكلمة كل شيء حقيقة فعلاً، لأنه أراد اللفظ وأراد الكلام، ثُمَّ يقول:[وهذا خبر حقيقة] أي أن أحد علماء البيان أو البلاغة قَالَ: هذا خبر حقيقة، وقصد البلاغي أن قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ليس استفهاماً، ولا نهياً، ولا أمراً، وإنما هو خبر حقيقة وليس مجازاً، فانظروا كيف اختلفت الإطلاقات مع أن الشيء واحد وكلها حقيقة ليس فيها مجاز.
فالمقصود أن العبارات تتعدد في التعبير عن شيء واحد، وتكون كلها حقيقة لأن الإطلاقات تختلف باختلاف النظر ففي حالة ننظر إِلَى المعنى، وفي حالة ننظر إِلَى اللفظ، وفي حالة ننظر إِلَى الكلام من حيث الذي أنشأه أول مرة، وفي حالة ننظر إِلَى الكلام من حيث الذي كتبه وهكذا، فحسب تعدد هذه الحالات يتعدد الكلام، وجميع الحالات حقيقي.
إذاً: كلام الله عز وجل هو كلام الله حقيقة في حالة كونه مكتوباً أو محفوظاً أو مقروءاً، ولا خلاف في ذلك، ولله الحمد وليس مجازاً في أي حالة من الحالات.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً [الإسراء:78] وقال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القُرْآن بأصواتكم) وتارة يذكر ويراد به المقروء قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآن آنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] وقال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن آنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وقال صلى الله عليه وسلم:(إن هذا القُرْآن أنزل عَلَى سبعة أحرف) إِلَى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة عَلَى كل من المعنيين المذكورين. فالحقائق لها وجود عيني، وذهني، ولفظي، ورسمي، ولكن الأعيان تعلم، ثُمَّ تذكر، ثُمَّ تكتب، فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان، والفرق بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في رق منشور أو لوح محفوظ، أو في كتاب مكنون: واضح.
فقوله عن القرآن: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:196] أي ذكره ووصفه والإخبار عنه كما أن محمداً مكتوب عندهم، إذ القُرْآن أنزله الله عَلَى محمد، لم ينزله عَلَى غيره أصلاً، ولهذا قَالَ: في الزبر، ولم يقل في الصحف، ولا في الرق؛ لأن "الزبر" جمع "زبور" والزبر هو الكتابة والجمع.
فقوله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ويبين كمال بيان القُرْآن وخلوصه من اللبس وهذا مثل قوله: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ [الأعراف:157] أي: ذكره بخلاف قوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] أو فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22] أو فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]
لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة مثل الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك، أو يقدر: مكتوب في كتاب أو في رق، والكتاب: تارة يذكر ويراد به محل الكتابة وتارة يذكر، ويراد به الكلام المكتوب، ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه، فإن تلك إنما يكتب ذكرها، وكلما تدبر الإِنسَان هذا المعنى وضح له الفرق] اهـ
الشرح:
القرآن في الأصل مصدر، والمصدر تارة يذكر ويراد به القراءة، وتارة يذكر ويراد به المقروء، وهذا موجود في كلام العرب، فالقرآن بمعناه الاصطلاحي الذي هو كلام الله عز وجل المقروء فهذا لم يعرف إلا بعد نزول الوحي عَلَى نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لكن كلمة قرآن موجودة في كلام العرب من قبل. ويقصدون بها القراءة، وكلمة قرأ قرآناً، أو قرأ قراءةً مترادفتان، فالمعنى واحد ومن ذلك قول الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود له ويقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
فهذا الشاعر يتكلم أو يصف أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لمَّا قتله أُولَئِكَ الثوار الفجرة الظلمة المعتدون، وذلك أنهم قتلوه رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ والمصحف بين يديه وهو يتلو كتاب الله، أي: يقطع الليل قراءة.
وهذا البيت جارٍ عَلَى كلام العرب قبل نزول القُرْآن أنه بمعنى: القراءة، وإن كَانَ الشاعر قالها في الإسلام، فالمقصود أن في لغة العرب يطلق القُرْآن عَلَى القراءة؛ لكن بعد نزول القرآن، وتسميته بهذا الاسم غلبت عليه كلمة القُرْآن عند الناس، وصار في أذهانهم أن المقصود به هو كلام الله، أي: ما في المصحف، وأما من حيث اللغة، فيصح أن تستخدم كلمة القُرْآن بمعنى القراءة، فنقول مثلاً: هذا قرآني لهذا الشيء أي: قراءتي لهذا الشيء ولا حرج في ذلك من حيث اللغة، ولا من حيث الشرع، وليس هذا محرماً؛ لكن لاشتهار القُرْآن حتى أصبح علماً عَلَى كلام الله عز وجل فلا تستخدم هذه الكلمة لغيره؛ لأنها أهملت من الاستعمال لغيره.
ومن حيث الشرع فقد جَاءَ ذلك أيضاً في القرآن، كما قال الله تبارك وتعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] أي: قراءته، وليس المقصود هو المصحف الذي هو كتاب الله وإنما قراءة القرآن، وقوله صلى الله عليه وسلم:(زينوا القُرْآن بأصواتكم) أي: زينوا قراءتكم للقرآن بأصواتكم بأن يقرأه الإِنسَان محسناً مجوداً مرتلاً.
وتارة يذكر ويراد به المقروء، وهذا هو الغالب، وهذا الذي يطلق عليه القرآن، والقرآن بمعنى المقروء الذي هو كلام الله الذي نقرأه، فقوله تَعَالَى:فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآن آنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] أي: إذا ابتدأت تقرأ القرآن، فالقرآن هنا بمعنى المقروء الذي سوف تقرؤه من كلام الله عز وجل، ابدأه بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
وقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن آنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] ومعروف أنه سماع المقروء، ومعناها إن قرأ أحد كلام الله عزوجل فأنصت له واستمع، وقوله صلى الله عليه وسلم:(إن هذا القُرْآن أُنزل عَلَى سبعة أحرف) معناه: إن هذا القُرْآن يقرأ، أو مقروء عَلَى سبعة أحرف، تقرؤونه بسبعة أحرف، المقصود هنا هو المقروء، وهناك آيات وأحاديث تدل عَلَى أن هناك فرقاً، بين القُرْآن بمعنى القراءة، وبين القُرْآن بمعنى المقروء.
أنواع الوجودات
انتقل المُصْنِّف رحمه الله إِلَى التفريق بين الأعيان وبين المعاني أو الكلام من حيث وجودها أو ظرفيتها في الشيء كما عبر في آخر الكلام السابق، والمراد بهذه المعاني الأربعة؟
يقول: إن الحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي، والكلام هذا قد يبدوا أنه صعب لكنه في الحقيقة سهل وبسيط إن شاء الله.
فبين أن الأشياء لها عدة وجودات وجود عيني، ويعني به: وجود العين الحقيقية ذاتها، فمثلاً الجبل وجوده العيني هو المشار إليه عندما تقول: هذا جبل وهو أمامنا، ونحن عَلَى الطبيعة فوجوده هنا اسمه للوجود العيني، والوجود الآخر وجود ذهني، كأن أقول لك: أنا في ذهني جبل معين أتخيله وأتصوره، فهذا تصور ذهني لذات جبل ما، والوجود اللفظي هو عندما أقول: جبل، فأنا لم أقل: شجرة ولا زيد ولا عمرو، وإنَّما قلت: جبل.
وعندما أشير إليه وأقول: هذا جبل فأنا أقصد هذه الألفاظ أي: "جيم وباء ولام" حتى لا يشتبه عندك أني أقول مثلاً جمل، فوجوده هنا وجود لفظي، وهناك وجود آخر يسمى الوجود الرسمي، يعني: الرسم والخط والكتابة كأن أكون كتبت كلمة جبل، فأقول لك هذا جبل، معناه: هذا رسم أو شكل كلمة جبل.
فنجد في كل إطلاق أن المعنى يختلف؛ لكن في المجموع الكلام كله صحيح وكله حقيقي، وليس فيه مجاز يقول: لكن الأعيان الحقيقية الخارجية تعلم، ثُمَّ تذكر، ثُمَّ تكتب، فالكلام كأنه مر بأربع تعيينات في الوجود وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي وكتابتها في المصاحف هي المرتبة الرابعة.
يقول: [وأما الكلام، فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة؛ بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان] .
والمقصود أن الكلام ليس مخلوقاً متشخصاً قائماً بذاته نشير إليه، فنقول: هذا هو الكلام، وإن أشرت فلا بد أن أشير فقط إما إِلَى الوجود اللفظي الذي أتكلم به، وإما أن أشير إِلَى الوجود الرسمي الذي هو الكتابة أو الحروف، فأقول لك: هذا كلام فلان أي: هذا كلام فلان الذي نطق به، أو هو مكتوب، فلا واسطة بين هذا وذاك بوجود حقيقي بذاته، كما قال هاهنا في الأخيرة: إن الكتاب يذكر تارة ويراد به محل الكتابة، ويذكر تارة ويراد به الكلام المكتوب.
ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتابة، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج، فعندما أريد أن أكتب (جبل) إما أن أرسمه -كلمة جبل اكتبها- فهذا عين موجود في الخارج، لكن لا يمكن أن نقول: إن كتابة الجبل أو كتابة السماء أو كتابة الأرض أو كون السماء أو كون الجبل في كتاب، معناه ذكر حقيقتها العينية، لا؛ بل نقطها وحروفها، أما الكلام فإن حقيقته هي التي تكتب يعني الكلام نفسه يكتب؛ لأنه ينطق به اللسان فيكتب في الكتاب كما هو فيطلق عَلَى المكتوب، ويطلق عَلَى المنطوق، فهذا واضح المخالفة للأعيان.
وإذا قالوا: إنكم تقولون بالحلول فنقول: لا نقول به؛ لأن هناك فرقاً بين الأعيان والذوات المتعينة في الخارج وبين الكلام فالكلام هو اللفظ وهو المكتوب، وليس هناك وجود له خارجي متشخص، فإذا قلنا: كتبنا كلام فلان فيعني ذلك أننا نقلناه من لفظه الذي تكلم به إِلَى الواقع لكن الأعيان إذا قلت: كتبت الجبل أو كتبت السماء أو كتبت زيداً فمعنى ذلك أننا كتبنا اللفظ أو الاسم الذي يدل عَلَى زيد أو السماء أو الجبل، فكتبت الوجود الرسمي الذي عبرنا عنه بالوجود اللفظي، والذي هو في الحقيقة تعبير عن شخصية حقيقية موجودة.
فهم عندما يقولون: القُرْآن عبارة عن كلام الله وهذا المكتوب أو هذا الملفوظ ليس هو كلام الله وإنما كلام الله شيء أخر، فهم الذين تصوروا وافترضوا أن القُرْآن ذات متشخصة موجودة في الخارج، فلما أردنا أن نذكرها ونضعها في المصحف كتبنا وجودها اللفظي أو وجودها الرسمي، وهذا واضح البطلان، فإن القُرْآن أو الكلام بالجملة ليس له وجود عيني متشخص، وليس له ذات خارجية حقيقية، وإنما هو مباشرة من المتكلم إِلَى الورق، وهذا هو المقصود من هذه العبارات أيضاً.
وقفة مع قوله: ((وإنه لفي زبر الأولين))
إن المخالفين لعقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين يقولون: إن القُرْآن مخلوق، ويقولون: لقد جَاءَ عن القُرْآن أنه في زبر الأولين، وأنه في رقٍ منشور، وأنه في لوح محفوظ، وأنه في كتاب مكنون، إذاً كيف تطلقون هذا وهو حلول.
فنقول: أنتم لا تفهمون معاني كلام الله عز وجل، فالإطلاقات تختلف فكل إطلاق في كل موضع له معنى غير المعنى الذي أطلقناه عليه في الموضع الأخر.
فقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:196] لا يعني أن نفس الكلام والقرآن موجود في كتب الأولين أو في صحفهم أو في زبرهم، إنما معنى ذلك أنه يوجد فيها خبره وذكره كما قال الله تبارك وتعالى عن نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل [الأعراف:157] وكذلك يجدون خبر القُرْآن مكتوباً عندهم في زبر الأولين، وفي صحف الأولين.
وأما كونه في رقٍ منشور، أو لوح محفوظ، أو كتاب مكنون، فيكون هنا بحسب العامل، ومعلوم في اللغة العربية أن الظرف يُقدر له عامل، فالعامل قد يكون عاما -الأفعال العامة- مثل الكون والاستقرار والحصول، فمثلاً إذا قلنا: مُحَمَّد في المسجد، أي: مُحَمَّد مستقر في المسجد، أو مُحَمَّد حاصل في المسجد، فغالباً كلمة "في" الظرفية تختلف بحسب العامل، فقد يكون العامل عاماً "الكون والاستقرار"، وهذا هو الغالب فبإمكانك في أي وقت من الأوقات تجد كلمة "في" أن تقدر: كائن أو يكون أو يستقر أو يحصل، وعلى كلا المعنيين ليس جائزاً أن تقدر متعلقاً عَلَى فعل الكون العام، فمثلاً تقول: القُرْآن في اللوح المحفوظ أي موجود ومستقر وحاصل وكائن في اللوح المحفوظ....الخ هذه حقيقة، فتقدر فعل أخص بأن تقول: القُرْآن مكتوب في اللوح المحفوظ أو في رق منشور هذا أيضاً معنى صحيح، إِلَى أن يقول:[أن الكتاب تارة يذكر ويراد به محل الكتابة] أي: ظرف الكتابة، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب نفسه أو الكلام المقروء.
فمثلاً: إذا قلنا: أنهينا قراءة شرح العقيدة الطّّحاويّة أي أننا قرأنا الكلام الذي كتب في هذا الكتاب، وإذا قلت هذا هو كتاب العقيدة الطّّحاويّة وهذا شرح فلان للعقيدة، فمعنى ذلك: أنه المحل الذي يحوي هذا الكتاب وهو الظرف الذي حصل فيه.
فَيَقُولُ: فالتفريق واجب بين كتابة الكلام في الكتاب وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج، أما كتابة الكلام، فلا فرق بين اللفظ وبين الرسم، وأما كتابة الأعيان، فلا تكتب الحقائق ذاتها - الجبل - الشجرة- مُحَمَّد - حسين - عمرو- بمعنى لايوضع هو بنفسه في الورق، وإنما يكتب خبره أو رسمه أو أي معنى من هذه المعاني.
فالخلاصة: أن القُرْآن هو كلام الله عز وجل عَلَى الحقيقة، والله تَعَالَى تكلم بالتوراة، وتكلم بالإنجيل وبالقران وبالزبور ويتكلم بالأمر وبالنهي وبالخبر ويكلم من شاء كيف شاء في الماضي، والحاضر، والمستقبل فالأمر يعود إِلَى مشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، وليس شيئاً من كلام الله مجازاً، ولا يطلق عَلَى القُرْآن في أي حالة من الحالات أنه مجاز، سواء كَانَ محفوظاً في الصدور، أو متلواً بالألسن، أو مكتوباً في الأوراق ولكن الإطلاقات تختلف.
ونرد عَلَى الذين يقولون: بأن هذا يقتضي الحلول بما سبق أن أوضحناه من اختلاف معنى الظرفية ومعنى الحالية واختلاف الإطلاقات التي تطلق عَلَى القرآن، فتارة يطلق عَلَى القراءة، وتارة عَلَى المقروء، وتارة يطلق عَلَى فعل العبد، وتارة عَلَى كلام الرب سبحانه وتعالى، ولا معارضة بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب المكنون، والرق المنشور، وبين كون الذي قرأه فلان أو الذي سمعه فلان، فهذه كلها عَلَى الحقيقة، وإنما تختلف من حال إِلَى حال بأن يكون المقصود في موضع خبره، وفي موضع كتابته، وفي آخر قراءته عَلَى المسموعة، وأمثال ذلك من الإطلاقات.
قال المصنفابن أبي العز:
[وحقيقة كلام الله تَعَالَى الخارجية: هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه، فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه، والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يُقَالَ: ليس في المصحف كلام الله، ولا: ما قرأ القارئ كلام الله، وقد قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله، والآية تدل عَلَى فساد قول من قَالَ: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، فإنه تَعَالَى قال: حَتَّى يَسْمَعَ كَلام، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله، والأصل الحقيقية.
ومن قَالَ: إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله، أو حكاية كلام الله، وليس فيها كلام الله، فقد خالف الكتاب والسنة، وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً] اهـ.
الشرح:
حقيقة كلام الله تَعَالَى الخارجية هي ما يُسمعُ منه جل شأنه، أو من المبلغ عنه، مثلما يسمع منه جبريل عليه السلام أو سمع منه آدم أو الملائكة أو موسى أو نحو ذلك، ويُسمع منه سبحانه وتعالى بلا واسطة، أو يسمع عنه بواسطة المبلغ كما نقرأ القرآن، أو كما سمع النبي صلى الله عليه وسلم القُرْآن من المبلغ الذي هو الروح الأمين جبريل عليه السلام.
فالكلام هنا وهنا حقيقة ككلام الله تَعَالَى مسموع معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها وليس في شيء منها مجاز فهذه الفقرة لإيضاح أنه ليس فيه مجازاً، كما تقوله متأخرة الماتريدية والحنفية والأشعرية يقول المصنف:[والمجاز يصح نفيه] وهذه قاعدة مهمة وهي من أهم الأمور التي نستدل بها عَلَى إبطال المجاز، وأنه ليس في القُرْآن مجاز، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله.
الرد على القائلين بالمجاز في كلام الله
إن البلاغيين الذين قالوا بالمجاز يعلمون أن أول من أحدثه وتكلم به هم المعتزلة بخلاف كلمة المجاز في لغة العرب قبل ذلك، فإنها تطلق بمعنى مكان العبور، أي: معبر تجوز منه وتعبر منه إِلَى مكان آخر، هذا أصله في اللغة.
ويقولون مثلاً: إذا دخل رجل كريم: دخل البحر، بمعنى الرجل الكريم أو الكثير العلم شبه بالبحر لكرمه أو لغزارة علمه، والمجاز يجوز نفيه، فيجوز أن يأتي أحدٌ ويقول هذا ليس بحراً، ولكنه رجل، وكلام هذا المعترض لنا صحيح، وكلام المتكلم صحيح مجازاً لكن كلام النافي صحيح وهذا هو الذي يهمنا؛ لأنه نفى ما قلته أنت عَلَى سبيل المجاز، وأثبت الشيء عَلَى حقيقته لأن هذا الرجل ليس بحراً، أي ليس ماءاً وإنما هو رجل.
إذاً: المجاز يجوز نفيه، فهذه القاعدة يجب علينا أن نعرفها لنرد بها قول من يقول: إن في القُرْآن مجاز ولا سيما في آيات الصفات، فإذا جَاءَ أحد وقال في معنى قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أن المعنى: نعمه وإفضاله، والقرينة الدالة عَلَى ذلك قوله تعالى: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] وهذه قرينة تدل عَلَى أن المقصود هو الإنفاق، وجاء آخر عَلَى مذهبهم، وقَالَ: ليس لله يدان، وهذا هو حقيقة مذهب الذين ينفون صفات الله عزوجل، لكن لو جَاءَ أحدٌ من علماء السلف من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وقال لنا معنى قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة: 64] أن الله تبارك وتعالى كريم ينفق كيف يشاء ويعطي ويتفضل عَلَى عباده، فنجد مثل هذا الكلام.
فيأتي المبتدعة ويقولون: إذاً لسنا نَحْنُ الذين أولنا، بل حتى -مثلاً- ابن جرير الطبري ومجاهد وعكرمة وابن عباس يقولون مثل قولنا.
فنقول لهم: لابد أن تعرفوا الفرق بين من نَظَرَ إِلَى معنى الآية بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] وأن: معناها الإنفاق والتكرم والإنعام، والتفضل، ولكن هل اعتبر ذلك مجازاً ونفى الصفة؟ هل ابن عباس ومجاهد والطبري نفو الصفة؟
الجواب: لا، إنهم لم ينفوا الصفة، أما أنتم فإنكم تعبرون بالمعنى عَلَى أساس أنه مجاز وتنفون الحقيقة فتقولون: ليس له يد.
لذا يقول الإمام الدارمي رحمه الله: اليهود أثبتوا اليدين وقالوا يد الله مغلولة كما قال الله عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، والله عز وجل قَالَ: اليد مبسوطة فجاء المعطلة وَقَالُوا: ليس له يدي، فهم خرجوا عن كلام الله، وعن كلام اليهود، فما كَانَ قصد اليهود نفي الصفة، ولا رد الله عليهم بإثباتها، فالخلاف هنا كَانَ بين الغلول وبين البسط، فجاء نفاة الصفات فنفوا وجود اليد نفسها.
يقول: وبهذا يتضح لك مخالفتهم للحق وخروجهم عن الطريق المستقيم، ونعود إِلَى قاعدة أن المجاز يجوز نفيه، فنقول: يقول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] :فيجوز أن يأتي أحد من النَّاس فَيَقُولُ: هذا ليس كلام الله، هذا عبارة عن كلام الله، فلا أسمعه ولا يسمعه المشرك لأنه ليس كلام الله فلذلك يتضح لنا فساد وبطلان هذا المذهب، فإذا جَاءَ رجل يهين المصحف عياذاً بالله، فتقول له: هذا كلام الله، فيقول لك: لا هذا مجاز وليس هو كلام الله إنما هو عبارة عن كلام الله، وهكذا في أي موضع يمكن أن يسمع القُرْآن يتلى أو يحفظ.
فالكلام حقيقةً سواء سمع من المتكلم بلا واسطة -كما سمع جبريل أو موسى من الله عز وجل أو بواسطة كما في هذه الآية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] فلم يقل الله سبحانه وتعالى: حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله والأصل في الكلام هو الحقيقة، إذاً فالمجاز يجوز نفيه عند علماء البلاغة.
والقضية الثانية: الأصل في الكلام هو الحقيقة، فمثلاً عندما نقول: بحر والبحر هو الماء، وعندما أقول أسد أعني الوحش المفترس، ولا أعني الرجل الشجاع، هذا هو الأصل في اللغة ولا يخرج عن ذلك إلا بدليل، فعندما يقول الله عز وجل: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] فإن هذا يحمل عَلَى الحقيقة لا عَلَى المجاز لأن الحقيقة هي الأصل، وإن كَانَ لا يسمع كلام الله منه، ولكن ممن يبلغه عنه تبارك وتعالى، فهو حقيقة في كلا الحالتين في حالة سماعه بواسطة، وفي حال سماعه بلا واسطة.
يقول: ومن قَالَ: إن المكتوب في المصاحف عبارة أو حكاية عن كلام الله، وليس فيها كلام الله -أي: الحقيقة- فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً، فإنه لم يأت لا في كتاب الله، ولا في سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حتى من أحد منالسلف والصحابة أنهم قالوا: إن هذا هو ليس حقيقة كلام الله، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، أو ما أشبه ذلك أبداً.
وإنما كانوا يؤمنون أنه كلامه عز وجل عَلَى الحقيقة، هذا هو ما جَاءَ به الكتاب، وما جاءت به السنة في أحاديث كثيرةٍ لا تحصى، وما هو مشهور ومعلوم عند الْمُسْلِمِينَ خاصتهم وعامتهم في الصدر الأول لم يخالف فيه أحد حتى ظهر ابن كلاب وظهر معه من قَالَ: إنه عبارة عن كلام الله أو حكاية أو ما أشبه ذلك من المعاني التي ابتدعوها، ووضعوها، وقالوها عَلَى الله تبارك وتعالى بغير علم نتيجة الجهل، أو نتيجة محاولة إفحام المبتدعة والرد عليهم بغير منهج الكتاب والسنة، فالمبتدعة يرد عليهم بالكتاب والسنة أو بما دل عليه، لا بالهوى، ولا يرد عَلَى بدعة ببدعة.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وكلام الطّّحاويّ رحمه الله يرد قول من قَالَ: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه، وأن المسموع المنزَّل المقروء والمكتوب ليس كلام الله، وإنما هو عبارة عنه، فإن الطّّحاويّ رحمه الله يقول: كلام الله منه بدا، وكذلك قال غيره من السلف، ويقولون: منه بدا، وإليه يعود، وإنما قالوا: منه بدا، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون: إنه خلق الكلام في محل، فبدا الكلام من ذلك المحل، فَقَالَ السلف: منه بدا، أي: هو المتكلم به، فمنه بدا لا من بعض المخلوقات كما قال تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1] وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13] وقال: قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ [النحل:102] ومعنى قولهم: وإليه يعود، أي: يرفع من الصدور والمصاحف، فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف كما جَاءَ ذلك في عدة آثار] اهـ.
الشرح:
هذه الفقرة من كلام المُصنِّفُ رحمه الله استمرار في الرد عَلَى الحنفية، القائلين بخلاف ما قاله الإمام أبو حنيفة وأصحابه المتقدمون، الذين قالوا: إن القُرْآن معنى واحد فقط هو: ما في نفس الباري جل شأنه، فأما ما بين الدفتين المقروء والمسموع والمتلو، فإنه عبارة عن كلام الله أو حكاية أو مجاز عنه إِلَى آخر ما سبق إيضاحه.
فالمصنف رحمه الله يريد أن يثبت أن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ هو عَلَى ما كَانَ عليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه المتقدمون لم يغير من ذلك شيئاً، بخلاف ما ذهب إليه الشراح الماتريديون الذين شرحوا العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً كما أن من المالكية من شرح مقدمة ابن أبي زيد شرحاً أشعرياً رغم وضوح سلفيته؛ لأن الهوى قد لعب بالمتأخرين من الطرفين وفسروا كلام الأئمة وشرحوه بما يوافق ما ذهبوا إليه وما ارتضوه ومالوا إليه لا ما هو واضح من منطوق العبارات ومفهومها.
معنى قوله [منه بدا]
لا يزال المُصْنِّف يشرح قول الطّّحاويّ رحمه الله [منه بدا] يرد به عَلَى من قال إنه معنى واحد لا يتصور سماعه وهم يقولون: إنه معنى واحد وما دام أنه معنى واحد فلا يتصور أن يسمع كلام الله عز وجل وإنما يسمع الذي في المصاحف، وهو عبارة أو حكاية عبر بها جبريل أو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك وتقدم في كلامه، فَيَقُولُ: إن هذا يرده العبارة المأثورة عن السلف التي قالها الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ [منه بدا وإليه يعود] وهذه عبارة سلفية مأثورة رددها العلماء من السلف والخلف من أهل السنة.
ومعنى [منه بدأ] أي أنه سبحانه وتعالى تكلم به عَلَى الحقيقة، وهذا يرد وينفي كل الأقوال الأخرى المخالفة، ومعنى [منه بدأ] أي ظهر كما سبق بيانه؛ لكننا إن قلنا: إنه خلقه في محل، أو عبر عنه غير الله تعالى.
كالقول بأن جبريل هو الذي عبر عن كلام الله فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ من جبريل، وإذا قلنا: إنه خلقه في محل أياً كَانَ المحل، الشجرة أو غير ذلك، فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ أي: ظهر من المحل الذي ابتدأ الظهور منه، فهذا رد عَلَى أُولَئِكَ بالعقل الصحيح، وبالنظر السليم المتأمل في كتاب الله وسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1] ويقول: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي الآية ويقول: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] .
وكثير من الآيات التي ستأتينا أيضاً وفيها تنزيل أو أنزل أو نزل فيما يتعلق بالقرآن نجد أن فيها صفة من صفات الله تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أو تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وما أشبه ذلك كما في أول الزمر أو غافر أو فصلت أو السجدة، وفي كثير من آيات القُرْآن كلمة (تَنْزِيلُ) والنزول يأتي بعد ذكر أنه من الله، وكذلك في الأحاديث.
وعلى ذلك درج السلف وفهم المفسرون قبل الاختلاف وقبل وقوع البدع أنه من الله سبحانه وتعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فالله تبارك وتعالى يقول:وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فهو من الله تَعَالَى ابتداءاً وظهوراً فهو المتكلم به عَلَى الحقيقة الذي أنشأ الكلام وقاله وتكلم به وابتدأه وظهر منه، ولم يرد في القُرْآن ولا في السنة ما يخالف ذلك ولم يفهم أحد من السلف من الصحابة أو التابعين أومن بعدهم معنىً آخر غير ذلك المعنى.
معنى قوله (وإليه يعود)
أما قوله: [وإليه يعود] فهي تتمة عبارة [منه بدأ] ومعناها: أن من أشراط الساعة أن يرفع القُرْآن من الصدور والمصاحف فلا يبقى منه آية لا في الصدور ولا في المصاحف، كما جَاءَ ذلك في عدة آثار منها ما رواه الحاكم وابن ماجه والبيهقي والديلمي وهو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(يدرس الإسلام، كما يَدرس وشي الثوب) ومعنى يَدرس: يمحى قليلاً قليلاً، أي يذهب نسجه قليلاً قليلاً حتى يمحى.
قَالَ: (حتى لا يدرى ما صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا نسك) أي يأتي قوم لا يدرون عن هذه الأمور وعن هذه الأحكام شيئاً، (ويسرى عَلَى القُرْآن في ليلة حتى لا يبقى منه آية) ، فيرفع القُرْآن من المصاحف ومن الصدور، حتى جَاءَ في رواية (أن الحافظ يلقى الرجل الذي كَانَ يحفظ القُرْآن كله أو بعضه فيقول له قد كنت أحفظ شيئاً أما الآن فلا أدري ما هو) نسأل الله أن يعافينا، وأن لا يدركنا ذلك الزمان المشؤوم، الذي يرفع فيه الهدى والنور والحق والبيان والشفاء من هذه الأرض، فذلك الزمان هو زمان شرار الناس، بين يدي الساعة وقبيل قيامها.
وفي آخره لما سأل التابعي حذيفة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: (حتى لا يبقى إلا الرجل الهرم والمرأة العجوز يقولون: أدركنا من قبلنا يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها) ، وفي هذا دليل عَلَى أنه لا يبقى من الإسلام إلا كلمة الشهادة، ولا يبقى عند هَؤُلاءِ النَّاس شيء إلا أنهم يعرفون أنه لا إله إلا الله، أما الصلاة والزكاة والصيام والنسك وكل الأمور المتعبد بها فلا يدرون عنها شيئاً، والقرآن ليس بينهم فلا يتلونه ولا يفقهون منه شيئاً.
(فقَالَ: ما تنفعهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: تنجيهم من النار) في ذلك الوقت الذي لم يعد يدرى فيه عن الصلاة والزكاة ولا أي شيء من أحكام الدين إلا هذا، فمن أدركها فهو لم يدرك من الإسلام إلا هي فهو يقولها، فهذه تنجيه من النار، ثُمَّ إِلَى الله عز وجل الأمر إما أن يعذبهم، ثُمَّ يخرجهم من النَّار كما هو حال الموحدين العصاة، أو أنهم يدخلون الجنة ابتداءً؛ لأنهم لم يدركوا غير ذلك.
والمقصود أن هذه حالة خاصة في ذلك الوقت الخاص، فلا يأتي أحد يسمع آيات الله ليل نهار ويسمع ما جَاءَ في الكتاب والسنة عن الصلاة والزكاة والصيام والنسك وجميع الأعمال، ويقول: أنا أقول: لا إله إلا الله وتنجيني من النار؛ فإن هذا وضع خاص في وقت خاص -نسأل الله تبارك وتعالى أن لا يدركنا ذلك الزمان- لأنه من شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، كما ثبت بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهَؤُلاءِ هم المؤمنون الذين هم أفضل النَّاس حينئذ وليس لديهم من الإسلام إلا هذا.
ويحتمل والله تَعَالَى أعلم أنه كما يتضح من الأحاديث أن هذه الطائفة تكون بعد أن تأتي الريح الطيبة التي صح بها الحديث (أن الله سبحانه وتعالى يبعث ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين)، الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي عَلَى الحق منصورة يقاتلون حتى يأتي أمر الله) وأمر الله هو هذه الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى من هذه الطائفة المنصورة أحد ولكن يبقى أمثال هَؤُلاءِ الذين سمعوا أن شيئاً ما يُقال له: الدين، وأن شيئاً ما هو شهادة أن لا إله إلا الله، لكن لا يدركون من مقتضياتها ولا من أركانها وأعمالها شيئاً -عافانا الله من ذلك الزمن وأهله-
والمقصود أن هذا الحديث صحيح، وأن دِلَالته عَلَى أن القُرْآن يرفع ثابتة، فالقرآن بدأ من الله تبارك وتعالى، وإليه يعود: فيرفع من هذه الأرض؛ لأن الله تبارك وتعالى أنزله لحكمة، ليعمل به، وتقام حدوده، ولينتفع به، فإذا ذهبت حكمة الانتفاع فإنه يرتفع، فلم يبق في وجوده فائدة بين أيدي الناس، ومن تلك الحكمة التي قد نلمسها بأن الله سبحانه وتعالى يخرج دابة، كما قال تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82] ، فيتناسب خروج الدابة مع حال النَّاس في آخر الزمان، وكان الله كلما ضلت أمة من القديم بعث إليهم رسولاً، فلما كَانَ رسولنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل لم يبق احتمال لإرسال رسول.
وعندما تنحدر الإِنسَانية انحداراً لا يرجى بعده صلاح تأتيهم دابة من جنس حالهم -فإنها تكون حين يقل الإيمان ويضعف الناس- وهنا تصدم حواس النَّاس وتفجعهم لأنها دابة، ومع ذلك تكلمهم وتخبرهم عن أمر الله سبحانه وتعالى، وتبين الكافر والمنافق من المؤمن.
فالمقصود أن ذلك الزمان لفساده وفساد أهله وقلة الخير فيه يرفع القُرْآن منه، وتخاطب فيه النَّاس الدابةُ، فذلك دليل عَلَى أنهم لا ينتفعون بعد ذلك بخير.
فإذا طلعت الشمس من مغربها فحينئذ يقفل باب التوبة كما يقفل عند الغرغرة إذا بلغت الروح الحلقوم في حق الإِنسَان الفرد عندما يقول رَبِّ ارْجِعُون [المؤمنون:99] وكما قال فرعون قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] في ذلك الوقت لا ينفع الإِنسَان أن يقول لا إله إلا الله، أو أن يتوب من المعاصي وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:18]
فللتوبة موضعها، وللإيمان موضعه فنوصي أنفسنا وإخواننا بالإقبال عَلَى كتاب الله عز وجل، وباغتنام هذه الفرصة -القرآن- ما دام أنه بين أيدينا قراءة وفهماً وحفظاً وتدبراً وعملاً ودعوةً، فإن الإِنسَان لا يُقدر الشيء حق قدره إلا إذا فات، كما أنه لا يُقدر العافية حق قدرها إلا إذا فاتت، وكذلك المال والفراغ وسائر النعم فإذا أُهمل القُرْآن ثُمَّ أُهمل وتمادى الإهمال، فإنه يرفع بالكلية، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان.
قال المصنف رحمه الله:
[وقوله: بلا كيفية، أي: لا تعرف كيفية تكلمه به قولاً ليس بالمجاز، [وأنزله على رسوله وحياً] أي: أنزله إليه على لسان الملك فسمعه الملك جبريل من الله، وسمعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الملك وقرأه على الناس، قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً [الإسراء:106] وقال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195] ، وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى وقد أُورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر، أو إنزال الحديد، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام.
والجواب: أن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله قال تعالى: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:1-2] وقال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1] وقال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2] وقال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينََ [الدخان:3-5]، وقال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [القصص:49]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114] وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ [لنحل:102] .
وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء قال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [لرعد:17] والسماء العلو، وقد جاء في مكان آخر: أنه منزل من المزن، والمزن: السحاب، وفي مكان آخر: أنه منزل من المعصرات، وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشتبه هذا الإنزال بهذا الإنزال وهذا الإنزال بهذا الإنزال؟!
فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال، وهي عالية على الأرض وقد قيل إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود، والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يُقال: أنزل ولم ينزل، ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى أسفل وعلى هذا فيحتمل قوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ [الزمر:6] وجهين:
أحدهما: أن تكون (من) لبيان الجنس.
الثاني: أن تكون (من) لابتداء الغاية، وهذان الوجهان يحتملان في قوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً [الشورى:11] اهـ.
الشرح:-
يقول المصنف رحمه الله في قوله: [بلا كيفية] أي: لا تعرف كيفية تكلمه به، وهذه قاعدة عامة معروفة لدينا جميعاً في أية صفة من صفات الله عز وجل أن الكيفية غير معقولة، أو مجهولة كما قال ذلك، الإمام مالك وربيعة بن عبد الرحمن رحمهم الله:"الكيف مجهول" فنؤمن بالصفة أياً كانت هذه الصفة وأما الكيف فإنا لا نتخيله ولا نتصوره لأنه غير معقول.
فالعقل البشري لا يدرك ذات الله تبارك وتعالى، والصفات إنما هي فرع عن الذات وكما أننا لا نستطيع إدراك الذات فكذلك الصفات وهذا معنى مقرر ومعروف أخذه المصنف من كلمة "قولاً" وقد فسرها المصنف بقوله: ليس بالمجاز أي "قولاً تكلم الله تعالى به" فليس مجازاً ولا حكاية ولا عبارة،، وقوله:[وأنزله على رسوله وحياً]، أي: جبريل عليه السلام من الله تبارك وتعالى، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، فهذا معنى قوله رحمه الله.
ولهذا قال الله تبارك وتعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً [الإسراء:106] قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء:193-194] وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] كما صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يعجل في متابعة جبريل عليه السلام في القرآن لكي لا ينساه) فتكفل الله تبارك وتعالى له بحفظه وأمره بأن يتأمل وأن يتابع القارئ الذي هو جبريل عليه السلام، إذا قرأه عليه، أما حفظه فقد تكفل الله سبحانه وتعالى له به كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .
ترد علينا مسألة إنزال القرآن، ونحن نعلم ما يعلمه جميع الْمُسْلِمِينَ منالسلف الصالح، ومن بعدهم أن الله سبحانه وتعالى فوق العرش كما أخبر أنه فوق المخلوقات، وأن جبريل عليه السلام كَانَ يسمع القُرْآن من الله عز وجل ثُمَّ ينزل به إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض، أينما كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لكننا نجد اشتراكاً في الأصول البدعية، وهو إنكار علو الله عز وجل ولديهم أصل آخر وهو: إنكار أن يكون القُرْآن كلام الله عز وجل.
فحصل هنا التقاء بين هذين الأصلين وهو قولهم: إن القُرْآن مخلوق لله، أو كما يقولون: إنه عبارة أو حكاية خلقها جبريل أو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فأشكلت عليهم الآيات التي فيها (أنزل، نزل) كقوله تعالى: نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:19] وما أشبهها من الآيات التي تدل عَلَى أن القُرْآن من الله عز وجل، وأن الله عز وجل في العلو فوق العالم فيورد المُصنِّفُ مسألة إنكارهم لعلو الله.
فهم يتصورون بذهنهم المحدود أنه لا يوجد شيء إلا وبجواره شيء آخر، والصحيح أن المخلوقات هي التي يتصور فيها هذه الجهات، وهذه المجاورة، والله عز وجل أكبر وأعظم من كل شيء كما قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103] وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] لكنهم غفلوا عن هذا فظنوا أنه لا بد من وضع جهة معينة، بمعنى: أنه تحده أو تحوطه الجهات.
فقالوا: ننفي جميع الجهات وهذا مذهب الفلاسفة عموماً وتبعهم في ذلك المعتزلة والأشعرية، والمذهب الآخر أصحاب "الأين" أو "الأينية" وهو: أنه في كل مكان، وهذا الذي ذهب إليه الصوفية ومن اتبعهم الذين يؤمنون بالعقل كما يسمونه ويحكمون العقل المجرد، وإنما نفوا جميع الصفات؛ لأن العقل عندهم لا يقرها، والذين يؤمنون بالكشف والذوق والعلم الباطن أو ما أشبهه، قالوا: هو في كل مكان نعوذ بالله من الضلال
أما ما يدل عليه القُرْآن والسنة؛ بل الفطرة السليمة والعقول القويمة فإنها تدل عَلَى علو الله سبحانه وتعالى. وليس هذا موضع التفصيل فيه؛ لكن الموضع موضع عرض الشبهة التي وقعت عندهم. قالوا: إن إنزال القُرْآن لا يعني علو الله عز وجل، ولا يعني أنه غير مخلوق، إنما هو كإنزال الحديد في قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا الْحَدِيد [الحديد:25] وإنزال الأنعام في قوله تعالى: وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6] ، وقالوا وإنزال المطر والأنعام والحديد لا يستلزم جهة العلو
وهنا بدأ الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يفصل في الرد عليهم فنبه عَلَى أن هناك فرقاً واضحاً بين الإنزال هنا والإنزال من عند الله، كما في الآيات التي مرت معنا) >تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102] قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه [القصص:49] فإنزال القُرْآن يأتي بعده (من) الجارة ويأتي بعدها ما يدل عَلَى أنه من عند الله: إما بلفظ الجلالة أو صفة من صفات الله سبحانه وتعالى فالقرآن لم يأتِ فيه مجرد الإنزال المطلق، إنما هو إنزال مقيد بأنه من عند الله تبارك وتعالى
وأما إنزال المطر فإنه جَاءَ في القُرْآن مقيداً بحرف الجر "في" في ثلاثة مواضع في قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً [الفرقان:48] وقوله: أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:69] وقوله: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً [النبأ:14] وهذه الآيات لو تأملناها لوجدنا
أن العلو فيها واضح والسماء تطلق ويراد بها معنيان:
الأول: بمعنى الجرم المعروف لقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] فذات البروج هي السماء التي هي الجرم أو الجسم الذي له أبواب وفيه الملائكة وصفاته الأخرى المعروفة.
الثاني: تطلق بمعنى العلو علي أي شيء عالٍ نقول: هذه المروحة في السماء أي فوق، ونقول: السحاب في السماء أي أنه فوقنا في العلو فقط وليس المقصود أنه في نفس جسم السماء، والقمر في السماء كما قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61] فالسراج الذي هو الشمس والقمر في السماء أي في العلو -في جهة العلو- ولا يعني ذلك أنه ملتصق بنفس جرم السماء وإنما هو في جهة العلو. وعلى هذا فالمعنى الأول وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً في الآية الأولى واضح فالمطر نزل من العلو إِلَى الأسفل وفي هذا إثبات للعلو.
والعلو أيضاً وارد كما أن القُرْآن أنزله الله سبحانه وتعالى وهو عال عَلَى مخلوقاته، ونزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فالمعنيان ليس فيهما تناقض بل هما متفقان، وكذلك ما ورد من الإنزال من المزن أو من المعصرات -السحب- فالمطر ينزل منها من العلو إِلَى الأسفل وهذا أيضاً يتفق مع نزول الوحي من جبريل عليه السلام إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وكل هذه المعاني لا إشكال فيها بل هي متفقة عَلَى أن النزول يكون من أعلى إِلَى أسفل.
أما إنزال الحديد والأنعام فقد جَاءَ في القُرْآن مطلقاً ولم يرد مقيداً، هذا هو الفرق الأول، ثُمَّ لو تأملناه لوجدنا فيه مناسبة أيضاً وذلك في كونه من العلو إِلَى الأسفل كما ذكر المُصنِّفُ أن الحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وكلما ارتفع المعدن أو المنجم كلما كَانَ الحديد أجود، فهذا يحتمل أيضاً أن الحديد ينزل من الجبال ثُمَّ يستخدم.
وأما الأنعام فإن الإنزال يفصل عَلَى معنيين:
الأول: إنزال النطفة من الذكر إِلَى رحم الأثنى.
الثاني: عند ولادة المولود، فينزل من الأعلى إِلَى الأسفل، وهذا المعنى وارد في الأنعام، حتى في الحديد، والذي يبدوا أن الراجح في نظري -والله تَعَالَى أعلم- أن الإنزال: إنزال جميع النعم أي أن الله سبحانه وتعالى يمتن علينا بإنزال جميع النعم التي ينعم بها علينا فعامة الرزق منزل من عند الله سبحانه وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً [يونس:59] وأمثال ذلك وَيُنزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً [غافر:13] الرزق عموماً، سواء المطر أو الأنعام أو الحديد، وغير ذلك.
فالفضل كله من عند الله عز وجل، وخزائن ذلك عنده تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21] وينزل ذلك متى يشاء، وأين يشاء سبحانه وتعالى فعلى هذا فالحديد مما أنزل الله سبحانه وتعالى من خزائنه، وكذلك الذهب والفضة وسائر أنواع الخيرات من الزروع والحرث والأنعام، أما كيفية الإنزال فالله سبحانه وتعالى أعلم بها، فهو ينزلها كما يشاء ومنها ما نعرفه بأسباب المشاهدة، كما نرى نزول المطر من السحاب، ومنها ما لا نعرفه، لكننا نستيقن ونعلم أنه جل شأنه هو الذي ينزل هذه الخيرات، فإن قيل لماذا اختص الحديد والأنعام بالإنزال إذا كانت كلها منزلة؟ فالجواب: أنه قد ورد الإنزال بالكل كما في هذه الآية: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وإن أفرد الله سبحانه وتعالى أو خص شيئاً ما بالإنزال فهذا فيه زيادة فضل، وتأكيد لهذا الشيء، لأن الحديد أساس من أساسيات حياة الإِنسَان في القديم والحديث.
ولو تأملنا لوجدنا أن الحديد من أساس ما يعتمد عليه الإِنسَان في حياته للحرث في الزراعة، وأما في العصر الصناعي فظاهر جداً لدى الجميع، وفي جميع العصور لا يستغني عن الحديد فميزته مهمة، ولا سيما أثناء القتال في الجهاد الذي نزلت الآية في شأنهفِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس [الحديد: 25] فالله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب، وأنزل الميزان، وأنزل الحديد- أي: أنزل الحق الذي يجب أن تعلمه الأفهام والعقول السليمة، وأنزل الحديد ليردع العقول المنحرفة والقلوب المريضة والميتة ليردها إِلَى الحق، والأنعام أيضاً من أعظم نعم الله عز وجل فلا غرابة أن تختص بالذكر؛ لأنها من أعظم نعم الله، انظروا إِلَى اللبن وحده بغض النظر عن اللحم وغير ذلك كما يشتق منه أنواع الغذاء من الأجبان والزبدة والأدوية والفيتامينات وأمور لا تحصى، هي من أساسيات الحياة، واختص الله تبارك وتعالى بذكرها لما فيها من الفضل.
ولو قلنا: إن الله سبحانه وتعالى أنزل الأصل، ثُمَّ تناسل ذلك عَلَى الأرض فإن هذا لا إشكال فيه، كما نرى الآن ونشاهد في الأرض أن الجو يكون صحواً فيأتي السحاب فينزل المطر فنرى الماء، وقد نكون بمكان فلا نجد الماء وبعد حين من الدهر يكتشف وجود الماء، فرزق الله عز وجل يأتي بوسائل نعلمها، ووسائل لا نراها ولا نعلمها ومنه هذه المعادن، وهذه الخيرات، والكنوز التي في الأرض، فإن الله عز وجل متى ما شاء سلبها منها، وإذا شاء أنزل فيها من الذهب والفضة والخير والكنوز ما لم نستطع أن ندرك كيف أنزله جل شأنه، هذا هو المراد الذي يتضح به أن الإنزال والنزول حقيقي في كل هذه الأمور وأنه لا شبهة لأولئك في نفي علو الله عز وجل من جهة ولا في نفي أن القُرْآن كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق من جهة أخرى.
وأما قول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وعلى هذا فيحتمل قوله: وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ [الزمر: 6] وجهين:
أحدهما: أن تكون "من" لبيان الجنس.
والثاني: أن تكون "من" لابتداء الغاية] .
وقال أيضاً: [وهذان الوجهان يحتملان في قوله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً [النحل:72] هذا كلام في تفسير هذه الآية، وعلى كلا التوجيهين فالمعنى واضح ولا إشكال فيه؛ فإذا كانت "من" لبيان الجنس كما في قوله تعالى: وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6] فتختلف عن كونها لابتداء الغاية في المعنى؛ لأن "من" لبيان الجنس، أي: جنس المنزَّل وهي الأنعام يكون الكلام كأنه قَالَ: وأنزل لكم الأنعام، لكنه بيَّن بعد ذلك فقَالَ: وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6] فهذه لبيان الجنس، وإن كَانَ لابتداء الغاية فمعنى ذلك أن الثمانية الأزواج مبتدئة من الأنعام.
فمعاني الحروف من حيث الجملة هي من الأمور الدقيقة، ولكن كلا الوجهين محتملين والمعنى واضح عَلَى كلا الوجهين، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أنزل هذه الأنعام، وهذه الأنعام منها هذه الأزواج الثمانية فهي أيضاً من الأنعام أي: تبتدأ منها، و"من" تأتي لبيان الجنس، وتأتي لابتداء الغاية وتأتي للتبعيض، وتأتي زائدة إِلَى غير ذلك من المعاني المعروفة في اللغة، وفي علم التفسير.
وهذه الآية يجوز فيها الوجهان وعلى كلا الوجهين: معنى العلو هو كما سبق لا ينتقض ولله الحمد وهذا هو الذي يهمنا هنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وقوله: [وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً] ، الإشارة إلى ما ذكره من التكلم به على الوجه المذكور وإنزاله، أي: هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهم السلف الصالح، وأن هذا حق وصدق.
وقوله: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية"، رده على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر، وفي قوله:"بالحقيقة" رد على من قال: إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه، وإنما هو الكلام النفساني، لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به: إن هذا كلام حقيقة، وإلا للزم أن يكون الأخرس متكلماً، ولزم ألا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله، كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده، فكتب ذلك الشخص عبارته عن المعنى، الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى، وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد (أخرس) لكن عندهم أن الملك فهم منه معنى قائماً بنفسه، لم يسمع منه حرفاً ولا صوتاً؛ بل فهم معنى مجرداً ثم عبر عنه، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي، أو أن الله خلق في بعض الأجسام كالهواء الذي هو دون الملك هذه العبارة.
ويقال لِمَن قال: إنه معنى واحد: هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى أو بعضه؟ فإن قال: سمعه كله فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله، وفساد هذا ظاهر، وإن قال: بعضه، فقد قال: يتبعض وكذلك كل من كلمه الله، أو أنزل إليه شيئاً من كلامه.
ولمَّا قال تعالى للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة [البقرة:30] ولما قال لهم:اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34] وأمثال ذلك هل هذا جميع كلامه أو بعضه؟ فإن قال: إنه جميعه، فهذا مكابرة، وإن قال بعضه فقد اعترف بتعدده] اهـ.
الشرح:
في هذا الكلام بين المصنف أن هذا مذهب السلف الصالح وأنهم صدقوا أن يكون القرآن كلام الله منزل غير مخلوق حقاً، وأنهم آمنوا بذلك بالحقيقة وفي قوله بالحقيقة تأكيد في الرد على القائلين بأنه معنى واحد قائم بالذات، أي: المعنى النفسي القائم بذات الباري سبحانه وتعالى لم يتكلم به، ولم يسمعه منه الملك فضلاً عن أنه سمعها غير الملك.
ولهذا عاد فألزمهم بما قد سبق أن ذكره، وهو أن إثبات الكلام النفسي يلزم منه أن يكون الأخرس متكلماً، وهذا واضح لأنَّا إذا قلنا: فلان يتكلم بمعنى أن غيره يعبر عنه أو يحكي عنه، فإن الأخرس يقال له متكلم لأن غيره يحكي عنه ويلزم منه أيضاً ألا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو كلام الله عز وجل.
أما ابن كلاب، فيلزمهم أن يقولوا: إن هذا ليس كلام الله وقد ذكرنا أنهم يقولون: إن القرآن الذي في المصحف مخلوق، ولكنهم قالوا: لا يُقال ذلك إلا في مقام التعليم ولا يقال أمام العامة، حتى لا يفهم عنهم أنهم معتزلة.
فنحن نقول: إن هناك كلاماً نفسياً وكلاماً لفظياً لكن لايقال إلا في مقام التعليم: وإن هذا الكلام المقروء المسموع المكتوب مخلوق، وأما النفسي فإنه غير مخلوق، فهذا مذهب الكلابية الذي تفرع منه الأشعرية والماتريدية، وهم يقولون إن الله عز وجل لايتكلم، أو أن الله سبحانه وتعالى كلَّم واحداً من الناس فكتب هذا الكلام، فإنه لم يسمع حرفاً ولا صوتاً، وإنما كتب هذا المعنى أو هذا الكلام، والمكتوب هو: عبارة أو حكاية عن كلام الله عز وجل فمن خلال هذا المثال يتضح أن مذهبهم باطل.
وهم لم يقولوا: إن الله أخرس -كما ذكر المصنف- ولا يلتزمون ذلك!
فنقول هذا لازم لكم، ولو تأملتم فإنه لا فرق بين هذين المثالين، فلا بد أن تثبتوا أنه سبحانه وتعالى يتكلم حقيقة، وأن الملك يسمع منه الكلام على الحقيقة، ثم ينقله الرسول الذي يسمع منه.
وأيضاً: القول بأن الله خلق كلامه في الملك نفس الشيء أو في الهواء أو في أي شيء آخر كما يقوله بعضهم.
ثم يرد عليه أيضاً بحجة عقلية قوية وهي: أنكم يا كلابية منأشعرية وماتريدية تقولون: إن القرآن معنى واحد: الخبر والأمر والنهي والاستفهام كله واحد.
وقلنا كما سبق أن هذا الكلام معناه أنّ قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] مثل قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء:43] وهذا غير معقول؛ لكنهم يقولون: إنَّ معنى ذلك واحد، إن عُبِّرَ عنه بالعربية كان قرآنا، أو بالعبرانية كان تواره، أو بالسريانية كان إنجيلاً إلى آخر ما يفصلون في كتبهم.
فيقال: ما الذي سمع موسى عليه السلام من ربه عز وجل لما كلمه؟
إن قالوا: سمع جميع كلام الله؛ لأنه معنى واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، فهذا واضح البطلان؛ لأنه إنما سمع بعضه.
وإن قالوا: سمع البعض.
قلنا: إذاً قد أقررتم أنتم بالتبعيض وبالتعدد، فقد ناقضتم أنفسكم، وهذا اعتراف منكم بأن قولكم:"إنه معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد قائم بالنفس" باطل، ثم نقول: هل سمع موسى عليه السلام كل ما في نفس الله سبحانه وتعالى، فإن قالوا نعم فهذا باطل؛ لأنه سبحانه وتعالى لا أحد يحيط بعلمه أبداً فعلمه سبحانه وتعالى فوق إدراك كل إنسان. والله عز وجل إذا كلَّم إنساناً، فإنما يُكلمه بشيء قليل جداً بالنسبة كلامه عز وجل الذي لو كان البحر مداداً له لنفد البحر بل تنفد سبعة أبحر قبل أن تنفد كلماته سبحانه وتعالى، فإذاً موسى سمع شيئاً قليلاً جداً من كلام الله عز وجل، وعلى قولكم: إنه معنى في النفس هل يفهم جميع المعاني أي: كل ما في نفس الله عز وجل يفهمه أو يعلمه إنسان يكلمه الله عز وجل؟! هذه الأمثلة براهين وحجج واضحة تدل على بطلان مذهبهم.
وكذلك مخاطبة الله عز وجل للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ولما قال لهم: اسْجُدُوا لِآدَم وعندما يُخاطبُ الله عز وجل، عيسى يوم القيامة عليه السلامأَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه [المائدة:116] .
هل هذا الكلام هو كل كلام الله عز وجل؟
لا يقول ذلك عاقل؛ لأن هذا بعض كلام الله، ومعناه واضح والحمد لله، ويسمعه عيسى عليه السلام، ويجيب عليه السلام بما ذكر الله عز وجل في القرآن، إذاً فالقول بأنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور سماعه، مكابرة للعقول ومن يقرأ في الحواشي العضدية والنسفية في التعليق على هذا الكلام يجد الألغاز المعماة المعقدة في شرح معنى أن الله تكلم، ومعنى الكلام، ومعنى كلام نفسي، يجد أشياء غريبة جداً، ولو أن هذا هو ديننا الذي أنزله الله والذي يجب أن نعتقده، لما دخل الجنة أحد إلا هؤلاء أصحاب الألغاز، وهم أيضاً متناقضون مختلفون، فلا ندري من يدخل الجنة منهم، سبحان الله!
فالله عز وجل أنزل إلينا الدين واضحاً جلياً، فكل ذي فطرة وعقل سليم يفهم من معنى الكلام أن الكلام منه بدأ، وهو الذي تكلم به على الحقيقة، أما كيفية كلام الله عز وجل فشأنها كشأن سائر الصفات لا نخوض في الكيفية، ولن تدركها عقولنا بأية حال من الأحوال هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا الموضع.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال:
أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإِنسَان للروح والبدن معاً، وهذا قول السلف.
الثاني: أنه اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.
الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه عَلَى الفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.
الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية.
ولهم قول خامس يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم بخلاف كلام الله، فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه] اهـ.
الشرح:
هذا الكلام استطراد لكن لا بأس أن نعرفه وإن كَانَ ليس مهماً لأنه من فضول العلم وهو في الحقيقة خوض في أمور فلسفية وذلك أنهم تأملون فَقَالُوا: هل الكلام -حقيقة- هو اللفظ، أي: هل هذه الألفاظ (ك، ت، ب) مجردة عن المعنى هي الكلام؟ أو أن الكلام يطلق عَلَى اللفظ بمعناه مع بعض دون فصل بينهما، أو يطلق عَلَى واحد منهما؟ هذا من التفصيل الذي خاض فيه المتأخرون، والأقوال فيه أربعة، وذكر المُصنِّفُ قولاً خامساً في ذلك.
القول الأول: ما عليه السلف الصالح، وعليه العقلاء من النَّاس أجمعين أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى بغير فصل، كما أن كلمة إنسان تتناول البدن والروح، أي الجانب الظاهر منه والجانب الباطن فالكلام يشمل الصوت الذي يصدر من الحلق أو الحرف مع المعنى أيضاً المقترن به ولا انفكاك بينها.
والقول الثاني الذين قالوا: الكلام في الحقيقة هو اللفظ فقط، أي: مجرد الحروف أو مجرد الهواء الذي يخرج من الأجهزة الصوتية، وأما المعنى فهو يطلق عليه بالمجاز أو هو مدلوله، وهذا مذهب جماعة من المعتزلة.
والقول الثالث: قول الأشعرية وهو ضد قول المعتزلة أن الكلام في الحقيقة هو المعنى وأما الألفاظ التي تخرج فهذه لا تسمى كلاماً إلا مجازاً.
والقول الرابع قول طائفة من الأشعرية الكلابية أنه مشترك بين اللفظين؟ والفرق بين قول السلف وقول الكلابية أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، أن السلف يقولون: إنه يتناول اللفظ والمعنى معاً بدون انفصال: فإذ قال متكلم كلمة فإنه قال بحرف وصوت مع المعنى الذي يقصد ذلك المتكلم معاً بلا انفصال بينها، لكن هَؤُلاءِ يقولون هو مشترك بين اللفظ والمعنى، أي: يطلق عَلَى مجرد الألفاظ أنها كلام ويطلق عَلَى المعنى الواحد أنه كلام بخلاف مذهب السلف فإن الكلام يطلق عَلَى الاثنين، ولا يطلق عَلَى مجرد الكلام النفسي كلاماً في مذهب السلف ولا العقلاء جميعاً إلا إذا جَاءَ مقيداً كَانَ تقول: تكلمت في نفسي فنفهم منه أنك أسررت شيئاً في نفسك ولكن لم تبح به.
القول الخامس: يروى عن أبي الحسن الأشعري أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وأما من قال إنه معنىً واحد، واستدل عليه بقول الأخطل:
إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما جُعْلِ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
فاستدلال فاسد، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء عَلَى تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به.
فكيف وهذا البيت قد قيل: إنه موضوع منسوب إِلَى الأخطل وليس هو في ديوانه.
وقيل: إنما قَالَ: " إن البيان لفي الفؤاد"، وهذا أقرب إِلَى الصحة.
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به، فإن النَّصارَى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت أي شيء من الإله بشيء من الناس؛ أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟!
وأيضاً: فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه، وإن لم ينطق به، ولم يسمع منه، والكلام عَلَى ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة.
وهنا معنى عجيب وهو أن هذا القول له شبهٌ قويٌ بقول النَّصارَى القائلين باللاهوت والناسوت، فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النَّصارَى في عيسى عليه السلام، فانظر إِلَى هذا الشبه ما أعجبه] اهـ.
الشرح:
استدل الذين يقولون: بأن كلام الله هو الكلام النفسي، بأن القُرْآن المتلو والمحفوظ والمسموع والمقروء الذي بين أيدينا في المصاحف مخلوق، وأن الكلام الذي هو صفة الله هو المعنى القائم في نفسه تبارك وتعالى ومن جملة الشبهات التي أوردوها: عَلَى ذلك البيت المنسوب إِلَى الأخطل وهو:
إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّماجُعْلِ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
يقولون: إن هذا الشاعر يعبر ويشرح معنى الكلام ويقول: إن الكلام لفي الفؤاد، فالكلام في الحقيقة هو ما في النفس، أي: ما يقوله الفؤاد وما يقوم في القلب من المعنى، وأما اللسان فإنما هو مُعبِرٌ عمَّا في الفؤاد فقط، ولذلك فهم عندما يقولون: إن القُرْآن ليس هو كلام الله عز وجل، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فإن هذا المعنى صحيح؛ لأنه يتفق مع هذا البيت، وقد أخذ العلماء في رد هذا القول من عدة أوجه كما ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا جملة من ذلك.
الوجه الأول: أن البيت مصنوع
هذا البيت موضوع كما في بعض النسخ، والأفضل أن يُقَالَ: إنه مصنوع؛ لأن كلمة موضوع خاصة بمصطلح الحديث وهو الأولى، فالحديث المكذوب عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُقال له: الموضوع؛ لأنه وضع عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الأبيات المنتحلة أو المكذوبة، كأن يقول الرجل أبياتاً من عنده، وينسبها إِلَى أحد الشعراء، فيُقَالَ: إن هذه القصيدة مصنوعة أو منحولة، يُقَالَ: شعرٌ منحول أو شعر مصنوع، والذي في بعض النسخ مصنوع وهو الأرجح.
فإذا هذا البيت لم يقله الأخطل، فالقول الأول في رده: أنه لم يثبت أن هذا الشاعر قاله.
الوجه الثاني: ورود البيت برواية أخرى
ورد فيما نُسبَ إِلَى الأخطل برواية أُخرى غير رواية
إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما
وهي:
إنَّ البَيَانَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما
والبيان غير الكلام، وإنما الخلاف والنقاش في موضوع الكلام، وأما البيان فهذا أمر آخر، فاللسان يعبر عما في الفؤاد من البيان بمعنى: أن الإِنسَان يسوغ الفكرة في قلبه، ثُمَّ يعبر عنها باللسان، أو بالكتابة، وهذا أمرٌ لا خلاف فيه ولا غبار عليه.
الوجه الثالث: أن الأخطل نصراني ولا يستدل بقوله
إذا قدرنا أن هذا البيت صحيح، وأنه بنفس لفظة (الكلام) فإنَّ الاستدلال به لا يجوز شرعاً؛ لأن الأخطل شاعر نصراني، ومعلوم أن شعراء العهد الأموي ثلاثة -الذين هم الطبقة الأولى-: جرير، والفرزدق، والأخطل وقد كَانَ الأخطل تغلبياًً نصرانياً من ديار بكر وتغلب التي تسكن في شمالالعراق، وكانت النصرانية قد دخلت العرب؛ لمجاورتهم للروم حيث دخلوا في دينهم، فكانوا عَلَى تلك الملة، والإِنسَان لابد أن تظهر عقيدته في كلامه وفي شعره وفي نثره، فإذا قال هذا الشاعر النصراني:
إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما
فلا غرابة في ذلك؛ لأن هذا اعتقاده ودينه الذي يدين به.
فالنَّصَارَى قد ضلوا في مفهوم الكلمة، حيث إنهم جعلوا عيسى عليه السلام هو نفس الكلمة، فهم يقولون: الكلمة تجسدت في عيسى، وعندهم أن عيسى هو كلمة الله بمعنى أنه هو ذات كلمة الله.
أما نَحْنُ فإننا نعتقد أن عيسى كلمة الله كما أخبر الله سبحانه وتعالى في قول الملائكة لمريم إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45] ، وكما جَاءَ أيضاً في الحديث الآخر الصحيح (وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه)، وسمي بالكلمة: لأنه وجد بكلمة من الله، فالله عز وجل قال له: كن، فكان إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فليس عيسى هو نفس كلمة الله عز وجل ولكن لأنه وجد بالكلمة، فأطلقت عليه الكلمة، وليس هو نفس ذات الكلمة، فهو خارج عن العادة في الخلق، فالعادة أن يُخلق النَّاس من أم وأب إلا أن آدم خلقه الله عز وجل لأنه أول الخلق من غير أم ولا أب، وخلق المسيح من أم بلا أب، فهذا مثل هذا من حيث أنه وجد بكلمة من الله عز وجل وليس بالعادة والسنة الإلهية التي جعلها الله سبحانه وتعالى في كل مولود.
فالنَّصَارَىتقول: إن عيسى هو نفس الكلمة، وعيسى الذي هو كلمة الله هو بشر من ناحية، وهو إله من ناحية أخرى، فاتحد الناسوت باللاهوت، أي: اتحد عنصر الناسوت الإنسي البشري باللاهوت وهو العنصر أو الأقنوم الإلهي، فتركب منهما عيسى عليه السلام، ولذلك يقول النَّصَارَىكما في الأناجيل وكما يرددونه في الإذاعات: إن المسيح لمَّا ركبَ في الزورق هو وطائفة من أصحابه، فهاج بهم الموج، فخافوا من الغرق، فكان عيسى لمَّا خاف من الغرق في الحالة الناسوتية -أي: أنه بشر مثل البشر خاف أن يغرق- وبعد قليل قال عيسى عليه السلام للزورق: اهدأ فهدأ البحر وهدأ الزورق ونجا هو وأصحابه، فَقَالُوا: في هذه الحالة كَانَ يتكلم باسم الحالة اللاهوتية.
وعندما يقولون: إنه صُلِبَ، فقد ردَّ اللهُ عَلَى كذبهم بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] فيقولون كما في بعض الأناجيل: إنه لما وضع عَلَى الصليب قَالَ: إيلي إيلي باللغة السريانية يعني إلهي إلهي! أو يا ربي يا ربي! أو يا الله يا الله! لماذا تركتني؟! فلما نادى عيسى هذا النداء في هذه الحالة كَانَ في الحالة البشرية الناسوتية؛ لأنه دعا الله، لكن بعد ثلاثة أيام من الصلب كما يزعمون عاد ورجع وخاطب النَّاس ورأوه وكان في صورته الإلهية.
فالنَّصَارَىهذا دينهم وهذا مفهومهم في الكلمة فكيف نأخذ كلامهم، حتى لو قال الأخطل هذا البيت وثبت عنه فلا نأخذ بكلام شاعر نصراني هذه عقيدته في الكلام وفي المسيح عليه السلام ويقول المُصْنِّف في ذلك:[أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام عَلَى معنى الكلام، ويُترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب] وهذا غير ممكن.
الوجه الرابع: أن معنى البيت غير صحيح
لأن لازمه أن يكون الأخرس متكلماً كما قد أوضحنا ذلك مراراً، فإذا كَانَ الكلام هو ما في الفؤاد، وليس ما ينطق به اللسان، فإن الأخرس الذي لا يتكلم بلسانه يسمى متكلماً؛ لأنه بطبيعة الحال يفكر بقلبه، ويحدث نفسه بأشياء ويتكلم في نفسه عَلَى هذا المفهوم، ثُمَّ يؤشر بإشارة ويُعبر فيفهمُ النَّاس أنه يريد كذا أو يريد كذا.
الاستدلال بخبر الآحاد والرد عليهم
هنا قضية مهمة لابد أن نعلمها وهي من أهم الأصول في مسائل العقيدة وهي موضع الفصل بين أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من جهة، وبين غيرهم من الطوائف من جهة أخرى، وهي ما أشار إليه المُصْنِّف رحمه الله تَعَالَى بقوله:[ولو استدل مُستدلٌ بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء عَلَى تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به] أي: لو جئناهم بحديث من الصحيحين قد اتفق العقلاء عليه وعلى تلقيه بالقبول، وقلنا لهم: هذا كلام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يقولون: هذا خبر آحاد وخبر الآحاد لا يحتج به في العقيدة، هذا مذهب عموم أهل الكلام والمعتزلة والأشعرية.
فيحتجون كما يقولون بالبراهين القطعية الثابتة، أما الأدلة الشرعية، فهم يقولون: إن ما جَاءَ في القرآن، وما جَاءَ في السنة فإنها عَلَى أحد نوعين:
النوع الأول: إما أن تكون الآيات أو الأحاديث متواترة.
النوع الثاني: أن تكون الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم آحاداً، أما الآحاد فلا يشتغلون بها نهائياً، حتى قال قائلهم وهو أبو المعالي الجويني: إن اشتغلنا به عَلَى سبيل التبرع فنؤوله، وإذا أولناه فلا ننظر إليه نهائياً مادام أنه في باب العقيدة، لكن لو اشتغلنا به فهو تبرع منا أو تطوع ونؤله، هذا موقفهم من خبر الآحاد وبهذا نعرف ضلال أصحاب علم الكلام ومدى ما وقعوا فيه من الحيرة والشك والريب الذي اعترى قلوبهم لما أن تركوا الهدى الواضح ومالوا إلى القواعد والبراهين العقلية التي قررها أفلاطون وأرسطو وأمثالهما، وأما القرآن والسنة فنؤلهما لتوافق هذه القواعد.
إذاً ما الفائدة من إنزال القرآن؟ أمن أجل أن نشتغل بتأويله ليوافق ما قاله أرسطو وأفلاطون! ومن ثُمَّ ننظر ما ثبت متواتراً منها اشتغلنا بتأويله وما كَانَ آحاداً رددناه! فهذا مضيعة مشغلة، وكان الأولى أن نشتغل ونجعل الوقت والجهد كله فيما قرره هَؤُلاءِ من القواعد والبراهين وننتهي من إضاعة العمر في رد ونقض القُرْآن والسنة وتأويلها لتوافق ما قالوا.
هذا هو لازم لهم بأي حال من الأحوال ولا يمكن أن يحيدوا عنه أبداً والواقع معلوم، وكما يعلم كل ذي لب من مؤرخ أو مفكر مؤمن وغير مؤمن أن علم اليونان وعلم غيرهم كَانَ موجوداً قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكان متداولاً حتى في بعض الأقطار التي فتحها الْمُسْلِمُونَ مثل بلاد الشام وبلاد مصر وكانت هذه الفلسفات معروفة فماذا أغنت عنهم وما أعطتهم من الحق والهدى؟ لم تعطهم إلا الضلال والحيرة والعياذ بالله، فلا بد إذاً من الرجوع إِلَى الكتاب وإلى السنة.
ولو نظرنا إِلَى ما يمكن أن نرد به علىهَؤُلاءِ من واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فسنجد الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عقد باباً في صحيحه سماه أخبار الآحاد وأيضاً كتاباً آخر أسماه الاعتصام بالكتاب والسنة، وقد تعمد الإمام البُخَارِيّ رحمه الله أن يعقد هذا الباب لينبه إِلَى هذه المسألة المهمة، ويبين لنا خطر ما يدعو إليه أُولَئِكَ المتكلمون وذكر فيه جملة من الأحاديث التي تبين وتقطع ببطلان دعوى التواتر.
ومن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بعث الرسل إِلَى ملوك الأرض قاطبة ليبلغهم العقيدة فبعث دحية الكلبي إِلَى هرقل ملك الروم وهو رجل واحد ولم يبعث عشرين ولا ثلاثين ولا سبعين.
وبعث إِلَى الفرس أيضاً رجلاً واحداً.
وبعث كذلك إِلَى المقوقس ملك، أو عظيم القبط رجلاً واحداً، ولنفرض أنهم رجلين، فهذا لا يؤثر، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلىاليمن ثُمَّ أبا موسى الأشعري وهم آحاد ولم يصل العدد إِلَى حد التواتر، وقد كَانَ يأتي إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل مثل عامر بن الطفيل الدوسي ومثل ضمام الذي قال أنا ضمام أخو بني سعد بن بكر، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن التوحيد والإيمان ثُمَّ رجع وأنذر قومه وبلغهم.
وكثير من هَؤُلاءِ الصحابة الذي كَانَ يذهب الواحد منهم ويعود إِلَى قومه ويبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أهل المدينة كيف دخلوا في الإسلام، هل أرسل لهم النبي صلى الله عليه وسلم عدد التواتر؟
إنما بعث إليهممصعب بن عمير رضي الله عنه رجلاً واحداً أدخلهم في الإسلام حتى أنهم استقبلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالأحضان من أول يوم وصل المدينة، وإذا به سيد المدينة، وحاكمها المطلق، فآمنوا واهتدوا وهم أفضل الأمة بعد المهاجرين بدعوة رجل واحد.
فدعوى من يقول: إن العقيدة لا تؤخذ عن الخبر الواحد دعوى واضحة البطلان، ومن ذلك ما يقول به كثير من النَّاس اليوم، الذين يردون بعض الأحاديث الصحيحة، كحديث الذباب فيجدر بنا أن نتنبه إِلَى خطورة هذه القضية: بعض النَّاس قد يكونون إسلاميين أو دعاة أو ما أشبه ذلك، ولكنهم منحرفون في هذه القضية ولا يضرنا ذلك ومن ذلك ما راج من بدعة إنكار آحاد السنة وبالذات حديث الذباب الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء) فردوا هذا الحديث مع أنه حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: إن العلم يثبت أن هناك ميكروبات، فكيف يردونه؟
قالوا: هذا آحاد، لم يثبت بالتواتر، سُبْحانَ اللَّه! ولو أننا من أجل حديث الذباب لا بد أن نأتي برواية أربعين عن أربعين، أو ثلاثين عن ثلاثين، أو سبعين عن سبعين، فمعنى ذلك أن لا إله إلا الله والصلاة لابد له من رواية ألف عن ألف عن ألف، حتى تثبت وهذا شيء عجيب، وإذا كانوا يريدون التواتر في الذباب إذاً متى يقبلون منَّا خبر الآحاد؟ ولماذا يجهد البُخَارِيّ ومسلم والإمامأَحْمَد أنفسهم ويجمعون الطرق.
وبعض الصحابة ما روى إلا حديثاً واحداً عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وما لقيه إلا تابعي واحد أو اثنان، فمعنى ذلك: أن من كَانَ الراوي له من التابعين واحد أو اثنان أو أقل من التواتر فإننا نرد جميع أحاديثه، ومن ذلك بعض أمهات المؤمنين؛ لأنه لم يكن يدخل عليهن أو يخاطبهن إلا بعض أقاربهن فمعنى ذلك أن نرد كل ما روي عنهن؛ لأنه لم يرد عنهن عدد التواتر سبعين أو أربعين أو ثلاثين مثلاً مع الخلاف الذي بين المعتزلة، فهذه من أبطل الدعاوى وأكثرها بهتاناً وإفكاً فالغرض منها هو هدم الدين من أساسه ولكن غلَّفوا ذلك الهدم باسم أننا نريد التواتر ونريد أن نستوثق؛ لأن الراوي الواحد قد يخطئ وقد ينسى وقد يضل وغيرها من الاحتمالات ونحن لا ننكر أن بعض الرواة يخطئ، وهذا موجود!
وقد قال علماؤنا في نقدهم للأحاديث في المتون: هذه الكلمة مدرجة، وأخطأ الراوي في هذه الكلمة، وأصاب فلان، وَقَالُوا: هذا الحديث شاذ، والشاذ هو ما خالف فيه الثقة ثقات آخرين، فهم يعرفون هذا، فما قلنا ولم نقل: إن كل من روى له البُخَارِيّ أو مسلم أو كل من قال العلماء: إنه ثقة أو صدوق أنه معصوم لا يخطئ، لم يقل ذلك أحد من العلماء بإطلاق؛ لكن هل يرد حديثه بناءً عَلَى أنه غير معصوم؟!
ونضرب عَلَى ذلك مثالاً واقعياً: الآن هل يوجد طبيب في الدنيا معصوم لا يمكن أن يخطئ في أي علاج، لا، بل كل طبيب يمكن أن يخطئ، فلو جَاءَ وقَالَ: ما دام أنه كذا فتغلق جميع المستشفيات وجميع العيادات ولا نقبل أي شيء لأنه من الممكن أن يخطئ فمن الممكن أن يذهب أحد النَّاس ويعطي له إبرة أو حبوب أو شيء فيموت، فما دام أنَّ احتمال الخطأ وارد فلا نقبل من أي طبيب عَلَى الإطلاق، ويصبح النَّاس لا يتداوون ولا يتعالجون، فيقول النَّاس عن هذا: إنه مجنون فلو أنه أخطأ مرة أو مرتين فالخطأ يمكن أن يتدارك، ولو لم يتدارك فجانب المنفعة عظيم جداً والخطأ نزر وقليل فيغتفر ويحتمل.
فكذلك عندما يقولون ألستم تعترفون أن الرواة قد يخطئون نقول: قد يخطئ، فهل ما دام أنه قد يخطئ إذاً لا نقبل أي حديث، سُبْحانَ اللَّه!! هذا الكلام لا نقبله منهم، بينوا لنا أنه أخطأ في هذه اللفظة، ونحن لا نقول بهذه اللفظة، أعطونا الدليل عَلَى ذلك، قولوا: قال أَحْمَد، قال البُخَارِيُّ، قال ابن معين، قال ابن المديني، قال النَّسَائِيُّ، قال أبو داود: إن هذا أخطأ في هذه اللفظة ونحن نقبل هذا الكلام ولا مشاحة في ذلك؛ لأن هذا علم اسلكوا طريقه وتعلموه ثُمَّ ناقشونا به، لكن الرد بدون علم لا نقره، ولا يقره أي إنسان في أي علم فضلاً عن أشرف العلوم بعد كتاب الله، وهو علم السنة التي تكفل الله تَعَالَى بحفظها عن طريق هَؤُلاءِ الأئمة الثقات الأثبات.
وهناك لفتة عجيبة أشار إليها المُصْنِّف رحمه الله بعد ذلك لما قَالَ: [وهنا معنى عجيب وهو أن هذا القول له شبه بقول النَّصَارَى] .
وهذا اتضح حينما قلنا: إن النَّصَارَىيقولون: حلَّ الناسوتُ باللاهوت، وهذا بمعنى أنه يقوم مقامه ويتكلم باسمه، فكذلك يقول هَؤُلاءِ: إن الكلام المخلوق الذي في المصحف هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فالعلاقة بين المعنى القائم بالنفس، وبين الكلام المخلوق أو النظم الموجود بين الدفتين في المصحف تُشَابِهْ تماماً العلاقة التي تقولها النَّصَارَىبين الناسوت واللاهوت ففي هذا مشابهة عجيبة ودليل عَلَى أن هذه الفكرة أصلها ومنشأها من غير الإسلام.
وقد أشرنا إِلَى ذلك عندما استعرضنا في أول مبحث الكلام وهو: أنهم أخذوه من النَّصَارَىوأرادوا أن يردوا عَلَى النَّصَارَىفاضطروا إِلَى القول بأنه مخلوق، فسواء كَانَ التأثير مباشراً، أو ردة فعل عكسية، فأيا كَانَ الأمر فإن هذا القول غريب عن دين الإسلام والْمُسْلِمِينَ.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[ويرد قول من قال: بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة) واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
وأيضاً ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ففرق بين حديث النفس وبين الكلام وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب وأيضاً في السنن أنمعاذاً رضي الله عنه قال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: (وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) .
فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة، والتابعين لهم بإحسان وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر.
ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك] اهـ
الشرح:
يستمر المصنف -رحمه الله تعالى- في بيان هذه الحقيقة وهي: أن القول أو الكلام وما يتفرع عنه من الفعل أو المصدر أو اسم الفاعل، إذا قلنا: قال فلان أو يقول أو قولاً أو تكلم كلاماً كل هذا فإن المراد به الكلام المعروف المعهود عند الناس وهو المنطوق باللسان أي: يشمل اللفظ والمعنى معاً ولم يعهد عن أحد من السلف من التابعين أو الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أنه قال بالفرق بينهما كما تقدم بيانه وأن هذا إجماع منهم.
وهذه القاعدة تؤكدها الأحاديث الثابتة الواردة بإبطال قول من يقول: إن الكلام هو ما في القلب ويستدل عليها بقول الشاعر النصراني ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) هذا جزء من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه والذي بيَّن فيه عدة من الأحكام مثل علو الله عز وجل وهذا الحُكم من أحكام الصلاة وأثبت فيه أيضاً الكهانة والطيرة وهو حديث عظيم رواه الإمام مسلم وغيره وهو من أحاديث العقيدة المهمة فلما أن عطس الرجل فشمته معاوية بن الحكم السلمي بصوت عالي، فتأثر الصحابة رضي الله عنهم وضربوا على أفخاذهم، فقال: ما لكم، فتأثروا أكثر، فاضطر أن يسكت، فلما انتهى تعجب ما الذي جرى فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه بلطف وقال له:(إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) فإذا كان الكلام هو ما في الفؤاد فمن من المسلمين -إلا من عصمه الله من السلف الأولين أو من أشباههم- لا يكلم نفسه في أثناء الصلاة.
وقد اتفق العلماء والفقهاء جميعاً على أن حديث النفس حتى ولو بشيء من أحاديث الدنيا أو بأي أمر من الأمور، فإنه لا يبطل الصلاة، فيجب أن نفرق بين الخشوع وبين البطلان فالكلام هنا في البطلان فمن تكلم بكلام أو قول أي أظهر لفظاً أو نطق بكلام لغير مصلحة الصلاة بطلت صلاته عند جميع الفقهاء لكنه لو تكلم بهذا الكلام في نفسه، فإن صلاته لا تبطل ولكن ينقص الخشوع.
فالكلام النفسي موجود دائماً ولا يخلوا إنسان من أن يحدث نفسه هذا أحد الأدلة.
والدليل الآخر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة) وهذا الحديث يدل على ما يدل عليه حديث معاوية بن الحكم: أن الصلاة في أول الأمر كان الكلام فيها جائزاً ثم مما أحدث الله عز وجل أن الكلام منع في الصلاة وهذا من أدلة النسخ فإن بعض الأحكام تكون جائزة ثم تنسخ فتصبح محرمة أو العكس، وكذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:(إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به) هذا من فضل الله عز وجل ورحمته علينا.
فالله تجاوز عن حديث النفس الخواطر والهواجس فإذا تكلمت به وعملت به فإنها تؤاخذ بما تكلمت وعملت، ولكن من شك في بعض ما أخبر الله به أو أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشك استيقن به صاحبه، حتى أصبح عنده حقيقة، فكيف ينطبق عليه هذا الحديث؟ هو لم يتكلم ولكن هذا الشك انتشر حتى صار مؤكداً وحقيقة في نفسه أنه يكذب أو يشك في شيء مما جاء عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطوى قلبه على عقيدة باطلة بخلاف ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من عمل القلب، وينطبق عليه الحديث؛ لأنه قد عمل قلبه به لأن عمل القلب الشرعي مثلاً: اليقين وقد حل محله الشك فيكون من عمل القلب الكفري الذي هو ضد العمل الإيماني، وكذلك الإخلاص مطلوب وهو من أعمال القلب الواجبة فإذا حل محله الرياء فإن عمل القلب هنا يفسد، فإذاً سواء كان العمل قلبياً أو عملاً بالجوارح فلا يؤاخذ الله عز وجل بالخواطر والهواجس وإنما يؤاخذ بالعمل، إذا كان عملاً بالقلب أو عملاً بالجوارح أو كلاماً يتفوه به الإنسان، لأنه إذا تفوه وتكلم به فإنه قد تقرر به أما الهاجس والخاطر العارض فإنه يطرده، ولا يستقر في قلبه، وما دام يدافعه فلا حرج عليه، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان لا يزال يأتي الإنسان حتى يقول الله: هذا خلق الله، فمن خلق الله) ، فالشيطان يأتي الإنسان بالشكوك حتى أن أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- روى هذا الحديث لمَّا جاءه رجل فسأله هذا السؤال فضحك أبو هريرة رضي الله عنه وعجب، وقال: (صدق خليلي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك، وها هو قد قيل ما كان وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فالشيطان يأتي يلقي الشبهات والشكوك والواجب على المؤمن أن يحاربه وأن يقاومه فهو يدعو إلى الفحشاء والمنكر.
وهذا من الفوارق الدالة على أن الكلام هو: القول واللفظ، وليس مجرد حديث النفس، ولذلك فالعبارة الأخيرة التي ذكرها المصنف هنا: إن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس مما نحتاج فيه إلى قول شاعر أي: مثل هذه المعاني الواضحة في الكلام العام لا نحتاج إلى الاستدلال عليها بقول شاعر ولا حتى بغير ذلك كالرأس والرجل واليد والسماء والأرض والجبل..لا نحتاج أن نأتي عليه بشاهد لا من كلام العرب ولا من غيره؛ لأنه معروف ومعلوم لدى كل عربي أن هذا يسمى جبل، وهذه تسمى سماء، وهذه أرض، وهذا لا يحتاج فيه إلى شاهد، فهو ثابت بالتواتر بالجمع الغفير جداً، وهو كل من يتكلم بهذه اللغة.
ومن ذلك أن كلمة الكلام والقول إنما تطلق على ما يتلفظ به وما يُقال باللسان، فلا يحتاج إلى قول أحد ويشهد لذلك الحديث الذي رواه الترمذي والإمامأحمد من حديث معاذ المعروف الذي قال في آخره:(يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يُكبُّ الناس في النار على وجوههم -وقال في رواية أخرى: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) .
فدل ذلك على أن القول المؤاخذ به الذي يكب في النار هو ما يقوله اللسان لا مجرد ما يخطر في القلب فهذا من أحد الشواهد. والأدلة المتظافرة من الشرع والعرف واللغة على أن الكلام هو ما ينطق به وما يتلفظ به.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر فإن الله تعالى يقول: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88] أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو هذا إلى المتلو المسموع ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ولا منزل ولا متلو ولا مسموع وقوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع فأما أن يشير إلى ذاته فلا، فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق؛ بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية ولو كانت هذه التلاوة حكايةً لكان الناس قد أتو بمثل كلام الله فأين عجزهم؟!
ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة وآيات مسطرة في صحف مطهرة قال تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات [هود:13] : بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49] فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عبس:14،13] .
ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولا م حرف وميم حرف) وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين] اهـ.
الشرح:
يذكر المصنف رحمه الله أن من قال: إن كلام الله معنى نفس وأن ما في المصاحف المتلو هو حكاية أو عبارة عن كلام الله وهم الحنفية والأشعرية والماتريدية ومن قال بهذا القول، فقد قال بخلق القرآن شعر أم لم يشعر.
وسبق أن قلنا: إن كتب المتأخرين وكذلك الشروح والحواشي المتأخرة صَّرحت بذلك، قالوا: إن القرآن مخلوق ولكن لا يُقال مخلوق إلا في مقام التعليم، فلو قال أحد: مخلوق أمام العامي الذي لا يدري فقد يظن أنك تعني ما في ذات الله وما في ذات الله غير مخلوق أما هذا الذي في المصحف فهو مخلوق وتقول مخلوق أمام من يفهم الفرق بينهما.
فهذا ليس فقط وهو لا يشعر؛ بل هم قد قالوا ذلك، وأقروا به، والتزموا به، ولم يعودوا ينكرونه؛ بل هم يصرحون به حتى المعاصرين منهم في هذا الزمان، ويرد عليهم رحمه الله بأن الله سبحانه وتعالى تحدى العالمين الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] .
فما الذي تحدى الله عز وجل به المخلوقين أهو ما في ذاته؟ أم هو هذا المكتوب المتلو المحفوظ؟ فالإشارة في هذا لو فكر أي عاقل لوجد أنها بلا شك إلى هذا الذي يقرأه الناس ويتلونه ويسمعونه، فهذا هو كلامه الذي يتحدى أن يأتي بمثله.
أما إن كان التحدي لِمَا في ذات الله فَمَا في ذات الله عز وجل لا يشار إليه بهذه الآية ولا غيرها ولا هو منزل ولا متلو ولا مسموع، كما يقولون: إنه ليس بحرف ولا صوت، وإنما هو شيء في الذات معنىً قائم بالله تعالى فكيف يتحدى به وأين الوصول إليه وكيف يعلم حتى يؤتى بمثله.
فعندما يتحدى الله عز وجل أن يأتوا بمثله فهو شيء موجود بين أيدينا يقول: هذا هو القرآن اقرؤه وأتوا بمثله ولن تأتوا أبداً! أما إذا كان التحدي بالمعنى القائم في الذات، فأين الوصول إليه؟ وذاته بالاتفاق لا يمكن لأحد أن يعلمها، أو يسمعها، أو يحيط بها، فشيء لا سمعناه ولا عرفناه ولا ندركه كيف نُتَحدى أن نأتي بمثله، فهذا دليل على أن الكلام والقرآن إذا أُطلق وتُحديَّ به، هو ما في هذا المصحف، فهو كلامه عز وجل حقيقة لا عبارة ولا حكاية ولا مجاز ولا شيء من هذه الضلالات، فإن قالوا: لا، نحن نقصد أن التحدي جاء بهذا الذي هو عبارة أو حكاية عن الكلام المعنى القائم بالنفس، فيقول المصنف: إذا قالوا ذلك فإن هذا اعتراف بأن القرآن مخلوق.
ومن ناحية أخرى: أن قولكم في هذا أشد من قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن خلقه الله كأي خلق من الخلق، أما أنتم فتقولون: إن الله عز وجل له صفة قائمة بذاته هي الكلام، وهذا القرآن تعبير أوحكاية أو مجاز عنه، فأنتم تقولون: إن من صفات الله عز وجل ما يحكى أو يتشبه به كما يقول المصنف: إن حكاية الشيء تكون بمثله أو بشبهه، فمن هذا الذي يحاكي كلام الله؟! فسواءً قالوا جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم حاكى كلام الله بكلام مثله أو بشيء يشبه.
فإذاً لا داعي للتحدي لأن جبريل، أو محمداً صلى الله عليه وسلم هو من المخلوقات، وقد حاكى الصفة التي يقولون إنها قديمة وهي في ذات الله وهذا مما يتناقضون به ويكذب ويبطل دعواهم لأن صفات الله عز وجل ليس فيها ما يمكن أن يحاكى أبداً.
الشيء الآخر: أن الكلام الذي يثبته هؤلاء المؤولة فيقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى، ليس بحرف ولا صوت؛ أليس هذا القرآن الذي بين أيدينا المقروء المحفوظ المتلو حروفاً وأصواتاً؟
وهذا تناقض؛ لأنكم شبهتم الشيء الذي ليس بحرق ولا صوت، بأنه حُكي وعُبِّرَ عنه بشيء هو حرف وصوت، وهذا تناقض ودليل ملزم لهم، فالقرآن إذا أُطلق إنما هو هذه الآيات المحفوظة والمتلوة والمسموعة كما جاء في هذه الآيات التي ذكرها المصنف رحمه الله حيث استدل على الحرف بالحديث الذي أخرجه الترمذي وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) فهذا القرآن حروف وأصوت وقد سبق، وأن ذكرنا الدليل عليه في الحديث الصحيح:(إن الله عز وجل يتكلم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) .
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في المنار إن القرآن اسم للنظم والمعنى.
وكذا قال غيره من أهل الأصول وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية، وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى أو زنديقاً فيقتل، لأن الله تكلم به بهذه اللغة والإعجاز حصل بنظمه ومعناه] اهـ.
الشرح:
يستدل المصنف هنا على أصحاب أتباع مذهب الحنفية بكلام أحد أئمتهم المشهورين وهو حافظ الدين النسفي رحمه الله واسمه: عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي أبو البركات رحمه الله الذي توفي سنة 710هـ وله من المؤلفات التفسير المعروف بتفسير النسفي الذي سماه مدارك التنزيل وله كتاب المنار في أصول الفقه وهذا الذي نقل منه المصنف هذا الكلام وله في العقيدة كتاب عمدة العقائد أيضاً، كما هو مترجم له في كتاب الأعلام للزركلي (4/67) ، وهناك توجد المصادر التي نقل، منها كُتب طبقات الحنفية.
الحافظ النسفي يقول في المنار: إن القرآن اسم للنظم والمعنى، فهو يردُّ هنا على أصحابه القائلين بالكلام النفسي، وقال:[وما يُنسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: من قرأ في صلاته بالفارسية أجزأه] إذا قرأ بمعنى القرآن بلغة غير العربية فإن ذلك يجزئه في صلاته، فالإمام أبو حنيفة رجع عن هذا القول كما يقول الإمام المصنف ابن أبي العز وهو من أئمة المذهب، وهو يعلم المذهب ويعلم الأقوال فيه، وقد يسلم الإنسان في هذه اللحظة، وهو لا يجيد اللغة العربية، فلا نلزمه أن يصلي باللغة العربية، وهو إلى الآن لم يتعلمها، ولكن ينبغي أن يتعلمها في أسرع ما يمكن.
ثم قال الأئمة الحنفية: ما حكم من قرأ بغير العربية؟
قالوا: إما أن يكون مجنوناً فيداوى -يُعالج حتى يشفى- أو زنديقاً فيُقتل -إنسان ساخر هازل زنديق فهذا يقتل- لأنه قرأ بغير اللغة العربية، قال: لأن الله تكلم بالقرآن، وأنزله بهذه اللغة بلسان عربي مبين كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [الزخرف:3] والإعجاز حصل بلفظه ومعناه، فإذا غير إلى لغة أخرى فإن ذلك إبطال للإعجاز والتحدي فهؤلاء الأئمة في الفقه لم يفرقوا بين اللفظ والمعنى، فيقولون: إن المعنى قائم بالنفس، وأن اللفظ مخلوق أو مصنوع أو عبارة وحكاية عنه.
فهذا مما يَستدِلُ به المصنف رحمه الله على الماتريدية وقد نبهنا لماذا نقول ذلك؛ لأن العقيدة الطحاوية شرحها ماتريديون ينتسبون إلى نفس المذهب الحنفي لكنهم على مذهب أبي منصور الماتريدي فأولوها وحرفوها كما أولوا كلام الله، فهو هنا يَردُّ عليهم: أن هذا الذي قاله أبو جعفر الطحاوي هو الصحيح وهو الذي عليه الإمام أبو حنيفة وهو الذي عليه النسفي وهو الذي عليه نفسه رحمه الله، وكل علماء المذهب الحقيقين هم على هذا المذهب وعلى هذا القول الصواب الذي كان عليه السلف في مسمى الكلام وفي مسمى القول.
[قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: [وقوله: [ومن سمعه وقال إنه كلام البشر فقد كفر] لا شك في تكفير من أنكر أن القُرْآن كلام الله؛ بل قَالَ: إنه كلام مُحَمَّد أو غيره من الخلق، ملكاً كَانَ أو بشراً.
وأما إذا أقر أنه كلام الله ثُمَّ أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ:[ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.
الشرح:-
كلام المُصنِّفُ هنا عَلَى من قَالَ: إن القُرْآن من كلام البشر، وقائلُ هذا الكلام عَلَى أحدِ أمرين: إما أن يكونَ مُرادُه أنَّ هذا القُرْآن لم ينزل من عند الله تبارك وتعالى وإنما افتراه بشر، كما قاله المُشْرِكُونَ للنبي صلى الله عليه وسلم: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [يونس:38] وَقَالُوا: إنما يعلمه بعض الأعجميين، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5] إِلَى آخر ما قاله المُشْرِكُونَ الجاحدون.
والقصد أن من جحد أن الله عز وجل أنزل القرآن، وأنزل الذكر الحكيم، وأن هذا القُرْآن الذي بين أيدينا من كلام غير الله ابتداءً وتبليغاً، فقد أتى بالكفر الصُرَاحِ الذي لا شك فيه، وبهذا نزلت الآيات ونطقت السنّة، ولا خلاف في ذلك بين الْمُسْلِمِينَ جميعاً. أهل السنة أو المعتزلة أو الأشاعرة أو غيرهم.
وإما أن يكون مُرادُه: أنَّ القُرْآن ليس كلام الله عَلَى التأويل الذي مر معنا: تأويل المعتزلة أو تأويل الأشعرية، فيقولون: هو حكايةٌ عن كلام الله، أو عبارةٌ عن كلام الله، أو بعبارة أخرى هو كلام الله بالمعنى، لكن النظم نظم جبريل أو نظم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك وهَؤُلاءِ هم المؤولة.
وهنا قاعدة: وهي أن كل من ردَّ شيئاً من الدين، أو ما ثبت في السنة الصحيحة، أو رد شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، أو أمراً معلوماً من الدين بالضرورة عَلَى سبيل الجحود والنكران، فهذا كافر خارج عن الملة.
وأما من رده عَلَى سبيل التأويل، أو لديه اجتهادات خاطئة أوقعته في هذه البدعة وهذا الضلال والانحراف، دون أن يكون قصدُه في نفسه مُعَاندَةُ شرعِ الله أو جحوده؛ فهذا في الجملة لا يَكفر، وإنما يكون مبتدعاً ضالاً منحرفاً، ثُمَّ بعد ذلك تختلف المقالات ويختلف الأفراد فيما بينهم وبين الله عز وجل، فقد يكون منهم من هو كافر في الحقيقة أو زنديق، ولكن يتلبس بأنه لم يجحد ولم ينكر، فالذين يتأولون -كما هو حال الذين قالوا: إن القُرْآن ليس كلام الله بل هو حكاية أو عبارة أو مجاز ونحو ذلك- لا يخرجون من الملة ولا يكفرون كفراً ينقلهم من الإسلام إِلَى الكفر وإنما هم أهل ضلال وابتداع وانحراف، وتفصيل الكلام في هذه المسألة -مسألة متى يكفر المؤولون ومتى لا يكفرون؟ وهل أصحاب البدع يكَّفرون بإطلاق؟ - يأتي إن شاء الله في آخر هذه العقيدة عند قوله:[ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] ، وإنما المراد هنا ما يتعلق بقضية الكلام فقط.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وقوله: ولا يُشبه قول البشر، يعني أنه أشرف وأفصح وأصدق قال تعالى: وَمَنْ أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] .، وقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88] .
وقال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه [هود:13] وقال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] فلما عجزوا -وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة- عن الإتيان بسورة مثله تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من عند الله، وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج، بلسان عربي مبين، أي: باللغة العربية، فنفي المشابهة من حيث التكلم، ومن حيث التكلم به، ومن حيث النظم والمعنى، لا من حيث الكلمات والحروف، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي: أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن؟ كما في قوله تعالى: آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [آل عمران:1-3] الآية آلمص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْك [الأعراف:1-2] الآية الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس:1] .
وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه؛ بل خاطبكم بلسانكم، ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبريل منه. كما يتذرعون بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] إلى نفي الصفات، وفي الآية ما يَردُّ عليهم قولهم، وهو قوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . كما في قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه [يونس:38] ما يرد على من ينفي الحرف فإنه قال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ ولم يقل: (فأتوا بحرف أو بكلمة) وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: (إن أدنى مايجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة؛ لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك والله أعلم] اهـ.
الشرح:
هذا الموضوع تابع لما سبق في مناقشة الماتريدية والأشعرية فيما يتعلق بنفيهم الحرف والصوت من كلام الله عز وجل، وإثباتهم كلاماً نفسياً معنوياً، والعلاقة بين هذا الكلام وذاك أنهم يقولون: إن هذا القرآن المقروء النظم -يعني: الحروف وهذه المنظومة المقروءة التي يقرأها القارئون، ويسمعها السامعون، ويحفظها الحافظون- ليس هو: كلام الله؛ لأن هذه حروف وأصوات والحروف والأصوات من جنس كلام الناس، فالناس يتكلمون بحروف وبأصوات وعليه، فالقرآن الذي تُحدي به أو القرآن الذي هو حقيقة كلام الله هو المعنى الذي في نفس الله سبحانه وتعالى، وليس هذا هو القرآن.
ومن هنا كان لا بد أن نتعرض لموضوع التحدي بالقرآن ومعنى الإعجاز بالقرآن وما هي المذاهب فيه فنقول: إن الله سبحانه وتعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (ما من نبي بعثه الله تبارك وتعالى إلا آتاه ما يؤمن الناس على مثله) فقد أعطاه بينة يؤمن الناس بها، (وإنما كان الذي أوتيته وحياً) وهو هذا القرآن، ولذلك قال:(فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) وهو كذلك؛ فإن هذه الأمة هي أكثر الأمم، فهي أكثر من نصف أهل الجنة؛ لأن هذا وحي مقروء يقرأ في كل زمان وفي كل مكان، فآياته وبراهينه ودلالاته متنوعة متعددة.
وإذا بحث الإنسان في علوم اللغة فإنه لا يجد أبلغ من القرآن، فيتراجع ويعجز ويتقهقر أمام هذه البلاغة العظيمة، والإنسان الذي يبحث في العلوم الكونية ينبهر ويذهل لما يجد في هذا القرآن مما لا يستطيع أن يُقال وأن يتصور إلا عن طريق هذا الوحي، والإنسان الذي يبحث في التاريخ يجد في هذا القرآن من أخبار الأمم الماضية ومن أحوالها العجب العجاب، الذي لم يأت به المؤرخون فضلاً عن رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يجالس مؤرخاً ولا غير مؤرخ، ثم يحدث عن ثمود وعاد بل عن آدم عليه السلام؛ بل عما هو أقدم من ذلك من نشأة هذا العالم وكيف نشأ؟ وكيف وجد؟ ألا يدل هذا على أن هذا القرآن وحي من السماء؟! أليس ذلك عن طريق الوحي؟ فكيف عرفنا العرش وكيف عرفنا ابتداء خلق السماوات والأرض وليس في إمكان العقول التي تتحدث عن التاريخ أن تبحث أوتتكلم عن مثل هذه الأمور على الإطلاق.
ثم تأتي الأخبار الغيبية المستقبلية في القرآن الكريم فتحصل بعضها وتتحقق وبعضها لم يأذن الله بحصولها، ومما حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:1-3] فكان مما أخبر به القرآن أنهم يفتحون مكة ويدخلونها وحصل ذلك، وأخبر أن الله سيظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره الكافرون، وغير ذلك مما قد حصل ووقع.
ومن هذه الأخبار الغيبة المستقبلية، ما أخبر به عن أمور تقع بين يدي الساعة ولما تقع بعد، كخروج الدابة، وظهور الدجال.
والدجال وإن لم يذكر في القرآن صريحاً ولكنه ذكر تلميحاً كما في قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:158] وأشباه ذلك، ومن أعظم آيات الله التي تأتي آخر الزمان الدجال وطلوع الشمس من مغربها.
وهنا أمر نحب أن ننبه إليه وهو أنه كان في الجاهلية قلوب فطرها سليمة نقية رفضت عبادة الأوثان ورفضت الانغماس في أعياد الجاهلية، واختلاط الجاهلية وإباحيتها، فساحوا في الدنيا يبحثون عن دين يريدون شيئاً يتعبدون الله به في قلوبهم لأن كل ما على هذه الأرض من أديان فهو باطل، ومن هؤلاء: ورقة بن نوفل، وأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل، وسلمان الفارسي الذي بحث عن الأديان في بلاد فارس، والعراق، وأطراف الشام فهؤلاء أناس يريدون أن يعبدوا الله عز وجل.
ونجد اليوم في الغرب حيارى كثير من هذا النوع، فإذا وجدوا القرآن سلموا له واطمأنت قلوبهم به، فيعتقدونه غاية الاعتقاد وغاية الصدق واليقين، ويقرون أن هذا من عند الله، لِمَا يرون من بيان القرآن وإعجازه وإحكامه حتى ما يتعلق بالشرائع والأحكام التي فيه، فإن من نظر إلى أي مُشَّرعٍ أو مقننٍ أو باحثٍ في أحوال الناس وشرائعهم قبل الإسلام أو في أيام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ورأى حال الروم وحال الفرس وحال العالم وما فيهم من الظلم والإجحاف والقوانين الجائرة والأحكام الطاغوتية، ثم نظر إلى هذه الشريعة العادلة السمحة، وما جاءت به من حدود ومن تعزير ومن أحكام مفصلة، سيرى العجب العجاب ويرى ما يذهل عقله ولبه.
فمْنِ أي زاوية نظرت إلى القرآن فهو معجز أو مُتَحدىً به أن يأتي الناس بمثله، فليس الأمر مقصوراً على جانب من الجوانب، لكن لما ظهر أصحاب الكلام وظهرت الفرق وأخذوا يتكلمون عن إثبات القرآن وإثبات النبوة والمعجزة عن طريق العقل والرأي، وكيف نستدل على أن هذا نبي؟ وكيف نعرف أن هذا هو قرآن حقاً؟ عندئذ أخذوا يخوضون بعقولهم وبآرائهم، ودخل من هذا الباب أهل الضلال والبدع وأهل الزندقة الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر والعياذ بالله.
وقد انقسم النَّاس فيما يتعلق بهذا القُرْآن وبالتحدي به إِلَى ثلاثة طوائف رئيسية:
أهل السنة والجماعة
وهم كما هو معلوم دائماً عَلَى ما جَاءَ في الكتاب والسنة، فيقولون: إن كتاب الله عز وجل مُتَحدىً به ومعجز، ومُفحم للخلق بلفظه وبمعناه، وأنه معجز في أحكامه، وفي إخباره بالمغيبات أو بالمستقبليات، وفي ما جَاءَ به من الحلال والحرام، والأمر والنهي، وفي قصصه، وفي نظمه، وفي بيانه، وفي كل أمر من أموره ولا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، وهذا الأمر واضح.
لكن المُختلف فيه هو في مقدار الجزء المتحدى به من القرآن؟ فبعضهم أخذ يدقق في ذلك ويقول: هل السورة، أو هي أقل من السورة، وما القدر الذي يمكن من السورة؟ والذي يظهر -كما في القرآن- أن أقل ذلك سورة من سور القُرْآن وإن كانت أصغر سورة، يعني: لو أن الإنس والجن اجتمعوا عَلَى أن يأتوا بمثل سورة: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] مثلاً لما استطاعوا أن يأتو بمثله ولما استطاعوا أن يأتوا بمثل سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ولا المعوذتين ولا ما أشبهها؛ لأن فيها من البيانات ومن المعاني ومن العبر والعظات والهداية والنور ما يعجز البشر عن إدراكه، ولا يمكن أن يأتوا به رغم وجازتها، هذا موجز مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
المعتزلة
بعضالمعتزلة ولا سيما إبراهيم النظَّام يقول النظّام: إن المتحدى به في القُرْآن ليس هو الألفاظ وليس هو اللغة والبيان، وإنما هو المعاني، يعني: الإخبار بالمغيبات الماضية والمستقبلية التي يعجز النَّاس عن إدراكها أو عن معرفتها، أما النظم نفسه والبيان فمن الممكن لأي شاعر أو ناثر أن يأتي بعبارات مثل القُرْآن والعياذ بالله، هذا كلام إبراهيم النظَّام ولمَّا سُئل هل حصل ذلك من العرب؟ ولماذا لم يحصل؟
قَالَ: لمْ يحصل من العرب.
قيل له: لِمَ لمْ يحصل؟
قَالَ: لأن الله عز وجل هو الذي صرفهم، فهو أمر كوني لا يمكن أن يفعلوه، فالله عز وجل صرفهم رغماً عن أنوفهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وإلا فمن الممكن أن يأتوا بمثله وأن يركبوا كلاماً مثله والعياذ بالله، ولم يوافقه عَلَى هذا القول أحد منأهل السنة المعتبرين إلا أبو مُحَمَّد ابن حزم فقد وافق النظّام عَلَى أن الذي منع النَّاس من الإتيان بمثل هذا القُرْآن هو أن الله تَعَالَى صرفهم عنه، فهم لو حاولوا لما استطاعوا، والردُّ عَلَى ذلك واضح، فيُقَالَ:
أولاً: مخالفته للإجماع، ولِمَا كَانَ عليه السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
وثانياً: أن الله تبارك وتعالى قَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] قالوا: قوله: ولن تفعلوا معناه: لن تستطيعوا، بمعنى أنكم لن تفكروا ولن تحاولوا، أي: قدراً وقضاء، فأنتم مصروفون عن ذلك، وإلا لو حاولتم ولو كَانَ لكم الإرادة والخيار لاستطعتم، لكن في الحقيقة أن قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا إخبار بالواقع، وليس أمراً كونياً قدرياً، يعني: حقيقة لن تفعلوا ذلك، فلتحاولوا إن شئتم ولستم مصروفين عن المحاولة، لكن لن تفعلوا ولن تستطيعوا أن تأتوا بمثله.
ولهذا جاءت الحروف المقطعة في أوائل السور، ثُمَّ يأتي بعد هذه الحروف وصف القُرْآن الكريم كقوله: آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] وقوله: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:1-2] وقوله: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:1-2] وقوله: (آلمص) ، (ق) ، (حم * عسق) إِلَى آخره أكثر السور التي في أوائلها الحروف المقطعة يأتي بعدها ذكر القُرْآن ووصفه، أو القسم بالقرآن، أو ما يدل عَلَى أن المراد هو القرآن.
ومعنى ذلك: أنكم أيها العرب! تتكلمون باللغة العربية وتتعاظمون وتتفاصحون بها وبلغ من تعظيم العرب للبلاغة والبيان أنهم كتبوا المعلقات العشر أو السبع، وعلقوها في الكعبة، وهي أعظم ما يفتخر بها العرب وذلك لما تحمله من بلاغة وبيان، وكانت العرب تفتخر وتفاخر بالفصاحة والبلاغة والبيان حتى أنهم يسمون كل من ليس عربياً أعجمياً، فمهما كَانَ عند الروم وعند الفرس من الحضارات، فإن العرب يسمون الدابة عجماء، ويسمون الذي لا يتكلم العربية أعجمياً يعني: كأنه كالدابة التي لا تتكلم بشيء فلا يعترفون ولا يعدون أي بيان إلا البيان العربي فقط.
فالشاهد أن العرب كانوا يتحدون بذلك، ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ أفصحهم بياناً لأنه من قريش، ولأن الله سبحانه وتعالى أعطاه الفصاحة والبيان وأعطاه جوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم من قبل أن يوحى إليه من أوسط العرب وأعلاهم في الفصاحة والبيان، فأتاه هذا الكلام الذي يختلف عن كلامه هو، رغم أن كلامه صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات البيان البشري، لكن أتاهم بكلام هو أعظم وأعلى من كلامه الذي يخاطبهم به في العادة ويقول: إن هذا من عند الله ويتحداهم أن يأتوا بمثله وليس ذلك التحدي لقريش أو للعرب فقط بل للإنس والجن قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآن آنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] ثُمَّ جَاءَ التحدي بعشر سور مفتريات كما يزعمون.
ثُمَّ جَاءَ التحدي في سورة يونس وفي سورة البقرة بسورة واحدة فقط ولو كانت مثل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثلها، رغم أنهم فكروا: ماذا نقول في هذا القرآن؟ شعر، أو سحر؟ كما فعل الوليد الذي فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثُمَّ قتل كيف قدر، ففكروا في ذلك، ولكنهم لم يجدوا إلا أن يقولوا: إنه كلام الله عز وجل، وليس مجرد أنهم صُرِفوا عنه كما يقول النظَّام.
ونوضح هذا بمثال من كلام المعتزلة على الصرفة، يقولون: إن النَّاس يمشون ويحركون أيديهم وأرجلهم -قاسوا الكلام عَلَى الحركات- فافترضوا افتراضاً لو أن نبياً من الأَنْبِيَاء جَاءَ فقَالَ: أنا نبي فإذا قال الناس: ما آية نبوتك؟ قال علامة نبوتي أنه لن يستطيع أحد منكم أن يمد يده أو يحرك رجله، قالوا: بمجرد أن يقول النبي ذلك سوف تتوقف جميع حركات الأمة التي يدعيها هذا النبي؛ لأن الله عز وجل لما أعطاه هذه الآية فإنه سيمنع أُولَئِكَ عن الحركة رأساً! هذه الشبهة وهذا الخيال افترضوه في عقولهم وقاسوا عليه كتاب الله وكلام الله عز وجل.
مذهب الأشعرية والماتريدية
الأشعرية والماتريدية يقولون: إن النظم أو الحروف المقروءة والمتلوة والمسموعة هذه ليست مُتحدىً بها ولانقول كما يقوله النظَّام وابن حزم من أن البشر مصروفون عنه، ولكن نقول: إن تعبير جبريل أو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أو من عبر عنه كَانَ بإلهام من الله فلا يستطيع أحد أن يأتي به، فالإعجاز إذاً منحصر عَلَى الحقيقة في المعاني وفيما يتضمنه من الإخبار بالمغيبات والأحكام التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها.
هذا موجز لكلام النَّاس واختلافهم في التحدي وفي الإعجاز بالقرآن، -والمقصود وهو محل الشاهد- من هذا هو قوله:[فنفي المشابهة من حيث التكلم، ومن حيث التكلم به، ومن حيث النظم والمعنى، لا من حيث الكلمات والحروف] يعني: الكلمات والحروف التي في القُرْآن موجودة عند العرب، إنما المتحدى به أن يركب مثل هذا الكلام لفظاً ومعنىً وهذا واضح لكل من تدبر ذلك.
والأحرف المقطعة في أول السور مسألة فيها خلاف، فمن المفسرين من يقول: إن هذا مما استأثر الله تبارك وتعالى بعلمه، ومنهم من يقول: إنها رموز أو أسماء لما لا نعلم، ومنهم من يقول كما هو القول الراجح الذي اختاره أكثر العلماء المحققين، وهو الذي ذكره المُصْنِّف هنا: إن المراد من هذه الحروف هو تحدي العرب وبيان أن القُرْآن من جنس كلامكم، وأن حروفه من جنس حروفكم ومن جنس لغتكم، فهو نزل بلسان عربي مبين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] ، ولكنكم مع ذلك لن تستطيعوا أن تأتوا بمثله، هذا إضافة إِلَى أن هناك فائدة أخرى في أن القُرْآن يبتدئ بهذه الحروف: وهي أن العرب لم يعهدوا ولم يسمعوا عن استخدام هذه الحروف بهذا الشكل، فإذا بدأ الإِنسَان يتكلم وابتدأ كلامه بشيء غريب غير معهود فإنه يشد الذهن أكثر، فالعرب لم تتعود أن تسمع إلا المعلقات والأشعار، والأشعار تبدأ عادة بالغزل وتنتهي بالموضوع الذي يريدون، وكذلك النثر والخطابة.
فالعرب ما تعودوا أن يسمعوا (آلم)، فعندما يسمعون هذه الحروف فإنها تشد الذهن وتنبهه ثُمَّ يقول بعد ذلك ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] أو حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أو حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:1-2] وإتيان القُرْآن بهذا الشكل فيه زيادة في النكاية بهم وإرغام لهم عَلَى الإقرار والخضوع والاعتراف بالعجز، والقصور عن أن يأتوا بمثل هذا القُرْآن فهذا هو المراد هنا، لكن كما ذكر رحمه الله أن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بما ورد في المعجزة أو في التحدي لنفي الحرف والصوت -وخاصة الحرف- كما يتذرعون بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لنفي الصفات أو التأويل.
وأما أقصر سورة في القرآن فخي ثلاث آيات، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن:"إن أدنى ما يجزى في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك" وهذا مذهب الحنفية، إن كَانَ المراد عندهم أن القُرْآن يجزء منه آية أو سورة قصيرة عن الفاتحة، فهذا القول غير صحيح، وإن كَانَ المؤلف هنا لا يقصد الحكم الفقهي، وإنما يريد الاستشهاد به عَلَى العقيدة، فإن أبا حنيفة ينسب إليه أنه قَالَ:"لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة بل يكفي أي شيء من القرآن" بدليل قوله تعالى: فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] .
فهذا المذهب مرجوح لما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقوله: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القُرْآن فهي خداج) ، وإن كَانَ المقصود أنه بعد الفاتحة لا يجزئ إلا سورة قصيرة أو آية طويلة ليقع بها الإعجاز، فعدم الإجزاء هنا لا يعني الوجوب حتى عند الحنفية، بمعنى أن قراءة شيء من القُرْآن في الصلاة بعد الفاتحة ليس واجباً لا عند الحنفية ولا عند غيرهم.
قال الطحاوي رحمه الله:
[ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة، منه بدا، نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر نفياً للتشبيه عقيب الإثبات، يعني: أنه تعالى وإن وصف بأنه متكلم لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلماً، فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين، يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، والمعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً.
وسيأتي في كلام الشيخ: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلَّ ولم يصب التنزيه] وكذا قوله: [وهو بين التشبيه والتعطيل] أي: دين الإسلام، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه، لِمَا سأذكره إن شاء الله تعالى، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً بل صفات الخالق كما يليق به وصفات المخلوق كما يليق به وقوله:[فمن أبصر هذا اعتبر] أي: من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف، ونفي التشبيه، ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار] اهـ.
الشرح:
اختتم المصنف رحمه الله بما يتعلق بموضوع القرآن عند ما قال الإمام الطحاوي: [ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر] فهذا زيادة في الإيضاح.
وفي نفي المماثلة في القرآن أو في غيره قال: [ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر] حتى لا يظن أن أهل السنة والجماعة يشبهون الله عز وجل بخلقه عندما يقولون: إنه تعالى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، فهم يثبتون من غير تشبيه، وينفون من غير تعطيل.
وضرب على ذلك هذا المثل الذي ذكره الله تبارك وتعالى في سورة النحل عن اللبن أنه مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ [النحل: 66] فيكون أهل السنة والجماعة مثل اللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، فشبه التعطيل بالفرث، وشبه التشبيه بالدم، فأهل السنة والجماعة لا يشبِّهون، كما يفعل الذين يقولون له: يد كيدنا، أو يقولون إن الله هو عيسى -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- أو يقولون: إنه علي بن أبي طالب أو نحو ذلك أو يصفونه بصفة من صفات المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهم أيضاً: لا ينفون صفات ذات الله عز وجل كما يقول الجهمية والمعتزلة والأشعرية الذين ينفون الصفات جميعاً فراراً من التشبيه فيقولون: نحن نفر من التشبيه فلا نصفه بأي شيء، وهذا هو حقيقة التعطيل، لأن التعطيل هو نفي الصفات وجحودها، فالتعطيل كما قال أحد العلماء في مناقشته لهم: لو وصف أحد العدم بمثل قول نفاة الصفات: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولاتحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله، لما كان هناك أبلغ من هذا، فكيف يجعلونه عز وجل هكذا.
وأما المشبه فهو عابد صنم، كما أخبرنا القرآن عن قوم إبراهيم عليه السلام أنهم كانوا يعبدون أصناماً ينحتونها بأيديهم، فينحت الحجر، ويجعل له يداً ورجلاً وعيناً، ثم يعبده ويقول: هذا هو الإله، وكما فعل السامري لما صنع العجل وبنو إسرائيل تسمع خوار العجل، ويرونه أمامهم عجلاً من الذهب ويقول السامري لهم: هذا إلهكم وإله موسى، ويقولون: صدقت، ويتبعونه ويعبدون العجل، فعبد هؤلاء الأشياء المادية الضئيلة وهي محدودة ومشاهدة وملموسه، فالذين يقولون: إن يده سبحانه وتعالى كيد المخلوقين أو كلامه ككلام الخلوقين أو وجهه كوجه المخلوقين أو يقولون: إنه عيسى أو علي أو ما أشبه ذلك، مثلهم كمثل هؤلاء عباد الأصنام عبدوا شيئاً مجسداً مادياً محسوساً يراه الناس ويمكن لهم أن يفعلوا به ما شاءوا.
كما فعل إبراهيم عليه السلام لما جعلهم جذاذاً إلا كبيرهم، وكما فعل موسى عليه السلام لما حَّرق العجل ونسفه في اليم نسفاً، فمن قال: إنه سبحانه وتعالى على هذه الصفات فقد شبه الله سبحانه وتعالى بخلقه فهو عابد صنم، ومن نفى عن الله تعالى صفاته فهو عابد عدم، وبلغ الأمر بالباطنية أنهم قالوا: إن لفظ الوجود لا يطلق على الله عز وجل، فلا يقولون: موجود ولا غير موجود والعياذ بالله.
إذاً: لا نصفه بأي وصف على الإطلاق، إذاً هذا هو العدم بل العدم يمكن أن يعرف فيُقال: العدم غير موجود، وهذا دليل على أن الناس ضلوا في هذا الطريق على طرفي نقيض، فرث التعطيل، ودم التشبيه، ووفق الله عز وجل أهل السنة والجماعة إلى إثبات بلا تشبيه، وإلى تنزيه ونفي بلا تعطيل كما قال جل شأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هذا نفي وتنزيه وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إثبات لله سبحانه وتعالى وإثبات صفاته تبارك وتعالى.
قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] ، وتفسيره عَلَى ما أراد الله تَعَالَى وعلمه، وكل ما جَاءَ في ذلك من الحديث الصحيح عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه عَلَى ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إِلَى عالمه] اهـ
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[المُخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين ، وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إِلَى السنة والجماعة، وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون وعن بابه مطرودون] اهـ.
الشرح:-
إن مسألة رؤية الله تَعَالَى في الجنة من أشرف مسائل أصول الدين ومن أعظمها، ولم تكن عند الصدر الأول ولا عند السلف موضع جدال ولا خلاف وكان اهتمامهم بموضوع الرؤية هو اهتمامهم بالجد في طاعة الله عز وجل والاجتهاد في عبادته والتقرب إليه، ليحظوا بهذه المنزلة وبهذه الدرجة العظيمة، وهذا النعيم الذي لا يعادله نعيم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فإن رؤية وجه الله تبارك وتعالى أعظم من كل نعيم لأهل الجنة، وهو الذي اشتاق إليه السلف الصالح الذين عبدوا الله سبحانه وتعالى، وزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة وتتطلعوا إِلَى ما عند الله وإلى رضوانه وإلى رؤية وجه الله سبحانه وتعالى، وكان هذا من أعظم ما خفف عنهم أعباء الحياة، وأعباء الدعوة إِلَى الله عز وجل، وتكاليف الجهاد والمشقات والأذى والعنت، الذي لقيه هَؤُلاءِ من الْمُشْرِكِينَ ومن المضلين والمبتدعين، فكان هذا هو أعظم غاية يسعون إليها، فلم يخطر ببال أحدهم أن ينكر ذلك أيُّ إنسانٍ، ولكن لمَّا ظهرت البدع وفتنت هذه الأمة بالتفرق، ولما ألبسها الله تبارك وتعالى شيعاً، وأذاق بعضها بأس بعض عقوبةً عَلَى ما وقع منهم من ركونٍ إِلَى الدنيا، ومن تفريطٍ في بعض الحق الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، حينئذٍ تشعبت الآراء والأهواء حتى خاضوا في هذا الأمر.
الزائغون في هذا الطريق
هناك طائفة لم يذكرها المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ويجدر بنا أن نذكرها قبل أن نخوض في موضوع أهل الكلام.
هذه الطائفة هي زنادقة الصوفية، الأولون الذين نشأوا وخرجوا في الوقت الذي خرج ونشأ فيه المعتزلة،، فمثلاً: رابعة العدوية كانت في نفس الفترة التي كَانَ فيها واصل بن عطاء فقد كَانَ واصل بن عطاء يؤسس بدعة الكلام وبدعة الاعتزال ونفي الصفات ونفي رؤية الله عز وجل.
وكانت رابعة وأمثالها في الطرف الآخر يقولون: إن الله تَعَالَى يُعْبَد بالحب؟! ماذا يريدون من ذلك؟ يقولون: نريد أن نعبده لكي نتمتع برؤية وجهه فقط!! هذا الذي نريده، ولا نريد جنة ولا نخاف من ناراً، ولا نخاف من حساب ولا من عقاب ولا نرجو جزاءً ولا ثواباً.
إنما الهدف محصور في أنهم يريدون أن يروه في الدنيا أو في الآخرة!!
وأصل هذه الفكرة من مذاهب ودين البوذيين والهندوس الذين يرى دينهم أن الإِنسَان أنزل إِلَى هذه الدنيا ليكابد العناء والمشقات والعبادات لكي يصفي وينقي روحه فترتقي من الجسد وتلتصق وتلتحق بالروح الأعظم الروح الكلي -الذي هو الله- عندهم وتصبح جزءاً من ذاته وتتحد به والعياذ بالله، فلذا كانت عبادة الرهبان الهندوس مثل الصيام الطويل، وتعذيب الجسد، والهيام في الغابات، والانقطاع في الخلوات والإكثار من الأذكار والعبادات التي ابتدعوها ولم يشرعها الله سبحانه وتعالى، كل ذلك من أجل أن يسلموا من التناسخ المستمر، ومعنى التناسخ عندهم: أن نفس الإِنسَان إذا ارتكبت ذنباً وأتاها الأجل وهي مرتكبة للذنوب تخلق في زمن بعيد آخر في شكل حيوان، وتعاقب وتتصفى حتى تكون مؤهلة لئن تتحد بالبراهما الذي يسمونه الله، يسمون البراهما "الإله الكلي" التي تلتحق به هذه النفوس.
وهَؤُلاءِ الصوفية، يقولون:نحن نعذب الجسد في هذه الحياة فنكتفي بدورة واحدة فقط ولا نأخذ دورات من التناسخ، ونلتحق بهذا الرب فهذا مذهبهم وانتقلوا إِلَى بلاد الإسلام من الهند، لِمَا في الإسلام من الروحانية والشفافية وطهارة القلب وتزكية النفس ودخلوا من هذا المدخل، والإسلام فيه الحب والذل والخضوع والخوف والرجاء لله تَعَالَى وهذا صحيح بلا شك ولكنهم لم ينظروا إلا إِلَى جانب المحبة فقط، فَقَالُوا: نأخذ هذا الجانب ونتستر ونتلبس به وننتسب إِلَى دين الإسلام ثُمَّ نضيف في هذا الدين ما نشاء، فالذي يريد أن تتحد هذه الروح ببراهما فليسلك طريق النصرانية أو البوذية أواليهود بأي طريق.
ولهذا فالدين الهندوسي والبوذي ليس له عبادات محددة لكن المهم أن يعذب الإِنسَان نفسه بأي شكل، وهذا هو الذي ورثه الصوفية، وكل طريقة لها أذكار ولها خلوات ولها تعبدات خاصة بها، وهكذا كل أحد يمشي في المسلك والمنهج الذي يريده من التعبد، فلم يلتزموا بما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم من العبادة والتقرب، بمعنى: أننا لا نفترض أنهم لا بد أن ينكروا ما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقولوا: إن هذا ليس هو الطريق الصحيح، لا؛ بل منهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبُو بَكْرٍ وعُمَر والصحابة جميعاً سلكوا طريقاً في التعبد يوصل إِلَى الله عز وجل، لكننا لسنا ملزمين في أن نتبع نفس الطريق فلنا أن نتخذ طريقاً آخر وغيرنا له أن يتخذ طريق آخر وهكذا.
ويمكن لأي إنسان أن ينتهج أي طريق لكن المهم هو أن يكون القلب متعلقاً بالله، ويكون هدفه محبة الله عز وجل ولا يفكر في جنة ولا في نار ولا في حساب ولا ثواب، كما يزعمون! المهم أنه يرى الله حتى قال قائلهم: لو أدخلني النَّار وهو راضٍ عني، أو أدخلني النَّار وأراني وجهه لم أبالِ بحرها، فليدخلني النَّار أو ليضعني أينما شاء -والعياذ بالله- من ذلك، فجعلوا رؤية الله محوراً أو ستاراً لبث الضلالات والكفر بين الْمُسْلِمِينَ وإدخال دين الهندوس والبوذيين بين هذه الأمة.
ثُمَّ قالوا: إن من يعبد الله سبحانه وتعالى قاصداً بذلك الجنة أو النَّار فهذا مجرد تاجر يبيع ويشتري، هذا لا محبة عنده ولا يريد محبة الله عز وجل فدرجته منحطة -هكذا يزعمون- وقد سبق الرد عليهم كما قال الله تبارك وتعالى في حال الأَنْبِيَاء وعباده الصالحين: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] فالعبادة تكون بالحب وبالخضوع وبالذل وبالخوف وبالرجاء، ولا يجوز أن نكتفي بشيء منها عن شيء، فلا بد أن تجتمع فيها هذه الأربعة غاية الحب مع غاية الذل والخضوع، وغاية الرجاء مع غاية الخوف، وبذلك تكون العبودية الصحيحة لله تبارك وتعالى أما قولرابعة:
أُحِبُكِ حُبَينِ حُبُ الهَوى وحبٌ لأنَّكِ أَهْلٌ لِذَاكا
فهذا البيت وإن احتمل معنى صحيحاً فلسنا بحاجة إليه فإن الله أغنانا عنه والمعاني الباطلة التى يتضمنها -هو وأمثاله- مردودة بكتاب الله وبسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم الذي كَانَ أكثر دعاؤه كما روىأنس بن مالك رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كما في الصحيحين رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار [البقرة:201] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من النَّار وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقومون الليل وكانوا إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النَّار بكى خوفاً منها، فالسلف الصالح كانوا يعبدون الله طمعاً ورغبة في أجره وثوابه ومغفرته وجنته، وكانوا يعلمون ويعتقدون أن أفضل النعيم نعيم الجنة، وأعلى ما في الجنة من النعيم هو رؤية الله تبارك وتعالى، كما جَاءَ ذلك في الأحاديث الصحيحة.
وأما هَؤُلاءِ الصوفية فيقولون: لا نريد جنة ولا ناراً، وإنما يريدون الذات ويريدون الوجه.
وبعضهم يقول: إن هذا يمكن أن يحصل في الدنيا وكثير منهم يزعم ذلك، فإذا حصلت الرؤية في الدنيا فما الحاجة إذاً إِلَى الآخرة، إذاً انتهى الحساب وانتهى الجزاء وانتهى التكليف، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يحصل ذلك لأحد في الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:(لن يرى أحدكم ربه عز وجل حتى يموت) .