الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح العقيدة الطحاوية
القدر
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
موضوعنا هو عن إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى والفرق بين الإرادة والمشيئة، ومتعلق كل منهما، وأما موضوع الإيمان بالقدر بكامله وما يتعلق به؛ فإنه من المباحث التي تأتي -بإذن الله تعالى- في الثلث الأخير من هذا الكتاب، عند قولالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وأصل القدر سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخِذلان وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان.
فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علمه عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تَعَالَى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كَانَ من الكافرين] .
يحسن بنا أن نبدأ الحديث عن نشأة القدرية، وما حكمهم؟ ومن هم القدرية الموجودون اليوم؟
أولاً: حديث جبريل عليه السلام لما جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إِلَى ركبتيه، ووضع يديه عَلَى فخذيه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام وأركان الإيمان، فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم:(الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) .
فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنون بالقدر، وأنه من ضمن العقيدة التي يجب أن يعتقدها كل مؤمن.
ومن ذلك حديث علي قال: {كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قرأ قول الله تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] .
فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من العمل.
وفي حديث صحيح آخر سأله الصحابة سؤالاً أصرح وأجلى من ذلك، {بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيما العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟} -أي: هذه الأعمال والطاعات والكدح في الدنيا أفي أمر قد جرت به الأقدار، وجفت به الأقلام، أم هو أمر جديد؟ - فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:{بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به الأقدار} ، أي: أن الله تبارك وتعالى قد علمه وكتبه، ومع ذلك اعملوا؛ فإنكم لا تدرون الغيب المكنون ولا ما كتب لكم، فيجب علينا أن نعلم أن الله قد كتب كل شيء الطاعة والمعصية، وأما قبل ذلك، فإن بأيدينا حرية الاختيار، وعلم الغيب محجوب عنا، فعلينا أن نختار طريقة أهل الخير والطاعة والسعادة وأهل الحسنى، ونعمل بما أمر الله سبحانه وتعالى فإننا إن فعلنا الخير والطاعة أو فعلنا الشر؛ فإنه يطابق ما عند الله سبحانه وتعالى كوناً وقدراً وإرادةً؛ لأنه لا يخرج عن إرادة الله سبحانه شيء.
قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] فهو الذي يختار أن يكون من الشاكرين أو يكون من الكافرين بمحض إرادته واختياره، والله تبارك وتعالى إنما فضل بني آدم عَلَى المخلوقات في الأرض بهذه الإرادة وهذا الاختيار، وكذلك إذا عمل بالطاعة أكرمه الله تبارك وتعالى بالجزاء الأوفى، وهي الجنة ورؤيته تبارك وتعالى وإن عمل بالمعصية عاقبه أعظم وأشد العقوبة وهي النار، بخلاف العجمي-الحيوان- يحشرها الله يَوْمَ القِيَامَةِ ويقتص لبعضها من بعض؛ حتى إنه {يقتص للشاة الجلحاء -التي ليس لها قرون- من الشاة القرناء} -ذات القرون- وبعد أن يفصل الله تبارك وتعالى بينها يقول لها تبارك وتعالى: كوني تراباً، وحينئذٍ يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً؛ لأنه في الدنيا اختار المعصية، فتمنى يَوْمَ القِيَامَةِ أن يكون حيواناً ليكون تراباً ولا يدخل النَّار.
فالإِنسَان قد احتمل الأمانة وكلف بهذا الدين، وجعل الله سبحانه وتعالى له سبيل الاختيار، فبإمكانه أن يترقى في أعلى درجات المقربين، وبإمكانه أن يسفل إِلَى أحط درجات المبعدين المبغضين عند الله تبارك وتعالى.
وأول ما ظهر التكذيب بالقدر في مكانيين: البصرة، ودمشق.
والذي أظهره في البصرة هو معبد الجهني، وفي دمشق رجل يدعى غيلان الدمشقي.
أما غيلان فإنه يبدو أنه أخذها عن أهل الكتاب -فإنه كَانَ في دمشق نصارى- ويقَالَ: إنه تتلمذ عَلَى يد أحد الرهبان يدعى يوحنا النصراني -وهذا في أيام بني أمية- وقال عنهالذهبي: ضال مسكين أخذ هذه البدعة -إنكار القدر- من يوحنا، وأما معبد الجهني فإنه كَانَ بالبصرة، وكانت أول بلاد الإسلام ظهوراً للبدع؛ لأنها تقع في أقرب نقطة إِلَى الفرس وبلاد الهند، وهذه الدول لها فلسفات وأديان وعقائد موروثة، فلما اختطتالبصرة وسكنها الْمُسْلِمُونَ من قبائل بني تميم وأشباهها -ممن تأخر دخولهم في الإسلام وبعضهم ارتد عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عاد فيه، كَانَ فيها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أشاعوا فيها النور والخير؛ لكن مع ذلك فيها هَؤُلاءِ الذين أسلموا حديثاً من الفرس والهنود، ولديهم بقايا من موروثاتهم ومعتقداتهم.
فظهرت في البصرة أول البدع، من ذلك بدعة الغلو في العبادة، والزهد إِلَى حد التصوف، وبدعة إنكار القدر، وفي أول صحيح مسلم أن رجلين من التابعين أتيا إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- وقالا له: إن قوماً عندنا بالبصرة قد أظهروا إنكار القدر، فغضب ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه من ذلك غضباً شديداً، وقَالَ: بلغوهم أنني منهم براء، وأنهم مني براء، ثُمَّ ذكر الحديث عن أبيه عمربن الخطاب وهو حديث جبريل المعروف.
وأما عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنه لما بلغه قول من أنكر القدر -وكان قد كبر وكف بصره- قَالَ: قربوه مني فوالله لئن أمكنني الله منه لأدقن عنقه، ثُمَّ أَخبر أن هَؤُلاءِ مجوس مُشْرِكُونَ، وأنهم والله سينكرون الخير كما أنكروا الشر، يعني: كما أنكروا نسبة الشر إِلَى الله فسوف يأتي عليهم يوم ينكرون أيضاً الخير، فيكونون مجوساً، ويعلنون الشرك، كما أن إليات نساء دوس ستضطرب عَلَى ذي الخلصة، فكما سيقع الشرك في الألوهية والعبودية، فسوف يقع شرك هَؤُلاءِ في القدر، هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه اللالكائي.
فالقول بالقدر ظهر في أواخر حياة الصحابة -وعبد الله بن عمر وابن عباس من صغار الصحابة- ثم ظهرت المعتزلة وأخذوا مقالة المجوس الذين قالوا: أن للعالم إلهين، أو خالقين: إلهاً للخير، وإلهاً للشر، فالمعتزلة الذين سُمو قدرية قالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما يقدر على أن يخلق في الإنسان، وأما الشر: فإن الإنسان هو الذي يخلقه من عند نفسه، فجعلوا خالقاً مع الله سبحانه وتعالى، وجعلوا الله خالقاً للخير، والإنسان خالقاً للشر، ولهذا سموا {مجوس هذه الأمة} ، وقد ورد تسميتهم في عدة أحاديث مرفوعة، وكثير من العلماء يرجح أنها موقوفة عَلَى كلام الصحابة كابن عباس وغيره، وسيأتي تفصيله -إن شاء الله-. .
ثانياً: إنما سميت القدرية بهذا الإسم لأنهم نفوا القدر، فنُسبوا إِلَى الشيء الذي نفوه.
وقد جَاءَ رجل من الأعراب فيه ذكاء وذهن وقاد إِلَى عمرو بن عبيد، وكان المعتزلة يعظمونه ويقولون: هذا يضرب به المثل في العبادة والزهد في الدنيا والتقشف والتقلل؛ لكنه كَانَ عَلَى عقيدة منحرفة لا تغني ولا تنفع صاحبها أبداً، مثل أحبار اليهود والنَّصارَى، يتعبدون ويخشعون ولكن لا ينفعهم ذلك، فالأعرابي -مسكين من أهل البصرة - سرقت ناقته فلم يجدها فاحتار، فَقَالُوا: اذهب إِلَى هذا الولي العابد الزاهد، واطلب منه أن يدعو الله ليرد لك ناقتك، فذهب إِلَى عمرو بن عبيد وشكا إليه الحال، وقَالَ: إن الناقة قد سرقت، وإني أرجو أن تدعوا الله أن يرد إلي الناقة، فرفع عمرو بن عبيد يديه وقَالَ: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقة هذا الأعرابي، اللهم فارددها عليه! فَقَالَ الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك!! ما دام أنه أراد أن لا تسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع.
فالفطرة السليمة عندما تكون حاضرة وحية في النفس، تعرف بالذكاء أن هذا المذهب مذهب باطل.
فمذهب المعتزلة: أن الخير ينسب إِلَى الله، والشر يخلقه ويفعله العبد، والله تَعَالَى لم يرد وقوعه، وتطور هذا المذهب إِلَى أن صار مذهب عامة المعتزلة وفرقهم عَلَى اختلافها.
سبق في موضوع التمثيل والتشبيه أن الشيعة كانوا مشبهة، ثُمَّ غَلب عليهم التعطيل لما دخلوا في مذهب الاعتزال واعتنقوه.
وذكرنا السبب الذي جعل الشيعة يصبحون معتزلة وقدرية، فالشيعة الزيدية والشيعة الغلاة الرافضة كلهم يجمعهم أنهم عَلَى مذهب الاعتزال في القدر.
وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رد عَلَى الشيعة بكتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية لأن الذي سمى نفسه بالمطهر ألف كتاب منهاج الكرامة وقَالَ: إن مذهبنا -مذهب القدرية - إنما أخذه عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء عن أبي هاشم أخي الحسن بن مُحَمَّد بن عَلَى بن أبي طالب الذي يسمى مُحَمَّد بن الحنفية، وهو ابن لعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب، ولكن ليس منفاطمة رضي الله عنهم أجمعين- وأمه من بني حنيفة.
فمذهبنا في نفي القدر صحيح؛ لأن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد تتلمذا علىأبي هاشم، ولذلك رد عليهم شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ فقَالَ: هذا الكلام غير صحيح، فإن أبا هاشم لم يكن من المعتزلة، والمعروف عنمُحَمَّد بن الحنفية أنه لم يكن معتزلياً، ولو أن أحداً من ذريته أثرت عنه بدعة، لما كَانَ حجة في أن تتبع ويخالف ما كَانَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن الشيعة اختلفوا سنداً لنفي القدر لا ينتهي إِلَى عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الذين هم أساس الاعتزال؛ لأنه لو قيل إنهم أخذوا القدر عن معبد وغيلان وعن تلاميذهم، لكان هذا عاراً ومسبةً، فجعلوا كل علومهم وأديانهم متلقاة عن آل النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أتوا بهذا السند وَقَالُوا: أخذوا عن أبي هاشم بن مُحَمَّد بن عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب صراح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر القدر والعياذ بالله.
وهناك فرقة أخرى تسمىالقدرية؛ لأنها تثبت القدر إثباتاً مطلقاً، فيقولون: كل ما يفعله الإِنسَان فإن الله قد قدره عليه، والإِنسَان ليس له إرادة مطلقاً، فلا يختار الخير ولا الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح، فهَؤُلاءِ يسمون القدرية للغلو في إثباته، لكن اسمهم المشهور هو الجهمية؛ لأن أول من قال بهذه المقالة في الإسلام هو الجهم بن صفوان.
وأشهر ما يسمون به الجبرية، وأعظم ما يستدلون به حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، وهي فكرة قديمة موروثة أخذوا يتلمسون ويبحثون لها عن حجج واهية، أو متشابه من الكتاب والسنة يفهمونها فهماً خاطئاً ثُمَّ يدعون أنها بينات.
فهاتان الفرقتان -الذين غلو في نفي القدر، والذين غلوا في إثبات القدر- يسميان القدرية؛ ولكن أحدهما: قدرية نفاة، والأخرى جبرية.
ثالثاً: حكم القدرية:
أما من ينفي علم الله سبحانه وتعالى بالأعمال قبل أن تقع سواء كانت أعمال الخير أو أعمال الشر ويقول: إن الله لا يعلمها حتى تقع؛ فإنه كافر خارج من الملة؛ لأنه نفى صفة من صفات الله عز وجل ورد إثباتها في مواضع كثيرة من القُرْآن والسنة.
فالله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فمن ظن أنه يعزب عن علم الله شيء من ذلك، وأن الله لا يعلمه فقد كفر.
بل اللوح المحفوظ الذي ذكره الله سبحانه وتعالى كتب فيه مقادير كل شيء، كماجاء في الحديث الصحيح:(أول ما خلق الله القلم، فَقَالَ له: اكتب. فكتب مقادير كل شيء) وهذا كَانَ قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: ألستم عرباً تقرؤون؟! إنما يكون النسخ من كتاب، وهذا في قول الله تبارك وتعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] فالملائكة الذين يكتبون ما يعمله كل إنسان، يستنسخون من اللوح المحفوظ، فما يفعله الإِنسَان يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ ويعرض عليه، ويقال له: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، فهذا مستنسخ من اللوح المحفوظ وهو مطابق لما سيفعله.
ونجد أن أول ما خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام أخذ من صلبه ذريته، فكان كل منهم كالذر، وقال هَؤُلاءِ في الجنة ولا أبالي، وهَؤُلاءِ في النَّار ولا أبالي، كما سيأتينا -إن شاء الله تعالى- في شرح آية الميثاقوَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] .
وكل واحد من بني آدم عندما يكون في رحم أمه، بعد أن يأتي عليه أربعون ليلة، أو اثنتان وأربعون ليلة، أو مائة وعشرون ليلة -على اختلاف الروايات، والأرجح -والله أعلم- أن رواية الثنتين والأربعين نص في ذلك- يأتيه ملك، فيؤمر بكتب أربع كلمات، وهذا هو القدر الشخصي للإنسان، والذي كتب لما خلق الله القلم هو القدر الكوني العام، ولما خلق الله سبحانه وتعالى آدم كتب قدر البشرية جميعاً، فهذا التقدير مكتوب معلوم عند الله -سبحانه تعالى- عَلَى مستوى الكون كله، وعلى مستوى العالم الإِنسَاني، وعلى مستوى الفرد البشري يعلمه الله سبحانه وتعالى ويكتبه.
وأما من قَالَ: إن الله يعلم ذلك، لكن لا نثبت أنه أراد ذلك؛ تنزيهاً له سبحانه وتعالى عن إرادة الشر، فهَؤُلاءِ عَلَى بدعة خطيرة وضلالة كبيرة، ولكن لا يكفرون، وإنما تقام عليهم الحجة الدامغة، فلعلهم يرجعون ويهتدون، ونجادلهم بقضية العلم، ثُمَّ نثنّي عليها بآيات الإرادة، ونبين لهم معنى الإرادة وأنها نوعان.
وأما الجهمية الذين قالوا: إن الإِنسَان لا إرادة له مطلقاً، وأنه كالريشة في مهب الريح، فإن هَؤُلاءِ يكفرون، وقد سبق الكلام في الجهمية ومن كفرهم من العلماء مثل: وكيع، وابن المبارك، والإمام أَحْمَد، وسفيان بن عيينة، وإسحاق بن راهويه رضي الله عنهم أجمعين- وهي ليست من فرق الأمة الثلاث والسبعين.
قال الإمامالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولا يكون إلا ما يريد] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من النَّاس كلهم، والكافر أراد الكفر، وقولهم فاسد مردود لمخالفته الكتاب والسنة، والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان -إن شاء الله تعالى-.
وسُموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضاً، والتسمية عَلَى الطائفة الأولى أغلب.
أما أهل السنة، فيقولون: إن الله وإن كَانَ أراد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها، ولا يأمر بها، بل يبغضها، ويسخطها، ويكرهها، وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء عَلَى أن الحالف لو قَالَ: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كَانَ واجباً أو مستحباً، ولو قَالَ: إن أحبّ الله، حنث إذا كَانَ واجباً أو مستحباً. والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان:
إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية، فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى. والكونية: هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث.
وهذا كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] وقوله تَعَالَى عن نوح عليه السلام: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34] وقوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، فكقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26] وقوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28،27] وقوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6] وقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33]، فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول النَّاس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
وأما الإرادة الكونية، فهي الإرادة المذكورة في قول الْمُسْلِمِينَ: ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن. والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل. فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلاً فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى، فالله تَعَالَى إذا أمر العباد بأمر، فقد يريد إعانة المأمور عَلَى ما أمر به، وقد لا يريد ذلك، وإن كَانَ مريداً منه فعله] ا. هـ
الشرح:
قول الطّّحاويّ رحمه الله: [ولا يكون إلا ما يريد] هذا رد عَلَى القدرية والمعتزلة؛ فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من النَّاس كلهم، والكافر أراد الكفر.
فغلبت إرادة الكافر إرادة الله -والعياذ بالله- عَلَى مقتضى كلامهم؛ ولهذا يقولون: إن الكافر يخلق فعل نفسه، وأما الله سبحانه وتعالى فلا يخلق فعل الكافر ولا معصية العاصي، ويقولون: ننزه الله سبحانه وتعالى ونجله عن ذلك.
وهذا مردود بالكتاب والسنة -كما بينا - وأما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كَانَ يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها؛ لأن الإرادة الكونية أمر مقضي مكتوب قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تأتي بعد ذلك في حق الإِنسَان، فمثلاً: لما بعث الله سبحانه وتعالى الأَنْبِيَاء أتى كل نبي يأمر قومه بما يريده الله شرعاً وأمراً من الإيمان به وتوحيده -جل شأنه- أو الكفر بالطاغوت والانتهاء عن المعاصي، فكل من يبلغه كلام الله يقتضي منه ذلك، وهو فعل مأمور أو ترك محظور، فإن هذه هي إرادة الله الشرعية، يريد منه شرعاً أن يصلي، ويريد منه شرعاً أن ينتهي عن الزنا أو الربا أو الخمر أو غير ذلك، أما الإرادة الكونية فأمرٌ قد أمضاه الله عز وجل، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير، كما جَاءَ في الحديث.
وأما احتجاج الْمُشْرِكِينَ بقدر الله سبحانه وتعالى فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:148-149] وقال الله تبارك وتعالى في سورة النحل: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35] وقال في سورة الزخرف: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:20] وفي سورة يس: قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47] .
فالمهم هي هذه المواضع الثلاثة الأولى التي احتج بها المُشْرِكُونَ عَلَى شركهم بالقدر.
فكان الرد عليهم من القُرْآن الذي فيه البيان الشافي والجواب الكافي لكل شبهة إِلَى أن تقوم الساعة، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:" ما من شبهة إِلَى أن تقوم الساعة إلا وجوابها في القرآن ".
فأجاب الله سبحانه وتعالى عَلَى الذين يحتجون بالقدر من الْمُشْرِكِينَ، أو من عصاة هذه الأمة، ويقولون: إن الله قد قدر علينا المعاصي!!
أولاً قَالَ: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام:148] وقال في سورة النحل: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل:33]
فهذا الكلام قد قاله أمم من قبلهم -وهو الاحتجاج بالقدر- فكفار قريش قالوا: نَحْنُ نحتج عَلَى مُحَمَّد بأنه لو كَانَ الله لا يرضى أن نعبد هذه الأصنام فكيف شاء ذلك؟ فلو شاء الله ما أشركنا؛ لكن نَحْنُ نعبدها لأنه شاء ذلك، فَقَالَ الله عز وجل: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148] ثُمَّ طالبهم الله عز وجل بالحجة، وذكر أنه قد بين جل شأنه الحجة، وأن حجته الأمرية الشرعية لا يمكن أن تتفق مع كونه رضي بذلك الشيء وأقره.
فقَالَ: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148]، وقال جل شأنه: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، وقال جل شأنه: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] فلو أن المشيئة هي الرضا لهداكم أجمعين، فلو شاء لهداكم أجمعين، وخلقكم أمة واحدة مؤمنة، لكن من حكمة الله أن خلقكم فمنكم كافر، ومنكم مؤمن، وهذا فيه حكم عظيمة جداً منها: بعث الرسل، واصطفاء عباد الله المؤمنين، وإذلال الكافرين، وليكون الإِنسَان الذي كرمه الله تَعَالَى عَلَى جميع المخلوقات حر الإرادة، يختار هذا الطريق أو ضده، ومنها: أن يكون للجنة أهل، وللنار أهل.
فالاحتجاج بالمشيئة والإرادة قد أجاب الله عنه في سورة النحل، فَقَالَ جل شأنه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فجعل الإِنسَان مختاراً وأقام الحجة عليه، فيا سُبْحانَ اللَّه! كيف تقولون: إن الله تَعَالَى راض عن شركنا، وأنه يريد لنا الشرك، وهو يقول: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ولو قيل كيف يهدي أناساً ويضل آخرين، قال الله: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] .
ثُمَّ قال بعد ذلك إِنْ تَحْرِص عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل:37] .
فالله تبارك وتعالى يوفق للهداية من شاء تفضلاً بعد أن تقوم الحجة، ويحجب هذه الهداية عمن شاء بعد أن تقوم عليه الحجة، فما كفر كافر إلا باختيار منه بعد قيام الحجة عليه من الأنبياء، وهو يتحمل عاقبة وجزاء هذا الاختيار، وما آمن مؤمن إلا بفضل من الله عز وجل وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس:100] فهذا فضل وتكرم من الله عز وجل ومن كمال عدله سبحانه وتعالى أنه أوجب عَلَى نفسه أن لا يعذبهم حتى يبعث فيهم رسولاً: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] .
والنَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ نوعان:
أ-نوع لم يأتهم نذير: كمن عاش في جزيرة نائية؛ أو في مكان لم تبلغهم الدعوة قط، فعدل الله عز وجل ورحمته وحكمته اقتضت أن لا يعذبهم حتى يقيم عليهم الحجة؛ لأنهم لم يأتهم نذير، فيختبرهم الله عز وجل يَوْمَ القِيَامَةِ؛ فإن أطاعوه أدخلهم الجنة، وإن عصوه أدخلهم النار، عَلَى القول الراجح.
2-
نوع يقولونها افتراءً وكذباً، كما في الحديث الصحيح عندما يسأل الله قوم نوحوَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] ماذا أجبتم نوح؟! هل جاءكم من نذير؟! لماذا أشركتم؟! فيجيب قوم نوح: ما جاءنا من نذير.
فيقول الله عز وجل: يا نوح ما صنعت بقومك؟ فَيَقُولُ: يا رب دعوتهم إِلَى ما أمرتني به.
فيقول لقوم نوح: ما تقولون في قوله هذا فيقولون كذب، فيقول الله تبارك وتعالى: يا نوح من يشهد لك؟ فيقول نوح: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيأتي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون أن نوحاً قد بلّغ -ونحن والله نشهد أن نوحاً بلغ أمته- لأن كتاب الله بين أيدينا ينطق بذلك وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُول ولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] فنحن شهداء عَلَى الناس، ما من نبي تكذبه أمته يَوْمَ القِيَامَةِ في البلاغ؛ إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ؛ لأن الله أخبرنا بذلك في كتابه -الذكر المحفوظ - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فاحتجاج الْمُشْرِكِينَ باطل ومردود بأعظم دليل وهو بعثة الرسل، فإن بعثة الرسل تبطل دعواهم أن الله سبحانه وتعالى شاء لهم الكفر، أي: رضيه لهم.
وكذلك كل من فجر أو بغى أو عصى من هذه الأمة فقَالَ: لا أصلي؛ لأن الله لم يشأ لي الهداية، يرد عليه بما رد الله تبارك وتعالى أن الله لو شاء ذلك بمعنى: أنه رضيه له، فلماذا شرع الحلال والحرام؟! ولماذا بعث نبينا صلى الله عليه وسلم؟! فحرم الزنا، وشرع عقوبة له، إما الجلد وإما الرجم، وشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذه الأمور لماذا تكون؟!
فلو أن الله رضي بالزنا -والعياذ بالله- فلماذا حرمه؟!.
إذن. لا يرضاه، فإنه تَعَالَى وإن كَانَ كتبه أو شاءه إلا أنه يبغضه ويسخطه ولا يرضاه، بل توعد صاحبه بالنَّار والجزاء الأشد، فلماذا تختار ذلك بمحض مشيئتك وإرادتك؟!
فأنت تعاقب عَلَى هذه المشيئة والإرادة، ولهذا فرق بين من جيء به مقيداً مغلولاً فأخذ مال إنسان أو قتل إنساناً دون أن يتعمد ذلك، وهو مقيد مغلول مقهور، وبين من يذهب إليها راضياً مطمئناً، فعندما يحتج هذا بأنه مجبور وأنه مقدر عليه؛ فكأنه يقول: أنا مكتَّف ومقيد ومرغم عَلَى أن أفعل هذا.
وإنما قالت القدرية ذلك لجهلهم وسوء استدلالهم، كما في قصيدة شَيْخ الإِسْلامِ التائية في الاحتجاج بالقدر التي شرحها الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى يقول: إن قول هَؤُلاءِ النَّاس كقول الذئب هذه طبيعتي، فلو جَاءَ ذئب وهجم عَلَى مزرعتك، وعبث في الغنم، ثُمَّ قتلته، فقيل لك: أتقتله وهذه طبيعته وهو هكذا خُلق يأكل الغنم؟ فلا شك أنك لن تقبل هذا الكلام، فالله خلقه ليأكل الغنم وهذا قدر الله، لكن أيضاً قدر الله عز وجل أن أعطاني أيضاً من الإرادة ما أحفظ بها غنمي، فأنا أرد القدر بالقدر.
فالواحد منهم لو أخذ الذئب غنمه لكان أشجع ما يكون حتى يقتله، وإذا ارتكب معاصي الله قَالَ: هذا قدر الله علينا، وهذه طبيعتنا، وكذا خلقنا.
وهذه الشبهات تنشأ من مرض القلب، وليست مبنية عَلَى هدى، فلذلك قال الله عز وجل: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148] .
هناك فرق بين المشيئة والمحبة، فالمشيئة غير المحبة فمثلاً الله أراد الكفر قضاءً وقدراً، وكتب أن هناك أناساً يكفرون؛ لأنه لا يقع إلا ما يريد الله، ولكنه -سبحانه- لا يحب الكفر ولا يرضى لعباده الكفر، والله لا يحب الكافرين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الظالمين، فهناك فرق بين الرضا وبين المشيئة، ولذا ذكر المُصنِّفُ مثالاً فقهياً -حتى من كَانَ معتزلياً أو قدرياً فإنه يفتي به- وهو أنه لو حلف أو نذر رجل عَلَى شيء، ثُمَّ علقه بالمشيئة أو بالمحبة، فقَالَ: والله لأتصدقن بألف ريال -إن شاء الله- فهذا عند جميع المذاهب الأربعة حكمه أنه إن تصدق فله الأجر، وإن لم يتصدق فلا شيء عليه؛ لأنه قَالَ: إن شاء الله، يخير الإِنسَان في فعله أو عدمه؛ لأنه لا يدري هل يشاء الله أم لا يشاء؛ لأن ذلك في اللوح المحفوظ، والإِنسَان بحريته واختياره يفعل ما يشاء وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان:30] ، لكن لو قَالَ: والله لأتصدقن بألف ريال إن أحب الله، قال الفقهاء: يجب عليه أن يتصدق، فالله يحب المتصدقين، ويحب عطاء المساكين.
فكونه شاء شيئاً لا يقتضي أنه يحبه، لكن كونه يحب شيئاً فمعناه أنه مأمور ومطلوبٌ شرعاً، إما وجوباً وإما استحباباً، فهذا هو الفرق: أن المشيئة لا تتضمن المحبة.
والإرادة الواردة في القُرْآن والسنة نوعان:
الإرادة الكونية القدرية
وهي: أن ما أراده الله وقضاه كوناً وقدراً قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، جرت به المقادير وجفت به الأقلام، فلا ينسخه شيء، وهو في اللوح المحفوظ، ومن هذه الإرادة: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يوجد فرعون ويكون كافراً، ويكذب موسى ثُمَّ يغرق، وأن يكفر أبو لهب، وأن يكون من أهل النار، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً [الفرقان:31] ، وهذه الإرادة لا يخرج عنها شيء بإطلاق، فإن الله عز وجل قد شاء وأراد وكتب وقضى، وقدر طاعة المطيع ومعصية العاصي، وكفر الكافر، وشرك المشرك، وبدعة المبتدع، والحياة والموت وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] حتى سقوط الحبة يابسة جافة في ظلام الليل لا يسمعها الإِنسَان وهو في جوارها؛ فإنها مكتوبة، حتى حركة الذر، وحركة أصغر الكائنات -الميكروبات أو الجراثيم- كل شيء مكتوب، فهذه الإرادة الكونية شاملة لجميع الموجودات والكائنات، ولذلك نقول: أراد الله كذا. أي: خلقة وقدره وشاء وقوعه.
الإرادة الشرعية الأمرية
هذه الإرادة الشرعية مثل إرادة الله منا أن نصلى ونزكي، وإرادته من قوم نوح أن يؤمنوا، ومنفرعون أن يؤمن، ومن أبي لهب أن يؤمن، فهنا شرع وطلب ذلك، والفرق -كما يذكر المُصْنِّف -أن الإرادة الأولى فعل من الله عز وجل هو كتبه وأمضاه وقدره، وأما الإرادة الثانية فهو فعل من العبد مطلوب منه أن يفعله، فالكونية (أراد) بمعنى: خلق وقدر، والشرعية (أراد) بمعنى: أمر ونهى، فهما إرادتان مختلفتان، فالله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] ويقول نوح لقومه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ َ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34] وقول الله عز وجل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وقوله عز وجل: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] وقوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فهذه الإرادة الكونية.
وأما الإرادة الشرعية الأمرية فمثل قول الله سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] أي: شرع لكم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] ويقول: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26] يقول: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6] فلم يرد الله لنا شرعاً أن نقع في حرج، لكن قد نقع فيه قدراً كونياً.
فالله سبحانه وتعالى أراد كوناً وقدراً أن أبا لهب وفرعون لا يؤمنان، بل يكونان كافرين، وأراد منهما شرعاً وأمراً أن يؤمنا، وجاءت لهما البراهين والبينات من موسى عليه السلام ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فكفرفرعونوأبو لهب بهذه الآيات وبهذا النور المبين، فاستحق كل منهما عذاب الله ولم تتحقق فيهما الإرادة الشرعية؛ لأنها من فعل العبد، فلا يلزم أن تتحقق ولا أن تقع، وإنما له الخيار أن يفعل فيدخل الجنة، أو أن يعصي فيدخل النار، فوقع منأبي لهب وفرعون اختيار الكفر، أما المؤمن كأبِي بَكْرٍ وعُمَر رضي الله عنهما فإن الله تَعَالَى أراد لهم الهداية كوناً وقدراً وكتب عنده في اللوح المحفوظ أنهما يكونان مؤمنين قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلما بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم طلب منهما طلباً وشرعاً أن يؤمنا فآمنا، فتحققت فيهما إرادة الله الكونية التي لا يقع شيء إلا وفقها ومقتضاها، وتحققت الإرادة الشرعية التي هي محل اختيار العبد.
فمن هنا نعرف الفرق بين الإرادتين، ويتبين لنا كيف نرد عَلَى شبهة هَؤُلاءِ القدرية: الذين يقولون إن الإرادة والمشيئة تستلزم المحبة.
ولهذا يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فهذه الإرادة -يعني: الإرادة الشرعية- هي المذكورة في مثل قول النَّاس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، يعني: لا يرضاه ولا يحبه الله، لكن لو قالها آخر بمعنى: ما قدره الله ولا كتبه، فهذا إما أن يكون منكراً للعلم فيكون كافراً، وإما أن يكون فقط ينكر نسبة الشر إِلَى الله فيكون ضالاً مبتدعاً، ففرق بين الحالتين، لكن عامة النَّاس يستخدمونها بمعنى: لا يحبه، وهو شيئ محرم؛ لأن الله ورسوله لا يريدان الحرام وهكذا
…
وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول الْمُسْلِمِينَ: ما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، يعني: ما أراد الله كَانَ وما لم يرد الله لم يكن، فتبين لنا الفرق بين نوعي من الإرادة.
ثُمَّ قَالَ: والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، أي: بين إرادة الله عز وجل أن يفعل الشيء سبحانه؛ فهو فعال لما يريد، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فالأولى متعلقة بفعله، والأخرى متعلقة بفعل المأمور، ثُمَّ إن المأمور قد يعان عَلَى ما أمر، وقد لا يعان.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق عَلَى ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل، ويجعله فاعلاً له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد عَلَى وجه البيان، لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه إذا أمرفرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كَانَ قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له؛ فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كَانَ الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلاً له، فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟ فالواحد من النَّاس يأمر غيره وينهاه مريداً لنصحه ومبيناً لما ينفعه، وإن كَانَ مع ذلك لا يريد أن يعينه عَلَى ذلك الفعل، إذ ليس كل ما كَانَ مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه، يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده، فجهة أمره لغيره نصحاً غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان.
والقدرية تضرب مثلاً بمن أمر غيره بأمره؛ فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إِلَى فعله، كالبشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد، ونحو ذلك.
فيقال لهم: هذا يكون عَلَى وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود إِلَى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه، وأمر الإِنسَان شركاءه بما يصلح الأمر المشترك بينهما، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور عَلَى البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه عَلَى إعانته عَلَى الطاعة، وأنه في عون العبد ما كَانَ العبد في عون أخيه. فأما إذا قدر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود عَلَى الآمر من فعل المأمور، كالناصح المشير، وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة عَلَى الآمر، مثل الذي جَاءَ من أقصى المدينة يسعى، وقال لموسى عليه السلام: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج، لا في أن يعينه عَلَى ذلك، إذ لو أعانه لضره قومه، ومثل هذا كثير.
وإذا قيل: إن الله أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم عَلَى ما أمرهم به، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحداً عَلَى ما به يصير فاعلاً.
وإذا عللت أفعاله بالحكمة، فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نَحْنُ لا نعلمها، فلا يلزم إذا كَانَ في نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة عَلَى فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه عَلَى ذلك. فإنه إذا أمكن في المخلوقات أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه عَلَى ذلك، فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى.
والمقصود: أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمن أمره وأعانه عَلَى فعل المأمور، كَانَ ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً وخلقاً ومحبةً، فكان مراداً بجهة الخلق ومراداً بجهة الأمر.
ومن لم يعنه عَلَى فعل المأمور، كَانَ ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده.
وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرق به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك كَانَ خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح، وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل.
وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره، يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل عَلَى طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه] اهـ
الشرح:
هذا الكلام على طوله يناقش قضية فرعية جزئية قالها القدرية وهي: أن الآمر إذا أمر بشيء، أو المريد إذا أراد شيئاً، فإن إرادته ذلك تستلزم الإعانة على فعله.
وقد رد المُصنِّفُ رحمه الله عَلَى القدرية: بأن الموضوع له جهتان:
جهة خلقه وإرادته للشيء والأمر به.
وجهة إعانته العبد عَلَى فعل ما أراده سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى إنما يعاقب العبد الكافر والعاصي بعد أن يبين له الحجة، وهو سبحانه وتعالى قد كتب عَلَى نفسه أن لا يعاقب أحداً إلا بعد أن يبين له الحق والحجة والصواب وَمَا كَانَ َ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115] فضرب المثال بفرعون وأبي لهب، جاءتهما الحجج من عند الله سبحانه وتعالى والبيان فكفرا به، فلا يلزم من إرادة الإيمان منهما أن يعينهما الله عز وجل، وأن يوفقهما الله سبحانه وتعالى للإيمان؛ لأن هناك حِكما ومصالح تفوت في عدم كفرفرعون وأبي لهب، بل في وجود الكافرين عموماً، فهذه الحكم تفوت وتنتفي لو أنه وفقهما للإيمان كما وفق أبا بكر وعُمَرَ، وإنما بيّن لهما وأراهما الحجة، ثُمَّ وفقهما الله عز وجل وتفضل عليهم فاختارا الهدى، فهو أعان المؤمنين عَلَى هداهم ووفقهم وتفضل عليهم بالهداية، لكنه لم يمنع الكافرين حقاً لهم عليه سبحانه وتعالى.
وإنما أعذر إليهم وأقام الحجة عليهم، فقول القدرية هَؤُلاءِ: إن الآمر يلزمه أن يعين المأمور، كلام مردود، وهذا من تشبيههم لله عز وجل بخلقه، مثلما قالوا: إن الإِنسَان إذا أمر أحداً بشيء فإنه لا بد أن يظهر عليه من البشر أو الطلاقة أو من واقع الحال ما يدل عَلَى أنه يعينه عليه، لذلك قالوا: إن الله عز وجل يلزم عليه أن يعين الكافر ويوفقه للإيمان أو الطاعة.
مع أن الخلق عندهم الأمر ينفك عن الإعانة، فقد لا يكون مصلحة للآمر أن يعينه، بل قد يكون خلاف ذلك، كالرجل الذي جَاءَ من أقصى المدينة يسعى فَقَالَ لموسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] .
فمصلحته أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج فقط، لكنه لو أعانه وأرشده وأخذ بيده، أو حمله عَلَى بعيره حتى يخرجه، لكانت هناك مضرة عَلَى هذا الرجل لو رآهفرعون وقومه؛ لكن هو مصلحته في أن يخبره ويبلغه، فَقَالَ له: إن بقيت ظفر بك قومفرعون؛ فإنهم سوف يؤذونك ويقتلونك، وإذا خرجت فستسلم، فاخرج إني لك من الناصحين.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن قيل: هل يلزم من تأثير صلة الرحم، في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك، أم لا؟
فالجواب: أن ذلك غير لازم، لقوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة رضي الله عنها:(قد سألت الله تَعَالَى لآجال مضروبة) الحديث، كما تقدم.
فعُلمَ أن الأعمار مقدرة، لم يشرع الدعاء بتغييرها، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة. فإن الدعاء مشروع له نافع فيه، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الأخروي شرع كما في الدعاء الذي رواه النَّسَائِيُّ من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(اللهم بعلمك الغيب وقدرتك عَلَى الخلق أحيني ماكنت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) إِلَى آخر الدعاء.
ويؤيد هذا مارواه الحاكم في مستدركه من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) .
وفي الحديث رد عَلَى من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت فيالصحيحن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى عن النذر، وقَالَ: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) .
واعلم أن الدعاء يكون مشروعاً نافعاً في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو.
ولهذا لا يحب الله المعتدين في الدعاء.
وكان الإمام أَحْمَد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه] اهـ.
الشرح:
هو ماورد في الحديث وذلك بأن نسأل الله سبحانه وتعالى بكل اسم هو له -مثلاً- اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك
…
إِلَى آخر الدعاء المعروف.
أو نقول: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت الحي القيوم) أو نحو ذلك، فهذا أفضل أنواع التوسل أن يُسأل الله بأسمائه وصفاته، أو بعمل صالح عمله الإِنسَان كما كَانَ من أصحاب الغار -الثلاثة النفر- الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة التي فعلوها فكشف الله عز وجل عنهم ما هم فيه.
وأما التوسل بذوات المخلوقين فإنه لا يجوز بل هو بدعة، فالأولى للعبد المسلم أن يتوسل إِلَى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أو بعمل صالح عمله، وكذلك التوسل بجاه فلان من النَّاس لا يجوز، ولو كَانَ هذا المتوسل بجاهه نبي، أو ولي ممن لديه منزلة عظيمة عند الله؛ لأنه لا رابطة هنا بين المتوسل والمتوسل به.
ومن شروط الدعاء وآدابه: ألا يدعو فيه بقطيعة رحم، كما جَاءَ في الحديث:(لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) ، وكثير من النَّاس لم يعملوا بهذا الشرط فتراهم يدعون عَلَى أزواجهم وأولادهم وأقربائهم وهذا لا ينبغي أن يكون ولو حصل له من هَؤُلاءِ الأذى والعنت.
فقد (جَاءَ رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وقَالَ: يا رَسُول الله ! إن لي قرابة: أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي قَالَ: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل) والمل هو الرماد الحار.
والشرط الأخير: أن لا يدعو الإِنسَان بدعاء فيه اعتداء قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] .
والاعتداء في الدعاء يمنع من قبول الدعاء. ومثاله: أن تعلم أن الله عز وجل إذا قبض ميتاً لا يبعثه مرة أخرى في هذه الحياة الدنيا، فتدعو الله أن يبعثه! لأن هذا لا يمكن أن يتحقق. أو تدعو الله عز وجل أن ينتقم من رجل صالح من عباد الله الأتقياء، وأنواع الاعتداء في الدعاء كثيرة.
وظاهر دعاء أم حبيبة رضي الله عنها أنه نوع من الاعتداء في الدعاء؛ لأن دعاء الإِنسَان لأحد بطول العمر أو قصره مع الاعتقاد الجازم أن الله خلق الخلق وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، فيه اعتداء واضح.
وجهة النظر الأخرى: الدعاء سبب والأسباب مخلوقة والله عز وجل يقول: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] فلا يبعد أن يكون هذا من الأسباب التي تدفع البلاء وترد القضاء وتجعل صاحبها يطول عمره، وكما أن الإِنسَان إذا وصل رحمه، فإنه يطول عمره فكذلك إذا قطعهم، فإنه يقصر عمره.
النذر لا يرد القضاء
وتطرق المُصْنِّفُ بعد ذلك إِلَى النذر، لأن كثيراً من العوام يظنون أن النذر يحقق لهم ما يريدون، فإذا مرض لأحدهم مريض نذر أنه إذا شفى الله مريضه أن يتصدق بكذا وكذا من المال، فإذا شفي المريض ظن أن ذلك بسبب النذر، وأنه قد استرضى الله تَعَالَى بهذا العمل الصالح، وهذا أيضاً مما رده النبي صلى الله عليه وسلم في قولهِ:(إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) وذلك أن البخيل قبل أن يبتليه الله تَعَالَى لا ينفق ولا يتصدق، فلما حلت به البلية نذر عَلَى نفسه بالإنفاق والتصدق، وهذا مالا ينبغي أن يكون عليه المؤمن.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما (سُئل أي الصدقة أعظم أجراً، قَالَ: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وترجو الغنى) فالمؤمن في وقت الرخاء يتصدق ويعطي، فإذا نزلت به بعد ذلك نازلة فإنه يسأل الله عز وجل ولا ينذر، فإن سأله - مثلاً - بالعمل الصالح الذي عمله في وقت الرخاء، كأن يقول: اللهم يا رب! إني تصدقت بتلك الصدقة عَلَى فلان فإن كنت تعلم أنها خالصة لوجهك الكريم فاشف مريضي، كما فعل أصحاب الغار، فهنا يكون الدعاء في محله، وتكون تلك الصدقة في محلها؛ لأنها حصلت في وقت رخاء، فيكون أحسن حالاً من ذلك البخيل.
الدعاء وهو العبادة
والذي ينبغي أن يعلم أن الدعاء بحد ذاته عبادة لا يستغنى عنه أي مخلوق، وقد طلب الله تَعَالَى منا ذلك بقوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ، أما ما يقوله بعض الفلاسفة أو بعضالصوفية الغلاة - وتسرب إِلَى بعض العوام- أنه لا حاجة إِلَى الدعاء، وبعضهم يفلسفها بكلمة واحدة فَيَقُولُ:(علمه بحالي يغني عن سؤالي) ، وهذا غير صحيح، لأن الله سبحانه يعلم أحوال العباد لكنه يريد من العبد أن يتضرع إليه وأن يظهر الانكسار بين يديه، والخضوع؛ لأن هذه قربة وعبادة، وأشد ما يكون العبد خاضعاً لله عز وجل عندما يتضرع إليه في أمر ملح وهو محتاج مضطر إليه.
قول هَؤُلاءِالفلاسفة -ومن قال بمقالتهم-: إن المقادير إن كانت قد جرت بأن يتحقق للعبد ما يريد فلا حاجة للداعي أن يدعو، وإن كانت قد جرت بما لا يريده العبد فلا فائدة في الدعاء!! ورؤيتهم إنما هو اعتراض عَلَى القدر وهي من أبطل الباطل، وهذا مما زينه الشيطان لهَؤُلاءِ المتصوفة وأمثالهم، وإلا فالأنبياء هم أكثر النَّاس دعاءً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرع لنا الأدعية المأثورة الكثيرة الصحيحة في معظم الحركات والسكنات منها: إذا دخل بيته وإذا خرج منه، وإذا أتى أهله، وإذا أخذ مضجعه لينام، وإذا قام من مضجعه.
فالحياة كلها متصلة بالدعاء وبذكر الله عز وجل وما ذاك إلا لبيان الافتقار والحاجة إليه سبحانه وتعالى، أما قولهم: إن كَانَ قد قضى ما نريد فلا حاجة إِلَى الدعاء، وإن قضى بضده فلا فائدة في الدعاء، فالرد عليهم بما أوضحنا في أول الموضوع وهو أن الدعاء سبب من الأسباب، فكما أنني إذا رأيت وحشاً يهجم علي وعندي بندقية فسأطلقها عليه، ولا أقول: إن كَانَ قد قدر الله موتي فلا يفيد إطلاق النار، وإن لم يكن قدر الله موتي، فإنه لن يأكلني، نقول: لا، بل أطلق النَّار عليه وأدفعه عني؛ لأن إطلاق البندقية سبب لدفع المكروه، فكذلك يُقال في الدعاء: إنه سبب، فإن نفع هذا السبب واستجيب الدعاء فالْحَمْدُ لِلَّهِ، وإن لم يقع فنقول حينها قد اتخذنا السبب، وأقدار الله عز وجل لا غالب لها، ولا ينفع معها أي سبب من الأسباب.
ومن هنا نفهم أنهم مخالفون للعقل وللشرع، وأن الحق هو ما عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في هذه المسألة كما في غيرها من المسائل وهو الموافق للنصوص الشرعية، والموافق أيضاً للعقل والفطرة السليمة عند التأمل.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما قوله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11]
الشرح:
قال بعض العلماء عندما قرأوا هذه الآية: إن العمر يزيد وينقص، يعني: أن عمر الإِنسَانِ يقبل الزيادة والنقصان فلو أن الإِنسَان اجتهد في الطاعة أو بذل الأسباب من السلامة والوقاية فإن عمره يزيد، ولو أن الإِنسَان قصر في ذلك، فإن عمره ينقص وذلك بناء عَلَى أن الضمير في قوله تَعَالَى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11] يعود عَلَى ذات الإِنسَان الواحد.
فيرد عليهم المؤلف قائلاً: أنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر، لكن هذا الضمير عود لفظي فقط، وليس عائداً عَلَى حقيقة الشيء، فيكون تفسير الآية عَلَى هذا المعنى: لا يزيد عمر أحد ولا ينقص عمر أحد آخر، إلا كَانَ ذلك في الكتاب، فمن النَّاس من يمد الله في عمره حتى يصل إِلَى مرحلة الضعف الأخيرة (الشيبة) .
ومنهم من قضى الله بأن يموت وهو طفل وكل ذلك في كتاب، ومن ثُمَّ إذا قلنا: إن الآجال مقدرة ومضروبة، وأن كل ذلك في كتاب، وأنه قد تؤثر بعض الأسباب وبعضها لا تؤثر، فإن المعنى صحيح، وللقدر مراتب زمانية.
مراتب القدر الزمنية
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأما قوله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11]
فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: مِنْ عُمُرِه إنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحمل قوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38-39] عَلَى أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة، وأن قوله: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] اللوح المحفوظ. ويدل عَلَى هذا الوجه سياق الآية وهو قوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، ثُمَّ قَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ أي: من ذلك الكتاب، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل عَلَى هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِرَسُول لٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38] فأخبر تَعَالَى أن الرَّسُول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثُمَّ قَالَ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38-39] أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثُمَّ تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب] ا. هـ.
الشرح:
وقد سبق أن ذكرنا أن هناك تقديراً يومياً، وتقديراً سنوياً، وتقديراً عمرياً -على العمر كله- وتقديراً كونياً -على عمر الكون كله-، واللوح المحفوظ - أم الكتاب - قدر الله فيه الأمور الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل، وهو الذي في حديث (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب: قال وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة) ، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، أما التقدير اليومي في قوله عز وجل: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] فمعناه أنه يرفع ويخفض ويعطي ويمنع، وأما التقدير السنوي ففي ليلة القدر، وهي ليلة واحدة في العام فيقدر الله عز وجل فيها ما سيقع في ذلك العام، فهذا التقدير عَلَى مستوى العام في العمر كله، يعني كل سنة من سنين العمر الكوني فإن الله تَعَالَى يقدر في ليلة القدر من تلك السنة من الآجال والأرزاق والحياة والموت وما أشبه ذلك، والتقدير العمري هو ما يتعلق بالعمر وهو أن العبد - كما مر معنا في حديث عبد الله بن مسعود - إذا مرت عليه مائة وعشرون ليلة أو اثنتان وأربعون ليلة - كما في الرواية الأخرى التي صرحت بذلك (أن الملك ينفخ فيه الروح ويكتب فيها رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد) ، هذا التقدير عَلَى مستوى عمر الإِنسَان، أحد ماسبق من المراتب.
ولأجل هذه التقادير المختلفة اختلف العلماء في أيها يقع النسخ والتقدير، فذهب ابن عباس رضي الله عنه وأبو وائل شقيق بن سلمة ومجاهد وبعض العلماء من السلف أن التقدير السنوي الذي في ليلة القدر: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] يغير الله سبحانه وتعالى فيه ما يقضي وما يقدر.
أصل التقدير الثابت في اللوح المحفوظ لا يغير
لكن التقدير الذي لا يغير ما كَانَ في أم الكتاب، وعلى ذلك حملوا الآية في سورة الرعد لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38-39] أي: الآجال، كل أجل له كتاب والله عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت من هذه الآجال ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ المذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر [الأنبياء:105] ، فما كَانَ في اللوح المحفوظ فإنه لا يتغير ولا يتبدل ولا ينسخ منه شيء.
التغيير في صحف الملائكة
أما الصحف التي في أيدي الملائكة فهذه تقبل التغيير، والملائكة لا يعلمون الغيب إنما يأمرهم الله عز وجل أن ينقلوا من اللوح المحفوظ، ولهذا قال ابن عباس - لما تقول الملائكة يَوْمَ القِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]- ألستم عرباً؟ ألا تقرأون؟ فالملائكة تستنسخ بإذن الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يقدر الأقدار العمرية والسنوية ويأمر الملائكة بها؛ لكن المكتوب في اللوح المحفوظ الذي تستنسخه الملائكة هو النهاية الأخيرة التي لا تقبل التغيير والتبديل بأي حال من الأحوال، لذلك ذكر المصنف: إن زيادة ونقص العمر وأثر الأسباب في الآجال يحمل عَلَى الصحف التي في أيدي الملائكة، أو بمعنى أوسع. نقول: عَلَى القدر العمري أو القدر السنوي، أما أصل الكتاب فإنه لا يدخله التغيير ولا يدخله التبديل.
ثُمَّ قَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت [الرعد:39] أي: من هذه الآجال، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ التي لا محو فيها ولا تغيير وذهب البعض الآخرين من العلماء -من الذين لا يرون أثراً للأسباب في الآجال- إِلَى أن آية الرعد ليست في موضع علاقة الدعاء بالقضاء والآجال، وإنما هي في موضوع الشرائع.
فالكتابة -التي هي الكتابة القدرية الكونية القضائية- إنما هي في الشرائع والأديان بدليل أول الآية، كما قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38، 39] .
النسخ في زمن الشرائع
ويقولون: إن ظاهر الآية - وهذا الذي رجحه المُصْنِّف - يدل عَلَى أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بآيات، ولابشرائع من عند أنفسهم، وإنما يأتيهم بها الله سبحانه وتعالى، والله جعل لهذه الشرائع آجالاً لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38] ، فإذا انتهى الأجل بطلت تلك الشريعة والعمل بها، وتأتي شريعة أخرى تنسخها، ثُمَّ قال بعد ذلك: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] .
القول الراجح في هذه المسألة
وإن كَانَ لهذا القول الآنف الذكر وجه من القوة إلا أن المتأمل لا يرى تناسباً وتوافقاً بين تفسيرهم لأم الكتاب أنها شريعة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الشرائع وبين قوله: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ لكن إن قلنا: إن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ كَانَ ذلك المعنى مطرداً، وأما أول السياق وَمَا كَانَ َ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الرعد:38] ، فلا تعارض بينه وبين ما بعده؛ لأن الله عز وجل يبين أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بشيء من عند أنفسهم وإنما يأتون بأمر يعطيهم الله تبارك وتعالى ثُمَّ قال بعد ذلك: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد: 38] أي: أن الآجال مكتوبة ومقدرة سواء ما كَانَ منها للأعمار أو للشرائع أو لغيرها، فالعام لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، ثُمَّ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ تكون خاصة بالأقدار التي يقدرها الله عز وجل، ولا شك أن إعطاء الرسل الآيات هو من أقدار الله عز وجل أيضاً، فيكون في الآية انتقال من معنى إِلَى معنى آخر، مع وجود علاقة ورابطة بينهما، ولا يشترط أن تكون الآية إِلَى آخرها والآيات التي بعدها كلها في موضوع واحد وهو سياق أول الآية الأولى، هذا الذي يظهر والله أعلم، والذي يترجح وهو خلاف ما رجحه المُصْنِّف والله أعلم.
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [وفي الآية أقوال أخرى والله أعلم بالصواب] ، ومن أراد أن يطلع ويستفصل الأقوال الأخرى فليراجع تفسير ابن كثير رحمه الله للآية، فإنه أطال النفس في تفسير هذه الآية، وذكر الأقوال عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
ولأجل هذه التقادير المختلفة اختلف العلماء في أيها يقع النسخ والتقدير، فذهب ابن عباس رضي الله عنه وأبو وائل شقيق بن سلمة ومجاهد وبعض العلماء من السلف أن التقدير السنوي الذي في ليلة القدر: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] يغير الله سبحانه وتعالى فيه ما يقضي وما يقدر.
أصل التقدير الثابت في اللوح المحفوظ لا يغير
لكن التقدير الذي لا يغير ما كَانَ في أم الكتاب، وعلى ذلك حملوا الآية في سورة الرعد لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38-39] أي: الآجال، كل أجل له كتاب والله عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت من هذه الآجال ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ المذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر [الأنبياء:105] ، فما كَانَ في اللوح المحفوظ فإنه لا يتغير ولا يتبدل ولا ينسخ منه شيء.
التغيير في صحف الملائكة
أما الصحف التي في أيدي الملائكة فهذه تقبل التغيير، والملائكة لا يعلمون الغيب إنما يأمرهم الله عز وجل أن ينقلوا من اللوح المحفوظ، ولهذا قال ابن عباس - لما تقول الملائكة يَوْمَ القِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]- ألستم عرباً؟ ألا تقرأون؟ فالملائكة تستنسخ بإذن الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يقدر الأقدار العمرية والسنوية ويأمر الملائكة بها؛ لكن المكتوب في اللوح المحفوظ الذي تستنسخه الملائكة هو النهاية الأخيرة التي لا تقبل التغيير والتبديل بأي حال من الأحوال، لذلك ذكر المصنف: إن زيادة ونقص العمر وأثر الأسباب في الآجال يحمل عَلَى الصحف التي في أيدي الملائكة، أو بمعنى أوسع. نقول: عَلَى القدر العمري أو القدر السنوي، أما أصل الكتاب فإنه لا يدخله التغيير ولا يدخله التبديل.
ثُمَّ قَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت [الرعد:39] أي: من هذه الآجال، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ التي لا محو فيها ولا تغيير وذهب البعض الآخرين من العلماء -من الذين لا يرون أثراً للأسباب في الآجال- إِلَى أن آية الرعد ليست في موضع علاقة الدعاء بالقضاء والآجال، وإنما هي في موضوع الشرائع.
فالكتابة -التي هي الكتابة القدرية الكونية القضائية- إنما هي في الشرائع والأديان بدليل أول الآية، كما قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38، 39] .
النسخ في زمن الشرائع
ويقولون: إن ظاهر الآية - وهذا الذي رجحه المُصْنِّف - يدل عَلَى أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بآيات، ولابشرائع من عند أنفسهم، وإنما يأتيهم بها الله سبحانه وتعالى، والله جعل لهذه الشرائع آجالاً لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38] ، فإذا انتهى الأجل بطلت تلك الشريعة والعمل بها، وتأتي شريعة أخرى تنسخها، ثُمَّ قال بعد ذلك: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] .
القول الراجح في هذه المسألة
وإن كَانَ لهذا القول الآنف الذكر وجه من القوة إلا أن المتأمل لا يرى تناسباً وتوافقاً بين تفسيرهم لأم الكتاب أنها شريعة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الشرائع وبين قوله: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ لكن إن قلنا: إن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ كَانَ ذلك المعنى مطرداً، وأما أول السياق وَمَا كَانَ َ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الرعد:38] ، فلا تعارض بينه وبين ما بعده؛ لأن الله عز وجل يبين أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بشيء من عند أنفسهم وإنما يأتون بأمر يعطيهم الله تبارك وتعالى ثُمَّ قال بعد ذلك: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد: 38] أي: أن الآجال مكتوبة ومقدرة سواء ما كَانَ منها للأعمار أو للشرائع أو لغيرها، فالعام لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، ثُمَّ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ تكون خاصة بالأقدار التي يقدرها الله عز وجل، ولا شك أن إعطاء الرسل الآيات هو من أقدار الله عز وجل أيضاً، فيكون في الآية انتقال من معنى إِلَى معنى آخر، مع وجود علاقة ورابطة بينهما، ولا يشترط أن تكون الآية إِلَى آخرها والآيات التي بعدها كلها في موضوع واحد وهو سياق أول الآية الأولى، هذا الذي يظهر والله أعلم، والذي يترجح وهو خلاف ما رجحه المُصْنِّف والله أعلم.
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [وفي الآية أقوال أخرى والله أعلم بالصواب] ، ومن أراد أن يطلع ويستفصل الأقوال الأخرى فليراجع تفسير ابن كثير رحمه الله للآية، فإنه أطال النفس في تفسير هذه الآية، وذكر الأقوال عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
سعة علم الله وإحاطته بما كان وما لم يكن
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[فإنه سبحانه يعلم ما كَانَ وما يكون، ومالم يكن أن لو كَانَ كيف يكون، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] . وإن كَانَ يعلم أنهم لا يُردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23] وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية الذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده، وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.
الشرح:
قول الإمام الطّّحاويّ رحمه الله: [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم] . شرحها المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بالعبارة المعروفة التي نعتقدها في حق الله عز وجل، وفي علمه، وهو أنه جل شأنه يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون، وهذه هي الإحاطة الكاملة بكل ما هو مندرج تحت إمكان العلم، فيعلم ما كَانَ جل شأنه لا يخفى عليه شيء مما مضى، ولهذا لما قالفرعون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] قال موسى عليه السلام: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] سبحانه وتعالى، فهو يعلم الماضي بكل دقائقه وتفاصيله، وأما نَحْنُ فما كلفنا أن نعلم هذه التفاصيل، وإنما كلفنا أن نأخذ العبرة والعظة من مصارع الله في الكون، وأيضاً يعلم الله جل شأنه ما يكون، ويعلم ما سيكون، وهذه هي العقبة التي تقف عندها جميع العقول وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت [لقمان:34] .
أي أن كل العقول البشرية، والعلم البشري مهما توصل إليه، ومهما حاول أن يتقدم لا يمكن أن يعرف ما سيكون بعد لحظة واحدة، وفي هذا إفحام من الله عز وجل لهَؤُلاءِ المخلوقين، فهذا العلم استأثر الله به وحده سبحانه وتعالى فهو الذي يعلم ما كَانَ وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.
ومن ذلك هذه الآية وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] فهَؤُلاءِ الكفار إذا وقفوا عَلَى النَّار يقولون: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [الأنعام:27] أي يتمنون أن يعودوا إِلَى الدنيا ولئن عادوا فلن يكذبوا بزعمهم، بل ويكونوا من الموقنين، ومع ذلك يقول الله عز وجل: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] ؛ لأن مسألة الكفر والإيمان ليست متعلقة بقضية أنهم رأوا الحق أو لم يروا الحق؛ بل هي مسألة استكبار وعناد في نفوس الكفار، كما قال الله في آية أخرى وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15،14] فالكبر والعناد الذي في أنفس الكفار يجعلهم لا يقبلون الحق مهما رأوا من آيات الله في ذلكوَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأعراف:146] نسأل الله أن يعافينا من الكبر ومن الاستكبار والعناد وأن يرزقنا الإخلاص والانقياد والإذعان لأمره والتسليم له.
وأيضاً قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُم [الأنفال:23]-على افتراض ذلك- لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23] .
إذاً هو يعلم جل شأنه ما كَانَ وما سيكون وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.
قَالَ: وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية.
الغاية من الخلق
قالالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته]
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ذِكرُ الشيخ رحمه الله الأمر والنهي، بعد ذكره الخلق والقدر، إشارةً إِلَى أن الله تَعَالَى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] اهـ.
الشرح:
بعد أن ذكر الطّّحاويّ أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وقدر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً، وأنه لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، قَالَ: وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته.
فالكلام الأول يتعلق بالأمر الكوني، وهو أنه عز وجل خلق الخلق وقدر الآجال، وعلم ما كَانَ وما سيكون، وهذا أمره وقضاؤه وقدره الكوني.
ثُمَّ انتقل إِلَى الحديث عن أمره الشرعي، فقَالَ:(وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته) كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] .
والأمر والنهي ابتلاء من الله عز وجل لبني آدم، ولذلك كَانَ الخيار لهم فيه، فمع تقديره لآجالهم وأرزاقهم، وعلمه ما سيعملون كوناً وقدراً ابتلاهم بالأمر والنهي؛ ليطيعه من أطاعه فينجو، وليعصيه من عصاه فيهلك، فينجوا هذا عن بينة، ويهلك هذا عن بينة، وتقوم الحجة عليهم من أنفسهم.
آثار صفات الله وأسمائه
تظهر آثار صفات الله وأسمائه، لما سمى نفسه الغفور الرحيم ظهر أثر مغفرته ورحمته لهذا المخلوق، وهو رحمته به والتوبة عليه إذا أذنب واستغفر، ولما سمى نفسه الكريم سبحانه وتعالى ظهر أثر كرمه، وهو أن العبد يفعل الحسنة التي لا حول له فيها ولا قوة؛ بل هي من الله عز وجل الذي وفقه لها وأعطاه القوة عليها، ثُمَّ يقابله الله عز وجل بأن يجعل له عشرة أمثالها إِلَى سبعمائة ضعف، إِلَى أضعاف كثيرة، ولهذا الموضوع علاقة قوية بالدعاء.
علاقة الدعاء بصفات الله وأسمائه
ذكر ابن عقيل رحمه الله في كتابه الفنون أن من حكم مشروعية الدعاء أنه يدل عَلَى صفات الله جل وعلا، فمن ذلك الوجود لأنه لا يدعى إلا وهو موجود، ومن ذلك الغنى لأن الفقير لا يدعى، فمن دعا الله عز وجل فهو مؤمن ومثبت لصفة الغنى، وهو أن الله عز وجل غني والعبد هو الفقير الذي يحتاج إِلَى الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أيضاً أنه كريم؛ لأنه يوجد من الأغنياء من هو بخيل، ولكن الله عز وجل غني ومع ذلك كريم سبحانه وتعالى فإنه يعطي حتى الكافر إذا دعاه في ساعة الشدة، وهكذا نجد أن الدعاء يتضمن هذه الصفات، فكذلك جميع أنواع العبادة تتضمن الإثبات، وظهور آثار صفات الله عز وجل وأسمائه سبحانه وتعالى.
فالله عز وجل خلق الخلق وقدر لهم الأقدار، ثُمَّ أنزل لهم هذه الشرائع وأعطاهم المشيئة والقدرة والاختيار عَلَى أن يختاروا: طريق الإيمان أو طريق الكفر، وهذا الموضوع كله لا يزال دائراً في مسألة القدر وعلاقة ذلك بعلم الله وتقديره سبحانه وتعالى وبمشيئته جل شأنه.
ولهذا نجد أن المُصْنِّف استمر في هذا الكلام كما سيأتي.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإِنسَان:30] وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام:111]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] . وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] وقال تَعَالَى حكاية عن نوح عليه السلام إذ قال لقومه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34] وقال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39] إِلَى غير ذلك من الأدلة عَلَى أنه ما شاء الله كَانَ ومالم يشأ لم يكن.
وكيف يكون في ملكه ما لا يشاؤه؟! ومن أضل سبيلاً وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر، والكافر شاء الكفر، فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله!! تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فإن قيل: يشكل عَلَى هذا قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] الآية وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] .
وقوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:20] فقد ذمهم الله تَعَالَى حيث جعلوا الشرك كائناً منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إِلَى الله تَعَالَى إذ قَالَ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39] .
قيل: قد أجيب عَلَى هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته عَلَى رضاه ومحبته، وَقَالُوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه، فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك.
أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل عَلَى أمره به، أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة عَلَى جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره، دافعين بها لشرعه، كفعل الزنادقة، والجهال إذا أُمروا أو نُهوا احتجوا بالقدر.
وقد احتج سارق عَلَى عُمَر رضي الله عنه بالقدر، فقَالَ: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
يشهد لذلك قوله تَعَالَى في الآية: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148] .
فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل، من أين له أن الله لم يقدره؟ أطلع الغيب؟
] اهـ.
الشرح:
هذه الفقرة كلها متماسكة، وموضوعها هو موضوع الاحتجاج بالقدر، وإثبات مشيئة الله عز وجل، والرد عَلَى المحتجين بالقدر وهو رد عَلَى بعض شبهاتهم، كما في الشبهة الإبليسية والشبهة الشركية، شبهة الْمُشْرِكِينَ وشبهة إبليس اللعين حينما احتج هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ بقدر الله تعالى.
يقول أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته سبحانه وتعالى، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن] .
الأدلة على المشيئة الكونية
واستدل الشارح عَلَى ذلك بالآيات الكثيرة المعروفة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] وأمثال ذلك من الآيات، كما في قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125] ونحوها من الآيات التي تدل عَلَى أن مشيئة الله عز وجل شاملة ونافذة، لا يندُّ ولا يخرج عنها شيء رداً عَلَى دعوى المجوس، ومن اتبعهم في ذلك من هذه الأمة، وهم القدرية من المعتزلة وغيرهم
إن الله سبحانه وتعالى قد كتب مقادير كل شيء، وما شاءه الله سبحانه وتعالى فهو كائن، فلا بد من هداية المهتدي، وإضلال المضل، وكفر الكافر، وإيمان المؤمن فكل ذلك لا يخرج عما شاءه الله عز وجل، وعما كتبه، وعما قدره وقضاه.
الشبهة الإبليسية
أما الشبهة التي وقعت لإبليس اللعين من قبل لما قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْض [الحجر:39]، كأنه يقول: إن ما سوف أفعله من التزيين ومن الإغواء إنما هو بسب أنك أغويتني، يعني: كأن هذا سببه هذا.
الشبهة الشركية
والمُشْرِكُونَ لما قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] .
فاحتجوا عَلَى عبادتهم للأصنام بأن الله سبحانه وتعالى لو شاء ما أشركوا، وعلى تحريم ما أحل الله بأن الله عز وجل لو شاء ما حرموا من دونه من شيء، كما في سورتي الأنعام والنحل، وأنهم لو شاء الله ما عبدوا هذه الآلهة. والرد عَلَى إبليس وعلى الْمُشْرِكِينَ قد سبق بيانه في أكثر من مرة عند تعرضنا لموضوع القدر، ومن الردود عَلَى ذلك ما ذكره المُصْنِّف بقوله:
الرد على الشبهة الإبليسية والشركية
(من أولى الأوجه ومن أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته عَلَى رضاه ومحبته) فحجة الْمُشْرِكِينَ قولهم: ما دام أن الله شاء أن نعبد الأصنام إذاًً هو راضٍ أن نعبدها، ولهذا جَاءَ تكذيبهم بأن الله بعث الرسل، وقد قال تَعَالَى في سورة النحل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فليس الأمر كما يزعمون، فإذا كَانَ الله تَعَالَى راضياً بما هم عليه من الشرك فلماذا يرسل رسلاً ينهون عنه، وينزل عليهم كتباً فيها تكفيريهم واستباحت دماءهم وأموالهم؟!! إذاً لا تدل مشيئته عَلَى رضاه ومحبته، ولا تلازم بين المشيئة وبين المحبة.
الوجه الثاني في الرد عَلَى شبهتهم في اعتقادهم أن مشيئة الله دليل عَلَى أمره به، فيقولون: إنه ما دام أن الله شاءه، فقد هو أمر به وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] والعياذ بالله، وهذه حجة من حجج الكفار الباطلة وهي: أنهم يحتجون عَلَى ما يفعلون بأن الله أمر به، والله سبحانه وتعالى لا يأمر بالفحشاء، ولذلك قَالَ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] هذا من التقول عَلَى الله بلا علم؛ لأنه لا يأمر بالفحشاء سبحانه وتعالى.
الوجه الثالث: أنهم عارضوا مشيئة الله وقدره بشرعه، فردوا شرعه الذي أنزله عَلَى رسله وكتبه بمشيئته، وهذا من باب العناد ومن باب الاستكبار عَلَى الله عز وجل أن يرد أمره ووحيه بمشيئته وقدره، ولذلك قال في سورة الأنعام: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148] أي أن هذا التكذيب حصل من الكفار، فليس قول هَؤُلاءِ الكفار أو إبليس اللعين يعني أنهم يثبتون قدر الله عز وجل ويؤمنون به، لا.
إنما قالوه اعتراضاً منهم عَلَى الأمر وعلى التوحيد، ومثل هذا ما اعترض به السارق عَلَى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال السارق: كيف تقطع يدي يا أمير المؤمنين وما سرقت إلا بقدر الله وقضاءه؟! واحتج بالقدر عَلَى فعل المعاصي.
فأجاب أمير المؤمنين بجواب الموحدين. فقَالَ: أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله.
فقطع يده فعلمنا أن الله قدر أن تقطع يده، ولو لم يشأ الله أن تقطع يده، لما قطعها عُمَر.
إذاً هذه بقدر الله وتلك بقدر الله، لأنه لا تعارض بين أمر الله شرعه وقدره، ولا تعارض بين إقامة الحد وبين القدر؛ لأن الحدود إنما تقام بقدر الله عز وجل، وهذا دليل عَلَى كمال فهم الصحابة رضي الله عنهم لهذه الأمور، لا كما يقول المتفلسفة والمتكلمون: إن الصحابة ما عرفوا هذه المسائل ولا أتقنوها ولا فهموها ولا استوعبوها؛ بل كانوا مشتغلين بالجهاد في الفتوحات، وليس الأمر كذلك؛ بل كانوا يفهمون ذلك غاية الفهم، ولكن لم يخوضوا فيها ولم يحتاجوا أن يتحدثوا عنها إلا بما ورد، وهو كثير وكافٍ لمن أراد الحق، ومن ذلك هذا الأثر المشهور.
(11,686) >إن إثبات المشيئة الكاملة النافذة لله تَعَالَى التي ذكرها المُصنِّفُ رحمه الله لا يعني أن يحتج المحتجون من العصاة والفجار بالقدر فيفعل أحدهم الذنب ويقول: إن الله قدره علي، وهذا الإثبات رد عَلَى الذين ينكرون القدر بحجة إنكار الله عَلَى من يحتج بالقدر، فإن الله أنكر عَلَى الذين يحتجون بالقدر بقوله: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] وقوله: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] فأنكر عليهم هذا.
فقال الذين ينكرون القدر: إذاً فليس لله مشيئة لأن الكفار والْمُشْرِكِينَ احتجوا بالمشيئة، والله تَعَالَى قد أنكر عليهم هذا القول، فعلى هذا فالله ينكر عَلَى من يثبت المشيئة، وقولهم هذا غير صحيح.
فالله ينكر عَلَى من يحتج بالمشيئة عَلَى الرضا، فإن الله شاء أن يكفر الكفار بدليل أن الكفر واقع منهم، فيوجد في الأرض كفار، وهذا الذي نراه في الكون عليكم أن تؤمنوا أن الله شاءه وقدره، وإلا أن تقولوا: إن الله يقع في ملكه وكونه ما لا يشاؤه، فيلزمكم أن تقولوا أحد الأمرين إما: أن العبد يعمل مالم يشاؤه الله ولم يأذن به وهذا لا يقول به مسلم، وإما أن تؤمنوا بالقدر، وقد سبق شرح الآيات التي في الأنعام والزخرف والنحل في موضوع القدر مثل قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] وقوله: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا [النحل:35] .
وقوله: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] بالأوجه التي ذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، والتي من أجلها ومن أوضحها أن الكفار احتجوا بأن الله تَعَالَى لو شاء ما عبدوا هذه الأصنام وعليه فعبادة الأصنام هذه حق والله تَعَالَى راضٍ، بها وأيضاً فدعوى الأَنْبِيَاء مردودة عندما قالوا: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] كيف ذلك؟
قال المُشْرِكُونَ للأنبياء: لو أن الله لا يرضى منا أن نعبد الأصنام لما شاء ذلك، وما دام أنه قد شاء وقد وقع منا الشرك فهو راضٍ به، فنحن نرد كلامكم ولا نقبل دعواكم. وهذه هي شبهة الْمُشْرِكِينَ قديماً كما قال تعالى: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]، أي: أن تكذيب الْمُشْرِكِينَ للنبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم أمم من قبل ذلك في تكذيب غيره من الأَنْبِيَاء ولذلك رد الله تَعَالَى عليهم فقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فلو كَانَ هذا مما يرضى الله به لما بعث الرسل ينكرون وأيدهم بالحجج والبينات الظاهرة التي تقطع كل دعوى ومنها هذه الشبهة. ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] فجعل الله تَعَالَى الهداية فضلاً منه فقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ فهذا توفيق من الله وفضل ونعمة منه تعالى، وأما الضلال فَقَالَ فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فهذا من فعلهم فهم أعرضوا عن الحق فلم يوفقهم للإيمان عدلاً منه تعالى وهذا ما سيأتينا عند قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى: [وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله] فنحن في كل الأمور نتقلب بين فضل الله وعدله.
تعذيب الله لعباده بسبب ذنوبهم ليس فيه ظلم لهم
أما الظلم فإن الله لا يظلم أحداً كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40] لأن الله تَعَالَى غني عن العالمين فما الذي يدفعه إِلَى ظلمهم وهو غني عنهم سبحانه وتعالى وهو الذي يقول كما أخبر عن نفسه في الحديث القدسي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا عَلَى اتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) .
فلماذا يظلمهم؟ وهو الغني وهم فقراء إليه، وهو القادر عليهم في كل حال، وهم الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة أمام قدرته تبارك وتعالى وهو الذي خلقهم ومَنَّ عليهم وأسبغَ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ولو شاء لما خلقهم ولما أوجدهم، فمهما فكَّر الإِنسَان بنظره وبعقله فإنه يجد أن الله تبارك وتعالى غير محتاج إِلَى أن يظلم العباد وأنه تَعَالَى بريء من الظلم إذاً: فالبشرية يتقلبون بين فضل الله وعدله أما الذين يحتجون بالقدر فهذا من باب اتهام الله سبحانه وتعالى أنه ظالم للعبد، بمعنى: أن الله تَعَالَى يقدر عَلَى العبد الذنب ويرغمه عليه ثُمَّ يحاسبه عليه فلا خيار للعبد في هذا الفعل ولا إرادة له وهذا ظلم قبيح لا يليق بأي مخلوق فكيف يليق بالله تبارك وتعالى؟
أقسام الناس في القدر
لقد ضل النَّاس في القدر عَلَى فرقتين الجبرية والقدرية، فالقدرية ابتدأ أصلهم منغيلان الدمشقي ومعبد الجهني وهَؤُلاءِ كانوا في أواخر عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- في زمن التابعين، وأظهرا بدعة إنكار القدر ولهذا لما ظهر معبد الجهني وأنكر القدر بالبصرة جَاءَ التابعي من البصرة فحدثه ابن عمر بالحديث عن أبيه عُمَر بما رآه من مجيء جبريل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فالكلام في القدر حدث من أيام التابعين، من معبد الجهني بالبصرة ومن غيلان الدمشقي بالشام، والجبر حدث بعد ذلك من الجهم بن صفوان المتوفي سنة 128هـ.
ثُمَّ تطور كلٌ من المنهجين من مجرد فكرة بسيطة -ومجرد إنكار للقدر أو إثبات له- كما تتطور الأفكار عادة فتدخل فيها الحوارات والنقاشات والآراء ثُمَّ تتطور وتتسع دائرتها حتى تصبح ألغازاً وهذا ما وقع في باب القدر.
فأصبح المعتزلة الذين ابتدأ أصلهم منواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الذين كانوا في مجلس الحسن البصري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كانوا قدرية، وهم أنفسهم المعتزلة تعددت مآربهم ومشاربهم في أبحاث فرعية فرعوها عن باب إنكار القدر، وقد انقرض مسمى الجهمية ولكن ورث الجهم في مسألة الجبر أبو الحسن الأشعري الذي جَاءَ بنظرية الكسب وطلابه إِلَى الآن عَلَى ذلك، وهم أنفسهم عاجزون عن إيضاح هذه النظرية، ولهذا قال فيهم الشاعر:
مما يُقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنو إِلَى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عند البهـ شمي وطفرة النظام
هذه ثلاثة أشياء عجزت العقول عن معرفتها، وعجز أصحابها عن شرحها وإيضاحها للناس.
إن حقيقة مذهب الكسب عند الأشعرية أنه يؤول كثيراً بهم الأمر إِلَى الجبر ولذلك يقول الخطيب البغدادي صاحب كتاب الفرق بين الفرق: وهو كثير ما يقول قالأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أو أجمعأهل السنة فلا بد أن ننتبه فهو لا يقصد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنما يقصد الكلابية والأشعرية.
ومن ذلك عندما يقول مثلاً: "وأجمع أهل السنة عَلَى سكون الأرض "فلو أتى أحد وقَالَ: عندنا دليل عَلَى أن الأرض تدور، وهذا الموضوع لا يهمنا؛ لأنه لا يدخل في مباحث العقيدة والدين؛ ولكن عندما يأتي شخص وينسب هذا إِلَى أهل السنة فقد يتضح الأمر خلاف ذلك، أو قد يقول به أحد من أهل السنة فيقول المخالف لأهل السنة هذا الإجماع خطأ، والإشكال ليس في أن أهل السنة أجمعوا عَلَى هذا أولاً: الخطأ في أن البغدادي يقول أهل السنة ونحن نظن أنه يقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بينما هو يعني المتكلمين من الكلابية والأشعرية.
ولذا نحذر من أمثال هذه الكتب واصطلاحتها.
والبغدادي هو من أوضح من أراد أن يفسر نظرية الكسب وعلاقتها بالجبر أو القدر فقَالَ: إن فعل العبد مع الله مثلاً: لو أن رجلين يحملان حجراً كبيراً، وأحد الرجلين كبير والآخر صغير، والصغير لا يستطيع أن يحمل الحجر بمفرده لا بد أن يحمله معه الكبير، والكبير يستطيع أن يحمل الحجر بمفرده، فإذا تعاونا وحملا الحجر مع بعض، فإننا لا نكون مخطئين حينما نعاقب الصغير، لأنه أيضاً حمل الحجر وإن كَانَ وحده لا يستطيع حمل الحجر.
فيشبه قدرة الله بقدرة الكبير وقدرة الصغير بقدرة العبد، والقدرتين تتعاون مع بعض في فعل الذنب، فإذا فعل أحد ذنباً فقدرة الله في نظره، كالرجل الكبير وقدرة العبد مثل الصغير، فإذا عاقب الله العبد لم يكن ظالماً، وهذا كما تلاحظون أقرب شيء إِلَى أن العبد مجبور؛ لأن الصغير مادام أنه لا يستطيع وحده أن يحمل أي شيء، وما دام أن الكبير هو وحده الذي حمل فاللوم والعقوبة تتوجه إِلَى الكبير هذا في حكم البشر، وهذا مما يدل عَلَى خطأ هَؤُلاءِ النَّاس وعلى أنهم لم يؤمنوا بالقدر مثل ما آمن به السلف الصالح وهذا الكلام جرّأ الذين ينكرون القدر بأن ينكروه ولا يؤمنوا به نهائياً.
والحديث الذي سنذكره الآن من أعظم الأدلة التي احتج بها الأشعرية عَلَى مذهبهم، ولكن المعتزلة والقدرية تجرؤوا أيما تجرؤ، فأنكروا الحديث الذي هو حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن قيل: فما تقولون في احتجاج آدم عَلَى موسى عليهما السلام بالقدر إذ قال له أتلومني عَلَى أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاماً، وشهد النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حج موسى أي غلب عليه بالحجة، قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة لصحته عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتلقاها بالرد والتكذيب لراويه، كما فعلت القدرية ولا بالتأويلات الباردة؛ بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر عَلَى الذنب، وهو كَانَ أعلم بربه وذنبه؛ بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر، فإنه باطل، وموسى عليه السلام كَانَ أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم عَلَى ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم عَلَى المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر عَلَى المصيبة لا عَلَى الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعايب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضى بالله رباً، وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب فيتوب من المعايب ويصبر عَلَى المصائب، قال تعالى: فَاصبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55] وقال تعالى: وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] .] اهـ.
الشرح:
هذا الحديث ثابت وصحيح باتفاق الحفاظ وعلماء الحديث وقد رواه الإمام البُخَارِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في صحيحه ومن أشهر من رواه الإمام: أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد في باب إثبات اليد لله تعالى؛ لأنه ورد في أكثر روايته في قول آدم عليه السلام: (يا موسى أنت كليم الله وأنت نبي الله الذي كلمه الله من وراء حجاب وكتب له التوراة بيده) وذكر روايات كثيرة لهذا الحديث وكذلك ذكر الحافظابن حجر فيالفتح أنه روي من عشر طرق عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وكذلك رواه الإمام البُخَارِيّ في كتاب القدر، والمعروف عند علماء الحديث أنه إذا طعن أحد في صحة الحديث، أو تكلم في سنده أو متنه من واقع كونه عالماً من علماء السنة وعالماً من علماء الحديث، فإننا نقبل كلامه من حيث المبدأ ولا اعتراض عليه أن ينقض حديثاً ما، لكن علينا أن نتبين فقد يكون مخطئاً في الاعتراض.
فنقول: تضعيف فلان للحديث خطأ هكذا يرد عليه علماء الحديث الآخرون، لكن هذا الحديث لم يضعفه أحد من علماء الحديث.
فإن قيل ما الفرق بين تضعيف أحد علماء الحديث لحديث وبين رد أحد آخر غيره؟ نقول: الذي ليس من علماء الحديث؛ بل من المتكلمين ويرد الحديث ويقول: أنا أرده بالعقل كما قال بعضهم في حديث موسى مع ملك الموت لما لطمه: لا يمكن أن يصح، ولو رواه البُخَارِيّ في صحيحه، ولا يوجد عنده أي عذر في السند أو المتن؛ وهذا الرد والاعتراض والإنكار ليس مبني عَلَى علم وبصيرة بل عَلَى هوى، فالحديث إذاً ثابت وصحيح وأما ما فعلته الجبرية والقدرية فكما قال الإمام المقبلي صاحب كتابالعلم الشامخ في تفضيل الحق عَلَى الآباء والمشايخ وهو كتاب عظيم فيه فوائد عظيمة وفيه رد عَلَى المتكلمين وعلى الصوفية كابن عربي وأمثاله، وإن كَانَ عليه بعض الملاحظات التي لا يخلوا منها بشر؛ لكنه كإنسان متحرر من التقليد يعتبر رجلاً مجدداً؛ لأنه عاش في القرن الثاني عشر الهجري، فيقول -وكلامه صحيح-: هذا الحديث قد أطال فيه الأشعرية جداً حتى كأنهم جعلوا آدم عليه السلام أشعرياً وموسى عليه السلام معتزلياً، فهَؤُلاءِ أخذوا بطرف وهَؤُلاءِ أخذوا بطرف وعجزوا عن فهم الأحاديث، حتى أن كثيراً من كتب علم الكلام وخاصة الكتب الأشعرية التي هي أكثرها انتشاراً إذا وصل مصنفوها إِلَى هذا الحديث قالوا: وهذا الحديث مشكل، فيستدلون به عَلَى مذهبهم ويردون به عَلَى المعتزلة بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأخير:(فحج آدم موسى) فهم يحتجون بالقدر ويثبتونه إِلَى حد أنه جبر، لكنهم يردون به عَلَى المعتزلة فإذا رجعوا إِلَى أنفسهم قالوا هذا الحديث مشكل، ومعناه غير مفهوم لنا؛ لكنهم لا يرضون أن يحتج به المعتزلة أما المعتزلة والقدرية فإنهم ينكرون الحديث.
سبب ردّ القدرية حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام
ومن أسباب رد القدرية لهذا الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (فحج آدم موسى) ولهذا فإن بعض المعتزلة قالوا: نَحْنُ لا ننكر الحديث لكن نقول: (فحج آدمَ موسى) يجعلون موسى هو الذي غلب آدم عليه السلام بالحجة، ويقولون: إننا عندما نعترض عَلَى الذين يقولون بالقدر معنا حق، لأنه قد سبقنا إِلَى ذلك موسى عليه السلام فنحن نعترض، ولذلك من حقنا إذا قال أحد: إن الله قدر كذا أن نقول له: أنت الذي فعلت ذلك، ولم يقدره وننكر القدر؛ لأن موسى عليه السلام قال لآدم عليه السلام: أنت أبونا أخرجتنا من الجنة وخيبتنا وفعلت وفعلت فلامه ولم يقبل منه الاحتجاج بالقدر ورواية (فحج آدم موسى) تعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط قال هذه الكلمة، فيجعلون الفاعل هو موسى، والمفعول هو آدم.
الرد على من رد حديث المحاجة
ويرد عليهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في بعض الروايات (فحجه آدم) وهذا الحديث واضح لمن تأمله، وأن الذي غلب بالحجة هو آدم عليه السلام، فعلينا أن نأخذ روايات هذا الحديث ونتأمل معناه ونأخذ خلاصته ونرى هل هو مشكل إِلَى هذا الحد؟ أم أن الإشكال ورد عند الشبهات.
فلو أن كل أحد جعل في نفسه قاعدة، وهي أنك تأخذ الحق من الكتاب والسنة، وكلما أتاك حديث آمنت به، ثُمَّ اطلعت عَلَى معناه إن لم تفهمه، أو تسأل أهل الذكر عن معناه حتى تفهمه، فإنك بذلك لا تجد أي إشكالٍ بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأن هذا الدين لا تناقض فيه أبداً كما قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] فهو من عند الله والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم أيضاً من عند الله كما قال الله في نبيه صلى الله عليه وسلم وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] فلا يمكن أن يكون هناك اختلاف أو تناقض.
وإن أشكل شيء فإنما قد يشكل عَلَى عقول بعض النَّاس لكن لو ردوه إِلَى أهل العلم وأهل الذكر لزال هذا الإشكال، فأكثر روايات الحديث عَلَى كثرتها وكثرت ألفاظها فيها أنه (لقى موسى آدم عليه السلام .
ومن الممكن أن يقَالَ: أين لقي آدم موسى.
يقول لبعض العلماء: إنه لم يلقه وإنما هذا سيكون إذا التقيا في الآخرة والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن شيء سيقع وهذا خلاف ظاهر الحديث.
فما الذي يجعلنا نقول: إنه لم يلقه وإنما سوف يلقاه؟ بل نقول: لقيه وعادت الأرواح في الملأ الأعلى ونحن لا ندرك منه شيئاً إلا ما جاءنا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم لكن عندنا علم أن الأرواح تتلاقى وتتزاور وتتخاطب وأن لها أموراً لا نعلمها عند الله تَعَالَى لا نعلمها وأكمل حياة برزخية هي للأنبياء، ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم قابلهما وقابل غيرهما من الأَنْبِيَاء ليلة أسري به إِلَى السماء، ودار بينهما هذا النقاش وهذه المحاجة عندما لقي موسى آدم.
وهذا الحديث أيضاً فيه دليل عَلَى إثبات اليد لله تَعَالَى كما في آخره (وكتب لك التوراة بيده) في كلا القولين عَلَى هذه الرواية إثبات اليد لله تَعَالَى.
ولا حجة لمن يحتج بالقدر عَلَى الإطلاق، لأن هناك شيئين: هناك ذنب أو معصية فعلها آدم عليه السلام وهي أنه أكل من الشجرة، وترتب عَلَى الأكل من الشجرة عقوبة ربانية من الله ليكون درساً لآدم وذريته، ألا يطيعوا الشيطان ولا يتبعوا سبيله وغيرها من الحكم الكثيرة، وهناك شيء آخر وهو: إخراج الله تَعَالَى آدم عليه السلام بأن قال له: أنت الذي أذنبت، وأنت الذي عصيت وأنت الذي أكلت من الشجرة؟ لا، فلم يكن اللوم متوجه إِلَى المعصية، ولو قلنا ذلك؛ لكان موسى لائماً بهذا، ولقال له آدم في الجواب: هذا ذنب قد غفره الله لي، فإذا غفر الله لعبد ذنباً لا يحق لأحد من المخلوقين أن يقول له: لماذا تخطئ وتذنب قد غفر الله لك، فإن الله هو الذي يحاسب العبد وليس للعبد أن يُحاسب عبداً هذه المحاسبة في ذنب قد غفر الله تَعَالَى له، فاتضح بهذا أن السؤال لم يكن هكذا ولكن قال أنت أخرجتنا وخبيتنا فكان جواب آدم عليه السلام لست أنا الذي أخرجتكم فآدم عليه السلام، ليس هو الذي أخرجنا وقد بكى الأعوام الطوال -كما يروى- (أن دموعه خطت خديه، ونزلت إِلَى الأرض) لأنه لما أنزل من النعيم الذي في الجنة إِلَى هذا التراب بكى وندم، فالإخراج ليس بإرادة آدم عليه السلام فلذلك احتج ورد عليه، قال له:(أتلومني عَلَى أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة) فأنا ما خرجت ولا أخرجتكم هذا معنى كلام أبينا آدم عليه السلام لكن الإخراج والإنزال إِلَى الأرض كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة
معنى التقدير قبل أربعين سنة
وقد بحث بعض العلماء في معنى تقدير الله قبل أن يخلق آدم بأربعين سنة، قالوا: لماذا يقول آدم أربعين سنة مع أن الله قدر مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، والأظهر والله أعلم في معنى هذه الأربعين أنها الفترة التي لم يكن آدم فيها مذكوراً، كما جَاءَ في الحديث الصحيح في تفسير قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الانسان:1] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعون سنة) فيقول آدم منذ أن خلقني الله تَعَالَى من الطين قبل أن ينفخ فيَّ الروح كتب أنه ينزلني إِلَى الأرض.
ويظهر أن هذا وقت الخطاب من الله للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] وهذا الكلام موجود في التوراة ولهذا قال آدم يا موسى أتلومني عَلَى أمر تجده عندك في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق بأربعين عاماً كيف تقرأ في التوراة أن الله سيجعل في الأرض خليفة والملائكة تعترض عَلَى ذلك ثُمَّ يعيبهم الله تَعَالَى بعد ذلك، وتأتي وتلومني وتقول أنت الذي أخرجتنا وأنت الذي خيبتنا.
فالإخراج والإنزال إِلَى الأرض مكتوب علي قبل أن أخلق.
فهناك فرق بين الإخراج وبين الذنب فالذنب وقع من آدم أما الإخراج فهو من الله تعالى، وكذلك أن آدم تاب وموسى يعلم أن الله قبل توبته فلا يمكن لموسى أن يعاتب عَلَى الذنب وقد تاب منه وغفر الله تَعَالَى له.
مثال ذلك: لو أن رجلاً كَانَ كافراً ويشرب الخمر أو يأكل الميتة ثُمَّ أسلم، فأتى شخص وقال له أنت في جاهليتك شربت الخمر أو أكلت الميتة هل هذا كلام يقال؟ لاأحد يقوله؛ لأنه سيقول له: أنا أسلمت والإسلام يجب ما قبله، وكذلك التوبة تجب ما قبلها فلذلك عندما تأتي فالقدرية ومنهم كثير من الصوفية حتى صاحب منازل السائرين يقولون: لا تنكرون عَلَى أصحاب المعاصي؛ لأن الكل في العبودية سواء فأنت ومن يفعل المنكر سواء في العبودية والذي ينكر عليه ويحاسبه هو الله تَعَالَى أما أنت فإذا رأيت أحداً يعمل شيئاً فقل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] وهذا القول من أسقط الأقوال أبعدها عن الكتاب والسنة لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والشعائر العظيمة تبطل بهذا القول.
خطر من يحتج بالقدر على المعاصي
إن غرض هَؤُلاءِ أنهم يريدون أن يبطلوا بهذا الكلام وبهذا اللغو الشريعة والدين، وكوني أنا وهو عبيد نعم، ولكن الله أمرني أن أنكر المنكر، وهو عبد وقع في المنكر فلا بد أن أنكر عليه، وكون الله هو الذي يحاسب العباد فهذا لا شك فيه، ولكن يجب علي أن أنكر المنكر، ولا أحاسبه محاسبة الرب للعبد، فلا حجة لهم في قولهم إن آدم قد غلب موسى، فإن كل من فعل ذنباً ثُمَّ أتيت تنكر عليه فإنه يغلبك بالحجة إذا احتج بالقدر كما تقوله الجبرية لأن معنى هذا لا تنكر أي منكر وهذا ترده الأصول الشرعية القوية المبنية عَلَى آيات وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل عَلَى بيان ضلال وخطأ هَؤُلاءِ والمصنف ركز عَلَى هذه الفقرة الواضحة في الرد عَلَى هَؤُلاءِ الذين لم يفهموا هذا الحديث وهي قوله (وقع اللوم عَلَى المصيبة ولم يقع عَلَى المعصية والقدر والأقدار يحتج بها عَلَى المصائب ولا يحتج بها عَلَى المعاصي، فقد أمرنا بشيئين أمرنا في باب الأقدار أن نصبر عَلَى أقدار الله وهذا من الإيمان بقدر الله تَعَالَى أما المعاصي والذنوب، فأمرنا بالتوبة والاستغفار ولم نؤمر بالرضى بها وأن نفعلها فضلاً عَلَى أن نقر من يحتج بها من المحتجين.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما قول إبليس رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] إنما ذم عَلَى احتجاجه بالقدر لا عَلَى اعترافه بالمقدر وإثباته له ألم تسمع قول نوح عليه السلام ولا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ َ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ A> [هود:34] ولقد أحسن القائل:
فما شئتََ كَانَ وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
وعن وهب بن منبه أنه قَالَ: "نظرت في القدر فتحيرت ثُمَّ نظرت فيه فتحريت ووجدت أعلم النَّاس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل النَّاس بالقدر أنطقهم به"] اهـ.
الشرح:
من الآيات التي استدل بها من يحتج بالقدر عَلَى المعاصي، آيات الأنعام، والنحل، والحديث الذي سبق، واستدلوا كذلك بقوله تعالى: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] فَقَالُوا: إن إبليس لما قَالَ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] أنكر الله عليه واحتجاجه هذا مردود وعلى هذا فنحن لا نثبت المشيئة، أي: لا نقول إن الله هو الذي أغوى إبليس؛ لأن إبليس هو الذي قال إن ربه هو الذي أغواه محتجاً بذلك، فبناءاً عليه فنحن ننكر الإغواء، فهم يريدون أن ينكروا أن الله قدر الأقدار بناءاً عَلَى أن الذين احتجوا بالقدر هم المُشْرِكُونَ، ومنهم إبليس وَقَالُوا: لا نأخذ ديننا عن إبليس ولا عن الْمُشْرِكِينَ فلا قدر إذاً، ونرد عليهم بمثل ما رددنا عَلَى الْمُشْرِكِينَ من أن الله تَعَالَى لم ينكر أنه شاء الشرك، ولم ينكر أنه أغوى إبليس.
وإنما كَانَ الإنكار بما يحتج المُشْرِكُونَ -بمشيئته عَلَى شركهم- وبما يحتج إبليس -بإغواء الله له عَلَى ما فعله من التزين بالإِنسَان وإغواءه- فَيَقُولُ: إنما ذم عَلَى احتجاجه بالقدر لا عَلَى اعتراضه به فنحن نقول: إن اعتراض الْمُشْرِكِينَ بأن الله هو الذي شاء أن يعبدوا هذه الأصنام لا اعتراض عليه.
ونقول: لا يقع في ملك الله إلا ما شاؤه الله، واعتراض قول إبليس بأن الله قدر عليه الغواية نَحْنُ نقول نعم قدر الله عليه الغواية، لكن احتجاجه بأن الله قدر عليه بأنه غير مؤاخذ هذا الذي نرده.
فإن المشيئة لا تستلزم الجبر والقهر فهذا شيء شاءه الله تعالى، لكن المسئول عنه هو من فعله، أي: أن إبليس خاطبه الله تَعَالَى وأمره بالسجود مع الملائكة وهو يعلم عقوبة المعصية ومع ذلك ارتكبها بمشيئة الله، ولأن لله حكمة لكنه بإرادته وبطوعه خالف أمر الله وعصاه، ومن هنا طُرد ولُعن وأصبح رذيلاً مذموماً ويستدل عَلَى ذلك بقوله تَعَالَى عن نوح عليه السلام: (َلا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ َ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود:34] فما عَلَى الرَّسُول إلا البلاغ مع أنه يبين لهم ويدعوهم إِلَى الله، ويقول لهم إن ما آتيكم به من الحجج والبراهين لا ينفعكم إن كَانَ الله يريد أن يغويكم، لكن لو فرضنا أن الله يريد أن يغويهم -ولا شك أنه أغوى منهم الأكثرين وما آمن له منهم إلا القليل- لكنه سبحانه وتعالى ليس راضياً بغوايتهم بدليل أنه بعث فيهم نوحاً يجادلهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ليلاً ونهاراً سراً وعلانية يدعوهم، كما ذكر الله ذلك في سورة نوح واستخدم معهم شتى أنواع الدعوة فالله ليس راضياً عن شركهم وما فعلوه وكونه تبارك وتعالى اقتضت حكمته ومشيئته أن يكون في النَّاس مؤمن وكافر، فإن هذا شيء نقرُّ به ونؤمن به، وهذا من حكمته التي لا نستطيع أن ندركها وأن نعرف أبعادها، يقول المُصنِّفُ نقلاً عن هذا الشاعر:
فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
لقد أحسن القائل، وهذه الأبيات التي قالها السلف الصالح في بيان الإيمان بالقدر وأن الله تَعَالَى مع أنه أعطانا مشيئة، إلا أن المشيئة النافذة هي مشيئته فَيَقُولُ:(فما شئت كَانَ وإن لم أشأ) ما شاء الله كَانَ وإن لم يشأ العبد أن يكون (وما شئت) أي: أنا المخلوق (إن لم تشأ لم يكن) فالمشيئة التي تنفذ هي مشيئة الله.
مقالات بعض السلف في القدر
يقول المُصْنِّف عن وهب بن منبه وهو من أهل الكتاب الذين أسلموا قَالَ: [نظرت في القدر، فتحيرت، ثُمَّ نظرت فيه فتحيرت، فوجدت أعلم النَّاس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل النَّاس بالقدر أنطقهم به] .
وذلك لأن الله لما خلق النَّاس وجعلهم فريقين هذا إِلَى الجنة وهذا إِلَى النار، ووفق هذا إِلَى الهدى وحجبه عن هذا، وهذه الأمور من الأمور العميقة الدقيقة، ولا يعني قول وهب أن كل أحد يتوقف فيها أولا يدرك حكمتها، فإذا كَانَ وهب بن منبه لم يدرك شيئاً من ذلك، فإن غيره قد يدرك ما يفتح الله به عَلَى أهل العلم، وإنما يأتي المُصْنِّف بأمثال هذا الكلام ليبين أن الأصل هو عدم الخوض في باب القدر، وأن علينا أن نؤمن بالقدر بأن الله قدر مقادير كل شيء، ثُمَّ نؤمن بأنه تَعَالَى لا يظلم أحداً، ثُمَّ نؤمن بأنه ليس لأحد يعصي الله تَعَالَى أن يحتج بالقدر نؤمن بذلك كله، ونرد علم غير ذلك إِلَى خالقه تعالى، كما قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وعقولنا لا تستطيع أن تفسر كل شيء إِلَى أبعاده أعماقه، ولكن إذا وجدنا من العلماء الموثوق بهم أو من السلف الصالح كلاماً في بيان بعض الاشكالات التي تعترضنا، حمدنا الله تَعَالَى وعرفناها وتعلمناها، وإن لم نجد نقف حيث وقفوا، ونكِلُ ما وراء ذلك إِلَى الله تبارك وتعالى.
مذهب المعتزلة والرد عليهم
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
قال الإمام الطّّحاويّ رحمه الله:
[يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً] .
يقول المُصْنِّف رحمه الله:
[هذا رد عَلَى المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد عَلَى الله، وهي مسألة الهدى والإضلال، قالت المعتزلة: الهدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال: تسميه العبد ضالاً أو حكمه تَعَالَى عَلَى العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه.
وهذا مبني عَلَى أصلهم الفاسد أن أفعال العباد مخلوقة لهم والدليل عَلَى ما قلناه قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] ولو كَانَ الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بين الطريق لمن أحب وأبغض، وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] وقوله: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [المدثر:31] ولو كَانَ الهدى من الله البيان وهو عام في كل نفس لما صح التقييد بالمشيئة وكذا قوله تعالى: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] وقوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39] اهـ.
الشرح:
إن مسألة الهدى والضلال من أدق الأمور التي ينبغي أن نفهمها لكثرة ما وقع فيها من الخوض، لا سيما بين المعتزلة والأشعرية حيث قالت المعتزلة -الذين أورد المُصْنِّف هذه الفقرة في الرد عليهم-: الهدى من الله هو أنه بين طريق الصواب، مثل ما نقول: وضع علامات عَلَى الطريق، وقال هذا هو الطريق الحق وأما الإضلال من الله، فهو أنه يسمى العبد ضالاً إذ أن العبد ضل من عند نفسه وارتسم الضلال فيه فسماه الله ضالاً.
هذا هو معنى الهدى والضلال عند المعتزلة وهذا باطل.
والصحيح في معنى الهدى والضلال، أن الهدى من الله وهو توفيق العبد للإيمان وإعانته عليه، والفضل كما قال المصنف:(ويعصم ويعافي فضلاً) أي: تفضل الله عَلَى العبد بأن يعينه ويوفقه إِلَى طريق الحق والخير، ويمده بذلك كما نقول دائما في صلاتنا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وهذه الاستعانة لا تريدها المعتزلة، يقولون: نَحْنُ من عند أنفسنا نخلق فعل أنفسنا ونفعل الطاعات، أما المؤمن فَيَقُولُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فإليك نتوجه يا رب وبك نستعين، ولولا عون الله -تعالى- وتوفيقه لنا ما عبدناه ولا صلينا ولا زكينا، ولكن وفقنا لذلك وبينه لنا، وهدانا إليه، وأعطانا القوة عليه، وحجب عنا الشبهات والشهوات، وذلك من فضله ومنته حتى عبدناه فصلينا وصمنا إِلَى آخر ذلك، فالمسألة أكبر من أنه بين الطريق لنا فقط أو قال هذا هو الحق؛ بل إنه وفقنا وأعاننا وأمدنا وتفضل علينا، حتى فعلنا الهدى واهتدينا، وأما إضلال العبد فليس أن الله يسميه ضالاً بعد أن خلق العبد فعل نفسه الذي هو المعصية إنما إضلال الله تبارك وتعالى للعبد أي يُحجب الله عنه ويحرمه الفضل ويحرمه التوفيق مع بيان طريق الحق له.
وهذا هو الفارق وما تجعله المعتزلة للمؤمنين وهو بيان طريق الحق، ونحن نقول هذا البيان حصل ووقع للعاصي وللكافر، وللفاجر، بين لكل واحد منهم طريق الحق، لكنه لم يعينه ولم يوفقه إلا أنه يفعله عدلاً منه تبارك وتعالى وأما المؤمن فمع أنه بين له أيضاً إلا أنه وفقه وأمده وأعطاه فضلاً منه تبارك وتعالى فالمعتزلة يقولون: يجب عَلَى الله.
وفي هذه العبارة جرأة، فمن يتجرأ أن يوجب عَلَى الله تَعَالَى شيئاً أن يفعل الأصلح للعباد.
والأصلح لهذا العبد: أن يبين له طريق الهدى وأن يتركه ليعمل لنفسه مثلاً، فيرون أنه يجب عليه ذلك فنقول: لا يجب عَلَى الله تَعَالَى شيء ولكن الأمر يدور بين العدل وبين الفضل، فأما فضله تَعَالَى فإنه عَلَى المؤمنين: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113] تفضل الله عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أوحى إليه، وأنزل إليه الكتاب، وجعله سيد ولد آدم، وجعله إمام المتقين، وإمام الغر المحجلين، ورسالته رحمةً للعالمين، كل هذا فضل من الله عَلَى نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
لا يستطيع أحد أن يوجب على الله فعل شيء
لا يستطيع أحد أن يوجب عَلَى الله شيئاً ولكن الله تَعَالَى حجب الإيمان وحرم الهداية والتوفيق عدلاً منه جل شأنه، فقد حرم أبا لهب ومنعه من هذا الإيمان، وبين له الطريق وأوضحها له ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك: أن أبا لهب كَانَ يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه لا يكذب أبداً، ولو أن أبا لهب وسأل نفسه هل مُحَمَّد هذا صادق أم أنه كاذب في دعوى الوحي! لقالت له نفسه: هو نبي وصادق، وما أكثر ما صرح به الكفار المعاندون للنبوة.
فالحجة قامت عَلَى أبي لهب ولكن لماذا لم يؤمن؟
هل هو من عند نفسه؟
نعم، نقول: إن الله لم يوفقه ولم يتفضل عليه بالإيمان؛ لكن هذا التوفيق فضل من الله يعطه من يشاء ويحجبه عمن يشاء، ولا يحرمه أحد إلا لسبب من العبد لذاته، علم الله أنه لا خير فيه، كما قال الله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ [الأنفال:23] لكن علم أنه لا خير فيه وأنه يرفض هذا الإيمان رغم الحجج الواضحة البينة، ولهذا لم يوفقه للإيمان وهذا عدل منه تبارك وتعالى مع أنه بين له طريق الهدى وقول المعتزلة بأن الهدى بيان الطريق وأن الإضلال تسمية العبد ضالاً هذا خطأ بل الهدى من الله تعالى: هو التوفيق والعون والإمداد والتفضل بالهداية وسلوك طريق الطاعة، وأما الإضلال فهو: صرف الإِنسَان وحجبه عن طريق الخير لفعل يفعله بسبب منه لعدم قابليته الهدى فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ولهذا جَاءَ في الحديث الصحيح (عملت اليهود إلى منتصف النهار كما نقول: إِلَى صلاة الظهر وعملت النَّصَارَى ما بين صلاة الظهر والعصر، وعملت هذه الأمة من صلاة العصر إِلَى المغرب.
فضرب الله لذلك مثلاً بثلاثة عمال فرجل استأجرته بأجر إِلَى الظهر، فأعطيته ديناراً، والآخر استأجرته من الظهر إِلَى العصر فأعطيته ديناراً، ورجل استأجرته من العصر إِلَى المغرب فأعطيته ثلاث دنانير أو أكثر، فَقَالَ الأول والثاني لماذا تعطيه أكثر منا؟ فاحتجت اليهود والنَّصَارَى- عَلَى أن الله تَعَالَى أعطى هذه الأمة أكثر منها - فَقَالُوا: يا رب عملوا قليلاً وأعطيتهم كثيراً؟ فَقَالَ تعالى: (أوقد حرمتكم من حقكم شيئاً) قالوا: لا يا رب قَالَ: (ذلك فضلي أعطيه من أشاء) فهذا فضل من الله، فأنت إذا حرمت شيئاً من حقك تطالب به، فلا تعترض وقد أعطيت حقك إذا أعطى غيرك أكثر مما يستحق لتفضل المعطي بذلك، ومع ذلك إذا كَانَ المتفضل هو الله، فإنما يتفضل عَلَى أحد ويحرم آخر من هذا الفضل لِمَا يعلمه سبحانه وتعالى مما في نفس هذا من الخير والقابلية والتوجه ومراغمة النفس عَلَى قبول الحق، وما يعلم في نفس ذلك من رد الحق ودفعه وغمطه.
فلما لم يقم العبد بما وجب عليه من طاعة الله تبارك وتعالى والاستعانة به عَلَى نفسه خذله الله ووكله إِلَى نفسه، ومن وُكل إِلَى نفسه فقد خاب وخسر، ولهذا كَانَ من دعائه صلى الله عليه وسلم:(يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين) وفي الرواية الأخرى: (فإنك إن تكلني إِلَى نفسي تكلني إِلَى ضعف وعجز وخطيئة) فالإِنسَان إذا وكل إِلَى نفسه فقد وكل إِلَى عقله وتفكيره وحرصه وأنه يعرف الحق ويعرف الخير والهدى والضلال فيخيب ويخسر ويشقى، بل الواجب عَلَى الإِنسَان أن يدعو الله تَعَالَى أن يهديه للحق، فإذا وجد من يبين له الحق فعليه أن يحمد الله تبارك وتعالى وأن يشكره.
ولذلك استدل المُصْنِّف في الرد عَلَى قول المعتزلة بأن الهدى لو كَانَ هو بيان الطريق لما قال الله لنبيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الطريق فالبيان والإرشاد حصل منه صلى الله عليه وسلم، لكن هداية التوفيق والامتثال والتفضل ليست من عنده كما قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] وقد قال له وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] أي: إنك تبين الطريق المستقيم وتدعو إليه وتوضحه للناس، أما قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] أي: إنك لا توفق من تشاء ليكون مؤمناً.
وهذه الآية نزلت في عمه أبي طالب لما حرص النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يُلح عليه أن يسلم، ويقول له:(يا عمِ قل كلمة أحاجُّ لك بها عند الله) ففاضت روح عمه وهو يقول إنه عَلَى ملة عبد المطلب، فرَسُول الله يُلح عليه وهو يعلم صدقه، ولا يوجد أحد من الْمُشْرِكِينَ أعلم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم منأبي طالب، ولذلك حماه وأواه وحوصر معه في الشعب في سبيل نصرته النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كَانَ كاذباً لما تحمل هذا الأذى كله من أجله، ولكنه يعلم أنه صادق لكن مع ذلك كله لم يؤمن به فالمسالة مسألة هداية وتوفيق من الله وليست بالرأي ولا بالعقل ولا ببيان الحجج فعلينا أن نسأل الله دائماً الهدية والتوفيق كما جَاءَ في سورة الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] .
ونعلم أنه هو الذي يعيننا عَلَى الطاعة، وأنه لو وكلنا إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا، ونقول بعد ذلك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فهو الذي يهدينا سبحانه وتعالى، فندعوه دائماً في كل ركعة بأنك أنت الذي تعين العبد ولولا توفيقك وإعانتك لما عبدك أحد، ولما آمن بك أحد، حتى بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة يقولون: =وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ فالأمر كله فضل منه تبارك وتعالى.
ثُمَّ قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله] .
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[فإنهم كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فمن هداه إِلَى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد، وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى، فإن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد، بل فرقة، فأتيت به عَلَى ترتيبه] اهـ
قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[وهو متعال عن الأضداد والأنداد] .
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[الضد: المخالف، والند: المثل، فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مثل له، كما قال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] ويشير الشيخ رحمه الله بنفي الضد أو الند إِلَى الرد عَلَى المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق فعله] اهـ.
قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره]
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[أي لا يرد قضاء الله راد ولا يعقب أي: لا يؤخر حكمه مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار] اهـ
قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلاً من عنده]
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، والإيقان الاستقرار من يقن الماء في الحوض إذا استقر، والتنوين في "كلاً" بدل الإضافة: أي كل كائن محدث من عند الله أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه، وسيأتي الكلام عَلَى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] اهـ.
الشرح:
قوله: [وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد] لقد نفى الله سبحانه وتعالى أن يكون له ضد أو ند في ملكه وأفعاله أو أفعال العباد كما قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الاخلاص] بل يجب أن يفرد وحده بالعبادة، وأما الذين اتخذوا من دون الله أنداداً؛ فأولئك هم المُشْرِكُونَ الذين توعدهم الله بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، والتخليد في النارفي النار فاتخاذ الأنداد من دون الله تَعَالَى هو عين الشرك، فليس له تَعَالَى ضد ولا ند.
وقوله رحمه الله: [ولا راد لقضائه] .
قد سبق شرحه، ومعناه: أنه قد كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل ما كتبه الله تَعَالَى فهو واقع لا محالة ولا راد له كائناً من كان.
وقوله [ولا معقب لحكمه] الحكم هنا يشمل الحكم الشرعي والقدري فأما حكمه القدري: فهو قضاؤه الذي سبق أن حكم به فلا يستطع أحد أن يدفعه.
وأما حكمه الشرعي: فلا معقب لحكمه أي: لا مستدرك عليه مثال ذلك: عقوبة الزاني الجلد إن كَانَ بكراً، والرجم إن كَانَ ثيباً فلا معقب لحكمه كَانَ يأتي أحد فيجعلها السجن والغرامة أو يجعل الجلد أقل أو أكثر، كذلك حرم الله تَعَالَى الربا، فلا معقب لحكمه.
كأن يأتي أحد فَيَقُولُ: الربا حلال ويتأول ويتفلسف في بيان استحلال ما حرم الله تعالى، فلا معقب لحكمه أبداً سبحانه وتعالى فما عَلَى العباد إلا أن يطيعوه وينقادوا له ويسلموا ولهذا خلقهم وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فلم يخلقهم ليعترضوا عليه، وإنما أعطاهم الله العقول؛ ليفكروا بها فيما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم ويفهموا بها دينه وشرعه فلم يعطهم العقول ليفكروا بها فيما يعارضون به شرعه ودينه، ويردون به عَلَى أنبياءه، أو عَلَى من يدعوهم إِلَى الحق والهدى.
وقوله: [ولا غالب لأمره] أي: ولا غالب لأمر الله تَعَالَى إذا قدَّر أمراً بخلاف المخلوقين فإنه يغلب عَلَى كثير من أمورهم إلا ما شاء الله أنه ينفذ.
وقوله: [آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلاً من عنده] أي: آمنا بجميع ما تقدم من المباحث في إثبات الصفات والقدر آمنا بذلك كله، وأيقنا أنه من عند الله تعالى، وكل ما جَاءَ في كتاب الله، أو في سنة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فنحن نؤمن به.
إن علاقة الميثاق بالعقيدة هي:
أولاً: من جهة الفطرة، ففي سورة الأعراف يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] هذا عَلَى قراءة، وعلى قراءة أخرى سبعية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ بالجمع ونحن نقرأ عَلَى القراءة الأولى وهي وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172، 173] .
دليل الفطرة
آية الميثاق ذكرها الله في كتابه، وقرأها السلف الصالح والجميع عَلَى اختلافهم يقولون: هل كَانَ ذلك استخراجاً حقيقياً أو أنها مجرد الفطرة؟ وكلا القولين يؤدي إِلَى أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ إقرار بني آدم عَلَى التوحيد وفطرهم عليه، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن كل إنسان يعرف الله سبحانه وتعالى بالفطرة، وأنه قد بين ذلك وفصله وخلقهم عليه.
وموضوع الفطرة هو من الموضوعات التي تدخل في صلب العقيدة والإيمان، سواءً من جهة ما يجب علينا وهو أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد فطر العباد على الإيمان به وتوحيده، أو من جهة ما يقتضيه ذلك الإيمان من الانقياد، وإخلاص التوحيد لله سبحانه وتعالى، فكل ذلك حق، وقد أطال السلف في هذه المسألة، وممن أطال فيها أيضاً: شيخ الإسلام ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه -العظيم المشهور الكبير- درء تعارض العقل والنقل، حيث سرد الأقوال التي ذكرت فيها، والترجيح في ذلك، والرد عَلَى الفرقِ والمذاهب المخالفة.
ومعنى دليل الفطرة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ما من مولود إلاّ يولد عَلَى الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) في روايات كثيرة ذكرها الإمام مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ورواها غيره.
لكن الإمام مسلم رحمه الله فصل الروايات وذكرها عَلَى نسق، (كل مولود يولد عَلَى الفطرة) وفي رواية (عَلَى الملة) وفي رواية (ما من مولود إلاّ يولد عَلَى هذه الملة) والأدلة قطعية ونصية عَلَى أن الإِنسَان مخلوق ومفطور عَلَى ملة الإسلام.
الأصل في الإنسان أن يولد على فطرة الإسلام
إن كل إنسان في أي بيئة وجد فيها يولد عَلَى الإسلام الذي بعث به الرسل، وبيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين ضرب لأصحابه ما كانت تفعله العرب، كانوا إذا أنتجت الدابة من الإبل أو البقر أو الغنم يقطعون أذنها أو يَسِمُونها بعلامات -كما هو معروف إِلَى الآن- وهذه العلامات تبين انتماء هذه الدابة لصاحبها، لكن التي تولد ولا تكون عليها علامة أبداً، كما قال صلى الله عليه وسلم (كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء هل ترون فيها من جدعاء) فكل مولود يولد عَلَى هذه الملةِ، كالصفحة البيضاء النقية التي لو تركت وحدها لما عرفت إلاّ توحيد الله ولم تنحرف عنه إِلَى الشرك، لكن يأتي من يجعل لها انتماء إِلَى أي دين، أو إِلَى أي ملة.
فالتربية أو المجتمع يهودان أو ينصران أو يمجسان، أو عَلَى أي مذهب من المذاهب، لكن هذا لا يلغي الحقيقة، لأنها حقيقة أزلية أخبر الله تبارك وتعالى عنها بقوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم [الروم:30] هذا هو الدين القيم، ولا يستطيع أحد أن يبدله ولا يمكن أبداً أن يولد مولود إلاّ عَلَى هذا الدين القويم، ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى في أن جعل النفس البشرية تتأثر وتقبل التغيير.
ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله تَعَالَى في مسألة أطفال الْمُشْرِكِينَ إذا ماتوا، هل يكونون من أصحاب الجنة أم لا؟ وهل يمتحنون أم لا؟ عَلَى أقوال معروفة ليس هذا مجالها، إنما المقصود أن هَؤُلاءِ الأطفال يولدون عَلَى الإسلام، وأن الذي يصرفهم عن ذلك هي التربية أو المجتمع من الأحبار، أو الرهبان، أو الكهان، أو ما أشبه ذلك من الصوارف.
حكم الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام
ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام كما قال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس [الكهف:74] أنه كَانَ قد طبع كافراً مخالفاً لبقية النَّاس، وأن له حكماً خاصاً، وهو أنه خلق كافراً، ولهذا كَانَ حكمه مخالفاً ومغايراً لحكم سائر الناس، فإنهم يدعون فإن أسلموا وإلاّ قتلوا.
فالمقصود أنه لا خلاف بين المسلمين في أن الله سبحانه وتعالى قد فطر النَّاس وغرس في أذهانهم الدلائل والبراهين عَلَى معرفته سبحانه وتعالى والاتجاه إليه وحده لا إِلَى أحد سواه.
ومن أعظم الشبهات التي دخلت في علم الكلام، وأفسد بها علماء الكلام دين الْمُسْلِمِينَ قولهم بأن التدين إنما يكون تقليداً، وممن ذكره وفصله أبو حامد الغزالي في الإحياء وذكره غيره، وهو أن النَّاس إنما يتعبدون بحسب البيئة التي يولدون عليها، ولهذا يصبح الإِنسَان الذي ينشأ بين النَّصارَى نصرانياً والذي ينشأ بين اليهوديهودياً.
وقد أدخل علماء الكلام -وأصلهم زنادقة براهمية- هذا على المسلمين، ولبسوا عليهم ذلك، فَقَالُوا: إذا كان من يولد بين الهنود يصبح هندوسياً، والذين يولد بين المسلمين يصبح مسلماً، أي: أن الأمر كله تقليد، ولا أصل للفطرة.
إذاً لا بد أن نقول للناس -حسب انحرافهم-: لا تؤمنوا إلاّ إيماناً عقلياً لا تقليد فيه، ولذا نجد في كتبأهل الكلام وكتبالأشاعرة، وكتب أخرى كثيرة كما في شرح المواقف وشرح اليقينات الكبرى، وشرح السنوسية، والجوهرة، وغيرها من كتبهم نجد مسائل منها: حكم المؤمن المقلد.
حكم المؤمن المقلد عند أهل الكلام
يقولون في كلامه عَلَى حكم المؤمن المقلد، وقد اختلف فيه، فَقَالَ بعضهم: إنه كافر لا يقبل إيمانه، وقَالَ بعضهم: إنه عاصي، وقال بعضهم: يقبل لأن الإِنسَان ضعيف وجاهل لا يملك إلا التقليد.
وهذه الأقوال كلها مبنية عَلَى أصل فاسد؛ لأن المسلم ليس مقلداً في الفطرة، بل الأصل في جميع بني آدم منذ أن خلقهم الله سبحانه وتعالى إِلَى أن يرث الله الأرض ومن عليها أنهم يولدون عَلَى هذه الفطرة وعلى هذا الدين، فمن كَانَ مؤمناً من الْمُسْلِمِينَ فقد بقي عَلَى الأصل الذي ولد عليه ولهذا تأتينا مسائل لها علاقة بهذا الموضوع ونعرف بطلانها وفسادها:
المسألة الأولى: وهو قول علماء الكلام إنه يجب عَلَى كل عاقل مكلف أن يخرج من هذا الخلاف ويتخلص منه بأن ينظر ويتفكر في دليل عقلي يدله عَلَى وجود الله وعلى الإيمان بالله، ولو مرة واحدة، يجلس ويقول: العالمَ متغير، وكل متغير حادث، والحادث لا بد له من محدث، فالعالم محدَث، والله هو المحدِث، ويقولون: بهذا يخرج إيمانك عن كونه تقليداً، وعلى هذا تكون قد آمنت عَلَى عقل لا عَلَى تقليد، مع أن الحقيقة أن هذا هو عين التقليد، وأصبح هذا الدليل يلقن للناس؛ بل وللعامة، وهو مقرر ومكتوب في كتب راقية تدرس كمناهج التعليم.
بعض المسائل التي بنيت على الأصل الفاسد في مفهوم الفطرة
وهناك مسائل بنيت عَلَى الأصل الفاسد الذي بناه علماء الكلام في حقيقة الفطرة ومن هذه المسائل: أنه يجب عَلَى الإِنسَان إذا وصل إِلَى مرحلة البلوغ أن يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رَسُول الله) ويكون بذلك قد دخل في الإسلام، ثُمَّ ينظر في إيمانه عَلَى ذلك الدليل الذي سبق، لأنه في البداية لم يكن مسلماً، وأما الآن فهو يدرك ويعي، فالآن عليه أن يسلم!! سُبْحانَ اللَّه!! كيف يُسلم وهو إنما وُلد عَلَى الفطرة من أبوين مسلمين في دار الإسلام.
فنسألهم ما حكم هذا الإِنسَان قبل ذلك؟ ثُمَّ نقول لهم: لو أنه مثلاً حينما رأى علامة البلوغ ذهب فتوضأ فصلى وَالمفترض أنه يصلي قبل ذلك، لأن المسلم لا يمكن أن يصل إِلَى هذا السن ولم يصل ماذا تعتبرون هذه الصلاة هل هي باطلة لأنه لم يتشهد حين البلوغ؟
هذا كلام لا دليل عليه، فيتناقضون في أمثال هذه المسائل، وهكذا! وكم تترتب من مسائل باطلة، لا نريد أن نستطرد فيها، وليس المقام مقام إيضاحها، وإنما هو مقام توضيحٍ لأهمية اتباع ما دل عليه الكتاب والسنة في مسألة الإيمان، وفي مسألة الفطرة، وهو: أن الله سبحانه وتعالى قد فطر العباد جميعاً عَلَى معرفته وعلى ربوبيته، وقد أشهدهم عَلَى ذلك.
إعتراف الذين أسلموا بأن الإسلام هو دين الفطرة
عندما ندعو يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً؛ فإنما ندعوه إِلَى أمر يعلمه في نفسه ولا ندعوه لأن يصرف فطرته إِلَى أمر لم يخلق عليه، ويشهد لذلك من دخل في الإسلام من غير الْمُسْلِمِينَ، فكثير منهم يصرح ويقول: إنني لم أذهب إِلَى الكنيسةِ في حياتي قط منذ أن وعيت وأدركت إلا وأنا أشعر بفطرتي أن هذا الدين باطل.
وبعد أن أسلم بعض القساوسة يقول: كنت أحس بنفسي أن هذا ليس هو دين الله عز وجل، فلمّا قرأت عن الإسلام كتاب كذا وكتاب كذا وترجمة معاني القرآن، وجدت أن هذا هو الذي أشعر به في فطرتي.
وهكذا نفهم ونستنتج منه أيضاً دليلاً حسياً حقيقياً عَلَى أننا عندما ندعو أي إنسان إِلَى دينِ الإسلام، فإننا ندعوه إِلَى ما هو في فطرته التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها لا ندعوه إِلَى أمر يخالف ذلك، ومن هنا دخل أقوام كثيرون في دين الله مع أن كثيراً منهم يجهل كثيراً مما جَاءَ به الإسلام، لكنهم يدركون أن الله سبحانه وتعالى حق وأنه إله واحد، وأنه رب السماوات والأرض.
ولهذا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه إذا أرسل جيشاً يَقَولُ: (إذا حاصرتم قلعةً أو حصناً أو قوماً فأخرج أحدهم يده وأشار إِلَى السماء فاقبلوا منه) وهذا يستدل به عَلَى إثبات العلو، وأنه فطري، وأن الإيمان بالله سبحانه وتعالى فطري، فمن عبر بالإشارة حيث لا يستطيع أن يعبر باللسان فتعبيره مقبول، ومن هنا كَانَ أول واجب عَلَى الإِنسَان هو شهادة أن لا إله إلا الله وهو توحيد الله.
أما أهل الكلام فيقولون: الواجب عَلَى الإِنسَان أن ينظر في هذا الكون ويتفكر فيه.
وقال بعضهم: إذا الإنسان لم ينظر، فكيف نلزمه أن ينظر، قالوا: إذاً نجعل أول واجب عَلَى الإِنسَان القصد إِلَى النظر.
وقال بعض المعتزلة -: نفس القصد هو النظر فكيف نوجبه عليه؟
وقال أبو هاشم الجبائي -وهو من أئمة المعتزلة -: وأفضل شيءٍ أن نقول: إن أول واجبٍ عَلَى الإِنسَانِ هو الشكُّ، لأنه بعد أن يشك يحتاج إِلَى أن ينظر، فإذا قصد إِلَى النظر نظر، فإذا نظر آمن، فيكون قد أتى بالثلاثة كلها، وبعد ذلك يؤمن أن هذا الكون متغير، وكل متغير حادث، وكل حادث لا بد له من محدِث إذن له رب خلقه.
كل هذا الكلام الطويل، وهذه الفلسفة التي ما أنزل الله بها من سلطان مؤدّاها ونهايتها لكي يقول:(إن لهذا الكون رباً وإلهاً) سُبْحانَ اللَّه! وهل وجدت أمة تنكر أن هذا الكون ليس له خالق؟
حتى الْمُشْرِكِينَ كانوا يقولون: إنَّ اللهَ هُوَ الخالقُ، واللهُ سبحانه وتعالى إنما بعثَ الرسل ليقولوا للناسِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وهم يقولون: نَحْنُ نعبد الله، ولكن نعبد معه غيره، ونتقرب إِلَى الله بعبادة الصالحين.
وأما الذين أعلنوا الإلحاد الصريح كفرعون حيث قَالَ: " أنا ربكم الأعلى" وَكَمَا كَانَ حال صاحب الأخدود الذي كَانَ يريد أن يقول للناس أن يؤمنوا بأنه ربهم.
وأما أن أناساً كانوا ينكرون ذلك بحق وحقيقة فلا يوجد ذلك، حتى فرعون فقد قال الله تبارك وتعالى عنه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] وهو الذي يقول لموسى عليه السلام: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] .
وهذا السؤال لغرض التحايل والتهرب، وليس غرضه أن يعلم ما هي ماهيته، بل هو إنكار يحيد به عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى وإلاّ فهو يعلم ذلك، فلا نحتاج إِلَى أن نشك في أن فرعون يعلم أو لا يعلم، لأنه لما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] ولم يقل: أنا ربكم الأعلى، فذهبت هذه المقالة في القصر في مكان العز والتمكين أما عند الغرق فقد نطقت الحقيقة، ولكن حيث لا ينفع الإقرار بها.
فمسألة الفطرة من أجل المباحث التي ينبغي أن تبحث، لكن ليس المقصود هنا هو ذلك وإنما المراد هنا أن نعرف علاقة الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى عَلَى بني آدم بالفطرة، فالله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق عَلَى بني آدم حينما استخرج ذرية آدم عليه السلام من صلبه وأشهدهم عَلَى أنفسهم واستنطقهم كما قال المفسرون في تفسير الآية وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم (وأن عيسي عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه) .
وقالوا: إن عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله واستنطقها، كما صرح بذلك كعب الأحبار وغيره، فالله تعالى خلق الأرواح ثم استنطقها، فسألها أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] أي شهدنا عَلَى أنفسنا ونطقنا بذلك، ثُمَّ يقول الله تبارك وتعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ [الأعراف:172] جملة أن تقولوا معناها: أي استنطقناكم واستشهدناكم كي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] وعَلَى الوجه الآخر أنه لا يجوز أن تقرأ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] وتقف عَلَى كلمة (شَهِدْنَا) بعد أن وقفت عَلَى كلمة (بَلَى) ، بل تقف عَلَى الأول أو الثاني لأن كلمة (شَهِدْنَا) ستصبح هنا لا متعلق لها ولا معنى، فهذا الذي نفهم به هذه الآية من جهة علاقتها بموضوع الفطرة.
علاقة الميثاق بالروح
هذه المسألة تترتب عليها مسألة هل الأرواح مخلوقة قبل الأجساد أم لا؟
فذهب بعض النَّاس إِلَى أن الأرواح في جميع بني آدم خلقها الله تبارك وتعالى في القدم، فبعد أن خلق آدم عليه السلام خلق أرواح ذريته جميعاً، فإذا أراد الله عز وجل أن يخلقَ واحداً بعينه، يُحضرُ الملك الموكل بالأرواحِ، فينفخ تلك الروح فيه بينما هي مخلوقة من قبل وذهب إِلَى هذا القول بعض العلماء.
وقال بعضهم: لا يشترط أن تكون الروح بذاتها مخلوقة موجودة مستقلة قبل أن تخلق الأجساد، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى الذي هو عَلَى كل شيء قدير استخرجها ثُمَّ أعادها، فهي كما شاء سبحانه وتعالى في عالم الغيب إِلَى أن يشاء أن يخلق من شاء، فحينئذ يخلق روحه وما ذلك عَلَى الله بعزيز.
علاقة الميثاق بالقدر وبمراتبه
العلاقة الأخرى لموضوع الميثاق هي علاقته بموضوع القدر وهو من أجل وأهم الموضوعات، لأنه ركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلاّ به "ولو أنفق الإِنسَان مثل أحد ذهباً ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر" كما صرح بذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الرجل لا يؤمن ولا يتقبل منه صلاة ولا صيام ولا حج ولا عمل إلاّ إذا آمن بالقدر.
ومعنى أننا نؤمن بالقدر أن نؤمن بمراتبه الأربع، ونضع الميثاق في مرتبة الكتابة، ونختصر المراتب الأربع إِلَى مرتبتين هما:(العلم، والكتابة) وكل المراتب الأربع مترابطة، أي: كل ما خلقه فهو يشاؤه، وكل مايشاؤه، فهو أيضاً كتبه وكل ما كتبه فهو علمه.
ولقد قسم العلماء مرتبة الكتابة إِلَى خمسةِ أنواعٍ:
النوع الأولى: هي ماكتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وهي الكتابة الكونية، وسميت كونية: لأن الله كتب كل ما يقع في هذا الكون.
النوع الثاني: الكتابة النوعية: أي ما يتعلق منها بنوع الإِنسَان خاصة، وهذه هي التي كتبها الله سبحانه وتعالى عَلَى ذرية آدم، حينما كتب أن هَؤُلاءِ في النَّار، وأخذ قبضةً بشمالهِ وقَالَ: هَؤُلاءِ في النَّار ولا أبالي، وأخذ قبضةً بيمنيه، وقَالَ: هَؤُلاءِ في الجنة ولا أبالي، والميثاق يتعلق بها، وهو أن الله سبحانه وتعالى استنطق تلك الأرواح، ولكن تلك الأرواح كانت عَلَى نوعين:
نوع منها: كتب الله سبحانه وتعالى له السعادة أزلاً، فهذا النوع مكتوب له أنه من أهل الجنة.
والنوع الآخر: من كَانَ من أهل الشقاوة، وهذا قد ورد ما يؤيده فيحديث الإسراء لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم فوجد أبانا آدم فإذا عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، فإذا نظر ذات اليمين ضحك، وإذا نظر ذات الشمال بكى، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ما هذا يا جبريل قَالَ: هذا آدم إذا نظر إلي اليمين رأي أهل الجنة من ذريته فيضحك، وإذا نظر إِلَى اليسار رأى أهل النَّار من ذريته فيبكي، إذاً فالأمر قد كتب وَقُدِرَ عَلَى النَّوعِ الإِنسَاني، أنهم فريق في الجنة، وفريق في السعير.
النوع الثالث: الكتابة العُمْرية أو الفردية: التي تتعلق بالعمر ومقداره، وقد دل عليها حديث عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك ثُمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد) فكل إنسان له كتابة خاصة، الكون له كتابة عامة، والجنس الإِنسَاني له كتابة عامة.
النوع الرابع: الكتابة السنوية أو الحولية وهي: ما يقدره اللهُ سبحانه وتعالى في كلِ سنةٍ، وتكون هذه الكتابة في ليلة القدر إِلَى مثلها في العام القادم.
النوع الخامس: التقدير اليومي، كما قال الله تبارك وتعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] فالله سبحانه وتعالى كل يوم يقضي ويحكم ويكتب ما يشاء كما قَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] وكل حادث يحدث لك في كل لحظة أو في كل يوم فهو أيضاً بقدر وبتدبير وبتصريف منه سبحانه وتعالى، لا شريك له في ذلك كله.
وبهذا التفصيل كله نفهم أن هذه الكتابة التي هي مرتبة من مراتب القدر تتعلق بالأنواع الخمسة كلها.
المؤمنين بالقدر والجاحدين له
يمكن أن ندرك غاية الفرق بين المؤمنين بالقدر، وبين الكفار المنكرين له، وذلك بأن نتصور كيف تكون حياتنا ومشاعرنا وإحساسنا إذا أدركنا هذه الحقيقة؟ وهي: أن الله سبحانه وتعالى قد كَتَبَ كل هذا الذي سبق، وأنه سبحانه وتعالى يَعلمُ كُلَّ شَيءٍ.
فلو أنك تستشعر هذه الحقيقة دائماً وتتفكر فيها، وتقارن نفسك بأولئك الكفار في الصين أو الهند أو أمريكا أو في أي مكان من الذين لا يدرون لماذا جاءوا؟ وإلى أين يذهبون؟ ولماذا تقدر عليهم هذه الأقدار؟
أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ [الأعراف:179] فهم يعيشون في ظلام دامس، لو عرفنا ذلك لاشتد خوفنا من الله ولاجتهدنا في طاعته، فهل يمكن لأي عقل مهما كَانَ أن يتصور مراتب القدر الأربع وأن يتصور مراتب الكتابة الخمس، وأن يتفكر كيف يدبر الله سبحانه وتعالى هذا الكون، فهذا شيء لا يمكن عَلَى الإطلاق أن يوصل إليه إلا عن طريق الوحي، والوحي قد جاءنا من الله سبحانه وتعالى بفضله ومنه وكرمه قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] فهو اختيار من الله، ثُمَّ تأتي الأمة المصطفاة المختارة فتتبع الأمة الضالة الضائعة الذين حكى الله حالهم أنهم يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] .
فالكافر مثل قطعة الخشب المنقطعة -التي لها مدة مقطوعة- لا تشعر أن لها صلة بماضٍ ولا بمستقبل، وأما المؤمن فهو كالغصنِ المُزهرِ الرطب كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24] تمتد في أعماق الدنيا، فنحن الآن بإيماننا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبإيماننا بأقدار الله، وما كَانَ منها وما سيكون، نشعر بأننا مرتبطون بآدم عليه السلام، أو بأبينا الثاني نوح عليه السلام وبدعوته فحينما نقرأ دعوته ومعاناته مع قومه، نشعر كأننا نعيش معه، وعندما نقرأ عن إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس، ونحن من أبنائه بالذات العرب، والذي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتبعه ومن معه، وأن نكون عَلَى ملته ونتبرأ من الْمُشْرِكِينَ، كما تبرأ أي نبي من الأنبياء.
وإذا قرأ الواحد منا قصة الشاب الذي يكفر بالدجال ويقاومه فيقتله الدجال ويشقه بالسيف، ثُمَّ يحييه، ثُمَّ يقول: أرأيت أنني ربك؟ فَيَقُولُ: والله ما أزددت بك إلاّ كفراً، إذا عرفت ذلك تشعر بأنك مُرتبط بهَؤُلاءِ، ومُرتبط بهَؤُلاءِ وهذه الرابطة هي رابطة الإيمان بالله سبحانه وتعالى التي يجب علينا أن نتمسك بها وأن نحمد الله تَعَالَى الذي وفقنا لها، لكن الذي لا يؤمن بذلك، لا يشعر بهذه الرابطة عَلَى الإطلاق، ولهذا تجدون مجتمعاتهم مقطعة الأوصال، الابن لا يعرف أباه، والأب لا يعرف ابنه، والزوجة لا تعرف زوجها، أمة ضائعة تائهة، تعيش كما تعيش أحقر البهائم في الغابة، اللهم إلا أن تلك البهائم لا عقل لها ولاحساب عليها إلا القصاص الذي يقتص الله سبحانه وتعالى لبعضها من بعض، أما أُولَئِكَ القوم فإن لديهم العقول ولكن لا يفقهون بها، وعندهم الآذان ولكن لا يسمعون بها، وعندهم الأعين ولكن لا يبصرون بها.
وكذلك أصحاب الغفلة من المؤمنين متى يفيقون؟ إذا رأو ملائكة الموت حينئذٍ يقولون: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99،100] لا ينفع هذا الآن لأنه انتهى وقته.
أين القلب والسمع والبصر والجوارح والعبر والعظات، والآيات المقروءة والآيات الناطقة المشاهدة في الكون؟
يقولميمون بن مهران رحمه الله وهو سيد التابعين - في بلاد العراق -: (كَانَ أبي شيخاً كبيراً وكنا بالبصرة نذهب، فنستمع إِلَى موعظةالحسن البصري رحمه الله -وكان مشهوراً بمواعظه البليغة المؤثرة- فَقَالَ أين ميمون - وكان ضريراً -؟ يا ميمون! خذ بيدي نذهب إلىالحسن البصري نسمع منه موعظة يقول: ففرحتُ لعلي أسمع موعظة الحسن قَالَ: فذهبت بأبي وفي الطريق قابلنا جدول صغير، فلم أستطع أن أعبر بأبي -لأن أباه كَانَ أعمى- فلم أجد إلاّ أن انبطحت وعبر من فوق ظهري، ولا أستطيع أن أحمله -فمد جسمه كالجسر وعبر أبوه من فوق ظهره- ثم أخذ بيده ودخلا عَلَى الحسن رحمه الله فقَالَ: أبوه، يا أبا سعيد جئناك لتعظنا -انظر إِلَى الذين يبحثون عن طب القلوب، يذهب إليه، ويقول له: عظني ذكّرني- فجلس الحسن رحمه الله وقَالَ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:204-207] ثُمَّ أخذ الشيخ في البكاء فبكى الحسن، يقول ميمون: فبكيا بكاءً شديداً وأنا أعجب، قَالَ: ثُمَّ أخذت أبي، فلما خرجُت قلت لأبي: أهذه موعظة يا أبتاه، إني ظننت أنه سيقول شيئاً من كلامه، قَالَ: يا بني قد قرأ آية لو قرأت عَلَى الجبال لتفطرت أو لتزلزلت.
نعم هذا القُرْآن أعظم موعظة، ولكن الغفلة تعرض لقلوب النَّاس والقرآن يذهبها، والشاهد هو الآيات التي ذكرها الله سبحانه تَعَالَى بعد ذلك حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99،100] .
علاقة هذه بما قبلها: أن الإِنسَان في حال النعيم يستعجل العذاب أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ماذا سيغني ذلك المتاع حين تأتي ملائكة الموت لقبض روحك، فحينها تكون الحسرة والندامة رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ يتوسل ويترجى كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] فإذا حضر الموت وعاين الملائكة أخذ يتمنى الرجوع، ولكن لا وقت لذلك، فلا ينفع الاستعتاب ولا الرجاء ولا الاستيقاظ، وإنما الآيات تتلى وتشاهد في كل وقت وفي كل حين لنؤمن بالله سبحانه وتعالى حق الإيمان قبل أن تدركنا تلك الحالة.
فالشاهد أن الله سبحانه وتعالى قد ألهمنا وفطرنا عَلَى التوحيد والإيمان به سبحانه وتعالى، وقد أخذ منا العهد والميثاق عَلَى أن نعبده وحده لا شريك له، وأشهدنا عَلَى أنفسنا أنه هو وحده ربنا ولا رب لنا سواه، وموجب ذلك ومقتضاه: أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأن لا نغفل عن طاعته ولا نعتذر بأي عذر أو علة فنقول: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173] ولن يحاسبنا يَوْمَ القِيَامَةِ على الميثاق، وإنما عَلَى إجابةِ الرسل فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6] يسألنا ويقول: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] وهذه نعمة من الله عز وجل أنه لا يحاسبنا عَلَى الميثاق وحده، وإنما يحاسبنا عَلَى ما جاءنا من الرسل، وكذلك السؤال في القبر (ماذا كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟) .
فبعد دليل الفطرة المجمل، جَاءَ دليل النبوة مفصلاً كاملاً واضحاً ناصعاً يبين لنا الطريق، فلا عذر ولا حجة لأحد، ولا أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، فما بقي لمن بلغه هذا الدين وهذا النبي صلى الله عليه وسلم ومن سمع به إلا الإيمان والاتباع قال صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) لأن الفطرة موجودة في قلوب النَّاس، وسمعوا بالنبي الذي بعث بهذه الملة.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
[والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم.
فمنها:
ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفه - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] إلى قوله (الْمُبْطِلُونَ) ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال: (إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ذريتك فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه.
فقال: أي رب من هذا؟
قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود.
قال رب كم عمره؟
قال: ستون سنة.
قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت.
قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟
قال: أولم تعطها ابنك داود؟
قال: فجحد فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته) ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء. أكنت مفتدياً به؟ قال فيقول: نعم، قال فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً] اهـ.
الشرح:
ذكر المصنف رحمه الله الآيات والأحاديث التي تدل على الميثاق، وذكر من هذه الآيات قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172،173] .
وهذه الآيات العظيمة من أعظم الآيات الدالة على توحيد الربوبية، وعلىأنه أمر فطري فطر الله تعالى الخلق عليه، فمعناها ومضمونها مؤكد لقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] فهذا الإيمان والإقرار بربوبية الله تعالى، وأنه هو وحده الرب الخالق الرازق وأنه يجب علينا أن نعبده وحده، وأن نتوجه ونتقرب إليه وحده، هذا أمر فطر الله عليه كل نسمة خلقها منذ أن خلق الإنسان الأول أبانا آدم عليه السلام إلى آخر مخلوق يُخلق في هذه الأرض.
ويتضح بذلك ما سبق بيانه وهو بطلان قول المتكلمين الذين قالوا: إن أول ما يجب على الإنسان هو: النظر، أو القصد إلى النظر، أو الشك، أو ما أشبه ذلك ليستدل على وجود الله وإلا كان إيمانه عن تقليد!
وكيف يصبح إيمان المقلد؟! فحكم بعضهم بأن هذا كفر، وقال بعضهم: إن الإيمان عن طريق التقليد ليس بكفر وإنما هو معصية!
وقال بعضهم: إنه من الخطأ المغفور له، وهذا من الخبط والتخليط الذي سببه الابتعاد عن الدليل، والإعراض عن كتاب الله تعالى المصرح فيه بأنه تعالى فطر العباد على التوحيد، وشهدت بذلك الأحاديث الصحيحة التي سبق ذكرها، ولا يوجد خلاف فيها بين أهل السنة والجماعة.
الخلاف في معنى الإشهاد مع ذكر الراجح
وقد حصل الخلاف هل كَانَ الإشهاد حقيقياً؟ يعني: هل الله تَعَالَى استخرج من ظهر آدم ذريته عَلَى الحقيقة كالذر، وأشهدهم عَلَى أنفسهم، وخاطبهم واستنطقهم ونطقوا؟ أم أن هذا مجاز أو للتقريب؟! وتعلمون أننا قد رجحنا مقدماً أن الأمر عَلَى الحقيقة، وأن هذا هو الأصل الذي يجب أن نسير عليه، فلا عدول عن الحقيقة، ولا عن ظواهر النصوص الشرعية أبداً فهذا هو مضمون الآية.
ومعناها الذي أخبر الله سبحانه وتعالى به، وفي قوله تعالى بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] سواء كانت قراءتنا في الآية شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا فيكون المعنى وأنطقناكم واستشهدناكم عَلَى الربوبية أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أو قرأناها بَلَى شَهِدْنَا فتكون كلمة شَهِدْنَا هنا من قول الذرية، ثُمَّ قال تعالى: أَنْ تَقُولُوا أي: فعلنا ذلك وأخذنا الإقرار منكم لكي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنا كنا عن هذا غافلين، فلا عذر ولا حجة لِمَنْ يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ، وقد عَبَدَ غيرَ اللهِ تَعَالَى بأن يقول: إني كنت في غفلة عن هذا الأمر، أو إنني إنما اتبعت شرك آبائي وأجدادي.
ولكن هل اكتفى الله تَعَالَى من الأعذار لبني آدم بهذا الإقرار؟ وهل يحاسبهم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مجرد هذا الإقرار؟ "لا"؛ لأن الله أعذر بغير هذا الإقرار، وهم: الرسل. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل [النساء:165] .
لهذا لا يكون السؤال يَوْمَ القِيَامَةِ عن الإقرار، وإنما يكون مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6] فالله يسئل الرسل: ماذا أُجبتم؟ ويسأل المرسل إليهم: ماذا أجبتم المرسلين؟ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي [الأنعام:130] ويقول: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] فيقررهم الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى إرسال الرسل وكفرهم بهم، وليس عَلَى مجرد الإقرار، وهذا فضل منه سبحانه وتعالى وقطع للحجة لكي لا يبقى بعد ذلك عذر لأحد.
ولهذا إذا قال أُولَئِكَ المجرمون المُشْرِكُونَ: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] فلا يقبل جوابهم، وهم لا يؤاخذون ولا يحاسبون عَلَى ما أخذ الله تَعَالَى عليهم وهم في ظهر آدم عليه السلام في قولهم: إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا عَلَى طاعةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فيكونُ هَؤُلاءِ المجرمون بين طاعتين: إما أن يطيعوا الرَّسُول الذي بعثه الله عز وجل، وإما أن يطيعوا السادة والكبراء والآباء والمجتمع الذي رباهم عَلَى أمر ما وهذا من فضله تَعَالَى عَلَى الإِنسَانية جمعاء، ومن كمال عدله عز وجل.
ثُمَّ يقول رحمه الله: [يُخْبِرُ سبحانَه أنَّه استخرج ذُرِّيَّةَ بني آدَمَ من أصلابهم شاهِدِينَ عَلَى أنفسهم أنَّ اللهَ رَبُّهُمْ ومليكُهم وأنَّه لا إله إلا هُوَ، وقَدْ وَرَدتْ أحادِيثُ في أخذِ الذُّرِّيَّةِ من صُلْبِ آدَمَ عليه السلام، وتمييزهم إِلَى أصحابِ اليمين، وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهادُ عليهم بأن اللهَ ربُّهم] وهنا يبدأ المُصنِّفُ رحمه الله يمهد للقول الذي اختاره، وهو أن الإشهاد لم يكن حقيقياً.
وهذا الكلام فيه إشعار وتمهيد لما يريدُ المُصنِّفُ رحمه الله أن يقوله، وذكر أشهر الأحاديث وأكثرها ذكراً واستشهاداً عَلَى موضوع الميثاق هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إنَّ اللهَ أَخَذَ المِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عليه السلام بِنَعْمَانَ -يعني عَرَفَهَ) ونَعْمَانَ هو الوادي المعروف، وكما هو معروف في الكتب القديمة أنه بطن واد لهذيل، وهو أيضاً لهذيل إِلَى اليوم تسكنه هذه القبيلة المعروفة، ففي هذه الرواية ورد تعيين المكان أنه في نعمان أو أنه في عرفة وعَرَفَهَ ونَعْمَانَ ليس بينهما كبير مسافة ولعل نَعْمَانَ اسم عَرَفَهَ وغيرها فتكون عَرَفَهَ جزء منه، فالله أعلم أي ذلك وقع.
والمقصود أنه وقع في هذه الأرض بعد إنزال أبينا آدم عليه السلام، فأخرج من صلبه كل ذريته، وفي ذلك الوقت لم يكن الله قد خلقها وإنما كل ذرية كتب أنه سيخلقها (فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُم قُبُلا) فليس في الأمر مجاز ولا احتمال للمجاز، بل أخرجهم من ظهره ونثرهم بين يديه وكلمهم وخاطبهم قبلاً أي: مقابلة، فقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] رواه الإمام أَحْمَد والنَّسَائِيُّ والحاكم ورواه غيرهم كابن أبي حاتم.
تعليل ابن كثير لحديث ابن عباس
ولو رجعنا إِلَى تفسير ابن كثير فسنجد أنه أعله بأنه موقوف، وقد سبق أن أحلنا إِلَى سلسلة الأحاديث الصحيحة.
وما كتبه الشيخ ناصر الدين هو الصواب، وهو الحق وهو الذي عليه كثير من السلف قديماً وحديثاً.
وما ذهب إليه المُصْنِّف وابن كثير وابن القيم قول مرجوح لا ينبغي أن يذهب إليه من قرأ تلك الروايات التي جمعها الشيخ ناصر.
تصحيح الشيخ ناصر لحديث ابن عباس
فهذا الحديث قد صح متصلاً مرفوعاً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن عدة من الصحابة غير ابن عباس بآثار كثيرة عن أعلام المفسرين من الصحابة من التابعين كلُّها تؤيد وتشهد أنه أخذ واستخراج حقيقي وإشهاد حقيقي، فهذا الحديث علق عليه الشيخ ناصر وقَالَ: صحيح بطرقه وشواهده.
أي: الحديث السابق المروي من طريق كلثوم بن جبر عنسعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
وهذا هو الذي رواه الإمام أَحْمَد والنَّسَائِيُّ والحاكم في المستدرك.
وأما الحديث الثاني وهو: ما رواه الإمام أَحْمَد عن عُمَرَ بن الخطاب أنه سُئِلَ عَنْ هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172] فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنَها، فقَالَ:(إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عليه السلام ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْت هَؤُلاءِ لِلجنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رجل: يا رَسُول الله فَفِيمَ العَمَلُ؟ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهَ عز وجل إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلجنَّةِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجََنَّةِ، فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ للنَّارِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ) ورواه أبو داود والتِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ وابنُ أبي حاتِمِ وابنُ جرير وابنُ حِبَّان في صحيحه.
تعقب على العلامة الألباني أثابه الله
والشيخ ناصر الدين الألباني يعلق هنا ويقول: صحيح لغيره إلا مسح الظهر فلم أجد له شاهداً، والشيخناصر استدرك عَلَى ابن القيم وابن كثير وعلى المُصْنِّف وعلى من تقدمهم من العلماء الذين مالوا إِلَى القول بأن الإشهاد غير حقيقي، وإنما هو الإقرار والاعتراف الفطري، وهو نفسه رحمه الله أخطأ عندما قَالَ: إن المسح الذي في حديث عُمَر لم يجد له شاهداً، ولو نظرنا إِلَى الحديث الآخر الذي رواه التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ورواه الحاكم وقَالَ: صحيح عَلَى شرط مسلم وقال الشيخناصر نفسه عن الحديث: (صحيح وجدت له أربع طرق بعضها عند ابن أبي عاصم في السنة بتحقيقي) لوجدناه شاهداً للفظة (ثُمَّ مسح عَلَى ظهره) فيكون الشيخ استدرك عَلَى من قبله ووقع هو في خطأ آخر.
فالحقيقة أن حديث عُمَر رضي الله عنه (إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عليه السلام ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْت هَؤُلاءِ لِلجنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رجل: يا رَسُول الله فَفِيمَ العَمَلُ؟ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهَ عز وجل إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلجنَّةِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجََنَّةِ، فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ للنَّارِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ) ولا نجد عند التأمل ذكراً للميثاق والاستشهاد في هذا الحديث، إذاً المُصْنِّف لما قال:(في بعضها الإشهاد عليهم) كَانَ كلامه علمياً وصحيحاً، وبعض الأحاديث ليس فيها: أن الله استشهدهم، إنما فيها: أنه استخرجهم، لكن هل هذا يعني أنه لا يصلح أن يكون دليلاً لمن يقول: إن الاستشهاد والإخراج حقيقي؟
الجواب: بلى يصلح، وإن كَانَ ليس فيه ذكر، ذلك لأننا نضم الأحاديث بعضها إِلَى بعض ويكفينا من هذا الحديث أنه صرح أن الله مسح عَلَى ظهر آدم بيمينه واستخرج منه الذرية.
إذاً: الاستخراج حقيقيٌ، ثُمَّ بعد أن استخرجهم، واختلفت الروايات في ذكر ما قال لهم.
اختلفت الروايات في ذكر ماذا قال الله لذرية آدم فرواية تقتصر عَلَى أنه قَالَ: خلقت هَؤُلاءِ للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثُمَّ مسح ظهره فاستخرج ذرية قَالَ: خلقت هَؤُلاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعملون) وفي روايات أخرى أنه (نثرهم بين يديه وكلمهم قبلاً، وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172،173] .
ولا تعارض بين الروايتين فبعد الاستخراج كَانَ ذلك، وما المانع أن يستخرجهم عز وجل ثُمَّ يخاطبهم، وبعد أن يخاطبهم يجعل من يشاء منهم في الجنة ومن يشاء في النار، ويقول:(خلقت هَؤُلاءِ للجنة ولا أبالي، وخلقت هَؤُلاءِ للنار ولا أبالي) لا مانع من ذلك ولا تعارض بين الحديثين.
وحديث التِّرْمِذِيّ الذي يرويه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فيه اختلاف في ألفاظه يقول: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَجَعَلَ -وهنا الزيادة- بَيْنَ عَيْنَي كُلِّ إنسَانٍ مِنْهُم وَبِيصاً مِنْ نُورٍ) فهو لما استخرجهم في عالم الذر جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من النور كأنه علامة عَلَى أن هذا إنسان وهذا إنسان، فجمعهم كلهم سبحانه بين يديه ورآهم آدم ورأى هذه الأشكال، ورأى أن علامة كل إنسان أن بين عينيه وبيص من النور فيرى هذه الجموع التي لا يعلم عددها إلا الله [ثُمَّ عَرَضْهَم عَلَى آدَمَ، فقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ] فأخذ آدم ينظر ويتعجب، هذه ذريتي ويكون منها هَؤُلاءِ البشر إِلَى قيام الساعة؟! فتعجب! ولكن الله تَعَالَى عَلَى كلِ شيءٍ قدير يفعل ما يشاء.
ثُمَّ إن آدم [رَأَى رَجُلاً مِنْهُم، فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هذا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٍ مِنْ آخرِ الأُمَمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لهُ دَاودُ عليه السلام] .
هنا جَاءَ السؤال من آدم عليه السلام بعد أن أعجبه هذا الوبيص الذي بين عينيه [قَالَ: رَبِّ، كم عُمرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعَينَ سَنَةَ، فَلَّمَا انقَضَى عُمُرُ آدَمَ، جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ، قَالَ: أَولَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةَ؟] وانظر كيف حرص الإِنسَان عَلَى الحياة؟ [قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابنَك دَاوُدَ؟]
فعقبَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بقوله: [فَجَحَدَ! فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتَهُ، وَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتَهُ، وَخَطِئ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتَهُ] هكذا ركبنا نَحْنُ البشر من الجحود والنسيان والخطأ، وليس هذا هو الشر بذاته ولا عيب بذاته، إنما العيب والخطأ أن يصر ابن آدم عَلَى الجحود، وأن يستمر عَلَى النسيان وأن لا يبالي بالأخطاء، فلا يستغفر ولا يتوب، فهذه هي المشكلة.
أما فطرته وجبلته وخلقته ففيها الجحود والنسيان والخطأ، فإن آدم حاج في هذه الأربعين وجحدها بعد أن كَانَ أعطاها ونسي وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً نسي ما أوصاه الله تَعَالَى به، ولم يكن له العزم ليقف أمام شهوة حب الخلود، وأن يكون ملكاً؛ بل أغراه الشيطان بذلك فضاعت عزيمته أمام هذه الحيلة الشيطانية وخطئ آدم فأكل من الشجرة فخطئت ذريته، وكل بني آدم من طبعه الجحود والنسيان، والخطيئة هذا شرح ألفاظ الحديث والشاهد منه للباب هي الجملة الأولى فقط وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة) وهذا يشهد لما تقدم في حديث عُمَرَ من أنه استخراج حقيقي وأن الاستخراج كَانَ بمسح الله تَعَالَى بيمينه الشريفة فخرجت ذرية آدم من ظهره.
إذاً: هذا الحديث من النوع الذي ليس فيه تعرض ولا ذكر للاستشهاد، ولكن فيه ذكر للاستخراج فهو كحديث عُمَر رضي الله عنه، ولهذا نجد أن أكثر من طعن في هذه الأحاديث تركز طعنه في ابن عباس لأنه هو الذي صرح.
ولهذا يذكر المُصنِّفُ الحديث الذي يَسندُ ويرجح حديث ابن عباس - ولا شك في صحته - وهو حديث أنس الذي رواه الإمام أَحْمَد يقول: وروى الإمام أَحْمَد -وهو في الصحيحين - عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شيءٍ. أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلَاّ أنْ تُشْرِكَ بي) .
وهذا الحديث رواه البُخَارِيّ ومسلم بالإضافةِ إِلَى رواية الإمامأَحْمَد، فلا مطعن فيه من حيث الصحة، ومع ذلك هو أصرح كما نص عَلَى ذلك المُصنِّفُ نفسه، فقد قال -كما سيأتي-: وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرج في الصحيحين، وليس فيه في ظهر آدم، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول وهناك رد عَلَى هذا الكلام سنبينه.
ومع قوة الدليل فإننا ننظر إِلَى منطوق الحديث وإلى منطوق الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172، 173] .
فنلاحظ أن منطوق الآية ومنطوق الحديث متفق، وهو أن الله أخذ العهد عليهم أن لا يشركوا به شيئاً، ولا إشكال في الحديث أنهم أخذوا من الظَهْرِ، ورُدُّوا إِلَى الظَهْرِ، ولم يكن هذا الخلق الحي الآن، ويكفي هذا الحديث دليلاً عَلَى ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو أن الإخراج حقيقي والاستشهاد حقيقي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شيءٍ. أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ؟ - وفيه - قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ
…
) الحديث.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وفي ذلك أحاديث أخر أيضاً كلها دالة عَلَى أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل النَّار وأهل الجنة، ومن هنا قَالَ من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وهذه الآثار لا تدل عَلَى سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل عَلَى أن بارئها وفاطرها سبحانه، صور النسمة، وقدر خلقها وأجلها، وعملها واستخرج تلك الصور من مادتها، ثُمَّ أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل عَلَى أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثُمَّ يرسل منها إِلَى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله ابن حزم.
فهذا لا تدل الآثار عليه، نعم، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة عَلَى الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق كشأنه سبحانه في جميع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفات وهيآت، ثُمَّ أبرزها إِلَى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق، فالآثار المروية في ذلك إنما تدل عَلَى القدر السابق، وبعضها يدل عَلَى أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة] اهـ.
الشرح:
بعد ذكر الأحاديث التي سبق شرحها فيما مضى، قال المصنف:[وأحاديث أخرى كلها دالة عَلَى أن الله استخرج ذرية آدم من صلبة، وميز بين أهل النَّار وأهل الجنة] وذكر الفعل بالبناء للمجهول مبيناً أنه لم يتقدم هنا ما يدل عَلَى إمام أو مؤلف بعينه، وما ذكره ليس مختصاً ولا مقتصراً عَلَى الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وإنما وردت آثار وأحاديث منها المرفوع ومنها الموقوف تثبت وتدل جميعها عَلَى أن الله سبحانه وتعالى استخرج ذرية آدم من صلبه كما تقدم والمصنف رحمه الله ذكر منها هنا:
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه الإمام أَحْمَد ورواه -أيضاً- الإمام مالك في الموطأ.
وقبله حديثابن عباس وهو أصرحها رواه الإمام أَحْمَد والحاكم، وغيرهما.
والثالث: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عند التِّرْمِذِيّ، ورواه -أيضاً- الحاكم.
والرابع: وهو ما رواه الإمام أَحْمَد وهو في الصحيحين.
هل خلق الأرواح قبل خلق الأجساد؟
يقول رحمه الله [ومن هنا قَالَ من قَالَ: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد] الذين قالوا بهذا القول، قالوه بناءً عَلَى أن الاستخراج كَانَ حقيقياً، وأنه تبارك وتعالى استخرج من ظهر آدم بنيه جميعاً استخراجاً حقيقياً وليس مجرد كناية عن الإخراج، وإنما استخرجهم وميزهم وخاطبهم واستنطقهم، وأقروا بما قال لهم وقطع الحجة والعذر عنهم، بناءً على ذلك قال من قال من السلف: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد.
ودليلهم على ذلك قالوا: ما دام أن الله سبحانه وتعالى قد خاطب الأرواح وخاطبته، فهي مخلوقة قبل الأجساد، وإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يخلق إنساناً من البشر، فإنه عز وجل يأمر الملك بإدخال روحه في جسده فيكون بشراً حياً.
ثُمَّ يقول المصنف: [وهذه الآثار لا تدل عَلَى سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً] وهذا من إضافة المصدر إِلَى فاعله، ومعناه أن هذه الآثار لا تدل عَلَى أن اللهَ عز وجل خَلَقَ الأرواح خلقاً مستقراً ثابتاً منفصلاً، وأنها موجودة في عالم الغيب عنده تبارك وتعالى، [وإنما غايتها أن تدل عَلَى أن بارئها وفاطرها سبحانه، صور النسمة، وقدر خلقها، وأجلها، وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثُمَّ أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، وأن منهم أصحاب اليمين، ومنهم أصحاب الشمال] .
بل ورد في بعض الروايات كما ذكرهاابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه الروح أن آدم عليه السلام لما رأى النَّاس رأى فيهم المعافى ورأى منهم المبتلى، فقَالَ: يا رب! هلّا عافيتهم جميعاً، قَالَ: إني أريد أن أُشْكر، فالله تبارك وتعالى أخرجهم عَلَى صفات، وعلى هيئات، وهو أعلم سبحانه وتعالى بما سيكونون عليه في ذلك الوقت، ثُمَّ أعاد ذلك العالم "عالم الذر" إِلَى صلب أبينا آدم وأخذت ذريته تتناسل.
وكل نسمة خلقها الله عز وجل، فإنها تخرج بإذن الله سبحانه وتعالى عندما يقدر الله أن يلتقي الزوجان الذكر والأنثى، وأن تخلق تلك النسمة فتنتقل من صلب ذلك الرجل، ثُمَّ تنفخ الروح وهكذا، فليس هنالك روح مستقلة منفردة موجودة من قبل، إنما يخلقها الله سبحانه وتعالى في ذلك الوقت، فيخلق الروح التي قضي وقدر أنه سوف يخلقها، وهذا هو الفرق بين القولين.
ولهذا لما جَاءَ رجل إِلَى سعيد بن المسيب رضي الله عنه فسأله عن العزل فقَالَ: إن الله تبارك وتعالى قَضَى بِكُلِ نسمة مخلوقة، واستخرجهم في كف آدم ورآهم وخاطبهم، وأنه لن يزيد من ذلك نفس، ولن ينقص منه نفس، فهذا ما يقرره السلف ويؤيدونه ويؤكدونه في مسألة القدر.
تعلق مسألة الميثاق بمسألة القدر
لقد اهتم كثير من أهل العلم ومنهم ابن القيم وابن عبد البر وغيرهم بمسألة الميثاق وبمسألة القدر وعلاقة الميثاق بها، وإثبات أن الله سبحانه وتعالى قد قدر أهل السعادة، وقدر أهل الشقاوة، وقضى ذلك وأمضاه.
وهذا هو أكثر ما كَانَ يهم العلماء، وأن في ذلك تفسير للآية، وعليه يُقَالُ: إن ذلك استخراجاً حقيقي، فالاستخراج إذاً قضية من قضايا الغيب، مثله مثل قضايا الغيب الأخرى، كالإيمان بالصراط، والميزان، والحساب، والجزاء، والإسراء والمعراج ونحوها.
كلام ابن حزم في هذه المسألة والرد عليه
ثُمَّ يقول المصنف: [ولا يدل عَلَى أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثُمَّ يرسل منها إِلَى الأبدان جملة بعد جملة كما قاله ابن حزم] أي: إن الصحيح هو إذا أراد اللهُ عز وجل أن يخلق إنساناً، فإنه يخلق روحه في ذلك اليوم الذي خلق فيه الجسد ويأمر الملك أن ينفخ فيه الروح، وقد ذكر ابن حزم ذلك في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/123 وأشار إِلَى ذلك في (5/219) في الطبعة التي أصدرتها دار عكاظ وحققها الدكتور عبد الرحمن عميرة وزميله.
يقول ابن حزم: وهذا هو القول الصحيح؛ بل ادعى أيضاً الإجماع عَلَى أن قوله هو الصحيح!! وقَالَ: الأدلة واضحة وجلية وظاهرة من القُرْآن والسنة، أما القُرْآن: فإن الله تبارك وتعالى يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ َ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ َ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم [الأعراف:11] وهذه الآية تدل عَلَى أن الله عز وجل خلق الخلق أولاً ثُمَّ صورهم -وثُمَّ للتعقيب مع الترتيب- ثُمَّ أمر الملائكة أن تسجد لآدم وعليه تكون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد!
ويعلق ابن القيم رحمه الله عَلَى هذا فَيَقُولُ: " هذا أليق بظاهريته" فأخطأ والخلل جاءه من الظاهرية، وإذا أردنا أن نرد عَلَى هذا القول نرد على الظاهرية نفسها واللهُ سبحانه وتعالى ذَكَرَ في قولهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] من بني آدم وليس فقط من آدم بل أخذ الذرية من أصلابهم، وجاء في الحديث: أنه استخرجها من ظهر آدم والحديث يفسر الآية، فلما مسح بيده سبحانه وتعالى عَلَى ظهر آدم واستخرج هذه الذرية، فإن آدم يكون موجوداً، فكيف يقول خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ َ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ َ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم.
ومعنى هذا الكلام أنه خلق الأرواح وهي منفصلة، فكأن خلقها متقدم عَلَى تصوير آدم وعلى إسجاد الملائكة له، وهذا الكلام لا يقول به أحد بل لو نظرنا إِلَى قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ لوجدنا أن ظاهر الآية لاتخص آدم بذلك؛ بل إن اللهَ سبحانه وتعالى لم يأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم إلا بعد أن خلق البشر وبعد أن صورهم وهذا لا يقول به أحد، وابن حزم نفسه لا يقول بالظاهر المطلق، وهو يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أي: ولقد خلقنا أرواحكم ثُمَّ َ صَوَّرْنَاكُمْ أي: صورهم في عالم الذر ثُمَّ َ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، يقول ابن حزم: فما دام أنك قد قدرت مضافاً فالتقدير الصحيح للمضاف أن نقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أي: خلقنا أباكم الذي أنتم من ذريته وجمهور السلف قالوا في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ َ صَوَّرْنَاكُمْ أي: قدرنا خلقكم وصوركم، فيكون اللهُ سبحانه وتعالى قبل أن يخلق آدم قدر خلق الناس، وقدر صورهم، ثُمَّ خلق آدم وأسجد له الملائكة.
أو وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أي: خلقنا أباكم آدم، وقد ورد التعبير في القُرْآن الكريم عن الجنس الإِنسَاني كله بالبشر الواحد وهو آدم عليه السلام، أو يكون بالعكس؛ لأن هذه ذريته، والعلاقة بينها واضحة.
والقصد أن هذه الآية وما ماثلها ليس فيها دليل لابن حزم عَلَى أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وإنما تدل عَلَى أن الله سبحانه وتعالى، قدر الخلق وصوره ثُمَّ ركب الإِنسَان كما قَالَ: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8] فيخلق الإِنسَان ويركبه عَلَى الصورة التي قدرها سبحانه وتعالى وقضاها.
أو المعنى الآخر: أنه خلق أبانا آدم وصوره وأسجد له الملائكة، ثُمَّ جعلنا منه ذريته، فخلقه من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين.
والدليل الثاني: الذي استدل به ابن حزم هو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) ، ووجه استدلاله أن الروح مخلوقة موجودة مستقلة تتعارف وتتناكر منفصلة عن الجسد، هكذا يقول، والواقع أننا لو تأملنا الحديث لوجدنا أن ما يدل عليه أن الأرواح خلقٌ من خلقِ الله سبحانه وتعالى "جنود مجندة" فهي أشباه ونظائر فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وهذا موجود في واقع النَّاس، فالأرواح المتشابهة المتعارفة تأتلف، والأرواح المتخالفة المتناكرة تختلف، ونجد أن أهل الخير يحبون أهل الخير، وأهل الشر يحبون أهل الشر؛ لأن الأرواح جنود مجندة خلقها الله عز وجل هكذا، وليس فيه دليل عَلَى أن الأرواح خلقت منفصلة في عالم الغيب، وبقيت هنالك.
والدليل الثالث: الذي ذكره ابن حزم حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي فيه: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات) ووجه استدلال ابن حزم أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يخلق إنساناً، وأن ينفخ فيه الروح، فإنه يأتي بتلك الروح المخلوقة المنفصلة الموجودة التي خلقها واستنطقها وأقرها فينفخها في ذلك المخلوق، وهذا في الحقيقة لا دليل عليه، وإنما الوجه الصحيح في هذا أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يخلق نسمة، فإنه يخلق روحها، ثُمَّ يأمر الملك بأن ينفخ هذه الروح المخلوقة في ذلك الجنين.
والذين قالوا: إن الأرواح قديمة أزلية هم طائفة من الفلاسفة ومن الزنادقة الذين لا يعتد بقولهم ولا بخلافهم في هذه المسألة.
ثُمَّ يقولابن حزم بعد ذلك: "وقد ذكر مُحَمَّد بن نصر المروزي عنإسحاق بن راهويه -ذكر القول الذي قال به- ثُمَّ قَالَ: وعلى هذا أجمع أهل العلم، وقَالَ ابن حزم: وهذا قول جميع أهل الإسلام.
ونقل ابن القيم رحمه الله أن ابن حزم ادعى الإجماع ها هنا في أمرين مختلفين، فإن السلف لم يجمعوا عَلَى أن الأرواح مخلوقة موجودة منفصلة قبل الأجساد حقيقة، وإنما أجمعوا عَلَى أن الأرواح مخلوقة من خلق الله عز وجل، وعليه فإن الإجماع الذي نقله مُحَمَّد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه إنما هو في كون الأرواح مخلوقة.
والآثار التي ذكرها مُحَمَّد بن نصر المروزي، ونقلها ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح تدل عَلَى هذا، ويكون قولابن حزمٍ بهذا شاذاً.
القضايا المتعلقة بمسألة الاستخراج
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فالآثار المروية في ذلك إنما تدل عَلَى القدر السابق، وبعضها يدل عَلَى أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة] وهذه مرتبة الكتابة وهي من مراتب القدر التي نقسمها إِلَى خمس درجات:
الدرجة الأولى: وهي: الكتابة العامة بما يقع في الكون، وهو الذي كتبه الله عز وجل في اللوح المحفوظ.
والدرجة الثانية: الكتابة النوعية، التي هي: كتابة ما سيكون من نوع الإِنسَان بالأخص من شقاء أو سعادة، فمما نؤمن به من أقدار الله عز وجل أنه سبحانه وتعالى قدَّر أن بني آدم فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وأنه استخرجهم عَلَى ما ورد في حديث الاستخراج، وهذا هو الذي أراده أكثر العلماء وقصدوه للاستدلال بهذه الأحاديث وهذه الآثار، كما فعل ابن أبي عاصم في كتاب السنة، وأبو عمر بن عبد البر، وابن القيم، وأمثالهم من العلماء الذين أرادوا إثبات القدر.
ولذا ذكروا هذه الأحاديث في أبواب القدر، ولكن المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هنا تبع الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ حيث أفرد الميثاق بفقرة مستقلة في العقيدة والكلام من قوله:[هذه الآثار لا تدل عَلَى سبق الأرواح] إِلَى قوله: [من أهل الشقاوة] منقول عن ابن القيم من كتابه الروح، فيقول ابن القيم: إن الآثار تدل عَلَى القدر وبعضها يدل عَلَى أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وبعضها فيها زيادة عَلَى القدر، وهي: أن ذلك القدر لم يكن مجرد تقدير منه عز وجل، فخلق طائفة للجنة وطائفة للنار، وإنما استخرج أمثالهم وصورهم التي سيكونون عليها وميز هَؤُلاءِ من هَؤُلاءِ.
وهنا أمور ثلاثة اتفق السلف عَلَى اثنتين منها واختلفوا في واحدة:
القضية الأولى: قضية التقدير والخلق وأنه عز وجل خلق طائفة للنار، وطائفة للجنة، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وقد صرحت بها الأحاديث.
القضية الثانية: ورد في الأحاديث أن الله سبحانه وتعالى استخرج صورهم وأمثالهم وقدر طائفة في النار، وطائفة في الجنة، ولم يخالف فيه أحد من السلف والذي اختلف فيه السلف هي القضية الثالثة.
القضية الثالثة: أنه حين استخرج صورهم وأمثالهم خاطبهم وأشهدهم، وأن هذا هو تفسير آية الأعراف، والخلاف يكون في حديث ابن عباس الأول، وفي حديث عُمَرَ.
أمَّا حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فلا إشكال فيه، ونصه (لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَي كُلِّ إنسَانٍ مِنْهُم وَبِيصَاً مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضْهَم عَلَى آدَمَ
…
) إلخ.
وبهذا يتضح أنه لا إشكال في القضية ولا علاقة لها بآية الأعراف وآية الميثاق، وكذلك الحديث الذي بعده، ولكن بالنسبة لحديث ابن عباس فإنه صريح في أن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام فأخرج من صلبه ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثُمَّ كلمهم فقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172،173] هذا بالنسبة للآية.
أما حديث عُمَر رضي الله عنه الذي رواه الإمام مالك في الموطأ والإمام أَحْمَد فهو أيضاً صريح في ذلك؛ لأن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قيل له يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] فَقَالَ عُمَر رضي الله عنه: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقَالَ: (إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عليه السلام ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْت هَؤُلاءِ لِلجنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ
…
) إِلَى آخر الحديث.
فالخلاف إذاً محصور في آية الأعراف: أهي دليل عَلَى الاستخراج، وأن الاستخراج كَانَ حقيقياً، أم نقول كما قال بعض السلف: إنها الفطرة؟.
يقول المصنف رحمه الله تعالى:
[وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم، ومن ثم قال -قائلون- من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعنى قوله: "شهدنا": أي قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا وهذا قول ابن عباس واُبيّ بن كعب.
وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض.
وقيل: شهدنا من قول الملائكة والوقف على قوله: "بلى " وهذا قول مجاهد، والضحاك والسدي.
وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم والأول أظهر وما عداه احتمال لا دليل عليه وإنما يشهد ظاهر الآية للأول] اهـ. .
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله: وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم] ولا يكفيان للاستدلال، لكن يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في تعليقه على كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "إخراج الذرية من ظهر آدم، أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني: عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنشرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أخرجه أحمد وابن جرير في التفسير وابن أبي عاصم في السنة، والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات كلهم من طريق الحسين بن محمد المروذي، ثنا جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
قلت: وحقهما أن يقيداه بأنه على شرط مسلم فإن كلثوم بن جبر من رجاله وسائرهم من رجال الشيخين، وتابعه وهب بن جرير حدثنا أبي به، دون ذكر نعمان، وقال أيضاً: صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر، ووافقه الذهبي أيضاً.
وأما ابن كثير فتعقبه بقوله في التفسير: "هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعه بن كلثوم بن جبر عن أبيه به.
وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عنسعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنابن عباس، فهذا أكثر وأثبت، والله أعلم.
قلت: هو كما قال رحمه الله، ولكن ذلك لا يعني أن الحديث لا يصح مرفوعاً وذلك لأن الموقوف في حكم المرفوع لسببين:
الأول: أنه في تفسير القرآن، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع ولذلك اشترط الحاكم في كتابه المستدرك أن يخرج فيه التفاسير عن الصحابة كما ذكر ذلك فيه.
الآخر: أن له شواهد مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جمع من الصحابة، وهم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، وأبو أمامة وهشام بن حكيم، أو عبد الرحمن بن قتادة السلمي، على خلاف عنهما، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو الدرداء وأبو موسى، وهي وإن كان غالب أسانيدها فيها مقال فإن بعضها يقوي بعضاً، بل قال الشيخ صالح المقبلي في الأبحاث المسددة: ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك، ولا سيما وقد تلقى هذا -ما اتفقت عليه من إخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادهم على أنفسهم- السلف الصالح من الصحابة والتابعين دون اختلاف بينهم منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب وسلمان الفارسي، ومحمد بن كعب والضحاك بن مزاحم والحسن البصري وقتادة وفاطمة بنت الحسين، وأبو جعفر الباقر وغيرهم.
وقد أخرج هذه الآثار الموقوفة وتلك الأحاديث المرفوعة الحافظ السيوطي في الدر المنثور وأخرج بعضها الشوكاني في فتح القدير ومن قبله الحافظ ابن كثير في تفسيره وخرجت أنا - أي: الألباني - حديث عمر في الضعيفة -وصححته لغيره في تخريج شرح الطحاوية - وحديث أبي هريرة في تخريج السنة لابن أبي عاصم بتحقيقي، وصححته -أيضاً- هناك وفي الباب عن أبي الدرداء مرفوعاً وقد سبق برقم (49) .
وعن أنس برقم (172) ، وهو متفق عليه، فهو أصحها ولا إشكال في صحته على الإطلاق.
(إن الله تعالى يقول للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ فيقول نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي!!)
إذا عرفت هذا فمن العجيب قول الحافظ ابن كثير عقب الأحاديث والآثار التي سبقت الإشارة إلى أنه أخرجها: فهذه الأحاديث دالة على أن الله عزوجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عنابن عباس وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم.
قلت: -أي الشيخ ناصر -: وليس الأمر كما نفى بل الإشهاد وارد في كثير من تلك الأحاديث الأول: حديث أنس هذا ففيه كما رأيت قول الله تعالى: " قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً"، قال الحافظابن حجر: في فتح الباري فيه إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف:172] قلت: ولفظ حديث ابن عمرو الذي أعلهابن كثير بالوقف إنما هو "أخذ من ظهره.." فأي فرق بينه وبين لفظ حديث أنس الصحيح.
فالشيخ الألباني رحمه ينقد -كلام الحافظابن كثير - فنعرف بذلك أن كلام المصنف الذي هو منقول من كلام ابن كثير منتقد وأنه مرجوح.
والحافظ ابن كثير رحمه الله أعل حديث عبد الله بن عمر وقال: إنه موقوف ولفظ حديث عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، قال أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم؟ قالوا بلى: قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة، إنا كنا عن هذا غافلين)، يقول الشيخ ناصر: فأي فرق فلفظ حديث ابن عمرو الذي أعله ابن كثير "أخذ من ظهره"
وفي حديث أنس في الصحيحين يقول: (قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً) فالحديثان في الحقيقة موردهما وموضوعهما واحد فحديث أنس لا شك في صحته وهو يؤيد ذلك الحديث الذي هو ضعيف أو موقوف.
الثاني حديث عمر بلفظ: (ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية..) .
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان ورواه كذلك الإمام مالك في الموطأ ومن هنا علق عليه الحافظابن عبد البر واحتج به لأن المالكية رحمهم الله يرون أن ما أخرجه مالك في الموطأ فهو صحيح.
الثالث: حديث أبي هريرة الصحيح (مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة) وهو فيه قصة آدم وداود وكيف أنه أخذ من عمر آدم أربعين سنة وأضيفت إلى عمر داود.
الرابع حديث هشام بن حكيم رضي الله تعالى عنه، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي عن أبيه عن هشام بن حكيم رحمهم الله، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله: أنبتدئ الأعمال أم قد قضى القضاء؟
وهذا يوافق ما في الصحيحين من سؤال الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على الجنازة ببقيع الغرقد، وجلس فسألوه فقالوا: يا رسول الله أهذه الأعمال أفيما يستأنف أم في أمر قد قضي وفرغ منه؟
وهذا السؤال الذي يسأله كل إنسان عندما يفكر في القدر وفي علاقته بأحوال الناس، فالسؤال هذا يشهد له وعليه فإن ما ورد في الصحيحين وغيرهما مما لا شك في صحته قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، ثم قال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار "
كما قال في الحديث الآخر، المتفق عليه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ الآيات في سورة الليلفَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] .
إذاً ليس في هذا الحديث أي إشكال، لأن ما ورد فيه تشهد له الأحاديث الصحيحة الثابتة.
الخامس: حديث أبي أمامة {لما خلق الله الخلق وقضي القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى} وهذا أيضاً ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى قال وروىجعفر بن الزبير "وهو ضعيف" عن القاسم عنأبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لماخلق الله الخلق وقضى القضية -أي: قدر ذلك وقضاه- أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال: يا أصحاب اليمين، فقالوا: لبيك وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قال: يا أصحاب الشمال، قالوا: لبيك وسعديك، قال: ألست بربكم قالوا: بلى، ثم خلط بينهم فقال قائل له: يارب لم خلطت بينهم، قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم) والحديث يقول عنه الحافظ ابن كثير إن فيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف، لكن ما مر من ألفاظٍ من الحديث تشهد لها الأحاديث الصحيحة ومنطوق الآيات، فهذا الحديث يصلح للاستشهاد، وبعض الأحاديث تشد بعضها بعضاً، ففي ذلك رد على قول ابن القيم أيضاً في كتابه الروح بعد أن سرد طائفة من الأحاديث المتقدمة، والله تعالى أعلم.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم عَلَى أنفسهم ثُمَّ أعادهم، كالثعلبي والبغوي وغيرهما، ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة عَلَى ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، كالزمخشري وغيره، ومنهم من ذكر القولين، كالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلىأهل السنة، والثاني إِلَى المعتزلة] اهـ.
الشرح:
إن كل المفسرين الذين يفسرون بالأثر عن السلف الصالح ومن هَؤُلاءِ الثعلبي والبغوي ذكروا الآثار التي تدل عَلَى أن الله استخرج ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم عَلَى أنفسهم ثُمَّ أعادهم، ومنهم من ذكر أنه نصب لهم الأدلة التي تدل عَلَى وحدانية الله، وشهدت بذلك عقولهم وبصائرهم ومن هَؤُلاءِ الزمخشري ورد الأحاديث الصحيحة التي تدل عَلَى القول الأول، ولا غرابة في ذلك لأنه كما تعلمون يفسر القُرْآن بالرأي، ويأتي بالقول الذي يرى أنه موافق للعقل.
ومنهم من ذكر القولين كالواحدي والرازي والقرطبي وهَؤُلاءِ هم في الغالب: من الذين يجمعون بين النصوص، وبين كلامأهل الكلام، ولهذا نجد أن الرازي -مثلاً- وهو من أئمة المذهب الأشعري، يجتمع مع المعتزلة أحياناً، ومع أهل السنة أحياناً، يترددون ويتذبذبون بين هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ، ولهذا فإنه هو وأمثاله الذين ذكرهم المُصنِّفُ جمعوا بين القولين، لكن الرازي في تفسيره نسب القول الأول إلىأهل السنة.
والثاني إِلَى المعتزلة، وهذا ليس ببعيد أن يذكر أن أهل الحديث وأهل الأثر يقولون: إنه استخراج حقيقي عَلَى ظاهر النصوص وهو كذلك، والقول الثاني: نسبه إِلَى المعتزلة والواقع أنه ليس خاصاً بالمعتزلة؛ لأن هذا القول انتصر له الحافظ ابن كثير وانتصر له ابن القيم رحمها الله تَعَالَى كما سوف نلاحظ، وقد سبقت الإشارة إِلَى ذلك أيضاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد -على الصفة التي قالها أهل القول الأول- موقوف على ابن عباس وابن عمرو، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين والحاكم معروف تساهله رحمه الله.
والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر. وذلك شواهده كثيرة، ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.
وأما الأول: فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيه من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.
قالالقرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه. فقال قوم: معنى الآية:أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض، قالوا ومعنى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172] : دلهم بخلقة على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] ذهب إلى هذا القفال وأطنب] اهـ.
الشرح:
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح كما نقل عنه المصنف: إن هذه الآية لا تدل على القول بأن الاستخراج كان حقيقياً؛ لأن الله تعالى قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] والأخذ كان من ظهور بني آدم ولم يكن من ظهر آدم، وهذا الرأي ضعيف؛ لأن الآية فيها حكمة فلو تأملنا الأسلوب القرآني لوجدناه أبلغ أسلوب، ولا يمكن لأي أسلوب من الأساليب أن يشبهه، ولا يوجد في كلام العرب أبلغ منه على الإطلاق، ولا أوجز ولا أفصح ولا أوضح ولا أجلى منه فإذا وجدنا أن الأحاديث قد فسرت الآية، بأن الله تعالى مسح على ظهر آدم فاستخرج ذريته، فإنه سبحانه وتعالى قد ذكر أن هذه الذرية كل إنسان هو من ظهر أبيه وهكذا يتعاقبون، فإذاً كل هؤلاء الناس أُخرجوا دفعة واحدة بين يدي آدم ونثروا بين يديه، فيكون الله تعالى فعلاً قد أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم.
ولو أن الآية اقتصرت على ذكر آدم، وأن الله تعالى أخرج من ظهر آدم ذريته، لقال قائل من الناس: هؤلاء ذرية آدم أخرجهم الله من ظهره -يعنى: أبناء من صلبه- فأين بقية البشر؟
لا حجة عليهم، ولكن الله عز وجل يريد أن يبين أن الحجة قائمة على جميع بني آدم فلهذا جاء بذريتهم وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] فإذاً هو أخذ الذرية من "عالم الذر" وهذا كله بعضه من بعض أي: نثروا بين يدي آدم عليه السلام الأجداد مع الأحفاد كلهم دفعة واحدة فلذلك كان الآخذ من ظهور بني آدم؛ لأنها أجيال متعاقبة إلى قيام الساعة؛ ولكنهم نثروا دفعة واحدة بين يديه فهذه الآية بهذا اللفظ تدل على معنى أعظم وأبعد مما يظنون، ولو كان الأمر كذلك لكان من ظهر آدم، قال:[إنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم من الجنة وبعضهم من النار، كما في حديث عمر وفي بعضها الآخر الأخذ، وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا اشهاد] ، وهذا صحيح. كما في حديث أبى هريرة لكن لا تُعارِض أحاديث ذكرت الأخذ والاستخراج وأحاديث ذكرت الإراء لآدم
…
لا تعارض؛ لأن هذه كلها واقعة واحدة، ولكن قد يقتصر الراوي من الصحابة فما بعده على بعض الحديث فلا يذكره كله، فإذا كان الكلام في القدر يذكر من الحديث أنه سبحانه وتعالى جعل طائفة في الجنة وطائفة في السعير، وإذا كان الكلام في الإقرار على توحيد الربوبية، يذكر منه الإقرار والاستشهاد والاستخراج، وإذا كان المراد أن آدم عليه السلام رآهم وما في ذلك من العجب العجاب والآية البينة، يذكر أنه أريهم آدم عليه السلام، وهكذا
…
)
وقول المصنف: [والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أصحاب القول الأول، وهم المفسرون بالأثر، موقوف على ابن عباس وابن عمرو وتكلم فيه أهل الحديث ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك، والحاكم معروف تساهله] وهذا القول قد بينا لكم أنه قول ضعيف وخطأ؛ لأنه ليس بموقوف، بل له شواهد مرفوعة كثيرة وفي نفس الوقت ليس الحاكم وحده هو الذي رواها، بل رواها غيره مثل ابن أبي عاصم، وكثير ممن رووا ذلك ومنهم ابن جرير الطبري، والحافظابن كثير نفسه أعل هذا وذاك بالوقف مع أنه أوردها، وذكر من رواها وأخرجها فالقول: بأنه لم يروها إلا الحاكم خطأ، وإن كان قوله:(من أهل الصحيح) قد يوهم أن الذين رووا الاستخراج هم من غير العلماء الذين اشترطوا الصحة؛ لأن الحاكم اشترط الصحة كما اشترط الشيخان الصحة.
لكن الحديث الصحيح يُقبل وإن رواه من رواه إذا صح السند؛ وإن كان من الكتب التي يغلب عليها الضعاف إذا صح أن هذا لا غبار عليه، والأمر الآخر: أنه ليس كل من ذكروا ذلك ممن لم يشترط الصحيح، فإن حديث أنس في الصحيحين كما سيأتي في آخر كلام المصنف، إذاً: ليس لكلام المصنف هنا أي تبرير إلا أن نقول: إنه خطأ غفر الله لنا وله آمين.
اختلاف أهل السنة في معنى الاستخراج لافي القدر
يقول المصنف: [والذي فيه القضاء بأن بعضهم إِلَى الجنة وبعضهم إِلَى النَّار دليل عَلَى مسألة القدر وذلك شواهده كثيرة ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون] .
مسألة القدر لا خلاف بين أهل السنة فيها، وإنما يورد بعض أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هذه الآية وبعض هذه الآثار التي ذكرها المُصْنِّف في باب القدر والرد عَلَى القدرية وهذا حق، ولكن لا ينفي هذا الجانب الآخر وهو مسألة الاستخراج.
يقول: [وأما الأول: فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف] أي: ما عدا القدر وهو مجرد الاستخراج والإشهاد فيه نزاع [ولولا ما التزمت من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيه من المعاني المعقولة، ودلالة ألفاظ الآية الكريمة] وبسط هذه الآثار.
والكلام عليها موحجود في وأيضاً في كتاب الروح وكتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم رحمه الله "قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكره من ذلك حسب ما وقفنا عليه.
فَقَالَ قوم معنى الآية: أن الله أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض، قالوا: ومعنى: أشهدهم عَلَى أنفسهم ألست بربكم " دلهم بخلقه عَلَى توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورةً أن له رباً واحداً: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172] أي: قال فقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تَعَالَى في السموات والأرض: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] وذهب إِلَى هذا القفال وأطنب".
معنى الإشهاد في آية الميثاق
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وقيل: إنه سبحانه وتعالى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثُمَّ ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك، إِلَى آخر كلامه.
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلَاّ أنْ تُشْرِكَ بي. ولكن قدر روي من طريق أخرى: قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إِلَى النَّار. وليس فيه:(في ظهر آدم) . وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون النَّاس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ والثاني: أن الآية دلت عَلَى ذلك] اهـ.
الشرح:
يقول أصحاب القول الأول: كيف يقول الله تَعَالَى في ظاهر الآية: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] فكيف تخرجون هذا القول وتصرفونه عن ظاهره أنه قول إلى مجرد أنه إقرار. أي: أنه إقرار وممن ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسيره، وَقَالُوا: إن هذا القول ليس قولاً حقيقياً وإنما المقصود مجرد الإقرار واستدلوا بقوله تعالى: عندما خاطب السموات والأرض: ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] فَقَالُوا: إن السموات والأرض لم تتكلم وإنما أذعنت وأقرت، فكان ذلك منزلة لو أنها نطقت، وهذا القول أيضا مرجوح.
فما المانع أن تنطق السموات والأرض وكل شيء يبقى عَلَى الظاهر، فالبشر في عالم الذر نطقوا ولا غرابه في ذلك عَلَى قدرة الله سبحانه وتعالى وكذلك السموات والأرض نطقت ولا غرابة في ذلك عَلَى قدرة الله، فقد أنطق النمل وأنطق الهدهد وفقه ما تكلم به سليمان عليه السلام، وأنطق الجبال سبحن مع داود بالعشي والإبكار، فما المانع أن تنطق السموات والأرض وينطق الإِنسَان في عالم الذر، في الحقيقة أن كل هذه الآيات لا حجة لهم فيها، لأننا لم نوافقهم عَلَى أن السموات والأرض لم تنطق، وإنما هو مجرد إقرار.
فالله سبحانه وتعالى قادر عَلَى كل شيء، ويَوْمَ القِيَامَةِ إذا جحد الجاحدون والمكابرون ذنوبهم وأعمالهم ختم الله عَلَى فواههم وتكلمت أيديهم وتشهد أرجلهم وتنطق جلودهم؛ بل في آخر الزمان أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكلم الرجل فخذه وعذبة سوطه، وتخبره ما فعل أهله من بعده، وهناك أشياء كثيرة ثابتة لا مجال الآن لاستعراضها، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء وقد ذهب إِلَى هذا القول القفال وغيره من الذين فسروا الآية عَلَى خلاف ظاهرها.
[وقيل: إنه سبحانه وتعالى أخذ الأرواح قبل خلق الأجسام؛ وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها، ثُمَّ ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك إِلَى آخر كلامه] ولا جديد في كلام القرطبي وإنما ذكره المُصْنِّف رحمه الله ليبين أنه ذكر القولين، وأن المسالة خلافيه، والقول بأنه أخرج الأرواح هذا هو القول الذي يجري عَلَى ظاهر الآية.
ثُمَّ قال: [وأقوى ما يشهد بصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه (قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلَاّ أنْ تُشْرِكَ بي) ] يقول: وهذا أقوى ما يشهد بصحة القول الأول، [وكفى به دليلاً قوياً] لأن حديث يرويه الإمامان الجليلان البُخَارِيّ ومسلم، فلا نطعن في صحته بأي وجه من الوجوه، وفيه التصريح بأن الله سبحانه وتعالى أخذ العهد عَلَى بني آدم في ظهر أبيهم آدم ألا يشركوا به شيئا.
فلو نظرنا إِلَى منطوق الحديث، ومنطوق الآية لوجدنا أن منطوقهما واحد، وأنهما متظافران يدل بعضهما عَلَى ما يدل عليه الآخر. ولكن المُصْنِّف رده بقوله:[ولكن قد روي من طريق أخرى: قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إِلَى النَّار] والحقيقة أنه لا تعارض بين الروايتين: فهذه فسرت تلك؛ لأن الأيسر والأهون هو التوحيد، الذي هو يسير عَلَى من يسره الله تبارك وتعالى عليه قَالَ:[وليس فيه: (في ظهر آدم) ، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول] ولكن فيه أخذ الإقرار وأنه إقرار وإشهاد حقيقي، وبعض الأحاديث تبين بعض، وكذلك الآيات والأحاديث تفسر الآيات ثُمَّ قَالَ:[بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين أحدهما: كون النَّاس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ، والثاني: أن الآية دلت عَلَى ذلك] .
يذكر المُصْنِّف رحمه الله: أن القول بأن الاستخراج كَانَ حقيقياً يتضمن أمرين عجيبين الأمر الأول: ما ذكره كثير ممن طعنوا في هذا القول وهو أن النَّاس تكلموا وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ، حتى قال بعضهم: إن هذا يشبه القول بمذهب التناسخ، وما هذا إلا من التعسف في الفهم والاستدلال، فما هو الغريب أن يكون النَّاس تكلموا وأقروا بالإيمان فإن هذا شيء ذكره الله سبحانه وتعالى وفسرته الأحاديث المرفوعة والموقوفة فلا غرابة ولا عجب فيه، فالله سبحانه وتعالى خلق الأرواح واستنطقها، كما يستنطق ما شاء من خلقه سبحانه وتعالى، قال:[وأنه تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ] .
ولا يقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عموماً: إن الحجة يَوْمَ القِيَامَةِ تقوم عَلَى الإِنسَان بما أشهده الله تَعَالَى عليه في عالم الذر -أي: لما استخرجهم من ظهر أبيهم- وهل يجازي الإِنسَانُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويحاسبه بناءً عَلَى ما أشهده الله وأقره في ذلك اليوم؟ لا، وإنما يخاطبون فيسألون ماذا أجبتم المرسلين؟ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6] فالحجة التي يسأل عنها النَّاس هي إجابة المرسلين، ولا يمنع ذلك من أن يكون لهذه الحجة طريق مساندة وممهدة ومنها الفطرة وهذا الميثاق، فلو لم يكن إلا هذا الإقرار وهذا الميثاق لقال الناس: يا ربنا إن هذا الميثاق في أنفسنا لكنك لم تبعث إلينا رسولاً فيذكرنا أو يبين لنا، ولهذا قال عز وجل: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] فلا حجة بعد الرسل، فالرسل جاءوا يذكرون بالميثاق وبما في الفطرة، فهي أدلة بعضها يؤيد بعضاً ولا تعارض بينها.
وأما قوله: [إن الآية دلت عَلَى ذلك] فهذا ما يقوله أصحاب القول الأول، ثُمَّ أخذ يبني بأن الآية لا تدل عليه بوجه، وهذه الوجوه التي ذكرها المُصْنِّف هنا مختصرة هي من كتاب الروح لابن القيم رحمه الله، ولهذا نذكر هذه الوجوه إن شاء الله ونشرحها إجمالاً.
الرد على المصنف فيما ذهب إليه في معنى الاستخراج
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[والآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه قال: مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف:172]، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
الثالث: أنه قَالَ: ذُرِّيَّتَهُمْ ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أي: جعلهم شاهدين عَلَى أنفسهم ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إِلَى هذه الدار كما تأتي الإشارة إِلَى ذلك لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تَعَالَى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165] .
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: لئلا يدَّعو الغفلة، أو يدَّعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا عَلَى ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد عَلَى نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم عَلَى أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقولهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض [إبراهيم:10] .
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة عَلَى مطلوب معين مستلزمة للعلم به فَقَالَ تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:174] ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر النَّاس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد عَلَى الفطرة، لا يولد مولود عَلَى غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه، لا يتبدل ولا يتغير. وقد تقدمت الإشارة إِلَى هذا. والله أعلم] اهـ..
الشرح:-
سوف نبين عدم رجحان هذه الأوجة العشرة التي استدل بها المُصْنِّف فيما ذهب إليه فقوله: أن الآية تضمنت ما يلي:
الأول: أنه قال من بني آدم ولم يقل من آدم.
والثاني: أنه قال من ظهورهم ولم يقل من ظهره.
والثالث: أنه قال من ذريتهم ولم يقل من ذريته.
هذه الأوجه الثلاثة مضمونها: أن إشهاد الله لم يكن من ظهر آدم، وإنما الألفاظ -كما تلاحظون- من بني آدم، وكذلك ظهورهم وذرياتهم وهذا لا اعتراض فيه، وذلك لأن ذكرهم بهذا الجمع يدل عَلَى استخراج الأبناء من الآباء إِلَى آخر ما يكون من بني آدم، ولو لم يذكر إلا آدم عليه السلام لظن ظان أن الذين استخرجوا هم ذريه آدم فقط -أي: الذين هم من صلبه- فلا دليل بعد ذلك يبقى واضحا عَلَى الأحفاد إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
والرابع أنه قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين عَلَى أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إِلَى هذه الدار، ولا يذكر شهادة قبلها؛ نقول: ليس شرطاً أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، لأن الاستشهاد كَانَ في عالم آخر، ونحن الآن في عالم مغاير، فليس من الشرط أن يبقى ذاكراً لذلك، وأما يَوْمُ القِيَامَةِ فلا يستبعد أن يتذكروا أي: أننا الآن -بني آدم- في هذه الدنيا نقول: لم نتذكر أن الله تَعَالَى أخذ علينا العهد بهذا الشي بالذات، وهذا صحيح، لكن لا يبعد أننا نذكر ذلك في يَوْمِ القِيَامَةِ، والحساب أو السؤال عن هذا الميثاق إنما يكون يَوْم القِيَامَةِ: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] وأما في هذه الدار فمن رحمة الله أن الحجة لا تقوم إلا عن طريق الرسل
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وهذا أيضا لا اعتراض فيه؛ لأننا نقول: إن إرسال الرسل، وإن الفطرة والميثاق الأول جميعها أدلة متظافرة ولا يتعارض بعضها مع بعض، فما المانع أن يكون مع هذين الدليلين، ومع هاتين الحجتين، دليل ثالث وحجه ثالثه، والله تبارك وتعالى قدير عَلَى ذلك.
والسادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهاد هم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم] وهذا الوجه نجيب عليه بجوابين:
الأول: أنهم ليسوا غافلين عن التوحيد، وهو المقصود بالإشهاد والإخراج، فلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنا كنا غافلين عن التوحيد، بل هو موجود في أنفسهم.
والجواب الآخر: أنه لا يستبعد أنهم يَوْمَ القِيَامَةِ يتذكرون ذلك ويقرون به، أو ينكره بعضهم مكابرة منهم، مع أنه ينبغي له أن يذكره أو ينساه.
والسابع: قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173] فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: لئلا يدعو الغفلة، أو يدعو التقليد فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا عَلَى ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة] نقول: الرسل والفطرة والإشهاد كلها مجتمعه تمنع وتقطع الشرك، وتمنع ادعاء الغفلة وادعاء التقليد، والله سبحانه وتعالى عندما ذكر هذا الإشهاد وإلاقرار، لم ينص عَلَى أنه هو الدليل الوحيد.
والثامن: قوله: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173] يقول: أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا يا رب أفتهلكنا بما فعل المبطلون، ونحن لسنا من المبطلين، إنما نَحْنُ مقلدون أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم، فتابعناهم عَلَى الشرك، فكيف تهلكنا بما فعل المبطلون. فَيَقُولُ: هذا لا يتناسب مع أن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل فنقول: هذا نفس الجواب: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لم يجعله دليلاً واحداً، وإنما جعله دليلاً من أدلة، فيَوْم القِيَامَةِ يسألهم ماذا أجبتم المرسلين؟ وسؤالهم عن ذلك يتضمن إنكارهم لرسالة المرسلين ويتضمن إنكارهم للفطرة وللميثاق الأول.
قوله التاسع: أنه سبحاه أشهد كل واحد عَلَى نفسه أنه ربه وخالقه واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] أي: فكيف يصرفونه عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم وهذا كثير في القُرْآن [فهذه هي الحجة التي أشهدهم عَلَى أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضْ] .
أما العاشر فهو نفس التاسع مؤداهما واحد، وهو: أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل وأودع في قلوب النَّاس الآية الدالة عَلَى وجوده وعلى توحيده وعلى ربوبيته، وهي الفطرة، والفطرة أمر معلوم أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضْ [إبراهيم:10] فالله تبارك وتعالى فطر النَّاس عَلَى الإيمان به، وأنه الخالق الرازق، فالإقرار والميثاق هو هذه الفطرة التي يولد عليها كل مولود، والتي لاشك أن النَّاس جميعا لا ينكرونها، وهذا ما يريد أن يقوله المصنف، وأيضاً: لا منافاة كما سبق بين أن تكون هناك فطرة، وأن يكون هنالك استخراج وإشهاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وقد تفطن لهذاابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم.
وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه.
ولاشك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء:135] وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟
بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب.
فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه على الصحيح حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح، فإن كان آباؤه مهتدين، كيوسف الصديق مع آبائه، قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب [يوسف:38]، وقال ليعقوب بنوه: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق [البقرة:133] ، وإن كان الآباء مخالفين الرسل، كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8] الآية.
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه، فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] .
وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب، وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار، لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو والله الموفق، فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل فإنه مركوز في الفطر وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب "والترائب": عظام الصدر، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين، في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق، واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا] اهـ.
الشرح:
كما هو معلوم أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، وأن الشرك حادث طارئ، وهذا الكلام ينطبق على بني آدم جميعاً من جهتين:
الأولى: من جهة أصلهم ونشأتهم.
والثاني: من جهة كل فرد منهم.
فأما من جهة النوع والجنس الإنساني ككل فهو: أن الله سبحانه وتعالى فطرهم على التوحيد وظلوا كذلك فكان آدم عليه السلام نبياً رسولاً مكلماً وبقيت ذريته على التوحيد عشرة قرون كما قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة:213] فالناس كانوا أمة واحدة على التوحيد على القول الصحيح في الآية، فكان بنو آدم عشرة قرون على التوحيد حتى وقع الشرك الأول في قوم نوح.
والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس منفوسة وخلق كل بشر على الفطرة الصحيحة كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) وفي رواية أخرى: (يولد على الملة)، أي: على الإسلام وعلى التوحيد الخالص وعلى الإقرار لله سبحانه وتعالى بالربوبية والألوهية فكل مولود يولد على ذلك ولو ولد في بيئة يهود أو بيئة نصارى أو مجوس أو في أي مكان؛ فإنه يولد على ذلك، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب له مثلاً بالبهيمة التي تنتج بهيمة جمعاء ليس فيها خطوط ولا علامات ولا تغيير، وكما تولد البهائم سليمة من جميع جوانبها هكذا يولد الإنسان في جملته ليس فيه أي انتماء أو تميز أو علامة تصرفه عن الفطرة القويمة السليمة، ولكن الأبوين والبيئة والتربية هي التي تجعله يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، ولم يقل أو "يسلمانه"؛ لأن البقاء على فطرة الإسلام هو الأصل، كما أن البهيمة إذا ولدت تبقى بدون علامات هذا هو الأصل فيها، ولكن لو خطها أحد بعلامات تجعلها تبع لفلان أو لفلان لكان ذلك أمراً حادثاً وطارئاً عليها.
فيقول إذا احتجوا يوم القيامة بأن آباءنا أشركوا فجرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادات آباءهم في المطاعم والملابس والمساكن، فكذلك في ديننا كنا نعبد ما كان يعبد آباؤنا، لو أنهم قالوا ذلك يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، يقول: فإن شهادة المرء على نفسه هي: إقراره بالشي وسيأتي توضيح هذا.
الإقرار شهادة على النفس
إن مجرد الإقرار هي الشهادة، وليس من شرط الاقرار أن يقول: أشهد عَلَى نفسي بكذا، وهذا حق، فلو أنَّ إنساناً أقر بشيء لقلنا: شهد عَلَى نفسه، وهذا كلام صحيح شرعاً ولغةً، فإن الإشهاد لا يشترط فيه أن يقول: أشهد عَلَى نفسي أن لفلان عندي كذا، فإذا أقر وقال: لفلان عندي كذا من المال، قلنا: فلان شهد عَلَى نفسه يعني: أقر عليها، فهو يقصد بذلك أن الإقرار لا يشترط أن يكون تلفظاً، وأن يكونوا استخرجوا استخراجاً حقيقياً، وأن يكونوا تلفظوا بذلك قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام:130] كما هو ظاهر في الآية التي دلت عليها الأحاديث، ولكن نقول: هذا لا ينافي ذلك، بل يؤيده فكونه إن قَالَ: أشهد عَلَى نفسي قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] ، هذا كله شهادة عَلَى نفسه، وإن لم يقلها فمجرد الإقرار هو شهادة عَلَى النفس، هذا حق.
فيقال لهم: لماذا عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به عَلَى أنفسكم إِلَى الشرك؟
بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إِلَى مالا يعلم له حقيقة تقليداً لمن لا حجه معه، بخلاف اتباعهم لآبائهم في العادات الدنيوية.
قيام الحجة على اليهود والنصارى والمشركين
أبناء اليهود والنَّصَارَى والمجوس وجميع الْمُشْرِكِينَ الذين أشركوا لا حجة لهم عند الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ، إلا أن يقولوا: إنا وجدنا آباءنا عَلَى أمة، ونحن عَلَى آثارهم مقتدون ومهتدون ومتبعون، فيقال لهم: لماذا عدلتم وتركتم الدين الذي غُرس في نفوسكم - بالفطرة والإيمان الصحيح واليقين بأن الله سبحانه وتعالى واحد - إِلَى الإشراك؟
وليس الأمر كحال أموركم الدنيوية، لأن الأمور الدنيوية لا يعلم فسادها بمجرد العقل، وإنما قد يتبع فيها الإِنسَان، ويجوز أن يتبع الإِنسَان آباءه أو بيئته في أمور الدنيا، ولا يكون لديه حجة عقلية تبين فساد ما هم عليه، وأما الدين فلا.
يقول المصنف: [فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو دين التربية والعادة وهو لأجل مصلحة الدنيا فإن الطفل لابد له من كافل] وأحق النَّاس بكفالة الطفل أبواه، فتجعل الشريعة الطفل مع أبويه عَلَى دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، فهو منهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نساء وذراري الْمُشْرِكِينَ أنهم منهم في الدنيا، أي: حسب الأحكام الظاهرة، أما لو مات فإن له حكماً آخر في الآخرة، وتفصيله هذا سيأتي فيما بعد.
لكن المقصود هنا أن الإِنسَان لما كَانَ لابد له من مربي يربيه فإنه يسير عَلَى ما يربيه عليه أبواه، فإذا كَانَ الأبوان مشركين وربياه عَلَى الشرك، فليس له عذر ولا حجة يَوْمَ القِيَامَةِ؟ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاه العقل والهداية والفطرة التي يعرف بها أن هذين الأبوين عَلَى الشرك بخلاف بقيه الأمور. كما قال المصنف:[ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه عَلَى دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه عَلَى الصحيح حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة] وهذا إشارة إِلَى الخلاف الموجود في المسألة.
إن نشأة الطفل عَلَى دين أبويه ليس عَلَى الإطلاق، فيغلب جانب الإسلام في الأحكام الظاهرة، فمثلاً: لو وجدنا طفلاً ضائعاً أو لقيطاً ولم يعرف له أب في مدينة من المدن، ولم يكن في هذه المدينه إلا عدداً محدوداً من الْمُسْلِمِينَ وفيها أكثرية من الكفار.
فالقول الصحيح: إن الطفل يلحق بالْمُسْلِمِينَ؛ لأنا لو أعطيناه الكفار لربوه عَلَى الكفر، ولكن يلحق بالْمُسْلِمِينَ، لأن الاسلام هو الأغلب والأعم لسببين:
أولاً: أن الاسلام هو الأصل في بني الإِنسَان كافه، وإن انحرف من انحرف إِلَى الشرك، وإن كثروا فهم عَلَى خلاف الأصل وثانياً: أن هذا الطفل ولد عَلَى الفطرة، فالأصل أن يبقى عليها وأن يعطى لمن يكفله من الْمُسْلِمِينَ.
ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله تَعَالَى في رجلين تداعيا في طفل أحدهما كافر والآخر مسلم، وكان الكافر لديه من الحجج والبينات أقوى مما عند المسلم، فَقَالَ بعضهم: يحكم القاضي بالحق؛ لأن الأصل في ديننا هو الحق والعدل ونحكم بالحق فنعطيه للكافر، لأن دلائله أقوى من المسلم. وقال آخرون: إننا لا نعطي الكافر؛ بل نغلب جانب الإسلام وجانب مصلحة الطفل وليس مصلحة الأب، لأن هذا الطفل إذا حكمنا بأنه تابع للمسلم فإنه يكون مسلماً، فينجوا من عذاب الله بإذن الله عز وجل، لكن لو حكمنا للأب فإن الأمر يكون بخلاف ذلك، فلا نضمن أنه يسلم، فقد يموت عَلَى الشرك.
فالمقصود: أن الإسلام يغلب حتى في الأحكام الظاهرة؛ بل قال بعض الفقهاء: لو أن سفينة أو طائرة في هذا العصر سقطت فتحطمت أو غرقت وفيها مائة أو مائتان من الركاب، ونحن نعلم أن فيها واحداً من الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يصلى عَلَى كل واحد من هَؤُلاءِ، من أجل هذا المسلم الذي بينهم، فالصلاة عَلَى الكافر لا تقع لكن من أجل هذا المؤمن نصلي.
تعرض المُصنِّفُ رحمه الله هنا بعد أن انتهى من الأقوال في حقيقة الميثاق إِلَى مسألة مهمة وهي مسألة توحيد الربوبية، وهل الربوبية أمر فطري أم غير فطري؟ وما رسمه الله تبارك وتعالى في العقول والفطر من معرفته عز وجل والإقرار بربوبيته، وتعرض لمسألة التقليد ومسألة الجهل، في عدم معرفة الله عز وجل بناءً عَلَى أحد هاتين العلتين:
العلة الأولى: الجهل وعدم المعرفة بالله.
العلة الأخرى: التقليد والمتابعة من غير علم ولا بصيرة.
فالله تبارك وتعالى يقطع هاتين العلتين كما قال تَعَالَى أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] أي: أشهدناكم وأقررناكم عَلَى ذلك لكي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ فهذا يقطع العلة الأولى وهي علة الجهل.
والكلام الآن في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية خاصةً -تفصيلاته- لا يمكن أن تعلم إلا من طريق الرَّسُول، أي: كيف نعبد ربنا عز وجل، وما هي أنواع العبادة، ولكن الإقرار بأن الله عز وجل ربنا وخالقنا ورازقنا وأنه الذي يستحق العبادة وحده هذا مركوز في الفطر، ويعلمه كل بنى آدم علماً ضرورياً بالبداهة من غير تفكير ولا نظر.
فالعلة الأولى التي يعتذر بها المُشْرِكُونَ وأعداء الله تَعَالَى والجاحدون هي: أنهم لا يعرفون ربهم، أو قد يقَالَ: إننا لا نعرف ربنا قتقطعها هذه الجملةأَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] فلا عذر لكم بالجهل فقد عُرِّفتم وعلمتم ربكم عز وجل.
والعلة الأخرى: أن يقَالَ: إننا عرفنا ربنا ولم ننكر ولم نجحد، ولكننا وجدنا آبائنا عَلَى أمة، وإنا عَلَى آثارهم مقتدون، واتبعنا ما ألفينا عليه آباءنا، وأطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل، إِلَى آخر ما يقوله أُولَئِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، هذا يقطعه ما أَنْ تَقُولُوا أي: لكي لا تقولوا أيضاً: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173] أي: نَحْنُ لم نؤمن بالشرك، وإنما أشرك آباؤنا فتبعناهم وكنا ذرية من بعدهم.
ولهذا قالوا أفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173] أُولَئِكَ المبطلون الذين أحدثوا وغيروا ونحن اتبعناهم، ولو تأملنا حال كفار قريش الذين بعث فيهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لوجدناهم من هذا النوع، فالذي غير دين العرب وملة العرب هو: عمرو بن لحي الخزاعي وحرفهم عن الحنفية ملة إبراهيم وملة أبيهم إسماعيل، عقيدة الفطرة والملة القويمة.
فانصرفوا عنها إِلَى عبادة الأصنام، كما ثبت عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن قريشاً اتبعت عمرو بن لحي فهل ينفعهم أن يقولوا: إننا كنا متبعين لآبائنا، لا ينفعهم ذلك لأن هذا عين ما قالوه للرَسُولِ صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم هذا؛ بل جعل ذلك من موجبات غضبه عليهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة، ثُمَّ احتجوا عليه بما فعل المبطلون.
المقصود من هذا: أن نعلم أنه ليس لأحدٍِ أن يعتذر عن عدم معرفته بالله عز وجل وعدم الإقرار بها، بأنه كَانَ جاهلاً بذلك. فإن الدليل الفطري مركوز في نفسه، أو يقول: إني تابعت الآباء والأجداد، أو أخضعتني التربية لذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد قطع هذا العذر، ولو أن الإِنسَان فكر لعلم أن ما عليه الآباء والأجداد باطل.
ونتعرض الآن لمسألة ينبغي أن تعلم، وإن كانت ليست من مسائل أصول العقيدة، ولكنها من فروعها وأحكامها، ولكن المعرفة والعلم بها خير، ولا سيما وقد خالف فيها من خالف من الفرق، وهي مسألة الأطفال الذين يموتون صغاراً بِمَ يلتحقون؟ وهل يكونون مع المؤمنين في الجنة، أم مع الْمُشْرِكِينَ في النار؟.
أطفال المشركين في الدنيا
نقول: أولاً: نفرق بين أطفال الْمُسْلِمِينَ وأطفال الْمُشْرِكِينَ، فأطفال الْمُسْلِمِينَ الذين يموتون وهم صغار فقول أكثر العلماء: إنهم في الجنة، بل لو قيل: إنه إجماع؛ لما كَانَ خطأً؛ لأن من خالف لم يأت بقول ثابت إِلَى مخالف من السلف وإنما قد ينقل أن السلف قد اختلفوا في الأطفال، وهم إنما اختلفوا في الحقيقة في أطفال الْمُشْرِكِينَ؛ لأنه يولد عَلَى الفطرة في دار الإسلام ومن أبوين مسلمين فسوف يموت عليه، ومن مات وهو دون سن التكليف لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لا يحاسبه الله عز وجل وهو دون سن التكليف.
ولهذا إذا رأى الطفل علامة البلوغ من شعر أو احتلام أو بلغ سنه الخامسة عشر أصبح من البالغين، فهل تقول له: أسلم وقل: لا إله إلا الله، ثُمَّ ابدأ بالصلاة؟ لا؛ لأن هذا ليس له أصل من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما أحدثه بعض أهل الكلام لأنه مولود عَلَى الفطرة القويمة، وإنما انتقل من مرحلة ما دون التكليف إِلَى مرحلة التكليف والالتزام بالأحكام الشرعية،.
فنأخذ من ذلك أن أطفال الْمُسْلِمِينَ مسلمون، والأبناء تبع لآبائهم، فأبناء الكفار في أحكام الدنيا تبعاً لآبائهم، فلو ذهبنا نقاتل كفاراً فهل نقتل أبناءهم، الأصل: أننا لا نقتل طفلاً أو امرأة ولا شيخاً هرماً، ولكن لو خرج الكفار بأطفالهم وذرياتهم صفاً فسيموتون جميعاً الأطفال والنساء والكبار، فأطفالهم منهم -كما جَاءَ في الحديث- في أحكام الدنيا، ولهذا من ثبت أنه ابن لكافرين، فإنه يظل ابناً لهما في أحكام الدنيا، سواء كانا ذميين أو حربيين، ولا ينقل عن ذلك إلا بالأحكام الشرعية المعروفة، بحيث لا يكون له عليهما ولاية.
المقصود: أنهم في الدنيا تبع لآبائهم، وفي الآخرة يختلف الحكم لأمر آخر؛ لأن هنالك الحساب وهنالك حكمة الله، فعدله سبحانه يمنع جريان ذلك.
إذاً: فالأصل العام أن الأطفال تبعاً لآبائهم، وقد ثبت في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من عجائب ما رأى في عالم الغيب ومن جملة ما رأى، أنه رأى شيخاً كبيراً وحوله ولدان، فلما سأل الملَكين اللَّذَيْن يقولان له: انطلق: من هذا الشيخ؟ ومن هَؤُلاءِ الذين معه؟ فَقَالُوا: هذا إبراهيم، وهَؤُلاءِ الذين معه ولدان لمسلمين) وأيضاً جَاءَ في رواية ذراري أو ولدان الْمُشْرِكِينَ) .
ولكن كلامنا الآن عن ولدان الْمُسْلِمِينَ، فنقول: إن هذا الحديث الصحيح المتفق عَلَى صحته دليل عَلَى أن أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة، وقد اعترض عَلَى هذا القول بحديث عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- لما أوتي بجنازة صبي فقالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة فَقَالَ صلى الله عليه وسلم -ولم يقر عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها - أو غير ذلك ياعَائِِِشَةَ: (الله أعلم بما كانوا عاملين إن الله قد خلق الجنة وخلق لها أهلاً ولها يعملون وخلق النَّار وخلق لها أهلاً ولها يعملون) .
فيجاب عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض عَلَى عَائِِِشَةَ في أنها قالت: إن أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة، ولكنه اعترض عَلَى الإطلاق العام والتعيين عندما قالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فهذا الإطلاق يفهم منه: أن كل معين يموت من أطفال الْمُسْلِمِينَ يقال: في الجنة بصيغة الجزم -وكما سبق- أن الصحيح أن أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة، أي: في الجملة، كالشهداء في الجنة في الجملة، لكن لا نستطيع التعيين.
ففي هذا الحديث أن عَائِِِشَةَ رضي الله عنها لما أن جزمت بذلك وأطلقت ولم تستثنِ فالنبي صلى الله عليه وسلم رد الأمر إِلَى القدر العام، وهو أن الله تَعَالَى خلق الجنة وخلق لها أهلاً ولها يعملون وخلق النَّار وخلق لها أهلاً ولها يعملون، فلم ينف الجنة عن ذلك، ولكنه نهى عن الإطلاق العام، وأما أطفال الْمُشْرِكِينَ فقد وقع فيهم خلاف.
أطفال المشركين في الآخرة
ومجمل القول في ذلك: أن المسألة عَلَى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أطفال الْمُشْرِكِينَ في الجنة، واحتج لهذا بما احتجوا به في أطفال الْمُسْلِمِينَ.
أولاً: أنهم عَلَى الفطرة، (كل مولود يولد عَلَى الفطرة) .
ثانياً: أنهم لم يفعلوا ما يؤاخذون به، ولم يفعلوا ما يعذبون به، فهم إذاً عَلَى الفطرة القويمة السليمة، فاللائق بعدل الله سبحانه وتعالى أنهم من أصحاب الجنة.
ثالثاً: احتجوا بالرواية التي وردت في حديث إبراهيم عليه السلام أنه رأى ذراري الْمُشْرِكِينَ مع ذراري المؤمنين،، ثُمَّ اختلف هَؤُلاءِ: فَقَالَ بعضهم: إن أطفال الْمُشْرِكِينَ مثل أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة. وبعضهم قَالَ: إنهم في الجنة لكن ليسوا بمنزلة أطفال المؤمنين بل هم خدم في الجنة، واحتج أصحاب القول الأول القائلين بأن أطفال الْمُشْرِكِينَ في الجنة بما رواه الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد -أي: الموؤد- في الجنة)، قالوا: جعل المولود مع الشهيد، ومع النبي، ومع المؤود، فهذا المولود عام ذكراً كَانَ أو أنثى من أب كافر أو مسلم فهو في الجنة.
والقول الثاني: ذهب إليه الخوارج وبعض أهل العلم، وقد استدل من ذهب من العلماء إِلَى هذا القول بأحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يثبت ولا يصح منها شيء.
فأما الخوارج فإن كلمة الْمُشْرِكِينَ عندهم ليست الكلمة التي نستخدمها، فهم يقولون: كل من ليس من الخوارج فأطفالهم في النَّار؛ لأن الْمُسْلِمِينَ عندهم مُشْرِكُونَ، بل ذهب الحال ببعض الخوارج إلى أن قالوا: كل إنسان يبلغ سن البلوغ لا بد أن يمتحن فإن أقر بالإسلام والإيمان -كما يصفونه هم- وإلا فإنه كافر، والخوارج درجات أكثرهم غلواً الأزارقة أتباع نافع ابن الأزرق، ثُمَّ يليهم النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي، ثُمَّ أخفهم الإباضية، ثُمَّ الميمونية وأشباههم وهم فرق كثيرة لا يعلمها إلا الله، كلهم ضلوا عن الحق،.
واختلفنجدة ونافع بن الأزرق في هذه المسألة، قال نجدة: نعتبر الأطفال ومن كَانَ في دار المشركين -دار الإسلام- منافقين ولا يجرم بكفرهم، ومن حجة الأزارقة ومن اتبعهم في هذه المسألة قول الله تبارك وتعالى في سورة نوح إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] فَقَالُوا: إن الآية صريحة في أن أولاد الكفار يولدوا عَلَى الكفر.
والجواب عن هذا الاستدلال من عدة أوجه:
أولاً: أن أطفال الكفار في الدنيا هم من الكفار كما سبق أن قررناه، ومنها أن نوحاً عليه السلام قد يأس من دعوة قومه حتى أن ربه عز وجل أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلذلك دعا عليهم عندما تيقن أو غلب ذلك عَلَى ظنه.
ثانياً: أنه قال: ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا، أي: أن أولادهم سيتربون عَلَى الكفر فيصبحون كفاراً إذا كبروا.
وليس المراد أنه في حين ولادته يولد وهو فاجر كافر، إنما يولد عَلَى الفطرة كما ثبت ذلك في الأحاديث، ولكن هَؤُلاءِ القوم سيضلونهم، كما هو الحال فيمن ولد في بيئة شيوعية فإنه سيكون شيوعياً، فالتعبير عن الحال التي سيؤول إليه هذا الطفل إذا كبر في ظل هذه التربية وفي ظل هذا المجتمع.
القول الثالث وهو منسوب للإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وبعض السلف وهو: التوقف في الحكم عَلَى أطفال الْمُشْرِكِينَ، فلا نقول: إنهم من أهل الجنة، ولا من أهل النَّار، وذلك لما يلي:
أولاً: لتعارض الأدلة في ذلك وعدم وضوح وبيان شيء منها في نظرهم.
ثانياً: ما ورد وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق أنه قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) هذه هي المذاهب في ذلك.
القول الرابع: وهو الذي نرجحه ونختاره ونرجو أن يكون هو الصواب بإذن الله عز وجل هو: ما ذهب إليه ورجحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم وابن كثير وجمع من العلماء، وهو: أن أطفال الْمُشْرِكِينَ يمتحنون يَوْمَ القِيَامَةِ، فإن آمنوا دخلوا الجنة وإن كَفَرُوا دخلوا النار.
وقد يتردد الإِنسَان في هذا الترجيح ومن أسباب هذا التردد أن حديث الامتحان لم يثبت بطريق يعتمد عليه بسند واحد صحيح، إنما هو في الحقيقة مجموع طرق يمكن أن يقَالَ: إنها حسنة، ويشد بعضها بعضاً، وحديث الامتحان رواه الإمام أَحْمَد وأبو يعلى وغيرهما بطرق مختلفة وبألفاظ مختلفة ولكنها متقاربة، أنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ أربعة يحاجون الله عز وجل وهم رجل -في بعض الروايات- أصم، ورجل أبكم، ورجل أحمق، ورجل صاحب فترة، وفي بعض الروايات أنه مولود صغير والأحمق مكانه المجنون أو المعتوه والثالث أنه صاحب فترة والرابع أنه رجل هرم.
يأتي هَؤُلاءِ فيقول الطفل الصغير: يا رب إنني صغير ولم أسمع ما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول الكبير: يا رب قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنا لا أعقل ولم أفهم شيئاً.
ويقول المجنون أو المعتوه: يا رب بعث النبي صلى الله عليه وسلم والأطفال يخذفونني بالحجارة لا أعقل شيئاً.
والأصم والأبكم كذلك.
فلو تأملنا مجموع الطرق لوجدنا أن الأربعة مرجعهم إِلَى فقدان العقل والإحساس، وهذا يشمل المعتوه والأصم والأبكم، وأنهم ليس لديهم الحاسة التي يستطيعون بها أن يعلموا.
وصاحب الفترة يقول: يا رب ما سمعت ببني قط، وما وصلت إليَّ رسالة رَسُول قط، فهَؤُلاءِ الأربعة يمتحنهم الله في عرصات القيامة، بأن يوقد النَّار أو يخرج لهم لسان من النار، ويقول لهم: ادخلوها، فإن دخلوها كانت برداً وسلاماً عليهم، وإن عصوا وأبوا ألقوا فيها.
والاستدال عَلَى هذه القضية يأتي من وجهين:
الوجه الأول: هو هذا الذي ذكرناه من الطرق والأحاديث والروايات.
والوجه الثاني: أن الامتحان والابتلاء ليس خاصاً بهذه الحياة الدنيا، فإن الإِنسَان يمتحن في البرزخ، ويدل له حديث القبر. وفيه:
فيقال له: من ربك؟
وما دينك؟
ومن نبيك؟
وفي يَوْمِ القِيَامَةِ امتحانات، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى يتجلى لعباده المؤمنين في صورة غير الصورة التي يعرفون ليمتحنهم بذلك في الموقف المهيب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، لذلك فمن جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وقال: يا رب لم تبلغنِ الدعوة لم يأتنِ الرَّسُول.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (لا أحد أحب إليه العذر من الله) فقد أعذر إِلَى النَّاس وأقام عليهم البينات، ولهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب، فإذا جَاءَ هَؤُلاءِ واشتكوا إِلَى ربهم وَقَالُوا: ما أتانا من رَسُول، وما جاءنا من نذير، فمن حكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء أنه يمتحنهم، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فإن الذي يدخل الجنة، أو الذي يدخل النَّار، سواء كَانَ امتحن في الدنيا أو امتحن في الآخرة، فإنه لن يدخل أحد الدارين إلا بما عمل بإرادته واختياره.
الجواب على الاستدلالات السابقة
وحديث (الله أعلم بما كانوا عاملين) لا يتنافى مع القول بالامتحان، ويمكن أن نجعله دليلاً عَلَى الامتحان لأن الله يعلم ما كانوا عاملين، أي: إن نجحوا وآمنوا ساعة الامتحان يَوْمَ القِيَامَةِ فالله تَعَالَى سيدخلهم الجنة.
وإن كَفَرُوا وعصوا الله تَعَالَى سيدخلهم النار، أما حديث الخليل عليه السلام عَلَى رواية (أن ذراري الْمُشْرِكِينَ كانوا معه) يحتمل أنهم امتحنوا فنجحوا، أو أن هَؤُلاءِ سيكونون عَلَى الصورة التي كانوا عليها، أي: أن هَؤُلاءِ الذراري الذين امتحنوا فنجحوا سموا أطفال الْمُشْرِكِينَ، نسبةً إلى ما كانوا عليه في الدنيا، فلهذا قال:(ذراري الْمُشْرِكِينَ وأطفال الْمُشْرِكِينَ) فأطفال الْمُسْلِمِينَ دخلوا الجنة لأنهم أطفال الْمُسْلِمِينَ، وأطفال الْمُشْرِكِينَ كانوا مع الخليل في الجنة؛ لأنهم الذين نجحوا في الامتحان، أي أنهم أطاعوا الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لا يمنع أن يوجد منهم من هو في النار.
هذا ما نلخص إليه في هذه المسألة وقد أطال فيها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وذكرها الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عند تفسيره لقول الله تبارك وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] .
أما أطفال أهل البدع والمعاصى، فإذا كَانَ المراد بهم أهل البدع والمعاصي من الْمُسْلِمِينَ الذين لم يلتحقوا بالْمُشْرِكِينَ، فهَؤُلاءِ من أطفال الْمُسْلِمِينَ وحكمهم حكم أطفال الْمُسْلِمِينَ، أما البدعة التي تُخرج من الملة وأصحابها مُشْرِكُونَ، لهم الحكم السابق الذي ذكر الخلاف فيه، ولا نتبعهم بآبائهم؛ لأنهم مُشْرِكُونَ فنقول: إنهم مُشْرِكُونَ.
وهناك مسألة وهي لماذا أولاد الروافض يبقون روافض؟ هل دين الرفض من الفطرة وهل دين الخوارج من الفطرة، وهكذا فالصوفي يريد أن يكون ابنه صوفياً، والخارجي يريد أن يكون ابنه خارجياً، فالرافضي يريد أن يكون ابنه رافضياً.
فإذاً لا ندعه عَلَى ذلك بل يوضح له الحق، فإذا وضح لديه الحق فقد قامت عليه الحجة، ولا نعنى بوضوح الحق أن يسمع جميع الحجج والبراهين، بل يكفي أن يفكر الإِنسَان في دينه وأن يعلم ويسمع بالمخالف، ولهذا نقول للنصارى واليهود الذين يقولون: نَحْنُ لا نسمع عن الإسلام شيئاً: يقال لهم: يكفيك أنك سمعت أن نبياً بعث هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أمته هي الأمة التي تعبد الله، قال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ َمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] ، وفي الحديث الصحيح (لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) .
فعنده الميثاق الأول والفطرة والسماع، فالذي ينبغي في هذه الحالة هو الإيمان، وحينئذٍ ليس هنالك من عذر لا للمشركين، ولا ممن كَانَ بين أهل الإسلام وولد في ديار الإسلام ولكنه اتبع ما عليه الآباء من العادات القبلية، أو التقاليد البيئية، التي فيها شركيات أو بدع أو ضلالات أو أخلاقيات مخالفة لأحكام الله سبحانه وتعالى.
ولهذا سماهم مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، مسلمة الدار، أي: مسلموا الدار، ولو ولدوا في أي دار لكانوا كما عليه أهل تلك الدار، وهذه نعمة من الله وفضل أن كثيراً من النَّاس يولد في دار الإسلام؛ لأن أكثر النَّاس لا يعقلون، ولا يفكرون، وإنما يدينون بما يرون النَّاس عليه، فمن لطف الله أن يولد ملايين من النَّاس في ديار الإسلام، فيكونون مسلمين بهذه التبعية، بغض النظر عما ينتشر من الخرافات والضلالات بين الْمُسْلِمِينَ، لكن هذا لا يعني أننا نرضى ونقر ونقول: إن إسلام الدار يكفي بل لا بد من الإسلام الطوعي -إسلام الاختيار- وهو أن يفقه الإِنسَان ما جَاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فيتفقه في الدين ويتعلمه ويعرف ربه عز وجل حق المعرفة، ويعرف دينه، ويعرف كيف يعبد ربه، ولو إِلَى الحد الأدنى الذي لا يعفى ولا يعذر فيه أي إنسان، وعلى الإِنسَان أن ينظر من أي الفريقين هو.
كيف نقول: إن توحيد الربوبية لا يحتاج إِلَى دليل لأنه قائم ومركوز في النفس، ثم نقول: تفكروا وتبصروا؟ نقول: وجود الدليل شيء واستظهاره شيء آخر.
مثال ذلك: لا يوجد أحد إلا وهو متيقن بالموت، فالدليل قائم، ولكن من يستظهر هذا الدليل، وإلى أين سيذهب بعد الموت، وأكثر الناس في هذه المسألة كالأنعام بل هم أضل، وهذا حال عجيب كما قال الحسن رحمه الله:" ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت "، وكان أبو الدرداء يقول:" حال النَّاس أنهم: يبنون ما لا يسكنون، ويجمعون ما لا يأكلون، ويؤملون مالا يدركون " فما بالكم بالاستدلال عَلَى معرفة ربهم عز وجل، فلو قلت لأي إنسان: اعرف ربك سيقول لك: تعلمني ربي أنا أعرف ربي، فأكثر النَّاس يعرف أن هناك رباً فقط، لكن هذا الرب ما شأنه؟ وما شأنك معه؟ وما معاملتك له؟ وما مدى إيمانك بربك عز وجل؟ هل هو إيمان حقيقي وليس مجرد تقليد.
ولو كان كذلك إذاً: انظر إِلَى ما شئت -كما ذكر المُصنِّفُ رحمه الله انظر إِلَى أقرب ما ينظر إليه المرء في نفسه فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6] وعلماء الإسلام -رحمهم الله تَعَالَى- مثّل بعضهم بالنطفة، وبعضهم مثل البيضة وَقَالُوا: انظر إِلَى هذه البيضة، كيف تكون ماء في داخل هذا العظم، وغشاء وبياضاً وصفاراً، وكيف يخرج منها طائر له هذا المنقار، وأظافر، ويخرج وعليه ذلك الريش أنعم من القطن
…
إلخ.
والمصنف يقول هنا: لو كانت النطفة موضوعة عَلَى لوح أو طبق، واجتمع حكماء العالم عَلَى أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا، فكان العلماء في السابق يظنون أن الإِنسَان يخلق من هذه النطفة جميعاً، فَيَقُولُ: من يستطيع أن يصور من هذه النطفة الإِنسَان.
هذا الذي حير العقول بالماضي، ونحن الآن يجب أن نحتار أضعاف تلك الحيرة، لماذا؟ لأننا الآن عرفنا شيئاً كَانَ الأولون لا يعرفونه، عرفنا أن هذه النطفة ملايين من الحيوانات كما يقول علماء الأحياء، وكل واحد من هذه الملايين لو أراد الله عز وجل ودخل حيث أعد الله هذه البيضة في الرحم فإنه سيكون بشراً سويا، وبعد ذلك قالوا: وهذا الصغير الذي لا يرى إلا بالمكبرات والذي يكون منه هذا الإِنسَان المتكبر عَلَى الله الذي إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، والذي يسمع نداء الله حي عَلَى الصلاة حي عَلَى الفلاح ويعرض ولا يبالي، هذا الذي هذا أصله، ولا نقف عند هذا الحد بل أن الجينات حاملات الوراثة التي لم تكتشف إلا في هذا القرن فيها مختزل شكل الإِنسَان، وحياته، وتفكيره، ورغباته، وميوله بحيث لو أن الأب عندما يبلغ الثلاثين من عمره أو الأربعين وجدت له حبة صغيرة سوداء في أي مكان من جسده، فكذلك تكون هذه الحبة في ولده إذا بلغ الثلاثين، وهذه الحبة مختزلة في تلك النطفة، ولو فتشت جسده الآن لا تجد شيئاً، لكن بعد سنوات سيكون هذا، وهو مختزل في هذه النطفة التي لا ترى بالمجاهر الكبيرة، فهذا شيء عجيب لو تأمله الإِنسَان، ولهذا قال الله تبارك وتعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] وليرجع إِلَى كتاب صغير ومؤلفه كافر لكن فيه العجائب مما يدل عَلَى أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطرة كما قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله وهو كتاب العلم يدعو إِلَى الإيمان، لرجل يدعىكريس مرسون وهو رئيس الأكاديمية العالمية في نيويورك وعنوان الكتاب الأصلى الإِنسَان لا يقوم وحده أي لا بد للإنسان من خالق فالإِنسَان لا يقوم وحده، رد فيه عَلَى أحد الملاحدة الذي كتب كتاباً يقول فيه الإِنسَان يقوم وحده، وانظر إِلَى أي كتاب في الفلك أو
الأحياء؛ فإنه سيدلك عَلَى توحيد الربوبية، والاستدلال عَلَى توحيد الربوبية وما يلزمه من الأولوهية، إنما يسره الله سبحانه وتعالى لكل ذي لب وذي عقل.
اهتمام كتب العقيدة بالقدر
لقد اهتمت كتب العقيدة التي تسمى كتب السنة بمسألة القدر، فنجد أن من أطولها استدلالاً أبواب القدر، كما في السنة لابن أبى عاصم والشريعة للآجرى والإبانة لابن بطة وأمثالها من الكتب التي ألفت في شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
أول شرك وقع في هذه الأمة في القدر
باب القدر باب عظيم من أبواب الإيمان؛ وأول شرك وقع في هذه الأمة وقع فيه، والإيمان بالقدر لا تحفى أهميته فهو أحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث العظيم المشهور حديث جبريل عليه السلام لما جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بعد أن اكتملت الشريعة، وأبان الله تبارك وتعالى الدين وأظهره، كما روى ذلك عُمَر رضى الله تَعَالَى عنه (بينما نَحْنُ جلوس عند رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) .
فأفضل خلق الله تَعَالَى من الملائكة جَاءَ ليبين لهذه الأمة دينها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند انصرافه:(يا عُمَر أتدري من السائل قَالَ: قلت: الله ورسوله أعلم، قال هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فسأله عن أركان الإسلام عَلَى أرجح الروايات، ثُمَّ سأله بعد ذلك عن أركان الإيمان فقَالَ:(أخبرني عن الإيمان فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت) .
فجعل الإيمان بالقدر ركنا من أركان الإيمان، وبهذا لا يمكن أن يؤمن أحد عَلَى الحقيقة إلا إذا آمن بالقدر، والإيمان بالقدر نعمة من نعم الله فوق أنه ركن من أركان الإيمان وعبادة لله تبارك وتعالى، ومع ذلك يغفل عنه أكثر النَّاس ولا يأبهون به، بل أكثر خلق الله اليوم وفي كل زمان معترضون عَلَى أقدار الله تبارك وتعالى، فكما أنهم يعترضون عَلَى أوامر الله الشرعية الدينية ويعصون الله سبحانه وتعالى بمخالفة أمره ونهيه، كذلك يعترضون عَلَى أقداره وعلى ما يبتلون به من المصائب والنكبات التي لا يرضون بها مما يقع في هذا الكون.
غلط الأمم الماضية في القدر
الإيمان بالقدر معلومٌ لدى الفطر، فأكثر النَّاس في العالم من قديم الزمان وحديثه لا ينكرونه، ولا ينكر القدر إلا الشواذ، وإنما وقع غلط الأمم الماضية في فهمه عندما أثبتوه عَلَى غير الوجه الشرعي، كما ذكر الله تبارك وتعالى احتجاج الْمُشْرِكِينَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم في القدر سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا [النحل:35] وكذلك لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] وغير ذلك مما اعترض به المُشْرِكُونَ واحتجوا به عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم فهم يثبتون المشيئة لله، وأجابهم الله تَعَالَى في الموضعين في سورتي الأنعام والنحل فَقَالَ في النحل: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148] وقَالَ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل:33] .
فالأمم السابقة كانت تعرف القدر وتؤمن به وتثبته، ولكن لا تؤمن به عَلَى الحقيقة، وإنما تؤمن به في معرض الاحتجاج به لمضادة شرع الله، فتحتج بمشيئة الله عَلَى رضاه ومحبته وإرادته الدينية.
إقرار أهل الجاهلية بعلم الله
المرتبة الأولى من مراتب القدر: العلم. لم يكن العرب في الجاهلية ولا أي إنسان يشك أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء أبداً؛ بل ورد ذلك في أشعارهم، فهذا عنترة الفارس الجاهلي الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له:
يا عبل أين من المنية مهرب إن كَانَ ربي في السماء قضاها
فهو مقر بالقدر رغم جاهليته، لكن هذا الإقرار عَلَى تخبط.
وكذلك زهير يقول وهو في الجاهلية في إثبات المرتبة الأولى من مراتب القدر أي: العلم:
فلا تكتُمن الله ما في نفوسكم ليخفي ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم حسابٍ أو يعجل فينقم
كان يثبت أن الله لا يخفى عليه شيء إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ [الأنبياء:110] فمضمون الآية ذكره زهير في شعره، وهو أن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، وكان هذا معلوما لدى العرب الْمُشْرِكِينَ قاطبة، لكن زهيراً هو القائل:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرمِ
فهذه نظرة زهير وهو حكيم العرب الذي يمتاز شعره بالحكم، ففي هذا البيت يذكر أن الموت والأقدار التي تنزل بالنَّاس فيموتون خبط عشواء، والعشواء هي الناقة ضعيفة البصر، تتخبط في المشي يميناً وشمالاً؛ لأنها لا ترى، لكن الأمر ليس كذلك فالله تَعَالَى يقول: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَاب [فاطر:11] ليس في هذا الكون خبط عشواء أبداً، بل هذا العلم أثبته زهير وكان العرب يثبتونه في الجاهلية.
يقتضي أنه لا يوجد أدنى شيء في الوجود إلا وهو بحكمة والله هو الذي دبره وقدره كما قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] .
فالشيء الرطب أدنى نقطة من الرطوبة من الماء يقول علماء الأحياء: "لو وضعتها تحت المجهر لوجدت فيها الملايين من الأحياء، تعيش وتموت وفق أعمار قدرها الله تبارك وتعالى" فقدر أن هذا المكروب قد يعيش دقيقة أو نصف دقيقة، فبعضها لا يعيش إلا ثلاثين ثانية، وربما أقل من ذلك، لكن هذا العمر مكتوب ومحسوب ومقدر عند الله سبحانه وتعالى، ما تنزل قطرة من السماء إلا والله سبحانه وتعالى يعلمها.
فهو يعلم منذ أن أخرجها من البحر، وساقها بهذا السحاب، ثم أين تنزل، يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، كل هذا بقدره، ثُمَّ هذه النقطة تقع حيث شاء الله تَعَالَى، فكل شيء عند الله سبحانه وتعالى معلوم؛ بل أعجب من ذلك: أن الله تبارك وتعالى قد كتبه وقدره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فعلْمهُ وكتْبهُ وخلْقهُ كل ذلك منه سبحانه وتعالى.
إذاً: لا يوجد عَلَى الإطلاق في هذا الكون ولا أدنى ذرة إلا وهي بقدر من الله تعالى، فالعرب في الجاهلية لم تكن تنكر القدر ولكنها تخطئ في فهم حقيقة القدر.
من آثار الإيمان بالقدر
لما بعث الله تبارك وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم وبين صلى الله عليه وسلم لنا ديننا؛ كَانَ من أعظم ما بينه الله في كتابه وما بينه رسوله مسألة القدر، فآمن بها صحابته الكرام والسلف الصالح، وكان لهذا الإيمان الأثر العظيم في طاعتهم لربهم وفي جهادهم في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي تمسكهم بكتاب الله، وصبرهم عَلَى الشدائد والمحن.
فكان أحدهم يؤمن بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، كما أمرهم الله سبحانه وتعالى أن يقولوا للمنافقين الذين يشمتون بهم إذا أصيبوا قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا [التوبة:51] فكان هذا شأنهم لما آمنوا بهذه الحقيقة لا يعصون الله من أجل شيء من الدنيا؛ لأنهم يؤمنون أن ما كتب الله سبحانه وتعالى للعبد من رزق فإنه آتيه، وما لم يكتبه الله سبحانه وتعالى فلا يأتيه أبداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن روح القدس نفث في روعي -أي: ألقى في نفسي- أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقو الله وأجملوا في الطلب) .
فالإِنسَان يحتاج وقد يطلب ولكن يطلب طلباً جميلاً، أما الإلحاف فليس هذا من شأن المؤمنين، وليس هذا من أدب المتقين في السؤال، فقد كَانَ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أعظم النَّاس فهماً لحقيقة القدر، وأدركوا وعرفوا أن الإيمان بالقدر والتوكل عَلَى الله يدفع المؤمن إِلَى العمل الصالح، وإلى الاجتهاد في طاعة الله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولم تكن تأخذهم في لله لومة لائم ولا يهابون في الله سبحانه وتعالى أحداً كائناً من كَانَ؛ فألقى الله تبارك وتعالى الرعب في قلوب أعدائهم لما امتلأت قلوبهم بمهابة الله وخوفه والتوكل عليه.
ثُمَّ أنه حدث في هذه الأمة ما حدث في غيرها، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم:{لتتبعن أو لتركبن سنن من كَانَ قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} وفي رواية: {حتى لو أن أحدهم أتى امرأته عَلَى قارعة الطريق لفعلتموه} .
نعم هذه مصيبة ابتليت بها هذه الأمة كما ابتلي غيرها من الأمم من قبلها، وقد ظهر الجدال في القدر في الأمم التي قبلنا عند النَّصَارَىواليهود واليونان والهنود فكانوا بين جبرية وبين قدرية منكرين، وكان الغالب عَلَى النَّاس -كما هو الحال اليوم- الجبر والاعتراض والاحتجاج بالقدر عَلَى الشرع.
أما النفي المطلق فلا ينفي القدر نفياً مطلقاً إلا الشواذ في جميع العصور؛ لكن وقع الخلاف فيمن كَانَ قبلنا وكذلك في هذه الأمة، وهذا أراده الله وقدره، ولم يقع الخلاف في القدر في عصر الخلفاء الراشدين، وإنما وقع بعد ذلك، والذين أدركوا القدرية هم صغار الصحابة الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحداثاً مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأمثالهما.
فلما ظهرمعبد الجهني في البصرة، وأنكر القدر جَاءَ التابعون إِلَى أصحاب رَسُول صلى الله عليه وسلم يسألونهم، فسألوا ابن عمر وسألوا ابن عباس، وظهرت مقالة القدر في موضعين: البصرة ودمشق، وظهر في البصرة أمر آخر هو الغلو في التعبد "التصوف". فالصوفية الأوائل ظهروا في البصرة.
وأبعد البيئات عن البدع هي بيئة مكة والمدينة لوجود أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بكثرة، ولأنها بعيدة عن فلسفات الهند واليونان، وبعيدة عن ضلالات اليهود والنَّصَارَى فهي بيئة نقية صافية.
من أهم أسباب ظهور البدع في البصرة أنها منفذ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الهند، فالغلو في التعبد أُخذ من الطريقة البوذية وإنكار القدر كَانَ موجوداً في الهند والفرس المجوس ولا تزال كتب المجوس، وآثارهم وأفكارهم موجودة لدى تلك الأمم، فاستتروا بها سراً، وبثوها في ضعاف الإيمان هنالك.
بدعة التجهم
ظهر معبد الجهني، وغيلان الدمشقي في دمشق ويقال: إن أستاذ غيلان هو رجل من النَّصَارَىيقال له: يوحنا الدمشقي، وهو الذي ألقى إِلَى غيلان هذه المقالة.
ولم يكن معبد وغيلان عَلَى حال واحد فـ"معبد " كَانَ عالماً محدثاً، ولم يكن من سقط النَّاس، فوقع فيما وقع فيه المغضوب عليهم، وأما غيلان فقد وقع في طريق الضالين الذين يتكلمون عن جهل، فلم يكن غيلان من أهل العلم ولا من أهل الفضل والشأن، وإنما تلقف هذه المقالة وأخذ ينشرها فاشتهر بين النَّاس بهذه المقالة.
والقدرية لم ينكروا القدر متعمدين أن ينكروا علم الله أو أن ينكروا أن الله كتب مقادير كل شيء، إنما كانت الشبهة في أفعال العباد من المعاصي، وهذا هو السبب والباعث لهم في إنكار القدر، هل المعاصي من زنا وشرب خمر شاءها الله سبحانه أم لم يشأها؟ كيف يشاء شيئاً ويقدره، ولكنه يكرهه ولا يرضاه، وكيف ننسب هذا إِلَى الله؟!
مراتب القدر الأربع
مراتب القدر أربع:
أولاً: العلم: وهو أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء ما كَانَ وما سيكون أزلاً وأبداً.
وثانياً: الكتابة وهي: أن نؤمن بأن الله كتب كل شيء وفق ما علم سبحانه وتعالى، فلم يبدأ الجدال في إنكار علم الله ولا في إنكار الكتابة؛ لكن وقع الخلاف والجدال في المرتبتين الأخيرتين اللتين يمكن أن نجعلهما مرتبة واحدة، وهي المشيئة والخلق، ثُمَّ تطور الأمر بعد ذلك إِلَى أن وجد من ينكر المرتبة الأولى ثُمَّ الثانية، وهذا الإنكار وجد عند الجاهلية، فقد ثبت في صحيح مسلم أن الْمُشْرِكِينَ جاءوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله سبحانه وتعالى إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:49،50] .
ولما أراد علماء السلف -رضوان الله عليهم- أن يرسموا لنا الطريق الصحيح لمناظرة هَؤُلاءِ ولإفحامهم، أمرونا أن نناظرهم بالعلم، لنردهم إِلَى الأمر الأول الذي لا خلاف فيه بين جميع العقلاء، وهو أن الله بكل شيء عليم، وهذا هو موضوع المرتبة الأولى الذي بدأ به المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هنا، وقال الإمام الشَّافِعِيّ والإمام أَحْمَد وغيرهما: ''ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وأقيمت الحجة عليهم''.
أي أن الله تَعَالَى يعلم ما كَانَ وما سيكون؛ لأن الإِنسَان إذا أقر بأن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم وأقر بأفعال العباد خيرها وشرها، فيقال: آمن بأن الله كتبها، فما الفرق بين العلم والكتابة؟ لهذا يمكن أن نجعلهما مرتبة واحدة، فإذا قال: أنا لا أؤمن بالمشيئة، فنقول: أمرٌ علمه وكتبه ما المانع أن يشاءه سبحانه وتعالى، إذاً: علمه وكتبه وشاءه، فَيَقُولُ: نعم شاءه فنقول: أمرٌ علمه وكتبه وشاءه خلقه وأوجده، فلم يبق معه حجة فغلب وأفحم؛ لكن إذا قال: الأمر مستأنف، فكل ما وقع في الكون هو جديد لم يكن الله سبحانه وتعالى يعلمه والعياذ بالله، فنقول: كفرت؛ لأن من أنكر علم الله كفر، فلا نكون كفرناهم بالأمر الذي فيه شبهة أو إشكال، لأن الأمور المشتبهة لا يكفر بها، بل يكفر بالأمور الواضحة الجلية.
بدعة الاعتزال
ظهرت بعد بدعة معبد وغيلان بدعة الاعتزال، ورؤوس المعتزلة الذين نشروا هذه المقالةواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وأسسا مذهب المعتزلة القدرية وسموا قدرية لأنهم ينكرون القدر لا لأنهم يثبتونه، وقد يطلق عَلَى الجبرية قدرية لكن اصطلاح القدرية غلب عليهم، ولما ظهرت المعتزلة كان فيهم الغلاة الذين ينكرون علم الله، وحكم هَؤُلاءِ أنهم كفار لا حظ لهم في الإسلام، وكان منهم من ينكر فقط أن الله خالق أفعال العباد من الشر والمعاصي.
القدرية مجوس هذه الأمة
تقول القدرية: لو أن عبداً من العباد صلى وصام وزكّى وحج وفعل غيرها من أفعال الخير، فهذه الأفعال من خلق الله سبحانه وتعالى، وإذا زنا وسرق وشرب الخمر، فهذه من فعله خلقها العبد، حتى لا ننسب الشر إِلَى الله، وحتى لا نقول: إن الله شاء شيئاً وقدره ثُمَّ يعذِّبه هكذا زعموا فوجد فيهم هَؤُلاءِ، ووجد فيهم هَؤُلاءِ ولهذا سمى هَؤُلاءِ مجوس هذه الأمة.
فقد ورد ذلك في أحاديث لا يصح رفع شيء منها كما بين ذلك الحافظ ابن الجوزي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وغيره، أما ما في كلام السلف فقد ورد ذلك أنهم سموا القدرية مجوس هذه الأمة، وسموا بذلك لأن المجوس يقولون: إن الشر إله وهو الظلام، والخير إله وهو النور، فجعلوا خالقين، وهَؤُلاءِ القدرية جعلوا لأفعال العبد خالقين، فالطاعات والقربات خالقها الله، والشر والمعاصي خالقها الإِنسَان.
إذاً: هَؤُلاءِ هم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم شابهوا المجوس في ذلك، حيث أثبتوا خالقين، والله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شيء وحده، وقد أجمعأهل السنة عَلَى أن الله سبحانه وتعالى هو خالق أفعال العباد خيرها وشرها كما سيأتي بيانه إن شاء الله فيما بعد.
وانتقلت هذه المسألة إلى قضية الجبر إلى معنى أبعد وأعمق وأعظم بكثير، فأتوا بقول المعتزلة القدرية الذين ينكرون القدر وهَؤُلاءِ أثبتوا الجبر، وغلوا فيه، حتى سلبوا العبد إرادته وقدرته ومشيئة الإرادية التي جعلها الله سبحانه وتعالى فيه، فقالت الجبرية: إن الإِنسَان مثل الريشة في مهب الريح، وإن الحركات لا إرادية سواء فعل الخير أو فعل الشر فهي مثل حركات المرتعش؛ لأنها ليست إرادية ولا اختيارية.
ورأس هَؤُلاءِ الجبرية وزعيمهم الجهم بن صفوان الذي اشتهر إلحاده وعم شره في العالم الإسلامي ابتدع هذه المقالة التي أخذها من كلام الفلاسفة الصابئين فأثبت أن كل ما يجري في هذا الكون من أفعال أن الله تَعَالَى هو الفاعل لها، وليس لغير الله مشيئة ولا إرادة، فقابل الغلو بالغلو، وأخذ الفريقان يتصارعان.
فأصبحت الفرقتان متميزتين فرقة تغلو في نفى القدر وهم المعتزلة الغلاة والفلاسفة حتى أنكروا العلم الذي لا ينكره إلا كافر، وَقَالُوا: إن الله تَعَالَى لا يعلم إلا الكليات -تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيرا- ولا يعلم الجزئيات، وقد أجمع الْمُسْلِمُونَ بجميع طوائفهم عَلَى تكفير الفلاسفة سواءً كَانَ الكندي أو الفاربي أو ابن سينا أو أمثالهم.
وقد أثبت الله تَعَالَى علمه بالجزئيات فأثبت علمه بالحبة والورقة التي تسقط قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] .
بدعة الصوفية وعلاقتها بالقدر
جاءت الصوفية في القرن الثالث الهجري فَقَالُوا: إن الإِنسَان إذا وصل إِلَى مرحلة التوحيد الحقيقي بأن لا يرى في هذا الكون شيئاً سوى الله، أو يقول: لا موجود إلا الله، فلا يرى إلا الله، وأن حركات النَّاس وسكناتهم كلها من فعل الله؛ فلا تقل هذه طاعة ولا تقل هذه معصية ولا هذا كفر، فكله من الله، وهذا غاية التوحيد عندهم نسأل الله العفو والعافية فقد قال قائلهم:
أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات
وأنا لا أختار شيئاً إن شاء الله فعلت المعصية، وإن شاء فعلت الطاعة، فهذه حقيقة التوحيد التي يزعمون، يقولون: ما دمت أيها العبد تؤمن بوجود ذاتيين منفصلتين عبد ومعبود، خالق ومخلوق؛ فأنت لم تصل بعد إِلَى قمة التوحيد والعياذ بالله ويجعلون توحيد الأَنْبِيَاء من توحيد العامة، وتوحيدهم: توحيد الخاصة، أو خاصة الخاصة، الذين إن ذكروا فبالضمير هو هو هو، لا يقولون: الله، لأن عندهم "لا إله إلا الله" للعامة و"الله" للخاصة، و"هو" لخاصة الخاصة، هذا ذكرهم وعبادتهم وعقيدتهم في الأفعال من طاعات أو معاصي أو فجور كلها من الله يسأل سائلهم يوسف الجنيد يقول: ما الخيرة؟ قال ترك الخيرة. قَالَ: فما الإرادة؟ ألا تريد. قَالَ: فما الحيلة؟ قَالَ: ترك الحيلة. هل هذا معقول؟ الخيرة: أن لا تختار، والإرادة: أن لا تريد، والحيلة: ألا تحتال؛ فهذا تناقض؛ فإما أن تريد الخير وإما أن تريد الشر، لكنهم قالوا:
العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبدٌ فذاك رب أو قلت رب أنّى يكلف
تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، هذا هو الكفر الصريح بعينه وهو تطور لمسألة القدر، ووصل بهم إِلَى أن قالوا: إن الله هو الذي يفعل كل شيء سبحانه وتعالى.
وانتشر التصوف في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وانتشرت معه هذه العقائد الضالة في باب القدر، وأمسى الاعتزال وقد خفت شأنه؛ لأن الاعتزال انحصر في الطبقة المثقفة الذين يطلعون عَلَى كلام اليونان وكلام الهنود فليس كل أحد من النَّاس يفعل ذلك، وقد تحول الاعتزال إِلَى عقيدة شعبية عن طريق الرفض، فالروافض اعتنقوا مذهب المعتزلة في القرن الرابع، بعد أن كانوا في الأصل جبرية، وبعد أن كانوا مشبهه وممثلة.
فأصبحت هناك فئة من الْمُسْلِمِينَ -الروافض وهم فئة محدودة- عَلَى مذهب المعتزلة، وأغلب الْمُسْلِمِينَ الذين انتشر فيهم التصوف اعتنقوا مذهباً آخر في العقيدة وفي الكلام وفي القدر والإيمان وهو منهج الأشعرية والماتريدية.
الكسب عند الأشاعرة
والأشعرية: أثبتوا شيئاً جديداً في مسألة القدر، وهو الكسب، والكسب في الحقيقة ليس من ابتداع أبي الحسن الأشعري وإنما نقله عن المعتزلة وعندما رجع عن الاعتزال إِلَى الكلابية وهي المرحلة الثانية من مراحله قبل أن يرجع إِلَى مذهب السلف، أخذ بهذه النظرية وهي الكسب، فقال: الله سبحانه وتعالى فاعل، والعبد: نافذ، فجاء بنظرية يرى أنها وسط بين الجبرية والقدرية.
وهي في الحقيقة وسط بين قول الجبرية وبين مذهب أهل السنة، وتمثل الأشعرية على ذلك بالمصباح الكهربائي: إذا أراد الأب أن يمتحن ابنه فَقَالَ له: لا تنفخ هذا المصباح فإذا نفخته وانطفأ عاقبتك، والمصباح الكهربائي لا ينطفئ بالنفخ، وإنما ينطفئ بالزر، والأب عنده الزر، فإذا نفخ الابن المصباح أطفأ الأب المصباح، ثُمَّ يضرب الابن فَيَقُولُ: أضربك لأنك خالفت أمري فأطفأت المصباح.
ويضرب البغدادي صاحب الفرق بين الفرق مثالاً آخر فَيَقُولُ: في كتاب أصول الدين لو أن رجلين حملا حجراً واحداً وأحد الرجلين كبير والآخر صغير، فلو حمل الكبير الحجر وحده لاستطاع، لكن جَاءَ الصغير وحمل الحجر معه، فجاء المعاقب الذي يعاقب عَلَى حمل الحجر، فعاقب الصغير وضربه، فإنه لا يكون ظالماً، لأنه حمل مع الكبير، وإن كَانَ الكبير هو الذي يستقل بحملها وحده، يقول: هذا مثال عَلَى أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل الحقيقي، ولكن العبد يشارك فقط، وإلا لو ترك العبد الفعل لوقع الفعل من غيره، لكن يعاقب عَلَى هذه المشاركة وإن كانت مشاركة غير مؤثرة -تَعَالَى الله عما يصفون- فكل هذا مخالف للإيمان بالله، وللإيمان بقدره عَلَى حقيقته، فمثلاً لو قيل لهم: ماذا تقولون في رجل زنى أتنسبون هذا الفعل إِلَى الله، وهذا لازم كلامكم أنه لا فاعل إلا الله؟ وفي عقيدة الأشعرية المسماة جوهرة التوحيد منظمومة شعر يحفظونها ويدرسونها في أكثر أنحاء العالم الإسلامي مع الأسف يقال فيها:
والفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جلا وعلا
فلا تثبت الفعل إلا لله جلا وعلا، فلا يؤثر إلا الله: ولا يفعل إلا الله: فيقال لهم: لو أن أحداً زنى من الفاعل في هذه الحالة؟ فإن قالوا: "الله" فهذا هو الكفر، وإن قالوا: فعل العبد فالعبد هو الفاعل، والله هو الخالق.
وقد نسب الله تَعَالَى في القُرْآن الكريم الأفعال إِلَى العبد فقَالَ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] تَعْقِلُونَ [البقرة:44] وكذلك الصلاة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77] وقَالَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:6،7] وفي المقابل وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:8،9] فهذه الأفعال فعلها العبد، والله تَعَالَى خلق الإِنسَان، وخلق أفعاله، وخلق القدرة التي بها يفعل الأفعال، لكن الفاعل هو الإِنسَان، والإِنسَان له إرادة وله مشيئة.
قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان:30] وقَالَ: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28] وقَالَ: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر [الكهف:29] فالله سبحانه وتعالى أثبت لنا المشيئة، وبين لنا الصراط المستقيم فَقَالَ: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] إما أن يختار الكفر وإما إن يختار الإيمان، فكيف يقَالَ: إنه لا مشيئة له في الحقيقة والفاعل هو الله، فالعبد فاعل عَلَى الحقيقة، ولكن الخالق هو الله، ولهذا يجازي العبد ويحاسبه لا عَلَى مشاركة صورية، أو كسب أو تأثير لا قيمة له، إنما يحاسب العبد ويجازيه لأنه فعل ذلك حقيقة.
أما دعاة الرفض فهم ينكرون القدر، وقد رد عليهم شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه العظيم النادر المثال الذي لم يكتب مثله وهو كتاب منهاج السنة النبوية.
أما منهج أهل السنة والجماعة فهو من أوضح وأيسر ما يكون والحمد لله فهم يثبتون لله سبحانه وتعالى القدر، ويؤمنون بهذه المراتب الأربع، ثم يثبتون للعبد فعلا وإرادة ومشيئة، ولا يخرج ذلك عن إرادة الله ومشيئته، وكما أن فعل العبد لا يخرج عن خلق الله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]
من أعظم المميزات لعقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنها عقيدة فطرية ميسرة وواضحة يفهمها ويعقلها كل إنسان إذا ترك الجدال والتقليد.
يقول صاحب الجوهرة تبعاً لما سبق:
والفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جل وعلا
فمن يقول بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعة فذاك بدعيٌ فلا تلفت
أي: لو أن الإِنسَان قَالَ: إن هذه الأشياء تفعل بطبعها أو أنها علة بذاتها فهو كفر مخرج من الملة، وكذلك من قَالَ: إن العباد يفعلون الأفعال بقوة أودعها فيهم، فالنَّار مثلاً تحرق لأن الله أودع فيها الإحراق وجعل الإحراق من خصائصها فهذا الكلام بدعي، فالذي يحرق هو الله، والنَّار ليس لها أي تأثير. فهذا التقليد والجمود المنافي للعقل والفطرة هو الذي أضل عوام الْمُسْلِمِينَ، أما إذا بقي الإِنسَان عَلَى فطرته فإنه لا يختار إلا منهج وعقيدة السلف الصالح لأنها واضحة.
فعندما يسمع العامة قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29] يقولون: إن الله يقول: (تريد يا عبدي وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد) نسمع هذه من آبائنا، والله لم يقل هذه المقالة لكنها حق في ذاتها. فالفطرة موجودة لكنهم عبروا عنها بكلمة غير صحيحة عندما نسبوها إِلَى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله تَعَالَى يقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فنقول: إن مشيئة العبد هي بعد مشيئة الله، فإن شاء العبد الخير وأراده وأحبه وفعله فكل ذلك بمشيئة الله سبحانه، وإذا شاء الشر واختاره وفعله وأراده فبمشيئة الله فعل ذلك، والله سبحانه وتعالى يحاسب العبد لأنه هو الذي فعل واختار وأراد، فلو أن رجلاً مجنوناً ترك فريضة من الفرائض أو فعل محرما من المحرمات لم يحاسب، بل يحاسب الإِنسَان العاقل العالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حكيم.
إذاً: فهذا يحاسب لأنه فعل ذلك بإرادته واختياره، أما المجنون فمناط التكليف والإرادة مفقود عنده فلا يحاسبه الله تَعَالَى عَلَى ذلك، لكن عند هَؤُلاءِ لا فرق بين الفعلين: بين فعل المجنون وبين فعل العاقل، وإنما سبب ذلك كما أشرنا هو الجهل والتقليد الذي عمَّ بلاد الْمُسْلِمِينَ، حتى أصبحت كلياتهم العلمية وجامعاتهم ومعاهدهم تدرس هذه العقائد المنافية للفطرة وهم لا يشعرون، ولذا يجب علينا وجوباً أن ندعو ونسأل الله أن يرد الْمُسْلِمِينَ إِلَى عقيدتهم عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لئلا يموت أحدهم وهو عَلَى ضلال في القدر وفي معرفة الله سبحانه وتعالى.
لقد ذكر الله تَعَالَى في سورة البقرة أعظم آية في كتاب الله وهي آية الكرسي التي اشتملت عَلَى أصول الصفات العظيمة فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] فأول صفة ذكرها الله سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو، يجب أن يوحده الخلق جميعاً الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
فالسمع والبصر والكلام وسائر هذه الصفات مبنية عَلَى صفة الحياة، ومعنى "القيوم" أي: المستغني القائم بنفسه تعالى، فله كمال الغنى فكل ما ينفى عن الله من النقص فهو لكمال حياته وكمال قيوميته، لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته، ثُمَّ قَالَ: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. الشاهد قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.
فهذه المرتبة الأولى من مراتب القدر: أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وإذا علمنا بأن الله عليم فقد آمنا بصفة عظيمة يترتب وينبني عليها صفات وأبواب أخرى من أبواب الإيمان والعقيدة في باب القدر، أما حال بني البشر فكما قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ كما في قصة الخضر مع موسى لما رأى الطير ينقر في البحر نقرة قال: أرأيت ما أخذ هذا الطائر من البحر فإن ما عندي وعندك من علم الله سبحانه وتعالى إلا كما أخذ هذا الطائر من الماء؛ كم أخذ هذا الطائر من البحر؟ هذا هو العلم الذي أطلع الله سبحانه وتعالى به خواص خلقه وأنبيائه، لأن الله سبحانه وتعالى لا يطلع عليه كل أحد وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] .
أدلة إثبات العلم
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وقد علم الله تَعَالَى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه]
[وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[قال الله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75] وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب:40] فالله تَعَالَى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلا وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64] وعن عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثُمَّ قَالَ: ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنَّار وإلا قد كُتبت شقية أو سعيدة، قَالَ: فَقَالَ رجل: يا رَسُول الله أفلا نمكث عَلَى كتابنا وندع العمل؟ فقَالَ: من كَانَ من أهل السعادة فسيصير إِلَى عمل أهل السعادة، ومن كَانَ من أهل الشقاوة فسيصير إِلَى عمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قَالَ: اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] خرجاه في الصحيحين] اهـ.
الشرح:
استدل المُصْنِّف رحمه الله عَلَى إثبات العلم لله تبارك وتعالى ببعض الآيات التي تدل عَلَى أن الله تبارك وتعالى عليم بكل شيء أزلاً وأبداً، فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75] وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب:40] .
فكلمة "كل" وكذلك "شيء" من ألفاظ العموم، بل قيل: إن كلمة "شيء" هي أعم كلمة؛ لأنها تشتمل أدق وأدنى ما يسمى أو ما يرى أو ما يكون في حيز الوجود وكذلك أعظم ما في الوجود يسمى "شيء" كما في قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، فكلمة "شيء" عامة تطلق عَلَى الكبير والصغير فإذا قلنا:"أي شيء"، فهم منه أن الكلمة هي أعم الكلمات، فالله تعالى يطلق عليه شيء، والله تبارك وتعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ويقول:
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فهو سبحانه وتعالى لا يخفى عَلَى علمه أدنى ما يمكن أن يوجد في حيز الوجود.
الفرق بين الأزل والأبد
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فالله تَعَالَى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلاً وأبداً] الأزل والأبد كلمتان متقابلتان تطلقان عَلَى أمرين متقابلين، فالأزل يطلق عَلَى ما ليس له ماضي ولا بداية له، والأبد يطلق عَلَى ما لا نهاية له بالنسبة لنا.
فلا بداية لعلم الله سبحانه وتعالى، فلم يكن الله عز وجل في وقت من الأوقات جاهلاً بأي شيء كَانَ أو سيكون، ثُمَّ تجدد أو حصل أو بدا له علم في هذا الشيء، وكذلك لا يأتي عليه جل وعلا وقت يكون فيه لا يعلم بعض الأشياء، أو ينسى بعض الأشياء، ثُمَّ يقول المصنف:[لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة] وكلمة "علمه" هنا مفعول و"جهالة" فاعل، فالجهالة لم تتقدم علم الله تبارك وتعالى، بل هو عليم منذ الأزل وإلى ما لا نهاية كما قال تعالى: وَمَا كَانَ َ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64] أي: لم ينسَ الله تَعَالَى فيما مضى أمراً أو شيئاً قد علمه، وكذلك لا ينسى الله سبحانه وتعالى في المستقبل أمراً يعلمه الآن، أو فيما مضى
الجهمية تنفي صفة العلم
الذين أنكروا صفة العلم لله تَعَالَى هم الجهمية الذي أنكروا جميع الأسماء والصفات، وهَؤُلاءِ أخرجهم بعض السلف رحمهم الله كعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض وأمثالهما من أجلة السلف من فرق الأمة، وَقَالُوا: هذه ليست من الاثنتين والسبعين فرقة، بل تلحق بفرق اليهود والنَّصَارَى والْمُشْرِكِينَ، لأنهم لم يثبتوا لله تَعَالَى اسماً ولا صفة.
وكذلك لم يمار في هذه المسألة ممن ينتسب إِلَى الإسلام إلا الفلاسفة الذين تفلسفوا في مسألة العلم وَقَالُوا: إن الله تَعَالَى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عما يصفون- بل هو بكل شيء عليم، وأما من أنكر جميع الصفات كالجهمية ومنها صفة العلم فهَؤُلاءِ خارجون عن جميع الملل، وهناك من هو شر منهم وهم غلاة الباطنية.
درجات المنكرين للصفات
تقدم في أول هذا الكتاب بيان درجات المنكرين للصفات، ولو رتبناهم بحسب قربهم منأهل السنة فنقول: الأشعرية يثبتون الأسماء وبعض الصفات، ثُمَّ أبعد منهم المعتزلة يثبتون الأسماء دون الصفات، ثُمَّ درجة ثالثة الجهمية ينفون الأسماء والصفات إلا أنهم يثبتون الوجود المطلق، ويلحق بهم الباطنية وهم أتباع للفلاسفة وجزء منهم في الحقيقة، فهَؤُلاءِ لا يثبتون حتَّى الوجود، وإنما يثبتون لله سبحانه وتعالى المتناقضين، فيقولون: لا نقول إنه موجود، ولا غير موجود، والتعبير الصحيح عنهم أن نقول: إنهم يصفون الله برفع النقيضين، ولا نقول إنهم يثبتون النقيضين، وهَؤُلاءِ لا شك في كفرهم عند جميع الملل.
ثبت في الحديث المتفق عليه عن أمير المؤمنينعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رضي الله عنه قَالَ: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد) وهذا الموقف -موقف الموت- من أبلغ المواقف في قلوب البشر، وكثير من النَّاس لا يرِق قلبه ولا يلين لا في مسجد ولا في حلقة علم ولا ذكر؛ لكنه عند مشهد الموت وحين يدفن يقر الميت في قلبه الإيمان ويخشع ويعترف بتقصيره وذنبه، وربما كَانَ ذلك بداية لأن يلين قلبه لله تبارك وتعالى فيما بعد.
ولهذا كَانَ من السنة أن تزار المقابر، وأن تشيع الجنائز، فالنَّاس يعتبرون ويتعظون بمن سبقهم إِلَى الدار الآخرة.
ثُمَّ يقول: {فأتانا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله} فقعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليُفهِّم ويُعلِّم ويذكر النَّاس في الموقف المهيب، وتحلق الصحابة الكرام حوله صلى الله عليه وسلم، وجلسوا جلسة مهيبة كَانَ عَلَى رؤوسهم الطير من الخشوع ومن استحضار هيبة هذا الموقف، وهيبة السؤال، وجلوسهم بين يد المعلم الأكبر صلى الله عليه وسلم، والواعظ البليغ ليعظهم ويرقق قلوبهم في هذا الموقف.
ثُمَّ قَالَ: {ومعه مخصرة} أي: عصاً صغيرة ينكت بها الأرض {فنكس رأسه، فجعل ينكت بمخصرته} هذه الرواية تقول: (فنكس رأسه) أي: النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أطرق رأسه وأخذ ينكت بمخصرته الأرض ويبحث بها، وهذا دليل عَلَى أن الإِنسَان يكون مشغولاً بأمر عظيم، فلو دخلت عَلَى إنسان ورأيته جالساً عَلَى هذه الهيئة لاستشعرت أنه يفكر في أمر عظيم، وأنه يريد أن يقول شيئاً عظيماً.
ثُمَّ رفع صلى الله عليه وسلم رأسه وخاطب أصحابه بهذه الموعظة البليغة فقَالَ: {ما من نفس منفوسة -وفي رواية: ما منكم من أحد- إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النَّار} ، والصحابة الكرام رضوان الله تَعَالَى عليهم في هذا الموقف، وقد دفنوا أخاً لهم، كل منهم يفكر في هذا الإِنسَان هل هو من أهل الجنة، أو من أهل النار؟
كل إنسان منهم مشغول، وكيف لو كَانَ أحدنا مكانه ماذا يكون جوابنا، وهل نثبت أو لا نثبت؟
وكانت قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حية بذكر الله، وكانت الآخرة حاضرة أمام أعينهم كأنهم يرونها دائماً، وذلك لحياة قلوبهم.
فكأنهم يرونها بأبصارهم، ففي هذا الوقت جاءتهم هذه الموعظة من النبي صلى الله عليه وسلم، فيخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر عظيم لو تفطن له الإِنسَان لأخذه العجب العجاب فَيَقُولُ:{ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النَّار} والآن نَحْنُ الأحياء ما منا أحد إلا وقد كتب الله مكانه إما في الجنة أو النار، والعجيب أننا نتفكر في هذا الميت أهو شقي أم سعيد؟ أما نَحْنُ الأحياء فلا يخطر ببالنا أن كل واحد منا مكتوب أنه شقي أو سعيد.
الأعمال مكتوبة والنهاية معروفة
فهم الصحابة الكرام رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أن الأعمال مكتوبة، ونهاية هذه الأعمال معروفة، إما الجنة أو النار، فهي مكتوبة عند الله، فسأله الصحابة، حتى تعرفوا أن الصحابة الكرام هم أعلم وأذكى وأفطن وأبلغ النَّاس وأفقههم، ولم يأت بعدهم من هو قريب منهم في هذه الصفات فضلاً عن أن يكون مثلهم.
جاء هذا السؤال الذي يتساءل النَّاس به دائماً والذي كثيراً ما يخطر عَلَى لسان، أو عَلَى قلب كل أحد، ويسأل بعضهم بعضاً، ما دام أنه مكتوب كل ما أعمل والنهاية معروفة ومحددة ففيم العمل؟ قال رجل منهم: أفلا نمكث عَلَى ما كتب لنا وندع العمل؟
والحقيقة أن هذا السؤال له أجوبة كثيرة، وقد يبسط جواب النبي صلى الله عليه وسلم ويتفرع منه أجوبة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يجيب بالجواب العملي المقنع السريع، فلو أن إنساناً قَالَ: أنا لا أريد أن أعمل خيراً ولا شراً، وإنما أكتفي بكتابي، وأدع العمل، فهذا مستحيل أن يحصل، ومستحيل أن يبقى جماد لا يتحرك، فمثلاً المؤذن: إن ذهب إِلَى المسجد عمل خيراً، وإن لم يذهب عمل شراً، ومن رأى منكراً أمامه إن نهى عن المنكر عمل خيراً، وإن لم ينه عنه عمل شراً، ومن أكل من حلال عمل خيراً، وإن أكل من حرام عمل شراً.
الإنسان حارث وهمام
انظر إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم حين قَالَ: (وأحب الأسماء إِلَى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام) ، فلا بد فيه من حكمة، لأن الرجل قد يسميه أبوه ظالماً، وهو رجل عادل، فاسمه هذا غير صادق، كما أنك عندما تسمي ذلك البخيل اللئيم كريم فاسمه غير صادق، لكن التسمية بحارث وهمام أسماء صادقة.
فمن النَّاس من يكدح ليلاً ونهاراً في المعاصي والذنوب فهو حارث، وكذلك آخر أعماله كلها خير فهو حارث، فيكون هذا الاسم أصدق الأسماء، وأصدق الأسماء أيضاً همام، لأن الإِنسَان أياً كَانَ ذا خير أو شر يمدح أو يذم فهو حارث وهمام، فإنه يحرث -لا بد له من عمل- وهمام لأنه يهم بخير أو شر، وهذا بمعنى الإرادة.
فسواء حرث خيراً أو شراً فهذا أصدق الأسماء، وهو حقيقة الإِنسَان النفسية وهي أنه لا يخلو فكره عن العمل قط.
وبالمثال يتضح المقال
يقول ابن القيم رحمه الله: فكر الإِنسَان كالطاحون يدور، ثُمَّ يدور، وهكذا الإِنسَان لا يتوقف عن الهمّ، فإن الإِنسَان في أي لحظة وهو مستيقظ يفكر في شيء، والفكر يدور ويجول ولا يتوقف، فإن شغل فكره بالتفكير في الله عز وجل وفي آياته وخلقه وأمره ونهيه ووعده ووعيده، واجتهد في طاعة الله فنتيجة ذلك أنه سيعمل أعمالاً صالحة بإذن الله سبحانه وتعالى، وإن لم يشغل وقته في التفكير في أعمال الخير، فإنه سيفكر في ضدها من أعمال الشر.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تَعَالَى فيه، ولم يصلوا عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا كَانَ عليهم ترة يَوْمَ القِيَامَةِ) أي: نقصاً، وحسرة، وندامة يَوْمَ القِيَامَةِ، وذلك أنهم لم يذكروا الله في هذا المجلس فيمر هذا الوقت خسارة عليهم.
ولهذا فالسؤال بأننا نتكل عَلَى ما كتب وندع العمل، قلنا: إنه غير وارد لأنك يا أيها الإِنسَان حارث وهمام قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] خيراً كَانَ أو شراً، تكدح فتلاقيه، ويقول الله تبارك وتعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه [الإسراء:84] قال ابن عباس وغيره: عَلَى طريقته.
فكل إنسان بحسب إرادته ونيته يعمل، ولا يوجد إنسان لا يعمل أبداً، فلابد أن يعمل، فإما أن يكون الكدح والعمل عَلَى نهج، فيه خير وسنة وطاعة، فهذا مقبول، وإما أن يكون العمل عَلَى نهج وطريقة فيها فجور وضلال وشر، فيكون العمل والكدح شراً ضائعاً، ولهذا قال: فَمُلاقِيهِ.
ثُمَّ فصل فقَالَ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:7] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق:10] أي: النَّاس الذين يعملون ويكدحون فإنهم لن يخرجوا عن هذا الأمر، إما أن يكونوا من أصحاب اليمين، وإما من أصحاب الشمال.
فلابد من معرفة قيمة الزمن وقيمة العمر من قيمة الفكر نفسه، ولابد من محاسبة هذا القلب القاسي المتحجر كم مضى عليه من دهور لم يخشع لله عز وجل، ولم يلن له، ولابد من التفكير في أعمارنا، فالكل في لهو وفي لعب، والكل في الباطل والحرام إلا من رحم الله، والأحرى أن نبكي عَلَى فوات العمر الذي ضاع في غير طاعة، وأن نبادر بالتوبة إليه سبحانه وتعالى، وأن نتدارك هذا العمر، ولهذا قال عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] أي: أعطيناكم مهلة كافية حتى يتذكر كل ذي لب، ويرجع عن غيه، ويعرف طريق الهدى المستقيم وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ إن كَانَ النذير هو الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فقد جَاءَ إِلَى من بعث فيهم، وسنته جاءت إِلَى من بعده، وفسره بعض السلف بأنه الشيب، وهو نذير مفارقة هذه الحياة، فإذا عمر الإِنسَان وجاءه النذير فقد أعذر الله عز وجل إِلَى من بلغ الستين ولم يتب.
فالإِنسَان إما أن يعمل خيراً أو يعمل شراً، ولهذا جَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم بجواب يتضمن هذا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:(من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة) فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب بجوابين متضمن لما ذكرنا وزيادة وهو أنه عندما سئل ألا نمكث عَلَى كتابنا وندع العمل قَالَ: (بل اعملوا فكل ميسر لما خلق الله..) .
ففي الحالين الشيء الموجود الذي لا بد منه هو: العمل، وإنما الخلاف فيما يكون العمل، أهو عمل خير، أو عمل شر، ويتحدد هذا بالتيسير من الله عز وجل.
فمن كَانَ من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وهل في ذلك ظلم؟
جَاءَ في رواية أخرى للحديث لما قال عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: لأختبرن أبا الأسود الدؤلي قال: أفلا يكون ظلماً، يكتب عليهم ثُمَّ يدخلهم الجنة أو النَّار. قال: ففزعت فزعاً شديداً، قلت: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: إنما سألتك لأحزر عقلك.
فانظر إِلَى قوة فكره وعقله، أين الظلم من هذا التيسير الذي يسره الله سبحانه وتعالى؟ أمر مشاهد محسوس، فإذا رأيت الإِنسَان يقرأ القُرْآن، ويحب مجالس الذكر، ويحب مخالطة أهل الخير، ويحرص عَلَى ما يقربه إِلَى الله تبارك وتعالى، فنقول: إنه من أهل السعادة، مع أننا لا نقطع لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النَّار، لكن الذي نقطع به أننا نقول: إن الذي يعمل الطاعات ويكره المعاصي والمنكرات فهذا هو سبيل أهل السعادة، وأن الذي يعمل المعاصي ويحب أهل المعاصي.
فنقول: إن هذا هو سبيل أهل الشقاوة والفجور، وإلا فلا يجعل الله سبحانه وتعالى أبا لهب وحمالة الحطب وأبيَّ بن خلف وأمية وأمثالهم الذين عذبوا المؤمنين مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وقاتلوا وقتلوا، فإن هَؤُلاءِ مشو في طريق آخر، وكل من الطريقين سيؤدي بصاحبه إِلَى النتيجة التي لا بد منها، لكن الله عز وجل يسر لهَؤُلاءِ عمل أهل السعادة، ويسر لأولئك عمل أهل الشقاوة.
هداية العبد للإيمان فضل ومِنّة من الله تعالى
فأما من سلك سبيل السعادة ووفق في الثبات عليها فمن الله تبارك وتعالى فضلاً ومنةً وكرماً، ولهذا فإن الصحابة الكرام لما أنشدوا كانوا يقولون: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا) . وكما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] فالمنِّة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من يُسر لعمل أهل الشقاوة فهذا عدل، وليس في كلا الحالتين ظلم. ولهذا لما احتج المُشْرِكُونَ عَلَى الشرك بالمشيئة في قولهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] قلنا: إن الله سبحانه وتعالى رد عليهم بالحجة العظيمة وهي إرسال الرسل فقَالَ:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فليس هناك حجة وقد جاءتكم الرسل تنذركم كما قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] فالمجرمون حق عليهم الضلالة فلم يوفقهم الله للهداية، لأنهم أهلاً لئن يكونوا من أهل الشقاوة، فقد كانوا يرون أنفسهم عَلَى الشر بالسير في طريق الشقاوة، ولم يحاولوا أن ينصرفوا إِلَى الخير مع قيام الحجة عليهم، ووضوح البينة واستبانة الطريقة. ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم:(اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .
يقول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] في هذه الآية أُسند الفعل أعطى واتقى، بخل واستغنى إِلَى العبد، فالعبد هو الفاعل، فهو إما أن يعطي ويتقي، وإما أن يبخل ويستغني، وعمله هذا وفعله مخلوق لله عز وجل، وفي هذا رد عَلَى المعتزلة القدرية مجوس هذه الأمة، الذين قالوا: إن العبد يخلف فعل نفسه، وفي هذا أيضاً رد عَلَى القدرية الجبرية، عندما قلنا: إن العبد هو الفاعل، لأنهم يرون أن الله هو الفاعل.
علم الله السابق
مرتبة العلم دل عليها الحديث السابق، ودل كذلك عَلَى مرتبة أخرى وهي مرتبة الكتابة، فإن الله قد كتب مصير كل نفس في الجنة أم النَّار، ولهذا قلنا: إن المراتب الأربع يمكن أن نختصرها إِلَى مرتبتين العلم والكتابة ومرتبة الخلق والمشيئة مرتبة ثانية، فالمصنف رحمه الله أتى بالآيات الدالة عَلَى أنه لا حجة للخلق عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، بل لله الحجة البالغة عَلَى خلقه أجمعين.
ولوضوح عبارة الطحاوي لم يتعرض المُصْنِّف رحمه الله لها وهي قولالطّّحاويّ: [وقد علم الله تَعَالَى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل
…
] فالله تبارك وتعالى يعلم عدد أهل الجنة وأهل النَّار، فلن يزداد في هَؤُلاءِ، ولن ينقص من هَؤُلاءِ أحد، وهنالك دليل تقدم معنا يدل عَلَى ذلك وهو: لما استخرج الله سبحانه من ظهر آدم ذريته فقَالَ: (هَؤُلاءِ للجنة ولا أبالي، وهَؤُلاءِ للنار ولا أبالي) .
إذاً: فالله سبحانه وتعالى لما استخرجهم منهم أصحاب اليمين، ومنهم أصحاب الشمال؛ فالأمر قد قضى وانتهى، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير، وكذلك أفعالهم علمها سبحانه وتعالى، والحديث الذي أورده المُصْنِّف يدل عَلَى هذا في قوله:[ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة أو النار] ثُمَّ عقب هذا الكلام بقوله: [وكل ميسر لما خلق له] .
الأعمال بالخواتيم
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وكلٌ ميسرُ لما خُلق له، والأعمال بالخواتم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله]
الشرح:
وقوله: (والأعمال بالخواتم) يوضح أهمية كون الأعمال بالخواتم ما جَاءَ في حديث ابن مسعود الآتي الذي فيه دلالة عَلَى أن أهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النَّار ميسرون لعمل أهل النار، ويكون حال الإِنسَان الثابت المؤكد لذلك بحسب ما ختم له من أعمال، فلا يحكم للعبد بمجرد ما يظهر للناس، ولهذا فإن من أصول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنه لا يقطع لمعين بالجنة أو بالنَّار، إلا من شهد له الله ورسوله، لخفاء الخاتمة والعاقبة للإنسان، ولا يعني ذلك إساءة الظن بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وأنه قد يوجد إنسان يجتهد في الطاعات، ويبذل من الخير والصلاة وقراءة القُرْآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا إِلَى الموت، والله قد كتب عليه أنه من أهل النَّار، فلا يليق هذا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وكذلك لو أن شخصاً مجرماً وظالماً فلن يموت مؤمناً، لأن الله كتب أنه من أهل الجنة فيدخل الجنة، ليس الأمر كذلك، ولا يمكن أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه إساءة الظن بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
لكن في هذا تنبيه لشيئين عظيمين، الأول: اتهام النفس والعمل، والثاني: عدم القطع لأحد بالجنة أو النَّار ورد الأمر إِلَى مشيئة الله سبحانه وتعالى، أما اتهام النفس: لأنك مهما اجتهدت في الطاعات، فالأصل أن تبقى خائفاً من سوء الخاتمة، وتخاف أنها لم تُقْبل كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] وليس هَؤُلاءِ الذين يزنون ويسرقون، بل هم الذين يتصدقون ويصلون ويعملون الطاعات، ولكن قلوبهم وجلة أنهم إِلَى ربهم راجعون، لايدرون أتُقبلت منهم أم لا -كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيدفعه ذلك إِلَى أن يجتهد، كما جَاءَ في حديث الشبهات (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) فالذي يخاف من سوء الخاتمة عليه أن يزداد عمقاً في الخير والصدقة والإنفاق ومحاسبة النفس واتهامها فلا يأتيه العجب أو الغرور، فيكون ذلك أدعى إِلَى أن يلقى الله سبحانه وتعالى عَلَى خير وعلى خاتمة طيبة؛ ولكن لو أخذه الغرور والعجب ودخله الرياء، وأعجب بعمله -عجب بنفسه وأعجب النَّاس به- فهذا قد يكون سبب هلاكه وخسارته وضياعه.
وأما الأمر الثاني فقد دل عليه حديث سهل بن سعد رضي الله عنه (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النَّار -في الحقيقة وعند الله- وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس وهو عند الله -في الحقيقة- من أهل الجنة) ، وأما الذي يعمل بعمل أهل الجنة وهو من أهل النَّار فكالمرائين والمنافقين يحجون، بل كانوا يجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا عمل أهل الجنة لكنهم في الحقيقة من المنافقين وأمرهم واضح.
والأمر الخفي أو الأقل وضوحاً هو: أمر الذي يعمل بعمل أهل النَّار، وقد يكون في الحقيقة من أهل الجنة، وذلك لأننا لا نطلع عَلَى أحوال العباد جميعاً، فقد نرى شخصاً -مثلاً- مقصراً في بعض الصلوات فهذا عمل من أعمال أهل النار، ولكن لديه مثلاً مرض عضال لا يطلع عليه أحد، وهو صابر ويحتسب أجر هذا المرض عند الله عز وجل وإذا رأيته تقول: هذا مقصر، وفي بعض الأوقات لا يأتي إِلَى المسجد لصلاة الصبح، لعل المرض يمنعه من الحضور، وإن كَانَ لا حرج أن نبني الحكم عَلَى الظاهر، لكن في الحقيقة يجب علينا أن نتهم علمنا، وأن نتهم أحكامنا، ونعرف أنها فقط عَلَى الظاهر، أما عند الله فلا ندري لعل هذا الرجل الذي نراه جلفاً غليظاً قاسياً ونقول: هذا من أهل النَّار ربما كَانَ براً بوالديه. نَحْنُ لا نرى ماذا يصنع مع أمه وأبيه، وربما كَانَ ممن يتصدق في السر، وإن كَانَ يفعل بعض المعاصي في العلن، وهكذا فقد يأتي الإِنسَان بعمل أهل الجنة في الظاهر وهو في الحقيقة عند الله من أهل النَّار، أو يعمل بعمل أهل النَّار في الظاهر، وهو في الحقيقة عند الله سبحانه وتعالى من أهل الجنة.
جف القلم بما هو كائن
قال الإمام الطّّحاويّ رحمه الله:-
[وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله]
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: تقدم حديث عَلِيّ رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) .
وعنزهير عنأبى الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ:{جَاءَ سراقة بن مالك بن جعشم فقَالَ: يا رَسُول الله! بين لنا ديننا كأنا خُلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قَالَ: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قَالَ: ففيم العمل؟ قال زهير: ثُمَّ تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت ما قال؟ فقَالَ: اعملوا فكل ميسر} رواه مسلم.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضى الله عنه، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدوا للناس، وهو من أهل الجنة) خرجاه في الصحيحين.
وزاد البُخَارِيّ (وإنما الأعمال بالخواتيم) .
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: حدثنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- (إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النَّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف قال أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد قد أكثر النَّاس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق] اهـ.
الشرح:
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [تقدم حديث عَلِيّ رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ] وهذا الحديث قد تقدم شرحه.
ثُمَّ قال رحمه الله: [وعن زهير عنأبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: (جَاءَ سراقة بن مالك بن جعشم فَقَالَ يا رَسُول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟)
هذا الصحابي الجليل سراقة بن مالك بن جعشم يسأل عن هذا الموضوع المهم، موضوع القدر، الذي يرد كثيراً على أذهان جميع البشر مؤمنهم وكافرهم، لماذا جئنا؟
ولماذا نعمل الشر؟
ولماذا نعمل الخير؟
وهل ما نعمله مكتوب أم مستأنف جديد؟
وأمثال ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تتعلق بموضوع القضاء والقدر.
فرأى الصحابي الجليل رضي الله عنه أن يسأل عن ذلك أعلم الخلق بالله وبأوامره وأقداره وهو رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علَّم الإِنسَانية جميعا طريق الهدى والخير، فسأله سؤال المستفهم المُلِح يا رَسُول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن؟ وكأننا لا نفهم من قبل شيئاً، فكأنه يريد أن يقول: افترض أنه لا علم لنا بإطلاق، وأنك ستعلمنا هذه الحقيقة لنفهمها ونؤمن بها ونعتقدها منذ هذه اللحظة.
فكان السؤال: فيم العمل اليوم؟
ثُمَّ فسر "ما " هذه بأحد احتمالين:
قَالَ: (أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟)
أي: هذا العمل الذي نعمله يومياً من الطاعات أو المعاصي، من الخير أو الشر، أهو فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أي: أمر كتب وقضي، وفرغ منه، أم هو فيما نستقبل؟
أي: نعمله دون أن يكون قد كتب وجرت به المقادير، وجفت به الأقلام.
فنحن نعمل أعمالاً بإرادتنا واختيارنا نعرف الخير منها ونعرف الشر، ففي أي الحالتين هذه الأعمال يا رَسُول الله؟ أهي فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ إذ نَحْنُ نفكر ونهم ثُمَّ نعزم ثُمَّ نختار ثُمَّ نفعل الأمر فحينئذ يكون أمراً جديداً حدثاً لم يكن قد قضي وقدّر من قبل.
فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: (لا؛ بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير) وهذا إثبات لمرتبتي العلم والكتابة، وإن قلنا: مرتبة الكتابة فصحيح، لأن مرتبة الكتابة تتضمن العلم.
(قَالَ: ففيم العمل؟)
وقد ورد هذا السؤال من قبل في حديث عَلِيّ رضي الله عنه المخّرج في الصحيحين لما كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد عند دفن تلك الجنازة فقيل له: (يا رَسُول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟)
وهنا في هذا الحديث يقول سراقة: (يا رَسُول الله -مادام أن الأمر قد قضي وقدر، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير- ففيمّ العمل؟ قال زهير: ثُمَّ تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت ما قال؟ فقَالَ: (اعملوا فكل ميسر) .
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد لسراقة نفس القول الذي ذكره في حديث عَلِيّ وهو في حديث عَلِيّ أطول، إذ فيه يقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قرأ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الآيات من سورة الليل وهي: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] .
أي: هذا الذي هو من أهل السعادة ميسر لعمل أهل السعادة، وهو أن يعطي ويتقي ويصدق، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى -وهذه صفات أهل الشقاوة- فميسر له عمل أهل الشقاوة.
فهذا الحديث هو تأكيد وتحقيق لما سبق في حديث عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فلا مجال إذاً أن يقال: فيم العمل؟
أو أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟
لأن الإِنسَان لا يخلو عن العمل فهو عامل إما أن يعمل بالطاعة أو يعمل بضدها فلا بد من العمل، والحل هو كما قال الصحابة رضى الله تَعَالَى عنهم في الرواية الأخرى (قالوا: إذاً نجتهد) فما دام الأمر متروكاً لنا (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .
فالواجب علينا أن نجتهد، وأن نعمل الطاعات، ونجتهد في اجتناب المحرمات، وبذلك نكون قد سلكنا طريق أهل السعادة وابتعدنا عن طريق أهل الشقاوة، فهذا من فضل الله ومن حكمته ورحمته سبحانه وتعالى أن جعل الأمر بيد المخلوقين ولذلك يجازيهم عليه، لأنه جعل المسؤولية عليهم، فهم يسألون عن أمر قد علموا أنهم مسئولون عنه.
ثُمَّ يؤكد ويؤيد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هذين الحديثين بحديث ثالث وهو حديث سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة) هذا الحديث المتفق عليه وزاد البُخَارِيّ جملة مهمة وهي (وإنما الأعمال بالخواتيم) .
والغرض من إيراد هذا الجزء هو إثبات الكتابة وإثبات العلم، ونأخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) هذا في العلم البشري (وهو من أهل النَّار) في علم الله وفي كتاب الله أنه مكتوب من أهل النار، وعكسه الرجل يعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس في العلم البشري، لكنه في علم الله من أهل الجنة، فمكتوب عند الله في ديوان أهل الجنة.
وسبب الحديث هو الرجل الذي كَانَ في جيش النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل مع الصحابة الكرام، وكان لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فَقَالَ الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم:(ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان) فيما يظهر لهم لأنه يبلي بلاءً شديدا ويقاتل، ويميل على الْمُشْرِكِينَ يمنة ويسرة يضربهم بالسيف حتى قال الراوي:(لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه) .
فكان الصحابة الكرام يثنون عليه -هذا العلم البشري الظاهر- يثنون على بلائه وجهاده وشجاعته، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(أما إنه من أهل النَّار) فَكُبر ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وشق عليهم حتى قال بعضهم: (كدت أن أفتتن) فالأمر إذاً خطير، كيف نرى إنساناً يعمل هذه الأعمال من الطاعات والقربات والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم وأمثال ذلك، ويكون من أهل النار؟ هذا شيء عجيب!
ولو أن النَّاس اطلعوا على الغيب لربما ذهلوا من كثرة ما يقع من هذه الحالات، ولو أن الله عز وجل يطلعنا على الغيب لوجدت أن فلاناً الذي تحبه وتثق فيه وتظن فيه الدين والخير والإيمان من أهل النار، وفلاناً الشرير الذي لا تطمع فيه بخير ولا تنظر إليه بعين من أهل الجنة، فتستغرب ذلك، وربما ضلت وزاغت عقول، ولروبما فتنت قلوب، والمخرج من هذا وحتى لا يزعزع القلوب ولا يزلزلها أبداً هو عندما يؤمن الإِنسَان حقيقة بأن علمه قاصر، وأن نظرته محدودة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن الأمر ليس منه سبحانه وتعالى ظلماً، أي: لا يجوز لنا أن نسيئ الظن بربنا، فنرى إنساناً عابداً تقياً زاهداً ثُمَّ يختم له بخاتمة سوء فنقول: ما دام أن هذا الرجل ختم له بالسوء فمن يأمن ربه تَعَالَى الله عن ذلك، لا نأمن أن يدخل الأولياء الصالحين العبُّاد النَّار، أو أن يدخل الفجار الأشرار الجنة.
إذاً: المسألة مجرد احتمال، فيرجع الأمر إِلَى محض المشيئة، وهذا خطأ عظيم وقع فيه كثير من أرباب السلوك، المربون الذين يسمون بأهل السلوك من المتصوفة وغيرهم، الذين ظنوا أن الأمر راجع إِلَى محض المشيئة، فشاء لهذا فأدخله النار، وإن عمل ما عمل من الطاعات، وشاء لهذا فأدخله الجنة وإن عمل ما عمل من المعاصي لأن الأمر مشيئة فقط، والحق أن الأمر ليس متعلقاً بالمشيئة وحدها بل متعلق بغيرها، نعم المشيئة متعلقة بكل شيء، فلا يقع من شيء في الكون طاعة كَانَ أو معصية إلا بالمشيئة، هذا أمر مفروغ منه، لكن زيادة على المشيئة هنالك عدل الله سبحانه وتعالى وحكمته وأنه تَعَالَى لا يظلم أحداً أبداً.
وهنالك وجوب إحسان الظن بالله كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) فكيف يسيء العبد ظنه بربه إِلَى هذا الحد، ويجعل الأمر أمر مشيئة.
إذاً فلماذا شرع الدين، وأنزلت الكتب؟
ولماذا أرسل الرسل إذا كَانَ الأمر محض مشيئة؟
لا يمكن ذلك أبداً.
فلما أثر الحديث على الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم ولما شق عليهم الأمر وحال هذا الرجل: (قال أحدهم: أنا صاحبه) قَالَ: أنا سأتتبعه لأرى كيف يعمل بعمل أهل الجنة وهو من أهل النَّار قَالَ: (فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت) .
أصابه جرح شديد بالغ فلم يتحمل الألم فاستعجل الموت (فوضع نصل سيفه من الأرض وذبابه بين ثدييه ثُمَّ تحامل عليه -واتكأ بنفسه على السيف- فقتل نفسه) .
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس، وهو من أهل النَّار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة) فأيقن الصحابة الكرام رضى الله تَعَالَى عنهم لما رأوا واطلعوا على ذلك الحدث، والذين لم يروا الرجل من الصحابة عندما وقعت له هذه النهاية السيئة والخاتمة السيئة -نعوذوا بالله من سوء الخاتمة- وإنما رأوا أفعاله الحسنة وجهاده، ثُمَّ سمعوا كلام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فيه وقوله:(أما إنه من أهل النَّار) .
فالواجب عليهم التسليم، ومع ذلك يجب عليهم حسن الظن بالله سبحانه وتعالى حتى لا يخطر على العقول أنني قد أعمل الطاعات وأجتهد فيها، ثُمَّ لا أدري إلا وقد قُذف بي إِلَى النار، ليس الأمر كذلك، هذا الرجل عمل الطاعة فيما يبدو للناس، لكن لما كَانَ قلبه منطوياً على غير ذلك، ظهر أثر ذلك عندما عجّل نفسه إِلَى ربه.
فالمجاهد المخلص يصبر على القتال، ويصبر على الجرح والألم، بل الإِنسَان حتى في غير الجهاد لا يجوز له أن يقتل نفسه، بل يجب أن يصبر على أي بلاء يبتلى به، فلما أن فعل الرجل ذلك انكشفت الحقيقة التي لم نكن نعلمها لولا أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بها من قبل، ثُمَّ شوهدت بالعين، وهي: أن عمل ذلك الرجل إنما كَانَ عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، في ظاهر علمنا البشري فقط، وإلا فخاتمته خاتمة سوء، ونهايته نهاية سوء، نسأل الله العفو والعافية.
من الخطأ الاقتصار على جانب الترهيب في الموعظة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) ولا بد أن نفهم هذه الحقيقة التي ضل فيها كثير من النَّاس، فقد كَانَ من المشهورين بالوعظ والتذكير والتربية عَلَى هذا الأمر الحارث المحاسبي واشتهر بذلك لأنه كَانَ يُعلِّم مريديه وتلاميذه المحاسبة، فيأمرهم أن يحاسبوا أنفسهم، ويعلم النَّاس في المساجد دقائق الأمور فَيَقُولُ: حاسب نفسك عَلَى المعصية فلا تقع في معصية، وإذا اجتهد الإِنسَان وأخلص وعمل الطاعة عَلَى الوجه الصحيح، وهو مخلص وصادق، أيضاً جاءوا إليه وأخذوا يكلمونه ويقولون: لا تدري ما نهايتك عند الله ربما تكون من أهل النار، وعمقوا هذا الكلام وربوا النَّاس عليه وأكثروا منه كانت النتيجة: أن قنط الأتباع، ولم يثقوا في عدل الله ولا في حكمته.
وأهُمِلَ الجانبُ الآخر جانب الرجاء والترغيب فيما عند الله، والتذكير بسعة رحمة الله، وأنها سبقت غضبه، وأن أمره سبحانه وتعالى متردد بين الفضل وبين العدل، ولا يخرج عن العدل بأي حال من الأحوال إلى الظلم، تُرك هذا الجانب بقصد أن يتزكى الناس، وأن يخلصوا أعمالهم، فلما سلك أُولَئِكَ الشيوخ هذا المسلك المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهدي القُرْآن الذى نراه بين أيدينا يأتي بأهل الجنة وبأوصافهم وأحوالهم، ثُمَّ يعرض لأهل النَّار وأوصافهم وأحوالهم، وإذا جاءت آيات في الترهيب جاءت آيات في الترغيب، فهذه هي التربية السليمة القويمة، لكن مجرد التركيز عَلَى جانب الترهيب فقط، فقد يؤدي إِلَى أن يقنط بعضهم وييأس.
ولو أن التخويف كان عند أهل المعاصي، لكان أقرب، مع أنه حتى أهل المعاصي لا ينبغي ولا يصح أن نأخذهم بمجرد التخويف، أرأيتم لو أن أناساً ممن يشربون الخمر ويزنون ويفعلون، من المحرمات ما يفعلون وكان الواعظ يعظهم دائماً بالتخويف.
فإنه سينتج عندهم -أو عند بعضهم- هذه الحالة، وهو أن ييأس فيقول له الشيطان: أنت إذاً من أهل النَّار فاستمر عَلَى عمل أهل النار، فيستمر ولا يتوب، لكن لو اقترن بعد الترهيب وبعد الوعظ الشديد والزجر والردع عن هذه المعاصي القول بأن الله غفور رحيم، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه تَعَالَى يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه سبحانه وتعالى يبدل السيئات حسنات لمن تاب، وأنه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، ويقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها.
فأنت في هذه الحالة بعد أن خوفتهم تماماً، أصبحوا يريدون أن يبحثوا عن المخرج، وأنت قد أعطيتهم المخرج، وهذا هو المخرج في أن يتوبوا إِلَى الله ويعودوا إليه ولن يردهم أبداً، بل يكفر عنهم ما أسلفوا من الخطايا ويقبلهم ويظهرهم منها، ويبدل تلك الخطايا والموبقات حسنات عظيمة، وهذا الترغيب مما يجعل التائب يقبل عَلَى الطاعة ويقلع عن المعصية، فهذا هو هدي القُرْآن وعليه ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ كبار الصحابة المتمسكين الأوابين المخبتين، بالحساب عَلَى الدقائق، ولكنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يعامل المذنبين والمخطئين والمقصرين المقبلين إليه بالرحمة، وبالقبول وبالسعة، ليؤوي أولئك، ويحتضنهم هَؤُلاءِ.
أما أُولَئِكَ المقربون فليزدادوا رفعة، وليزدادوا في درجة الإحسان، فهذه التربية الحكيمة لا بد منها، أما ما يفهمه كثير من الناس، وكثير من الوعاظ من أمثال هذه الأحاديث أنها لمجرد التئييس والتقنيط الذي يصل بالنَّاس إِلَى أن يسيئوا ظنهم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ عز وجل فهذا غير صحيح، وإن كَانَ لابد أن نتعظ ونعظ النَّاس بها لكن عَلَى الفهم الصحيح وقد وقع أهل الكلام في مثل هذا الفهم الخاطئ.
فهذا مذهب الأشعرية القائلين بأن الأمر يرجع إِلَى المشيئة المحضة، فإن شاء جعل إبليس وجنوده في الجنة، وجعل أعظم الأولياء -ولا يقولون: محمداً صلى الله عليه وسلم تورعوا عن الكلمة، وإلا فهذا مرادهم- وجعل أعظم الأولياء والصالحين في النار.
وهذا ليس مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الإيمان بالقدر، وإنما نؤمن بالقدر عَلَى أساس الإيمان معه بحكمة الله سبحانه وتعالى، والإيمان معه بعدل الله سبحانه وتعالى:(يا عبادي إني حرمت الظلم عَلَى نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) . فهو الغني سبحانه وتعالى لم يظلمهم، وهو الغني عن طاعتهم، كما أنه لا تضره معصيتهم، إذاً فالأعمال بالخواتيم.
العبرة المأخوذة من حديث الصادق المصدوق
والحديث الآخر حديث الصادق المصدوق الذي نفهم منه العبرة التي أشرنا إليها فيما مضى وهي تتكون من أمرين:
الأمر الأول: هو اتهام النفس، فلا يتهم ربه، وإنما يتهم الإِنسَان نفسه بالتقصير، ويعاملها بالاتهام ليدفع عنها الغرور والعجب، دون أن يخرجه ذلك إِلَى حد سوء الظن بالله، أو اليأس من رحمته؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فلا ييأس الإِنسَان من روح الله ولا يقنط من رحمته، لكن ليجتهد في الطاعات، ومع ذلك يتهم نفسه وعمله ولا يدري أُقِبل عمله أم لم يُقبل؟ مع ثقته في أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع عمل عامل من المؤمنين أبداً.
الأمر الثاني: عدم القطع لمعين بجنة أو نار؛ لأننا لا ندري، فقد نرى الإِنسَان يعمل عمل أهل الجنة فيما يظهر لنا، أو نراه يعمل بعمل أهل النَّار فيما يظهر لنا، والحال أنه يكون بخلاف ذلك عند الله، وهل يعني هذا أن نشك في أهل الخير والصلاح ولا نثق بهم؛ لأنه يمكن أن يكونوا من أهل النار، وأن نتودد أو نحسن الظن بالمجرمين، لأنهم يمكن أن يكونوا من أهل الجنة كما يفهم بعض النَّاس وكما فهم ذلك المتكلمون والأشعرية وغيرهم.
بل المقصود أنك إذا رأيت عبداً في طاعة وتقوى وإخلاص وعلم وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وكل أعمال الجنة التي جعلها الله سبحانه وتعالى أسباباً توصل إِلَى رضاه وإلى جنته، فإنك تحبه وتواليه وترجو له الجنة ولا تقطع؛ لأنك لا تدري عن الحقيقة، فعدم علمك بالحقيقة لا يجعلك تيأس أو تسيئ الظن به، بل يجعلك لا تجزم له فقط، وترجو له الثواب. .
فإذا مات نرجو أن يكون من أهل الجنة فنقول: ما علمناه إلا صالحاً، وما علمنا عليه إلا الخير، هكذا نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي عَلَى الله أحداً، كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الآخر صاحب الفجور والظلم والمعاصي والقبائح والموبقات، فإنك تخاف عليه من النار؛ لأنه يعمل بعمل أهل النَّار هذا الذي يظهر لك، وتخاف عليه منها، ولكن هل تجزم له بذلك، لا؛ لأنك لا تدري، ربما يكون له حسنة لا تعلمها، وإلا فإن شهادة المؤمنين معتبرة، كما في الحديث الصحيح (أنه مر عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فسأل الصحابة فأثنوا خيراً، فقال: وجبت، ثُمَّ مُر عليه صلى الله عليه وسلم بجنازة أخرى فسألهم فأثنوا شراً، فقال: وجبت، ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم شهداء الله في الأرض) والصحابة الكرام لم يقولوا: هذا من أهل النَّار يا رَسُول الله! ولا قالوا: هذا من أهل الجنة يا رَسُول الله، وإنما أثنوا عَلَى صاحب الخير خيراً، وذكروا صاحب الشر أيضاً بالشر.
إذاً: إذا رأيت إنساناً مات ووجدت أهل الخير يثنون عليه خيراً، فإنك ترجو له الجنة وتزكيه، ولا تزكي عَلَى الله أحداً، ولكن ترجو له الخير والثواب؛ لأن هَؤُلاءِ هم شهداء الله في الأرض، لكنك لا تجزم؛ لأنك لا تعلم الغيب، وعكسه لو ذكر إنسان بالشر، وسمعت أهل الخير والإيمان والصلاح يذمونه، فإنك أيضاً تظن فيه الشر والسوء، وتخاف عليه من العذاب، تتوقع له ذلك لكن لا تجزم؛ لأنك حينئذ تقع في الخطأ والخلل، ويجب أن نوفق بين كون المؤمنين شهداء الله في الأرض، وبناءً عَلَى شهادتهم تجري الأحكام الظاهرة، أما علم الغيب الأحكام الباطنة فهي عند الله عز وجل، وبين إيماننا بأن الله سبحانه وتعالى عدل، بأنه حكم قسط، وأنه حكيم، وبين إيماننا أيضاً بأن مشيئته تنفذ، وأن من كتبت له الشقاوة فهو من أهلها، وأيضاً من كتبت له السعادة فهو من أهلها، هذا الذي يجب وينبغي لعباد الله حيال ذلك.
أما حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قَالَ: (حدثنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) .
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأحاديث، وهذا الحديث بالذات يقول فيه: وهو الصادق المصدوق؛ لأن هذا الحديث يتضمن أموراً عجيبة، لا تُعلم إلا من طريق الوحي، وربما زلت فيها الأفهام، وضلت فيها العقول، وهو أمر القدر.
فيقول رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: (وهو الصادق المصدوق) يوطئ لما سيخبرك عنه، فكأنه يقول: أيها العبد المؤمن صدق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ويقول: اسمعوا ما أقوله لكم من الصادق المصدوق وطنوا أنفسكم عَلَى قبوله، وهيؤها لتلقيه بالإيقان، وبالإعتقاد الجازم وعدم الشك أو التردد، لأنه صادق مصدوق صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النَّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .
فمضمون هذا الحديث هو نفس رواية حديثسهل المتقدم بزيادة البُخَارِيّ رضى الله تَعَالَى عنه وهي قوله: (إنما الأعمال بالخواتيم) .
أنواع الكتابة
والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يريد أن يثبت لنا في هذا الحديث مرتبة العلم والكتابة، ولهذا ذكر ذلك فقَالَ: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه
…
) إِلَى أن قال: (ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله..) .
فالمقصود إذاً هو الكتابة، وهي كتابة فردية لنفس الفرد، والكتابة الكونية: هي أول ما خلق الله القلم فَقَالَ له: اكتب، فكتب مقادير كل شيء وعرشه عَلَى الماء، فالكتابة الكونية كتابة تتعلق بالكون كله، وأما الكتابة في هذا الحديث فهي الفردية، والكتابة الكونية تتضمن الفردية لا العكس، ففي ذلك اللوح كتب شأن كل إنسان.
ولهذا قال من قال من السلف في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون [الجاثية:29] قَالَ: [وهل يكون النسخ إلا من أصل] أي: الملائكة تطابق عَلَى ما في اللوح المحفوظ، فتستنسخ ذلك، وما تنسخه من اللوح المحفوظ هو ما يفعله العباد تماماً، وما محي من ذلك فليس في الأصل، وهو أم الكتاب يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] .
فالكتابة الكونية هي الكتابة التي كتبها الله تبارك وتعالى أول ما خلق القلم، ولم يكن حينئذ من المخلوقات المعروفة لنا إلا العرش والماء -كما سيأتي- ثُمَّ خلق القلم قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وأمره أن يكتب كل ما هو كائن هذا نوع من الكتابة.
والنوع الثاني: الكتابة النوعية: أي التي تشمل النوع الإِنسَاني كله، وهي ما أخذه الله سبحانه وتعالى من الميثاق لما استخرجهم من ظهر آدم، وكتب أن هَؤُلاءِ في الجنة وهَؤُلاءِ في النَّار، ثُمَّ الكتابة الفردية التي تتعلق بكل فرد في ذاته، وذلك عندما يأتيه الملك لينفخ فيه الروح ويكتب ما يتعلق بهذا الفرد في ذاته، من رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
ثُمَّ الكتابة الحولية: وهي ما يكون في ليلة القدر، أي: التقدير الحولي الذي يقدره الله تبارك وتعالى في ليلة القدر من هذه الليلة إِلَى مثلها من العام القادم، ثُمَّ بعد ذلك التقدير اليومي وهو: الإيجاد والخلق والتدبير، يدبر الله تبارك وتعالى هذا الكون، ويخلق ويوجد فيه ما قدره سبحانه وتعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:(إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك) .
النطفة: تطلق في لغة العرب عَلَى القليل من الماء، والمقصود بذلك هو الماء الذي يخلقه الله سبحانه وتعالى ليقذف في الأرحام، ثُمَّ يكون علقة، والعلقة: هي الدم المتختر المتجمع، وهذه العلقة هي الحيوان المعروف في المياه، والمضغة هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الإِنسَان.
والمقصود أن هذه الثلاث المراحل معروفة وجاءت في الكتاب الحكيم، ثُمَّ جاءت في هذا الحديث تصديقاً لذلك (ثُمَّ يرسل إليه الملك) ثُمَّ هذه الأخيرة متى؟ بعد الثلاث المراحل أو بعد مرحلة منها.
الخلاف في تحديد زمن نفخ الروح
يرى بعض العلماء أن هذه المراحل عَلَى ظاهرها في الترتيب، أي أن الملك ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين ليلة، فهذا وجه فهمته طائفة من العلماء، وطائفة أخرى قالوا: إن نفخ الروح يكون بعد الأربعين الأولى: وفي بداية الطور الثاني وهو طور العلقة، ويستدلون عليه بأحاديث صحيحة منها حديث حذيفة:(إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح) وقوله: (ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك) استطراد فاصل لبيان أن هذه المراحل كل مرحلة منها مدته أربعون ليلة، ولا يكون المقصود أن النفخ مترتب عَلَى المراحل، هكذا فهم بعض العلماء، وتعارضت بذلك الأحاديث والله تبارك وتعالى أعلم، وهذا الأمر اختلف فيه أيضاً الأطباء واختلفت أنظارهم فيه، وإن كَانَ الطب الحديث كما سمعنا ونقرأ -وعلمنا بذلك محدود- يميل إِلَى القول إِلَى أنه يكون نفخ الروح في الطور الثاني، إلا أن هناك قولاً لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ربما يحل الإشكال لو تأملناه، أو لو ثبت لدينا بطريق القطع يقول ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هنالك ملكان: أحدهما: ملك موكل بالنطفة، وهذا يأتي علي رأس الأربعين أو بعد اثنتين وأربعين ليلة لحديث حذيفة، وأما الملك الذي يكتب الأربع كلمات فهو: ملك آخر وهو يأتي عَلَى رأس المائة والعشرين ليلة، فكأن النطفة تمر بها حالتان: الحالة الأولى: يأتيها الملك الموكل بها يغيرها ويقلبها من طور إِلَى طور، وقد تنفخ فيها الروح وتكون ذات حياة، لكن هذه الحياة حياة خاصة حياة جنينية، وأما الحياة التي هي الحياة الحقيقية التي يكون بها الإِنسَان بشراً فهي بعد المائة والعشرين والله تَعَالَى أعلم.
وأنا أقول: لا نقطع بهذا مع أنه قول تبدو عليه الوجاهة لأن الأحاديث متعارضة، وقد حاولت أن أوفق وأجمع الأحاديث عَلَى هذا القول فلم تجتمع لدي تماماً، والأمر بحاجة إِلَى مزيد تتبع، ولعل الله أن يفتح لنا فيه، ويراجع شرح الحديث في جامع العلوم والحكم لابن رجب، وشفاء العليل لابن القيم.
الكتابة العمرية
وقال صلى الله عليه وسلم: (ويؤمر بأربع كلمات) هذا الملك يأتي إِلَى هذا الجنين فيكتب أربع كلمات (رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) فقوله: "رزقه" يكتب كل ما سيرزق هذا الإِنسَان في حياته، ويوضح ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(إن روح القدس نفث في روعي) أي: ألقي في نفسي وألقي في قلبي (أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) .
فيكون الطلب كما وصفه الله سبحانه وتعالى طلب الذين لا يسألون النَّاس إلحافاً، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وليس رزقه بكثرة الحرص ولا بالإلحاح ولا بكثرة الجهد والعمل، صحيح أنه يعمل ويجتهد ويطلب ويسأل النَّاس فيما هو جائز شرعاً أن يسألهم فيه، لكن كل ذلك مع التعفف عدم الإلحاح، بل مع الطلب الجميل، لأنه لن تموت نفس إلا إذا استكملت ما كتب لها من الرزق، ولو بقي لإنسان أن يأكل شيئاً ما لن يموت حتى يأكله.
ولهذا يعطى للإنسان الشربة من الماء أو التمرة فيشرب النصف أو يأكل النصف ثُمَّ تقبض روحه، ويترك النصف الآخر لأنه أخذ النصف المكتوب، وترك النصف الذي لم يكتب، فلا يمكن أبداً أن يموت إنسان وقد بقي مما كتب له شيء، فهذا الرزق أما الأجل فقد قال تعالى: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49] .
فكل نفس تتنفسه معدود، وعمر كل إنسان محسوب، فإذا جَاءَ الأجل فقد يستنشق الإِنسَان النفس ثُمَّ لا يخرجه، أو يخرجه ثُمَّ لا يدخله، عندئذ ينقطع عن هذه الدنيا فيستكمل ما كتب له نَفَساً نَفَساً، لأن الله سبحانه وتعالى قد قدر ذلك وكتبه لا محالة، فهذا يكتب عند أول ما تنفخ الروح.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] فلو أنا آمنا بالقدر بهذه الحقيقة، لما كَانَ هذا الأسى والجزع والقنوط إذا أصابنا الشر وأصابنا ما نكره، ولما كَانَ الهلع والفرح والعُجب إذا جاءنا ما نريد، فإن المسألة مكتوبة لا زيادة في أحدهما ولا نقصان منه،
قوله: [وعمله] فكل ما يعمل من أعمال الخير أو الشر فإنه مكتوب مسطر، فالعمل مكتوب وقد يقول قائل مثلما قال سراقة رضى الله تَعَالَى عنه:(فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) فيكتب العمل، ومع العمل يأتي الأمر الرابع وهو شقي أو سعيد.
إذاً: عندنا أمران: الأول: عمل، والثاني: نهاية وخاتمة، فالعمل: عام قد يكون عمل خير أو عمل شر، والخاتمة هنا فَصَّلت (شقي أو سعيد) . فقد يكون العمل عملاً فيه خير لكن النهاية شقاوة، أو العكس.
إذاً: هنا أمران كل منهما منفصل عن الآخر: العمل والخاتمة: إما الشقاوة وإما السعادة، ولهذا قَالَ:(فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها) فهذا الكلام شرح لمسألة الشقاوة والسعادة ولهذا كَانَ عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ يقول: "السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه ".
خطأ من فسر حديث ابن مسعود بحديث سهل
فالذين فسروا حديث عبد الله بن مسعود بحديث سهل في كلامهم شيء من الإخلال والتقصير، وذلك لأن حديثسهل بن سعد فيه:(يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) لكن هو في الحقيقة عامل بعمل أهل النَّار، وعكسه (يعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس) لكنه في الحقيقة يعمل بعمل أهل الجنة هذه حالة، والذي تكلمنا عنه حالة أخرى، وهي حالة إنسان يعمل بعمل أهل الجنة لحظات أو أيام أو فترات، ثُمَّ يعمل بعمل أهل النَّار فترات، والاحتمال الثاني هنا أعم في الدلالة، فحديث عبد الله بن مسعود فيه زيادة وهي أن تتهم نفسك، وتحرص عَلَى الخير، وتجتهد عَلَى أن تقوي إيمانك كل ما ضعف، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم:(إن الإيمان ليَخْلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب) يعني يبلي، فإن خَلق يخلق: بلي يبلي مثلها وزنا ومعنى، فالإيمان يبلى كما يبلى الثوب، فجدد إيمانك كما تجدد ثيابك تغسلها أو تغيرها، فلو جَاءَ الأجل والإِنسَان قد بلي إيمانه ولم يجدده فإن هذا هو الخطر، وإذا جاءه وقد جدد إيمانه يكون الخير، فيفهم من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله تَعَالَى عنه أن الأعمال بالخواتيم، وأن الإِنسَان يجتهد في أن يزداد إيمانه، وأن يتهم نفسه، والإِنسَان في الحقيقة قد يكون ممن لديه إيمان، لكن هذا الإيمان بلي مع الزمن، كما طال الأمد عَلَى أهل الكتاب فقست قلوبهم، ثُمَّ عوتب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك أيضاً قال تعالى: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] فقد كَانَ إيمانهم حقيقياً صادقاً ولكن مع طول الأمد بغير تجديد، يقسو القلب ويصبح الإيمان أمراً عادياً لديه، فلو أدركت العبد منيته في حال قسوة القلب، لكان من أهل الشقاوة -عياذاً بالله- ليس لأنه كَانَ يعمل الطاعة فيما يبدو للناس، وإنما لأنه كَانَ يعملها، ثُمَّ فترت وضعفت همته، ولم
يواصلها، أو لم يجدد إيمانه.
فهذا الفرق بين الحديثين وفي كل منهما عبرة لنا وعظة، وهي أنه يمكن أن تغير الكتابة الفردية العمرية التي يكتبها الملك للإنسان في الرحم وهو جنين في بطن أمه، تغير بناءً عَلَى ما سيعمله الإِنسَان من أعمال، وهذا التغيير يكون موافقاً لما في أم الكتاب، كما في حديث:(من أراد أن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه) وحديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء) فمن وصل رحمه، وأكثر من الدعاء، فقد يصرف عنه ما قد كتب عليه وهو في بطن أمه، لكن ما وقع يكون مطابقاً للكتابة الأزلية الكونية المطابقة لعلم الله سبحانه وتعالى. يقول:(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها) نسأل الله العفو والعافية.
إذاً فدخول النَّار مترتب عَلَى العمل، وأما سبق الكتاب فهو في علم الله سبحانه وتعالى؛ لأن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، والعبرة بالخواتيم، فقد يعمل الإِنسَان بعمل أهل النَّار، ولكن يختم له بخاتمة خير، ومن النَّاس من أسلم وجاهد كما في الحديث الصحيح عن (الرجل الذي جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فدخل الصف فجاهد فقاتل فقتل، ولم يسجد لله عز وجل سجدة واحدة) أسلم ودخل المعركة، فهذا ختم له بخاتمة خير رغم أن كل ماضيه كَانَ غير ذلك، والحال أيضاً أن الإِنسَان قد يعمل بعمل أهل الجنة، ويظن المؤمنون أنه منهم.
فلما جَاءَ الموت تكشفت الحقائق ونطق بما في قلبه، وأظهر الكفر الذي كَانَ يكتمه في قلبه، فيكون هذا حاله، لكن لا يشغلنا ذلك عن العبرة العظمى وهي: أن الأعمال بالخواتيم، لهذا جَاءَ في وصية النبي صلى الله عليه وسلم:(اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق النَّاس بخلق حسن) .
فلو أن العبد المؤمن كلما غلبته نفسه وغفلت فارتكب سيئة أتبعها بحسنة لمحتها وكفرتها، ولو لم تكن تلك الحسنة إلا أن يقول: استغفر الله ويتوب، فهذه حسنة من أعظم الحسنات، والاستغفار يمحو الله تَعَالَى به الخطايا.
يقول: [والأحاديث في هذا الباب] أي: في باب إثبات الكتابة والعلم السابق [كثيرة وكذلك الآثار عن السلف] من أكثر من جمع ذلك الحافظ اللالكائي رحمه الله في كتابه شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والإمام الآجري رحمه الله في كتابه الشريعة والإمام ابن بطة العكبري في الإبانة والحافظ أبو عمر ابن عبد البر أيضاً في التمهيد الذي أشار إليه هنا.
وأيضاً كتب السنة أفردت أبواباً للقدر ذكرت فيه هذه الأحاديث وزيادة عليها، فغالب كتب الحديث والسنة ذكرت ذلك يقول:[قَالَ: أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد قد أكثر النَّاس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون عَلَى الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق] وأكثرشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله في كتابه درء تعارض العقل والنقل (ج 8،9) فيما يتعلق بمسألة القدر ومسألة الفطرة وذكر كلام ابن عبد البر وعلق عليه، واستدرك وأضاف رضى الله تَعَالَى عنهما.
ما هو سر الله في خلقه؟
قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[وأصل القدر سر الله تَعَالَى في خلقه، لم يطلع عَلَى ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تَعَالَى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تَعَالَى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب، كَانَ من الكافرين]
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى وأفقر وأغنى، وأمات وأحيى، وأضل وهدى. قال علي رضي الله عنه:القدر سر الله، فلا تكشفه. والنزاع بين النَّاس في مسألة القدر مشهور، والذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تَعَالَى خالق أفعال العباد، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2] . وأن الله تَعَالَى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً، ولا يرضاه ديناً.
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فروا إِلَى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر، وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنَّار! فإنهم هربوا من شيء، فوقعوا فيما هو شر منه، فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه -على قولهم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.
روى اللالكائي من حديث بقية، عن الأوزاعي، حدثنا: العلاء بن الحجاج، عن مُحَمَّد بن عبيد المكي قال: قيل لابن عباس: إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقَالَ: دلوني عليه، وهو يومئذ أعمى، فقالوا له: ما تصنع به؟ فقَالَ: والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(كأني بنساء بني فهم يطفن بالخزرج تصطك إلياتهن مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر) .
قوله: وهذا أول شرك في الإسلام، إِلَى آخره، من كلام ابن عباس. وهذا يوافق قوله: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وكذب بالقدر، نقض تكذيبه توحيده.
وروى عمر بن الهيثم قَالَ: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فَقَالَ القدري للمجوسي: أسلم، فَقَالَ المجوسي: حتى يريد الله، فَقَالَ القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد، قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي!! وفي رواية أنه قَالَ: فأنا مع أقواهما!!
ووقف أعرابي عَلَى حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقَالَ: ياهَؤُلاءِ إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها علي، فَقَالَ عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت، فارددها عليه، فَقَالَ الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قَالَ: ولم؟ قَالَ: أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت أن يريد ردها فلا ترد!!
وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال، ثُمَّ عذبني، أيكون منصفاً؟ فَقَالَ له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء، ويمنعه ممن يشاء] اهـ.
الشرح:
يقول الإمام الطّّحاويّ [وأصل القدر سر الله تَعَالَى في خلقه، لم يطلع عَلَى ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل] ويشرح المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هذه العبارة فَيَقُولُ: [أصل القدر سر الله في خلقه وهو كونه أوجد، وأفنى، وأفقر، وأغنى، وأمات، وأحيى، وأضل، وهدى] أي: ليس القدر كله سراً، وإنما أصله هو الذي سر.
ومعنى ذلك: أن الذين ينهون عن الخوض في القدر مطلقاً؛ لأن البحث يبعث الشك والريب، هذا خطأ منهم؛ لأن الصحابة -رضوان الله تعالى- عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أدق الأمور في القدر، أي: في القدر الذي يستطيع العقل أن يجول وينظر فيه كما سألوه في حديث عَلِيّ وجابر رضي الله عنهما وغيرهما عندما قالوا له: يا رَسُول الله! هذه الأعمال التي نعملها أهي فيما نستقبل من أمرنا، أم فيما جفت به الأقلام، وجرت فيه المقادير؟ .
وحديثسراقة وغيره.
وكذلك حديثعمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لما أن سأل أبا الأسود الدؤلي عن مسألة القدر فقَالَ: أفلا يكون ذلك ظلماً، فقال: أبو الأسود ففزعت لذلك فزعاً شديداً، وقلت: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فَقَالَ له عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-:"إنما سألتك لأحزر عقلك" لأرى هل عندك عقل، هل أنت قوي الحجة؟.
إذاً: الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل من القدر، ولم تزل الأمة تتسائل، والعلماء تجيب بأمور من القدر، فليس صحيحاً أن مبحث القدر لا يخاض فيه مطلقاً ومثل ذلك ما يقوله بعض النَّاس في مسائل الصفات يقولون: لا نبحث في مسائل الصفات مطلقاً، وإذا سألته أو حاولت أن تستفصل منه قال لك: نؤمن ونسلم، ولا نبحث في شيء.
نعم لا بد أن نسلم وأن نؤمن هذا حق، لكن هذا المذهب إن لم يكن هو مذهب التفويض فإنه يفضي إليه، والمفوضة هم: الذين يؤمنون بأن هذه العبارات وهذا الكلام أنزله الله؛ لكن لا يبحثون عن معناه، ولا يعتقدونه، ولا يؤمنون به، وهذا المذهب من شر المذاهب، وهذه البدعة حاربها السلف رضوان الله تَعَالَى عليهم وقاوموها. ففي مبحث الصفات لا نبحث عن الكيفية، ولكن نبحث عن معنى الصفة وثبوتها، ودلالتها إذا كَانَ لها دلالة أو آثار، لكن لا نبحث عن الكيفية؛ لأننا نهينا عن ذلك.
وكذلك في مسألة القدر نبحث -مثلاً- في مراتب القدر، وهل للعبد مشيئة أم لا؟ وما حدود هذه المشيئة؟ ونبحث عن المعاصي، ونقول: هل المعاصي داخلة في المشيئة، في خلق الله أم غير مخلوقة لله سبحانه وتعالى وما أشبه ذلك من الموضوعات عَلَى ما فيها من دقة، وعلى ما فيها من أمور وعلى أنه ليس كل أحد يستطيع أن يجيب فيها، لكن هناك من يعلمها، وقد علمها السلف وعلموها أصحابهم وتلاميذهم، ومازال العلم يتناقل فيها إِلَى اليوم.
أما الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل والذي لا يخاض فيه فهو أصل القدر، وهو أن يقَالَ: لماذا خلق الله تَعَالَى فلاناً؟ ولماذا قدر هداية فلان ومعصية فلان وكفر فلان؟ كما إذا قيل: لماذا جعل الله تَعَالَى الإِنسَان مكلفاً، وجعل الملائكة خيراً محضاً، وجعل الشياطين شراً محضاً؟ وهذا السؤال يكون كفراً إذا كَانَ عَلَى جهة الاعتراض والرد.
أما لو سأل وهو جاهل، أو سأل وهو يظن أن في ذلك حكمة تخفى عليه ويعلمها غيره فمثل هذا يوجه إِلَى الصواب في هذه المسألة، لكن من سأل عَلَى سبيل الاعتراض - وهذا هو الحاصل - ليردوا ما ثبت من القدر. فيقولون: لماذا أضل الشيطان وهدى آدم؟ على سبيل القول بأن ذلك -عياذاً بالله- من الظلم ومن التحكم، ومما لا نعلم له حكمة، هَؤُلاءِ الذين يسألون هذا السؤال هم المعترضون عَلَى الله تبارك وتعالى، وهَؤُلاءِ كفار، كما ذكر المُصْنِّف رحمه الله.
يقول: [فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كَانَ من الكافرين] أي من سأل سؤال المعترض المحاجج المخاصم لربه، ولهذا فإنالسلف الصالح -رضوان الله تَعَالَى عليهم- سموا القدرية خصوم ربهم، ومن أنت حتى تعترض عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ! وما لك من الأمر حتى تحاجه، وتقول له: لم فعلت؟! ليس لأحد من الأمر شيء.
بل الأمر كله لله، ولكنه سبحانه وتعالى كتب عَلَى نفسه الرحمة، وقد سبقت رحمته غضَبه، وهو حرم الظلم عَلَى نفسه. وجعله بيننا محرما، وهو لا يعامل العباد إلا بأمرين: إما بالفضل، وإما بالعدل، ولا يظلم ربك أحداً؛ فليس هنالك حكم ولا أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى القدرية يخرج عن العدل بأي حال من الأحوال. فأصل القدر هذا الذي هو سر الله في خلقه، والذي لا يسأل عنه ولا يخاض فيه، ولا يتعمق فيه؛ وهو كونه تَعَالَى أوجد وأفنى.
لماذا أوجد؟ ولماذا أفنى؟ كل هذا لا يجوز أن يخاصم فيه بأية حال من الأحوال؛ لأن العقول تتقاصر عن معرفة ذلك، وهذا هو الذي أمرنا فيه أن نسلم لرَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فهو الذي خلق هذا الخلق، وهو الذي أعطى ومنع، وهو الذي أمات وأحيا، وهو الذي أضحك وأبكى، وهو الذي أغنى وأقنى، وهو الذي أضل وهدى لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
معنى مقولة علي " القدر سر الله
…
"
[قال علي رضي الله عنه: " القدر سر الله فلا نكشفه "] هذا القول لعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يتناقل في بعض كتب الأدب وكتب التراجم، وأنا إِلَى الآن لم أعثر عليه مسنداً متصلاً بسند صحيح، ولكن إن كَانَ المقصود بالعبارة هو أن أصل القدر سر فلا نسأل عنه ولا نبحث عنه، فهذا يتفق مع ما ذكرنا ولا إشكال في ذلك.
وأما إن كَانَ المراد من ذكر ذلك أن أمير المؤمنينعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يعرف ويعلم سر القدر، ولكنه -كما ذكر بعض الروافض- أنه سُئل عن القدر فقَالَ: ذلك سر الله، فلا نكشفه أي: أنا أعرفه ولأنه سر الله فأنا لا أكشفه، فهذا يتناقض مع ما قرره الشيخ رحمه الله حيث يقول:[لم يطلع عَلَى ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل] .
فكيف يكون عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يعرفه ولكنه لم يبينه ولم يكشفه؛ لأن عقول النَّاس لا تحتمله، كما أشار إِلَى ذلك أبو حامد الغزالي وغيره ويقولون: إن علياً -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- عنده ألف باب من العلم، وفي كل باب إِلَى ألف مدينة.. إِلَى آخر ذلك، وأنه لا يمنعه من بث ذلك العلم إلا أن النَّاس لا تحتمله عقولهم -سُبْحانَ اللَّه- وأي علم لا تحتمله عقول خير البشر، وأفضل النَّاس علماً، وأكملهم عقلاً هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفلا كَانَ علم واحداً منهم هذا العلم، ولهذا عندما قال قائلهم الأبيات التي يتمثل بها الغزالي كثيراً.
يارُب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
يقول: إن هناك جواهر من العلم لا يبوح بها، ولو أنه باح بها لقيل: إنه ممن يعبد الوثن. هذا الأبيات تنسب إِلَى بعض أهل البيت، وتمثل بها الغزالي وغيره، فلو أنه أباح به لقيل له: إنك تعبد الأوثان ولاستحلوا دمه، ولهذا يكتمه، ولهذا ألف كتابه المضنون به عَلَى غير أهله ويجعلون كلمة عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- هذه من هذا الباب.
والباطنية الفرقة الخبيثة المرتدة التي هي أكفر من اليهود والنَّصَارَى يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ لديه علم باطن، ويروون عن عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أنه قَالَ:" كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر كَانَ يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما " أي: لا يفهم شيئاً مما يقولان أي: في العلم الباطن، فإذا تكلما في العلم الظاهر فهم الكلام ونقله.
يعني أن هذا العلم الباطن يخفى حتى عَلَى عمر ثُمَّ يقولون: إنه أورثه الوصي أي: عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فعنده العلم الباطن وعنده الأسرار ومنها أنه مطلع عَلَى سر القدر. وكل هذا الكلام من الكفر الصريح؛ لأنه يناقض معلوماً من الدين بالضرورة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الدين كاملاً، فالنبي الذي أرسله الله رحمة للعالمين يبث وينشر العلم الظاهر (علم الرسوم) .
وأما الجواهر المكنونة والعلوم المضمونة التي هي أنفس وأغلى وأثمن يختص بها ابن عمه وزوج بنته -عياذاً بالله- حاشاه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كَانَ يسأله الصحابة وكل النَّاس فيبين لهم. وهو صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا أن ندعو إِلَى الله وأن نجاهد الكفار لنبلغ دعوة الله إِلَى آفاق الدنيا، يكتم هذا العلم ولا يطلع عليه حتى عُمَر؟ وإنما يختص به علياً أو غيره. وعَلِيّ أيضاً يكتمه ولا يعطيه إلا أبناءه ويبقى سراً يتناقلونه. ماهذه الأخلاق؟! هذه ليست بأخلاق الأَنْبِيَاء ولا بأخلاق الفضلاء.
والله عز وجل قد أمر نبيه أن يبلغ دينه فَقَالَ له:يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] ومع ذلك يقال: إنه لم يبلغ إلا العلم الظاهر، أما العلم الباطن فقد كتمه. ثُمَّ يأتي من يؤلف في العلم المضنون به عَلَى غير أهله، ما هو هذا العلم المضنون به؟ أي علم هو؟ أهو أفضل من القرآن، فالقرآن لم يُضَن به عَلَى أحد، بل يحفظه الأطفال في المساجد، وفي كل مكان، وإن كَانَ دونه، فكيف يظن بشيء أنه أعلى من القرآن؟ ولهذا يقول بعضهم: مما يضن به تفسير القرآن، وأن لكل حرف من حروف القُرْآن سر، ولهذا السر سر، ولهذا الباطن باطن، إِلَى سبعمائة باطن.
ونعود إِلَى القضية الأولى وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علمنا من هذا القُرْآن رسمه أي حروفه فقط. لكن الحقائق والجواهر والمعاني الباطنة العميقة اختص بها علياً أو غيره.
إذاً هذا النبي لم يبلغ، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم، فمثل هذه العبارة ينبغي أن ينتبه إِلَى ما فيها من الاحتمال، حيث قد يفهمها بعض النَّاس بل قد فهموها عَلَى غير حقيقتها.
فأما إن كَانَ الجواب كما هو في بعض النسخ أنه قَالَ: سر الله فلا تكشفه. أي: لا تبحث عنه. فلا أنا أعلم ولا أنت تعلم ولا أحد يعلم، فهذا واضح، وسر الله عز وجل لا يعلمه أحد، فهذا هو المعنى أو الاحتمال الذي يظن بعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- إن صحت عنه الرواية.
النزاع بين أهل السنة والقدرية
قول المُصْنِّف -رحمة الله-: [النزاع بين النَّاس في مسألة القدر مشهور] قد ذكرنا فيما سبق أصل هذا النزاع، وكيف نشأ، أما الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم فلم يكن فيهم قدري ولله الحمد.
بل روى اللالكائي عن طاووس قَالَ: أدركت أكثر من ثلاثمائة نفس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يؤمن بأن الله خالق الشر والخير.وذكر اللالكائي روايات عنهم. فالصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- كانوا يؤمنون بالقدر كما نص عَلَى ذلك حديث جبريل وغيره، وكما هو صريح القُرْآن كما في هذه الآيات، فلم يكن فيهم مخالف.
لكن وقع النزاع والاختلاف -كما ذكرنا- عندما ظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وكل منهما تلقى ذلك عن النَّصَارَىكما أشرنا إِلَى أنمعبداً كَانَ في البصرة، وهي قريبة من مذاهب البلاتشتية، ومذاهب وفلسفات الهند؛ فهنالك كانت لديهم هذه الأمور والفلسفات فوقعت في قلب معبد أو سمعها منهم، وأما غيلان فإنه كَانَ في دمشق وكان فيها النَّصَارَىوقد أعطوا العهد وبقوا في بلاد الشام من النَّصَارَى، ويقَالَ: إن سُوسَن النصراني أويوحنا هو الذي علم غيلان الدمشقي شبهة القدر.
المهم أن هذه الشبهة حصلت في عهد صغار الصحابة كابن عمر وابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- ومنذ ذلك الحين والخلاف مستمر، وقد ذكرنا كيف تطور الأمر من مسألة الكلام في معاصي العباد إِلَى الجبر المحض وآل إِلَى وحدة الوجود عند الصوفية، وكذلك آل الآمر بالذين ينكرون القدر إِلَى أن وجد فيهم من ينكر علم الله سبحانه وتعالى الذي لا ينكره ولا يجهله أحد.
وقد ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هنا العبارة الأخيرة التي هي أهم مادار فيه البحث وهي: [أن الله سبحانه وتعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه] كما هو مذهبأهل السنة ويريد هنا بمعنى يشاؤه، وليست بمعنى يشرعه أو يطلبه.
فإن الإرادة تختلف عن المشيئة؛ لأن الإرادة تكون شرعية وتكون قدرية كونية؛ فإذا كانت الإرادة قدرية كونية؛ فهي بمعنى المشيئة، لكن إذا كانت الإرادة شرعية فهي بمعنى شرع وطلب. فيجب أن نفرق بين معنيي الإرادة.
والمصنف هنا لما عطف عليها المشيئة قصده أن معنى الإرادة هي الكونية أي: أن الله تَعَالَى يريد الكفر كوناً ويشاؤه، ولذلك قَالَ:[ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه دينا] فكل ما يكون في الكون كله من خير أو شر، من محبوب أو مبغوض، فهو كله بمشيئة الله وإرادته، فأما ماكان من مشيئة الله فلا بد أن يتحقق، فما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن؛ لكن ما أمر الله به وشرعه فقد يكون وقد لا يكون؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل حكمته في أن الابتلاء يكون في جانب الشرع هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30] .
فالابتلاء في مسألة الأمر الشرعي الطلبي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى ورضيه، وهذا يتحقق من قوم ولا يتحقق من آخرين؛ لكن كل ما يفعله هَؤُلاءِ النَّاس مما وافق شرع الله أو خالفه؛ فهو موافق للإرادة الكونية وللمشيئة العامة الشاملة. هذا هو موجز كلام أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة.
وقد ذكرنا أن القدرية أول ما نشأت عَلَى يد معبد وغيلان ولم يكونا معتزليين، لكن لما جَاءَ زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد ورث القدر عن معبد ونشره، وأصبح إذا قيل: القدرية تطلق على المعتزلة.
وقد دخلت الروافض في مذهب الاعتزال في الصفات والقدر، واعتنقوه ابتداءً من القرن الرابع فما بعده، وأخذت الرافضة دين المعتزلة في جوانب الاعتقاد، وبقيت لها المسألة التي اختصت بها وهي الإمامة، وما أشبه ذلك، فأصبحت عقيدة المعتزلة الآن في القدر موجودة عند الروافض. فلما قال المصنف:"القدرية والمعتزلة " كأنه يشير إِلَى الترتيب التأريخي؛ لأن القدرية ظهرت أول الأمر في زمن الصحابة، ثُمَّ ظهرت المعتزلة وورثوا ذلك، ثُمَّ بعد ذلك ورث المعتزلة الرافضة.
شبهة القدرية وردها.
قول المُصْنِّف رحمه الله: [وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر] . أي: أن المشيئتين تعارضتا، ويلزمهم أن مشيئة العبد غلبت مشيئة الله -والعياذ بالله- وَقَالُوا: لأن الله تَعَالَى لم يشأ الكفر، لكن العبد فعل ما لم يشأه ربه، فوقع في الكفر هذا موجز الشبهة. [فروا إِلَى هذا؛ لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر، وعذبه عليه] ، هذا أصل الشبهة، وأصل السؤال أنه قيل: آلله شاء الكفر من الكفار، وشاء المعصية من العاصي؟ قيل لهم: نعم قالوا: كيف يشاؤه ثُمَّ يعذبهم عليه، أليس هذا ظلماً؟! وهذا هو السؤال الذي سأله عمران بن حصين لأبي الأسود الدؤلي؛ لكن هَؤُلاءِ القوم لم يأخذوا الجواب من الصحابة، وإنما أخذوه -كما أسلفنا- من فلاسفة اليهود والنَّصَارَىوالصابئين فَقَالُوا: إذاً لا مخرج من هذا إلا أن نقول: أن الله يتنزه عن الظلم، ولهذا نقول: إن الله لم يشأ الكفر ولم يشأ المعاصي، وإنما وقعت بمحض مشيئة العبد. ولما قال غيلان ذلك في زمن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- جَاءَ به. وسأله عن العلم، قال: يا غيلان: أتؤمن أن الله عَلِمَ وكَتَب أفعال العباد خيرها وشرها؟ قَالَ: نعم، فقَالَ: أنت محجوج ولو جحدت لكفرت.
ولهذا أفضى القول بغلاتهم إِلَى إنكار العلم، فَقَالُوا: إن الله لم يعلم ذلك ولم يكتبه، وأن الأمر أُنف. والذين أنكروا العلم كفار، أفتى بذلك الإمام مالك والشَّافِعِيّ وأَحْمَد وغيرهم تبعاً لفتوى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؛ لأن صريح القُرْآن دال عَلَى كفرهم، ومعلوم من الدين بالضرورة عند الْمُسْلِمِينَ عامتهم وخاصتهم أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كَانَ وما سيكون، فمن أنكر علم الله بمعاصي العباد وبكفرهم، وأنه لا يعلم بها إلا بعد أن يفعلوها فهو كافر.
إذاً: هذا القول هو قول غلاة القدرية، أما غير الغلاة: فأنكروا المرتبة الأخيرة وهي: أن الله تَعَالَى خلق أفعال العباد من الشر، وَقَالُوا: كيف يكون الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الكفر أو الفجور أو الخمر أو الزنى في العباد؟ فظنوا أنهم بذلك ينزهون الله تَعَالَى عن الظلم وعن الشر، ولهذا يقول المُصْنِّف رحمه الله:[فروا إِلَى هذا؛ لئلا يقولوا شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه؛ ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه] هربوا من نسبة مشيئة الشر إِلَى الله، ووقعوا في القول بأن مشيئة العبد غلبت مشيئة الرب، والغلاة وقعوا في شر من ذلك وهو أنهم أرادوا أن ينزهوا الله عن الظلم، وينزهوا الله عن نسبة الشر إليه ووقعوا في أقبح من ذلك وهو القول بأنه يجهل ذلك -تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيرا- هذا أضل وأخبث مما فروا منه، وَقَالُوا: إن الله لم يشأ من الكافر إلا الإيمان، ولكن الكافر خرج عن مشيئة الله وفعل الكفر.
إذاً هم بهذه الحالة يجعلون المشيئة هي الرضى والشرع. نعم إن الله تَعَالَى لم يرض ولن يرض من الكافر ولا من أحد من الخلق إلا الإيمان ولم يشرع الله للخلق إلا الإيمان، لكن رضاه وشرعه شيء، ومشيئته شيء آخر. وهم لم يفرقوا بينهما فيقولون:[فإن الله قد شاء الإيمان منه] عَلَى قولهم [والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه] أي: ليس لديهم دليل من النصوص وإنما هو قول مخالف للدليل، وهذه الشبهة وقعت عندهم بقصد أنهم يعظمون الله ويجلونه، ولغرض آخر وهو: أنهم قالوا: لا نفتح المجال لأهل المعاصي أن يحتجوا ويعتذروا بالقدر، وهذا يدل عَلَى ما أشرنا إليه -سابقاً- ونعيد الإشارة إليه وهو أننا لا نحكم عَلَى الأمور بمجرد مقاصد أصحابها.
لا نقول فلان قصده طيب إذاً كلامه حق؛ بل يقَالَ: إن فلاناً قصده طيب ونيته حسنة ولكن كلامه باطل، فلا يعني صدق النية أحقية القول، فإن عمرو بن عبيد مثلاً كَانَ من العباد الزهاد ومعبد كَانَ فيه عبادة وعلم ولكن لما قالوا: ننزه الله ولا ننسب إليه الشر ولا الظلم ولا نفتح الباب للعصاة والمجرمين، فيذنبون ويجرمون ويقولون هذا بقدر الله، وإن كَانَ قولهم لحسن النية فقد يكون الإِنسَان عَلَى نية حسنة ولكن يكون فعله مردوداً، ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) لم يجعل عليه شرطاً أن تكون نيته سيئة أوقصده بهذا أن يهدم الدين.
الأدلة على بطلان مذهب القدرية
ذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- ما يدل عَلَى قِدم الخلاف في القدر وعلى موقف الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- من القدرية، وهو ما رواه اللالكائي بالسند المذكور أنه قيل لابن عباس: إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر فقَالَ: دلوني عليه وهو يومئذ قد عمي فقالوا له: ما تصنع به فقَالَ: "والذي نفسي بيده لأن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعها ".
وهذا الرجل هومعبد الجهني لما جَاءَ إِلَى مكة جاء بعض التابعين وقالوا لابن عباس: إن هاهنا رجلاً ويشيرون إلىمعبد الجهني يكذب بالقدر، وفي رواية أخرى أوردها اللالكائي أشار إِلَى أن معبد قَالَ: إنما يُكذَبُ عليَّ، فلم يستطع أن يقر. يقول ابن عباس: ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها.
انظروا إِلَى شدة الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- في معاملة أهل البدع ومقاومتهم، ولو كَانَ أهل السنة قلة قليلة وأهل البدعة هم الغالبون، فحينئذ يكون الحال أن أهل السنة يكفوا أيديهم ويدعو أهل البدعة قليلاً قليلاً؛ لكن إذا كَانَ النَّاس في سنة وخير، ثُمَّ يأتي رجل مبتدع ليفسد ماهم عليه من الحق؛ فإنه يقاوم أشد المقاومة. وقوله:[فإني سمعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كأني بنساء بني فهم يطفن بالخزرج تصطك إلياتهن مشركات) ] . هذا الحديث -كما ذكرالأرنؤوط - أنه ضعيف من هذه الطريق؛ لأن فيه العلاء بن الحجاج، ولا يهمنا إلا كلام ابن عباس رضي الله عنه وموقفه من ذلك الرجل القدري.
وقد ذكراللالكائي أيضاً هذه القصة في موضع آخر، وكذاابن بطة والآجري ذكروها بطرق أخرى، فمجموع الطرق تؤيد أن الأمر قد وقع، وأن ابن عباس رضي الله عنهما قد توعد ذلك الرجل الذي جَاءَ في إحدى روايات اللالكائي أنه معبد.
أما مسألة عودة الشرك وهو المرفوع إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إليات نساء دوس ستضطرب عَلَى ذي الخلصة) فهذا معلوم أنه صحيح ثابت مرفوع إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما توعد معبداً بما تقدم، ثُمَّ استدل بأن الشرك سيقع في هذه الأمة عَلَى أن هذا من الشرك، ومادام أن النَّاس سيعودون كما نص النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تقوم الساعة حتى تلحق فئام من أمتي بالْمُشْرِكِينَ، وحتى تضطرب إليات نساء دوس عَلَى ذي الخلصة) وهو صنم خثعم في الجاهلية. أي: مادام أن الشرك سيقع وهذه الأمة هي أمة الإيمان، وأمة التوحيد والسنة، يعقب ابن عباس رضي الله عنه فَيَقُولُ: هذا أول شرك في الإسلام.
إذاً قد ابتُدئ، ولهذا جَاءَ في رواية أخرى:(أوقد فعلوها) . ولهذا قلنا: إن السلف سموا القدرية مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس أثبتوا إلهين خالقين إله الخير وإله الشر، وهَؤُلاءِ أيضاً أثبتوا أن العبد يخلق الشر، أن الله تَعَالَى يخلق الخير.
إذاً: هذا أول شرك وقع في هذه الأمة. [قَالَ: والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يُقدر الخير كما أخرجوه من أن يُقدر الشر] ؛ لأن باب الشر إذا فتح لا ينغلق، ولهذا قال بعض السلف:"إياكم ومحدثات الأمور فإنها تبدو صغارا ثُمَّ تؤول كبارا". فأول ما بدأوا ينزهون الله -بزعمهم- عن الشر فلا يثبتون أنه خالق الشر، ثُمَّ انتهى بهم الحال إِلَى أن وجد من ينكر العلم. إذاً من أنكر علم الله سبحانه وتعالى أسوأ ممن أنكر نسبة الشر إِلَى الله سبحانه وتعالى.
يقول المصنف-رحمه الله: [قوله وهذا أول شرك في الإسلام..إلى آخره من كلام ابن عباس، وهذا يوافق قوله: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده] معنى نظامه أي: الذي به ينتظم، فلا ينتظم التوحيد إلا بالقدر، لأن من أنكر القدر فقد أثبت خالقاً غير الله-سبحانه وتعالى وهذا الذي وقعت فيه القدرية المجوسية.
هذه الروايات موقوفة عَلَى ابن عباس رضي الله عنه وليست مرفوعة إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العلماء كابن بطة فيالإبانة والآجري في الشريعة واللالكائي وغيره ذكروها، يقول:[وروى عمرو بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة -والمصنف يروي هذه الواقعة ليبين أنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه - وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فَقَالَ القدري للمجوسي: أسلم] فالقدري داعية، ولا نستغرب هذا فإنه يوجد دعاة وهم عَلَى بدعة وضلالة، وقد يبذلون جهدهم في الدعوة إِلَى الله، ويكون قصدهم الدعوة إِلَى الحق لكنهم عَلَى باطل. فهذا القدري حريص عَلَى أن يسلم المجوسي، لكن انظروا إِلَى سوء بدعته وبطلانها كيف حالت بين هذا الرجل وبين الإسلام. [قال المجوسي: حتى يريد الله] ألا تذكرنا عبارة هذا المجوسي بمن نقول له: صلِّ فَيَقُولُ: إذا شاء الله؛ فالشيطان الذي يلقن المجوس، يلقن تارك الصلاة أيضاً، فعندما ذكر المجوسي لفظة الإرادة جاءت البدعة عند القدري [فقَالَ: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد] . هذه هي العقيدة التي يريد القدري أن يعلمها إياه، [فأجاب المجوسي وقَالَ: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان فأنا مع أقواهما!] عياذاً بالله.
فنتبين بهذا بطلان مذهب القدرية ولو كَانَ المناظر سنياً، لأجابه ببساطة: إن الله سبحانه وتعالى شاء منك المجوسية، ولكنه أمرك بالإسلام. ولا تعارض بين الأمر الكوني والأمر القدري الذي هو المشيئة، لكن الغالب في هذه المناظرة هو المجوسي؛ لأنه هو الذي قطع حجة القدري. ومما يدل أيضاً عَلَى بطلان هذه العقيدة الضالة قصة الأعرابي مع شيخ الاعتزال عمرو بن عبيد.
واللالكائي رحمه الله الذي ذكر هذه الوقائع، أفرد لعمرو بن عبيد ورؤساء المعتزلة باباً بيَّن فيه ما نقله العلماء من سوء عقيدتهم، وقد كَانَ السلف يحذرون من عمرو بن عبيد، ويحذرون من الجلوس معه، عَلَى ما كَانَ فيه من العبادة والزهد والتقشف، حتى كَانَ ضامراً من شدة العبادة، وكان لا يأكل إلا أقل القليل من متاع الدنيا، فجاء الأعرابي عَلَى حلقة فيها عمرو بن عبيد وخُدع الأعرابي بمظهرعمرو، وبما يُقال عنه من العبادة، ورأى عَلَى ظاهره علامات التعبد الطويل.
فَقَالَ له: يا هَؤُلاءِ: إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ، فتقدم عمرو ليدعو الله عَلَى أساس أنه أصلح الموجودين وأتقاهم، الذي لو دعا لأُجيب من ولايته وصلاحه فقَالَ: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه. نزه الله عن الشر وإرادة المعاصي، ولكن الأعراب فيهم الذكاء السريع والبديهة الحاضرة فبدون أن يتكلف، وبدون أن يفكر قَالَ: لا حاجة لي في دعائك، قَالَ: لماذا؟ قَالَ: أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت، أن يريد أن يردها فلا ترد، وذهب الأعرابي وتركه، فلو كَانَ لدى عمرو بن عبيد إيمان حق وصدق ويريد الحق لكفاه كلام هذا الأعرابي.
وثعلب اللغوي والنحوي المشهور، سئل هل في الأعراب قدري؟ قال معاذ الله، ما في الأعراب قدري، بل هم في جاهليتهم وإسلامهم تنضح أشعارهم بإثبات القدر، والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أورد هذا ليشير وليثبت أن هَؤُلاءِ فروا من شر توهموه فوقعوا في شر محقق، وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال، ثُمَّ عذبني أيكون منصفا؟! يسأله عن الله، وعبارته توحي أن هناك اعتراضاً عَلَى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال منعني وأوردني!.
فقالأبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه ممن يشاء؛ ولكن نقف مع عبارة السائل هذا " أرأيت إن منعني الهدى " هل الله سبحانه وتعالى منع النَّاس الهدى؟ ليس بهذا الإطلاق، فإن الله سبحانه وتعالى أوضح الهدى وبينه للناس، وأنزل عليهم كتاباً يتلى ورسولاً يدعوهم إِلَى الله سبحانه وتعالى فقد بين الهدى ولم يمنعه، كما قال:إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل) أي: بينا له ووضحنا لهإِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] أي: يختار هو ما يشاءوَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان:30] .
وقد أجابه أبو عصام: بجواب بسيط مقنع سهل جداً، ومفهومه: إن منعك شيء هو له فهو حقه، وإن منعك شيئاً هو لك فقد ظلمك، والحال أن كل ما في السموات والأرض هو ملك لله سبحانه وتعالى لا يشركه فيه أحد من العالمين؛ فالله سبحانه وتعالى لم يمنع أحداً من النَّاس حقه حتى يقال: لِمَ لم يعطه، أو أنه قد ظلمه، فليس لأحد عَلَى الله سبحانه وتعالى حق بإطلاق.
قال المصنف:
[وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإِنسَان:30] وقال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] .
ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة، والرضا فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثُمَّ اختلفوا:
فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه، وقدره فيكون محبوباً مرضياً.
وقالت القدرية النفاه: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضيةله، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] اهـ.
الشرح:
شرع المُصنِّفُ رحمه الله في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة بعد أن ذكر مذهب القدرية وأتى بالوقائع الدالة عَلَى تهافت مذهبهم وتناقضهم حينما أخرجوا المعاصي والكفر وما يكرهه الله تبارك وتعالى عن إرادة الله ومشيئته، وأن في ذلك تنزيهاً له -فيما زعموا- عن نسبة الشر إليه، أو أنه يريد المعاصي ثُمَّ يعاقب عليها فيكون ذلك ظلماً بزعمهم.
والأدلة من الكتاب والسنة تدل عَلَى ما أشار إليه من مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهو كما قَالَ: والذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله خلق العباد وخلق أفعالهم.
الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات المشيئة
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [أما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ َ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30] هاتان الآيتان الأولى منهما في سورة السجدة والأخرى في سورة الإنسان، وقد كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في فجر يوم الجمعة. ولقد قسم الله تبارك وتعالى الأمم عَلَى قسمين:
القسم الأول: أمم لا كتاب لها وهم المجوس والهندوس والبوذيون وكثير من أمم الشرك، فهذه الأمم لم تعرف يوم الجمعة العيد الأسبوعي، بل لا تعرف الأسابيع لأنها ليس لها أسبوع يبدأ ثُمَّ ينتهي، إنما تعلمت ذلك من الأمم الكتابية، فالمُشْرِكُونَ المنقطعون عن الاتصال بالأمم الكتابية -اليهود والنَّصَارَى والمسلمون- لا يعرفون ذلك.
والقسم الثاني: الأمم الكتابية التي لديها أسبوع ضلت في معرفة هذا اليوم، فوقع اليهود على يوم السبت، والنَّصَارَى عَلَى يوم الأحد، وفضل الله تبارك وتعالى هذه الأمة بأن وقعت عَلَى اليوم الذي هو حقاً أفضل أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة. وهو مقدم عَلَى السبت والأحد فأصبحت الأمم تالية لهذه الأمة المباركة المصطفاة.
وقفات مع سورتي السجدة والإنسان
في هذا اليوم -يوم الجمعة- يُسنُّ أن يقرأ الإمام في صلاة الفجر سورتي السجدة والإِنسَان، ولو تأملنا ما في هاتين السورتين لوجدنا أنهما تشتملان عَلَى بداية خلق الكون، وبداية خلق الإِنسَان، وتشتملان عَلَى أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، وتشتملان عَلَى القدر، وعَلَى إثبات مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذه من أهم أصول العقيدة الإسلامية.
فكأن العبد المسلم في كل أسبوع يأخذ من كلام ربه عز وجل هذه الدروس والعبر في عقيدته، فيعلم أول ما يسمع سورة السجدة أن هذا القُرْآن حق غير مفترى كما يزعم الزاعمون، ويدعون ويتبجحون، وأن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وهو خالق كل شيء، وأنه سبحانه وتعالى استوى عَلَى العرش، وخلق كل شيء وأحسن خلقه، ثُمَّ يأتي بعد ذلك خلق الإِنسَان، ثُمَّ نهايته وإثبات البعث.
والحديث عن المشيئة في هذه الآية: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] أما في سورة الإِنسَان فيبتدأ يقول: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإِنسَان:1] وهنالك في السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7] ففترة كونه طيناً هي التي لم يكن فيها شيئاً مذكورا، حتى سواه ونفخ فيه من روحه بعد أربعين سنة.
ويقول في سورة الإِنسَان: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] ويقول في سورة السجدة: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا فالله سبحانه وتعالى خلق هذا الإِنسَان وجعله مكلفاً مختاراً، فإن شاء اختار طريق الحق وإن شاء اختار طريق الضلال.
ولكن اقتضت حكمة الله تَعَالَى أن يكون في النَّاس أهل حق واستقامة وهدى، وأهل باطل وغواية وضلالة كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119] وهذا أمر فوق السؤال، فلا يقال: لماذا؟ فكلمة الله تمت بذلك، وقضى به وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا أي: ولو شئنا لوفقناها وآمنت واستقامت عَلَى الحق، أما قوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ.
فالمقصود هنا: هداية الدلالة والإرشاد، أي: دللناه وأرشدناه وبينا له معالم الطريق، وعليه أن يختار بعد ذلك إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً وهذا راجع إِلَى إرادته، أما الذين أعطاهم الله تبارك وتعالى هداية التوفيق فهم المؤمنون الذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا أي: الأمر كله راجع إِلَى مشيئتنا، فلو شئنا لكان النَّاس أمة واحدة عَلَى الهدى والحق، ولكن حق القول مني، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] .
فهذه الكلمات هي الكلمات الكونية، وليست الكلمات الشرعية، فالقرآن كلام الله عزوجل هو كلماته الدينية الشرعية، أما كلماته الكونية فهي أوامره التي خلق بها الأشياء.
ويقول الله تَعَالَى في سورة يونس: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] فمن كفر فإنما كفر بمشيئة الله، ومن آمن فإنما آمن بمشيئة الله هذا وجه الدلالة، ولا إشكال فيه، وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وموضع الآية هنا واضح إذا فهمنا مدلول الآية كلها.
نجد أن كثيراً من المهزومين أو المخدوعين يقولون: إن هذا الدين دين دعوة فقط لا جهاد ولا قتال فيه، وإنما يدعو النَّاس إِلَى أن يؤمنوا به بطواعيتهم وباختيارهم، ويستدلون بقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ويقول: قال تَعَالَى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:256] .
إذاً: ليس في الإسلام قتال من أجل الدين ولا جهاد، فإن قلنا: فهذه الفتوحات الإسلامية، والغزوات النبوية قرابة ثلاثين غزوة وقرابة المائة سرية، والصحابة من بعده وصلوا إِلَى نهاية العالم من جهة الغرب إِلَى المحيط الأطلسي، ولم يكن معروفاً في ذلك الوقت أن وراء هذا المحيط عالماً آخر.
وتوغلوا من جهة الشرق حتى وقَّع لهم ملك الصين على دفع الجزية، ولم يبق شيء من العالم إلا أوروبا وهي قبائل همجية في الشمال وأجزاء قليلة في الجنوب، كيف يكون هذا المجد وهذا الكسب؟ قالوا: هذه حروب دفاعية فقط، فقريش أرادت أن تعتدي عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقاومها وحاربها ويستدلون بقوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190] .
فيأخذون هذه الآية مع الآيتين السابقتين ويشكلون منها قواعد وأحكام يقررونها، وهي أن هذا الدين لا جهاد فيه فيُقَالُ لهم: إن معنى قوله تعالى: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أنه قد كتب أزلاً وقدراً أن أناساً سيموتون عَلَى الكفر، وستمتلئ منهم جهنم، أما قوله: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فمعناها: أنهم لن يؤمنوا مهما بذلت وحاولت، وقد اختاروا الكفر بإرادتهم واختيارهم، وهذا مطابق لما قد كتب عليهم كوناً وقدراً.
وليس المقصود من هذا أنك لا تجاهدهم، بل معناها: حتى وإن جاهدتهم فلن يؤمنوا، سواء دعوتهم سراً أو جهراً بالحكمة أو السيف؛ لأنك لا تستطيع أن تكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين، فقد اختاروا ذلك اختياراً، ولن يرجعوا عن ذلك، ولا يمكن واقعاً أن يتحول النَّاس إِلَى أمة واحدة، فاقتضت حكمة الله تعالى وتمت بذلك كلمته أن يكون النَّاس أمة خير وأمة ضلال، وقد جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين لحكمة.
إذاً: لا تستغرب أيها النبي لأن لك أعداءً، وأنت تحرص عَلَى هدايتهم ومع ذلك لن يهتدي أحد أبداً.
ولاعلاقة لهم في كونك تجاهدهم أو لا تجاهدهم، فأمر الآية يتحدث عن أوامر كونية أزلية، وليس عن أوامر أو أحكام شرعية تعبدية؛ فحتى مع الجهاد -وهو مشروع بلا ريب لكي يدخلوا في الدين- لن يؤمن إلا من كتب الله تبارك وتعالى له الإيمان، لكن يجب عليك أن تقاتل كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73] أي: جاهدهم، لكن ليس في حولك ولا في قوتك أن تدخل الإيمان إِلَى قلوبهم، ولم يكلفك الله به، ولكن كلفك أن تدعوهم وأن تجاهدهم، إذاً لا تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك.
الفرق الضالة التي أنكرت الجهاد
الذين أنكروا الجهاد كثير منهم الروافض ولهذا سموا الخشبية لأنهم صنعوا لهم سيوفاً من الخشب، وَقَالُوا: لا جهاد إلا مع الإمام، وما دام أن الإمام لم يتول الحكم وكان الأئمة غائبين أو مجهولين، فالسيوف تكون من الخشب، فلما أن أختفى -بزعمهم- الإمام الثاني عشر ودخل السرداب، قالوا: لا جهاد، ولا جمعة، ولا أي حكم من الأحكام التي تتعلق بالإمامة، ولو كانت عَلَى مذهبهم وفقههم، إلاّ إذا خرج الإمام من السرداب.
ولهذا خالف منهم من خالف، وأصبح الذي يخالف منهم يعد مجدداً أو نائباً عن الإمام، لأنه غير هذا الحكم، الذي لا يقوم به إلا الإمام، ومع ذلك اتبعوه بزعم النيابة عن الإمام، وكذلك لما انتشر الاستعمار في دول العالم الإسلامي، أراد أن يقضي عَلَى فكرة الجهاد قضاءً مبرماً، وكذلك الأفكار الوافدة تأثر بها عدد كبير من الْمُسْلِمِينَ.
فالاستعمار أوجد القاديانية التي من أهم أركان دينها إنكار الجهاد، وكَتَبَ القادياني الذي ادَّعى النبوة يقول: إنه يجب إعطاء الولاء للحكومة البريطانية، لأنها حكومة هيأها الله واختارها وأورثها الأرض، فلا يجوز لأي مسلم أن يخرج عليها أو أن يجاهدها، ومن فعل ذلك فقد خالف أحكام الدين وأوامر الله، وكذلك البهائية وغيرها من الفرق التي أنكرت الجهاد.
الغزو الفكري ودوره في القضاء على الجهاد
أما بالنسبة للغزو الوافد الذي اصطنعه الاستعمار وتأثر به كثير من الْمُسْلِمِينَ، فقد خُيَّلَ إليهم أن الجهاد خاصٌ بعصور الهمجية والانحطاط.
يقولون: إن الإِنسَانية لما كانت في عصور الهمجية والانحطاط -في المرحلة التي أشار إليها المحللون والمفكرون الغربيون ومنهم كونت صاحب المدرسة الوضعية وغيرها- مرت بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الخرافة، والسحر، والكهانة.
المرحلة الثانية: مرحلة الدين.
والمرحلة الثالثة: مرحلة العلم، ومرحلة الدولة الحديثة التي ظهرت ابتداءً من الثورة الفرنسية التي أعلنت مساواة النَّاس في الحقوق والواجبات، ولذلك فليس هناك من مجال لأن يقتل الإِنسَان أخاه الإِنسَان وهكذا يصدرون هذا الكلام لنا.
ولم يشهد العالم حروباً دامية مدمرة مثل الحروب التي دارت في أوروبا منذ الثورة الفرنسية إِلَى الآن، مثل حرب السبعين وهي الحرب المشهورة بين الإنجليز والفرنسيين، والحروب بين ألمانيا وفرنسا، والحروب بين ألمانيا وانجلترا "الحربان العالميتان" حروب طاحنة، ويقولون: إن ميثاق الثورة الفرنسية -الذي أصبح بعد ذلك أكثر تطوراً بميثاق حقوق الإِنسَان- قد تكفل بأن يعيش العالم الإِنسَاني أسرة واحدة -يسمونها الأسرة الدولية- وكلهم إخوة وأحبة، وعلى ضوء مواثيق الأمم المتحدة لا يكون هناك قتال بين الناس، وعقدوا اتفاقيات تسمى اتفاقيات تحريم الحرب، منها اتفاقياتباريس، ثُمَّ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك اتفاقيات تحريم الرق، ويقولون: إن الإِنسَان أصبح إنساناً حراً متحضراً متطوراً.
وقد تسامى وترفع عن عصور الانحطاط والجاهلية، التي كَانَ الإِنسَان يهاجم فيها أخاه الإِنسَان ويغزوه، وهذا الكلام يصدر إِلَى العالم الإسلامي ويشاع ويكتب، بل حتى كتب عن الجهاد في الإسلام بما يؤيد هذه الفكرة الاستعمارية والخديعة الماكرة، في حين أن الغرب لم يتخلَّ قط عن الأخذ بأسباب القوة، فالذي يُدرس في أوروبا يقال علناً في كل مكان وهو:"إن الحياة صراع والبقاء للأقوى"، هذا قانون علمي يدرَّس كنظرية علمية في الأحياء وفي الجيلوجيا وفي غير ذلك.
وكذلك في واقع الحياة، ولهذا لا مجال لرحمة ضعيف هزم، في حين أنهم يصدرون إلينا المعاني الإِنسَانية التي تتضمن ترك هذا الواجب العظيم من الواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى عَلَى هذه الأمة، فتصبح الأمة الإسلامية ذليلة تابعة، وقد أسهمت الصوفية والمرجئة وغيرهم في إلغاء الجهاد، وفي كتابأهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية للدكتور علي العلياني تفصيل لهذه الأمور.
وأما الحديث عن القدر فإن الله سبحانه وتعالى قد قدَّر وقضى كوناً: أن النَّاس عَلَى طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وقال تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] فهنا يثبت الله سبحانه وتعالى المشيئة للعبد، فلا شك أن العبد ما دام أنه حي فهو بطبيعته فاعل متحرك، وهو عامل لأنه حارث وهمام.
فبطبيعته يعمل ويتحرك، وهذه الحركة لا تكون إلا عن اختيار ومشيئة، إذاً فمشيئة العبد لا شك فيها، وأنها ليست موضع نقاش ولا جدال، أما قول: الجبرية فهو أمر خارج عن العقل والفطرة والشرع، وليس لهم شبهة في الحقيقة.
أما نفي القدر فله شبهة التبست ووقع فيها بعض النَّاس، ولقد رد القُرْآن والأحاديث الصحيحة وأهل العلم عَلَى هذه الشبهة، فالله يقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فلستم مستقلين بأعمالكم ولا بإرادتكم، وإنما هي وفق مشيئة الله سبحانه وتعالى، فما شاء كَانَ وما لم يشأ لم يكن، كما قال الشاعر:-
فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
مشيئة العبد تابعة لمشيئة الخالق
المشيئة المطلقة هي لله عز وجل والعبد له مشيئة، لكن قد يشاء العبد أمراً فلا يكون إلا ما شاءه الله سبحانه وتعالى، ولهذا فالقدرية الذين يجعلون العبد مستقلاً بمشيئته، وقد وقع لهم عدد من النماذج، وقد روى اللالكائي رحمه الله من ذلك قصتين منها:
أن رجلاً من القدرية كان جالساً مع بعضأهل السنة وكان في يده بيضة فقَالَ: يقولون: إن الإِنسَان لا يفعل ما يشاء فها أنا أشاء أن آكل هذه البيضة من الذي يمنعني فوضعها في فمه، وكان موجوداً عنده بعض منأهل السنة فلما وضعها في فمه طرحوه عَلَى الأرض واستخرجوها من فمه وألقوها، وقالوا له: أين مشيئتك؟
فالإِنسَان قد يشاء الأمر ويهيئ كل أسبابه وفي آخر لحظة تذهب تلك المشيئة وتلك الأسباب؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشأ؛ ويقول تبارك وتعالى كما في سورة الإِنسَان: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإِنسَان:30] وهذه مثل التي قبلها، فبعد أن بين في أول السورة: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] لئلا يقَالَ: أنا اخترت طريق الخير بنفسي، مستقلاً عن إرادة ربي ومشيئته، أو اخترت طريق الشر، مستقلاً عن مشيئة الله وإرادته، لذا قال في آخر السورة وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ففي أول الآية إثبات لمسئولية الإِنسَان وحريته في الاختيار، وآخرها فيه إثبات لمشيئة الله الشاملة العامة المطلقة التي لا يحدها ولا يقيدها شيء وقال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39] هنا أيضاً هذه الآية والتي بعدها: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] .
هاتان الآيتان تدلان عَلَى أن الهداية والإضلال من الله سبحانه وتعالى وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء عز وجل لكننا نجد في سورة النحل قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] وقوله: فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30] .
فالضلالة منسوبة إِلَى الإِنسَان، وحقت عليه، فلم يقل: فمنهم من هدى ومنهم من أضل، ولا تعارض بين الآيات. بل في ذلك حكمة، لاسيما وأن آية النحل قد جاءت بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى احتجاج الْمُشْرِكِينَ بالقدر عَلَى نفي الشرع، لأنهم يقولون: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] يحتجون بمشيئة الله، كأنهم يقولون: إن الله هو الذي شاء أن نضل، فلن نهتدي.
ولو كَانَ المقصود: أن الله شاء أن نضل، بمعنى أنه كتب الضلالة عَلَى من ضل، وهو أيضاً أمرنا وشرع لنا أن نهتدي؛ لأن مجرد إثبات أن الإضلال لا يقع إلا من الله، فليس في ذلك من بأس؛ لأن الله نسب ذلك إِلَى نفسه كما في هاتين الآيتين، لكنهم يريدون أن يجعلوا المشيئة بمعنى المحبة والرضى، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّه.
إذاً: الهداية من الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فليس كما تزعمون أن الأمر جبر لا اختيار فيه ولا مشيئة لكم فالضلال جَاءَ استحقاقاً وعدلاً، والهداية جاءت توفيقاً وفضلاً من الله تعالى. كما قال تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] لكن مشيئة الضلال والإضلال لا تعني أنه عز وجل يحبه ويرضاه أو أنه شرعه وأمر به.
ولذلك عقب المُصْنِّف رحمه الله عَلَى ذلك بقوله: [ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضى فسوى بينهما الجبرية والقدرية أولاً ثُمَّ اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] .
وكلام المُصْنِّف هنا غير دقيق، لأن الإرادة تأتي بمعنى المحبة كما قال تعالى: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81] فـ"أراد" هنا: بمعنى أحبْ، فالإرادة تأتي بمعنى المحبة، والأصل أن نجعل المشيئة شيئاً، والمحبة والرضى شيئاً آخر مقابلاً لها، أما الإرادة فتأتي للمعنين.
الإرادة الكونية تستلزم المشيئة والشرعية تستلزم الرضا والمحبة
الإرادة الواردة في الكتاب والسنة لها إرادة كونية بمعنى المشيئة، وشرعية بمعنى الرضى والمحبة، فإذا أراد الله أن يُصلي العبد فمعنى ذلك أنه شرعه وأحبه ورضيه، فهذه إرادة شرعية، وإذاً أراد الله أن لا يصلي فمعناه أنه شاء أن لا يصلي، إذاً فالإرادة تأتي بمعنى المشيئة، وتأتي بمعني المحبة والرضى، ولهذا لا يحسن أن يبقى الكلام عَلَى إجماله، فيُقَالُ: منشأ الضلال من التسوية بين المشيئة، وبين المحبة والرضى، لأن الإرادة قد تكون شرعية وقد تكون كونية.
فالإرادة الشرعية مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، والإرادة الكونية تكون بمعنى المشيئة مثل: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125] وقد سبق شرح هذا الكلام عند قول الإمام الطّّحاويّ: [ولا يكون إلا ما يريد] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد دل عَلَى الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتابُ والسنةُ والفطرة ُالصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب، فقد تقدم ذكر بعضها. وأما نصوص المحبة والرضا، فَقَالَ تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] وقال تَعَالَى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) .
وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته) وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) .
فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة:
فالأول: للصفة.
والثاني: أثرها المرتب عليها.
ثُمَّ ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إِلَى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره، ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، عياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك.
فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته ومعرفة عبوديته] اهـ.
الشرح:
منشأ الضلال عند الجبرية والقدرية هو أن كلا الطائفتين قد سوّت بين المشيئة وبين المحبة والرضا؛ لأن الإرادة كما ذكرنا تأتي بالمعنيين، لكنهم سووا بين المشيئة وبين المحبة والرضا.
شبهات في المشيئة
ذكر المُصْنِّف رحمه الله: أن منشأ الضلال في التسوية بين المشيئة وبين المحبة والرضا، فسوّى بينهما الجبرية والقدرية.
ثُمَّ اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضاءه وقدره، وكل ما يقع فهو محبوب مرضي عند الله تَعَالَى لأنه واقع بمشيئته، والمشيئة بمعنى المحبة، وهَؤُلاءِ لهم جواب بعيد، لكن التركيز هنا عَلَى القدرية النفاة لأن لهم شبهة، وهي قولهم: بما أن المعاصي ليست محبوبة لله ولا مرضية له.
إذاً فهي ليست بقدر الله، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
ثُمَّ شرع المُصْنِّف رحمه الله في الرد عَلَى هذه الطائفة، فذكر التفريق بين المشيئة والمحبة للرد عَلَى كلا الطائفتين، ولكنه استطرد في الرد عَلَى القدرية النفاة، لأن الفرقة التي يُعْلم فساد قولها بالفطرة والعقل، وبالبديهة، وبالعلم الضروري لا تحتاج إِلَى تفصيل في بيان بطلان مذهبها، لكن الفرقة التي يكون لانحرافها أو لباطلها شبهة قد تلتبس عَلَى بعض العقول فهذه يفصَّل ويطول في كشف شبهتها وبيان باطلها لئلا تعلق تلك الشبهة.
الفرق بين المشيئة والمحبة
قال المصنف: [وقد دل عَلَى الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا فقد قال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]] وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر [الزمر:7] .
إذاً الفساد غير محبوب لله كما نص عَلَى ذلك صريح القرآن، أنه لا يحب الفساد ولا يرضاه، والفساد واقع في العالم، ولكن لا يقع شيء بغير مشيئة الله، فما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه يشاء الفساد ولكن لا يحبه، كما قال تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر [الزمر:7] وكذلك الكفر واقع في العالم.
إذاً هو واقع بمشيئة الله عز وجل، لكن لا يرضاه الله تعالى، فاجتمع فيه أنه بمشيئته، ومع ذلك فهو لا يرضاه، إذاً هو شاءه وقدره كوناً، ولكن نهى عنه وحذَّر منه شرعاً.
ثُمَّ يقول: [وقال تعالى: عقيب ما نهى عنه من الشرك، والظلم والفواحش والكبر كُلُّ ذَلِكَ كَانَ َ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38] .
فيلاحظ هذه الحكمة العظيمة التي عجزت الأمم، وعجز حكماء العالم وعقلاؤه أن يأتوا بأحكم منها، وكيف يأتون بأحكم منها وكلها مبنية عَلَى قاعدة التوحيد، فأعظم ما نهى الله تَعَالَى عنه وجعله من الحكمة في هذه السورة وفي غيرها هو الشرك.
فمن وحّد الله تبارك وتعالى وترك الشرك فهذا عَلَى قاعدة الحكمة، فإذا أتبع ذلك بالإحسان إِلَى الوالدين وبترك الفساد، وترك قتل الأنفس وترك الكبر وترك أكل أموال اليتامى، وكل ما نهى الله سبحانه وتعالى وحذَّر منه، فإنه من أهل الحكمة، والمتمسكين بها، وهو حكيم، وإن كَانَ أمياً عامياً، لا يفقه شيئاً مما يسميه الحكماء حكمةً أو فلسفةً أو علماً أو أخلاقاً، أو ما أشبه ذلك، ولهذا عقّب الله تبارك وتعالى عَلَى هذا فقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ أي: كل ما تقدم النهي عنه في هذه الآياتكَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38] .
فالله عز وجل نهى عنه وهو يكرهه وإن كَانَ الله يشاء وقوعه، ثُمَّ يقول:[وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال] هذا الحديث في الصحيحين فقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ] .
هذا الحديث في الصحيحين فقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً) أي ثلاث خصال كرهها الله تبارك وتعالى، والمؤمن إذا علم أن الله تبارك وتعالى كره شيئاً فإن عليه أن يجتنبه، لأن هذا الأمر هو مما لم يشرعه الله بل نهى عنه وشرع ضده، وقوله:(كره لكم ثلاثاً، قيل وقال) .
ولكن واقع أكثر الْمُسْلِمِينَ اليوم أنهم مشتغلون بالقيل والقال من حق أو باطل، ويفسر ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(وهل يكب النَّاس في النَّار عَلَى مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، فهذا هو القيل والقال.
(وكثرة السؤال) إن كَانَ السؤال المراد به السؤال في الدين أو في العلم، فما أكثره، وإن كَانَ النهي عن كثرة السؤال في طلب الناس، في أمرٍ من أمور الدنيا، فهذا أيضاً واقع.
(وإضاعة المال) وهذا أيضاً واقع، فما أكثر المبذرين وما أكثر المضيعين للأموال فيما لا ينفعهم، فعلى أي حال من الأحوال فهذه التي كرهها الله تبارك وتعالى واقعة بين الناس، ومع ذلك فالله تَعَالَى يكرهها، وقد شاءها وقدرها كوناً، ولكنه يكرهها ولا يرضاها شرعاً، ثُمَّ ذكر الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد فيالمسند، أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) .
فالله سبحانه وتعالى شرع الرخص، وشرع ترك المعاصي، وهو سبحانه وتعالى يحب أن تؤتى رخصه ويكره أن تؤتى معاصيه، فالمحبة والكره هما بالمعنى الشرعي، أي: شرع لنا أن نأخذ بالرخصة وشرع لنا أن نترك المعاصي، ومعلوم أنه يكره المعاصي.
انتقل المُصنِّفُ رحمه الله إِلَى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المعروف وهو قوله: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) .
وقد علق رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هذا الحديث بتعليق قيم، وهذه العبارات التي ذكرها المُصنِّفُ رحمه الله هنا هي من نفائس الكلام، وقد ذكر بعضها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، وكذلك ابن القيم، وهذا مضمون ما ذكراه: والحديث جدير بنا أن نتأمله وأن نتدبر معناه، كما قال رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في الأخير:(ولا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته) .
والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم وهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومن ميزاته العظيمة وشمائله الكبرى، فهو يعبر عن المعاني العظيمة المتضمنة للحكم والمصالح الكبيرة ولدرء المفاسد والمضار الكثيرة، بلفظٍ موجزٍ قليل، ومعجزته في ذلك من جهة الفصاحة والبلاغة، ومن حيث وقعه عَلَى السمع، ومن حيث معانيه، كل ذلك يجتمع في أوجز وأبلغ لفظ، وكثير من الأحاديث التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم من باب جوامع الكلم التي تحوي العلوم الكثيرة، وهذا الحديث منها.
والذي يتأمله يجد أن فيه غاية التوحيد، فهو يتضمن الخوف من الله سبحانه وتعالى، وفيه بيان أن الله سبحانه وتعالى منه المهرب وإليه الملجئ، فالخوف يكون من الله، والالتجاء يكون إِلَى الله سبحانه وتعالى، فَيَقُولُ:(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) .
يقول رحمه الله: [فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة] لكن الأمر كما قَالَ: [الأول: الصفة، والثاني: أثرها المرتب عليها] فأثر الرضا: المعافاة، وأثر السخط: العقوبة [فاستعاذ بالصفة من الصفة، ومن الفعل المرتب عَلَى هذه من الفعل المرتب عَلَى تلك، ثُمَّ ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إِلَى غيره] وذلك في قوله: [وأعوذ بك منك] قَالَ: [فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك] .
وأن إلى ربك المنتهى
ذكرابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد تعليقاً عزيزاً لطيفاً عَلَى قول الله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] يقول في معنى كلامه: لا يوجد سبب من الأسباب مستقل بالتأثير، سواءً كَانَ السبب خيراً أو شراً، إلا أن يكون المؤثر والفاعل هو: الله سبحانه وتعالى، فكل سبب يستلزم وجود سبب آخر إِلَى أن تنتهي أسباب الخير وأسباب الشر -وكل ما يقع في الدنيا من خير أو شر، فالسبب وقوعه هو سبب آخر، والسبب الآخر سبب لآخر.. وهكذا تنتهي- كلها إِلَى الله سبحانه وتعالى.
ولهذا إذا أردت أن تختصر الطريق كحال المؤمنين الموحدين المنيبين، فإنهم إن وقع لهم خير أو شر أيقنوا وعلموا أنه من الله، وأنه بقدر منه، أما الذين لا يؤمنون بالله ولا بالقدر فإنهم إذا وقع لهم هذا الشيء، قالوا: إنه بسبب آخر.
فمثال ذلك: الغبار الموجود.
قالوا: السبب في هذا الغبار الانخفاض الجوي.
فإذا قيل: ما السبب للانخفاض الجوي؟
قالوا: بداية فصل ونهاية فصل.
فإذا قيل: فما السبب في هذا وذاك؟
قالوا: دوران الأرض حول الشمس، أو ما أشبه ذلك.
فإذا قيل: ولماذا تدور، ولماذا..؟ أسباب ثُمَّ أسباب.. وهكذا إِلَى ما لا نهاية، أما المؤمن فيختصر ذلك كله.
ويقول: هذا من الله، دون أن ينكر تأثير الأسباب، التي تنتهي إِلَى الله سبحانه وتعالى التي جعلها تؤثر وخلق فيها التأثير، ولهذا نجد أن ما يحسبه النَّاس أسباباً نهائية هو في الحقيقة من العلوم الدنيوية، وأن غاية ما يستطيع العلم البشري أن يفسره من الأحداث الكونية هو أن يبين كيف، لكن لماذا؟ هذا الذي تعجز عنه العقول وإن ادعوا، كيف يقع كذا فيمكن أن يعرف البشر كيف يقع، لكن لماذا يقع؟ هذا هو الذي يعجز النَّاس عن معرفته إلا المؤمنون.
مثال ذلك: السحاب يتبخر من البحر، ثُمَّ يرتفع في طبقات الجو العليا، ثُمَّ يبرد ثُمَّ يهطل عَلَى منطقة كذا من المناطق، فيمكن معرفة كيف وقع وذلك، بأن تتابع هذه العملية متابعة محسوسة حتى تنتهي، لكن لماذا وقع؟
ولماذا في هذا اليوم بالذات؟
ولماذا من هذا البحر بالذات؟
ولماذا خرجت هذه السحابة في هذا الوقت وبهذه السرعة؟
ولماذا سارت ألف ميل أو عشرة؟
ولماذا أمطرت في هذا البلد بالذات؟
ولماذا أمطرت في جزء منه دون جزء؟
هذا الكلام لا يستطيع العلم البشري الإجابة عليه، إذاً نعرف بذلك (أن إِلَى ربك المنتهى) ، وأن نهاية الأمور كلها هي لله سبحانه وتعالى، وأنه خالق الأسباب والمسببات، فإذاً: كل شيء راجع إليه وحده لا إِلَى غيره أبداً.
استعاذة العبد داخلة تحت المشيئة
إذا استعاذ المستعيذ المؤمن المنيب وقَالَ: (وأعوذ بك منك) فهو كما قال رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك) ولكن ما علاقة هذا بالمشيئة؟ أن ما أعوذ منه وأخاف منه وأخشاه فهو واقعٌ بمشيئة الله، وكذلك ما أعوذ به وهو رضا الله ومعافاته تبارك وتعالى فهو أيضاً راجعٌ إِلَى مشيئته سبحانه وتعالى.
ولهذا قَالَ: "بك منك" فمعناه: إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فهو كما يشاء سبحانه وتعالى، فمنعي وإعاذتي مما أكره هو بمشيئتك، كما أن هذا الواقع لو وقع فإنه بمشيئتك، أي: أن المحبوب والمكروه كله بقضاءك ومشيئتك.
إذاً: هذا كله تسليم لله سبحانه وتعالى.
ثُمَّ يقول: (فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك) أي: أعوذ بحول الله وقوته مما يكون بحول الله وبقوته.
لكن لما قَالَ: ورحمتك قابلها بالعدل والحكمة، لأن الرحمة يقابلها العدل والحكمة، وهذه من الدقة في كلامه رحمه الله، فالعذاب لا يقع برحمة الله، ولكنه يقع بعدل الله وبحكمته وبقوته وبحوله وبقدرته، ولهذا قَالَ:(عياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك) .
ولهذا من الأخطاء في الدعاء أن نقول: (اللهم أهلك الكفار والمنافقين والشيوعيين، برحمتك يا أرحم الراحمين) فلا يناسب أن نسأل الله سبحانه وتعالى بصفة الرحمة أن يهلك الكفار، لكن نقول:(اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا، واشف مرضانا برحمتك يا أرحم الراحمين)
ثُمَّ يقول: (فلا أستعيذ بغيرك من غيرك) المستعاذ منه واقع بمشيئتك، والمستعاذ به هو صفاتك، إذاً لا أستعيذ بغيرك من غيرك (ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك) لما أستعيذ بك يا ربي من الشر، فأنا لا أستعيذ بك من شيء صادر من غير مشيئتك وإرادتك، بل هو مما شئته وقضيته وقدرته، فالمرجع كله إليك وإليك المنتهى.
الراسخون في العلم: أعرف الناس بالله
كما قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته] وصدق رحمه الله، فإن هذا يتضمن أن العبد لا حول له ولا قوة له، إن وقع به خير أو وقع به شر فهو مسلِّم في ذلك كله لله سبحانه وتعالى.
فأصل الشرك والكفر والجهل والجاهلية عند النَّاس هو شعورهم بأن لهم حولاً أو طولاً أو قوة ليست لله سبحانه وتعالى، وليست تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فلو شعر النَّاس أو علموا حقيقة حالهم، وأنهم فقراء إِلَى الله تبارك وتعالى في كل نَفَس يتنفسونه، وفي كل لحظة، وأنه لا يمكن في أية حال من الأحوال أن يستقلوا بأنفسهم طرفة عين، لكانت عبوديتهم لله تبارك وتعالى غير ما نشاهد وغير ما نرى، ولهذا كَانَ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم استعاذته أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، وهكذا المؤمنون، فلو وكلنا الله سبحانه وتعالى إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا.
ولكنه سبحانه وتعالى هو الذي يدبرنا ويسيرنا بفضله، المؤمن والكافر، لكن المؤمن يستشعر فقره: إِلَى الله تبارك وتعالى في كل شيء، فيكون مقتضى ذلك الشعور أن يعبد الله تبارك وتعالى وحده، ولهذا فالمؤمن رغم أنه يأخذ بالأسباب، لكن لا يجوز له أن يعلق قلبه بالأسباب، أو أن يخاف من بعض ما يخيفه، وهو من الأسباب أيضاً، لكن لا يعلق خوفه بالأسباب، فمنتهى الرجاء ومنتهى الخوف يكون إِلَى الله، ولهذا نقول:(أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك) .
السعادة في معرفة الله وعبوديته
يقول المُصْنِّف هنا: إن أصل معرفة العبودية أن تكون مبنية عَلَى الافتقار إِلَى الله تبارك وتعالى، ومن الافتقار إِلَى الله: أن القلوب لا تطمئن ولا تهدأ ولا تسكن ولا ترتاح إلا بأن تعرفه وأن تعبده عز وجل، فإن من لم يعرف الله عز وجل حق المعرفة، ويعبده حق العبادة كَانَ فيه من الشقاء والألم، والنكد والنغص بقدر جهله بالله سبحانه وتعالى، ولهذا نجد عصاة المؤمنين أحسن حالاً من الكفار، والكفار شر من ذلك.
فكلما نقصت من قلب هذا المعرفة نقصت السعادة والراحة والطمأنينة، وأكثر النَّاس سعادة وطمأنينةً في هذه الدنيا هم أكثرهم إيماناً بالله، ومعرفةً به سبحانه وتعالى، ولو جاءتهم مصائب الدنيا جميعاً ما لي أقلقتهم لحظةً واحدة.
والمؤمن قد يحزن أو يغتم، ولكن ذلك لا يفقده سعادته وطمأنينته ورضاه بأن كل هذا من الله وإلى الله، وأن لي في ذلك الأجر مهما عظمت المصيبة أو الفتنة، فإنه يرى أن ذلك لم يخرج عن كونه دافعاً وجالباً للطمأنينة، وللراحة التي يجدها.
وأما الكافر فإن قلبه لا يحتمل ذرة من البلاء الذي يصيب المؤمن إلا ويقنط ويجزع ويسخط ويشكو ربه إِلَى النَّاس ويكفر بنعم الله جميعاً من أجل بلية اُبتِلَي بها، لا تعدل ولا تزن شيئاً قليلاً من نعم الله سبحانه وتعالى التي أنعمها عليه، فيجب عَلَى الإِنسَان استشعار أنه فقير إِلَى الله، وأن يكون شعوره ومعرفته بأن قلبه لا يطمئن ولا يسكن ولا يرتاح إلا إذا عرف ربه وعبده واتبع مرضاته، واجتنب مساخطه، هذا هو الذي به تتحق العبودية الكاملة لله سبحانه وتعالى.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق النَّاس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان: مرادٌ لنفسه، ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إِلَى ذاته، وإن كَانَ وسيلة إِلَى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إِلَى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه، وإرادته ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إِلَى مراده ومحبوبه.
بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إِلَى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان، والأعمال، والاعتقادات، والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إِلَى محابَّ كثيرةٍ للرب تَعَالَى ترتبت عَلَى خلقه، ووجودها أحبُّ إليه من عدمها [اهـ.
الشرح:
هذا الكلام قد يكون فيه شيء من الغموض، لكن المراد منه واضح، والإشكال الذي أثاره القدرية ويثيره المعترضون عَلَى الله سبحانه وتعالى، هو قولهم: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه، فما دام أنه لا يحبه ولا يرضاه، فلماذا يشاؤه ويقدِّره؟ وذكر المُصنِّفُ مثالاً عَلَى ذلك إبليس، فما يعمل من الشر في العالم لا يحبه الله ولا يرضاه؟ فلماذا خلقه؟ وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهيته.
وسبق أن ذكرنا من الأدلة التي تبين أنه يجتمع في الشيء الواحد مشيئة الله من جهة، وبغضه وكراهيته ومحبته من جهة أخرى.
كيف يجتمع بغض الله لشيء ومشيئته له نفسه؟ يقول: [قيل هذا السؤال هو الذي افترق النَّاس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم] .
وهذا السؤال هو منشأ الضلال عند القدرية، وقد دفعهم إِلَى أن يسووا بين المشيئة وبين المحبة.
الجواب عنها
لقد بين المُصْنِّف رحمه الله الجواب عَلَى مثل هذه الشبهات: (فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، ولما فيه من الخير) فمثلاً خَلْقُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، هذا من أفعال الله التي فعلها وشاءها، وهو محبوب ومطلوب لذاته لما فيه من الخير، فرَسُول الله صلى الله عليه وسلم خير مطلوب لذاته، ومحبوب لذاته [فهو مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد]، أي: مرادٌ لذات كونه غايةً، فهو مطلوب ومحبوبٌ في ذاته، والنوع الآخر:[والمراد لغيره، قد لا يكون مقصوداً وليس فيه مصلحة له بالنظر إِلَى ذاته، ولو كَانَ وسيلةً إِلَى مقصوده ومراده]، مثال ذلك: خلق إبليس، ليس مقصوداً ولا مصلحة فيه له بالنظر إِلَى ذاته، "أي: ذات إبليس".
وحكمة الله اقتضت كما بينا وقرأنا الآيات السابقة، أن يكون النَّاس منهم كافر، ومنهم مؤمن كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] فاقتضت حكمته أن يكون النَّاس أمتين، إذاً هذا أمرٌ سبقت به الحكمة، وتمت كلمة الله تبارك وتعالى بأن يكون للجنة أهل، وللنار أهل.
فهذا الأمر انتهى وفُرغ منه، فإبليس هذا الشر الذي لا يراد ولا يحب لله تبارك وتعالى هو من جهة أنه يتحقق به مراد الله الذي تمت به كلمته، وهو أن يكون للنار ملؤها، وللجنة ملؤها، فإبليس من هذه الجهة مرادٌ لغيره، فيريد الله من إبليس أن يجعل من النَّاس كما اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى فيهم من يعصيه فيدخل الجنة، وفيهم من يطيعه فيدخل النار، فوجوده ينتج عنه مصالح، وحكم عظيمة، وإن كَانَ هو بذاته شراً محضاً، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مرادٌ له من حيث قضائه وإيصاله إِلَى مراده.
ثُمَّ يقول: (فيجتمع فيه الأمران بغضه وإرادته) فبغضه من جهة ذاته وشره، وإرادته من جهة ما ينتج عنه من المصلحة والحكمة، [ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما] ، فهذا متعلق بالمصلحة والحكمة، وهذا متعلق بالشر بذاته، وذكر ثلاثة أمثلة واقعية من واقع النَّاس المشاهد المحسوس. منها: أن الإِنسَان نفسه يبغض الشيء من جهة، ويحبه من جهةٍ أخرى ليقر الإِنسَان ويعترف بذلك.
فمثلاً: الدواء في ذاته كريه لكن إذا علم المريض أن فيه شفاءه، مع أن هذا الدواء مر، ومنتن الرائحة، لا يذوقه الإِنسَان ولا يطيقه ولا يريده أبداً، ولو عرضته عَلَى إنسان سليم بأغلى الأثمان لما ذاقه ولا طعمه، ولكن هذا مجرب أنه دواء للعلة التي يشكو منها مريض مقعد مجهد، يعاني من العلل والأمراض والسقم، فيتحمل مرارة الدواء فيستعمله، لكنَّ محبته للدواء ليست لذاتها، لكن لكونها وسيلة إِلَى مرادٍ محبوب وهو الشفاء.
قَالَ: (وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده) ، وهذا أيضاً مثال عقلي واضح، أن الإِنسَان إذا تآكل عضو من أعضاءه بعلة، وهذه العلة ستسري إِلَى سائر البدن ولا خيار إلا أن يقطع هذا العضو، أو أن تسري العلة إِلَى جميع البدن فيموت، فما الذي سيختاره الإِنسَان؟ سيختار القطع، فالقطع ليس محبوباً مرغوباً لذاته، فلا يرضى أحد أن يقطع منه عضواً، لكن لأنه وسيلة إِلَى منفعة وإلى أمر محبوب ومراد وهو الشفاء أو السلامة من تسرب وسريان الداء إِلَى بقية الأعضاء، قَالَ: (وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إِلَى مراده ومحبوبه.
مثلاً: الحج إِلَى بيت الله يركب الإِنسَان في بعض المناطق الباخرة شهوراً، أو يركبون السيارة أياماً وليالٍ، فهذا لا يريد المشقة لذاتها لكن لكونها توصل إِلَى المراد، وإلى المحبوب، أي: إِلَى بيت الله العتيق يستلذها ويستعذ بها، فهي من جهة ذاتها مشقة، ولكن بالنظر إِلَى غايتها ونتيجتها كأنها راحه فيتحملها، فهذه الثلاثة الأمثلة تدل عَلَى أنه لا تنافي بين أن يكون الشيء محبوباً، أو مكروهاً في ذاته، ومع ذلك هو محبوب أو مراد لغيره ليوصله إِلَى النتائج المرجوة منه.
العاقل يعمل بغالب الظن
يقول رحمه الله: [بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته]، أي: لو قال الطبيب لأحد المرضى: بتر العضو المتآكل نسبة الشفاء فيه (70%) أو (80%) فإنه سيختار القطع، مع أنه لم يجزم، فلم يقل له (100%) ، لكن (70%) أحياناً أو (50%) ، فسيوافق عَلَى القطع، لاحتمال أن الخمسين الأخرى تغلب.
إذاً العاقل يعمل بغالب الظن، وربما بالظن في تحمل مالا يريد وما لا يحب فيحبه، لما يوصل إليه من محبوب متيقن أو متحقق، يوافق عليه ويقره؛ لأنه يوصل وينتج ما هو محبوب للعبد، هذا في حال العبد، فالعبد المخلوق لو قيل له في أمر من الأمور: هذا نافع (100%) فإنه لا يجزم بذلك؛ لأنه مخلوق، لكن بالنسبة إِلَى الخالق سبحانه فإنه بالنسبة إِلَى ما يعلمه الله مما قد نعلمه هو كله خير وكله مصلحة، ومتحقق فيه مراد الله سبحانه وتعالى، لأنه لا تخفى عليه خافية، وهو يعلم السر وأخفى، ويعلم كل شيء وما تكون عاقبته.
فالنظر إِلَى النتيجة متحقق فيه مرادٌ ومحبوب لله، وبالنظر إِلَى الذات فيه ذلك الشر، فإذا كَانَ العبد في أمور دنياه يعمل بالغالب من الظن، وربما بمجرد الظن ويجتمع له في أمر من الأمور أنه مكروه وأنه محبوب، فالله الذي تخفى عليه خافية، والذي قدَّر كل شيء يجتمع منه سبحانه في أمر من الأمور أنه يكرهه وأنه يريده ويشاؤه.
كراهية الله لذات الشيء لا ينافي إرادته لأجل غيره لأجل غيره
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فهو سبحانه يكره الشيء ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره] فيكره الشيء أي: لذاته، ولا ينافى ذلك إرادته لأجل غيره لا لأجل ذاته، [وكونه سبباً إِلَى أمر هو أحب إليه من فوته] أي: من عدمه [من ذلك خلق إبليس الذي هو مادةٌ لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات] .
أي: المادة التي تمد الفساد، ففساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات من إبليس، أعاذنا الله وإياكم من شره، [وهو سبب لشقاوة كثير من العباد] فكم أضل من النَّاس نسأل الله العافية، قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات:71] وقال أيضاً: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] .
فكم أضل إبليس، فلم ينجو من شره وكيده ومكره إلا القليل، يقول:[وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه] فلو استطاع إبليس أن يصرف الإِنسَان عن الدخول إِلَى المسجد، وقد توضأ وأتى يريد الطاعة، ويصرفه عنه إِلَى مكان الزنا أو الخمر لفعل ذلك ولم يتردد، ولهذا لا يترك العبد لحظةً واحدة، حتى إن غلبه العبد وصلى فإنه يأتيه بالوساوس، ويأتيه بالخطرات وبالمشاكل، ولا يدع العبد لحظةً واحدة، فهذا حاله، عدوٌ لله مترصد لأن يُعصى الله، ولا يريد أن يطاع أبداً.
فهو إذاً الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا الشر المستطير، فإن إبليس [وسيلة إِلَى محابَّ كثيرةٍ للرب تَعَالَى] وإلى أمور محبوبة كثيرة، هي مراده لله تبارك وتعالى [ترتبت عَلَى خلقه، ووجودها أحبّ إليه من عدمها]
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بعضاً من الحكم في ذلك.
فقال رحمه الله:
[منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تَعَالَى عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات، التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته] اهـ.
الشرح:
إن هَؤُلاءِ القدرية الذين عطلوا حكمة الله، أو سألوا هذا السؤال: كيف يشاؤه وهو يكرهه، غافلون عن حكمة الله في خلق إبليس مثلاً، أو وجود الشر النافذ عنه.
إظهار قدرة الله على خلق المتضادات
من هذه الحكمة العظيمة قي وجود الشر أن يظهر الله تبارك وتعالى للعباد قدرته عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فالكون كما ترون الآن فيه متضادات، خير وشر، وصلاح وفساد، وتوحيد وشرك، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية، وأولياء الله وأعداء الله، ومتقون وفجار، وهكذا.
جبريل مثال للخير وإبليس مثال للشر
وكما يقول: فخلق الله هذه الذات أي: ذات إبليس التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبرائيل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فجبريل عليه السلام مادة كل خير من جهة أنه رَسُول الله تبارك وتعالى الملكي إِلَى رسله من البشر، ولهذا كَانَ التمثيل بجبريل عليه السلام، ولم يكن التمثيل بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأن جبريل هو الذي بلغ الوحي إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وكذلك بلغه إِلَى موسى وإلى عيسى وإلى من قبله.
حتى أن ورقة بن نوفل لما جاءته خديجة وأخبرته بشأن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: هذا هو الناموس الذي كَانَ ينزل عَلَى موسى ولهذا قال اليهود: إن عدوهم هو جبريل، قالوا: يا مُحَمَّد من الذي يتنَزل عليك بالوحي؟ قال جبريل عليه السلام قالوا: ذاك عدونا من الملائكة -عياذاً بالله- ولهذا قال الله تَعَالَى فيهم في سورة البقرة: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] .
فهذا يدل عَلَى أن اليهودمن جنس إبليس عياذاً بالله، من نفس المادة -مادة الشر- بل الله تبارك وتعالى سمى اليهودشياطين، كما سمى الشيطان شيطاناً، قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14] أي: إذا خلى المنافقون إِلَى اليهودقالوا: إنا معكم، فهم شياطينهم؛ لأن الشيطان يمد الإِنسَان بالشهوات والشبهات، واليهود أيضاً يمدون الإِنسَانية بالشهوات والشبهات، فانتشار القمار، والزنا، والربا في كل مكان وفي كل عصر عَلَى أيدي هَؤُلاءِ.
فكانوا يأتون إِلَى المنافقين ويقولون: نبيكم مُحَمَّد فيه كذا وكذا؛ لأنهم يعتبرون أن عندهم علم من الكتاب وأولئك أميون، فالمنافقون إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إِلَى اليهود، أي: إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] .
فالغرض من ذلك هو دقة تعبير المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لماّ قَالَ: [التي هي من أشرف الذوات] فلم يقل جبريل أشرف الذوات حتى لا يُفهم أنه يقول: إن ذات جبريل أفضل من ذات مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، لأن العلماء اختلفوا، هل هذا أفضل أو هذا أو هما سواء، وليس هذا مراد المُصْنِّف هنا، وإنما مراده أن يخرج من الخلاف.
فيقول لك: إن أصل مادة الشر هو إبليس، وأصل مادة كل خير هو جبريل عليه السلام؛ لأن ما جَاءَ إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من الخير والرسالة هو عن طريق جبريل، وكذلك كل ما أتى جميع الأَنْبِيَاء هو عن طريق جبريل عليه السلام قَالَ:[فتبارك خالق هذا وهذا] ، فتبارك الله الذي خلق أصل كل شر وخلق أصل كل خير سبحانه وتعالى هكذا اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى.
ثُمَّ يقول: [كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار] كيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا النهار سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وكيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا الليل سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟ لا تصلح الحياة، لكن الله جعل الليل وجعل النهار، فاستقامت الحياة والمصالح، وانتظمت أمور العباد، وهذا دليل عَلَى حكمته تبارك وتعالى في خلق هذين الضدين، (الدواء والداء) .
فلو كانت الدنيا كلها أدواء لما صلحت الحياة، ولو كانت كلها دواء، أو لا مرض فيها ولا داء، فإنها تفوت حكم عظيمة، لكن حكمة الله عز وجل أنها أدواء ومعها الدواء، ولذلك انتظمت مصالح ومعايش كثيرة لأناس كثيرون، فمرض هذا نفع لذلك، فإن كَانَ الذي مرض بالداء شريراً، استراح الخلق من شره.
وأما إذا كَانَ المريض طيباً، فيستفيد الأطباء من ذلك، وأيضاً مساعدة هذا المريض والإحسان إليه يحصل بسبب ذلك الأجر من الله، وكمثال آخر: أن الله يبتلي بعض عباده بالفقر مع أنه مكروه لذاته -فالله سبحانه وتعالى يكره أن يفقر عبده الصالح- لكن هناك حكم كثيرة وراء ذلك، فيبتليه ليرفع درجته وكذلك الإحسان إليه يكون سبباً في تحصيل الأجر من الله.
وهكذا أمور كثيرة نجد أن لها حكماً عظيمة، يعجز العقل البشري عن حصرها، فتظهر بوجود هذه المتضادات المتقابلات والله تَعَالَى هو العليم بكل شيء. قوله:[والحياة والموت] ، وأيضاً الموت له حكم عظيمة، فإما أن يموت شرير فيستريح الخلق من شره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مستريح ومستراحٌ منه) .
فلو كَانَ فرعون وماركس وغيرهما -عياذاً بالله- أحياء لما وجد النَّاس راحة في حياتهم، فيكفي أن الأمم والشعوب عانت من شرهم مدة حياتهم، فلما ماتوا استراح النَّاس من شرهم، وكذلك موت الأخيار أيضاً فيه حكمة.
فأفضل خلق الله مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فلله عز وجل حكمة في موت النبي صلى الله عليه وسلم ومنها: أنه بشر فلا يعبد من دون الله ولا يؤله، وليقوم النَّاس من بعده بالدين، وليعلموا أن مسؤلية هذا الدين عليهم.
ولهذا أعلنها الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: (من كَانَ يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كَانَ يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت) وارتد من ارتد من العرب، وتبقى الصفوة المختارة المؤمنة لترد النَّاس إِلَى الدين، وهذه حكمة عظيمة جداً، عرفنا بها أنّ ديننا من مسؤليتنا وأن نشره يكون عَلَى أيدينا، فالله تَعَالَى لو شاء لجعل النَّاس أمة واحدة، لكن حكمة الله اقتضت أن نبذل الجهد، فكم خرج من الْمُسْلِمِينَ، وكم قتل منهم في معارك الفرس والروم، وكم فُتح من البلاد، وأسلم بسبب ذلك أناس كثيرون.
فكان في ذلك كثير من الحكم والمصالح، ومع ذلك فإن موته صلى الله عليه وسلم مصيبة، فأعظم مصيبة حصلت في هذه الأمة فقده صلى الله عليه وسلم، ولا تعدلها أي مصيبة عَلَى الإطلاق، ومع ذلك فيها حكمة بل حِكم مما نعلم وما لا نعلم وهكذا.
قَالَ: [والحسن والقبيح] ففي الحسن حكمة وفي القبيح حكمة، فلو كانت المخلوقات كلها حسنة ما عرف أنها حسنة، فُحَسنُ الحسَنِ لا يعرف جلياً إلا بقبح القبيح، ولهذا فإن بعض النَّاس قد يستقبح شيئاً، فإذا رأى القبيح رجع لذلك، وجعل له قيمة عظيمة، ولهذا فشكر النعم يأتي من نظرنا إِلَى من هو دوننا.
فقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر في أمور الدنيا إِلَى من هو دوننا وأقل منا، قوله:[والخير والشر] فلا تصلح حياة النَّاس لو كانت كلها خيراً، فكيف نعرف الأخيار من الفجار؟ فلو كَانَ كل ما وجد في الدنيا خير ما ظهرت ميزة شيء عَلَى شيء، فهذه بهيمة الأنعام جعل الله الخير في ألبانها، وفي لحومها، وفي أصوافها، وفي أوبارها، فيستفاد من جميع أجزائها، حتى عظامها يُعمل منها صناعات معينة، فهذه كلها خير، وفي المقابل: الكلاب والخنازير والحيوانات السامة، هي شر، فجعل هذا وهذا لنعرف نعمة الله علينا بتلك فنشكره، ونعرف نعمة الله أن عافانا من هذه، وكيف لو خلق هذه مثل تلك -عياذاً بالله-.
فإذاً بهذا نعرف أن لله سبحانه وتعالى حكمة.
خلق المتضادات تحقيق لحكمة الله وكمال تصرفاته
في خلق الله لهذه المتضادات المتقابلات، تبيين قدرة الله تبارك وتعالى عَلَى أن يخلق ما يشاء، وله في ذلك الحكمة، يقول:[وذلك] يعني وجود هذه المتناقضات والمتضادات [أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه"، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالَّ تصرفه وتدبيره] ، فيصرفها ويدبرها سبحانه وتعالى، فيسلط إبليس عَلَى الكافرين، فيؤزهم أزاً، ويدفعهم إِلَى الشر، ويسلطه عَلَى المؤمنين فيرفضونه، ويعصونه، فترتفع درجاتهم عند الله سبحانه وتعالى.
ويسلط العقرب أو الحية، فتلدغ الفاجر فيكون ذلك عقوبةً ونكالاً وكفاً لشره عن الناس، ويسلطه عَلَى المؤمن، فيكون في ذلك رفعاً لدرجته وخيراً وطهوراً له من ذنوبه، وهكذا، فهو سبحانه وتعالى جعلها محالَّ تدبيره، يدبر الخير أو الشر كما يشاء عن طريق هذه المحالَّ، وعندنا أمران أمر بهما الله تبارك وتعالى إبليس":
الأمر الأول: أن يسجد مع الملائكة، وذلك عند ما قال الله للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34] وهذا الأمر يشمل إبليس أيضاً، فقوله: اسْجُدُ يقابله عندنا فعل آخر، وهو: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم [الإسراء:64] الآية فهنا "اسجد" وهنا "استفزز"، فالأمر بالسجود أمر شرعي، لكن لما قال له: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ [الإسراء:64] فهذه الأوامر كونية، فالله تَعَالَى كوناً وقدراً، قضى بذلك وقدَّره.
[وليس أمراً بفعل ذلك] أي: أذن لك بذلك كوناً وقدراً، لكن النهاية أنت ومن اتبعك مصيركم إِلَى النار، وأما الأمر بالسجود الذي أمر الله تَعَالَى به المؤمنين وهو الأمر الشرعي، فيجب أن يطاع، لا أنه مجرد مشيئة لله سبحانه وتعالى.
ولكن إذلال الشيطان لبني آدم، هذا بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
ثُمَّ يقول: [فخلو الوجود عن بعضها بالكلية، تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير ملكه] فلو خلى الوجود عن بعض هذه بالكلية، كما لو خلا من الليل فكان كله نهاراً، أو خلا من الأدواء وكان الوجود كله شفاءً وعافيةً، أو خلا من الموت فكان الوجود كله حياةً، أو خلا من القبح فكان الوجود كله حُسْناً، أو خلا من الشر فكان كله خيراً لكان في ذلك تعطيل لحكمته ولكمال تصرفه وتدبير ملكه سبحانه وتعالى، لكن وجود هذه المتناقضات والمتضادات فيها تحقيق لحكمته ولكمال تصرفه، فلنتدبر ذلك ونتأمله.
ظهورأسمائه القهرية
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، لا بد من وجود متعلَّقها، ولو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء] اهـ.
الشرح:
إن الله سبحانه وتعالى له أفعال تقتضي وجود وظهور آثاره، ومن أسماءه سبحانه وتعالى "القهار، شديد العقاب، سريع الحساب" فلو لم يكن هنالك من يُقهر، ويُحاسب، ويُعاقب، ما ظهر أثر هذا الاسم، وأيضاً "ذي البطش الشديد".
فلو لم يوجد مجرم مذنب يكون أهلاً لوقوع البطش لما ظهر أثر هذه الصفة.
وفي "الخافض" لو لم يوجد من يخفض ويستحق الخفض لما ظهر أثر هذا الاسم، وهو الخافض.
وفي "المذل" لو لم يوجد من يستحق أن يذلَّ لما ظهر أثر هذا الاسم، أو الفعل.
فالقهار المنتقم يدل عَلَى أنه يوجد من يقهر، ويوجد من ينتقم، عدلاً، ومن عومل بالعدل فقد هلك.
"والضار" لأن الله تَعَالَى هو النافع الضار، فلو لم يوجد من يُضر بإذن الله سبحانه تعالى، وينزل به ضرر من الله، فأين سيظهر أثر هذا الاسم؟
وهكذا كثير من أسماء الله وأفعاله سبحانه وتعالى تقتضي وجود آثارها، وقد ذكر المُصْنِّف آثار أسمائه المقابلة لهذه الأسماء المذكورة وهي المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته.
قال الشيخ: "فإن هذه الأسماء والأفعال" إذاً فبعضها أسماء، وبعضها أفعال، فهو لم يحب أن يدخلنا في قضية، هل هذا اسم أم أنه ليس اسم بل هو فعل، لكن كونها أفعال فلا شك أن الله سبحانه وتعالى يفعل الانتقام، فهو إذاً منتقم، فقد سمى نفسه "عزيز ذو انتقام" وكونه "ضار" نَحْنُ لا نذكر هذا الاسم إلا مقروناً، فهو الأسماء التي لا تذكر مفردة، لكن نقول الله هو النافع الضار، والكلام الآن في جانب واحد وهو جانب الضرر، ويأتي بعد ذلك الجانب الآخر في الحكمة التالية التي تليها، فالكلام الآن عن جانب الضرر: القهر، الانتقام، الغضب، العقوبة.
ويأتي بعد ذلك جانب العدل والرحمة، والحلم، والعفو، والستر، والتجاوز، وكذلك أيضاً الرافع والخافض، والمعز والمذل [فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لله سبحانه وتعالى] وكل صفة كمال فالله سبحانه وتعالى أولى وأحق بها عز وجل.
فَيَقُولُ: [لا بد من وجود متعلقها] أي: لا بد أن يوجد متعلق هذا الاسم، أي: لو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة، لو كانوا خيراً محضاً لما غضب، ولما انتقم، ولا أذل، ولا خفض، ولا بطش بأحد، لأنهم كلهم عَلَى طبيعة الملائكة، لكن لما كَانَ فيهم الأخيار وفيهم الفجار، والأخيار درجات، والفجار درجات.
فمن هنا تظهر آثار هذه الأسماء، فجانب الأشرار والفجار يكون متعلق لهذه الأسماء والصفات، ولهذه الأسماء والأفعال، فينتقم ممن يستحق الانتقام منهم، ويبطش بهم، ويذلهم، ويخفضهم، وفي المقابل ما يتعلق بظهور آثار أسماءه المتضمنة لحلمه وعفوه.
ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إِلَى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى هذا بقوله:(لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم) .
ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قُدِّر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر، ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محابَّ الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه إِلَى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] اهـ.
ذكر المُصْنِّف رحمه الله أن من الحِكَمَ في وجود الخير والشر هو ظهور آثار أسمائه القهرية أي: أن الله سبحانه وتعالى يظهر آثار أسمائه القهرية وأفعاله، مثل كونه قهاراً منتقماً عدلاً ضاراً شديد العقاب سريع الحساب، إِلَى آخر ما تقدم شرحه، فلولا وجود الشر ما ظهرت آثار هذه الأسماء، وكذلك ما يقابلها وهو ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إِلَى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
فالله تبارك وتعالى موصوف بهذه الصفات لأنه عز وجل ذو حلم وعفو ومغفرة وستر وتجاوز فيقتضي ذلك ويتضمن وجود عبادٍ يحلم عنهم ويغفر لهم ويستر عليهم ويتجاوز عنهم، وهذا لا يكون إلا من عبادٍ لهم ذنوب ولهم أفعال يكرهها الله تبارك وتعالى، وتكون من إغواء عدو الله الذي هو مادة كل شر من أعمال العباد وهو إبليس اللعين، فلكي تظهر آثار هذه الأسماء والصفات والأفعال لله تبارك وتعالى كَانَ ذلك الشر موجوداً مع الخير، وكان لوجود الشر حكمة، كما أن لوجود الخير حكمة أيضاً، فوجود هذين معاً واجتماع إرادة الله تبارك وتعالى لها مع بغضه وكراهته لها أي: اجتماع ذلك في شيء واحد أو في هذه الأشياء، هو في غاية الحكمة لمن تأمله وتدبره.
يقول: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى هذا بقوله: [لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم] هذا الحديث الصحيح تضمن إشارةً إِلَى تلك الحكمة الجليلة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم يبين لأمته الذين يخافون من الذنوب -وكل مسلم ومؤمن يجب أن يخاف من الذنوب- أن هذا الذنب لا بد أن يقع منكم، ولكن يجب عليهم أن يستغفروا، فالحرج ليس في وقوع الذنب فهو لابد أن يقع.
لكن يجب عليهم أن يبادروا إِلَى الاستغفار والتوبة والإنابة، فهذا أمر جبلت عليه الطبيعة الإِنسَانية، وهي أنها تقبل الخير وتقبل الشر، فقد يغلبها الهوى فتغلب النفس صاحبها، وإن كَانَ ذا إيمان ودين، لكن الواجب عليه أن يرجع وأن يتوب إِلَى ربه تبارك وتعالى وهو سبحانه تَعَالَى يغفر له، كما قال الله تَعَالَى في الحديث القدسي:(يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) وكما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) .
فالخطأ من طبيعة البشر، لكن يجب عَلَى الإِنسَان أن يتوب وأن يستغفر، وأن يبادر إِلَى ربه تبارك وتعالى في ذلك، بل إن مما يشاهد ويلاحظ في واقع النَّاس أن بعض الذنوب والمعاصي والأخطاء التي يرتكبها بعض النَّاس ربما كانت سبباً في هدايته هدايةً عظيمة، واستقامته استقامةً لا مثيل لها قبل أن يقع منه ذلك الذنب، وهذا ما عبر عنه بعضهم بقوله:(رب معصيةٍ أورثت ذلاً وانكسارً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً) .
فبعض المعاصي والذنوب يعرف بها صاحبها قدر نفسه ومنزلتها من طاعة الله تبارك وتعالى، وربما كانت سبباً في إقلاعه عن سائر الذنوب واجتهاده في طاعة الله فترتفع درجته، ويزداد يقينه، ويعرف فضل الله تبارك وتعالى عليه بالتوبة وبالعصمة من الذنوب التي هي أكبر، ويعرف مقدار انحطاط العبد ومقدار غروره، ومقدار ظلمه لربه ولنفسه في حالة الذنب، وهذه العبر والحكم لا تكون إلا بناءً عَلَى ذنب بعد ذنب أذنبه.
انظروا إِلَى أبينا آدم عليه السلام! لله حكمة عظيمة حيث قدر له أن يأكل من الشجرة، ألا ترون أن الله تَعَالَى نهاه من الأكل من الشجرة؟
إذاً: الأكل من الشجرة بالنسبة لله تبارك وتعالى مبغضاً شرعاً لأنه نهاه، وهو كوناً وقدراً محبوب أي: مراد مطلوب، فاجتمعت فيه إرادته كوناً مع بغضه شرعاً، والإرادة الكونية لها حكم عظيمة وإن خالفت الإرادة الشرعية. فمن ذلك الحكم العظيمة التي نراها الآن في واقع هذه الدنيا.
كيف ترون الحال لو أن آدم وذريته خلقهم الله تَعَالَى في الجنة وبقوا يتناسلون ويتكاثرون فيها، لما كانت هناك حكمة من خلق الإنس والجن مما هو في الدنيا، ومن حكمة خلق الإِنسَان وحكمة التكليف وتحمل الأمانة ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب وافتراق النَّاس إِلَى فريقين، هذا يجاهد في الله حق جهاده، وهذا يطيع عدو الله ويتبعه ويعادي ربه.
كل هذه من الحكم التي نراها ووجود خلق من خلق الله اصطفاهم الله سبحانه وتعالى وهم الأَنْبِيَاء وأفضلهم هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فلو تأملنا لوجدنا أنه لا معنى للوجود الإِنسَاني بإطلاق لو كَانَ في الجنة، فهناك نوع شر محض وهم الشياطين المردة، وإن كَانَ في وجودهم خير من جانب، وهناك خير محض وهم الملائكة، ووجود الجنس أو الطرف الذي يمكن أن يكون خيراً ويمكن أن يكون شراً لحكم عظيمة جداً، فوجد عن طريق خلق آدم فخلقه الله سبحانه وتعالى قادراً لهذا ولهذا، فكان أكله من الشجرة ووقوع الذنب منه الذي لم يرض به الله سبحانه وتعالى شرعاً، لكنه وقع لحكمة كونية فنزل آدم إِلَى الأرض، فلما نشأ عَلَى هذا التراب عرف قيمة الجنة وعرف قيمة الطاعة وعرف أثر المعصية وخطرها وضررها عليه وعلى ذريته.
حتى قيل: إن آدم عليه السلام بكى حتى كانت دموعه تجري في الأرض مثل الأنهار من كثرة البكاء، ولا نستغرب هذا لأن من رأى الجنة ثُمَّ جَاءَ إِلَى هذا التراب لا بد أن يبكي؛ لأنه شيء لا يمكن للإنسان أن يطيقه ويأتي إِلَى هذه الأرض، ففي هذا من الحكم والمصالح العظيمة ما لم يكن لولا ذلك الذنب، ثُمَّ استمرت الإِنسَانية قروناً عَلَى التوحيد، حتى وقع فيهم الشرك، فظهرت حكمة الله سبحانه وتعالى في أن يكون النَّاس مختلفين وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] لكن حكمته اقتضت أن يكون النَّاس مختلفين، وأن يكونا عَلَى فريقين، ثُمَّ نتج عن ذلك إرسال الرسل، وما يكون من رفعٍ لدرجات الرسل ولأتباعهم، وما يكون من إنزال العقاب والعذاب الأليم لمن خالفهم ولمن عصاهم وكفر بالله سبحانه وتعالى.
ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة
يقول: [ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة] إذاً: بالإضافة إِلَى هذه الأسماء المتقابلة من كونه منتقماً وشديد العقاب، وسريع الحساب، وكونه رحيماً وغفوراً وستيراً، أيضاً هنالك أسماء أخرى تظهر آثارها بوجود الخير والشر في هذا الكون، فمن ذلك: آثار أسماء الحكمة والخبرة، فالله سبحانه وتعالى سمى نفسه في القُرْآن الحكيم بالخبير، يقول:[فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته] .
فكونه حكيماً سبحانه وتعالى وخبيراً فهو يخلق ما يشاء كيف يشاء، متى شاء، ويضعه إن كَانَ تصرفاً أو أمراً في موضعه اللائق به، إذاً فكيف تظهر آثار هذه الأسماء إلا مع وجود المتضادات من خير وشر، وطاعة ومعصية، وأولياء له وأعداء، فلو كَانَ الكون كله عَلَى حال واحد لم تتفاوت الأحوال، ولم تظهر حكمة في أن يوضع هذا الشيء في هذا الموضع، فإذاً لو أن النَّاس كلهم عَلَى حال واحدة فلم يكلفوا لم يفهم من ذلك حكمة، ولا يكون لذلك حكمة، لكن عندما يكون في النَّاس الطائع وفيهم العاصي، فيأتي العذاب عَلَى من عصى وكفر، وينجوا من أطاع الله تبارك وتعالى، فيظهر هنالك أثر -فعلاً- أنه حكيم سبحانه وتعالى، حيث أصاب هَؤُلاءِ ونجى هَؤُلاءِ وهكذا.
يقول: [فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك] .
إن أشرف ما امتنَّ الله تَعَالَى به عَلَى عباده في هذا الوجود هو الرسالة، وأشرف خلق الله عز وجل وأفضلهم وأعلاهم قدراً ومنزلةً هم الرسل، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فله الحكمة سبحانه وتعالى، فهو الحكيم الخبير وهو الذي يضع هذه الرسالة في فلان، ولا يضعها في فلان، وإلا لو كَانَ الأمر موكولاً إِلَى أهواء البشر لقال الكفار كما قالوا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] لماذا لم يكن فلان؟ ولماذا لم يكن فلان؟ وما قيمة فلان هذا؟ قالوا: لأنه صاحب مال وصاحب جاه ومنصب، مطاع في قومه إِلَى آخر ما يرونه من صفات.
والله تَعَالَى يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، ليس هنالك أحد أعلم من الله سبحانه وتعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] .
أما المعيشة الدنيوية فإن الله سبحانه وتعالى قسمها بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، لكن وَرَحْمَةٌ رَبِكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] فالرسالة أفضل من كل ما يجمع النَّاس ومن كل ما يعطون في هذه الحياة الدنيا فيقسمونها، هذه الدنيا إذا تجردت عن الإيمان بالله تعالى، فهي أحقر عند الله سبحانه وتعالى ولا تعادل ولا تزن جناح بعوضة، ومع ذلك لم توكل قسمتها لهم فهل يوكل إليهم قسمة الرسالة وهي أعظم من ذلك، وخير من ذلك، فيضعونها حيث شاؤوا؟!
فالله كونه هو الحكيم الخبير، هو أعلم حيث يجعل رسالته، فهو يخلق ما يشاء ويختار اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] وهو أعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، سواءً كَانَ الرَّسُول الذي يصطفيه الله سبحانه وتعالى، أو كَانَ الأتباع الذين يشكرون الله ويحمدونه عَلَى أن هذه الرسالة قد بلغتنا وجاءتنا.
ولهذا فالمؤمنون لم ينافسوا في الرسالة بأن يقولوا: كيف يكون الرَّسُول فلان؟ ولماذا لم أكون أنا أو فلان؟ لم يقولوا ذلك، بل حمدوا الله سبحانه وتعالى وشكروه عَلَى أن الرسالة قد أنزلت، وعلى أن هذا النور قد جاء، ووضع في الموضع اللائق، وأن هذا الرَّسُول الذي جَاءَ به هو خيرهم وأفضلهم نسباً وأمانةً وصدقاً وخلقاً وشجاعةً، فحمدوا الله وشكروه وعرفوا قدر هذه النعمة، أما المُشْرِكُونَ فلأنهم لم يقدروا النعمة حق قدرها، ولم يعرفوا الله حق معرفته، ولم يقدروه حق قدره، وكذلك لم يعرفوا منزلة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم الحقيقية -وإن كانوا مقرين بفضله- لكنه الاستكبار والجحود، فهَؤُلاءِ هم الذين أرادوها أن تكون في غيره صلى الله عليه وسلم.
فالله تَعَالَى أعلم بهذا وأعلم بالضد المقابل، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، فإذا نظرنا إِلَى واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أوذي أشد أنواع الأذى، وأوذي أصحابه المؤمنون، وكان الابتلاء والامتحان والتضييق في مكة، وحوصروا فيالشعب، وهاجر من هاجر إِلَى الحبشة، كل هذا من أجل الله سبحانه وتعالى، ثُمَّ أخذ يعرض نفسه عَلَى القبائل فرده أكثرهم، حتى ضاقت به الدنيا صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذه الابتلاءات لله تَعَالَى فيها حكمة عظيمة جداً، ارتفعت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له الأجر عَلَى هذا الصبر، وعلى هذا الابتلاء.
واختار الله سبحانه وتعالى بعد ذلك الأنصار -الأوس والخزرج- وفضلهم عَلَى كل القبائل، ليكونوا أهلاً لقبول الدعوة ولإيواء النبي صلى الله عليه وسلم، ولتكون بلدتهم يثرب -كما كانوا يسمونها- هي المنطلق والمرتكز لهذا الدين، كل هذا فيه حِكَم، فالمؤمنون الأولون الذين عذبوا وأوذوا هم الذين صبروا وصمدوا وعليهم قام هذا الدين، لكن الذين دخلوا في الإسلام بعد الفتح عشرات الألوف، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينتشر خبر وفاته إلا وارتد أكثر العرب، لأنهم لم يتربوا عَلَى هذا الدين ولم يعرفوا قيمته، لكن الذين كانوا محاصرين، وهاجروا إلى الحبشة، وكانوا يعذبون وتوضع عليهم الصخرات الثقيلة في شدة الرمضاء في مكة ليرجعوا عن دينهم، هَؤُلاءِ لم يرتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لله في إقداره حِكَم، فهذا الأذى الذي وقع من الكفار لا يريده الله بمعنى: لا يرضاه ولا يحبه فلا يرضى الكفر ولا يرضى إيذاء المؤمنين، لكن لما فيه من الحكم العظيمة.
فأهل بدر الذين خرجوا وأكثرهم مشياً عَلَى الأقدام في عتادٍ وعدةٍ قليلة، وكانوا يواجهون من هو أقوى منهم عدداً وقوةً، وكانوا يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، لكن كَانَ لله حكمة في أنهم وقع لهم ما وقع، لأن النصر جاءهم مع هذه القلة ومع هذا الضعف والصبر، وبقي لأهل بدر ميزة يتميزون بها عن أهل الإسلام كافة، إذاً في تلك المكروهات حكم ومصالح عظيمة لم تكن لتتحقق إلا بوجود تلك الأسباب المكروهة التي جعلها الله تبارك وتعالى.
أرأيتم إِلَى موسى عليه السلام، لولا أن فرعون كَانَ عالياً من المسرفين في قمة الطغيان والاستبداد والاستعباد وجعل بني إسرائيل شيعاً، يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم، كل هذا الضغط وهذا الظلم الذي كَانَ يعاني منه بنوا إسرائيل، وهذه القوة والجبروت الذي كَانَ فرعونيعلنها أمام النَّاس أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] ، كل هذا الكبر والاستعلاء في الأرض كَانَ فيه مصلحة وحكمة وهو: أن الله جعل موسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وبلغ عند الله منزلة عظيمة، وكلمه ربه تبارك وتعالى، وأيده ونصره لأنه واجه هذا الظلم العظيم، فلو لم يكن فرعونبهذه المثابة من الكفر لما ظهر بذلك فضل موسى عليه السلام وصبره وقوته في مقاومة هذا الباطل وهذا الظالم وهكذا.
ولهذا فالحال كما قال صلى الله عليه وسلم: (يبتلى المرء عَلَى قدر دينه، فأشد النَّاس بلاءً الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الأمثل فالأمثل) فالابتلاء والكفر والعناد الذي يقع من الكفار وهو مكروه ومبغوض لله سبحانه وتعالى يكون فيه خير، وهو أنه يظهر به تفاوت المؤمنين ودرجاتهم عند الله تبارك وتعالى.
ويضرب رحمه الله لذلك مثلاً بالشمس والمطر والرياح، يقول: التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر، ألا ترون الشمس ألا تؤذي، فمن النَّاس من تؤذيه الشمس بلا شك، ولو أن إنساناً جلس في الشمس يوماً أو أكثر لمرض وتأذى، وقد تؤثر عَلَى بعض المحاصيل أو بعض المنتوجات، وقد تمرض وقد تضر بأنواع من الضرر، لكن إذا قدرنا هذا الضرر الحاصل من الشمس بالخير الذي يحصل منها، وكذلك لو نظرنا إِلَى آثار الشمس عَلَى الحياة وعلى النبات والحيوان والإِنسَان لوجدنا أن النَّاس يتحدثون عنها، وقد وجد العلم البشري من الآثار العظيمة والفوائد للشمس ما لم يكن يعلمه، ولم يكن يتوقعه من قبل، إذاً: فيها أضرار، لكن هذه الأضرار بالنسبة إِلَى المنافع العظيمة لا تعد شيئاً، فوجود شيء أو جانب مكروه في أمر فيه حكمة وفيه مصلحة وفيه خير، لا يلزم أن نلغي هذا الخير كله لمجرد وجود هذا الشيء المكروه، فهذا هو المقصود بالمثال.
وكذلك المطر: قد يهدم بيوتاً، ويغرق بعض الناس، لكن كيف يكون حال النَّاس لو لم ينزل هذا المطر؟ يحل بهم الجدب والقحط وأمور كلها مكروهة للناس نتيجة لانقطاع المطر ولعدم نزوله، وكذلك الرياح فكثير من النَّاس يتضايقون من الغبار ومن الرياح، لكن هل يعني ذلك أن الرياح لا تفيد، أو أن هذا الشيء المكروه كله شر؟! ففوائد الرياح عظيمة، مرسلة من عند الله سبحانه وتعالى، إن أرسلت بالخير جَاءَ الخير، وإن أرسلت بالشر جَاءَ الشر، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22] .
فجعلها الله سبحانه وتعالى لواقح، وهذا من الخير الذي تأتي به الرياح، لكن إذا أراد الله أن يهلك أمةً من الأمم بالرياح أهلكهم بها كما أهلك قوم عاد، أرسل عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات، فهلاك طائفة من النَّاس بالريح أو تضرر من محصولاتهم، أو أمور حياتهم ومعايشهم، لا يعني ذلك أنها شر محض، أو أنها لا تطلب، بل هذا الشر ضئيل محدود بالنسبة إِلَى ما فيها من الخير وإلى ما فيها من النفع العام ، إذاً المراد بهذه الأمثلة أن يتضح لدينا أنه قد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون مراداً من جهة، ومع ذلك مكروهاً مبغضاً من جهة أخرى، هذا بالنسبة للمخلوقين وكذلك بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
حصول العبودية المحضة
ثُمَّ يقول رحمه الله: [ومنها -أي من الحكم أيضاً- حصول العبودية المتنوعة، التي لولا خلق إبليس لما حصلت] لولا هذا العدو الشر المحض الذي لا يأتي بخير وهو إبليس، لولاه لما وجد خير عند كثير من الناس، ولما وجدت هذه العبوديات بالنسبة لله سبحانه وتعالى، التي تحصل من وجود هذا العدو الخبيث.
عبودية الجهاد
يقول المصنف: [فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه وتعالى] يحب الله سبحانه وتعالى الجهاد، ويحب المجاهدين في سبيله، ووعد المجاهدين في سبيله بأن لهم الجنة كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111] .
هذا بيع عقد بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام فلو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، لأنه من الذي يُجاهد؟ ومَنْ يُجاهد؟ لكن لما أن جَاءَ إبليس فاتبعه طائفة من النَّاس، فكفروا بالله، فكانوا أعداء الله، وفي المقابل آمنت طائفة من النَّاس، واتبعوا رسل الله، وعصوا إبليس، فكانوا أعداءً لأعداء الله، فسلط الله تبارك وتعالى أوليائه عَلَى أعداءه، فقاتلوهم فكان منهم الشهداء، وكان منهم من نال هذه المراتب العظيمة، وعذَّب أُولَئِكَ وأذلهم بأيدي المؤمنين، كما أنه إذا شاء عذبهم سبحانه وتعالى بعذاب من عنده، من الأرض أو من السماء، فيخسف بهم الأرض أو يغرقهم أو يرسل عليهم الصيحة أو يعذبهم بما يشاء من أنواع العذاب، إذا ًوجود إبليس هو سبب لوجود هذا الكفر، وهذا الكفر حصلت بوجوده عبوديات لله تبارك وتعالى من غير أُولَئِكَ الكفار وهم المؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، فلو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين؛ لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة في الله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه التي هي أوثق عرى الإيمان كما جَاءَ في الحديث (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) ومنزلة النَّاس من الإيمان بحسب منزلتهم من ولاية الله والمؤمنين وعداوتهم للشيطان وللكافرين، فكل إنسان هو من الإيمان بحسب منزلته من تحقيق هذه الولاية، وتحقيق تلك العداوة، فلا بد منهما معاً، ومن حقق كمال الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين وكمال العداوة للكفار ولإبليس اللعين، فهذا هو الذي بلغ الذروة والكمال في الإيمان كما كَانَ إبراهيم عليه السلام، وكما كَانَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده.
فلا تجد قوماً يؤمنون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم يوادون من حاد الله ورسوله، ولا يجتمع في قلب أحد من النَّاس حب الله سبحانه وتعالى وحب عدو الله إبليس، وحب الكفر والإيمان جميعاً.
هذه الموالاة والمعاداة نتيجة وثمرة لوجود الكفر ولوجود الشر، ولوجود مادة ذلك الكفر والشر وهو إبليس، فتنوعت العبوديات لله تبارك وتعالى، تبعاً لوجود هذا الشر الذي هو إبليس وأعوانه.
عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لو كان النَّاس كلهم مؤمنين ولم يكن في هذا الكون شر، ولم يُخلَق إبليس اللعين لما وجدت المنكرات، ولما وجدت عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل لو كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأتي بمجرد اللسان، أو بالأمر الهين لكان النَّاس كلهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم الصبر والمشقة والتضحية، ولعل في قول لقمان الحكيم لابنه وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] لعل في ذلك إشارة إِلَى هذه الحكمة وهي: أنه عقَّب عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر، والصبر أعم من أن يكون عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو أعم من ذلك، لكن كونه يأتي بعده فيه إشارة إِلَى رابطة بينهما، بأنه لا يمكن أن يأمر أحد بالمعروف، أو ينهى عن المنكر إلا ويبتلى، فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فاصبر عَلَى ما يصيبك، وأنت أيضاً مأمور بالصبر عَلَى الطاعة، ومأمور بالصبر عَلَى المعصية، ومأمور بالصبر عَلَى الأقدار، لكن في هذه الحالة بالأخص إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر فاصبر، كما قالورقة بن نوفل:{ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك} قالها للنبي صلى الله عليه وسلم لما أن نزل عليه الوحي، أي: ليتني أكون شاباً قوياً إذ يخرجك قومك حتى أنصرك نصراً مؤزراً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أو مخرجي هم} فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم لماذا يخرجونني، مع أن الناموس الذي كان ينزل عَلَى موسى نوراً وهداية جَاءَ به جبريل من عند الله، فهذا خير عظيم، أيخرجونني لأنني أنزل الله علي هذا الخير أو جئتهم به؟! فتعجب لأن الله لم يكن أخبره عن حال الأمم السابقة، وعن حال الرسل مع أممهم وأقوامهم، فالذي ينظر أول وهلة يتعجب، كيف يأتيكم ليدلكم عَلَى طريق الجنة ويباعدكم من طريق النَّار فتؤذونه، هذا شيء عجيب كيف يقع؟ قال ورقة:{ما جَاءَ أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} لأنه كان عنده علم من الكتاب، أي حتى ولو كنت تدل النَّاس إِلَى طريق الجنة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما قَالَ: {فأنا آخذ بحجزكم عن النَّار وأنتم تتهافتون فيها} ومع ذلك آذوه وضربوه ورموه وفعلوا به ما فعلوا، وهو آخذ بحجز هذه الأمة عن النَّار وهم يتهافتون فيها، فمن جَاءَ بهذا الدين لا بد أن يؤذى، ومن آثار هذه الحكمة أن يتعبد الله بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، ويتعبد بالصبر عَلَى ما ينال الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإلا لو تأمل العاقل لوجد أنه لا مصلحة في الدنيا لهذا الآمر في أن يأمرني، ولهذا فإن بعض النَّاس الذين لديهم شيء من البصيرة إذا قيل له: اتق الله. يتفكر ويقول: جزاك الله خيراً، يفكر في نفسه هل يريد هذا الإِنسَان أي مصلحة؟ لماذا أمرني ولماذا قَالَ: هذا حلال وهذا حرام؟ لا مصلحة له.
إذاً: جزاه الله خيراً فقد أخذني إِلَى الحق، سواءً عمل أو لم يعمل، كما قال الله: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً [هود:29] مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] ، لكن هَؤُلاءِ قليل، أما الأكثر فعكس ذلك تماماً يقابلك بالكلام البذيء والاستهزاء والسخرية، ولله تَعَالَى في ذلك حكمة، وإلا كان كل النَّاس آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، فإذا كان ذلك فكيف تكون ولاية لله؟ وكيف تعلم منزلة أبي بكر الصديق من غيره من المنافقين، الذين كانوا يحلفون ويقسمون أنهم مؤمنون، فالمسألة ليست مسألة أًيمان، فأي إنسان مستعد أن يحلف لك أنه يحب الله ويحب دينه، لكن الحقيقة تأتي في المحن وفي الشدائد والمكروهات، والله تبارك وتعالى لا يريد أن يعذب أوليائه، لكن ليظهر ظهور انكشاف، وإلا فهو تَعَالَى يعلم ذلك، وليعلم أيضاً الخلق أن هذا مؤمن صادق وأن ذاك منافق.
في غزوة تبوك خلفوا ثلاثة من المؤمنين -أي: تأخروا- عن الغزو، فندموا وتابوا، لكن المنافقين لم يفكروا في شيء، بل قالوا: يطمع مُحَمَّد ومن معه أن بني الأصفر "الروم" مثل قريش وغطفان، فكانوا يظنوا أن هذا نهاية الْمُسْلِمِينَ، ولهذا قالوا: قد أخذنا أمرنا من قبل، أي احتطنا وعرفنا أن المعركة خاسرة، فنحن نعرف متى نحارب ومتى لا نحارب، فكأن هذا من الذكاء والتخطيط، هكذا قال المنافقون وزين لهم الشيطان أعمالهم، فلما ظهر أمر الله وهم كارهون، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم منصوراً بإذن الله سبحانه وتعالى، وعاد إِلَى المدينة.
فالثلاثة الذين كانوا حقيقة يريدون الخروج وأعدوا له العدة، فكان من حالهم ما تعلمون، لكن المنافقين جاءوا إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، يحلفون له بالأيمان أنه ما منعهم إلا الحر، وآخر يقول: بنات بني الأصفر، وخاف الفتنة أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] وقد كان ذلك، والذي يقول غير ذلك، فكل واحد يأتي بالأعذار، فظهر التفاوت الكبير بين الذين لو خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أي مكان في الدنيا ما فارقوه قط، بل حتى وهم فيالمدينة، كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم (إن في المدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا وهم معكم حبسهم العذر) .
فالمعذورون الذين في المدينة تتقطع قلوبهم أنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لهم من الأجر كما لو كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل وادٍ ينزل فيه أو مكان أو مشقة أو جهاد أو نفقة، لأن قعودهم كان عن عذر، فلولا هذه الامتحانات وهذه الابتلاءات ووقوع هذا الخير، ووجود هذا الشر، لما ظهرت تلك العبوديات المتنوعة لله سبحانه تعالى، عبودية الصبر، وعبودية الجهاد، وعبودية كف النفس عن المحارم.
ألا ترون أن التبرج شر عظيم، وهو من أعظم أدواء الأمم، وما أصيبت أمة من الأمم بالتبرج والاختلاط، إلا وكان عاقبتها الدمار، فكل الحضارات الماضية لما تفشت فيها هذه الأمور دمرت، لكن مع أن هذا شر ويجب أن يقاوم وأن يحارب فيه وجه من الخير، فالذي يغض بصره عن هَؤُلاءِ المتبرجات ليس مثل الذي لم ير شيئاً فهو غاض النظر، فظهر في ذلك حكمة لله سبحانه وتعالى -هذا وهو مكروه ومبغض- وهو أن هنالك من ترفَّع عن هذه الشهوات، وترفَّع عن هذه الرذائل، وينظر إِلَى ما عند الله ويقاوم هذا الشر ويحاربه، إذاً في هذا الشر حكمة ولوجوده حكمة.
عبودية التوبة والاستغفار
وأيضاً هناك من الحكم حصول عبودية التوبة والاستغفار، فالرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً، ثُمَّ سأل ذلك العابد الجاهل هل لي من توبة؟ قال: لا. فأكمل به المائة، فهو لا يزال في شدة قوة الاندفاع للشر، وعندما لم يجد من يفتح له باب الخير ظهر ما كَانَ كامناً عنده من دافع الشر، فأكمل به المائة، فلما ذهب إِلَى العابد العالم وأرشده إِلَى التوبة وأن يذهب إِلَى بلدة كذا، لكي يكون هنالك في البيئة الإسلامية الحسنة، بيئة الطاعة لا بيئة المعاصي، لما حصل ذلك حصلت هذه العبودية العظيمة عبودية التوبة، ألا ترون أن قتل مائة نفس مفسدة عظيمة جداً.
فقتل نفس واحدةٍ مفسدة عظيمة، فكيف قتل مائة نفس؟ لكن حصل من ذلك وتضمن مصلحة عظيمة وهي أن هذا الرجل تاب توبة عظيمة، حتى أن الله تبارك وتعالى أمر أن تنقبض هذه الأرض، وأن تمتد تلك، لكي تقيس الملائكة فإذا قاست فيكون أقرب إِلَى أرض الخير، سُبْحانَ اللَّه! هذا الذي فعل هذا الفعل وارتكب هذه الجرائم، ومع ذلك يكرمه رب العزة والجلال الغني عنه وعن عبادته وعن توبته بهذه الكرامة، لأن التوبة لها عند الله سبحانه وتعالى شأن عظيم، فلولا تلك الذنوب لما كانت تلك التوبة، والذنوب مكروهة ومبغضة، ولكن التوبة محبوبة مرضية لله، فاجتمع هذا وهذا، وكان هذا الذي هو الخير نتيجة لذلك الذي هو الشر.
عبودية الاستعاذة
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه] وجود إبليس يكون فيه عبودية من جهة، فالإِنسَان المسلم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في كل وقت ويقرأ الأدعية ويذكر الله، ويخاف من أذى هذا اللعين، ويقرأ المعوذات التي تعيذه من الشيطان، ويخاف من هذا العدو أن يباغته فيدله عَلَى شر أو يقحمه في ذنب، كل هذا يجعل المؤمن متصلاً بالله عز وجل، دائماً ذاكراً لله متيقظاً مراقباً لنفسه ولأحواله من هذا العدو، فحصل بوجود هذا العدو خير، وعبوديات لله سبحانه تَعَالَى ما كانت لتحصل لولا هذا العدو، وهكذا.
فَيَقُولُ: [إِلَى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] إذاً نقول: وجود إبليس ووجود الشر الذي يقود هَؤُلاءِ القدرية إِلَى أن يقولوا: إنه لا يمكن أن يقع أو ينسب الشر إِلَى الله، وأنه لا يقع بمشيئة الله، نقول لهم: بل وجوده فيه من الحكم العظيمة، ما تعجز العقول عن إدراكها.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[فإن قيل: فهل كَانَ يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟
فهذا سؤال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب. والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال يرد عَلَى وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إِلَى محبوبه، وإن كَانَ يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضا؟؟ فهذا سؤال له شأن.
فاعلم أن الشر كله يرجع إِلَى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إِلَى خلافه. وحركتها من حيث هي حركة: خير، وإنما تكون شراً بالإضافة، لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية] اهـ.
الشرح:
بعد أن بين المُصنِّفُ رحمه الله الأمثلة والحكم الكثيرة في وجود الخير والشر، وما تضمنه الخير والشر من المصالح العظيمة أورد سؤالاً قد أثاره أهل البدع والقدرية من قبل.
وهذا السؤال هو أن يقَالَ: فهل كَانَ يمكن وجود تلك الحكم بدون تلك الأسباب، أي: قد يقول قائل: هناك حكم من الشر وهناك حكم من وجود سبب الشر وهو إبليس، لكن ألا يمكن أن توجد الحكم مع عدم وجود الأسباب؟ هذا من الناحية العقلية سؤال يرد، فأجاب المُصنِّفُ عنه فقَالَ:[هذا سؤل فاسد! لأنه فرض وجود الملزوم بدون لازمه-أي- كفرض وجود الابن من غير الأب] ووجود الأبناء أمر محبوب ومراد ومطلوب، فلو أتاك رجل فقَالَ: ألا يمكن وجود ابن من غير أب أو من غير زواج؟ فإنك تقول له: هذا السؤال فاسد؛ لأن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن ترتب هذه الأسباب وتكون النتائج تبعاً لتلك الأسباب، فهذا نتيجة ذلك، فسؤالك عن وجود النتائج مع عدم الأسباب هذا سؤال فاسد لا يقبل.
إذاً فالسؤال: ألا يمكن أن تقع الحكم التي أرادها الله من وجود الشر مع عدم وجود الشر، هذا أيضاً سؤال فاسد ولا يرد، لأن هذه الحكم لا توجد ولم توجد إلا مرتبطة بوجود ذلك السبب الذي نتجت منه، وكذلك [وجود الحركة بدون متحرك] نفس الشيء، فقد اقتضت حكمة الله أنه لا يمكن أن توجد حركة إلا بوجود متحرك، [ولا توبة إلا بوجود تائب] هذا هو المقصود بكلام المُصنِّفُ هذا.
إذا كانت أقدار الشر لحكمة فهل يحبها الله من وجه؟
وبعد ذلك أثار إشكالاً آخر أدق من ذلك وأغمض، لكن يمكن أن نوجزه رغم أن المُصْنِّف أطال فيه. وهذا سؤال يرد عند بعض النَّاس فيقولون: إذا كانت هذه الأسباب يعني: "إبليس، الكفر، الشر"، مرادة لما تفضي إليه من الحكم كما سبق، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه؟، أي هل نقول: إن الله يرضى وجود إبليس ووجود الكفر، ويرضى وجود التبرج، لما ينشأ منه من فوائد وحكم وإن كَانَ مسخوطاً من حيث ذاته أو من حيث كونه معصية من أوجه أخرى؟ أو نقول: إنها مسخوطة من جميع الوجوه بإطلاق؟
السؤال يرد عَلَى وجهين [أحدهما: من جهة الرب تَعَالَى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إِلَى محبوبه، وإن كَانَ يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن] هذه القضية لها جهتان: من جهة الله سبحانه وتعالى: هل يكون محباً لهذه المعصية؛ لأنها تفضي إِلَى طاعات وإلى عبوديات له سبحانه وتعالى، ويبغضها لذاتها، ويكرهها ويعذب من فعلها ويمقته ويمقتها؟ هذا من جهة الرب.
ومن جهة العبد: هل يسوغ للعبد أن يرضى بها من تلك الجهة؟
لا يوجد مسلم يرضى بالمنكر، لأنه ليس وراء الإنكار بالقلب من الإيمان مثقال ذرة، وقد لا يستطيع الإِنسَان أن يغير باليد أو باللسان، لكنه لا بد أن يكرهه بقلبه، فلا يوجد مؤمن يرضى المنكر بقلبه، فإذا جَاءَ أحد وقَالَ: أنا مؤمن وأكره هذه المنكرات، لكن من جهة أنها صدرت من الله، وأن لله تَعَالَى حكمة في صدورها، فأنا أرضى عنها من هذه الجهة، لا من جهة أني أقرها ولا أكرهها، لكن هناك فرق عن كونها ذنباً إِلَى كونها مصيبة، فأكل الربا أو شرب الخمر أو الزنا أو التبرج، إذا نظرت إليها من جهة أنها ذنوب فموقفك منها الإنكار المطلق، لكن إذا نظرت إليها من جهة أنها مصائب، فأنا من هذه الجهة راضي بالقدر، لكن لا يرضى من جهة المعصية، فالجهة منفكة، والمصنف رحمه الله لم يأت بجواب حاسم في المسألة، ولهذا وضحناها وقلنا: إنه يمكن أن تُرضى من جهة كونها مصيبة لا من جهة كونها معصية، فالجهتان تختلف.
نعم المعصية هي في نفس الوقت مصيبة، لكن كونها معصية لا ترضى، والمصنف رحمه الله هنا رد الأمر إِلَى أصل آخر ليبين لنا كيف نفهم هذه القضية وأمثالها، يقول:[فاعلم أن الشر كله يرجع إِلَى العدم] الشر كله مرجعه إِلَى عدم الخير، وعدم الأسباب المفضية المؤدية إليه، فهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، ووضح ذلك، بأن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، والنفوس الشريرة، أتاها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها في الأصل خلقت متحركة، فأصل وجود إبليس كمخلوق من خلق الله، ويتحرك.
فهذا الأصل في ذاته خير، مجرد أنه موجود وله قدرة عَلَى أن يتحرك وأنه يخاطب وأن يتكلم، لكن الشر جَاءَ من أن الله سبحانه وتعالى خذله وقطع عنه مادة الخير فأصبحت حركته في الشر، فليس الشر ناتجاً من وجوده ومن حركته، وإنما من عدم إمداده بالخير، وبانقطاع مادة الخير عنه، يقول: لأنها خلقت في الأصل متحركة، فإبليس أو الثعابين أو العقارب أو أي شيء من النفوس التي هي نفوس شر، خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إِلَى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة لا توصف بالخير ولا بالشر، لكن من جهة أن الله أوجدها خير، وإنما تكون شراً بالإضافة؛ لا أن الحركة نفسها شر، فكونها حركة ظلم أو حركة عدوان أو حركة بغي أو حركة بطش.
إذاً هي شر بالإضافة، لا أنها مجرد حركة أو مجرد وجود، والشر كله ظلم، والظلم يعني: وضع الشيء في غير محله، إذاً: فالشر كله ظلم، إذاً عرفنا أن الشيء في ذاته يختلف عن الشيء في الإضافة، فالشيء في ذاته ووجوده في ذاته لا يكون شراً ولا خيراً، وهو بالنسبة إِلَى إيجاد الله له خير، لكن بالنسبة إِلَى إضافته إذا وضع في غير موضعه أصبح شراً، يقول:[فجهة الشر فيه إذاً نسبية إضافية] ، وضرب لذلك مثلاً بالعقوبات، مثل قطع يد هل هو خير أو شر؟ ننظر إِلَى السبب، فإذا قطعت يده من أجل أنه أراد أن يمدها إِلَى خير -إِلَى أمر بمعروف أو نهي عن منكر- فقطعت يده فهذا يكون شراً، وإن سرق مالاً من حرز معصوم فقطعت يده فهذا خير، فجاء الخير من أن الحركة وفقت، وكانت فيما يرضي الله، وجاء الشر من انقطاع مادة الخير، فهو إضافي وليس لذات الفعل المجرد.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إِلَى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه، والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كَانَ إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً.
فإن قيل: لِمَ تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشَرِ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير. فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة:(الإيجاد، والإعداد، والإمداد) ، فإيجاد هذا خير، وهو إِلَى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده.
فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده. فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده] اهـ.
الشرح:
العقوبات مثال من الأمثلة التي تؤيد أن الأمر قد يكون شراً من جهة، وخيراً من جهة أخرى، فالرجل الذي يسرق، ثُمَّ تقطع يده، فإن هذا بالنسبة إليه شر، لكن من إِلَى جهة أخرى فإنها خير.
ثُمَّ يقول: [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالّها خيراً في نفسها] فقوله: [الموضوعة في محالها] تخرج بذلك فيما لو عاقبت إنساناً بعقوبة، أو حدٍ وهو بريء، وإنما المقصود بقوله:[في محالّها] أي: المحل الذي وقعت في ذلك الرجل الذي عُوقب بهذه العقوبة، وذلك الحد، ثُمَّ يقول [لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة، مستعدة له] فطبيعة ذلك الإِنسَان لا تريد الألم، وإنما تسعد وترغب في اللذة والراحة، لكن حصل لها الألم بذلك الحد، ثُمَّ يقول:[فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه] أي: أنه خير بالنسبة إِلَى الفاعل، وكذلك للمجتمع جميعاً، حيث وضعت العقوبة في موضعها.
لا يوجد في خلق الله شر محض من جميع الوجوه
ثُمَّ يقول: [فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات] وهذا هو وجه تنزيه الله عن كون الشر ليس إليه، [فإن حكمته تأبى ذلك] أي أن الله تَعَالَى حكيم، وحكمته تأبى أن يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، وإنما يخلق شراً وفيه جوانب من الخير، ويحقق به حكماً ومصالح، فَيَقُولُ:[فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال] أي: محال عن ذي العزة والجلال المتصف بصفات الكمال، أن يكون هذا من شأنه [فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه] وهذا معنى نفي الشر عن الله وتنزيه عنه [والشر ليس إليه] .
[والشر ليس إليه] هذه اللفظة يفهمها أهل السنة فهماً مغايراً لفهم المعتزلة لها، يقول أهل البدع: إن معنى والشر ليس إلى الله أي: أنه لم يخلق أفعال العباد، فالعباد إذا عصوا وفعلوا الموبقات والمنكرات، يقولون: إن الله لم يخلقها، فإن قلنا: إن الله خلقها أو شاءها وقدرها، فنكون قد نسبنا الشر إِلَى الله، والشر ليس إليه.
أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيعنون بقول: [والشر ليس إليه] أي: ليس إليه شراً محضاً بوجه من الوجوه، أما إذا كَانَ الشيء قد يبدو شراً وفيه خير، أو هو شر بالنسبة إِلَى المخلوقين، ولكن فيه خيراً بالنسبة إِلَى حكمة الله، وإرادة الله، فإن هذا لا يسمى شراً، فتنزيه الله عن الشر أي: أنه تَعَالَى منزه أن يخلق أو يريد أو يشاء شراً، لا خير فيه بوجه من الوجوه، ويلاحظ الفرق بين المذهبين.
ثُمَّ يقول: [بل كل ما إليه فخير] أي: كل ما إِلَى الله هو خير، حتى وإن كَانَ شراً في ذاته، فهو من جهة نسبته إِلَى الله خير، ويأتي الشر من جهة أخرى.
أقدار الله خير ومعصية العبد شر
قوله: [والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه] أي: أنه إذا كَانَ فيه جهتان: من جهة كونه من الله فإنه خير، ومن جهة كونه من غير الله أو فيه نسبة إِلَى غير الله فإنه شر، ثُمَّ يقول:(فلو كَانَ إليه لم يكن شراً فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً) يعني: إذا أحد عصى الله -كأن يزني مثلاً عياذاً بالله- فهذا من جهة أن الله قدره فهو خير، لأن الله سبحانه وتعالى لم يقدر شيئاً إلا لحكمة، ولأمر قد نعلمه، وقد لا نعلمه، لكن من جهة أن العبد عصى الله وانتهك ما حرم الله، فهذا شر بلا شك، لكن إذا نظرنا إليه من جهة أنه مراد لله مقدر بقدر الله، فهو خير لله تَعَالَى فيه حكمة سواء علمناها أو لم نعلمها.
اعتراض القدرية ورده
أورد القدرية إشكالاً وهو قول المصنف: [فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة] أي: من حيث أن الله خلقه وشاءه وأوجده، لأن الله تَعَالَى خالق كل شيء، فلا يكون في الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته، فيقولون: إذاً هذا شر، فلم تنقطع نسبته إِلَى الله من جهة كونه خلقاً ومن جهة كونه مشيئة لله سبحانه وتعالى، قَالَ المُصْنِّفُ راداً عليهم:[قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر] هذا الفعل من جهة الخلق، والمشيئة، ليس بشر [فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر] وجود الأشياء من حيث هي موجودة [كالنفوس الشريرة] وجودها وحركتها في ذاتها ليس بشر.
ثُمَّ يقول: [والشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه] هذا مثل ما ذكر المُصْنِّف سابقاً حيث قَالَ: [فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تُرِكت تحركت بطبعها إِلَى خلافه] إذاً: الشر إنما جَاءَ من عدم إعانتها بالخير، أي من كونها وكلت إِلَى طبائعها، وإلى ذواتها، وهكذا، لو أن الله سبحانه وتعالى وكلنا إِلَى أنفسنا لهلكنا، ولهذا كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، فالكفار خلى الله بينهم وبين أنفسهم فخذلوا خذلاناً بيناً، وليس ذلك لأن وجودهم شر، فإن الله سبحانه خلقهم، فخلقه ومشيئته في إيجادهم وخلقهم هو خير، وإنما جاءهم الشر من جهة أنهم خُذلوا، لأن الله سبحانه وتعالى لم يمدهم بأسباب الهداية، فتركوا لأنفسهم، فجاء الشر من أنفسهم، ومن شياطينهم، ومن أعمالهم التي ارتكبوها.
يقول: [فالشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير] أي أن العدم لا ينسب، لأنه شيء لا وجود له، والعدم ضد الوجود، فليس بشيء حتى ينسب، فالله سبحانه وتعالى كما قَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] وقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36] .
فبعث الله تَعَالَى الرسل، ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وأقام الرسل حجة الله تَعَالَى عَلَى الخلق فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أمده الله تَعَالَى بالهداية، وتفضل عليه بأسبابها، ووفقه لها وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ومنهم من لم يمده الله تَعَالَى بتلك الأسباب ولا با التوفيق، بل تركه إِلَى نفسه مع أنه رأى بعينه آيات الله البينات، ورأى معجزات الأَنْبِيَاء وغيرها، ولكنه لما وكل إِلَى نفسه خذلته فلم يؤمن، كما هو حال قوم فرعون، فإن الله ابتلاهم بالجراد والقمل والضفادع والدم، وكلما جاءتهم آية جاءوا إِلَى موسى عليه السلام وَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ [الأعراف:134] .
فإذا كشف الله تَعَالَى عنا، فإننا سوف نؤمن بك، فلما كشف الله عنهم ذلك، لم يلبثوا إلا أن يعودوا إِلَى ما كانوا عليه، فهَؤُلاءِ النَّاس جاءهم الشر من عند أنفسهم، حيث إن الله لم يوفقهم بل خذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، ولما وكلوا إليها هلكوا، مع أن الله أعطاهم أسباب الهداية، فرأوا الآيات البينات والدلائل الواضحات، لكنه لم يمدهم في أنفسهم بما يجعلهم مهتدين، فعدم إمدادهم بذلك ليس شراً، لأنه عدم محض، وليس أمراً وجودياً حتى ينسب إِلَى الله سبحانه وتعالى، ثُمَّ يقول:[والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير] .
فحكمته عز وجل أنه يختص برحمته من يشاء، فأعطى أقواماً ومنع آخرين، فلما منعوا جاءهم الشر، لأن نفوسهم مقطوعة عن خير الله، وعن فضله، فتحركت بناءً عَلَى أن ما لديها هو الحق، ومع تزيين الشيطان لها ذلك وقعت في الشر الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى.
ثُمَّ يقول: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة، الإيجاد، والإعداد، والإمداد] فأمَّا الإيجاد: فقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى لم يوجد إلا ما هو خير، أي أنه ليس شراً من جميع الوجوه، ثُمَّ إن أعده أو أمده بالخير فهنا يكمل الخير، ثُمَّ يقول:[فإيجاد هذا خير] أي: إيجاد الذي هو شر هو خير بالنسبة إِلَى الله، [وكذلك إعداده وإمداده، فإن لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد] أي: بقي أنه موجود، وبقي أنه مراد، وأنه داخل في المشيئة، ولكن لم يعده الله للخير، ولم يمده بالخير.
الشر في الأسباب وليس في الخلق والوقوع
ثُمَّ يقول: [حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده] فهذا إيضاح لما تقدم، وهو أن كونه خلقه الله عز وجل لا يعني أنه من هذه الصفة أو الجهة شراً، لكن من جهة أن صاحبه فعله يكون شراً بعد قيام الحجة عليه. ووجود أسباب الهداية بين يديه، فلو أنَّ أحداً فعل ذنباً محرماً، وهو لا يعلم، كَانَ يكون معذوراً بأي سبب من أسباب العذر.
فإن جهة الشر أيضاً تنتفي منه من الناحية الشرعية، أي أنه لا يسمى شراً شرعاً إلا ما كَانَ متوفراً فيه الشروط التي وضعها الشرع، لاعتبار ذلك شراً أو جريمة أو منكراً أو معصية، فإذا حصلت ولم يتوفر شروطها لعارض من العوارض أو سبب من الأسباب، فإن ذلك لا يكون شراً ولا مكروهاً، مثل حال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يعذبون، حتى أن أحدهم يمر به الجعل، وهو الحيوان المعروف، فيقول له الكفار: قل هذا ربي.
فَيَقُولُ: من شدة التعذيب والأذى والتعب: هذا ربي، وهذا الكلام في ذاته شر، لكنه شرعاً ليس بشر، لأن الله تَعَالَى يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان [النحل:106] فهو لم يقل الكفر عَلَى جهة الإنكار للحق والعناد، وإنما قاله وهو مكره، إذاً مجرد الخلق والوقوع والتقدير ليس بشر، وإنما لتوفر أسباب وشروط تجعله شراً أو تجعله خيراً.
ومعنى [إليه ضده] أي: إنما ينسب إِلَى الفاعل أي "الله" ضد ذلك الذي هو الخير، أو "إلى ضده" أي ينسب إِلَى ضد الله الذي هو ضد الخالق وهو الفاعل، ثُمَّ يقول: فإن قيل (هلَاّ أمده إذ أوجده) هذا الإشكال معناه أي: ما دام أن الله أوجده وخلقه، فلماذا لم يمده كما أن هناك أشياء خلقها وأمدها؟ والجواب هو قول المصنف:[ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده] ، حكمة الله عز وجل لم تقتضِ أن يخلقه، ويمده، ولكن له حكمة في أنه خلق أشياء، وأمدها، وخلق أشياء ولم يمدها، وبهذا يتضح الإشكال الذي سيذكره المُصْنِّف بعده.
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم، فراجع قول القائل:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إِلَى ما تستطيع
]] اهـ.
الشرح:
هذا الإشكال تابع لما قبله، فأولاً قالوا: إذا أوجده لماذا لم يمده؟
فيُقَالُ: إن الحكمة اقتضت إيجاده ولم تقتضِ إمداده، ثُمَّ قالوا:[فهلا أمد الموجودات كلها فهذا سؤال فاسد] معنى هذا: أنه يقول: لماذا لم يخلق الله الشياطين والبشر عَلَى نسق الملائكة؟ أو لماذا لم تكن الموجودات جميعاً ملائكة؟ فنقول: هذا سؤال فاسد، فإن الحكمة فيه الآن متحققة خلاف ما لو كانت المخلوقات عَلَى نسق واحد، إذاً فما وقع من الشر في الكون، فهو من جهة المخلوقات التي خلقها، ولم يمدها بأسباب الخير، وهنا يجب ملاحظة الفرق بين قولنا: لم يمدها بأسباب الخير وبين قولنا: إنه لم يبينها، فإن الله تَعَالَى بيَّن لأهل الشر هذا الشر، وأقام الحجة عليهم.
لكن لم يوفقهم للعمل به، ولم يمدهم بالأسباب، عَلَى أن يكونوا من أهل الخير، فخذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، فهم يعلمون أنه شر فاختاروه، وعصوا الله عَلَى علم، وكفروا به عَلَى بينة.
هل التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة؟
ومورد ذلك السؤال الفاسد هو ظنهم (أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة) فنرد عليهم بقول المصنف: [هذا عين الجهل، بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء] فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت وقع لأمور عدمية يتعلق بها الخلق، وقوله تعالى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] أي: فليس عدم التفاوت المنفي عن الله أنه لم يخلق شراً وخيراً وحقاً وباطلاً، فوجود الأنواع المختلفة ليس تفاوتاً، بل هو عين الحكمة، أما لو خلق الله اثنين من نوع واحد وكلاهما عَلَى الهدى وهما في العمل الصالح، ثُمَّ جعل هذا في الجنة وهذا في النار، فهذا هو التفاوت، ولكن ما دام أن هذا نوع وهذا نوع، وهذا خير وهذا شر.
فليس هناك تفاوت، والطاعة قد تكون خيراً من إنسان، وقد تكون شراً لآخر، فليس في هذا تفاوت من جهة أنها نوعين طاعة ومعصية، إنما يكون التفاوت إذا كَانَ النوع واحداً من جنس واحد، بشروط واحدة وحصل بينهما اختلاف، ولا يأت التفاوت لكون العباد عَلَى نوعين، نوع خير ونوع شر والتفاوت الذي هو تفاوت لا يليق أن يكون من أحد النوعين المتماثلين، فيكون في أحدهما ما يختلف عن الآخر، [فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت] مجرد الإيجاد ليس فيه تفاوت، وإنما حصل الاختلاف في الإعداد والإمداد، فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها، أي ما دام أنه أوجده فلماذا لم يمده؟
الفرق بين الإيجاد والإمداد
هناك فرق بين الخلق والإيجاد، وبين الإمداد وبين العمل الذي نعمله، فكل الأشياء من جهة أن الله خلقها هي خير، إذ لا يخلق الله سبحانه وتعالى شراً محضاً من جميع الوجوه، وجاء الشر لبعضها من عدم إمدادها بالخير إضافة إِلَى الخلق في ذاته، فهذا المخلوق يعامل عَلَى أنه فاعل يتحرك، إذا أمده الله بالتوفيق تحرك في الخير، وإن تركه ولم يمده تحرك فيما طبع عليه، وما دعته نفسه وشيطانه وهواه إليه، وإن كَانَ الحق واضحاً أمامه، فإن قيل: هلا أمد الموجودات كلها، معنى ذلك ألا يوجد في الكون شراً بإطلاق.
الجواب: أن هذا السؤال فاسد، مورده يظن أن الحكمة أن تكون جميع المخلوقات كلها خيراً، فإذا وجد خير وشر في نظره فقد وجد تفاوت، لكن إذا كانت كل المخلوقات خير لم يحصل تفاوت والله تَعَالَى يقول: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] فرد المُصْنِّف عليه بقوله: الحكمة في هذا وجود هذا التفاوت للأسباب المتقدمة، فالتفاوت الذي ينافي الحكمة ليس في أنه يوجد أنواعاً مختلفة، وإنما التفاوت أن يكون في النوع الواحد، ليس في كون الله سبحانه وتعالى خلق محمداً صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق، وخلق في المقابل إبليس، وهذا شر الخلق، فهذا تفاوت كبير. فهناك حكمة عظيمة أن يوجد هذا التفاوت، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105] هَؤُلاءِ في الجنة، وهَؤُلاءِ في النار، وقد ظهرت بذلك الحكم العظيمة التي تقدم بعضها. ثُمَّ يقول:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إِلَى ما هو تستطيع
أي: أن هذه الأمور يوردها بعض الذين ينكرون القدر، ويستفسرون عن هذه الإشكالات، لكن نقول لهم: الشيء الذي لا تستطيعونه، ولا تفهمونه دعوه وجاوزوه، إِلَى الذي تستطيعونه وهو التسليم والإقرار.
والأصل في باب القضاء والقدر هو التسليم، كما جَاءَ جبريل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان فقَالَ:(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، ولا يمكن أن يعجز أهل السنة عن الأجوبة العقلية، لأن الله سبحانه وتعالى لم ينزل هذا الدين إلا وهو موافق للعقول السليمة، لكن العقول المريضة والعقول السقيمة، هي التي لا تستطيع أن تفهم ما أنزل الله، فتعارضه أو تضرب بعضه ببعض، فلذلك تجد أن الجبرية أو القدرية أخذت ببعض الدين وأنكرت البعض، لكنأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لا يردون أي حديث ولا أي خبر يأتي من كلام الله ومن كلام رسوله، فيؤمنون بالجميع ويسلمون للجميع.
أقدار الله الكونية يجب الرضى بها
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:
[وأما الوجه الثاني وهو الذي من جهة العبد فهو أيضاً ممكن بل واقع فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني فيرضى بما من الله، ويسخط ما هو منه، فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً وقولهم يرجع إِلَى هذا القول؛ لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته، وسر المسألة: أن الذي إِلَى الرب منها غير مكروه والذي إِلَى العبد مكروه] اهـ.
الشرح:
نوضح ما ذكره المُصْنِّف بمثال: وهو أن إنساناً له قريب لا يصلي، فإن هذا الإِنسَان يكره هذا العمل كراهية شديدة، ويكره هذه المعصية من قريبه ويتألم من وقوعها منه، لكن إذا جَاءَ أحد فَقَالَ له: يا أخي هذا كله بقدر الله، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصبر عَلَى أقدار الله، فإذا كَانَ أبوك لا يصلي أو أمك لا تصلي فلا بد أن تصبر، فهذا قدر الله وهذا أمره، فارض بما كتب الله: أما وقوع المعصية من جهة العبد فليس بمرضيٍ، لكن وقوعه من جهة أقدار الله تَعَالَى مرضي، فنحن نرضى به.
ثُمَّ قَالَ: [فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان] ولو قال: من أهل الإيمان لكان أفضل، وهم الذين قالوا: نرضى بكل ما هو من جهة الله وقدره، ونسخط المعاصي من جهة العبد، [وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً وقولهم يرجع إلى القول الأول] فكرهوها من جهة أنها معصية لا من جهة أنها قدر من الله سبحانه وتعالى، يقول:[لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته] وإنما يريدون أنها مخالفة شرعية لأمره ونهيه، وهذا هو سر المسألة وخلاصتها: أن الذي إِلَى الرب منها غير مكروه، والذي إِلَى العبد مكروه.
وهذان القولان: القول بالرضى، والقول بعدم الرضى وأنهما يرجعان إِلَى أصل واحد، يذكرنا بما سبق في حديث احتجاج آدم وموسىلما قال:(أنت موسى الذي كلمك الله، واصطفاك برسالته، وكتب لك التوراة بيده، تلومني عَلَى أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن يخلق السماوات والأرض بأربعين سنة، فَقَالَ النبيُ صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) .
وهذا الحديث لا حجة فيه للجبرية الذين يقولون: نعمل المعاصي ونقول: قدر الله ذلك، لأن هناك مصيبة وهناك معصية، فالمعصية هي أكل آدم من الشجرة، والمصيبة هي: الخروج من الجنة.
فموسى عليه السلام لامَ آدَمَ عليه السلام عَلَى المصيبة لا عَلَى المعصية، فاحتج آدم بالقدر عَلَى المصيبة، والاحتجاج بالقدر عَلَى المصيبة جائز وصحيح، وبعض العلماء قالوا: الذنب أيضاً يحتج بالقدر عليه من جهة وقوعه قدراً، وهذا الوجه هو الذي يناسبنا هنا، فآدم لم يحتج عَلَى الذنب من جهة أنني أعمله وأستمر -كما فعل إبليس- ولكن من جهة وقوع المعصية بقدر الله عَلَى الجهة المكروهة.
فخلاصة المسألة: العلم بأن ما كَانَ منها إِلَى الله فهو غير مكروه وليس فيه شر، وأن ما كَانَ منها -من أفعال الشر التي يفعلها الخلق- بالنسبة إِلَى العبد فهو مكروه، فالكراهة جاءت من فعل العبد ومن عمله.
قول الجبرية مردود عند جميع العقلاء
والتساؤل الثالث:
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[فإن قيل: ليس إِلَى العبد شيء منها قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إِلَى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين] اهـ.
الشرح:
إن الجبر الباطل هو: أن لا نجعل للعبد أي إرادة لأعماله، ولا نجعل له نسبة ولا إضافة في أعماله التي يعملها، ومن الجبر الباطل أن نجعل أعمال الإِنسَان الإرادية الاختيارية حين يأكل أو يشرب أو ينام أو يطيع أو يعصي مثل الريشة في مهب الرياح ليس لها أي إرادة، أو أن حركته بيديه أو بعينه مثل حركة قلبه حينما ينبض، وهذا قول لا يوافق عليه عاقل، وقد اتفق جميع العقلاء عَلَى نبذه ومخالفته.
ولهذا قلنا كما سبق: إن القدرية الجبرية ليس لهم شبهة وقولهم مخالف للعقل والنقل ولهذا لا نشتغل كثيراً بإبطال مذهبهم، أما القدرية النفاة فإن في كلامهم من الشبهات والاحتمالات ما قد يلتبس عَلَى كثير من النَّاس، ولذلك أطال العلماء في إيضاح هذه الشبه والرد عليها.
وسطية أهل السنة في أفعال العباد
ثُمَّ يقول المصنف: [هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إِلَى التخلص منه من الجبري] أي: القدري المنكر أقل شراً ممن يقول؛ بالجبر لأنهم ينسبون الشر والفساد والذنوب إِلَى العباد ولا ينسبون ذلك إِلَى الله تَعَالَى، بخلاف قول الجبرية تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ومذهب أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، وأن العباد فاعلين لها حقيقة.
وخلاصة ما تقدم أن الجبرية يقولون: إن الله هو الفاعل لأفعال العباد، والقدرية النفاة يقولون: إن العبد هو الخالق، أما أهْلُ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فكما قال المصنف:[وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين] فليس ثمت إشكال يواجههم في قضية أفعال العباد.
فمعاصي العباد كلها بقدر الله وقضاءه وموافقة لإرادته الكونية القدرية، ولكنها مخالفة لإرادته الشرعية -لأمره ونهيه- ولهذا يؤاخذ عليها أصحابها ويعاقبون لأنهم فعلوها بإرادتهم، وهذه الإرادة تابعة لمشيئة الله، فإن فعلوا خيراً جوزوا به، وكان ذلك جزاءً لما فعلوه بإرادتهم واختيارهم من الطاعات، وإن فعلوا شراً عوقبوا به، وكان ذلك جزاءً عَلَى ما فعلوه بإرادتهم وباختيارهم من المعاصي والقبائح.
يقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة؟] اهـ.
الشرح:
تقول الصوفية: مادام أنه لا يقع شيء في الكون إلا بحكمة الله ومشيئته سبحانه وتعالى، فلو شاء الله لما وقع ولا كان.
فكيف يكون الندم عَلَى ما يقع؟! وكيف تكون التوبة مما وقع؟ وكيف ننكر هذا المنكر وهو إنما وقع بمشيئة الله، ولله فيه حكمة؟! فهذا هو المنزلق الخطير الذي، ضلت فيه طوائف كثيرة جداً، وتقول الصوفية: لا بد أن يشهد الإِنسَان قدر الله، ويشهد الحكمة في هذه الأفعال التي تقع من العباد، ومعنى ذلك أنه يُسلم لكل ما يقع، وقد صرح أكثر الصوفية بعدم الاعتراض فيقولون: لا تعترض عَلَى أي شيء يقع، لأنك لا تبصر ولا تدرك سر الله تَعَالَى في القدر، وبعضهم إذا رأى منكراً وقيل له: هذا منكر قَالَ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112] أي: اتركهم عَلَى منكرهم. هكذا زعموا، نعم لو شاء ربك ما فعلوه ولا شك في ذلك، لكن الذي شاء أن يقع هذا المنكر، أمر وطلب منك أن تنكره، فلماذا تأخذ الأمر من جانب واحد وتترك الجوانب الأخرى؟
من مضار هذا الفهم بالأمة الإسلامية
وقد وقع الانحراف الكبير في واقع حياة الأمة الإسلامية، وأدى إِلَى مصائب عظيمة وإلى حوادث فظيعة منها ما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله، أنه لما دخل هولاكو بغداد عاصمة الإسلام وهي أكبر مدينة في العالم في ذلك الوقت، وقتل فيها عَلَى أقل تقدير 800 ألف مسلم، وكلهم منأهل السنة، لم يقتل من الرافضة أومن النَّصَارَى أومن الباطنية أحداً، لأن الوزير الذي دلّه وأدخله كَانَ رافضياً.
وبعد أن قتلوا 800 ألف مسلم -بل ذكر بعض المؤرخين أنهم مليونين- خرج هولاكو وكان يمشي في شوارع بغداد، وإذا بشيخ أكبر الطرق الصوفية آخذ بعنان فرس هولاكو ويقوده بعد أن قَتل من قَتل، فرآه فقيه كَانَ متخفياً ولديه شيء من الفقه، ولكن ليس لديه بصيرة كافية يقول: فرأيت الشيخ فخاطبته فقلت: أبأمرٍ هذا؟ قَالَ: نعم بأمر، فسكت، أي: أنه لم يفعل هذا من عند نفسهوَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] .
أي أن الله أمره أن يقود فرس هذا الكافر الضال المضل -وهم لا يتورعون أن يقولوا إن هذا أمر كشفي خوطبنا به في قلوبنا- وقال: نَحْنُ بهذا العمل نوافق بين قدر الله وحكمة الله، فالْمُسْلِمُونَ عصوا الله فسلط عليهم هَؤُلاءِ الكفار.
فنحن موافقون للقدر وللحكمة من وقوع هذا العذاب، فهذا يسمونه الاستبصار بسر الله في القدر، إذا وقع في قلب أحدٍ فلا يعترض عَلَى أي شيء يقع أبداً بل يرى أن كل هذه الأفعال إما أن تكون من فعل الله -كما أشرنا فيما مضى- فهولاكو ما هو إلا صورة لفعل الله، والله هو الذي فعل ذلك وأنا عندما أعمل هذا العمل فأنا أُنفذ حكم الله وفعله سبحانه وتعالى، أو أن تكون من فعل هولاكو ولكنه ما فعله إلا موافقة للقدر، فهو وإن كَانَ خارجاً عن الدين والشرع، لكنه موافق للقدر. وبذلك عبر شاعرهمعبد الكريم الجيلي:
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً فإني في حكم الحقيقة طائع
فلا مانع عندهم أن يعبد الله في الكنيسة أو في المسجد أو في إي مكان، فهم يقبلون أي دين -والعياذ بالله-، ومعنى البيت: إذا كنتُ خرجتُ عن حكم الشريعة، عن الأمر والنهي، فإني لم أخرج عن القدر وهو: شهود الحقيقة الكونية، فإذا شهد العبد -على زعمهم- الحقيقة الكونية فإن كل ما في الكون هو من أفعال الله، فلا ينكر منكراً، ولا يعترض عَلَى أي أمر يقع، لأنه من فعل الله، تعالى الله عما يقولون.
ولهذا يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رداً عليهم:
[قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر عَلَى خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقَالَ: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته وفي ذلك قيل:
أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات
وهَؤُلاءِ أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كَانَ موافقة القدر طاعة، لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون، كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل] اهـ.
الشرح:
من شدة جهل الصوفية أنه يتردد عَلَى ألسنة بعضهم فيقولون: إن الواحد منهم من شدة استحضاره بأن الله سبحانه وتعالى مدبر كل شيء، وخالق كل شيء..، تصبح أفعاله وأعماله كلها بغير اختياره، والله هو الذي يدبرها ويحركها، فيلغي إرادته بالكلية ويقول: أنا لا إرادة لي في ذلك، وكل ما أعمله فهو من الله، وكله موافق لإرادة الله الكونية ولأقداره التي كتبها، فإن هذا لم يصبح فاعلاً وإنما أصبح منفعلاً لما يختاره الله، فسواءً وافق ذلك حلالاً أو حراماً بحكم الشرع، فأنا منفعل لما يختاره الله.
أصل ضلالهم أنهم فرغوا قلوبهم من ذكر الله فسكنتها الشياطين
ذكر الإمام الغزالي في الإحياء المدخل الخفي الذي يدخل منه هَؤُلاءِ الصوفية فقَالَ: يجب عَلَى الصوفي المريد في الخلوة أن لا يشتغل بشيء، لا بحديث، ولا بقراءة القُرْآن، ولا بالتفسير، وأن يفرغ قلبه من كل شيء، وبعد ذلك تنفعل حياته.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لما فرغوا قلوبهم من ذكر الله ومن القُرْآن والحديث سكنتها الشياطين فوجهتهم، فأصبحت الشياطين تأمرهم وتنهاهم، ويظنون أن هذا من أمر الله وقدره، وإلا كيف يفرغ المؤمن قلبه من ذكر الله ومن القُرْآن والحديث، وبعد ذلك يظن أنه بهذا التفريغ يكون منفعلاً لما يختاره الله منه، وفي الحقيقة هو منفعل لما يختاره الشيطان، فيكون حال الشيطان في هذه الحالة كحال من قيل فيه:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خاوياً فتمكنا
ويتمكن الشيطان من هذه القلوب الخاوية من ذكر الله تبارك وتعالى، فيوحي إليهم أن أفعالهم جميعاً كلها طاعات كما قال الجيلي:
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً فإني في حكم الحقيقة طائع
ولهذا لا تنكر عَلَى أحد، وفي كتاب أخبار الحلاج يقول: أحد تلامذته: مررنا بالسوق فإذا برجل عند خياط يهودي فشتم المسلم اليهوديَّ قَالَ: فغضب الحلاّج غضباً شديداً، وأخذ الرجل أي: المسلم وشتمه شتماً شديداً، وقَالَ: لا تعترض عَلَى دين أحد قَالَ: لماذا يا شيخ؟. قَالَ: لأنك إذا اعترضت عليه أثبت له الاختيار، يقول الحلاج: لأن الذي يختار هو الله.
ولو كَانَ لدى هذا المسلم علم لقال له: وأنا لماذا تعترض علي وأنا منفعل؟! وإذا اعترضت عليّ فكأنك تثبت أني مختار، فلماذا أنا مختار وهذا اليهودي غير مختار؟ لكنه لا يدرك هذا، لأنه عندما يرى هذا الشيخ العابد الجليل صاحب الكرامات -كما يزعمون- تأخذه الهيبة ولا يستطيع أن ينكر عليه، ويظن أنه يرشده ويدله إِلَى كيف يعظم الله؟ وكيف يعرف قدر سبحانه وتعالى؟ .
يقول المصنف: [وهَؤُلاءِ أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية] كليهما، فأما الحكمة الدينية فكل مسلم يعلم ضرورة أن الله أمر بطاعته، ونهى عن عصيانه، وأن العبد يمكن أن يفعل الطاعات، وفي مقدوره أيضاً أن يفعل المعصية، فإن فعل الطاعة فله الأجر، وإن فعل المعصية فعليه الوزر والعقوبة، وهذا أمر بدهي يعرفه حتى عامة الناس.
فهَؤُلاءِ الصوفية أجهل النَّاس بأوامر الله الدينية والكونية، لأننا في أوامر الله الكونية لم نؤمر بالاستسلام المطلق، ولهذا لما قال أبو عبيدة لعُمَر رضي الله عنهما: أتفر من قدر الله؟ قال له: نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، فالعافية بقدر الله والمرض بقدر الله، فإذا ابتلي الإِنسَان بمرض فهذا بقدر الله الكوني ويكون دفعه بعمل يوافق القدر الكوني، فتطلب الدواء والعلاج.
ولهذا يجب عَلَى الإِنسَان أن يتخذ الأسباب: لأن الله تَعَالَى خلق أموراً وخلق أسباباً تدفعها أو تجلبها، فأخذ الإِنسَان بالأسباب لا بد منه، وسيأتي له مبحث في آخر الكتاب إن شاء الله. والأخذ بالأسباب ينافي القدر، بل هو من القدر، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئُل: أرأيت أدوية نتداوى بها أتخالف قدر الله؟ قَالَ: هي من قدر الله، فالمرض من قدر الله، والعلاج من قدر الله.
فالصوفية هم من أجهل النَّاس بالأحكام الشرعية والكونية لأننا حتى في القدر الكوني لا بد أن ندفع القدر بالقدر، يقول المصنف:[فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي] كيف يكون فعله كله طاعات، والطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، أي الأمر الكوني؟ .
من لوازم هذا القول الفاسد
قال المصنف: [ولو كَانَ موافقة القدر طاعة] يعني: بغير التزام بالشريعة [لكان إبليس من أعظم المطيعين له] لأن كل ما يعمله إبليس فهو بقدر الله.
هذا عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بل قال عن نفسه ذلك: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16] فهو يعترف بأن الغواية من الله، وكأنه يقول: أنا منفعل لأمرك، فهذا الكلام نفسه هو مدلول كلام الصوفية.
ثُمَّ قَالَ: [ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين] أي: لأنهم لم يخالفوا قدر الله وإنما خالفوا شرع الله ودينه، أما قدر الله الذي كتب عليهم فكل ما فعلوه فهو مكتوب، وهو موافق لما كتبه الله تَعَالَى حتى عندما قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، وقَالَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] هذا كله بقدر الله، وموافق لقدر الله الذي كتبه قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
إذاً ففرعونمعذور عندما قَالَ هذا القول، بل هم في الحقيقة لم يكتفوا بقولهم: إن فرعون معذور، حتى جعلوه مطيعاً وألّفوا الكتب في تصحيح إيمانفرعون، وأن فرعون لما قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى كَانَ صادقاً والعياذ بالله. لأنه ليس له إرادة، إنما كَانَ ينطق عن الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- فإذا كَانَ فرعونينطق عن الله، فموسى ينطق عن من؟ وبأمر من؟!
هذه الطائفة تُكذِّب جميع الرسل وتكفرها جميع الملل
إن هَؤُلاءِ النَّاس في الحقيقة يكذبون جميع الأَنْبِيَاء وجميع الرسالات، ولهذا -كما أشرنا فيما مضى -فإن هذه الطائفة يكفرها جميع أصحاب الملل والأديان، الْمُسْلِمُونَ واليهود والنَّصَارَى فلا توجد ملة أو دين سماوي يقر هَؤُلاءِ القوم، بل جميع الملل تكفرهم لأنهم خارجون عَلَى جميع الشرائع.
ولهذا كَانَ أصل كثير من هَؤُلاءِ إما من الرافضة وإما من الباطنية، ولكن لبسوا عَلَى النَّاس بادعائهم التصوف والولاية، فزعموا أن كل ما يفعلونه أو يفعله غيرهم هو فعل الله سبحانه وتعالى، كما يقول أحد الأقطاب: نار الخليل انطفأت؛ لأن الشيخ تفل فيها. ليس كما قال الله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فيعتقدون أن الأقطاب هم الذين يتصرفون، وتصرفهم سابق لوجودهم، فهم موجودين في الأول وإلى الأبد، وكل ما وقع في الكون فهو من تصرفهم، حتى سفينة نوح زعموا أنهم هم الذين منعوها من الغرق، ونار إبراهيم هم الذين أطفؤها، وهم الذين نجو شعيباً وصالحاً ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وهَؤُلاءِ يتبعهم اليوم ملايين من النَّاس، ويظنون أنهم يتقربون إِلَى الله باتباع هَؤُلاءِ المضلين.
الشهود الحقيقي
يقول المصنف: [فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة] يرد عليهم المُصْنِّف بأنه يمكن أن يتأتى الندم والتوبة مع شهود القدر من جهة أخرى غير الجهة التي يزعم هَؤُلاءِ الصوفية، وذلك إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إِلَى ربه وعدم استغنائه عن حفظه طرفة عين، كَانَ بالله في هذه الحال لا بنفسه، ووقوع الذنب منه لا يتأتي في هذه الحال البتة، فإن عليه من الله حصناً حصيناً، فبهِ يسمع وبه يبصر وبه يمشي، والعبد المؤمن يحقق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل لما سأله عن الإحسان قَالَ:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
فهذا الإِنسَان يعبد الله كأنه يراه ويعلم عجزه وضعفه وفقره، وأنه لو وكل إِلَى نفسه طرفة عين لهلك، وإن كانت طاعة منه فهي فضل من الله سبحانه وتعالى، وأن كل معصية منه فهي من خذلان ربه له حيث وكله إِلَى نفسه فوقع في ذلك الذنب، فهذا هو الشهود الحقيقي للقدر، وفي هذه الحالة لا يتأتى الذنب من العبد، لا كما يزعمون هم يفعل جميع المعاصي والذنوب ويقول: أنا أشهد القدر، بل من يشهد حقيقة القدر هو من يفعل الطاعة ويقول: هذا من فضل الله وإرادته، ولو أنه في لحظة من اللحظات قال: هذا من نفسي، وهذا من فعلي، وأنا الذي اجتهدت في هذا لكان ذلك ذنباً، لأن الله هو الذي وفقك عَلَى أدائها، فأنت أطعت الله بأي جارحة بالعين -مثلاً- فمن الذي خلقها؟
وأطعمها وغذاها؟
وكذلك القلب من الذي خلقه؟
ومن الذي ألقي فيه الهدى؟
ومن الذي عرفك بالله؟
إنه الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الفضل كله له عز وجل، فإذا فعلت طاعة فله الفضل في ذلك، وإن فعلت معصية فمن نفسك لما أوكلت إليها، فهذا هو الشهود الحقيقي عكس ما يقولون، فلو أنهم يشهدون الأمر والنهي شهوداً حقيقياً لما أتت منهم الذنوب، ولكانوا من المقربين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة، فإن عليه حصناً حصيناً (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نُصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر فبقي بربه لا بنفسه، فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرهه؟
فالجواب أن يقال:
أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يُسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يُغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.
ويقال ثانياً: هنا أمران:
قضاء الله: وهو فعل قائم بذات الله تعالى.
ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما، تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به، والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى مالا يرضى به، مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به.
ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله، نَسخطه ولا نَرضى به] اهـ.
الشرح:
ختم المصنف رحمه الله مسألة القدر ببحث لقضية القائلين بأن الإنسان إذا شهد مقام الحقيقة الكونية -كما يزعمون- يوافق المشيئة، ويعتبر أن كل أعماله التي تجري وتصدر منه على وفق رضى الله وشرعه وإرادته نظراً لجريانها وفق مشيئته وإرادته الكونية، ورد عليهم المصنف رحمه الله بقوله: إن هؤلاء أعمى الخلق وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فلو أن الأمر هو موافقة القدر والمشيئة، وليس موافقة الأمر الديني من الأمر والنهي لكان قوم نوح وهود وصالح وفرعون وقوم لوط وشعيب كلهم طائعون لله عز وجل لأنهم لم يخرجوا فيما ارتكبوا من ذنوب وقبائح وما واجهوا به أنبياءهم عن مشيئة الله وقضائه وقدره، فإذا كان كل ما قدره الله تعالى مرضياً له محبوباً عنده وغاية ما يريده من الخلق أن يوافقوا قدره الكوني، فإن هؤلاء من أرضى الناس وأعلمهم.
لا شك أن هناك فارقاً دقيقاً وحاجزاً بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، وإنما تختلف الأفهام والأنظار إلى الأمر الواحد، ويترتب على ذلك اختلاف الأعمال.
قال المصنف: [لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه] أي: إذا استحضر العبد عجزه وجعل عجز نفسه أمامه كأنه شاهد بعينه عجز نفسه وهذا من أخص خصائص الإنسان أنه عاجز بالذات، ففقره ذاتي، وعجزه ذاتي، كما أن الله سبحانه وتعالى غناه وقوته وعلمه لذاته سبحانه وتعالى من غير معين، ولا سبب خارجي، أما الإنسان ففقره ذاتي، فلا يستطيع أن يكون غنياً إلا لسبب يقدره الله سبحانه وتعالى، وإذا شهد عجز نفسه نفوذ الأقدار فيه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لو اجتمعت الأمة على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولو اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وكمال فقره إلى ربه كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] فالخلق محتاجون إلى الله فيما يطعمون وفيما يتمتعون به من فهمه كما قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57،58] فله تبارك وتعالى المنِّة على كل أحد وليس لأحد أبداً منِّة على الخالق العظيم سبحانه وتعالى.
قوله: [وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين] فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) فالأنبياء وأتباعهم قالوا هذا لعلمهم شدة فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه، أمَّا أولئك فقد استغنوا عن الله تبارك وتعالى، فلا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يدعونه ولا يلجأون إليه، ولهذا كان السلف الصالح يدعون الله في كل وقت، ويحثون أبناءهم وتلاميذهم والمسلمين على دعاء الله حتى قال قائلهم:"إني لأدعو الله ولو كان في شراك نعلي"، فلو انقطع شراك نعله لدعا الله سبحانه وتعالى، فادعُ الله أيها العبد فأنت فقير إليه في كل لحظة، وفي كل حين وفي كل وقت، لكن أولئك يظنون أنهم في غنى عن الله، ولهذا تمر بهم الأيام ذوات العدد ولا يدعون الله سبحانه وتعالى فيها، حتى وإن عبدوه.
ومن الناس من يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض، ولكنه لا يدعو الله، لأن الشيطان قد أغفل قلبه وأشعره بأنه في غنىً عن دعاء الله تبارك وتعالى، والمقصود أن العبد المؤمن إذا شهد هذا الحال من الافتقار ومراقبة الله له ارتفع إيمانه وما من قلب يرقى في درجات الإيمان وقطعيات اليقين إلا ويشهد ذلك بمقدار رقيه ورسوخ إيمانه ويقينه، فإذا شهد العبد ذلك واستشعره دائماً.
الجواب: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصناً حصيناً، ثم ذكر الحديث أو جزءاً منه مضمناً إياه الكلام [فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي] فلا يتصور منه الذنب في هذه الحالة إذا استشعر فقره واستشعر مراقبة الله تبارك وتعالى له في كل وقت، وهي درجة الإحسان، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
فهو يرانا كل حين، فما نلفظ من قول، ولا نعمل من عمل ولا حركة ولا سكون، إلا والله تبارك وتعالى مطِّلع ورقيب علينا، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] .
إذا استشعر العبد افتقاره، وعلم أنه لو وكل إِلَى نفسه طرفة عين لغفل عن طاعة الله، ووقع في معصيته، وربما هلك بسبب ذلك، ففي هذه الحالة لا يتصور منه صدور الذنب، هذا هو الفرق بين المقامين، أُولَئِكَ يقولون: إذا استشعر العبد وشهد أن ما يفعله هو مقدور لله مقضي له، أصبحت أعماله جميعاً طاعات، لكن أولياء الرحمان لا يقولون هذا، بل ذلك باطل أشد البطلان، وأما الحق فهو: أن تستشعر هذه الحالة العالية السامية، فحينئذٍ لا تفعل الذنب، لأنك متى مرَّ بك حال تستشعر فيه أن الله رقيب مطلع عليك، وأنك لو عصيته لوكلك إِلَى نفسك فتكون الأعمال صالحة لذلك، لأنها وفق درجة الإحسان لا وفق القدر.
متى تكون الأعمال طاعات
تكون أفعال العبد طاعات إذا كانت جميعاً عَلَى مقتضى مراقبة الله سبحانه خاصة، واستشعار عظمة الله، واستحضار افتقاره إِلَى الله تعالى، وأن أقداره تنفذ فيه، بنى عَلَى ذلك دوام الصلة بالله، ودعاء الله الهداية والثبات، فتكون الأعمال حينئذ طاعات، إذاً هذا مفرق طريق بين هَؤُلاءِ وبين هَؤُلاءِ.
أعظم الأولياء أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فلم يؤثر عنأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ في أحكامه وفي فقهه، ورأيه أي قول خالف فيه السنة، مع أن الذين من بعده من الصحابة نقل عنهم في بعض المواضع خالفوا فيها بعض الأحاديث، إما اجتهدوا فيها أو لم تبلغهم الحجة، أو بأي حكم من الأحكام، لكن غاية ما نجد أن الصديق رضى الله تَعَالَى عنه قد لا يبلغه الدليل، لكن لم ينقل عنه أنه اجتهد أو قال بما يخالف السنة، هذا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، أما في حياته فهو في كل أمر موافق مطيع، فهذه الدرجة العليا درجة الإحسان ودرجة الصديقين، التي يكون هوى صاحبها تبعاً لما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقة للشرع من جميع الوجوه.
المقياس الشرعي للولاية
يعد أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أعظم النَّاس ولاية لله تعالى، ثُمَّ النَّاس بعد ذلك بحسب ولا يتهم وقربهم من الله سبحانه وتعالى وما وفقهم له من الفقه والعلم، يكونون أقرب إِلَى إصابة الحق وموافقة السنة من غيرهم، وهذا هو المقياس الشرعي للولاية، وليس ما جعله أُولَئِكَ الضالون المضلون، ومعنى قول المصنف: إنه لا يتصور من ولي الله الذنب في هذه الحالة، أي: فكيف يتأتي الذنب، وهو لا يأتي إلا في حال الغفلة والجهالة.
تفسير السلف لقوله تعالى: ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ))
والجهالة: ليست الجهل بالحكم أنه حلال أو حرام، بل الجهالة هي الجهل بمقام الله سبحانه وتعالى، والجهل بقدر الله.
قال بعض السلف: "ما عصى الله عز وجل أحد إلا بجهالة" أي: في حالة وقوع الذنب يكون العبد قد جهل مقام الله سبحانه وتعالى، وما عظمه حق تعظيمه، وما قدره حق تقديره، والقلوب عَلَى ذلك شواهد، فيعتري المؤمن حالات تصفو فيها نفسه وقلبه، ويرسخ ليقينه وإيمانه ويذكر ربه عز وجل، فلو عرضت عليه معصية وخُيِر بين أن يفعلها وبين أن يلقى في النَّار أو يعذب أشد العذاب، لاختار هذا العذاب الأليم، ثُمَّ يعرض للقلب غفلات، وإذا بالنفس تهفو وتتطلع إِلَى أن تفعل تلك المعصية بذاتها التي كانت في تلك الحالة، وأصحاب النفوس اللوامة يشهدون هذا التفاوت دائماً، لكن أصحاب النفوس المطمئنة لا تلمُّ بقلوبهم إلا خطرات.
أعظم الناس إيماناً ويقيناً
أعظم النَّاس اطمئناناً ويقيناً وإيماناً بالله هم من أنزل الله تبارك وتعالى عليهم السكينة، وشهد لهم بالإيمان والطمأنينة والذكر وهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ثُمَّ أهل القرون المفضلة ومن اقتفى نهجهم،.
فإذا حُجب عن هذا المشهد، وبقي بنفسه أي لا بربه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك، والأشراك وأرسلت عليه الصيادون، والشراك هو الذي تقع فيه الفريسة وتقيد به، أي: أن الإِنسَان في هذه الحالة إذا غفل، واستولى عليه حكم النفس لا حال المراقبة واليقين، ولكن غلب عليه حال الهوى والشهوات، فمن كانت نفسه أمارة عليه فبماذا تأمره؟ ومن الذي وعده بالجنة وجعلها مأواه؟ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] .
لكن إذا سيطرت النفس وسيطر الهوى، حتى كَانَ كحال من اتخذ إلهه هواه، فحينئذ لا تأمره إلا بالشر، فالقلوب المؤمنة، والنفوس اللوامة، إذا اعترتها هذه الحالة وقعت في شراك الشيطان، والشهوة، والشبهة، والمعاصي، وحينئذٍ يكون الأمر والنتيجة عَلَى حالين: إما أن يفيق العبد، ويتوب وينيب إِلَى الله سبحانه وتعالى، وهذا ما ذكره المُصْنِّف رحمه الله عندما قَالَ:[فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كَانَ في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجودٍ آخر فبقي بربه لا بنفسه] وهذه الحالة، حالة من ثبته الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] فماذا فعلوا فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم.
إذاً وقعوا في الشرك لكن تذكروا فاستغفروا الله سبحانه وتعالى وتابوا وأنابوا إليه، فتعود النفوس إِلَى اطمئنانها، وينقشع ذلك الضباب وذلك الحجاب وذلك الران الذي حصل نتيجة حيلولة النفس بين العبد وبين مرضاة ربه عز وجل،.
والحالة الأخرى: من غلبه الهوى والشهوة، فالشهوة إثر الشهوة والهوى إثر الهوى، حتى يطبع عَلَى قلبه، ويغلب عليه الران، فحينئذٍ لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولهذا كَانَ السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أحرص النَّاس عَلَى الثبات، وعلى الاستقامة، وكانوا أخوف النَّاس من النكوص ومن انقلاب الحال وتغيره إِلَى حال لا يرجى معها انتقال ولا شفاء، ثُمَّ يعود رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بعد ذلك، في مسألة القدر، وموقف المؤمنين منه
يقول المُصنِّفُ رحمه الله: [فإن قيل: إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟] وهذه الشبهة تقع لكثير من النَّاس.
فالجواب أن يقال:
أولاً: نَحْنُ غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضي الله؛ لأن بعض النَّاس قد لا يفقه ذلك، ومن هنا أُتي الصوفية، وأمثالهم، أي: من عدم الفقه في الدين أو سؤال أهل العلم وأهل الذكر، فقولهم: إن الله قدر ونحن نرضى بما قدر، يقال لهم: لم نؤمر بأن نرضى بكل ما قدره الله سبحانه وتعالى، فالذي قدر الكفر هو الله، والذي قدر الزنا والمعاصي والفواحش جميعاً عَلَى العباد هو الله، لأنه لا يقع في الكون إلا ما قدره الله، فلا يجب أن نرضى بها، وهل نتعبد الله بالرضى بالكفر؟ لا. فمن فعل ذلك فقد كفر؛ لأنه هو سبحانه وتعالى قَالَ: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر [الزمر:7] وكما قال سبحانه وتعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْل [النساء:108] .
فهو سبحانه وتعالى لا يرضى بها، فنحن كذلك لا نرضى بكل ما قدره الله.
إذاً: رضانا وغضبنا يدور مع الشرع، مع الأمر والنهي لا مع المشيئة والقدر الكوني، فرضانا تبع للشرع، فما رضيه الشرع لنا من الأمر والنهي رضينا به، وما كرهه كرهناه، وهذا المقام مقام الرضا طويل، وقد ذكره صاحب كتاب مدارج السالكين وكذلك صاحب كتاب منازل السائرين الهروي في ذكر منزلة الرضا، ووقع في خبط وخلط.
تعقب الإمام ابن القيم على الهروي
تعقب الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في مدارج السالكين في الجزء الثاني عَلَى صاحب كتاب منازل السائرين ابتداءً من صفحة 117، لأن من الرضا ما هو محمود مطلوب، بل من الدرجات العليا من درجات الإيمان، وهو الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ولا يكون العبد مؤمناً إلا به، فبقدر رضاه بذلك يكون انقياده ويكون إذعانه، ويكون إيمانه.
ولذا ورد أن من قَالَ: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً) في الصباح والمساء كَانَ حقاً عَلَى الله أن يرضيه. لأنه قال هذا رضاً بشرع الله. فمن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً، فقد رضي بكل أمرٍ أمر الله به، وبكل سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذه درجة عظيمة، فحقاً عَلَى الله جل وعلا تكرماً منه أن يرضي من قال ذلك؛ وفي الرواية الأخرى (دخل الجنة) هذا هو الرضا.
الواجب علينا أمام القدر
أما الرضا بالقدر عَلَى المصائب فله تفصيل. لأن الرضا بالدين معروف، لكن هناك أقدار قضاها الله سبحانه وتعالى. فإذا وقع القدر وكان مما لا يرضينا أو مما نكره، فالذي أُمِرَنا به هو الصبر، ولو أُمِرَنا بالرضا لكان في ذلك مشقة علينا.
لكن الذي أمرنا به فضلاً من الله تَعَالَى هو الصبر، فالكره: أمرٌ جبلي خلقي طبعي لا نستطيع أن نتخلص منه. لكن أن نسخط أو أن نقنط، فهذا مما لا يجوز: والعبد يستطيع أن يصبر، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما (رفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال له سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) ، فليس هناك أحد أكثر رضاً بالقدر من النبي صلى الله عليه وسلم أو أعلى منه منزلةً، وهل هذا الصبر منعه من أن تدمع عينه لما مات ابنه إبراهيم وقال:(إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا) .
فهذا هو حال المؤمن، وليس معنى ذلك أن يغير طبيعته كما فعل ذلك بعضالمتصوفة عندما مات ابن له فحلق لحيته، وأخذ يضحك أمام النَّاس، ويقول:(أُرِاغَمَ نفسي وأرضى بقدر الله وقضاءه) فهذا عصى الله سبحانه وتعالى، وجعل من نفسه أمثولة؛ لأنه إِلَى ما قبل القرن العشرين كَانَ حلق اللحية مُثلة، عقوبة يُعاقب بها، فإذا أُريد أن يعاقب أحد حتى في الدول الكافرة تحلق لحيته.
وكانت بعض الأمم الممسوخة -كما كَانَ بعضالمجوس - يفعلونه ومنهم الذين قدموا عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مسخ للفطرة، ولهذا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، والشاهد أن هذا الصوفي لما فعل ذلك جعل نفسه مُثلة، وأضحك النَّاس عليه، وهو بزعمه يظن أنه يراغم النفس ويرضي الله؛ لأن ابنه قد مات، والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل النَّاس يقول:(إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له) فهو صلى الله عليه وسلم أعلم النَّاس بالله وأتقاهم له، ومع ذلك حزن قلبه، ودمعت عينه، فنحن مأمورون بالصبر.
أما الرضا فكما يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: "أما الرضا فلم نؤمر به"، وما ورد من الأدلة يدل بعمومه عَلَى مدح من يرضى، والثناء عليه لا عَلَى وجوبه، ولهذا إذا كَانَ من باب الثناء والمدح فهو مندرج ضمن حالة الصبر، أي: أن يصبر العبد ويبلغ به الصبر أن يرضى بما قدر الله، دون أن يتعدى ذلك إِلَى مخالفة الفطرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقال: إن أحداً قد فاقه أو يفوقه في ذلك المقام أبداً، فإذاً: لم يرد في الكتاب والسنة ما يوجب علينا أن نرضى بكل ما يقدره الله، بل الحال في ذلك تبعٌ للأمر والنهي.
يقول: [بل من المقضي ما يرضى به ومنه ما يسخط ويمقت] وهذه العبارات إِلَى نهاية قوله: [والتعمق والنظر] منقولة من مدارج السالكين، لكن في موضعٍ آخر (في الجزء الأول صفحة 256) .
إذاً من المقضي ما يُرضى به، ومنه ما يُسخط ويُمقت لماذا؟ يقول:(كما لا يرضى به القاضي لأقضيته) أي أنه سبحانه القاضي الذي قضى بهذا القضاء لم يرضَ به.
وقد لعن الله سبحانه وتعالى الكافرين أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] وذمهم في مواضع كثيرة، والمؤمن في ذاته ليس ملعوناً، وليس مغضوباً عليه في ذاته، فقد يفعل من الأفعال ما هو ملعون أو مغضوب عليه، أو غير مرضي لله سبحانه وتعالى سواءً في الأفعال أو في الذوات أو في الأعيان منها ما يبغضه الله ولا يرضاه، ونحن إذاً لا يجوز لنا أن نرضى بكل شيء، هذا هو الجواب الأول.
والجواب الثاني: قال: [هُنا أمران: قضاء الله، وهو: فعلٌ قائم بذات الله، ومقضي وهو: المفعول المنفصل عنه] هذا الموضوع فيه دِقة، وقد اختلفأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الأشعرية، فالأشعريّة جبريّة جهميّة، لكنهم لم يقولوا: إن الإِنسَان كريشة في مهب الريح، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بالجبر.
اختلاف أهل السنة مع الأشاعرة في مسألة أفعال الله
اختلف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الأشعرية في مسألة أفعال الله سبحانه، فَقَالَ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كما قال ابن القيم رحمه الله: ''وهو قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي''، وهذا معروف بالبديهة، فلو فكرت لوجدت أن القضاء غير المقضي، فقضاء الله فعله، والمقضي أثر القضاء، وآثار قضائه يدركه العقل والفطرة فَيَقُولُ: (قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته، وما قام به -بذاته واتصف به سبحانه وتعالى والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل عَلَى الخير والشر، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق، ومنه باطل] .
فمن حيث إن الله سبحانه وتعالى خلق إبليس، وخلق الكفر، وخلق الشر، وأن الله قضى ذلك فهذا حق، لكن من حيث إن هذه الأعيان أو هذه الأفعال مذمومةٌ أو ملعونة شرعاً فهذه من جهة الشرع فيها الحق وفيها الباطل، ومنها ما يحمد ومنها ما يُذم، ومنها ما نرضى به ومنها ما نكره، لكن من حيث اتصاف الله سبحانه وتعالى بأنه هو الذي يقضي، وله القضاء، وله الأمر فهذا حق، فالقضاء كله حق، لكن المقضي هو أثر القضاء أعياناً أو أعمالاً، فمنها ما يرضى ومنها ما يسخط، ومنها ما هو حق ومنها ما هو باطل، بميزان الأمر والشرع.
فهُنا قال السلف هذا القول، فجاء الأشعرية وَقَالُوا: القضاء هو عين المقضي، والفعل هو عين المفعول، ولهذا وقعوا في الجبر، أو لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم هذا السؤال، ومنهم أبا بكر الباقلاني، شيخهم وإمامهم الأكبر، والسؤال الذي يسائله المُصْنِّف هُنا [إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرههُ؟ وهذا عجز لأنه لا يفرق بين القضاء وبين المقضي، لكن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يفرقون، ولهذا يقولون: نَحْنُ نؤمن بالقضاء، ونحب قضاء الله، لكن نكره المقضي الذي هو الكفر، فيقول فهُنا أمران:
قضاء الله وهو: فعل قائم بذات الله.
ومقضي وهو: المفعول المنفصل عنه.
فالقضاء كله خير وعدل وحِكَمة نرضى به كله.
والمقضي قسمان: منه ما يرضى، ويوضح ذلك الوجه الثالث لأنهما متقاربان.
والقضاء الذي قضاه الله له وجهان:
أحدهما: تعلقه بالرب تَعَالَى ونسبته إليه فمن هذا الوجه يُرضى به.
والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إِلَى ما يرضى به، وإلى ما لا يُرضى به. ولهذا قال الله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8] .
ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر من جهة أن الله يدخل من يشاء ويهدي من يشاء، ولا يعني ذلك أن يرضى بكفرهم فلم يأمره ربه بذلك وحاشاه صلى الله عليه وسلم، بل هو الذي جاهدهم واستمر في جهادهم، لكن مع المجاهدة لم يؤمنوا؟ لأن الهداية والضلالة بيد الله تعالى، فقد كتب عليهم الشقاوة فليكونوا كذلك، فعليك أن تسلم بما كتب الله، ولهذا جَاءَ في سورة الأنعام ما هو أشد من ذلك، قوله سبحانه وتعالى له: وَإِنْ كَانَ َ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ [الأنعام:35] فلا يستطيع ذلك ولن يفعل.
وإنما هذا زيادة في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى عدم اليأس والتحسر، وإنما عليه البلاغ وهذا له مقام آخر، وذكر المُصْنِّف رحمه الله مثالاً عَلَى ذلك فقَالَ: لو قتل إنساناً نفساً، القتل له اعتباران من حيث قدَّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره يرضى به، وهذا أمر كتبه الله وقدَّره قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلا مبدل لقدر الله ولا معقب لحكمه، فنرضى به من هذه الجهة، لكن لا نرضى عن القاتل، ولا نرضى عن فعله، فيُقَالُ: من حيث إن القاتل صدر منه القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله نسخطه ولا نرضى به، وبهذه الأجوبة الثلاثة نكون قد أجبنا عَلَى السؤال الذي هو: كيف نرضى إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره؟
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وقوله: [والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان] إِلَى آخره، التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان. الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقارب المعنى.
وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضاً.
لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة. وقوله: فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة.
عنأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه:(إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قَالَ: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان) رواه مسلم.
الإشارة بقوله: (ذاك صريح الإيمان) إِلَى تعاظمهم أن يتكلموا به.
ولمسلم أيضاً عنعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سئل رَسُول الله عن الوسوسة، فقَالَ:(تلك محض الإيمان) وهو بمعنى حديثأَبِي هُرَيْرَةَ، فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان.
هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. ثُمَّ خلف من بعدهم خلف سوّدوا الأوراق بتلك الوساوس، التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رحمه الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
وعنعَائِِِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم) .
وقال الإمامأَحْمَد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عنعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والنَّاس يتكلمون في القدر، قَالَ: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قَالَ: فقال: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كَانَ قبلكم) قال. فما غُبطت نفسي بمجلس فيه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده. ورواه ابن ماجه أيضاً] اهـ. .
الشرح:
أمور الإيمان وأمور العقيدة من أمور الغيب، لأن الاعتقاد هو الإيمان بالغيب، والله تبارك وتعالى أول ما وصف الله به المؤمنين وصفهم بأنهم يؤمنون بالغيب.
درجات الناس في الإيمان
درجات النَّاس في الإيمان متفاوتة عَلَى حسب إيمانهم بالغيب، فمن النَّاس من يبني إيمانه عَلَى ظاهر من القول وظاهر من الدليل، ويستمر في ذلك ويثبته الله سبحانه وتعالى، ولا تعرض له شُبهات ولا سُقوط، فيلقى الله وهو سليم القلب وهو عَلَى درجة من الإيمان.
ومن النَّاس من تُسلط عليه الشهوات والشبهات والشكوك ويضعف إيمانه ويقينه وسرعان ما ينقلب ذلك الإيمان وذلك اليقين؛ لأن مجرد تصديق وليس يقين، ومن النَّاس من يثبته الله سبحانه وتعالى ويوفقه ويمنُّ عليه، فيرسخ في العلم والإيمان واليقين والصدق والإخلاص وفي الفقه في الدين، حتى يكون بالمنزلة التى جعلها الله سبحانه وتعالى لأوليائه، الذين جعل تفاوتهم بحسب مراتبهم من اليقين ومن الفقه والعلم في الدين.
فالمطلوب من العبد أن يؤمن بالغيب، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به، وأن يسلِّم، وأن يقوِّي ذلك الإيمان بكل ما يستطيع أن يقويه به، من الأدلة وبالحجج القرآنية وآثارها، ونعني بها الحجج الكونية العقلية النفسيّة، وأن ينظر بتدبر في ملكوت السموات والأرض، ويتفكر في أحوال النَّاس، وفي تدبير الله سبحانه له، وتصريفه لهذا الكون وتدبيره للخلق، فيزداد إيماناً ويقيناً، ويدفع عن نفسه الشبهات إذا وردت، لأن دفع الشبهات يكون بالاعتصام بالله والاستعاذه من الشيطان الرجيم، والإعراض عن الشبهة، فإن تمكنت في قلبه فليدفعها بسؤال أهل العلم لتُكشف عنه تلك الشبهة ويندفع عنه البلاء، وأمر هذا الدين مبني عَلَى الاستسلام، وإنما يثبت الإسلام عَلَى قدم الاستسلام لما أخبر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن من قُدِّر له أن أعطاه الله سبحانه وتعالى العلم، ومكنه من الرسوخ فيه، ومقاومة الشبهات، والذب عن هذا الدين، فهذا كطبيب يتعمق في معرفة الأمراض لا حرصاً منه عَلَى معرفه المرض، ولكن لكي يعالج النَّاس، أو يتعمق في معرفة الأدويّة ليداوي نفسه ويداوي غيره.
التعمق والنظر في أمور القدر الخفية
يقول الإمام الطّّحاويّ رحمه الله: [والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة] هذا الكلام قد يُفهم عَلَى إطلاقه فيُقَالُ: إذاً لا ننظر في مسألة القدر والصفات ولا نفكر في ذلك.
أما الوسوسة فمذمومة عَلَى كل حال، لكن من وفقة الله وفقهه في الدين وكان علمه عميقاً وراسخاً؛ فهذه درجة مطلوبة محمودة، فكل إنسانٍ يأخذ من هذا الدين ومن أمر اليقين بقدر ما يوفقه الله ويؤهله سبحانه وتعالى، ولو أراد أحد أن يتجاوز قدره لسقط ولهلك، فالتعمق والنظر في أمور القدر الخفيّة الدقيقة من إنسان لا يعرف الأدلة، ولا يعرف كلام أهل العلم ولا يستطيع أن يفقه في المسألة هذا ذريعة الخذلان.
كف العوام عن الخوض في القدر
وينبغي علينا أن نكف العوام عن الخوض في القدر، فإن كَانَ ولا بد إذا وجدنا من أحدهم شبهة راسخة كشفناها بالدليل، ولكن لا يعني ذلك أن نعرض تعاريف القدر عَلَى العامة، أو نرضى أن يخوض العامة في تفصيلات القدر وغير ذلك من أمور الإيمان؛ لأن الخوض في ذلك مَزلة الأقدام، فهو بحر لا يستطيعون أن يبحروا فيه، لكن من كَانَ لديه استعداد للفهم من الكتاب والسنة وكلام العلماء.
فينبغي له أن يزداد علماً، لأنه بذلك يزداد إيماناً ويزداد فهماً، وعندما ترد عليه شبهة سرعان ما يدفعها لما لديه من علم؛ وينبغي أن يقيد بهذا كلام الطحاوي رحمه الله، وأن نعرف المقصود من كلامه، ولهذا قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:[والمعني أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان] .
فقوله: ذريعة: أي وسيلة، والذريعة والوسيلة والدرجة والسلم متقاربة، وكذلك الحرمان والطغيان والخذلان متقاربة، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة، والإمام أبي جعفر الطّّحاويّ رحمه الله جَاءَ بعبارات أدبيّة فيها سجع، وعطف جملة بعضها عَلَى بعض، وإلا فالمؤدى واحد.
فهذا هو الذي يجب أن يُفهم، وقوله:[والحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة] ثُمَّ ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم والإمام أَحْمَد وفيه:(جَاءَ ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكوى مجملة، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أو قد وجدتموه؟) .
وجواب النبي هذا يدل عَلَى أنه كان منتظراً منهم هذا السؤال، وهذه بشرى لحديثي عهد بالتمسك، وفي رواية أخرى (لأن يصبح أحدنا حُممة محترقة) ، كيف يكون حال هذا الإِنسَان الذي يود لو أصبح فحمة محترقة ولم يتكلم بهذه الشكوك والخواطر، هذا قوي الإيمان، فلهذا يقول صلى الله عليه وسلم (ذلك صريح الإيمان) وفي رواية أخرى (ذلك محض الإيمان) ويقول المُصْنِّف هنا:[ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سئل الرَّسُول عن ذلك فَقَالَ ذلك محض الإيمان] ومعنى حديثأَبِي هُرَيْرَةَ وسوسة النفس أو مدافعتها، أي أن الحديثين هما في الحقيقة وردا في موضع واحد أنه سئل عن الوسوسة، فيقول المصنف:
[فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين الاثنين فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان]، ويمكن أن يحمل الحديث عَلَى أحد الأمرين:-
الأمر الأول: أن يكون المشار إليه بأنه الموصوف: [محض الإيمان] هو المدافعة كما ذكر ذلك المُصْنِّف ومعناه: أي أنكم ما دمتم تدافعونها فهذا دليل عَلَى قوة إيمانكم، فلا تيأسوا وهذه بشرى وخير لكم وليس شراً كما تظنون، والمدافعة والمجاهدة هذه هي محض الإيمان لأنها مترتبة عليه وناشئة عنه.
الأمر الثاني: أن يكون (ذلك محض الإيمان أو صريح الإيمان) هو: وجود الوسوسة، لأنك في حالة قبل الاهتداء لم تكن تجد شيئاً فلما اهتديت وجدت، فوجودها دليل عَلَى وجود الإيمان، وإذا وجد الإيمان أرد الشيطان أن يبارزه في الشكوك، إذاً أنت في هذه الحالة والْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى خير، وهنا يدل عَلَى أن الإيمان قد نما في قلبك، عندما تجد تلك الوساوس، ولذلك يقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم (ذلك محض الإيمان) أو (ذلك صريح الإيمان) .