المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌التوحيد فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي   قال - شرح العقيدة الطحاوية - سفر الحوالي

[سفر الحوالي]

الفصل: شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌التوحيد فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي   قال

شرح العقيدة الطحاوية

‌التوحيد

فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي

قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:

[نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له] .

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وقال هود عليه السلام لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65] وقال صالح عليه السلام لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73] وقال شعيب عليه السلام لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون [الأنبياء:25] وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم؛ بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك. ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الاقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك، وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: فمن

ص: 954

صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام، ولم يتكلم بهما، هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) فهو أول واجب وآخر واجب] اهـ

الشرح:

ابتدأ الماتن -رحمه الله تعالى- واضع العقيدة وهو الإمام الطحاوي بهذه الجملة:

[نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له] .

فابتدأ العقيدة بالتوحيد، وهذا هو اللائق، لأن التوحيد هو أشرف وأهم فروع العقيدة، بل العقيدة كلها توحيد، والقرآن كله توحيد، فالتوحيد هو أول ما يجب، وأول ما يدعى إليه، وحول التوحيد كانت المعركة بين الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وبين الأمم.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فهذا هو ما دعا إليه الأنبياء جميعا، دعوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى حيث افتتحوا دعوتهم واختتموها بذلك. فإن الشرائع والتعبدات جميعاً إنما هي فروع وتوابع للتوحيد.

ومعنى كون التوحيد أول دعوة الرسل: هو أن كل نبي إنما يأتي قومه لينذرهم أنه لا إله إلا الله، ويحذرهم من عبادة الطاغوت.

وأما قوله: [وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل] ، هذه العبارات استعارها المصنف من المصطلحات الصوفية، فالصوفية عندهم أن الناس ثلاثة أنواع: مريد -وهذا هو المبتدئ- ثم السالك الذي يسير في الطريق، ثم الواصل الذي وصل وسقطت عنه التكاليف، ووصل إلى حقيقة المعرفة كما يقولون.

ص: 955

وهذه الاستعارة إنما هي على سبيل التقريب، لأن كثيراً من الناس يظنون أن المصطلحات الصوفية ما هي إلا اصطلاحات فنية -أي عبارات أو معاني أو ألفاظ- أُطلقت على المعاني القلبية لنعرف بها هذه المدلولات، ويقول كثيرٌ منهم: إن التصوف هو شرح لحقيقة المرتبة الثالثة من مراتب الدين التي هي الإحسان.

هؤلاء القوم أي الصوفية يقولون -كما هو أصل ديانتهم في الهند -: إن بين العبد وبين الرب ألف مقام من الظلمة، يقطعها حتى يصل إلى النور أو التوحيد الذي هو عندهم المحو والفناء في ذات الله، بحيث تتحد نفسه بالباري، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

وهذه المصطلحات نقلت إلينا على سبل، فنقلها بعضهم وهو من أهلها، ونقلها بعضهم على سبيل التقريب أو استعارة لاصطلاحات لا يؤمن بمدلولاتها، ونقلها بعضهم وهو لا يدري على أي شيء تدل.

فالنقطة الأولى: نقطة الانطلاق ونقطة البدء في حياة الإنسان ومعاملته وعبادته هي: توحيد الله تبارك وتعالى، فلا شيء قبله، ولا يقبل من العبد شيء إلا بعد أن يوحد الله تبارك وتعالى وأن يؤمن به سبحانه وتعالى، فهي أول دعوة الأنبياء، وأول ما يبدأ فيه الإنسان في عبادته لله تبارك وتعالى وهذه الأمة هي أمة التوحيد، وأبو الأنبياء جدنا الخليل إبراهيم عليه السلام هو إمام الموحدين، وهو الذي جاء بملة إبراهيم ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً [النحل:132] فهي الملة الحنيفية التي تقوم على التوحيد. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ارتدت العرب إلى الشرك وعبدت الأوثان، وأشركت مع الله غيره، وعبدت المعبودات التي كان قوم نوح يعبدونها، فجاء بدعوة التوحيد وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجاء بالسيف كما قال صلى الله عليه وسلم:(بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له)

ص: 956

يعني: دعوة التوحيد هي موضوع المعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، -ومن هنا نعرف أهمية هذا العلم وأهمية معرفته، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فهو بعث بالقتل والقتال حتى يعبد الله وحده تبارك وتعالى وذلك تحقيق منه صلى الله عليه وسلم لآخر ما أنزل الله تعالى من أحكام القتال. فالجهاد أول ما بدأ به كان إذناً فقط، فلم يكن أمراً مستحباً ولا واجباً أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] فأذن الله تعالى للمؤمنين بالقتال بعد أن تحرقت قلوبهم وتشوقت إلى أن يقاتلوا الكفار، ثم استمر الأمر إلى أن وصلت المرحلة الأخيرة، وهي الأمر بالقتل لكل مشرك، وآخر مهلة للكفار في جزيرة العرب خاصة، أربعة أشهر يسيحون في الأرض، ثم بعدها تكون النهاية فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصد [التوبة:5] هذه الآيات آخر ما نزل في شأن الجهاد، وقال سبحانه وتعالى عقبها: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم [التوبة:5] وقال بعد ذلك أيضاً: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] .

ص: 957

فمنطوق الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) هو نفس مدلول الآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم [التوبة:5] وفَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]-أي: وجبت لهم الأخوة- فمن لم يأت بهذه الأركان الثلاثة فلا أخوة له في الدين ولا يخلى سبيله، بل يقاتل، ولم يذكر الصيام والحج مع الشهادتين والصلاة والزكاة؛ لأن الصوم عبادة خفية لا يعلم بها ولا يطلع عليه فيقاتل عليها، لكن نقاتل ونقتل واحداً عرفناه بعينه، أو عرفنا أمة أو قرية أو طائفة امتنعت عنه، فنقاتلها قتال كفر وردة، كما أجمع الصحابة بعد المناظرة مع أبي بكر على أن يقاتلوا تاركي الزكاة كما يقاتلون المرتدين..

وقال عمر " لو لم نطع أبا بكر لكفرنا بغداة واحدة " بعد أن تذكروا وتنبهوا إلى أنَّ قولَ أبي بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " هو نفس منطوق الآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [التوبة:11] . والحج يجب مرة واحدة في العمر، ويجب على من استطاع الزاد والراحلة، وهذا لا نستطيع أن نعرفه -أيضاً- بسهولة، لأننا لو جئنا وقلنا لأمة من الأمم لم لا تحجون؟ قالوا: نحج السنة القادمة -إن شاء الله- أو بعدها فلا نستطيع أن نقاتلهم، لكن لو قالوا: لا لن نحج هذا البيت أبداً، لحكمنا بأنهم كفار، وقاتلناهم قتال كفر وردة.

ص: 958

فهذه الأركان الأساسية الثلاثة التي هي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو الركن الأول، وإقام الصلاة وهو الركن الثاني، وإيتاء الزكاة وهي الركن الثالث الذي ورد النص صريحاً في المقاتلة عليها، لأنها هي التي تعطي الطابع العام للمجتمع أو للفرد، أما الحج والصوم فهذا حكمه بينه وبين ربه، بخلاف الصلاة فنقاتله ونقتله إن أصر على تركها، وكذا الزكاة نقتله أو نأخذها منه قهراً، فإذا أخذنا الزكاة منه قهراً وسكت وهو في قلبه كاره لذلك؛ فهو منافق بينه وبين ربه، لكنه في الأحكام الدنيوية الظاهرة مسلم، وزكاته أخذناها منه قهراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) .

والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لما وضع كتاب التوحيد، ذكر فيه أول ما ذكر حديث معاذ لما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له:(إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، أو إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب من اليهود، فليكن أول ما تدعهم إليه عبادة الله) وهذا يدل على دقة فهم البخاري، وفقه البخاري في تراجمه وتبويبه.

فهذه روايات صحيحة وثابتة في البخاري، وبعضها في مسلم في ألفاظ حديث معاذ:

الرواية الأولى: (فليكن أول ما تدعهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) .

الرواية الثانية: (فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله) .

الرواية الثالثة: (فليكن أول ما تدعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) .

ص: 959

فمن مجموع هذه الروايات نفهم أن أول ما يجب أن يدعى إليه هو التوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله. فالتوحيد هو أول ما ندعو إليه، وعلى جميع الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان أن يبدؤوا دائماً بالتوحيد. فإن ذهبنا إلى قوم لا يعرفون التوحيد، فأول ما ندعوهم إليه التوحيد، فإذا قالوها علمناهم معناها ولوازمها، ومقتضياتها وحقوقها وفروعها، وإن ذهبنا إلى قوم يقولون أو يشهدون أن لا إله إلا الله، فندعوهم أن يصححوا عقيدة التوحيد إن كان فيها خلل أو خطأ، ولاشك أنه مع تطاول القرون، ومع دخول كثير من العجم وغيرهم في هذا الدين، ومع انتشار الجهل وفشو البدع والضلالات، صارت عقيدة التوحيد فيها غبش يتفاوت كثرةً بحسب البلدان.

فأول ما ندعوا إليه المسلمين هو تصحيح عقيدة التوحيد، وأول ما ندعو إليه غير المسلمين هو عقيدة التوحيد.

فمثلاً: إذا ذهبنا إلى أوروبا فأول ما ندعو إليه التوحيد، لا نناقش ابتداءً في المشاكل الاجتماعية التي يعيشها الغرب إلا في حالة واحدة وهي: أن نناقشها لنربطها بحقيقة التوحيد.

ثم ذكر الإمام البخاري -بعد حديثمعاذ - حديث فضل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فذكر حديثين:

الحديث الأول: {إنها لتعدل ثلث القرآن} .

والحديث الآخر: {أن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟

فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه} .

وذلك لأنه أحب صفات الله عز وجل، فمن هنا نعرف أهمية توحيد الأسماء والصفات.

ص: 960

فالإمام البخاري رحمه الله عقد كتاب التوحيد، وافتتحه بهذين المضمونين: مضمون توحيد الألوهية الذي هو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ومضمون توحيد الأسماء والصفات الذي هو حديث فضل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله] .

أول ما يجب على كل مخلوق خلقه الله عز وجل هو: شهادة أن لا إله إلا الله، هذا أول الواجبات.

ولا شك أن شهادة أن لا إله إلا الله أول الواجبات، ولها معنيان، وكلا المعنيين حق:

الأول: أنها أول الواجبات، بمعنى أول ما ندعو إليه من الواجبات، وأول ما نبدأ به هو: شهادة أن لا إله إلا الله.

والثاني: أنها أول الواجبات، بمعنى أهم الواجبات وأعظم شيء. إذاً هي أول ما نبدأ بها، وهي أعظم شيء.

فأول ما يأتينا الكافر ليدخل في دين الإسلام ندخله من باب شهادة أن لا إله إلا الله، وآخر ما نطلبه من الإنسان عند الموت هو شهادة أن لا إله إلا الله، -أي التوحيد-.

فإذا عرفنا أن التوحيد هو أول الأمر وآخره عرفنا أهميته. فهو الأول من ناحية الابتداء، والأول من ناحية الأهمية.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم] .

اختلف الناس في قضية أول واجب على المكلف، وهذا الاختلاف هو لأهل البدع الذين خرجوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عن هذه الآيات العظيمة التي مرت بنا -على كثرتها- وأعرضوا عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم رسله، وأخذوا بالنظر العقلي المجرد.

فقالوا: أول ما يجب هو معرفة الإله.

ص: 961

ونقول لهم أما إذا كان المقصود بالمعرفة عندكم معرفة أسماء الله وصفاته وحقه على العباد وحق العباد عليه سبحانه وتعالى فهذه لا خلاف فيها، ولذلك جاء في رواية للبخاري في كتاب الزكاة (فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فمعرفة الله هي: ذات التوحيد، لكن التوحيد أو المعرفة عندنا غير المعرفة العقلية عندهم، فهم يريدون معرفة عقلية فلسفية نظرية.

مثلاً يقول المعتزلة: يجب عليه أن يعرف الأصول الخمسة:

ا-العدل.

2-

التوحيد.

3-

الوعد والوعيد.

4-

المنزلة بين المنزلتين.

5-

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولهم على كل واحدة منها تأويل وتفسير.

فمعرفة الله -كما وضعوا- تعني معرفته ذاتاً مجردة من جميع الصفات كما يريد الجهمية، أو معرفته بماله من أسماء، ولا يثبت له أي صفة أبداً كما يقول المعتزلة، أو معرفته بأن نثبت له بعض الصفات، إما سبعة، أو تسعة، أو إحدى عشر، أو ثلاثة عشر، كما يقول الأشعرية. وننفي عنه الباقي. هذه هي المعرفة التي يريدها أهل البدع. ويقولون: معرفة الله -أي: معرفة وحدانيته-.

فنحن نقول: توحيد الله هو: إفراد الله بالعبادة، لأن التوحيد مصدر وحد يوحد توحيداً. فمعرفة وحدانيته هو: إفراد الله بالعبادة، وأما وحدانية الله عندهم فهم يقولون في كتب علم الكلام: هو نفي الكمية المتصلة ونفي الكمية المنفصلة، وهذا كلام فلسفي جاءوا به من الفلسفة اليونانية.

فالكمية المتصلة: أي: ننفي أن يكون هذا الإله أبعاضاً أو أجزاء، فليس له أجزاء ولا أبعاض، ولا هو أرباع ولا هو كسور.

والكمية المنفصلة: أي: هو واحد، لا نقول اثنين، ولا ثلاثة، ولا أربعة، ولا خمسة، فهو واحد ليس هناك كمية منفصلة عنه ولا كمية متصلة به.

هذا هو التوحيد عندهم، لذلك لا يكفرون من يعبد ويدعو غير الله ويذبح لغير الله.

ص: 962

فالمقصود أنهم يجعلون الوحدانية هي: نفي الكمية المتصلة، ونفي الكمية المنفصلة، فيثبتون رقماً مجرداً، ثم يقولون: هذا الرقم المجرد ليس له أي صفة من الصفات كما يقول الجهمية، أو كما يفعل بعض أتباع الفرق الضالة يثبتون البعض وينكرون البعض الآخر، فهو واحد فقط ليس متعدداً ولا متبعضاً.

وهذا هو مفترق الطريق بيننا وبينهم، فهم يرون أنهم موحدون، لأن الله عندهم شيء واحد -ذات مجردة هلامية- هكذا.

فيقولون: هذا الرقم الواحد ليس أرباعاً ولا أثماناً، ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، وهذا هو حقيقة التوحيد عندهم، بل إذا قلنا: نثبت له صفات كالعين، أو الوجه، أو اليد، أو القدم، قالوا هذه أبعاض، والأبعاض منفية، لأن الكمية المتصلة منفية، كما أن الكمية المنفصلة منفية. فلأنهم ينفون صفات الله عز وجل ويثبتون أنه واحد يظنون أنهم هم الموحدون، ونحن نثبت لله هذه الصفات، وننهى عن الشرك بالله، وندعو إلى توحيد الله -وهو إفراده وحده بالعبادة والتوجه والتقرب.

فقالوا: أنتم مشبهون لأنكم تثبتون هذه الصفات، وتقولون لله أبعاض، وأنتم تكفرون المسلمين، لأنكم تأتون إلى موحد يعتقد في الله هذا الاعتقاد، ولكنه يدعو غير الله حيث يدعو الأولياء ويذبح للأموات وتقولون: هذا مشرك وهو لم يشرك. فالذين قالوا: إن أول ما يجب هو التوحيد أو المعرفة يعنون بها توحيدهم ومعرفتهم.

وقال بعضهم: أول واجب هو النظر، لأن المعرفة تترتب على النظر، فالإنسان أول شيء يحصل منه هو النظر. والنظر معناه: التفكير.

فالقضية النظرية: قضية ذهنية وعقلية تفكيرية، فأول ما يجب هو التفكير والنظر والاستدلال بالعقل. لأن المعرفة سببها وقوع النظر.

ص: 963

والمسلم -عندهم- إذا بلغ التكليف مثلاً في هذه الليلة باحتلام، أو إنبات، أو بلوغ خمسة عشر سنة، يجب عليه من هذه اللحظة -لحظة ما بلغ- أن يفكر، فيقول: هذا العالم حادث، وكل حادث لابد له من محدث، وهذا العالم متغير، والمتغير حادث، والحادث لابد له من محدث. والمحدث هو الله، ويعيد المقدمات حتى يتأكد أن المحدث هو الله، ثم يعرفه بأنه واحد، لا هو أبعاض ولا هو أعداد، فإذا عرف هذا الشيء فقد وحد وأصبح مسلماً. والعجيب أنهم بحثوا في حكم من مات في أثناء النظر على أي دين يموت؟

فقال بعضهم: يموت على الكفر، لأنه لم يدخل في الإسلام.

وقال بعضهم: هو مسلم لكنه عاصي.

وأطالوا الكلام في هذا كما في كتاب الإرشاد للجويني -فيا سبحان الله- كيف نضع الأصول الفاسدة، ثم نركب عليها لوازم باطلة، ثم يتشعب الباطل حتى نجد باطلا كاملاً؟!

فأول واجب عندهم هو النظر، كما قال الجويني، وابن فورك، وكلاهما من أئمة الأشعرية.

وقال القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني -إمام الأشعرية في زمانه- أول ما يجب: هو أول جزء من النظر، وليس كل النظر بحيث يرتقي بعد ذلك حتى يصل إلى المعرفة.

وهناك قول رابع جاء به أبو هاشم الجبائي شيخ المعتزلة في زمانه فقال: أول ما يجب على الإنسان: هو الشك. لأنك إذا شككت وصلت إلى اليقين. على طريقة ديكارت حيث قال: "أنا أفكر؛ إذاً أنا موجود" هذه النظرية كانت أعظم نظرية، وأعظم فتح في تاريخ الفلسفة الأوروبية والعالم الغربي-كما يقولون-، حيث تحرر من قيود الرجعية ومن قيود الفلسفة الكلاسيكية بهذه القاعدة العظيمة "أنا أفكر؛ إذاً أنا موجود".

فالشك في الأشياء أو السفسطة -وهو إنكار حقائق الأشياء- مخيم على أذهانهم، وأن كل ما نراه الآن قد يكون حقاً وقد يكون غير موجود. فابتلاهم الله تعالى بالشك والزيغ في قلوبهم.

ص: 964

وظهر في بريطانيا رجل اسمه هيوم زعيم الشكاك أو شيخ الشكاك، حيث أعاد نظرية الشك اليونانية القديمة وقال: لابد من الشك في كل شيء، وكل الحقائق الموجودة تقبل الجدال وتقبل النزاع، ولا يوجد أي حقيقة مطلقاً.

فاعتبروا نظرية ديكارت انتصاراً؛ لأنه قال: "أنا أفكر؛ إذاً أنا موجود" وخرج يصيح ويقول: "أنا أفكر. إذاً أنا موجود" فانظروا ما مقدار النعمة التي أكرمنا الله تعالى بها لما أعطانا هذا الوحي، ولم يكلنا إلى زبالة أذهان هؤلاء المتهوكين أئمة الضلالة؟! فلو خرج أحد منا من بيته وقال:"أنا أفكر. إذاً أنا موجود". لقلنا: إنه مجنون. وهم إذا جاءتهم دعوة الأنبياء وأتباع الأنبياء قالوا: أنتم مجانين.

فهؤلاء أعمى الله بصائرهم، فهم في ظلمات وفي شك.

فأول شيء كما قال أبو هاشم الجبائي: أن نشك في كل شيء، وبعد الشك نبدأ في اليقين، ثم نستدل بحدوث العالم على وجود الله، ثم نعتقد أن الله موجود، ثم نعرف ما يجب لله من التوحيد على منهجهم الذي هو منهج المعتزلة.

فهذا هو كلامهم في مسألة أول ما يجب على المكلف. وهو مردود ومنقوض بما في صريح القرآن، وبما دعا إليه الأنبياء أن أول ما يدعى إليه هو شهادة إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهي دعوة واضحة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.

ومع ذلك سنرد عليهم بمنطقهم العقلي وحججهم النظرية، وهنا لفتة: وهي أن أصحاب الكلام جميعاً يقولون: إننا ندافع عن الإسلام في وجه أعداء الدين من الملاحدة والفلاسفة العقليين الذين يقولون: "كل الأديان تقليد"، فالمسلم لأنه عاش في دار الإسلام وولد فيها صار مسلماً؛ وكذا اليهودي والنصراني، والتقليد لاينفع، بل لا بد أن نقيم ديننا على حجج وبراهين وننبذ التقليد.

فقال علماء الكلام: ونحن ليس عندنا تقليد أبداً، فإننا نقول أول ما يجب على الإنسان هو أن ينظر، أو يشك حتى نحرر عقله.

ص: 965

وأما من يعيش في بادية وهو أمي، ويعبد الله عز وجل ويقوم بجميع الواجبات والفرائض دون أن يستدل بالعقل على وحدانية الله كما يريدون، فهذا يسمى مقلداً، وقد اختلفوا في إيمان المقلد كما مر، فقال بعضهم: لا يثبت له إيمان. وقال بعضهم: إنه عاصي. وقال بعضهم: إنه معذور.

فاليهودي مقلد، والنصراني مقلد، والمسلم مقلد، فالأديان كلها تقليد، وأما الحق فهو ما يعتقدونه من البراهين والحجج العقلية.

ونحن نرد عليهم بالآتي:

أولاً: كيف رضيتم أن يسوى بين الإسلام، وبين غيره من الأديان الباطلة المحرفة؟ فإن من ولد على الإسلام ليس بمقلدٍ أبداً، بل كل مسلم ليس بمقلد في أصل الدين -أي في إيمانه بالله- إلا على المعنى الذي سنذكره -إن كان يسمى تقليداً-، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(كل مولود يولد على الفطرة)(كل مولود يولد على الملة) وفي رواية: (كل مولود يولد على هذه الملة) ، فنحن نجزم ونعلم أن أولاد اليهودوالنصارى، وأولاد المجوس كلهم يولدون على هذه الملة، ولذلك قال:(فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل يمسلمانه. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء؟) فالبهيمة لا تولد مقطوعة الأذن، أو عليها علامات مميزة، وإنما تولد جمعاء. فالذي يشرط ويقطع الأذن، ويجعل علامة معينة لانتماء معين هو المجتمع أو التربية؛ بحيث يربى على اليهودية، فيصير يهودياً. وإلا فهو في أصله ولد على الإسلام.

ثانياً: أنكم إن قلتم إنه لا إيمان للمقلد.

فمن هو المقلد؟

وما هو التقليد؟

فنحن وهم متفقون على أن التقليد هو: اتباع الغير بلا حجة، لذا لو قلت له: أنا اتبعك في كل ما تقول، فإنه سيقول: لا تقلدني. لكن لو قلت: ما هي براهينك؟ فقال: كذا وكذا.

فقلت: أنا عرفت هذه البراهين واتبعتك تقليداً لك.

فإنه سيقول: لا، أنت لست مقلداً؛ لأنك آمنت واتبعتني بعد ما عرفت براهيني.

ص: 966

فنقول: -يا سبحان الله! - وأي حجة أعظم من إرسال الرسل؟!

وهل اتباع الأنبياء تقليد؟!

وهل هناك حجة أعظم من اتباع الأنبياء ومن الوحي الذي أنزله الله؟!

وما من نبي إلا وأتى بآيات بينات خارقات على أنه نبي من عند الله، وما من نبي كُذِّب إلا وأهلك الله عز وجل المكذبين ودمرهم، وأنجى المؤمنين وأنجى نبيهم. فالحجة هي في إرسال الرسل. قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة [الأنعام:149] فكيف تقولون: إننا نأخذ كلام الغير بلا حجة ونحن نتبع أنبياء الله ورسله، ونتبع الآيات والبراهين البينات التي نجدها في الكتاب والسنة؟

ثانياً: القرآن العظيم قد جاء بالحجج العقلية النظرية مثل ما جاء بالحجج النقلية، وهو واضح لكل من يقرأه ويتدبره، فلم يذكر في القرآن وجود الله ولا الإيمان باليوم الآخر مجرداً، بل جاء ذكرها بما يهز العقل والفطرة هزاً شديداً.

أفلا ينظرون؟!

أفلا يتدبرون؟!

أفلا يتذكرون؟!

ص: 967

آيات عظيمة! ويستدل الله علينا ويحتج بأنه قادر على إحياءنا بعد الموت بالحجج السمعية والخبرية، وكذا بالحجج والبراهين العقلية. ولذلك لم يثبت ولم يصمد أمام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا التابعين أي مناظر من الملحدين أبداً، بل كانوا يفتحون قلوب الأمم والشعوب قبل أن يفتحوا بلادهم، لأن النور الذي يحملونه معهم يضيء لتلك القلوب فيظهر الميثاق الفطري: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] فهم شاهدون ومقرون، فإذا جاء هذا المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى التوحيد، تطابقت هذه الدعوة مع الفطرة تماماً، ولذلك قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه [الروم:30] فهذا الدين منقوش في الفطرة لا يبدله أحد، ثم يأتي الأنبياء بما يصدق ويؤيد هذه الفطرة، فليس في الأمر إذن تقليد مطلقاً، وإنما هو حجج عقلية.

أما أهل الكلام فكلامهم هو محض التقليد، ومحض الهوى والتخرص والظنون، ولذلك اختلفوا وأعرضوا وتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالفقهاء مثلاً متفقون على أنه إذا بلغ الصبي لا يجب على وليه أن يقول له: قل لا إله إلا الله. لأنه ولد على الإسلام، فهو مسلم بالفطرة وبالاتباع لأبويه، وهما مسلمان، بل يغلب جانب الإسلام دائماً.

فلو وجدنا لقيطاً مرمياً في بلاد الكفار، فإننا نفترض في هذا اللقيط الإسلام، ونأخذه ونربيه على أنه مسلم، ونسميه محمداً، ولا ندعه للكفار أبداً؛ لأن الأصل في كل مولود هو الإسلام، وهو مولود على هذه الملة.

وهذا الكلام تجده عند أصحاب البدع في كتب فقههم؛ حيث تجد بعضهم من أرباب الفقه وأرباب الكلام.

ص: 968

فإذا جاء في الفقه ذكر هذا الكلام، وإذا جاء في علم الكلام قال: لابد من ترك التقليد، وهل يكفر المقلد أو لا يكفر؟

إلخ، كأنه يشرح لأمة أخرى غير أمة محمد التي يشرح لها الفقه.

فأول واجب على المكلف هو: الإقرار بالشهادتين والنطق بهما، وهو أخص من القول، فالنطق: مجرد إخراج الحروف، أما القول فهو في اللغة العربية: يطلق على الفعل، فإذا حرك رجل يده تقول: وقال بيده هكذا، كما جاء في الحديث:(وقال بيديه هكذا) فلا يكون الإنسان مسلماً أبداً إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله، وليس في هذا خلاف -ولله الحمد- بين علماء السنة والجماعة، ولا بين الفقهاء، إلا لما ظهرت البدع، فقالوا: إن الإيمان يكون في القلب، ولا يشترط أن ينطق بلسانه، ولذلك قال بعض المؤلفين: إن من عرف الله بقلبه ولم يشهد أن لا إله إلا الله ولم ينطق بها، يمكن أن ينجوَ عند الله ولا يعذبه؛ لأن التصديق حصل عنده، وهذا كلام باطل مخالف للإجماع المنعقد من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من أهل السنة والجماعة، وهو: أن الإنسان لا بد له أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولابد له -أيضا- أن يؤدي الصلاة والزكاة ظاهراً؛ حتى يكون له حكم الإسلام، ولا يهم إن كان في قلبه غير مقر بها، فإننا لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس.

وهناك فرق بين أحكام المرتد، وبين أحكام الكافر الأصلي كاليهودي أو النصراني، فمن شهد أن لا إله إلا الله، وقال: أنا مسلم، أو فعل شيئاً من خصائص الإسلام، ثم نكث وكفر فحمل الصليب مثلاً، أو سجد لغير الله، فهذا مرتد يقتل، بخلاف الثاني فإنه على دينه من الأصل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهاهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام، هل يصير مسلماً؟ الصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام]

ص: 969

قال عمر رضي الله عنه: "لو أنني بعثت جيشاً فحاصروا حصناً من العجم، فخرج منهم رجل من الحصن المحاصر، فرفع يديه إلى السماء وأشار بإصبعه، فقتلهم المسلمون -لقتلتهم، أو وديتهم " -أي: إما أقتلهم أو أدفع دياتهم- لأنه أشار بالتوحيد، وهي قرينة تدل على الإسلام. فهذا هو القول الصحيح.

فلو رأينا إنساناً يصلي فهو مسلم، لأنه فعل خصيصة من خصائص الإسلام. هذا بالنسبة للفرد، وبالنسبة للدار نعرف أنها دار إسلام أو دار كفر بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يبعث الجيش أو السرية في الليل، فيبيتون قريباً من العدو، فإن سمعوا الأذان وإلا أغاروا) فالبلد الذي يؤذن فيه هو بلد إسلام، ثم بعد ذلك نتعرف عن بقية الأحكام، فقد تكون جالية مسلمة فقط، والكفار هم الأكثرية، فهناك علامات مبدئية، ثم بعد ذلك يأتي البحث والاستقصاء، ويأتي الإلزام بالشريعة والتمسك بها. فإثبات الإسلام للإنسان يثبت على القول الصحيح بأي شيء من خصائص الإسلام، وعادات المسلمين وأحياناً قد تكون قرائن، ولكنها ضعيفة. فمثلاً: لو دخلت بيت إنسان، وإذا هو معلق صورة الكعبة على بيته، أو فيها سجادة وبجوارها مصحف، وأنت لم تجد فيها إنساناً، فإنك تستشعر حتى ولو كنت في بلد كفر أن هذه الغرفة يسكنها إنسان مسلم، فلو جاء وقال: السلام عليكم. تأكدت أن هذا مسلم، ولا يعني هذا أنك تشهد له أنه من أهل الجنة، أو أنه كامل الإيمان. فهذا مجرد إثبات مبدئي للأحكام ولا يعني الشهادة له بالجنة، أو بكمال الإيمان.

ص: 970

وفي بعض الأحاديث زيادة، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(فإذا صلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، قال: فهم المسلمون، أو فهو المسلم له مالنا وعليه ما علينا) فأكل ذبيحة المسلمين معناه: أنه دخل في دين الإسلام، لأننا لا نأكل ذبائح المشركين، ولنفترض أن المشركين لا يأكلون ذبائحنا، فهو المسلم، له مالنا وعليه ما علينا من حقوق ومعاملات دنيوية، أما ما بينه وبين الله عز وجل فهذا حسابه إلى الله، ونحن إنما نعامل الناس بالأحكام الظاهرة، ولذلك من قال: لا إله إلا الله ولو كان في المعركة كان له حكم الإسلام، كما في حديث أسامة {بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري عنه فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم} .

لذا لما اقتتل الصحابة ووقعت الفتنة بينهم، اعتزل أسامة جميع الفرق، ولم يقاتل، مع حبه لعلي رضي الله عنه حتى قال لـ علي: لو كنت في شدق الأسد لوددت أن أكون معك إلا في هذا الأمر. لأنه قد التزم أن لا يقاتل مسلماً أبداً بعدما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أشققت عن قلبه؟!) .

ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري كلام أئمة الأشاعرة في قضية النظر، فذكر كلام أبى جعفر السمناني -وهو من أئمة الأشاعرة الكبار- أنه قال:(مسألة أول واجب هو النظر أو بداية النظر أو أجزاء النظر، هذه المسألة بقيت في مذهب الأشعري من المعتزلة) .

ص: 971

والإنسان قد يعود إلى الحق عودة إجمالية، لكن لا يعرف تفاصيل هذا الحق، كما حصل لأبي الحسن الأشعري، كما قد يعيش مفكراً كبيراً في الشيوعية، أوفي اليهودية، ثم يقرأ عن الإسلام، فيدخل فيه، فلا يعني دخوله في الإسلام أنه عرف جميع تفاصيل الإسلام، فعلماء الكلام من رجع منهم إلى عقيدة أهل السنة والجماعة إنما كان رجوعاً مجملاً، وقد لا يتاح له أن يعرف تفاصيلها.

فمثلاً: أبو حامد الغزالي - وهو من هو في العلم والتبحر - مات وصحيح البخاري على صدره مع أنه أفنى عمره في كتابات كثيرة في التصوف وعلم الكلام، وفي آخر أمره اقتنع أن علم الكلام لا يصلح، وألف كتاب إلجام العوام عن علم الكلام.

فإنه قبل موته بدأ في طريق الحق، ولا يقتضي ذلك أنه عرف الحق كله، فكذلك أبو الحسن الأشعري رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة في الجملة، فكلامه في أول ما يجب على الإنسان وهو النظر من بقايا الاعتزال.

ذكر ابن حجر في الفتح في شرح كتاب التوحيد فقال: "< فإن قال: عبث ولعب.

فيقال له: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون "، ومعنى هذا: أنه دخل في دين الله هزواً وكذباً، وهذا هو الزنديق المرتد الملحد. فنقتله على قول من يرى أن الزنديق لا توبة له، وعلى القول الآخر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

فلا نسمح لأي إنسان أن يعبث بديننا، فيصلي عبثاً أو يؤذن تقليداً للمؤذنين واستهزاء بديننا، بينما الكافر الأصلي نرضى أن يذهب إلى الكنيسة ولا نتدخل في دينه على الشروط المعروفة المعلومة في حكم أهل الذمة، لكن لو قال: لا إله إلا الله، أو دخل المسجد وصلى، أو عمل عملاً من الشعائر الإسلامية، فلا بد له أن يلتزم بالإسلام وهو دين الله سبحانه وتعالى ولا يقبل منه الرجوع عن هذا الدين أبداً، فإن قال: أنا عابث أو مستهزئ، عاقبناه على هذا العبث والاستهزاء.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 972

[فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية، فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع:

أحدها: الكلام في الصفات.

والثاني: توحيد الربوبية وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.

والثالث: توحيد الإلهية وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له.

أما الأول فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد كالجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله وهذا غاية التعطيل وهذا القول قد أفضى بقوم إِلَى القول بالحلول أو الاتحاد، وهو أقبح من كفر النَّصارَى، فإن النَّصارَى خصوه بالمسيح، وهَؤُلاءِ عموا جميع المخلوقات.

ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان عارفون بالله عَلَى الحقيقة.

ومن فروعه أن عباد الأصنام عَلَى الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره. ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنى والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة. ومن فروعه أن الأَنْبِيَاء ضيقوا عَلَى النَّاس تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبير] .

الشرح:

ابتدأ المُصنِّفُ رحمه الله يشرح أنواع التوحيد الثلاثة، وهنا شبهة يثيرها بعض المبتدعة وهي: أن تقسيم التوحيد إِلَى ثلاثة أقسام بدعة. فلم نقرأ في القُرْآن ولا في السنة توحيد الأسماء والصفات.

ص: 973

وهذه الشبهة دالة عَلَى جهلهم ومكابرتهم، وإلا فإنهم لا يتحرجون من البدع حتى يقولون: إن هذا التقسيم بدعي، ولكن نقول لهم مع ذلك: إن أقسام التوحيد الثلاثة نقرأها في كل ركعة من صلاتنا، فإذا قرأنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فهذا توحيد الربوبية، وإذا قرأنا الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهذا توحيد الأسماء والصفات، ثُمَّ إذا قرأنا بعد ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فهذا توحيد الألوهية أو توحيد العبادة.

فمن أهمية هذه الأقسام الثلاثة أننا نرددها في كل فريضة، وهي في القرآن، وكذلك آخر سورة في القرآن، فإذا قرأنا قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فهذا توحيد الربوبية. مَلِكِ النَّاسِ فهذا يشمل توحيد الربوبية. إِلَهِ النَّاسِ فهذا يشمل توحيد الألوهية، وتشمل الآيات توحيد الأسماء والصفات، لأنه سمى نفسه رباً وملكاً وإلهاً. فالقرآن من أوله إِلَى آخره توحيد، وصلاتنا في كل ركعة نذكر فيها التوحيد بأنواعه الثلاثة، وعلماء الإسلام فهموا هذا الفهم، ولذلك من ألف منهم في التوحيد كابن مندة -وهو من العلماء المتقدمين- ذكر هذه الأنواع الثلاثة في القرن الرابع، فليس هذا التقسيم من اختراع شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَمِيَّةَ ولا غيره.

فأنواع التوحيد ثلاثة جاءت في الكتاب والسنة، كما في الحديث عن عَائِِِشَةَ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا عَلَى سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سلوه لأي شيء يصنع ذلك فسألوه فَقَالَ لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه) .

ص: 974

إذاً توحيد الأسماء والصفات معروف لدى السلف الصالح، والأدلة عَلَى ذلك كثيرة، وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنها صفة الرحمن، ومعنى هذا أن توحيد الأسماء والصفات هو ثلث التوحيد، والثلث الثاني هو توحيد الربوبية، والثلث الأخير هو توحيد الألوهية.

فالأدلة من الكتاب ومن السنة ومن فعل السلف دالة عَلَى أنواع التوحيد الثلاثة، ولا ينكر ذلك إلا مكابر، ولو أنهم حققوا التوحيد لما اختلفنا في الأسماء، لكن التوحيد عندهم نظري، وهو: نفي الكميه المتصلة، ونفي الكميه المنفصلة، هذا هو التوحيد عندهم، فلذلك قالوا: هذه الأقسام الثلاثة بدعة.

يقول المُصنِّفُ أما بيان التوحيد الأول، فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، فالتوحيد عند الجهمية: أن لا يثبت لله صفة قط، والتوحيد عند المعتزلة: أن ننفي جميع الصفات مع إثبات الأسماء، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، مريد بلا إرادة، عزيز بلا عزة، هكذا يقول المعتزلة من عند أنفسهم افتراء عَلَى الله عز وجل.

والله تبارك وتعالى قد جعل القول عليه بغير علم في درجة بعد درجة الشرك في الزجر، فقَالَ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثُمَّ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33] ثُمَّ قَالَ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فهذا أعظم من الشرك. فالمشرك يعبد غير الله عز وجل، لكن من يقول عَلَى الله بغير علم أعظم من مجرد هذا المشرك؛ لأنه يقنن، وينظّر لهذا الشرك، ويفتري عَلَى الله عز وجل.

فنفاة الصفات جعلوا التوحيد هو: نفي الصفات، فقالت الجهمية: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.

ص: 975

فالواجب عندهم هو: واجب الوجود، فالفلاسفة يسمون الله تَعَالَى واجب الوجود، ويقولون: الموجودات تنقسم إِلَى ثلاثة أقسام: واجب، وممكن، ومستحيل، من حيث الوجود. فواجب الوجود هو: ما يوجد بذاته مستغنى عن غيره وغيره مفتقر إِلَى وجوده، أي الله عز وجل. والممكن: وجود المخلوقات، والمستحيل: وجود واجبين، كما هو مستحيل وجود إلهين -مثلاً-.

فواجب الوجود عندهم -كما يقولون- هو الله عز وجل، فلا يثبتون له إلا أنه واجب الوجود، وأنه موجود في عالم المثال -أي: في الذهن- فلا يثبتون أي صفة وجودية -كما قلنا- حتى لا يتعدد ويصبح في عالم الواقع، حيث ننفي الكمية المتصلة والكمية المنفصلة، فنقول: بإثبات ذات مجردة عن جميع الصفات.

وهذا في الحقيقة لا يتصور له وجود في خارج الذهن، بحيث نثبت ذات ليس لها أي صفة. فكل شيء له وجود لابد أن يكون له صفات، فنقول مثلاً: هو طويل، عريض، ضخم، أحمر أو أبيض، فلابد له من وصف مادام موجوداً في الخارج. فواجب الوجود الذي يتكلم عنه الفلاسفة غير موجود أبداً، إلا في أذهان الفلاسفة فقط.

نفي الصفات أفضى إلى الحلول والاتحاد

ثُمَّ ذكر المُصْنِّف قضية خطيرة وهي: أن هذا القول قد أفضى بقوم إِلَى القول بالحلول والاتحاد، وهذه أخطر من مجرد نفي الصفات.

فنفي الصفات كفر بالله عز وجل يخرج من الملة؛ لأنه تكذيب لكتاب الله، ولكن أكفر منه مذهب الحلول والاتحاد الذين يقولون: لا يوجد متعيناً في الخارج.

وهذا مصطلح من المصطلحات اليونانية، فاستوعبت اللغة العربية هذه المصطلحات لأنها لغة واسعة، ومعنى هذا المصطلح: أنه إذا وجد أي شيء متعين خارج الذهن فلابد له من صفات، والله عندهم لا صفة له مطلقاً، -إذاً- لا يكون موجوداً متعيناً في الأعيان، وإنما يبقى في الأذهان فقط.

ص: 976

فجاء بعض علماء الصوفية وبنوا عَلَى هذا الكلام شيئاً آخر، فَقَالُوا: مادام أنه لا وجود له في الأعيان، فليس في حقيقة الأمر إله غير هذه الأعيان، وهي ذات الله سبحانه -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- فهكذا ركبوا قضية وحدة الوجود أو الحلول، فهذا العالَم هو الرب والإله، وهو الخالق والمخلوق معاً، ولذا قال المصنف:[وهذا أقبح من كفر النَّصَارَى] ، لأن النَّصَارَى خصوه بالمسيح، فَقَالُوا: المسيح هو الله أو الإله حل في المسيح، وأما هَؤُلاءِ فَقَالُوا: حل في كل شيء، فالوجود الخارجي هذا هو نفس الإله.

ثُمَّ ذكر المُصْنِّف ما يلزم قول هَؤُلاءِ فقَالَ:

[من فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه كاملوا الإيمان عارفون بالله عَلَى الحقيقة] أي: أن كل من أنكر الله عز وجل فهو مؤمن بالله. وقولفرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] صدق. فهذا هو لازم قولهم، بل صرح بعض الصوفية بأنفرعون كَانَ صادقاً عندما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] ، لأنه ليس في الوجود إلا هو، فهو تكلم عن ذات الحقيقة، وهو من الوجود لم يكذب، ولذلك ألفوا كتاباً في إثبات إيمان فرعون. وقال بعضهم: إنفرعون أصلاً لم يكفر ولم يشرك، وكل من عبد الأصنام، أو عبد الكواكب، أو عبد الأحجار، فإنه لم يعبد غير الله، وإنما اختلفت المسميات، أو اختلفت الأنظار، ومراد الكل واحد.

ولهم في ذلك أشعار -نسأل الله العافية- كما في شعرابن الفارض، وابن عربي، بل في كتاب الفتوحات المكية لابن عربي من أمثال هذا الكلام الشيء الكثير.

قال شاعرهم عبد الكريم الجيلي:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة

نعوذ بالله من هذا القول الساقط الذي يستحي الإِنسَان أن يقول مثل هذا الكلام: أن الكلب والخنزير هو إلههم، وأن الله عندهم راهب في كنيسة.

وكما يقول: ابن عربي:

أدينُ بدينِ الحبِ أنَّى توجهت ركائبُهُ فالحبُ ديني وإيماني

ص: 977

فأصبح قلبي حاوياً كل ملةٍ وكعبةُ أوثانٍ وديرٌ لرهبانِ

يعني أن جميع الأديان عنده سواء، فاليهود والمجوس والنَّصَارَى والْمُسْلِمُونَ كلهم يعبدون شيئاً واحداً، وكذا من يعبد الكلب والخنزير، ومن يعبد الشجر والحجر والكواكب، ليس هناك أي فرق لأن الموجود واحد، كما قال ابن عربي:

العبد رب والرب عبد ياليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف

أي ليس هناك تكليف نهائياً؛ لأنه إن كلفنا العبد فذاك رب، وإن كلفنا الرب فإنما يكلف العبد ولا يكلف الرب، فهذا هو دين القوم الذي يسمونه: توحيد خاصة الخاصة، ومن فروعه أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية لأن الكل واحد، بل هم اعترفوا ببعضه. فبعضهم لما أراد أن يزني بامرأة فامتنعت قال لها: الله أنا، وكلامهم موجود في مصادره. فسُبْحانَ اللَّه كيف ينتسب لهذا الدين من يقول هذا القول؟!

وأيضاً قالوا: الماء والخمر مشروب كله. ومن فروعه: أن الأَنْبِيَاء ضيقوا عَلَى النَّاس -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- لأنهم جعلوا لنا عبادات وعقيدة معينة، فجعلوا طريق الله واحداً وغيره باطل، بينما كل الطرق تؤدي إليه، وكل العبادات صواب -كما يقولون والعياذ بالله- إذاً الأَنْبِيَاء ضيقوا وحجروا واسعاً!!

وابن سبعين -وهو من أئمة الصوفية الحلولية - ترجم له الذهبي وغيره، ومما ذكروا: أنه كَانَ يتعبد في مكة، وأقام بغار حراء فترة طويلة ينتظر الوحي.

وكان يقف بالطواف والنَّاس يطوفون ويقول: هَؤُلاءِ كالحمير التي تدور في الطاحون، فقالوا له: لم تتعبد عند الكعبة مادمت تقول هذا الكلام، فقَالَ: انتظر الوحي.

فقالوا: لا وحي بعد مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وقد انقطع الوحي.

فقَالَ: لقد ضيق ابن آمنة واسعاً.

فهذا دين القوم. نسأل الله السلامة والعافية.

ص: 978

وهم في الحقيقة زنادقة تستروا بالانتساب إِلَى الدين ليهدموه، وهذه النظريات ودعاوى الصوفية كلها تعود إِلَى الوثنية اليونانية.

فالفلاسفة الرواقيون كانوا من أكثر النَّاس عبادة وزهداً، وكانوا يقولون: إذا أردت الحكمة أن تنقدح في قلبك وتنطق بها، فلا تأكل في اليوم إلا لوزة أو حبة.

وفيهم الفلاسفة المشاؤون، وهم الذين يلقى أحدهم الدرس التمهيدي وهو ويمشي ويقول: التفكير مع المشي أعمق، ولذا سموهم المشائين.

وأما الرواقيون فكانوا يجلسون بين الأروقة فسموهم رواقيين.

وكذلك أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد قالوا: إذا تعبدنا وزهدنا كثيراً في الدنيا، وضيقنا عَلَى أنفسنا فاضت علينا الحكمة والعلم اللدني، وينزل في قلوبنا العلم الباطن، حدثني قلبي عن ربي. لذا يقولون: أنتم تأخذون دينكم من ميت عن ميت. فتقولون: حدثنا عبد الرزاق -وقد مات- عن معمر -وقد مات- عن أيوب -وقد مات- وأما نَحْنُ فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.

قالت الجهمية: إن إثبات صفة أو أكثر مع الذات التي هي واجبة الوجود -كما يسمونها- يستلزم تعدد القدماء، أو تعدد الواجب، فهو العلة الأولى، وعنه وجدت الموجودات الممكنة -أي المخلوقات- فلو أثبتنا له الصفات للزم من ذلك تعدد الذات، فلا نثبت إلا وجوداً مطلقاً.

وقالوا بنظرية المثل الأفلاطونية: أن عالم المثال موجود وهو عالم حقيقي.

ويرد عليهم: أن هذه الصفات هي لذات واحدة لم تتعدد.

وكلام الجهمية هو امتداد لكلام الفلاسفة اليونانيين في إثبات الموجودات الكلية المطلقة التي لا أعيان لها في الخارج.

فيقولون: إن الإِنسَان موجود في الدنيا فهو عين للوجود الكلي المطلق للإنسان.

فنقول لهم: إن وجود إنسان كلي لا تعيين له إنما يتخيل في الذهن، وأما في الواقع فلا يوجد إلا فلان وفلان معين بذاته.

الفرق بين الحلول والاتحاد

لماذا كَانَ نفي الصفات طريقاً إِلَى الحلول والاتحاد؟

ص: 979

أولاً: نذكر الفرق بين الحلول والاتحاد: وهو أن الحلول: أن تحل الذات الإلهية -كما يقولون- في ذات أخرى، كما تقول النَّصَارَىفي المسيح، حيث يقولون: إن الألوهية حلت في المسيح. فعندما كَانَ يحي الموتى كانت الألوهية هي التي تحي الموتى -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-.

والاتحاد: أن تقترن ذات بذات حتى تصبح شيئاً واحداً، فالذين قالوا: إن الله في كل مكان يقولون: هو حال بذاته في هذه الأمكنة وهو قول الحلولية، أو يقولون: اتحد بهذه الأمكنة فأصبح شيئاً واحداً وهو قول الاتحادية.

فالمتكلمون الجهلة بصفات الله عز وجل قالوا بالحلول في حق الله وأنه تَعَالَى في كل مكان.

أما أُولَئِكَ الذين قالوا بالاتحاد فهم أصلاً أصحاب نظرية الفناء الهندية الصوفية الذين قالوا: إن الله يُعبد ثُمَّ يُعبد ثُمَّ يُتَقْربُ إليه، وتصفى الروح تماماً بالزهد والعبادة والمشي في الفلوات وسكنى المغارات وغير ذلك، حتى تتحد بالذات الإلهية الواحدة وتصبح شيئاً واحداً.

ودين الصوفية أعظم شراً من النَّصَارَى، لأن النَّصَارَى قالوا: إنه تَعَالَى حل بالمسيح. وهَؤُلاءِ قالوا: إنه حل أو اتحد بكل شيء، فكل شيء هو عينه وهو ذاته، وفي ذلك يقولابن عربي:

العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف

وكما قال في أبيات أخرى:

فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده

وكما قال في أبيات أخرى:

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

يعني: محبة الله أو العشق الإلهي المطلق، وهي محبة الزنادقة كما قال علماء السلف: (

من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري خارجي، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الحنيفي) .

ص: 980

فهم يقولون بالحب المطلق، ولذلك يستحلون جميع المحرمات حيث يقولون: إنك إذا أحببت شخصاً وأحبك هو كذلك، لم تغضب إذا أخذ من مالك شيئاً أو أخطأ عليك لوجود المحبة بينك وبينه، ونحن بيننا وبين الله المحبة المطلقة والفناء في ذاته، فلا نبالي بأي معصية نعملها، لأن المحب من عادته التجاوز عن المحبين، ثُمَّ يستدلون بأشعار العرب مثل من يقول:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم

إلى أن يقول:

أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمن اللوم

ومثل من يقول:

يا حبيباً من أجله أحببت العمر وأوقفت كل عمري عليه

فهم ينقلون هذه المعاني ويجعلونها في حق الله عز وجل، ويقولون: إنه مادام الحبيب لا يؤاخذ حبيبه في أي شيء فليس هناك أي حرج.

وقد رد الله عَلَى اليهود والنَّصَارَى حين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه فقَالَ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] وقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] بل الأَنْبِيَاء كذلك، فآدم عندما عصى جازاه الله عَلَى معصيته، والخطيئة التي أخطأها داود عليه السلام بكى عليها وندم، بل هدد الله الأَنْبِيَاء تهديداً فقَالَ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] .

علاقة الحلول والاتحاد بنفي الصفات

ص: 981

الذين نفوا الصفات خرجوا قبل الحلولية والاتحادية، لأن الجهم بن صفوان قتل سنة 128هـ، وأما من قالوا بالحلول والاتحاد فقد أقيمت لهم أول محاكمة علنية حوالي عام 280هـ أو بعدها، وذلك بعد أن أشيع في بغداد أنهم زنادقة، فجمع منهم الجنيد،وذا النون المصري وعدد كبير من عبادهم يزيد عن 80 رجلاً، وسجنوا وحقق معهم، ولكنهم قالوا: نَحْنُ نظهر الإسلام ونقيم الشعائر الخمس وليس عندنا أي زندقة، وأخذت التوبة عليهم، وكان الذي تولى شكواهم وإثارة الدعوة ضدهم هو غلام خليل أحد تلاميذ تلامذة الإمامأَحْمدُ بن حَنْبَل -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وهذه القضية تعرف بقضية غلام خليل.

وقد بنوا مذهبهم عَلَى مذهب نفي الصفات كالتالي:

قال أهل الحلول والاتحاد: مادام أن الصفات منفية وأن لله وجوداً مطلقاً لا صفة له، فهذا الوجود هو عين ذات الله.

فمن تأثر بعلماء الكلام إِلَى حد التجهم ونفى جميع الصفات، من الممكن أن يصبح عند الصوفية اتحادياً وحلولياً، لأنه لم يكن يثبت شيئاً إلا وجوداً مطلقاً، فأتى عند الصوفية فَقَالُوا: هذا الوجود المطلق الذي لا صفة له هو هذه الأعيان الموجودة.

لأنه عندما قال أفلاطون: إن هناك عالم الموجودات وعالم المثل لم يره أحد ولم يسمع به أحد إلا أفلاطون، وعالم أعيان مشاهد الوجود، فالحقيقي هو هذه الأعيان. فلو كَانَ موجوداً هذا الرب الذي يقوله أفلاطون، فهو هذا الوجود الحقيقي الذي نراه بالعين، ومن هنا قالوا: إن كل العباد والعقائد والأديان هي تهدف إِلَى شيء واحد وإلى حقيقة واحدة، هي حقيقة الوجود وحقيقة الموجودات؛ لكن بعضهم عدَّد في الإشارة وبعضهم وحَّد.

فهم يقولون كما يقول شاعرهم: ما في الوجود حقيقة إلا هو، والصوفية يزيدون عَلَى ذلك بعبارات روحانية فيقولون: إن الإِنسَان إذا نظر بعين البصيرة والتأمل رأى أن هذا كله سراب، فالبشر والحجارة لاوجود لها أصلاً، إنما الوجود الحقيقي هو الله.

ص: 982

فمن هنا اجتمعت النظريتان، الكلامية والصوفية وأدتا إِلَى مدلول واحد، وهو إما: الحلول وإما: الاتحاد وهما متقاربان. فلذلك يذكر المُصْنِّف هنا ما يلزم عليهم، فقَالَ: إن كفرهم أقبح من كفر النَّصَارَى فالنَّصَارَى قالوا: إن الله حل في المسيح، وكفرهم الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم [المائدة:72] فهذا كفر، فكيف بمن قَالَ: إن الله هو هذه الحجارة وهذه الأشجار، فهذا أقبح وأشد كفراً.

ومن فروع هذا الكلام أو التوحيد عندهم: أن فرعون وقومه كاملوا الإيمان، عارفون بالله عَلَى الحقيقة، ولذلك صرح ابن عربي بأنفرعونعندما قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] لم يكن مخطئاً، ولم يقل إلا الحق، لأنه ليس في الوجود إلا هو، فهو تكلم عن ذات الحقيقة الكلية وعن ذات الوجود.

ولذا قال الحلاج وأبو يزيد وغيرهم: "سبحاني سبحاني ما أعظم شأني" و"ما في الجبة إلا الله"!!.

وقالفرعون: "أنا ربكم الأعلى"، فكان كافراً فما الفرق بين العبارتين؟!

لا شك أن العبارتين واحدة ومدلولهما واحد، ولكنهم عكسوا القياس فَقَالُوا: الحلاج وأبو يزيد مسلمان مؤمنان مع قولهم: "سبحاني، سبحاني" وقولهم "ما في الجبة إلا الله" ففرعون هو كذلك مؤمن ومسلم وموحد فر من الشرك إِلَى التوحيد.

ولذلك يقول هَؤُلاءِ -ومنهم ابن سينا -: القُرْآن شرك كله، وإنما التوحيد عندنا، لأن الإثنينية شرك.

فإن قلت: خالق ومخلوق، وعابد ومعبود، فهذا شرك لأنك عددت.

وأما التوحيد فهو: اعتقاد أن كل الوجود واحد، وما في الوجود إلا هو.

قال الحلاج:

حتى لقد عاينه خلقه كنظرة الحاجب للحاجب

ولما قيل للحلاج إن هذا الكلام كفر قَالَ:

كفرت بدين الله والكفر واجبٌ عليَّ وعند الْمُسْلِمِينَ قبيح

يعني: نظرتكم نظرة كفر ولا يهمني هذا الذي تقولونه.

ص: 983

بل يقولون: إن موسى عليه السلام كَانَ يدعو إِلَى الشرك، لأنه كَانَ يدعو إِلَى اثنين، وأما فرعونفهو الموحد، لأنه يدعو إِلَى شيء واحد، فهو ينطق بعين الحقيقة. ومن فروعه: أن عباد الأصنام عَلَى الحق والصواب لأنهم إنما عبدوا الله لا غير، لأن الوجود كله واحد -وجود مطلق- ولا موجود حقيقي إلا هو كما يقولون، فهذه الموجودات هي ذاته!!

ثُمَّ يقول المُصْنِّف رحمه الله: [مما نلزمهم به التحليل والتحريم بين الأم والأخت والأجنبية] لأن الذي يثبت ذوات مختلفة فهو شخص معدد، والتوحيد عندهم أن الكل ذات واحدة، فما الفرق بين الأجنبية وغيرها؟! ولذلك وجد في سيرهم وكتبهم أنهم كانوا يتعاشرون بالإباحية فيقولون: هذا حلال في حقهم، وإنما التحريم في حق العوام لأنهم عَلَى الشرك، فتوحيد العوام أن يقولوا:"لا إله إلا الله"، وأن الله فوق السماوات، لأنهم لا يفهمون. وأما هم فقد عرفوا حقيقة التوحيد، وأن الأشياء كلها واحدة، وسقطت عنهم الحواجز، فلم يعد هذا حلال وهذا حرام.

وقد عقد ابن الجوزي في تلبيس إبليس فصلاً طويلاً عن الصوفية فيما يتعلق بالعشق الذي يجعلونه فيما بينهم -والعياذ بالله- فذكر كلاماً يندى له الجبين، ولا يكاد يصدقه أحد أو يفعله أحد من فساق الْمُسْلِمِينَ مجاهرة، فضلاً أن تكون هي أخلاق أولياء الله الذين هم القدوة وأوتاد الأرض، ولولاهم لنزل البلاء من السماء ولمحقت البركات، ومن عجائبهم: أن النوري -لما صاح غراب عَلَى المنارة- قَالَ: لبيك لبيك. قالوا: لماذا؟ قَالَ: الحق ناداني. فهل الحق في الغراب والعياذ بالله؟!

وهذه كلها مرجعها إِلَى شيء واحد وهو: قضية الفناء الصوفي التي بنيت عَلَى قضية كلامية.

ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [ومن فروعه أن الأَنْبِيَاء ضيقوا عَلَى النَّاس] .

ص: 984

لأن الأَنْبِيَاء في نظرهم عينوا لهم معبوداً واحداً، بينما المعبودات في نظرهم كثيرة جداً، وعينوا لهم أنواع محدودة من العبادات.

فهذا دين الله الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء جميعاً عقيدة وعبادة وشريعة محددة، وأما هَؤُلاءِ فوسعوا عَلَى النَّاس وَقَالُوا: الآلهة والمعبودات والعبادات متعددة كله لله ومن الله، بل قالوا: إن الفاعل الحقيقي هو الله، وهنا تلتقي النظرية الجبرية مع النظرية الصوفية.

بل قالوا أشد من ذلك: أنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله -هذا حقيقة التوحيد عندهم- والبشر وجودهم عارض لا قيمة له، فلو أن إنساناً أعطى فلاناً مبلغاً من المال فالمعطي الحقيقي هو الله، ولاشك أن الله هو الرازق، ولكن يجب أن ينتبه إِلَى أن هَؤُلاءِ يأتون بمثل هذه الأمثلة ثُمَّ يدخلون عليها أمثلة أخرى فيقولون: فإذا زنى الزاني ولا فاعل حقيقي إلا لله؟ ! -والعياذ بالله- فيجب أن يعلم أن هناك فرقاً بين الخالق للأسباب والفاعل للأسباب فكون الله هو خالق الأسباب هذا شيء، وكونه هو فاعل الأسباب جميعاً هذا شيء آخر، فالله خلقني وجعلني سبباً أن أعطي فلاناً هذا المبلغ من المال، ولا نقول: إن الله أعطى ذلك دون سبب مني. والجبرية والجهمية شيء واحد يقولون: إن البشر كالريشة في مهب الريح، فكل ما يفعله الإِنسَان مقهور عليه، والله هو الذي قدره عليه. وهذه المقولة مع شناعتها وكفرها أقرب من كلام أُولَئِكَ إِلَى العقل.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

ص: 985

[وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إِلَى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة عَلَى إلا قرار به أعظم من كونها مفطورة عَلَى الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل عليهم السلام، فيما حكى الله عنهم: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض [إبراهيم:10] .

وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كَانَ مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى عليه السلام: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الإسراء:102] وقال تَعَالَى عنه وعن قومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل: 14] ولهذا لما قَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال له موسى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:24-28] .

وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية، عجز مُوسَى عن الجواب، وهذا غلط.، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دلت سائر آيات القُرْآن عَلَى أن فرعون كَانَ جاحداً لله نافياً له، لم يكن مثبتاً له طالباً للعلم بماهيته، فلهذا بيّن لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟

ص: 986

بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف.

ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قَالَ: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس، والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما: متفقون عَلَى أن النور خير من الظلمة. وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة، هل هي قديمة أو محدثة؟

فلم يثبتوا ربين متماثلين.

وأما النَّصارَى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون عَلَى أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان عَلَى معنى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم! والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص. وقد فطر الله العباد عَلَى فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وفي الجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين.

والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل وزعم أنه يتلقى من السمع] اهـ.

الشرح:

هذا الكلام كله في قضية واحدة معلومة لدى الجميع وهي: أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وحده لا شريك له.

إثبات وجود الله قضية فطرية

ص: 987

وهذه القضية بديهية فطرية، وهي توحيد الربوبية الذي أتى به الأنبياء، ولمعرفة حقيقة الفلسفة اليونانية فأفلاطون وأرسطو وغيرهم من أئمة الضلال في العالم لم يكونوا ممن ينكر وجود الله، بل هم وضعوا نظريات لإثبات وجود الله، ولكن لما كانوا ضالين وكاذبين ومفترين وتخيلوه عَلَى غير حقيقته، فهم كفار لأنهم لم يتبعوا شرائع الأنبياء، فلم ينفعهم إثبات وجود الله، لأنهم غير موحدين عَلَى دين الأنبياء.

والمتكلمون الذين ورثوا هذه الفلسفات من المعلم الأول أرسطو، قالوا: أعظم آية هي الإتيان بحجج تقرر بأن الله موجود، فأتوا بدليل التمانع وأتعبوا أنفسهم في تقرير ذلك، وسيمر بنا -إن شاء الله-.

ووجوده سبحانه في النفوس أعظم يقيناً من بديهيات الرياضيات مثل "1+1=2" ومن كلام علماء الكلام؛ العلم الضروري أنه لابد أن تعلم أن الكل أكبر من الجزء، ويقولون: هذا علم ضروري، ولو أتيت بشخص من البادية فلعله لا يفهم مثل هذا الكلام، ولكنه يفهم أن الله موجود، ولذلك يقول علماء الاجتماع: عندما بدأت حركة الكشوفات في القرن السابع عشر والثامن عشر، وذهبوا إِلَى مناطق في أفريقيا والهند وأمريكا حيث لم يسبقهم أحد إليها وجدوا مجتمعات بدون حضارة أو دولة أو فن، ولكن لم يجدوا قط مجتمعاً بلا دين أبداً، ووجدوا أن كل هَؤُلاءِ النَّاس يؤمنون بأن هناك طوفان أتى وعم الأرض كلها وأطلقوا عليها اسم الضلالة المشتركة، وهي الحقيقة المشتركة: أن نوحاً هو أبو البشر الثاني بعد آدم وهَؤُلاءِ من ذريته، وأصبحوا يتناقلونها بينهم، فهي حقيقة مشتركة، وكذلك وجود الله هي حقيقة مشتركة، فالأدلة الفطرية عَلَى وجود الله أعظم وأشهر من أن يتكلم فيها.

ص: 988

وأما الصوفية فالغاية عندهم إثبات أن الله خالق كل شيء، فالموحد الحقيقي لا يثبت لأحد الأفعال، بل هو سبحانه الفاعل الحقيقي ولذلك لما دخل التتار إِلَى بغداد أخذ القطب الأكبر يقود الفرس لجنكيز خان ويقول: هذا هو الله، فعلينا أن نرضى بفعل الله، وهذا يقولونه عن اعتقاد أن هذا هو غاية التوحيد، وهو شهود الحقيقة الكونية بحيث لا ترى في الكون إلا هو، وأن كل ما يقع في الكون فهو منه تَعَالَى وهو الذي يفعله بذاته، وأما غيره فلا يثبت له أي شيء من ذلك.

وشهود الحقيقة الكونية هو عين توحيد الربوبية فيسقط اللوم ويعذر الخليقة؛ لذا لو وجدت شخصاً منهمكاً في المعصية فلا تلمه، لأن الله هو الذي يفعل هذه الأشياء وله حكم في ذلك.

فالصوفية وعلماء الكلام جعلوا توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، بينما هو أمر فطري يستلزم التوحيد الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء وهو توحيد الألوهية.

ص: 989

ولذلك عندما يقول المتكلمون: إن الله واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، غير متعدد ولا متبعض، فهم يقصدون بواحد في صفاته أنه ليس له صفة، وواحد في أفعاله أن كل ما في الكون هو فعله وحده لا يشاركه أحد، ففرعون أنكر وجود الله، ولكنه لم يقله عن اعتقاد ويقين في نفسه لأن الله تَعَالَى يقول: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا [النمل:14] وقال له موسى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً [الإسراء:102] فالخذلان الذي كتب عليه هو الذي جعله يقول ذلك، وإلا فهو يعلم أن ما أنزل هذه الآيات إلا الله، وهو وإن جحد الله باللسان فهو مستيقن بربوبيته بالقلب، فالنفس قد تستيقن بالشيء ولكن تأبى الإقرار به مكابرة، وهذا لا غرابة فيه، لأن من هم أعظم من فرعون في الدلائل أنكروا من هو أعظم أدلة من موسى وهم اليهود، فلديهم من الدلائل عَلَى نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أعظم من أدلة فرعون عَلَى نبوة موسى عليه السلام، ومع ذلك كفروا.

وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم للحبر: (أينفعك شيء إن حدثتك؟ فَقَالَ الحبر: (أسمع بأذني) .

والحبران اللذان جاءا وقبلا قدميه لما سألاه عن الآيات التسع، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:{لماذا لا تؤمنان بي؟ فقالا: إن الله قد أخذ علينا العهد أن لا يزال في ذرية داود نبي} .

فالمشكلة عندهم أنه صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل ولم يكن من ذرية إسحاق وداود.

ص: 990

وكذلك كفار قريش لما جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون صدقه، كما في الحديث:{لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا} .

وكذلك {لما نزلت أول سورة فصلت وقرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى قوله تعالى: َإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] فقَالَ عتبة: (يا مُحَمَّد ناشدتك الله والرحم) فخاف مع ادعائه أنه كذب وسحر وأساطير الأولين، قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] .

فتكذيب فرعون من هذا القبيل؛ لأن قضية وجود الله فطرية.

وكذلك الثنوية الذين يقولون: إن للعالم صانعين هما: النور والظلمة، لم يدّعوا أنهما متماثلان، ولذا قالوا: إن الإله الحق هو النور، ويحبونه ويجعلون له صفات الله، وأما الظلمة: فإنهم يجعلون له صفات الشيطان، وقال بعضهم: إن النور قديم واجب الوجود وهو الخالق، وأما الظلمة فهي محدثة مخلوقة، فالمجوس إذاً لا يثبتون حقيقة إلا رباً واحداً.

ص: 991

وكذلك النَّصَارَى الذين يقولون: بثلاثة آلهة كلهم خالق ورازق، وهم أكثر أمم أهل الأرض عدداً وأكثرها حضارة، في الحقيقة لم يثبتوا إلا رباً واحداً، لا ينفصل بعضه عن بعض، وقد نظر أحد ملوك الهند اللادينيين في أديان العالم، فلما بلغه دين النَّصَارَى، قَالَ: هذه الأمة سبة في جبين بني الإِنسَان؛ لأنهم يقولون عن عيسى: "إنه رب، وله أم ولدته، ونشأ عَلَى الأرض، وأن أعداءه اليهود قتلوه وصلبوه، فلذا نتخذ هذا الصليب شعاراً نرفعه عَلَى صدورنا ونضعه عَلَى الكنائس".

فهَؤُلاءِ ليس عندهم عقول، وإذا سئلوا: لماذا قتل الرب؟

قالوا: ليفدي الرب بني آدم من الخطيئة، لأن ابتداءنا كَانَ من الخطيئة، حيث أخطأ وأذنب آدم، ففدى الله الخليقة بابنه الوحيد.

سُبْحانَ اللَّه! أليس يقدر الله أن يغفر لهم ولا يعذب ابنه عَلَى زعمهم؟!

بل الذي أغرى آدم بالخطيئة هو الشيطان، فلماذا لا يكون الفداء بالشيطان أو بابنه؟!

هذه كلها تناقضات ودين لا يقبله العقل، وكيف يصلب اليهودالإله؟!

ولماذا يتخذ الصليب إله؟!

المفروض أن النصراني إذا رأى الصليب بكى وحزن وغضب.

ويقول بعض العلماء: إن شر الفرق وأجهلها وأقلها عقلاً هم الرافضة، ومع ذلك إذا ذكروا بمقتل الحسين بكوا وضربوا أنفسهم، فهم إذاً أعقل من النَّصَارَى.

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [مع ذلك هم لا يقولون إن الإله لا ينفصل بعضه عن بعض، بل يقولون باسم الابن والأب وروح القدس -والمعروف في الأناجيل باسم الأب والابن وروح القدس- إله واحد] .

كيف ثلاثة هم واحد؟!

ص: 992

قال المصنف: [ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، حتى لا يكاد واحداً منهم يعبر عن ذلك بمعنى معقول، ولا يكاد يتفق اثنان منهم عَلَى معنى واحد] . ولذا ذكر مؤلف كتاب إظهار الحق أن أحد علماء النَّصَارَىذهب إِلَى الهند أو أفريقيا للتبشير، فجاء رجل كبير من الكنيسة الأم يزور المدارس التابعة لهم التي تبذل عليها الأموال والتضحيات، فَقَالَ العالم النصراني: هَؤُلاءِ الشباب كلهم أدخلتهم في نور المسيحية. فسأل الرجل ثلاثة طلاب: ماذا تعلمتم؟

فَقَالَ أحدهم: علمني القسيس أن الآلهة ثلاثة، واحد منهم نزل وبقي اثنان.

فَقَالَ له: أنت لا تعرف شيئاً وضربه.

ثُمَّ قال الثاني: علمني القسيس أن الآلهة ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، فأما روح القدس فهو الطائر الذي مثل الحمام لا نراه، وإنما أتى وسيلة وانتهى عمله، وأما الثاني فقد قتل عَلَى الصليب، فقتل منهما اثنان وبقي واحد.

فقَالَ: ما أحسنت العلم.

ثُمَّ قال الثالث: علمني أن الآلهة ثلاثة، وأن الثلاثة واحد، وأن واحداً منهم قتل عَلَى الصليب، فلما قتل الواحد -والثلاثة واحد- قتل الثلاثة، فلا إله الآن. قَالَ: هذا شر الثلاثة.

الأقنوم: لم يقدر النَّصَارَىأن يشرحوها، فَقَالَ بعضهم: هو الذات. يعني ثلاثة ذوات، وبعضهم قَالَ: هو بمعني العنصر، وقال بعضهم: هو بمعني الصفة، أي ثلاث صفات لإله واحد، وقال بعضهم: الأشخاص يعني الأعيان ولذلك النَّصَارَىيقولون: واحد وهو ثلاثة. فكيف هذا الواحد نزل ثلثه وقتل عَلَى الصليب، والثلث الثاني فوق العرش، والثلث الثالث مرة قالوا: مريم، ومرة قالوا: روح القدس جبريل وهو الحمام.

فالأناجيل مختلفة والقساوسة مختلفون، فكل واحد يفهم فهماً مخالفاً للآخر، كما قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:[إنهم مضطربون لا يكاد يتفق اثنان من النَّصَارَىعلى معنى] .

ص: 993

ولذا نرى الإلحاد في أوروبا؛ لأنهم يقولون: إن كَانَ الله عَلَى هذه الهيئة، فدين الشيوعية أفضل من دين هَؤُلاءِ. وقد طبع رسمياً في أوروبا سبعون إنجيلاً تسمى الكتاب المقدس، كل واحد يكذب الآخر في اسم المسيح ونسبه! وهم متفقون أنه ليس له أب، ويقولون إنه عيسى بن يوسف النجار.

فالنَّصَارَىمضطربون، ومع ذلك فإن الإله عندهم هو إله واحد -كما يدعون ويزعمون- فهم لا يعارضون هذه الحقيقة القطعية.

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله سابقاً: [وهذا التوحيد لم يذهب إِلَى نقيضه طائفة معروفة من بنى آدم] .

توحيد الربوبية لم يذهب إلى نقيضه أحد

والشيوعية لم تكن معروفة من قبل لذا يقول ابن أبي العز: لم يذهب طائفة معروفة إِلَى نقيضه، فهل الحقيقة غير الكلام؟

فالشيوعيون حقيقة سموه بغير اسمه، لأنهم إذا سئلوا: من خلق الكون؟ قالوا: الطبيعة.

ص: 994

وهي كلمة معروفة باللغات القديمة وباللغة العربية، ومعناها واحد هو: الطبيعة والمدلول كذلك واحد -أي: فعيلة بمعني مفعولة أو بمعني فاعل- مثل أن تقول: فلانة كريمة بمعنى كارمة، أو امرأة قتيلة بمعنى مقتولة، فالطبيعة إما فاعلة أو مفعولة، فإن كانت فعيلة بمعنى مفعولة فلا شيء فيها، ومعناها: أنها مخلوقة، فلا بد لها من خالق وهو الله سبحانه وتعالى فإن كانت فعيلة بمعنى فاعلة ومعناها أنها خالقة، قلنا: أنتم سميتم الله تَعَالَى بغير اسمه، ولا يقولون الخالق هو الله، لأنهم لا يعرفون إلا الله التابع للكنيسة التي لا يتفقون معها، فاختاروا اسماً بعيداً فسموه الطبيعة، ولذا وجد في أوروبا في القرن التاسع عشر ما يسمى بالدين الطبيعي، والفلاسفة الطبيعيين، وعلم الاجتماع الطبيعي، وهذه النظريات تقول: إن الطبيعية هي الجمال الذي في الكون، وفي الأدب الرومنسي يقولون:"عبادة الطبيعة" لأن الطبيعة هي المناظر التي تعجبنا، والدين الطبيعي كما يقول روسو:"دين حر ليس كمثل أديان الكنيسة"، فإن رجال الدين يأتون بما يخالف العقول، فيفرضون الإتاوات والعشور والرهبنة عَلَى الناس، بخلاف الدين الطبيعي؛ فإنك تعشق وتحب وتتزوج وتقول الشعر وترسم كما تشاء، والكنيسة تقول: لا ترسم إلا صورة العذراء وصورة المسيح، وفي الحقيقة لا يوجد شيء اسمه دين طبيعي، ولكنهم أتوا بهذا الاسم حتى يخرجوا من سيطرة البابوات.

ص: 995

وجاء اليهودي كارل ماركس وإنجلز بنظريات اجتماعية للاشتراكية، وهي ليست من بنات أفكارهم، وإنما ذكرها أفلاطون في كتاب الجمهورية فقَالَ:"أحسن شيء أن يعيش النَّاس بلا أحقاد، فيكون الزواج مشاعاً، والأموال مشاعة، والسياسيون والجنود لا يملكون أي شيء" وذكرها شخص يسمى سان سيمون -وهو فرنسي وهذا الكلام كذلك جَاءَ به المنتسبون إِلَى الإسلام من الفلاسفة، كما في آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، وكذلك اليوتوبايه جَاءَ به رجل يسمى توماس مور ومعناها: المدينة الفاضلة -قال سان الفرنسي -وهو قبل ماركس -: "يجب أن نقضي عَلَى الملكية الخاصة ونجعل الملكية مشاعة للجميع رحمة بالضعفاء والعمال" فجاء كارل ماركس وأخذ الإلحاد من الفلاسفة الطبيعيين، وأخذ مبدأ العدالة الإشتراكية من سان، وقَالَ:"هذه نظرية علمية لأن سان سيمون وتوماس مور وأفلاطون كلهم مثاليون خياليون غير حقيقيين، وأما نظريتي فهي علمية، لأنها مبنية عَلَى حتميات التطور، لأن نظرية ماركس: "أن الإِنسَان تطور"، وحقيقة أوروبا كانت تعيش في تطور من عصر الإقطاع إِلَى عصر الحضارة، فهذه النظرية تتفق مع العلم ومع التطور، فاشتراكيتي وشيوعيتي فقط هي العلمية، وأما اشتراكية من قبلي، فهي مثالية، لأنها مبنية عَلَى خيال وأخلاق، وأما أنا فلا أنظر إِلَى الأخلاق ولكن أنظر إِلَى العلم، والتاريخ يتطور حتماً من مرحلة إِلَى مرحلة، والشيوعية مرحلة حتمية في تاريخ الإِنسَان. فهذه خلاصة إنكار الله عند الشيوعيون، فهي نظرية يهودي حاقد عَلَى البشرية وعلى كل الأديان سماها بالطبيعة، وتبعه من الغرب من تبعه.

ص: 996

وهناك مفكر غربي ملحد اسمه أدنكتوت قَالَ: إن قلنا: "الله" عدنا إِلَى مشاكل الكنيسة، ومن قَالَ:"الطبيعة" فهذا إنسان جاهل أحمق ومغفل، ثُمَّ وجد أن علماء عصره يسمونها "الصدفة"، فإذا سئلوا: كيف نشأ الكون؟ قالوا: صدفة. فلم يجد بداً أن يسمي نظريته: "ضد المصادفة"، فالذي أنشأ الإِنسَان هو ضد المصادفة ولا يقدر أن يقول: الله، لأن الله هو ذلك التابع للكنيسة. فكلام شارح الطحاوية حق، وهو أنه لا يوجد أحد ينكر وجود الله عَلَى الحقيقة، لكن الشيوعيون والملاحدة يسمونه بغير اسمه، فهذا مجمع عليه بين بني الإِنسَان حتى الأطفال يسألون في كل شيء من أتى بهذا؟

لأن الفطرة في ذهن البشر أنه لابد وراء كل موجود من فاعل، ولذلك الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء هو أن يعبد هذا الخالق وحده لا شريك له، كما جَاءَ في الحديث القدسي: إنني والجن والإنس لفي أمر عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي) والله تَعَالَى يفضح كل معاند وكل جبار وكل كذاب، فمسيلمة مثلاً يتفل في عين الرجل حتى تبرأ فتعمى عينه فضيحة من الله، حيث أراد أن يتشبه بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم عندما تفل في عين علي فبرأت، ولم يوجد أحد ادعى أنه خلق أبداً، وما ادعاه الكذابون فقد فضحهم الله، لئلا يغتر بهم أحد.

ويدل عَلَى ذلك الدلائل الفطرية، والآيات الكونية، والبراهين العقلية، ولذلك قال المصنف:[ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع] .

إثبات وجود الله موجود في الفطرة قبل أن يعقل الإِنسَان وهو "الميثاق الفطري". وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] فإذا تحركت العقول بالنظر فإنها لا تخرج إلا بهذه النتيجة، وهو أنه موجود.

فواعجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد

ص: 997

وفي كل شيء له آية تدل عَلَى أنه واحد

وأما قول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الذي سبق ومنه هذا الكلام:

[وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية، عجز موسى عن الجواب، وهذا غلط.، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دل سائر آيات القُرْآن عَلَى أنفرعون كَانَ جاحداً لله نافياً له، لم يكن مثبتاً له طالباً للعلم بماهيته، فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربو بيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف] .

كلام حول الماهية

استطرد المُصْنِّف هنا فتكلم عن مسألة الماهية.

يقول علماء المنطق: السؤال عن الماهية له أداتان "ما" وَ "أي".

فـ"ما": تسأل به عن الشيء لتعرف ماهيته أو حقيقته.

و"أي": تسأل به عن الشيء لتخصيصه عن غيره.

ولما قال فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] سأل موسى عن الماهية، لأن "ما" أداة الماهية، فعجز موسى عن شرح ماهية الله، فعدل عن الجواب وقَالَ: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء:24] وهذا الكلام خطأ متناقض.

وذلك أنفرعون لم يكن يعرف علم المنطق ولا الماهية معروفاً عنده، وإنما أراد أن يجحد وينكر أن يكون هناك إله، فقَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] أي: ليس موجوداً هذا الإله، ولذلك لما ألزمته الحجة وقال له موسى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:26] قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27] .

ص: 998

فلم يكن له حجة، ولذا نسب كلام موسى للجنون، ولم يكن مقصوده الاستفهام عن ماهية الله، ولذلك لما جَاءَ وقت الشدة قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] فالشاهد أنفرعون كَانَ عالماً بوجود الله، ولكنه أنكر ذلك جحداً وقوله: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] هو إنكار وجحد، وأما الاصطلاح المنطقي عن الماهية، وأنها تطلق عَلَى الذات مجردة من الصفات -أي عن الحقيقة الكلية الوجودية- فهذا كلام لا داعي بأن نتعب أنفسنا فيه وهو باطل ومردود.

يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 999

[والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو: أنه لو كَانَ للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته- فإما أن يحصل مرادهما أو مراد أحدهما أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع، لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع، لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلها، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كَانَ هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام عَلَى هذا الأصل معروف في موضعه، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك،، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن الْمُشْرِكِينَ من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد، كما أخبر تَعَالَى عنهم بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ()[لقمان:25] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

ص: 1000

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84، 85] ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كَانَ حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأَنْبِيَاء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إِلَى الله، وهذا كَانَ أصل شرك العرب، قال تَعَالَى حكاية عن قوم نوح: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23] وقد ثبت في صحيح البُخَارِيّ، وكتب التفسير، وقصص الأَنْبِيَاء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف، أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا عَلَى قبورهم، ثُمَّ صوروا تماثيلهم، ثُمَّ طال عليهم الأمد فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إِلَى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلة قبيلة] . اهـ

الشرح:-

ذكر المُصنِّفُ أن وجود الله سبحانه وتعالى والاقرار بتوحيد الربوبية في الجملة أمر مجمع عليه، مفطورة عليه الخلائق، وذكر عجز المتكلمين وأصحاب النظر والاجتهاد العقلي، أو البحث الكلامي، وأنهم كلما جاؤوا بدليل وضعوه عَلَى وجود الله سبحانه وتعالى جَاءَ الفلاسفة فأبطلوا عليهم هذا الدليل، فتناقض القول بذلك؛ لأن المتكلمين يضعون أدلة من جنس قواعد الفلاسفة - والفلاسفة أعلم بقواعدهم- فإذا وضعوا دليلاً من كلامهم هدمه أُولَئِكَ من قواعدهم وكلامهم.

ص: 1001

فلذلك اضطر بعضهم أن يقول: إن وجود الله وتوحيد الربوبية، أمر ثابت بالسمع وبالوحي فقط، بحيث لو لم يرد به الوحي فإن العقول تعجز عن إثباته؛ لأنه ما من دليل تضعه العقول إلا وتأتي عقول أخرى تنقض هذا الدليل، وهذا الذي بلغ بهم حتى أن أقروا بذلك، فَقَالُوا: إن القضية قضية خبرية ووحيٌ، وهذا من تفريطهم وجهلهم، وقد أوضحنا أن الله سبحانه وتعالى لما نزل هذا القرآن أنزل فيه أدلة برهانية، فهو أمر تسمعه، وخبر من عند الله تعتقده، وليس بنظريات فلسفية وإنما هو تنزيل من العزيز الحكيم سبحانه وتعالى ومع ذلك يشتمل على: البراهين القوية التي ليس في بابها أشد وأعظم إقناعاً منها، فذكر سبحانه تعالى الإيمان باليوم الآخر، وذكر صدق أنبيائه، بأقوى البراهين وأقوى الحجج، بل ويتحدى المشركين ويقول: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة:111]، [النمل:64] .

فمثلاً: قضية النبوة هي من أهم قضايا العقيدة، وقد ذكر لنا القُرْآن من الدلائل العظيمة عَلَى صدق الأَنْبِيَاء ما يذعن له كل أحد مهما قيل عن عقله، إلا أن يكون مكابراً معانداً، فإن العناد طبع وجبلة في أعداء الله المستكبرين، وما من نبي بعثه الله إلا وله أعداء.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] وكل نبي ينقسم قومه إِلَى فريقين:

1-

الملأ الذين استكبروا وهم الطبقة العليا أصحاب المناصب.

ص: 1002

2-

والملأ الذين استضعفوا وهم الأتباع وحواشي الناس، وطبيعة الطبقة العليا -المستكبرين في الأرض- أنهم يحادون ويعاندون أي دعوة جديدة، وخاصة إذا كانت ناشئة من الطبقات الدنيا، الذين لا مال لهم ولاجاه عندهم، ولذلك قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس من أصحاب الثرآء، ولا من أصحاب الأموال، فيعترضون عَلَى الأَنْبِيَاء بهذه الاعتراضات.

فالاعتراضات قديمة من عهد نوح عليه السلام، كل نبي يعترض عليه باعتراضات قديمة، والأنبياء يأتون بالحجج والبراهين والآيات البينات، التي لا يملك أي بشر إلا أن يؤمن بنبوتهم، ومن ثُمَّ يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى حق، فإن أعتى طواغيت العالم -وهوفرعون- يتحدث عنه القُرْآن أنه يأتيهم هذا النبي وحده منفرداً، قد نشأ وتربى في بيته وفي رعايته، ولم يكن يدري أن له أباً ولا أماً ولا أحداً، وإنما هو لقيط، التقطه من البحر وربّاه، ثُمَّ يأتي ويقتل النفس ويهرب، ويقدر الله سبحانه أن يأتي هذا الذي تطالبه العدالة، وتبحث عنه لتقتص منه، وإذا به يدعي النبوة.

وجاء بدعوة جديدة غريبة، لا يطيق فرعون أن يسمعها ولا يأبه لها، فهل قال له موسى: القضية خبرية؟!

ص: 1003

لا، إنما قَالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَادِقِينَ [الشعراء:30،31] فأخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين، ووضع العصا فإذا هي حية تسعى، ثُمَّ تأتي المناظرة العظمي حيث أراد الله تبارك وتعالى أن يفضح فرعون عَلَى الملأ مثل ما ادعى الربوبية عَلَى الملأ فشاور قومه، فأشاروا عليه فَقَالُوا: أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء:36] ، فالأمر بسيط جداً، ليس هناك أمة يجتمع لديها من السحرة أكثر من أمتنا، فليجمع السحرة جميعاً، وكانت حكمةً من الله، لأنه لو بقي أحد لقالوا: بقي سحرة، فجاء السحرة أجمعون، واحتاط فرعون بحيث لم يترك أحداً، وجاؤوا جميعاً ليتحدوا هذا الساحر بزعمهم: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ [الزخرف:49] فأمرهم موسى عليه السلام بإلقاء عصيهم، فلما ألقوها، خاف موسى عليه السلام، ولم يتوقع أن الله يوحي إليه، ولا أن يوجهه إِلَى هذا الطاغوت العنيد الجبار، فَأَلْقَى مُوسَى عَصاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117،118] فأتى بآيات عظيمة لا يمكن لأحد أن يماري فيها، لا من السحرة ولا من الجمهور، ولا من الملأ المستكبرين في الأرض.

فتأتي هذه الحية فتلقف جميع الحيات، ويأتي السحرة الذين أتى بهم فرعون. وقَالَ: إن لكم لأجراً، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الشعراء:46-48] .

ص: 1004

فأي حجة أعظم من هذه الحجة، وأي فضيحة أخزى وأذل لأعداء الله من هذه الفضيحة، فكل نبي من الأَنْبِيَاء يأتي بآية ومعجزة وبرهان يدل عَلَى أن المسألة ليست مجرد وحي أو سماع فقط، وإنما الوحي نفسه يأتي بالأدلة والبراهين الجدلية، التي لا يقوى أي مجادل ولا مناظر أن يقف أمامها بإطلاق، وأقل الأَنْبِيَاء معجزة هو شعيب، وكل نبي من الأَنْبِيَاء يأتي بآية بينة -كما سَّماها الله سبحانه- ولو لم يأت بآيةٍ إلا أن يتحدى قومه بأن الله سبحانه سيعصمه وسيحميه من مكرهم ومن شرهم، فهذه معجزة عظمى، وآية بينة، لو تأملتها الأمم! كل ذلك بينات عَلَى صدق الأنبياء، ولم يقف أي مناظر ولا مجادل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جادله اليهود، ولما جَاءَ وفد نجران إلى المدينة وأخذوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه صدر سورة "آل عمران" وقرأها عليهم وجادلهم بما فيها، وكذلك جادله المُشْرِكُونَ طويلاً وأكثروا الجدال، وكذلك أصحابه من بعده، ما وقف في وجههم أي مجادل ولا مناظر، بل كانت الحجة والبينة والبرهان الساطع بين أيديهم دائماً في كل موقف، ولهذا جعلهم الله سبحانه وتعالى هم الأعلون: الأعلون في الحجة والبيان، والأعلون في السيف والسنان، فعجز المتكلمون عن إثبات دليل عَلَى ربوبيته هو عجز لهم، لأنهم رفضوا منهج القُرْآن -وهو اليقين- واتبعوا مناهج الفلاسفة واليونان المتقدمين، فأفحمهم أُولَئِكَ وعجزوا.

ص: 1005

ودليل التمانع: قال بعض المتكلمين عنه: عندنا دليل عَلَى وجود الله، ولا يستطيع أحد أن ينقضه. فلو افترضنا أن للعالم إلهين متماثلين، فلا بد أن لكل منهما إرادة مستقلة عن الآخر، فتأتي لجسم من الأجسام أحدهما: يريد تحريكه، والآخر: يريد تسكينه، فإما أن تتحقق الإرادتان وهذا ممتنع، لأنه لا يمكن أن يكون الجسم الواحد متحرك وساكن في لحظة واحدة! وإما أن لا تتحقق الإرادتان معاً وهذا باطل، لأن الجسم لا يخلوا عن الحركة أو السكون وأيضاً إذا بطلت الإرادتان معاً، فهما عاجزان كلاهما، فلا بد أن تتحقق إرادة واحد منهما، ولا تتحقق إرادة الآخر، فالذي تتحقق إرادته: هو الإله الواحد، والآخر ليس بإله، فَقَالُوا: هذا دليل عقلي عَلَى إثبات وحدانية الله، وهذا غاية ما عند المتكلمين، وهو يبين لنا هزال المتكلمين وجهلهم بالله سبحانه وتعالى وَقَالُوا: هذا الدليل العقلي جَاءَ به القرآن، وهم في الحقيقة أخذوه من علماء اليونان الذين كانوا يثبتون وجود الله بهذه الطريقة التي أغنانا الله سبحانه وتعالى عنها.

قالوا: والدليل عَلَى ذلك قول الله: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] أي: لو كَانَ هناك أكثر من إله، لأراد هذا الإله أن يحرك السموات والأرض، والإله الآخر لا يريد أن تتحرك، فإما أن تتفق الإرادتان، وإما أن تتخلف الإرادتان، وإما أن تتحقق إرادة واحدة، والموجود في العالم اليوم هو إرادة إله واحد وهو الله سبحانه وتعالى.

وقد رد عليهم المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: بأن التوحيد الذي قرره الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ليس هو توحيد الخلق توحيد الربوبية، وإنما المراد بالتوحيد هنا هو: توحيد الألوهية، وهو موضوع المعركة بين الأَنْبِيَاء والرسل وبين قومهم، فالذي جاءت به هذه الآيات أنه إذا عبد غير الله سبحانه وتعالى حصل الفساد، لأن المعبود واحد.

ص: 1006

فالمعبود في السماء واحد، وهو الله تبارك وتعالى ولا فساد عَلَى الإطلاق في السماء، وإنما هنالك الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فننفي الفساد عنها، لأن المعبود في السماء واحد، والله تبارك وتعالى قَالَ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه [الزخرف:84] يعني: وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود، فأما في السماء فظاهر، وصلاح السماء ظاهر، بأن الله سبحانه وتعالى هو وحده المعبود فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم:(أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وفيها ملك ساجد أو راكع أو قائم) ولهذا انتفى عنهم الفساد، ولهذا قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، ولذلك قَالَ: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:21،22] فالله سبحانه وتعالى ذكر أنهم اتخذوا آلهة في الأرض، وأما السماء فلأن الملائكة المقربين لم يعبدوا غير الله، ولم يتخذوا إلهاً غيره؛ فالصلاح فيها ظاهر، والصلاح ظاهر في المكان الذي يعبد فيه الله وحده في الأرض، وأما المكان الذي يعبد فيه مع الله غيره؛ فإن فيه أكبر الفساد وأعظمه وهو الشرك.

فعلم بذلك أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان.

وأما من حيث أن نظام الكون لم يختل، لأنه من صنع إله واحد سبحانه فهذا حق، لكنه ليس هو كل الحق، وإنما المراد ربط هذا الحق بالأهم وهو جانب الألوهية.

فإذا عبد الله -سجانه وتعالى- وحده لا شريك له، صلح الحال كله، لأنه هو وحده الذي يدبر نظام الكون، وأما من صادم ربه تبارك وتعالى بعبادته غير الله فحينئذٍ يحصل الفساد في الأرض.

ص: 1007

فالمؤمن يتآلف مع هذه المخلوقات جميعاً، لأنه يشعر أنها تعبد الله، والنجم والشجر يسجدان، كل شيء يسجد لله، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم [الإسراء:44] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد: (جبل يحبنا ونحبه) .

فهناك علاقة ومحبة بيننا وبين مخلوقات الله سبحانه وتعالى فنحن نشعر بأن هناك ما يربطنا به، وهو: عبوديتنا جميعاً لله سبحانه وتعالى أما أعداء الله والمستكبرون فلا ينظرون إليها إلا نظرة العداوة، ولذلك اصطلحت أوروبا منذ عصر ما يسمى:"عصر النهضة" إِلَى اليوم عَلَى أن تسمي كل إنجاز أو اكتشاف علمي "قهراً للطبيعة" فإذا فتحوا طريقاً في الجبل، قالوا: قهرنا الطبيعة، وفتحنا هذا الطريق، فالمسألة مقاهرة ومغالبة ومعاندة، أما المؤمن فيثق أن الله تَعَالَى سخر له ذلك، فإن فعل شيئاً من هذا فإنه يقول: هذا من فضل الله سبحانه وتعالى، وهذا من تسخير الله سبحانه وتعالى فهذا هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية، والتوحيدان متلازمان.

توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية

ص: 1008

والتوحيد الذي جاءت به الأَنْبِيَاء هو: توحيد الألوهية، فكل ما جَاءَ في القُرْآن أو في دعوات الأَنْبِيَاء من بيان توحيد الربوبية، فهو ليبني عليه الإلزام بتوحيد الألوهية، وهكذا كانت العرب -كما ذكر المصنف- في الجاهلية يقرون بأن الله وحده لا شريك له، هو الإله الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي يدبر الأمر، ولكنهم اتخذوا من دونه آلهة أخرى لدعاوي عدة، إما أن هذه الآلهة تقربهم إِلَى الله تَعَالَى زلفى! فهو الإله الأكبر، وهذه الآلهة الصغرى واسطة بيننا وبين الإله الأكبر، كما كانوا يقولون في تلبيتهم:(لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ووقع الشرك في الأمم بسبب تعظيم غير الله سبحانه وتعالى، وإن كَانَ المقصود به عبادة الله، فأي بشر إن قدسته وعظمته بما يعظم به الله سبحانه وتعالى فقد أشركت به مع الله، وإن كانت النية في الأصل سليمة.

والله سبحانه وتعالى خلق الخلق عَلَى الحنيفية كما قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسى عن عياض بن حمار في صحيح مسلم: (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) فبقوا عَلَى الحنيفية عشرة قرون، كما ورد في تفسير ابن عباس عند قول الله تبارك وتعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين فتقدير الآية: كان الناس أمة واحدة على التوحيد فاختلفوا.

ص: 1009

وقبل أن يختلفوا لم يُبعث نبي وإنما كانوا يعبدون الله، حتى ظهر قوم نوح وظهر الشرك فيهم، فقد كَانَ في قوم نوح أناسٌ صالحون متبتلون متعبدون لله سبحانه وتعالى وذكر الله سبحانه وتعالى وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وهم رجال صالحون- فلما مات هَؤُلاءِ القوم؛ جَاءَ الشيطان ولعب بعقول قومهم فقَالَ: هَؤُلاءِ النَّاس كانوا يعبدون الله ويذكرونكم بعبادة الله وهم أحياء، وهم اليوم أموات، فصوروا صورهم حتى تتذكروا عبادة الله، فتعبدون الله وتتقربون مثل ما كانوا يتقربون

فصوروا هذه الصور، وجعلوهم تماثيل، وأخذوا يتذكرون هَؤُلاءِ بوجود هذه الصور، ثُمَّ تناسخ العلم ومرت أجيال نست أن هَؤُلاءِ ليسوا معبودين، وأنهم إنما صوروا للتذكير فقط، فكانوا يرون آباءهم يأتون إِلَى هذه الصور، ويدعون الله بعدما يتذكرون الله بهذه الصور، فأصبحوا يدعون هذه المعبودات من دون الله سبحانه وتعالى ثُمَّ جَاءَ نوح عليه السلام فوقع بينه وبين قومه ما وقع، وأغرقهم الله سبحانه وتعالى جميعاً وأهلكهم ودمرهم، وما آمن معه إلا قليل، وعاد التوحيد مرة أخرى -وهو الأساس- في الأرض، وقضي عَلَى الشرك، وقطع دابر القوم الَّذِينَ كَفَرُوا، ولم يبق منهم ديار، كما دعا نوح عليه السلام، وعاد الأمر من جديد عَلَى التوحيد، ولكن الشيطان عاد من جديد، فأعاد الشرك وأعاد الأصنام، ولم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا ووداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً يعبدن بأعيانهن، وهي التي كانت أيام نوح، في أمد لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ومع ذلك -ولأن الشيطان واحد- أعاد تلك الأصنام بأعيانها وبأسمائها، كما فسرها ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما في صحيح البُخَارِيّ، فكل قبيلة من العرب عبدت إلهاً من هذه الآلهة، الذي هو في الأصل اسم رجل صالح من قوم نوح، وقد سبق أن تحدثنا: كيف

ص: 1010

وقع الشرك في بلاد العرب؟، وقلنا إنه كَانَ بسبب الانبهار الحضاري، وأن عمرو بن لحي الخزاعي هو الذي أسس الشرك في جزيرة العرب بعد التوحيد، وغيّر ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وذهب إِلَى بلاد الشام، ورأى النَّاس يعبدون الأصنام هناك، فجاء إِلَى العرب بهذه التجارة الفاسدة، واستوردها وجعلها عند البيت الحرام الذي جعله الله سبحانه وتعالى أول بيت وضع لكي لا يعبد إلا الله، فجاء عمرو بن لحي بالأصنام، ثُمَّ عبدت وبقيت قريش تتناقل ذلك، حتى بعث فيهم النبي الأمي دعوة إبراهيم عليه السلام وهو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

فلم يكن الشرك واقعاً في الربوبية، كما في توحيد الألوهية، وكان سبب وقوع الشرك هو: تعظيم غير الله عز وجل وتقديسهم وخاصة الصور.

ولذلك ذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- الأحاديث الواردة في ذلك، وفي طمس الصور، وتسوية القبور، لأنها ذرائع إِلَى عبادة غير الله تبارك وتعالى.

يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهيّاج الأسدي قَالَ: قال لي على بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك عَلَى ما بعثني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟: (أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته) .

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: {لعن الله اليهود والنَّصارَى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عَائِِِشَةَ رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً} ، وفي الصحيحين أنه ذكر له في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر له من حسنها وتصاوير فيها، فقَالَ:(إن أُولَئِكَ إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عَلَى قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يَوْمَ القِيَامَةِ) .

ص: 1011

وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كَانَ قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك] اهـ.

الشرح:

هذه الأحاديث من أعظم ما يدل عَلَى حرص النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى حماية جناب التوحيد، وسده لكل ذريعة توصل إِلَى الشرك بالله سبحانه وتعالى، بأي صورة من الصور، فإن علياً رضي الله عنه يقوللأبي الهياج:(ألا أبعثك عَلَى ما بعثني عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته) وهذه سنة لكل موحد من الموحدين من المؤمنين، أنه لا يدع قبراً مشرفاً إلا ويسويه، ولا يرى تمثالاً إلا ويطمسه، ومن سار عَلَى نهج النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه إذا رأي قوماً يعظمون ذلك أو يفعلونه أن ينكر عليهم ويبين لهم، فإن كَانَ يستطيع أن يغيره باليد، كما فعل أبو الهياج وكما فعل عَلِيّ رضي الله عنه فيجب عليه ذلك باليد، وإن لم يستطع وجب عليه أن يقيم الحجة عَلَى عباد القبور الذين يرفعون القبور، والذين ينصبون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى فإن من رحمة الله -سبحانه- أننا أمة لا تنحت التماثيل، ولا تعظمها، ولا تقدسها، وهذه القضية ذكرها كثير من علماء الغرب في الدول الغربية، وحتى في كثير من دول العالم الإسلامي، لا تمر بميدان إلا وتجد تمثالاً، وهناك حركات دينية في داخل أوروبا تسمى حركة طمس التماثيل أو تحطيم التماثيل، ويدعون أن هذا امتهان للإنسان الحي، وتأليه للإنسان الميت، فكأن قائلاً يقول: إنكم أيها الأحياء لا يوجد فيكم من يمكن أن يقدم لأمته، مثل ما قدم هذا الرجل، وهذا احتقار للبشر الأحياء.

ص: 1012

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كَانَ قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم أتى امرأته عَلَى قارعة الطريق لفعلتموه!) فالواجب عَلَى المؤمنين الموحدين هو: إنكار هذه الأمور أشد الإنكار وتوعية الناس، وتعليم الجهال بأن لا يرفعوا القبور، وأن لا ينصبوا التماثيل، وهذا مما هو مجمع عليه -ولله الحمد-، ولم يخالف عليه أحد من العلماء بإطلاق، ولم يكن هذا الأمر في أي بلد من بلدان الْمُسْلِمِينَ -على ما كثر فيها من الجهل والضلال- إلا في هذا العصر، متأثرين بأوروبا النصرانية الملحدة التي تصور عيسى عليه السلام وأمه في كل مكان كما سيأتي في الحديث الآخر الذي اتفق عليه الشيخان وهو قوله صلى الله عليه وسلم:{لعن الله اليهود والنَّصارَى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} ولما ذكر له الكنيسة التي بأرض الحبشة وما فيها من الصور، وهذا من ديدن الكنائس أنهم يجعلون صور المسيح عليه السلام في الكنائس وفي كل مكان، ولهذا يعبدونه من دون الله، ولم يعبدوا المسيح فقط بل حتى القديسين الذين يقدسونهم عبدوهم، بل في العالم الغربي لا يزال إِلَى الآن في قلوبهم تعظيم القديسين، وما تزال أسماء مدنهم وشوارعهم بأسماء القديسين سان مون، أو باسم القديس يوحنا، أو القديس جورج، أو القديس فلان فلعنهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا إذا مات فيهم النبي أو العبد الصالح إما أن ينصبوا تمثالاً يعبدونه، وإما أن يتخذوا قبره مسجداً فيبنون عليه القبة، ويقولون: نَحْنُ لا نعبد صاحب القبر وإنما نعبد الله كما قال أسلافهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] فإذا قيل لهم: إذا كنتم تعبدون الله، فلم لا تعبدونه إلا عند هذا القبر؟

ولم تشيدون هذا القبر؟

ص: 1013

قالوا: صاحب هذا القبر يقربنا إِلَى الله -بنفس الكلام الذي قاله أصحاب الجاهلية: (هَؤُلاءِ شفعاؤنا عند الله) - فهذا الميت الذي في القبر يشفع لنا عند الله، هذا ما يقولونه وهذا ما يزعمونه، ولكنه في الحقيقة: هو عين الشرك الذي جَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء بمحاربته.

وأوحى الله إِلَى نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وتهدد الله سبحانه وتعالى أنه لا يدخل الجنة مشرك قط أبداً، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النَّار وما للظالمين من أنصار.

ويجب أن تبين لهم هذه الحقيقة، ليتركوها وليرتدعوا عنها، ولا يصلى في المسجد الذي فيه قبر، فهذا محرم، ولكن ليس فاعله مشركاً لأنه:

أولاً:- لا يجوز الصلاة في أماكن القبور.

ثانياً:- لأنه إذا كانت هذه الأماكن يعبد فيها غير الله، ثُمَّ جَاءَ الإِنسَان يعبد الله فيها، فكأنه يكثر سواد الْمُشْرِكِينَ، ولا يجوز لأحد أن ينحر بمكان ينحر فيه لغير الله، ولا أن يصلي بمكان يصلى فيه لغير الله، وإن لم يقصد الشرك لأن فيه تكثيراً لسوادهم وهو ذريعة بأن يأتي بعده أحد فيشرك، كما وقع الشرك في قوم نوح، ولهذا قطع عُمَر رضي الله عنه الشجرة التي في الحديبية ولم يعلم أحد بمكانها.

ففي المرة الأولى: ستزار عَلَى أنها أثر مقدس، يتذكر الإِنسَان فيها الصحابة رضي الله عنهم، وكيف بايعوا تحت هذه الشجرة.

والمرة الثانية: يزداد تعجباً ويتأمل في الأغصان وفي السيقان، وينسى موضوع البيعة.

والمرة الثالثة: يقول: إن كَانَ لي حاجة أقضيها دعوت الله عند هذه الشجرة فيستجيب الله لي، لأن هذا المكان عظيم اجتمع فيه الصحابة وبايعوا فيه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم.

ص: 1014

والرابعة: يتمسح بالشجرة ويقول كما كَانَ يقول المُشْرِكُونَ في نجد قبل دعوة الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله إذا أتوا إِلَى الجذع الضخم من جذوع الشجرة -النخل الذكور- قالوا: (يا فحل الفحول أبغي ولد قبل الحول) يعني: تريد من الشجرة أن تعطيها ولداً قبل نهاية الحول، فكأن الذي يخلق الأولاد والذرية هو هذه الأشجار.

والصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- كانوا يحاربون أشد المحاربة كل ما يخرم كمال التوحيد، أو يخدش جناب التوحيد، ولو كَانَ من آثار النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن غيره، ولهذا قطعت تلك الشجرة، ويجب أن تقطع كل شجرة يظن فيها ذلك، ويجب أن يطمس ويسوى كل قبر يظن فيه ذلك، حتى نحمي جناب التوحيد ونحفظه.

وأما قبره صلى الله عليه وسلم فكما تعلمون جميعاً أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس مسجداً، ولم يكن موجوداً في المسجد؛ كما يظن الجهال، وإنما يدفن الأَنْبِيَاء في المكان الذي قبضوا فيه، كما في الحديث الصحيح {ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه} ، فيدفن في المكان الذي قبض فيه، ودفن صلى الله عليه وسلم في حجرة عَائِِِشَةَ، ودفن بجواره صاحباه الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ والفاروق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.

ص: 1015

وبعد التوسعة للمسجد من جميع الجهات في أيام الوليد بن عبد الملك أصبحت الحجرات وكأنها داخلة في بناء المسجد، ثُمَّ جَاءَ عصر المماليك فأدخلت أكثر، وهكذا مع الزمن أصبح القبر كأنه وسط المسجد، وأصبح الجاهل الذي لا يدري يقول: إن المسجد بني عَلَى القبر، وكذا بعض الجهال يظنون أن الكعبة -البيت الحرام - إنما بنيت عَلَى قبر إبراهيم عليه السلام، لأن أكثر ما رسخ في أذهان الْمُسْلِمِينَ هو تقليد اليهود والنَّصارَى في اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، ثُمَّ تناقله الْمُسْلِمُونَ أنفسهم بعد، عَلَى أنه لا يوجد مسجد بأي مكان إلا وهو عَلَى قبر.

وهذا من أعظم الخطر الذي أصاب الأمة الإسلامية، حتى لما جَاءَ التتر كَانَ بعض سدنة القبور يقول:

يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر

فكان النَّاس يجتمعون عند أصحاب القبور يدعونهم ويقولون: إن المدينة الفلانية محروسة بالولي الفلاني -ويسمونه (الحارس) - فلا يدخلها التتار ولا الصليبيون لأن الحارس موجود. فإذا جَاءَ العدو تزاحموا عند القبر يدعون

يا حارس!

يا حارس!.

فاقتحم التتار المدن ودمروها، لأن هذه الضلالات والخرافات لا تقف أمام الواقع والحقيقة.

وهذا هو عين الشرك الذي إذا لم تتخلص هذه الأمة منه، فلن يرفع الله عنها الذل، وإذا وحدته وحده لا شريك له نصرها وأعلا شأنها.

ص: 1016

والشرك كما يباعد النَّاس عن الله وعن الجنة، فإنه يفرق القلوب، لأنه كذب وافتراء، فالحسين مثلاً: يُعبد في العراق عَلَى أن قبره هناك! ويُعبد فيالشام عَلَى أن قبره هناك! ويُعبد في مصر عَلَى أن قبره هناك! أو نفيسة، وزينب، وعَلِيّ، هم في كل مكان، حتى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فإنه معروف قطعاً أنه إنما قتل في الكوفة، ودفن فيها في مكان مجهول، ومع ذلك نجد في مدينة من المدن الإسلامية التي تقع عَلَى الحدود مع الاتحاد السوفيتي، اسمها مزار شريف -أي المزار الشريف، فيقولون: هو دفن هناك وراء تركستان عَلَى حدود النهر.

وحدثني بعض إخواننا من تلك البلاد ممن درسوا معنا، أن عدد من يزور هذا المزار يصل أكثر من أربعة ملايين سنوياً.

-سُبْحانَ اللَّه العظيم! - كيف يلعب الشيطان بعقول هذه الأمة؟!، نعجب أن لعب بعقول اليهود والنَّصارَى واستحقوا اللعن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم:(لعن الله اليهود والنَّصارَى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ونعجب أكثر لأمة التوحيد التي تقول: لا إله إلا الله، والتي ترفع مآذنها خمس نداءات في اليوم "أشهد أن لا إله ألا الله وأشهد أن محمداً رَسُول الله"، فوافقنا أهل الكتاب اليهود والنَّصارَى -أعداء الله- في الشركيات وفي عبادة غير الله، فكيف تقدس أمة تتبع أعداء الله وتواليهم؟!.

ص: 1017

فأعظم أسباب وقوع الشرك هو: تعظيم الأولياء -وسيذكر المُصنِّفُ أسباباً أخرى- وقد رد الله تَعَالَى عليهم جميعاً فقَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] أي: أُولَئِكَ المدعوون أنفسهم الذين يدعونهم هم يدعون الله، ويبتغون إِلَى ربهم الوسيلة، فهم يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه، فكيف تأتي أنت وتدعوهم من دون الله؟! فإذا وقع بأحدهم الكرب قَالَ: يا عَلِيّ! يا عَلِيّ!، وعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- عانى من الكروب في حياته، وآخرها انشقاق الأمة عليه، وخروج الخوارج عليه، حتى أتى الأشقى فقتله.

فلم يملك عَلِيّ رضي الله عنه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولم يحم نفسه من هذا الخارجي، ولا من عدوان الخوارج، ولا ممن انشقوا عن طاعته. وكان يريد أن يكون أمير المؤمنين عامة ويتوحدوا جميعاً تحت طاعته، والحسين رضي الله عنه لما خرج إِلَى البر وجاءه الجيش وقتلوه، لا شك أنه قتل مظلوماً، وأن دمه لا يحل، ولا يحل دم أي مسلم أصلاً، ولا يجوز القتال في الفتنة -أصلاً- بين الْمُسْلِمِينَ، لكن لما جاءوا وأحاطوا به مات عطشاناً في البر، لا يملك أي شيء.

والآن! يبكون ويقولون: كيف نشرب الماء وقد مات الحسين عطشاناً في البر؟، ثُمَّ إذا نزل بأحدهم كرب قَالَ: يا حسين، سُبْحانَ اللَّه! كيف يقول ذلك والحسين لم يملك لنفسه شربة ماء؟!

تعظيم الأولياء والصالحين

يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 1018

[ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها. وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كَانَ - فيما يقال- من هذا الباب، وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم. وهَؤُلاءِ كانوا مقرين بالصانع، وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هذه الوسائط شفعاء، كما أخبر عنهم تَعَالَى بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18] وكذلك كَانَ حال الأمم السالفة -الْمُشْرِكِينَ الذين كذبوا الرسل- كما حكى الله تَعَالَى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة رهط الذين تقاسموا بالله (أي: تحالفوا بالله) لنبيتنه وأهله، فهَؤُلاءِ المفسدون المُشْرِكُونَ تحالفوا بالله عَلَى قتل نبيهم وأهله، وهذا بيُّنٌ أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان الْمُشْرِكِينَ.

فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية، الذي يتضمن توحيد الربو بية. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ

مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون

ص: 1019

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ

لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُون [الروم:30- 36] اهـ.

الشرح:

يذكر المُصْنِّف من أعظم أسباب وقوع الشرك هو تعظيم الأولياء والصالحين من دون الله سبحانه وتعالى وهناك أسباب أخرى في وقوع الشرك، ومنها: تعظيم الكواكب.

تعظيم الكواكب

وهذا الشرك وجد عند الصابئين، كما كَانَ عند قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا يعبدون الأصنام ببلاد الشام تجاه حران وما حولها، فكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، وما تزال هذه الهياكل أو بعضاً منها باقية إِلَى اليوم، حتى أن علماء الحفريات والآثار لما بحثوا وجدوا أن أُولَئِكَ القوم كانوا يبنون المراصد والهياكل.

ص: 1020

فهَؤُلاءِ القوم عظموا الكواكب، كما عظم أصحاب القبور قبورهم، والأولياء أولياءهم، ويبدو -والله أعلم- أن سبب تعظيمهم للكواكب أنهم رأوا الخلق والرزق والمطر والخير والبركة تنزل من السماء، ورأوا أن هذه أعظم شيء في السماء -كما يرون- فاتجهوا إِلَى تعظيم هذه المخلوقات، ولا سيما وقد أوحى إليهم الشيطان أنه إذا ظهر الكوكب الفلاني في المكان الفلاني يكون الدمار، وتكون الزلازل، ويكون الخسف، وإذا ظهر الكوكب الفلاني واقترب من الكوكب الفلاني يكون المطر، ويكون الخير، والرحمة والبركة، هذا مما أوحى الشيطان إِلَى الكهان والمنجمين منهم، فنظروا إِلَى هذه الكواكب نظرة التعظيم، واعتقدوا أن لهذه الكواكب تأثيراً في العوالم السفلية، وأن ما يقع في الأرض فإنه يكون بسبب تلك الكواكب، ولا يزال هذا فاشياً في الْمُشْرِكِينَ حتى اليوم، بل وبعض من يدعي الانتساب إِلَى هذه الملة يسألك عن نجمك! أو عن برجك! برج السرطان!! يقول لك: حظك طيب، وزواجك موفق وكذا وكذا!! أو يقول لك: لا، أنت من برج العقرب، وخطيبتك من برج السرطان، فلا تتزوجها وابحث عن واحدة من برج الحمل مثلاً!

هذه الخرافات ما تزال حتى في هذه الأمة -نسأل الله عز وجل أن يرفع عنها هذا البلاء والضلال ويردها إليه تائبة موحدة عابدة - فوقع هذا الشرك في الصابئين، ولذا كَانَ الآشوريون والبابليون وأمثالهم يبنون الهياكل العظيمة ويرصدون الكواكب، لا للعلم الجغرافي الذي هو معروف اليوم، وإنما لغرض التقرب إليها، ومعرفة أحوالها، والاستدلال بها عَلَى أحوال العالم الأرضي، وكان لها شياطينها؛ فكانت الشياطين تنزل وتوحي إِلَى أوليائها الأخبار عن أمور معينة، أو أحداث أو أحوال، فيأتي كهنة كل كوكب ويخبرون النَّاس بما أخبرهم، وأوحى به إليهم هَؤُلاءِ المردة والشياطين، فيظن النَّاس أن الإله هو الذي أوحى إليهم، وأنه الذي يملك هذه الحقائق، أو الذي يعلم الغيب، وهو الذي يدبر الكون.

ص: 1021

وكانت كل منطقة من المناطق تنافس المنطقة الأخرى، وتحاربها وتتقاتل معها، عَلَى أن إله هَؤُلاءِ أفضل من هَؤُلاءِ. هكذا كَانَ البشر يتخبطون في الضلالات والجهل، ثُمَّ وضعت أصنام في الأرض كما يقولون بما يتناسب مع طباع الكواكب، فبعضهم يعبد الكوكب في السماء، وبعضهم يعبد الأصنام في الأرض، وينحت هيكلاً من صخر؛ ويقول: هذا مناسب لطباع المشتري أو زحل، فيعبد النَّاس هذا الصنم بناء عَلَى تعظيم الكوكب الذي يتناسب مع طباعهم، ويأتي أولياءهم من الجن والشياطين، فتدخل في جوف هذه الأصنام والأحجار، فتكلمهم وتخاطبهم باسم الصنم المعبود، وهذا ما كَانَ حاصلاً إِلَى زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام، وتكلمهم وتحكم بينهم منها، فيظن النَّاس أن هذه الأرباب الآلهة هي التي تتكلم، وهكذا أغوى الشيطان بني آدم.

الشرك بالملائكة

وكذلك الشرك بالملائكة أو الجن، واتخاذ الأصنام لهم -كما يقول المصنف- فهناك قوم قالوا: الملائكة من جنس الصالحين، وهم عباد لله عز وجل يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وقد أخبر الأَنْبِيَاء عن صفاتهم العظيمة، وطاعتهم لله عز وجل.

فقالوا: إذاً نتخذ الملائكة شفعاء عند الله، فندعو الملائكة من جبريل أو ميكائيل، أن يشفع لنا عند الله، ثُمَّ يدعونه استقلالاً، وإذا قيل لهم: لماذا تدعون الملائكة؟ قالوا: ما نعبدهم أو ندعوهم إلا ليقربونا إِلَى الله زلفى لأنهم أقرب عند الله، وأما أنا فمسكين مذنب، لا أستطيع أن أدعو الله، فكيف أدعو الله وأنا مليء بهذه الذنوب؟ وإنما أدعو هَؤُلاءِ لأنهم مقربين عند الله، فهم يشفعون عند الله.

ص: 1022

الله الذي فتح باب التوبة عَلَى مصراعيه! ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهو يقبل التوبة عن عباده، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول سبحانه وتعالى وهو الذي ينجي كل من دعاه في ظلمات البر والبحر، فالله لا يحتاج إِلَى من يتوسط عنده، أو يشفع عنده، أو يدعى غيره، ويعبد غيره لكي ينزل رحمته سبحانه وتعالى عَلَى أحد؟!.

سبحانك هذا بهتان عظيم!

هذا أصل الذين عبدوا الملائكة.

عبادة الجن

وأما عبادة الجن، فيوم يبعثهم جميعاً -يَوْم القِيَامَةِ- يأمر الله سبحانه وتعالى كل أناس كانوا يعبدون الطواغيت، أن يتبعوا ما كانوا يعبدون، فيتبع عباد الطواغيت الطواغيت، ويتبع عباد الجن الجن، لأنهم كانوا في الدنيا يعبدونهم، فيحكم الله سبحانه وتعالى بين الطواغيت وبين عبادهم، فيقول الله سبحانه وتعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ [الأنعام:128]-أي: الذين يعبدون الجن أكثر طائفة بني آدم- وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا [الأنعام:128] .

ص: 1023

فسبب وقوع عبادة الجن هو: استمتاع الإنس بالجن بعضهم ببعض، هذا جواب الإنس، وقال تَعَالَى في سورة الجن: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] فالإنسي يظن أنه يستفيد من الجني، فكان إذا نزل بوادٍ مخيفٍ قَالَ: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يعني: يحصل الاستمتاع بالسلامة من أذى الجن السفهاء، وذلك مقابل دعاء سيدهم، والجن استمتعوا، بأن الإنس عبدوهم من دون الله سبحانه وتعالى فاستمتع بعضهم ببعض، لكن زادوهم رهقاً، حيث يأتي الإنسي فيمر بالوادي، فيسلط سيد الوادي أحد الأتباع ليخيفه، فإذا أخافه وأرهقه قَالَ: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فزادوهم رهقاً وخوفاً ليزداد أُولَئِكَ لهم عبادة، وهذا هو الحاصل دائماً للمتعاملين مع الجن، يحصل لهم نوع من الاستمتاع بحيث يعظمه الناس، ويعطونه الأموال ويأتون له بما يشاء، مقابل أنه يشفي مرضاهم، ويفك السحر عنهم، أو يخبرهم بشيء ضيعوه، أو حاجة فقدوها، أو أمر من الأمور، فيحصل استمتاع للإنسي بما يأخذ من أموال الناس، وبما يكسب من الجاه ويقَالَ: هذا ولي، ويحصل الاستمتاع للجني، بأن يعبده هذا الرجل الذي يذهب إليه الناس، ويسألونه عن الأخبار، أو يطلبون فك السحر عنهم، وهم يعلمون أنه يتعامل مع الجن، فهو يسجد له، ويضع القُرْآن في الأماكن النجسة والقذرة تقرباً، ويكتب القُرْآن -والعياذ بالله - بالدم النجس القذر، ويجعله في أوراقٍ، ويسمونها حجباً أو أحرازاً، وإن صلى ظاهرا -أمام الناس- أو صام وزعم أنه مسلم. فمثلاً: أناس يعتقدون في هذا الولي، أنه يخرج الجن من الإِنسَان؛ لأنه يستخدم الجن، ويعرف كيف يفكهم، فيسبب الضرر لهم بتسليط أحد الأتباع -أوليائه- من الجن عَلَى أحد من الإنس فيدخل فيه، فيأتي الإنسي إِلَى الولي -من الإنس- ويقول: دخل جني في ولدي، فيقول الولي: الدواء عندي، فيقوم الولي

ص: 1024

الإنسي، فيتقرب إِلَى الجن بعبادتهم، فعندها يأمر السيد الجني وليه أن يخرج من الولد، فتكون النتيجة أن هذا الولي أخرج الجني وأنه رجل عظيم فيزيدهم رهقاً وشركاً.

ويكثر في الأرض الشرك بسبب هَؤُلاءِ القوم، ولذلك يقول الله تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه [النحل:100] فالذين لا يعتقدون في هذا الرجل الصلاح -نهائياً- ولا يعتقدون أنه ولي، بل يعتقدون أنه مشرك يتعاون بالجن، هَؤُلاءِ يكونون أكثر حفظاً بإذن الله تَعَالَى من ضرر الجن من أُولَئِكَ الذين يعتقدون فيه الولاية والصلاح، ومع ذلك فلا شك أن هذا الأمر ابتلاء، فقد يبتلى الإِنسَان بالجن، وهو ليس من أوليائهم، ولا يعبدهم، ولا يعتقد فيهم، ولكن نسبة دخول الجن، وإيذائهم بهَؤُلاءِ المؤمنين الموحدين أقل بكثير جداً من نسبتها في القبائل أو الطوائف أو المدن التي تعتقد في هَؤُلاءِ الأولياء؛ لأن سلطان الشيطان عَلَى أوليائه الذين يتولونه أكثر، وحماية الله عز وجل للذين لا يعتقدون فيهم ذلك قائمة، ومناعتهم من كيد هَؤُلاءِ الشياطين أكثر؛ لأن الذي يعتقد فيهم هو مستسلم، قد فتح قلبه وأفرغه؛ لأن تأتي إليه الشياطين بالأوهام، ثُمَّ بالمرض، ثُمَّ تأتيه بالعلاج.

فيقولون: يا ملك الأرض السابعة من الجن، إن أحد أتباعك فلان، دخل في فلان فأخرجه منه بكذا وبكذا، ثُمَّ يكتبون أسماءً وأرقاماً وألغاز بالسريانية -كما يقولون- أو بلغة مجهولة لأن الشياطين تعلمهم رموزاً معينة هي رموز عبادتهم- فيكتبون هذه الرموز، ثُمَّ يدعونهم، فإذا دعاهم، أتى ملك هَؤُلاءِ الجن، فيأمر وليه من الجن -الذي آذى الإنسي الآخر- أن يخرج منه، وهكذا.

ص: 1025

وأما الملائكة والأنبياء -رضوان الله تَعَالَى عليهم- فلا يرضون أن يدعو من دون الله، ومن عُبد من دون -وهو غير راض- فإنه يتبرأ يَوْمَ القِيَامَةِ من هَؤُلاءِ، كما تبرأ المسيح، قال الله: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [المائدة:116-117] وهذا القول هو أول قول قاله بعدما خلقه الله: إني عبد الله، ويَوْمَ القِيَامَةِ يقول: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله، -يعني: أنا بريء منهم ومن شركهم- فحينئذٍ يقع الشرك عليهم، وتقع العقوبة والعذاب عَلَى العابدين فقط.

وأما الجن فلأنهم رضوا أن يعبدوا فتكون النَّار للجميع هم ومن عبدهم.

وأما الملائكة فيقولون: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41]-أي: أكثر الإنس مؤمنون بالجن- فالذين يعبدون الجن من الإنس أكثر من الذين يعبدون الملائكة، لأن الملائكة تتبرأ يَوْمَ القِيَامَةِ منهم.

ص: 1026

فأعظم أسباب وقوع الشرك: تعظيم غير الله، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في أول سورة الأنعام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي: يجعلون أحداً عديلاً له، يساويه بالله في المحبة، وفي التعظيم والتقديس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] فالعدل والتسوية هي في المحبة والتعظيم والتقديس؛ لا في اعتقاد أنهم يخلقون كخلق الله، أو يرزقون كما يرزق الله سبحانه.

وهنا شيء عجيب، وهو أن النَّاس كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، وهذا هو شرك القدامى، ولكن عظم الشرك في المتأخرين، حتى أصبحوا يدعون غير الله تَعَالَى في وقت الشدة، وفي وقت الرخاء معاً، وهذا -والعياذ بالله- غاية الانتكاسة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم الشرك دقيقه وجليله، وأن يباعدنا عنه، وعن طريقه، وعن كل ما يوصل إليه، وأن يجعلنا من عباده الموحدين المؤمنين.

أهمية توحيد الألوهية

موضوع توحيد الألوهية هو موضوع مهم، يبنغي لنا أن نعيد النظر والكرة إليه ونتأمله، لا سيما أنه في هذا الكتاب قد لا يعود إلينا إلا في الأخير في مواضيع متفرقة، لأن الشغل الشاغل لابن أبي العز رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هو توحيد الأسماء والصفات، ثُمَّ ما يتعلق بمسائل العقيدة الأخرى، كالقدر والإيمان والصحابة وكرامات الأولياء ونحو ذلك، أما موضوع توحيد الألوهية فهو عَلَى أهميته لم يكن هو الموضوع الأساس في هذه العقيدة، وإنما هو أحد هذه الموضوعات.

ص: 1027

فجدير بنا أن نراجعه، وأن نتأمله، وأن نرجع إِلَى الأصول التي شرحته وبينته، ولا سيما كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، فإنه من أعظم الكتب التي فصلت في هذا الجانب، وبينت أن توحيد الربوبية لم تكن تنازع فيه الأمم السابقة، أي: الإيمان والإقرار والاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق الرازق، المحيي المميت، الذي يدبر الأمر وينزل الغيث، ولم تقع العداوة والخصومة فيه بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وإنما جَاءَ الرسل والأنبياء من الله سبحانه وتعالى إِلَى النَّاس ليقولوا لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه [هود:61] أي: جاءوا داعين إِلَى إفراد الله سبحانه وتعالى بتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية.

فهذا هو الذي وقعت فيه الأمم، أي وقعوا في شرك العبادة، عبادة غير الله سبحانه وتعالى ودعاء غير الله والاستغاثة بغير الله، ورجاء النفع أو الضر من عند غير الله تبارك وتعالى، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، واعتقاد أن غير الله تبارك وتعالى يعلم الغيب أو يملك من الأمر شيئا، هذا هو الموضوع الذي وقع به الشرك. عندما اختلف النَّاس بعد أن كانوا عشرة قرون بعد آدم عليه السلام عَلَى التوحيد كما قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أي: فاختلفوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين [البقرة:213] .

فكانوا عشرة قرون عَلَى التوحيد، حتى جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحولتهم وصرفتهم من التوحيد إِلَى الشرك، فوقع الشرك في قوم نوح، وهي أول أمة مشركة بسبب تعظيم الأولياء الذين يظن النَّاس فيهم الخير، فكان ذلك ذريعة إِلَى الشرك، وموصل إليه.

ص: 1028

فإن هَؤُلاءِ الذين ذكرهم الله من آلهتهم ودّاً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً كانوا رجالاً صالحين من قوم نوح، كما في الحديث الذي رواه الإمام البُخَارِيّ في صحيحه، فأراد الشيطان أن يضل قوم نوح فَقَالَ لهم:(لو صورتم هَؤُلاءِ وعملتم لهم التماثيل لتذكرتم عبادة هَؤُلاءِ لله، وتذكرتم قربهم من الله تبارك وتعالى، فعبدتم الله سبحانه وتعالى مثل ما يعبده هَؤُلاءِ) هكذا زين لهم الشيطان في أول الأمر، فوضعت التماثيل لهم ليتذكروا بها عبادة الله سبحانه فقط.

ثُمَّ نسخ العلم، وتخلف الخلوف، وهكذا عادة الأمم، تخلف خلوف وأجيال فتنسى الغرض الأساسي الذي من أجله أنشئت البدعة أو نصب التمثال، فيتخذ التمثال أو الصورة إلهاً معبوداً من دون الله تبارك وتعالى.

فحدث ذلك وعبدت هذه الآلهة من دون الله، فهذا هو أحد أسباب وقوع الشرك في بني آدم، وهو ما ذكره الله سبحانه وتعالى من العدل أو من التسوية التي قال الله تبارك وتعالى فيها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ َ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] وقال في آية أخرى حكاية عن أهل النار: قالوا: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97،98] .

ص: 1029

فهم عدلوا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ غيره، وسووا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى غيره في التعظيم والمحبة والتقديس، لا في اعتقاد أن غير الله هو الذي يخلق أو يرزق أو يضر أو ينفع أو يحيي أو يميت أو يدبر الأمر أو ينزل الغيث، بل هو من شرك المحبة والتعظيم والتقديس، كما قال تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] وهو من أخطر وأعظم أبواب الشرك،

ومن لوازمه: أن هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ وإن كانوا يدعون هَؤُلاءِ الصالحين أو الأَنْبِيَاء أو المقربين وقت الرخاء، فإنهم كانوا إذا ركبوا في الفلك، وجاءتهم الريح من كل مكان وأحاط بهم الموج دعوا الله مخلصين له، ويتضرعون طالبين منه الغوث، وهذا بخلاف شرك المتأخرين، فإنهم يدعون غير الله تبارك وتعالى في الرخاء والشدة.

وهذا من أعظم البلاء الذي وقع في هذه الأمة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرفعه عنها فالذي وقع أنهم يعتقدون أن لغير الله سبحانه وتعالى تصرفاً في الربوبية، فالمُشْرِكُونَ الأولون كانوا يعتقدون أن آلهتهم إنما هي شفعاء، تقربهم إِلَى الله زلفى، ولكن الْمُشْرِكِينَ المتأخرين يعتقدون في آلهتهم ومعبوداتهم أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت، وهذا ما لم يقع فيه أصحاب الشرك الأول، وهو دليل عَلَى انحطاطهم، فإن البشرية كلما تقدم بها الزمن وكلما بعدت عن رسالات الأَنْبِيَاء ازدادت انحطاطاً وشركاً عياذاً بالله.

ص: 1030

وأعظم المصائب أن يقع هذا الشرك ممن ينتمي إِلَى أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فيعتقد أن الأقطاب أو النجباء أو الأبدال أو الأولياء يملكون النفع والضر والخلق والرزق والتصرف في الكائنات، كما يزعمون أن الله تبارك وتعالى قد وكل أمر تصرف العالم إِلَى هَؤُلاءِ الأولياء، فهم يتصرفون فيه كما يشاءون، ويقولون ذلك تلبيساً عَلَى الناس، حتى إذا قال أحدهم: الله هو المتصرف في كل شيء قالوا: نعم. إن الله هو المتصرف في كل شيء.

ولكنه تَعَالَى يعطي من يشاء فيتصرف في ملكه. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الله سبحانه وتعالى إن أكرم أحداً من العباد أو من الأولياء أو الصالحين فلن يعطيه شيئاً من خصائص الألوهية، لأن هذه ألوهيته سبحانه وتعالى وهي التي من أجلها خلق السماوات والأرض، فالملائكة المقربون والأنبياء والمرسلون، ثُمَّ بعد ذلك عباد الله جميعاً والخلق جميعاً يعبدون الله سبحانه وتعالى ويتوجهون إليه تبارك وتعالى وهذا هو شأنهم، وهذا هو ديدنهم جميعاً، فلا يمكن ولا يصح بحال من الأحوال أن يعطي الله سبحانه وتعالى أحداً منهم شيئاً من خصائص الألوهية.

بل هذا تكذيب لما هو ثابت بالقرآن والسنة وعلى ألسنة جميع الأَنْبِيَاء من أن الله سبحانه وتعالى هو وحده الإله.

ص: 1031

فإن قالوا: إن الله هو الذي يعطي هَؤُلاءِ الأولياء التصرف في الأكوان، والقدرة عَلَى الخلق والرزق والأحياء والإماتة

فإن هذا من الباطل الذي ترده بديهة المسلم وفطرته، لعلمه اليقيني أن الله تَعَالَى إنما بعث الأَنْبِيَاء من قبل وبعث آخرهم محمداً صلى الله عليه وسلم ليفرده النَّاس بالإلهية، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فكيف يجعل سبحانه وتعالى غيره إلهاً وطاغوتاً يعبد من دونه؟!

ومن أسباب وقوع الشرك: تعظيم الكواكب أو القياس عَلَى الكواكب، كما قلنا: إن الحرانيين الصابئين -قوم إبراهيم- والأمم قبلهم من الكنعانيين والبابليين والآشوريين وكثير من الأمم البائدة، كانوا يعتقدون أن للأفلاك والكواكب تأثيرات وتدبيرات في العوالم السفلية، ومن أجل ذلك بنوا الهياكل، ثُمَّ صوروا عَلَى مثال تلك الكواكب الأصنام. ونحتوها، وأخذوا يعبدون هذه الأصنام من دون الله تبارك وتعالى بسبب هذا الاعتقاد.

وذكر المُصْنِّفُ رحمه الله الأحاديث الصحيحة في النهي عن عبادة القبور، وعن اتخاذ القبور مساجد، وهي أحاديث كثيرة وصحيحة.

حديث اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد لا يفهم منه جواز تعظيم القبور والتقرب إليها

ص: 1032

ولكن هنا إشكال يرد، ونحب أن نفصل فيه حتى تزول الشبهة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام مالك في الموطأ عنه أنه قال:(اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فأورد بعض دعاة الشرك قديماً وحديثاً أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، وهو في هذا الحديث قد دعا الله سبحانه وتعالى أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، إذاً فلن يعبد قبره صلى الله عليه وسلم، فمهما عبدنا، ومهما دعونا القبر، ومهما استغثنا، ومهما طفنا، فهذه ليست بعبادة.

وهذه الشبهة هي من أعظم شبهاتهم -كما يظنون- ولكنها إذا عرضت عَلَى الدليل العلمي الصحيح تزول بإذن الله سبحانه وتعالى وتنكشف، وكما سبق وأن قلنا ونعيد القول بأن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ودعاة التوحيد -ولله الحمد والمنة- مستعدون للإجابة عن أية شبهة علمية يوردها هَؤُلاءِ، فالجواب عليها موجود عند علماء أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وفي كتبهم، ولذلك نَحْنُ نريد من هَؤُلاءِ النَّاس أن يحرروا عقولهم من التقليد والتبعية لغير الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وينظروا إِلَى الأمور بنظرة علمية خالصة جادة، فإذا وافقوا عَلَى ذلك، ولم يبق إلا مثل هذه الشبهات العلمية، فان الجواب عنها قريب بإذن الله سبحانه وتعالى.

ص: 1033

وأما الشبهات التي هي هوىً وظنون وتأويلات من عند أنفسهم، فهذه يجب عليهم هم أن يردوها، وكذلك ما كَانَ بالتقليد كقولهم: هذا رواه الأولياء، أو هذا ثبت بالتجربة عند المشايخ، أو هذا مما لُقِنَاهُ بالعلم الباطن أو نحو ذلك، فإن هذا الكلام مردود أصلا وبداهةً ولا نناقش في هذا الكلام، إلا عَلَى سبيل رده جملةً وتفصيلاً، لكن إذا جاءونا بأدلة علمية وَقَالُوا: قال الله: أو قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم فهموا الآية عَلَى غير وجهها، أو فهموا الحديث عَلَى غير وجهه، قلنا لهم: نعم، إذاً؛ نَحْنُ وإياكم نبحث عن الدليل العملي الصحيح ونتبعه بإذن الله سبحانه وتعالى.

هذه قاعدة عامه في مجادلة هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ، ولا نجادلهم إلاّ بالتي هي أحسن.

فنقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .

الكلام عليه يتلخص في أمرين:

الأول: في ثبوته.

والثاني: في معناه، وفي رد شبهة الْمُشْرِكِينَ في الاستدلال به.

أما ثبوت هذا الحديث: فإن الإمام مالك رحمه الله قد رواه في الموطأ مرسلاً عن زيد بن أسلم، وروي أيضاً مرسلاً عن عطاء، والحديث المرسل هو: الحديث الذي سقط منه الصحابي، يعني أن يقول التابعي: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث يسمى مرسلاً، كما قال الناظم:(ومرسل منه الصحابي سقط) وزيد بن أسلم أو عطاء تابعيان، ومثل ذلك سعيد بن المسيب رحمهم الله، والزهري، ونافع، وأمثالهم ممن يروون عن الصحابة -رضوان الله عليهم- فإذا قال أحد هَؤُلاءِ التابعين: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الصحابي الذي روى عنه -فلم يقل عن أنس ولاعن جابر ولا عن أَبِي هُرَيْرَةَ - فهذا الحديث يسمى مرسلاً.

ص: 1034

والمرسل لا يحتج به بعض العلماء، لأنه يحتمل أن التابعي رواه عن تابعي أو عن أكثر من تابعي، فقد يروي الرجل الحديث عن اثنين أو عن ثلاثة من أقرانه، ثُمَّ يكون الثالث أو الرابع رواه عن صحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أدرك الصحابة.

فالتابعي وإن كَانَ ثقة، لكنه قد يروي عن تابعي ضعيف، أو تابعي غير مقبول، وذهب بعض علماء الحديث وكثير من الفقهاء إِلَى أن المرسل مقبول يحتج به، وَقَالُوا: إن التابعي إذا قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فإنه إنما قاله متأكداً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، وراوياً له عن الصحابي الذي أسقطه، لأنه ليس من الضروري أن يذكر الراوي من روى عنه، فهو يقول: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليقينه أنه سمع هذا الحديث من أحد الصحابة، هذه وجهة نظر الآخرين.

وتوسّط في ذلك بعض العلماء فَقَالُوا: إنّ بعض التابعين يقبل حديثه المرسل بإطلاق، كسعيد بن المسيّب رحمه الله فإنه إذا قال: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فإنّا نقبله بإطلاق، وأمّا بعضهم فإنّ مراسيله غير مقبولة كالزّهري مثلاً، كما قال العلماء، فالزهري وغيره يروون كثيراً جداً عن التابعين وعن أقرانهم، ويرفعون أحاديث كثيرةً إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قال مثل هَؤُلاءِ: قال رَسُول الله. فإنه لا يقبل، وخاصة من كَانَ منهم من صغار التابعين.

فالحديث رواه الإمام مالك مرسلاً، وهذا المرسل مردود عند بعض العلماء ومقبول عند بعضهم، ثُمَّ أورد لهذا الحديث بعض طرق روي بها مرفوعاً عنأبي سعيد الخدري، وأورد الإمام أَحْمَد في المسند له شواهد، فنقول: إنّ الحديث بمجموع هذه الشواهد يرتقي إِلَى الصّحة.

ص: 1035

وأما دلالة هذا الحديث ومعناه فنقول لهم: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل الأَنْبِيَاء ليسوا مجابي الدعوة بإطلاق، فليس صحيحاً أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تستجاب له كل دعوة يدعو بها صلى الله عليه وسلم، وهذا لا غرابة فيه، بل وردت وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث لم يستجب فيها دعاؤه، لأن الله سبحانه وتعالى له حكم عظيمة لا يدركها أحدٌ من البشر وإن كَانَ نبيّاً.

وهو تبارك وتعالى قد قدر أقدارًا، وقد كتب في اللوح المحفوظ أقداراً وأموراً مما تقتضيها حكمته، فتقع هذه الأمور وتجري في الكون، ولا يحيط الأَنْبِيَاء ولا غيرهم بها علماً.

فيأتي النبي فيدعو الله بدعوة، ويكون الله تبارك وتعالى قد قضى وقدر أن هذا الأمر يمضي وينفذ، فلا تستجاب دعوة النبي في هذا الأمر، ولا يعني هذا أن النبي غير مقبول عند الله، فإن جميع الأَنْبِيَاء مقبولون عند الله سبحانه وتعالى، ولا سيما رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضلهم، وهو سيد ولد آدم يَوْم القِيَامَةِ ولكن لله تَعَالَى حكم عظيمة.

ص: 1036

مثال ذلك: لو أن أحداً منا كَانَ رجلاً صالحاً تقياً عابداً، لا يدعو الله سبحانه وتعالى في شيء إلا واستجاب له، وقد كَانَ في هذه الأمة من هو مجاب الدعوة مثل: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فلو دعا الله سبحانه وتعالى أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً، أو يبعث أبا بكر حتى يراه، لا يقبل دعاؤه، لأنه وإن كانت دعوته مستجابة فإن الدعاء لا يجوز الاعتداء فيه، وهذا من الاعتداء في الدعاء، فلا يصح أبداً أن تدعو الله به. فإذا دعوت الله تَعَالَى به فإنك معتد في الدعاء، وهذا الدعاء مردود، وإن كنت مستجاب الدعوة في أمور أخرى. وهكذا ما يذكر في قصة عابد بني إسرائيل -وقد كَانَ مجاب الدعوة- فقيل له: ادع الله عَلَى موسى عليه السلام، فلما دعا اندلق لسانه -والعياذ بالله- وكان ذلك شؤماً عليه وخسارة.

ولهذا جَاءَ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا الله سبحانه وتعالى ثلاث دعوات، فاستجاب الله له دعوتين ولم يستجب له الثالثة، ثُمَّ بين الله تَعَالَى ذلك فقال:(يا مُحَمَّد إني إذا قضيت قضاء فإن قضائي لا يرد) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يهلك أمته بسنة بعامة أي: بالجدب والقحط العام الذي يفنيهم جميعا، كما بينته الرواية الأخرى، وفي رواية أخرى أعم من ذلك دعا الله تبارك وتعالى أن لا يهلكهم بما أهلك الأمم قبلهم، وفي بعض الروايات -وهي كلها صحيحة- عينت أنه الغرق، قَالَ:(اللهم لا تهلكهم بالغرق، أو قَالَ: دعوت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق) فاستجاب الله له.

ص: 1037

والدعوة الثانية: (أن لا يسلط عَلَى أمته أهل الشرك) وفي رواية حديث شداد قال: (ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) فاستجاب الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن لا يسلط علينا الكفار فيستأصلونا جميعا، فإنه لا تزال في هذه الأمة طائفة باقية، ولا تزال طائفة منصورة يقاتلون عَلَى أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، فلا يسلط الله علينا اليهود ولا النَّصَارَى ولا الْمُشْرِكِينَ، فيبيدونا إبادة تامة حتى لا يبقى عَلَى وجه الأرض مسلم، فهذا لا يقع.

والدعوة الثالثة: (أن لا يجعل بأسنا بيننا شديداً) .

وهذه لم تُستجب للرَسُول صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الله تَعَالَى له:(يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإن قضائي لا يرد، وإني لن أهلك أمتك بسنة بعامة) أو (وإني وعدتها ألا أهلكها بسنة بعامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يقتل بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا) .

وهذا الذي جَاءَ في الحديث قد جَاءَ في صريح القُرْآن مع بيان سبب النزول، وهو قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض [الأنعام:65] .

ص: 1038

روى الإمام البُخَارِيّ رحمه الله في هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] قَالَ: (أعوذ بوجهك) . فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله سبحانه وتعالى علينا عذاباً من فوقنا، إما القذف بالحجارة من السماء، وإما الغرق والمطر أو أي عذاب يأتي من السماء، كالصيحة أو الصاعقة ونحو ذلك، قَالَ: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك) فاستجاب الله سبحانه وتعالى له وأعاذنا من أن يرسل علينا عذابا من تحت أرجلنا، وهو الخسف أو الغرق أيضا، أو أي عذاب يكون من تحت أرجلنا فيهلك الأمة عامة، وإلا فإن الخسف قد يقع لبعض الأمة والغرق والزلازل، ثُمَّ قَالَ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه أهون، هذه أيسر) فهذا يدل عَلَى أن هذه الآية نزلت بعد أن دعا الله سبحانه وتعالى بالدعوات الثلاث، فلم تستجب له الدعوة الثالثة. فلذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الثالثة: أعوذ بوجهك. بل قَالَ: (هذه أهون هذه أيسر) هذا هو الظاهر، والله تَعَالَى أعلم.

ولكن المهم من ذلك أنه كما روى الإمام مسلم، والإمام أَحْمَد في المسند وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استجاب الله له دعوتين ولم يستجب له الثالثة، وقد ورد في طرق هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة حسنة طويلة خاشعة فَقَالَ له معاذ -وفي بعض الروايات خباب -: يا رَسُول الله إنك صليت صلاة ما رأيتك صليت مثلها من قبل! قَالَ: (نعم، إنها صلاة رغب ورهب) .

ص: 1039

فصلى هذه الصلاة ليتضرع إِلَى الله سبحانه وتعالى ويدعوه بأمر مهم عظيم جداً فقَالَ: (إني صليت هذه الصلاة، وإني سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة) >

دليل آخر -وهو أيضاً صحيح- رواه البُخَارِيّ والإمام أَحْمَد وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم: {كان يقنت بعد الركوع إذا قَالَ: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، يدعو عَلَى بعض الْمُشْرِكِينَ، يقول: اللهم العن فلاناً والعن فلاناً} .

وممن ذكر بالتعيين، بالاسم في هذا الحديث كما في رواية المسند:

{الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية} .

وقنت عَلَى قبائل من العرب بأعيانها، فقنت عَلَى رعل وذكوان وعصّية، فأنزل الله تبارك وتعالى عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] .

أي: ليس لك من الأمر شيء، إنما عليك البلاغ والبيان والدعوة، أما إهلاك هَؤُلاءِ فإنه إِلَى الله سبحانه وتعالى، فإن شاء تاب عليهم سبحانه وتعالى، وإن شاء عذبهم، فالأمر إليه تبارك وتعالى وحده، فلما نزلت هذه الآية لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إِلَى القنوت عَلَى هَؤُلاءِ، ولما كَانَ عام الفتح أسلم سهيل بن عمرو، وصفوان بن أميه، والحارث بن هشام، كما أن القبائل الأخرى أسلمت، ومنها: رعل وذكوان وعصية.

ص: 1040

وكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى مضر، وقد سبق معنا حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا من أول قبائل العرب إيماناً واستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك قالوا، كما في الحديث الذي في البُخَارِيّ ومسلم، {قالوا: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، لأن بيننا وبينك هذا الحي من مضر} وكفار مضر من بني تميم ومن حولهم وكانوا في وسط نجد يحولون بين هَؤُلاءِ القوم وبين المجيء إِلَى المدينة، إلا في الشهر المحرم، فإذا جَاءَ الشهر المحرم وامتنع العرب عن القتل، جاءوا إِلَى رَسُول صلى الله عليه وسلم، وكانوا من أشد الكفار عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقَالَ:{اللهم اشدد وطأتك عَلَى مضر، واجعلها عليهم سنينَ كسني يوسف} أي: أهلكهم بالجدب فيأخذهم القحط، كما أخذ قوم يوسف عليه السلام، بقوا سبع سنوات عجاف، ولم يستجب هذا الدعاء، بل أسلمت مضر بعد ذلك ودخلت في الإسلام، وإن ارتد منهم بعد ذلك من ارتد، فإنهم قد دخلوا في الإسلام واهتدوا وأصبحوا من المؤمنين.

إذاً؛ فنقول لهَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ أو دعاة الشرك أو أصحاب الشبهات الشركية الذين قالوا: إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد قَالَ: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) ودعاؤه مستجاب صلى الله عليه وسلم، فمهما عبدنا ومهما فعلنا ومهما أشركنا حول القبر، ومهما طفنا به أو استغثنا به أو شددنا الرحل إليه، فهذا ليس شركاً؛ لأن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم دعا الله ألا يجعل قبره وثناً، وهذه ليست من الوثنية في شيء!.

ص: 1041

نقول لهم: هذا القول مردود بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا بدعوات ولم يستجب له فيها، ونستطيع أن نتلمس الحكمة في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد قضى وقدر أن هذه الأمة يكون فيها ما كَانَ في الأمم قبلها، كما ثبت في الحديث الصحيح:(لتتبعن سنن من كَانَ قبلكم حذو القذة بالقذة) فقدر الله تَعَالَى ذلك، ولا راد لقضائه، وقدر الله سبحانه وتعالى أن هذه الأمة تعود إِلَى الشرك، وأن فئام منها تلحق بالْمُشْرِكِينَ، وأنه (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عَلَى ذي الخلصة) -كما في الحديث الصحيح-، فهذا مما قدره الله ولا راد لقضائه.

ولكن دعوة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) فيها فوائد عظيمة لما سبق أن الله سبحانه وتعالى يجمع العبيد الذين عبدوا غير الله، يَوْمَ القِيَامَةِ ويجمع من عُبِدَ أو عبدوهم من دونه، ويسأل هَؤُلاءِ وهؤلاء، ويرى ماذا يجيبون؟!.

ومن ذلك: أنه تبارك وتعالى يسأل المسيح عيسى بن مريم: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] .

فالله تبارك وتعالى يسأله ويسأل المرسلين والأولياء والملائكة: هل أنتم رضيتم أن تعبدوا من دون الله؟

هل أنتم دعوتم النَّاس إِلَى أن يعبدوكم من دون الله؟

ص: 1042

فيقول كل منهم: يا رب لم آمرهم بعبادتي، ولم آذن لهم أن يعبدوني، وما دعوتهم إلا إِلَى التوحيد ولا علم لي بهذه العبادة، كما قال عيسى عليه السلام: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [المائدة:117] فإذا وقع الشرك في هذه الأمة وعملوا مثل ما اعتقد قوم عيسى في عيسى، وعظموا قبره صلى الله عليه وسلم وقبور الأولياء والصالحين من هذه الأمة، مثل ما عظم اليهود والنَّصَارَى، واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فهنا تنفع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد قَالَ:(اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) فهذه براءة من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إِلَى الله سبحانه وتعالى، وأنه لم يكن راضيا بذلك.

فهو لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سيقع تبرأ إِلَى الله سبحانه وتعالى، كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أبرأ إليك ممن سيتخذ قبري وثنا يعبد، فإن فعلوه واتخذوه فهذا أمر لم أرده ولم أرض به ولا أقره، مثل عيسى عليه السلام لم يُرد ولم يقر ولم يرض أن يعبده النَّصَارَى من دون الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تطروني كما أطرت النَّصَارَىعيسى ابن مريم) ويقول كما في هذا الحديث: (لعن الله اليهود والنَّصَارَى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) .

فهذه الشبهة التي يتعلل بها دعاة الشرك القدامى منهم، والمعاصرون في قولهم: إن ما يفعلونه ليس وثنية وشركاً.

ص: 1043

نقول: إن الوثنية والشرك يقعان في هذه الأمة. ولكن الله سبحانه وتعالى قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم من الرضى بهذا الشرك، فأنتم حين تجعلون قبره وثناً وتشدون الرحل إليه وتطوفون به، وحين تدعونه صلى الله عليه وسلم وتستغيثون به، قد حاددتم وضاددتم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حتى في هذا الحديث، فإنه يدعو الله أن لا يتخذ قبره وثناً، وأنتم تتخذونه وثناً.

وقد جمع الإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- الأحاديث التي تدل عَلَى ما استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وما لم يستجب له في تفسير قول الله تبارك وتعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] .

تنبيه على كلام شيخ الإسلام وابن القيم

ص: 1044

وهنا قضية أخرى ينبغي التنبيه إليها: وهي أن الإمام ابن القيم رحمه الله ومثله شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ من قبل في الجواب الباهر قالوا: إن الله سبحانه وتعالى قد استجاب للرَسُول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث-أي: حديث (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) - فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- لما دفن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه -وهذه سُنة دفن الأَنْبِيَاء جميعا- وكان محاطا بالحجرة، ثُمَّ أحيط بالجدران بعد ذلك، ثُمَّ لما أراد بعض الصليبيين أن يعتدوا عَلَى قبره صلى الله عليه وسلم في أيام المماليك صب عليه من الرصاص في أطرافه فأصبح مخفيا جداً بهذه الجدران، وهذا مثل ما جَاءَ في الحديث الآخر الذي روتهعَائِِِشَةَ رضي الله عنها قالت:(ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ وثنا) فخشية أن يتخذ وثناً لم يجعل بارزا، ولم يأمر بأن يبنى عليه القبة كما بني عَلَى قبور الأَنْبِيَاء من قبل، وكما فعل اليهود والنَّصَارَى من قبل.

هذا في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن بعدهم، ثُمَّ جاءت التوسعة العمرانية في أيام الوليد بن عبد الملك ومن بعده.

ص: 1045

يقول القرطبي: فلما جَاءَ ذلك وخشي النَّاس أن يتخذ القبر قبلة، بني بناء القبر وما حوله عَلَى شكل مثلث وجعل قاعدته من جهة القبلة، ورأس المثلث من جهة الشمال، فإذا وقف الإِنسَان فإنه لا يستطيع أن يتخذ القبر قبلة ولا أن يدعوه لأنه عَلَى رأس القائمة، ولذلك من يظن أنه يعبد قبره أو أراد الوصول إليه فإنه لا يستطيع، بل ولا يستطيع أن يراه. ولكن هذا الذي ذكره هَؤُلاءِ العلماء الأجلاء لا يعارض ولا يمانع ما هو واقع الآن ومشاهد حساً، ووقع في القرون الماضية، وهو أن النَّاس الجهال يتخذون القبر وثنًا، وهذا يدل عَلَى أن هذا الحديث ليس المراد به الإجابة المطلقة، لوقوع ذلك من الجهال، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد تبرأ ممن يفعل ذلك وسأل الله سبحانه وتعالى ذلك لكي لا يؤاخذ أو يظن به أنه مقر بهذا الفعل.

والاحتياطات تبرىء الرَّسُول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم عندما أحاطوه بالجدران، وأيضاً تبرئ من بعدهم ممن وضع البناء عَلَى شكل مثلث، ومثل ذلك ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه إِلَى العزى فقطعها، وأرسل عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب إِلَى القبور والصور فطمسها ومحاها، ومع ذلك تعود عبادة العزى من دون الله عز وجل قبل قيام الساعة، وتعود الأصنام وعبادة القبور.

فاتخاذ الأسباب والاحتياطات لعدم وقوع الشرك ضروري ومطلوب وواقع، لكن لا يتنافى مع وقوع الشرك بالفعل، مثل ما فعل عُمَر رضي الله عنه عندما قطع شجرة الحديبية، وهذا هو الواجب من سد ذرائع الشرك.

والآن نعود إِلَى موضوع إثبات الفطرة الذي هو دليلٌ عَلَى توحيد الربوبية، وبيان أن الرسل إنما جاءوا لتقرير توحيد الألوهية

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 1046

[وقال تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض [إبراهيم:10] وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد عَلَى الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولا يقَالَ: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً -كما قاله بعضهم- لما تلونا، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل:(خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) الحديث.

وفي الحديث المتقدم ما يدل عَلَى ذلك، حيث قَالَ:(يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: ويسلمانه. وفي رواية: (يولد عَلَى الملة) وفي أخرى: (عَلَى هذه الملة) ] اهـ.

الشرح:

هذا موضوع الفطرة

قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد عَلَى الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وفي رواية: (كل مولود يولد عَلَى الملة) وفي رواية أجلى وأصرح: (كل مولود يولد عَلَى هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وكما في رواية الصحيح قَالَ: (كما تنتج البهيمة البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء؟) معنى هذا الحديث أو دلالة هذا الحديث: أن الله سبحانه وتعالى قد أودع في فطر النَّاس الإيمان بالله سبحانه وتعالى فكل مولود من بني آدم يولد، فهو مقر بالله ومتجهٌ بفطرته إليه سبحانه وتعالى ومفطور عَلَى الإقرار والإيمان به تبارك وتعالى بحيث لا يحتاج إِلَى أن يلقن ذلك ولا أن يعلّم، بل هو مولود عَلَى نفس هذه الملة -ملة الإسلام- التي لا يقبل الله سبحانه وتعالى من أحد غيرها.

وضرب مثالاً لذلك بالبهيمة (كما تنتج البهيمة البهيمة) أي: تلد البهيمة بهيمةً جمعاء كاملة ليس فيها أثر من آثار إحداث الآدمي، كقطع الآذان أو العلامات التي توضع سمة عَلَى الإبل والبقر والغنم لتعرف، وإنما الذي يجدعها صاحبها.

ص: 1047

وكذلك الإِنسَان يولد عَلَى التوحيد سليماً نقياً حتى يهوّد أو ينصر أو يمجس، فتجدع هذه الفطرة وتوضع عليها علامة معينة قد تكون نصرانية أو يهودية أو مجوسية.

وإن لم يوضع علامة فهو يولد عَلَى هذه الملة والدين.

معنى الفطرة عند المعتزلة والرد عليهم

ويقول المُصْنِّف رحمه الله: [ولا يُقَالَ: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً] .

وهذا قول بعضالمعتزلة: يولد عَلَى الفطرة: أي يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً، خالي الذهن، ثُمَّ أبواه يهودانه أو ينصرانه.

ويقال لهم: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في الحديث: (أو يسلمانه) فإذا كَانَ يولد لا يعرف توحيداً ولا شركاً، فمن أين يأتي إليه التوحيد والإسلام؟

فهم أولوه بهذا التأويل ليبنوا أو يؤسسوا قواعدهم التي وضعوها، وتركوا الوحي الذي أنزله الله سبحانه وتعالى في المولود، وهذه قاعدة فاسدة من قواعد المتكلمين من المعتزلة وغيرهم فهم يقولون: إن التقليد ليس إيماناً، فإن اليهود يولد أبناؤهم يهوداً، والنَّصَارَى يولد أبناؤهم عَلَى دينهم أيضاً، والمجوس كذلك، أي أن كل واحد يولد يتبع ويقلد آباءه وبيئته ومجتمعه.

قالوا: ويجب عَلَى كل إنسان أن ينظر ويتأمل ويفكر، حتى يعرف الله ويعرف توحيد الله، ويتأكد هل القُرْآن حق أم لا؟!، ويتأكد هل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم رَسُول أم لا؟!

فلو مات وهو في أثناء مرحلة التفكير والنظر، قيل: يكون مسلماً، وقيل: لا يكون مسلماً.

وهكذا دار الخلاف بينهم لأنهم بنوا عَلَى هذا الأصل الباطل الفاسد.

قالالمعتزلة: هذا الحديث معناه: أنه يولد ساذجاً خالياً كالورقة البيضاء ليس فيها شيء، لكن قد يكتب فيها الإيمان والإسلام، وقد يكتب فيها والنصرانية، وقد يكتب فيها واليهودية.

ص: 1048

وقد كذبهم النبي صلى الله عليه وسلم بنص الحديث الذي قال فيه: كل مولود يولد عَلَى الملة) أو (على هذه الملة) أي: يولد متديناً بهذا الدين، فهذا صريح بأن المولود لا يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً، بل يولد عَلَى التوحيد الذي أخذ الله سبحانه وتعالى ميثاقه علينا في الفطرة، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] ولذلك لما يدخل أهل النَّارِ النارَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فيقول الله سبحانه وتعالى كما في الحديث الصحيح لبعض أهل النار:(ابن آدم! لو أن لك ملك الأرض جميعاً أتفتدي به من عذاب النار؟ فَيَقُولُ: نعم يا رب والله لو كَانَ لي ملك الأرض لافتديت به من هذا العذاب الذي أنا فيه، فيقول الله سبحانه وتعالى: قد طلب منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً " الشاهد هو قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الحديث الصحيح: (صلب أبيك) فهذا يدل عَلَى أن الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى عَلَى بني آدم ميثاق حقيقي، وعهد حقيقي، أخذه الله تَعَالَى عليهم في الأصلاب، ثُمَّ بعد ذلك يقرون به وتبقى في فطرهم، والميثاق الفطري هذا سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في موضوعه، لكن الشاهد منه أن هذا هو الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى في عالم الذر، وولد به الإِنسَان في عالم الوجود -في العالم الحقيقي الذي نعيشه الآن- فكل مولود يولد عَلَى الفطرة، ومن أراد التوسع في موضوع الفطرة والرد عَلَى أقوال المعتزلة فليراجع كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ درء تعارض العقل والنقل، فإن الجزء الثاني منه والتاسع امتداد وشرح لهذا الحديث، وبيان لأدلة المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة،

ص: 1049

وإبطال لها ونقل لكلام العلماء في معنى ذلك، ومنهم الإمام مالك وأبو عمر بن عبد البر.

فالشاهد أن هذا هو المعنى الحقيقي للحديث فلا يقال إن معناه أنه يولد ساذجاً،

ومن الأدلة عَلَى ما ذكرناه حديث عياض بن حمار رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وهو: قوله: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمتْ عليهم ما أُحِلَ لهم) فإن هذا دليل عَلَى أن الله سبحانه وتعالى قد خلق البشرية في الأصل عَلَى التوحيد، وفطرهم عَلَى الإيمان ثُمَّ أشركوا، وكذلك كل أحد من آحاد بني آدم فإنه يولد عَلَى التوحيد، حتى تجتاحه وتجتاله شياطين الإنس أو الجن فيصرفونه ويحولونه من التوحيد إِلَى الشرك، ويصرفونه عن الفطرة التي هي دين الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] فدين الإسلام هذا دين الفطرة، وهو الدين القيم وإن اختلفت الشرائع فإن الله سبحانه وتعالى جعلنا عَلَى ملة إبراهيم، وأمرنا أن نتبعها فقَالَ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً [النحل:123] وملة إبراهيم وملة الأَنْبِيَاء جميعاً هي التوحيد الذي هو دين الفطرة لا تغيير له أبدا، ولكن الشرائع والتعبدات تختلف من دين إِلَى دين.

الأدلة العقلية تدل على وجود الفطرة

ثُمَّ يقول المُصْنِّف رحمه الله:

ص: 1050

[وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يُقَالَ: لا ريب أن الإِنسَان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإراداة، فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما. ونعلم أنه إذا عرض عَلَى كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر، مال بفطرته إِلَى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه.

والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا.

والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه.

ومنها: أنه مفطور عَلَى جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إِلَى سبب معين للفطرة، كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.

ومنها: أن يقَالَ: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا.

ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك. فإذا كَانَ المقتضي قائماً في النفس وقُدِّر عدم المعارض، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها من يفسدها، كانت مقرة بالصانع عابدة له.

ومنها: أن يقَالَ: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج، ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم، والمانع منتف] اهـ.

الشرح:

ص: 1051

[وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه] هذه الأدلة العقلية التي ذكرها المُصْنِّف رحمه الله فيها صعوبة، ولا يستطيع أي إنسان أن يفهمها إلا أن تؤخذ كلمة كلمة، ومع ذلك فإن فائدتها النهائية واضحة، وهي ما سبق أن قلناه، ونحب أن ننبه بهذه المناسبة أنه ستأتي موضوعات في شرح هذه العقيدة من مثل هذا النوع، فنقول: إننا -إن شاء الله تعالى- سوف نقتصر عَلَى الأمور التي يكون إيضاحها:

أولاً: الأمور النقلية التي جاءت في الآيات والأحاديث.

ثانياً الأمور العقلية التي تكون واضحة وجلية، أما القضايا الكلامية التي فيها تعقيدات، أو التي فيها بحوث متعمقة جداً نضيع من أجلها ساعات وراء ساعات، وقد يكون في الحاضرين من لا يستطيع أن يفهم هذه المصطلحات ولا يدركها، فهذه إن شاء الله سوف نضرب عنها صفحاً، ولأن هذه الموضوعات معقدة أو بعضها معقدة جداً، ويحتاج الإِنسَان أن يبين كل كلمة وكل مصطلح، فتضيع الفائدة العامة عَلَى الجميع، وهذا الأمر ليس بدعياً من عندنا، بل حتى في الجامعات كما هو معلوم أن هذا الكتاب مقرر في كليات المملكة جميعاً -تقريباً- وأن هناك مقاطع تحذف من المنهج إذا كانت في مثل هذه الأمور، لكن نقول: إن هذه التفصيلات ليست صعبة جداً لكن نَحْنُ ننبه إِلَى ما بعدها، وإلا ففي الإمكان أن تفهم وسنوضح هذه الوجوه التي ذكرها المُصْنِّف رحمه الله هنا إن شاء الله، بكلام إذا فهم تفهم جميعاً بإذن الله فنقول: كل إنسان عنده إرادة وإحساس، فهو حساس ومريد، وكما قال صلى الله عليه وسلم:(أصدق الأسماء حارث وهمام)

ص: 1052

لأن كل إنسان من البشر هو حارث وهمام، مؤمناً كَانَ أو كافراً، غبياً أو ذكياً، ما دام أنه إنسان فهو حارث وهمام، أي له إرادات واعتقادات وتصورات، ويقوم بأعمال يعملها بناءً عَلَى هذه الإرادات والإحساسات، والله سبحانه وتعالى قد فطر كل إنسان أن تكون إراداته وهمه وحرثه فيما ينفعه لا فيما يضره، فأي إنسان عندما يعمل أي عمل إنما يجتهد في عمل ما ينفعه، وإن كَانَ قد يكون ضاراً في الحقيقة، مثل الكافر الذي يجتهد في عبادة الأصنام فهذا شيء آخر، المهم أن يكون اجتهاده حسب ما يعتقد هو ويرى أنه نافع له، فهذه حقيقة واضحة فإذا كانت الفطرة بهذا الشيء، وكان الإِنسَان حارثاً وهماماً، وأنه لا يعمل ولا يكدح إلا فيما يعتقد أنه ينفعه، لا فيما يعتقد أنه يضره

فالمشاهد والمحسوس الآن عند النَّاس جميعاً أنهم يتجهون إِلَى الله سبحانه وتعالى، وأن كل البشر الذين يولدون، يولدون وهم يريدون أن يتبعوا ديناً ما، ويتجهون إِلَى ربٍّ ما، كما سبق أن بينا شبه من يقول: إن الشيوعيين لا يتجهون إِلَى إله، بأن الشيوعي قبل أن يلقن مبادئ الحزب، وقبل أن يعرف أن مصلحته الدنيوية هي في اتباع هذا الحزب، هو أيضاً متجه إِلَى الإله بأي شكل من الأشكال، ولا يوجد عَلَى الإطلاق في أي عصر من العصور، وفي أي أمة من الأمم لا يوجد أبداً مجتمع بلا دين أبداً، حقاً كَانَ أو باطلاً، المهم أن هناك اتجاه إِلَى أن يكون هناك دين، وإله معبود.

وقد قلنا إن أكبر الملاحدة من أمثال البيركامل الذي هو من المدرسة العدنية -كما يسمونها- وهي مدرسة فلسفية أوروبية قال هذا الملحد: "إن مشكلة الإِنسَان المعاصر تتلخص في كلمة واحدة، وهي البحث عن الإله.

ص: 1053

إذاً فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة تتجه وتبحث عن إله، وتبحث عن دين، وهذا دليل عَلَى وجود الفطرة، وعلى أن هذه الفطرة تتجه إِلَى الله سبحانه وتعالى؛ لكن قد تضل وقد تصيب، ولنضرب عَلَى ذلك أمثلة واقعية حسية من واقع الحيوان، فالحيوان إذا رأى النَّار ابتعد عنها، ولا يمكن أن يأتي حيوان ويدخل في النار، إلا إذا وقع طريق الخطأ، مثل الفراشة لأنها عندما ترى النَّار تظن أن هذه ألوان الطيف من الجمال، مثل الأزهار الجميلة، فالجمال يجعل الفراشة تقع في النار، مع أنها لا تريد أن تعذب نفسها، ولذلك إذا وقعت في النَّار واحترق جناح من أجنحتها تهرب وتحاول أن تتحرك لتبتعد عن النار، فكل إنسان متجه إِلَى ما ينفعه لا إِلَى ما يضره.

فإن زين له، أو لبس عليه، أو أغري فوقع فيما يضر، فإنه سرعان ما يحاول الخروج، وذلك مثل الكفار، عندما تزين لهم الشبهات فيعبدون غير الله، فالاتجاه إِلَى الإله موجود، لكن زينت لهم الشبهات والشهوات، وسول لهم الشيطان أن يعبدوا غير الله، فعبدوا غير الله ووقعوا في النَّار فعندما يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] يدعون الله ويتمون أن يخرجهم من النَّار لأنهم قد وقعوا فيها بسبب التلبيس؛ لكن هل المُشْرِكُونَ والكفار عبدوا غير الله ليدخلوا النار؟

لا؛ بل قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] فهم لا يريدون أن يدخلوا النار، ولا يعبدون أصنامهم إلا لتدخلهم الجنة إن كَانَ هناك بعث.

وقد قالوا لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إن افترضنا عَلَى كلامك أن هناك جنة وناراً.

ص: 1054

فنحن أهل الجنة لأننا أكثر أموالاً وأولاداً في هذه الدنيا، وقالوا مرة أخرى نَحْنُ الذين بنينا البيت ونحن الذين نعظم الحرم، ونسقي الحجاج، فإن كَانَ هناك من جزاء ومن عمل يحاسب عليه الإِنسَان جزاؤه الجنة، فنحن من أهل الجنة.

فالشاهد مما سبق أن كل إنسان يتجه إِلَى ما ينفعه، وإلى ما يعتقد أن فيه مصلحته، ما لم يأت صارف فيصرفه عن ذلك، مثل ما جاءت الشياطين فاجتالت بني آدم عن دينهم وقالت: إن عبدتم غير الله فهذا خير لكم، مثل ما زين الشيطان لأبوينا عندما قال لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] سُبْحانَ اللَّه! آدم عليه السلام نسي ما أخذه الله عليه من العهد، ووقع في المعصية؛ لأنه طمع أن يكون من الملائكة أو أن يكون من الخالدين.

ونسي أن الله سبحانه وتعالى تكفل له ما دام فيها ولم يأكل منها، أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يضحى ولا يمسه أي أذى أو نصب أو ألم، لكنه نسي طمعاً في لذة أعظم من اللذة الموجودة، فالإِنسَان حساس ومتحرك وله إرادات، ولا يعمل أي عمل إلا وفيه مصلحته، وإن عمل غير ذلك فلأنه في تصوره يسعى إِلَى لذة أعلا، وإلى مصلحة أعظم، فهذا دليل عَلَى وجود الفطرة وأن الفطرة تتجه في طبيعتها إِلَى الله سبحانه وتعالى،

ولو خلي الإِنسَان -الذي يبحث عن الحق مع نفسه- لاتجه إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، لكن تأتيه شياطين الجن والإنس، فتلبس له الشرك وتزينه له.

وإذا قلنا: إن توحيد الله سبحانه وتعالى هو الحق وهو النافع، فلو عرض عَلَى أي إنسان يهودي أو نصراني أو مجوسي فإنه يتجه إليه، ويترك التكذيب الذي يؤدي به إِلَى النار، وإنما يقع الشرك؛ لأنه يلبس عَلَى الإِنسَان الذي ينفعه بالذي يضره، لكن لو خليت الفطرة.

ص: 1055

ولو جئنا إِلَى هذا الإِنسَان، وأقنعناه أن يترك تقليده الذي مشى عليه، ويترك الفلسفات التي ورثها، ويتخلى عن حقده للنبي صلى الله عليه وسلم لدين الإسلام، ويتخلى عن تعصبه، أي لو قلنا له: أزل هذه الموانع الخارجية جميعاً.

ثُمَّ انظر إِلَى نفسك فاختر الدين الذي تريد، ثُمَّ أزال هذه جميعاً، وأخذ يقرأ القُرْآن وبدأ بالفاتحة مثلاً ثُمَّ بالبقرة، وقرأ في الأحاديث، فإنه سيجد أن هذا هو الدين الحق، وسوف يؤمن به، وإذا قرأتم قصص الذين دخلوا في الإسلام، وما كتبوه، لوجدتم هذا الكلام تصديقا لما قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله هنا؛ أنه إذا خليت النفس عن الموانع الخارجية، من التقليد أو الاتباع فإنها تهتدي إِلَى الدين الحق.

تجد الواحد منهم يقول: قرأت أديان الهند، وقرأت أديان الصين، ودخلت في دين كذا ودين كذا، ثُمَّ لم أقتنع بها، وأخذت أبحث عن الدين الحق وهنا جَاءَ ما يقوله المُصْنِّف أن الفطرة تبحث، وأنها لو تركت لاهتدت، يقول أحدهم: في أثناء البحث تعرفت عَلَى شاب مسلم، أو وقع بيدي نسخة من القرآن، فلما قرأت عرفت أن هذا هو الدين الحق، فاهتدى الرجل فأسلم، فهذا دليل عَلَى وجود الفطرة.

ص: 1056

لكن الفطرة وحدها لا تهتدي فقد تضل، والذي يقوم الطريق ويمنع الفطرة من الخطأ هو الوحي، ولذلك لم يؤاخذنا الله سبحانه وتعالى، ولم يحاسبنا بمقتضى العهد الذي أخذه علينا في عالم الذر، ولم يحاسبنا سبحانه وتعالى أو يؤاخذنا بمقتضى الفطرة التي فطرها في أنفسنا، وإنما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، لئلا يكون للناس عَلَى الله حجة بعد الرسل، -أي: أن الحجة والبلاغ إنما هي بدعوى الأنبياء- فهذا من حكمة الله، ومن فضله سبحانه وتعالى علينا؛ أنه لا يعذب أحداً وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الاسراء:15] مع قيام الحجج في الفطرة، وقيام الحجج في العقل، ومع الميثاق الذي أخذه الله في عالم الذر، والبراهين التي جعلها في الكون والنفس والآفاق، مع ذلك كله فإن العذاب ودخول النَّار لا يكون إلا عَلَى ما يبلغ الإِنسَان من العلم النبوي،.

فهذا ملخص لهذه للأوجه التي ذكر المُصْنِّف رحمه الله هنا، وهو أن الفطرة تتجه إِلَى الله سبحانه وتعالى، وأن الإِنسَان لديه قابلية الاتباع، كما أن لدى كل إنسان قابلية التعلم والعبادة لله، والاهتداء بهديه سبحانه وتعالى، فما لم يحل حائل، أو يأتي حجاب من الحجب يحجب الإِنسَان عن التوحيد، فإن بني آدم جميعاً يتجهون إِلَى التوحيد.

وكل مسلم عَلَى ظهر الأرض فليس مقلداً؛ لأنه مؤمن بالله بمقتضى الميثاق في عالم الذر، وبمقتضى الفطرة التي خلقه الله تَعَالَى عليها، وبمقتضى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، الإيمان البدهي الذي هو أقوى من البراهين النظرية العقلية، ومع ذلك فلكل مؤمن براهينه وحجته التي أعطاه الله سبحانه وتعالى إياها عَلَى قدر علمه وعلى قدر ما بلغه.

دليل على وجود الله والكلام عليه

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

ص: 1057

[ويُحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فَقَالَ لهم: أخبروني -قبل أن نتكلم في هذه المسألة- عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلأ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟!

فَقَالُوا: هذا محال لا يمكن أبداً!

فَقَالَ لهم: إذا كَانَ هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟!

وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة أيضاً.

فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هَؤُلاءِ النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه كَانَ مشركاً من جنس أمثاله من الْمُشْرِكِينَ] ا. هـ.

الشرح:

ص: 1058

يقول المُصْنِّف رحمه الله: [ويُحكى عنأبي حنيفة] كلمة "يحكى" أو "يُقال" معناها: أن الخبر فيه كلام، فليس موثوقاً، والحقيقة أن هذه الواقعة لا تتصور أنها تصح عن الإمام أبي حنيفة لأنه لا يمكن أن يتجرأ أحد من الملاحدة في عهد الإمام أبي حنيفة وفي أوائل القرن الثاني، ويقول أنا أنكر وجود الله، ثُمَّ يؤتى به إِلَى الكوفة إلى عالم من أكبر علمائها ويقول له: أنا أريد أن أناظرك!! لأنه حتى في هذا العصر -والْحَمْدُ لِلَّهِ- عَلَى ضعف إيماننا، وعلى ضعف علمنا، لا يتجرأ الملحد أن يأتي فضلاً عن أن يبحث عن عالم من علماء الْمُسْلِمِينَ الكبار ويقول: أنا أريد أن أناظره، لأن الله سبحانه وتعالى ضرب عليهم الذل، وعلماء الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمُونَ جميعاً حتى العامة منهم يرفضون أصلاً أن يقابلوا مثل هذا الإِنسَان، أو يتحدثوا معه، فضلاً عن أن يفتحوا له الطريق ويقبلوا المناظرة، ويقولون وإذا لم نقنعك نذهب بك إِلَى الإمام أبي حنيفة نقول: هذا لا يمكن ولا يتخيل لكن هذا مما يذكره بعض المتكلمين ليبينوا أن الأئمة الأربعة وغيرهم قد عرفوا الأدلة والبراهين والحجج العقلية، ومثل ذلك ما ينقل عن الإمام أَحْمَد والإمام الشَّافِعِيّ أنهم قالوا: انظروا إِلَى هذه البيضة أو عجبت لهذه البيضة، التي ظاهرها هذا العظم وباطنها الماء، ثُمَّ يخرج منها ذلك الحيوان ثُمَّ يكون له العين والمنقار والرئتان، مع ذلك نقول أن هذه النقولات لو ثبتت فليس معنى ذلك أن دليل الإمامأَحْمَد عَلَى وجود الله، هو هذه البيضة، أو أن دليل الإمام أبي حنيفة عَلَى وجود الله وعلى توحيد الربوبية هو السفينة.

أو من قال من الأئمة: من أراد أن يعرف الله فلينظر إِلَى الإِنسَان كيف خلق من طين، ثُمَّ من ماء، هذه أمثلة وعبر، مثلهم مثل أي واحد يرى منظراً في ملكوت الله في السماء فَيَقُولُ: سُبْحانَ اللَّه كيف ينكر الله عز وجل أحد؟!

ص: 1059

انظر هذا دليل عَلَى ربوبية الله، فليس هذا هو دليله الوحيد الذي يقوم إيمانه ويعتمد عليه إنما هو كمثال من الأمثلة وكدليل من جملة الأدلة، فهذا الدليل دليل السفينة يذكر كذلك، ولا يعني هذا أننا لا نؤمن بالله إلا بناء عَلَى هذا الدليل، أو أن هذا هو حجتنا الوحيدة، أو أننا لا نملك عَلَى وجود الله إلا أمثال هذه الأدلة.

فالله سبحانه وتعالى له في كل شيء آية تدل عَلَى أنه واحد تبارك وتعالى ووجوده أيقين في النفوس من وجود المخلوقين أنفسهم؛ لأننا نعلم أن هَؤُلاءِ المخلوقين إنما وجدوا؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، فوجود الخالق الموجد سبحانه وتعالى إيمان النفس به أكثر يقيناً من يقينها بوجود بلد اسمه أمريكا أو الهند، ومع أنه قد يكون الإِنسَان ربما لم يرها قط ومع ذلك هو مؤمن بوجودها، فالإيمان بوجود الله أعظم وأكثر يقيناً من اليقين بذلك؛ لأنه تمتلأ به الفطرة والقلب قبل أن يعرضه الدين عَلَى المباحث العقلية النظرية والمصنف رحمه الله ذكر هذا المثال. وتفسيره واضح.

ونختتم بما ذكره مؤلف منازل السائرين، وهذا الكتاب ألفه الإمام أبو إسماعيل عبد الله الهروي والذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين شرح منازل السائرين وهو المذكور هنا في قوله:"ويفنى فيه كثير منأهل التصوف ويجعلونه غاية السالكين".

أما المتكلمون والنظار فقد سبق الحديث عنهم، وأما هذا الهروي صاحب منازل السائرين فإنه قد وقع -عفا الله عنه- فيما وقع فيه الصوفية من الحديث عن الفناء، حيث قالوا: إن حقيقية الفناء وحقيقة التوحيد، هو توحيد الربوبية: أن تعتقد أنه لا خالق إلا الله، وأنه لا فاعل إلا الله.

ص: 1060

وسيأتي تفصيل هذا قريباً، كما سيأتي ذكر الأبيات التي ذكرها المُصْنِّف رحمه الله عن الهروي نفسه، وهي أبيات مردودة في موضوع التوحيد، وهذا الكلام الذي ذكره الهروي نقله صاحب حلية الأولياء عن الجنيد، وهو من كلام الصوفية حيث يعتقدون أن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد فمن وصل عندهم إِلَى توحيد خاصة الخاصة فهو الذي يصل إِلَى اعتقاد أنه لا فاعل إلا الله، وأن كل ما في الكون إنما يتحرك بإذن الله سبحانه وتعالى، وأن الله هو الذي حركه، أي: حقيقة الفعل هذه منسوبة إِلَى الله.

فلا ترى لغير الله فعلاً ولا حركة ولا إرادة فهذا هو غاية التوحيد عندهم، أما ما دمت تثبت فعلين، فأنت لا تزال في توحيد أقل، أو في الشرك كما قال ذلك ابن سينا حيث قَالَ: القُرْآن كله شرك، والعياذ بالله، وهذا كلام الفلاسفة، وأخذه الصوفية في الأصل أخذوا عن الفلاسفة، من اليونان والهنود، لكن فلسفة هَؤُلاءِ فلسفة روحانية، وأولئك فلسفة عقلانية.

والشاهد أن دعاوى المتكلمين والنظار، ودعاوى الصوفية وأمثالهم، أن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وهذا مردود عليهم؛ لأن التوحيد الحقيقي هو توحيد الألوهية، فهو الذي أمر النَّاس أن يتدرجوا فيه حتى يعرفوه حق معرفته، ويقوموا به حق قيامه، وكما سبق أن بينا أنه ليس كل الصوفية يقولون بوحدة الوجود، وليسوا جميعاً يقولون: إن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وإنما النَّاس دائماً درجات ومراتب في البدعة، أو في الضلالة، أو في الشرك، أو الكفر، فهم درجات ومراتب، والكلام عَلَى المنهج العام يختلف عن الكلام في الأعيان والأشخاص.

ص: 1061

فالأشخاص فيهم من يأخذ بذلك المنهج كله، وفيهم من يأخذ منه ببعضه، وفيهم من ينتسب إليه بالاسم ويدعيه وهو لا يعرفه ولا يأخذ منه بشيء، فالشاهد هو هذا، وسوف يأتي -إن شاء الله سبحانه وتعالى مزيد من الحديث عن الهروي وعن كتابه عند الحديث عن الأبيات التي ذكرها في نفس هذا الموضع فيما سيأتي.

إنما يقصد بتوحيد الربوبية الاستدلال والإلزام به على توحيد الإلوهية

وامتداداً لذلك نظر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- إِلَى بيان أن هذا التوحيد ليس هو المطلوب لذاته، وإنما يأتي في القُرْآن للاستدلال به، وإلزام الْمُشْرِكِينَ بتوحيد الألوهية.

ومن جعله هو المطلوب لذاته وهو الغاية من الطريقة والعبادة كما يقول بعض الضلال والصوفية أو بعض علماء الكلام - فهو عَلَى خطأ عظيم، فالصوفية يدعون أن غاية التوحيد هو أن يعتقد أنه لا تأثير لأحد في الكون إلا لله سبحانه وتعالى، ويقول صحاب جوهرة التوحيد المنظومة في العقيدة الأشعرية:

والفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جل وعلا

ومن يقل بالقوة المودعةِ فذاك بدعي فلا تلتفتِ

ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة

فالتوحيد هو: أن يعتقد الإِنسَان أنه لا مؤثر ولا فاعل في الكون إلا الله سبحانه وتعالى ولو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، وهو يعتقد أن المؤثر هو الله وحده، وأن هذا المدعو أو المرجو أو المعبود من دون الله سواء كَانَ ملكاً أو نبياً أو عبداً صالحاً ما هو إلا واسطة ووسيلة وشفيع، وأن المؤثر الفاعل الحقيقي هو الله فهذا عندهم لا يسمى مشركاً، فمن قَالَ: إنه مشرك فقد كفّر الْمُسْلِمِينَ وهو من الخوارج إِلَى آخر ما يقولون!

ص: 1062

فإن حقيقة التوحيد عندهم، والغاية النهائية من التوحيد أن يترقى الإِنسَان في فهم الوحدانية حتى يصل به الأمر -كما يقولون- إِلَى أن يعتقد أن هذا العالم كله لا تأثير فيه لأحد إلا الله، وكل هذه الأفعال التي نراها في الكون هي من فعل الله وحده فقط.

ونحن نرد عليهم ونبين ونكشف هذه الشبهات بالأدلة القطعية الجلية من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، ومن البراهين اليقينية التي يجدها كل مسلم في نفسه، وهي: أن الْمُشْرِكِينَ في الجاهلية ما كانوا يعتقدون لأحد تأثيراً غير الله، وما كانوا يعتقدون أن أحداً خلق أو رزق غير الله سبحانه وتعالى.

هذه هي عقيدة الجاهليين والذين يعبدونهم من دون الله من الآلهة -اللات والعزى ومناة وهبل وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، فهذه المعبودات والكهان الذين كانوا يطيعونهم بما يأمرونهم، ويلقون إليهم إنما هم واسطة أو وسيلةأَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ [الزمر:43] ويقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك".

فلم يجعلوا لغير الله ملكاً ولا تأثيراً ولا فعلاً، ولم يكن أحد من كفار قريش يعتقد أن اللات أو هبل هي التي خلقت هذه الجبال التي يراها أهل مكة، أو هي التي خلقت فلاناً وفلاناً قصي وعبد المطلب من زعماء مكة.

إذاً؛ نقول لهم: أنتم تريدون أن ترجعونا إِلَى عين الشرك القديم، وإلى حقيقة الشرك القديم، وهو أنكم تقولون: إنَّ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ الذين يدعون الإسلام -مثلاً- يعتقدون أنه لا تأثير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى.

القرآن مملوء بالأدلة على توحيد الربوبية

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 1063

[والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له. ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً عَلَى الثاني، إذ كانوا يسلمون الأول، وينازعون في الثاني، فيبين لهم - سبحانه- أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك، فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟

كقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60،59] .

يقول الله تَعَالَى في آخر كل آية: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أإله مع الله فعل هذا؟

وهذا استفهام إنكار، يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ -كما ظنه بعضهم- لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى كما قال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَد [الأنعام:19] .

وكانوا يقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] .

لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلهاً جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً [النمل:61] بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا وهكذا سائر الآيات.

ص: 1064

وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] .

وكذلك قوله في سورة الأنعام: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام:46] وأمثال ذلك] اهـ.

الشرح:

يبين المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أن القُرْآن مملوء من تقرير وذكر توحيد الربوبية، وأن الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق الرازق المُحيي المميت الضار النافع، الذي يدبر الأمر، والذي يغيث الملهوف، ويجيب المضطر، ويكشف السوء ممن دعاه إِلَى غير ذلك من خصائص الربوبية، التي منها أيضاً التفرد: بعلم الغيب المطلق، والتي منها: التفرد بحق التشريع للبشر في الدين وفي مصالح الدنيا، ومنها لوازم كثيرة لعلنا نعرض بعضها -إن شاء الله-.

والقرآن مملوء بذكر هذا التوحيد لكن لا عَلَى انفراد، ولا عَلَى أساس أنه يقره كأمر جديد، وإنما يقول للمشركين: هذا الذي أنتم مقرون به يستلزم ويستوجب منكم الإقرار بما أنتم منازعون فيه، فالمُشْرِكُونَ كانوا ينازعون في أن الله تَعَالَى هو وحده المعبود، وهو الذي يرجى ويدعى ويخاف وحده لا شريك له، وكانت هذه هي المعركة بينهم وبين الرسل.

ص: 1065

وكان المُشْرِكُونَ وأهل الكتاب -أيضاً- يعتقدون أن غير الله هو الذي يملك أن يشرع وأن يحلل أو يحرم فالله سبحانه وتعالى يلزمهم بأنه وحده الذي خلق الكون والبشر، فهو وحده الذي يشرع لهم، وهو وحده الذي يجب أن يطيعوه، وأما غيره فلا يجوز أن يتخذ رباً كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه

إِلَى أن قَالَ: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض.. ثُمَّ قَالَ: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض.. [الشورى:10-12]

ومن كَانَ فاطر السماوات والأرض، وله مقاليد السماوات والأرض، فهو الذي يحق له وحده أن يشرع في السماوات والأرض، وأن يطاع شرعه ويتبع أمره.

والآيات كثيرة من كتاب الله التي تذكر بهذه المعاني لتلزم بما بعدها من توحيد الألوهية، ومنها هذه الآيات التي في سورة النمل: قال الله سبحانه وتعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59] آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] .

ثُمَّ ذكر خمس آيات تنتهي كل منها بقوله تعالى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ

قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60] إِلَى أن يقول: أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64] .

ص: 1066

وفي هذه السورة بعد أن ذكر في أولها تكذيب قومفرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] وبعد أن ذكر تكذيب قوم سبأ، وقصة أهل اليمن -الذين كانت ملكتهم بلقيس مع سليمان عليه السلام ثُمَّ دخولها في دين الله سبحانه وتعالى وبعد أن ذكر تكذيب ثمود قوم صالح، ثُمَّ ذكر قوم لوط وإهلاكهم وما كَانَ لهم، ذكر بعد ذلك هذه الآيات، فالموضوع كله في بيان موضوع أن الله سبحانه وتعالى هو وحده المعبود، وهو وحده المطاع، وأنه تبارك وتعالى لا يجوز أن يشرك مع غيره في طاعته وفي عبادته وفي التقرب إليه.

فضرب لهم هذه الأمثلة وبين لهم: أنكم أنتم تقولون: إنه لم يخلق السماوات الأرض إلا الله، ولم ينزل الغيث من السماء فينبت به هذه الحدائق ذات البهجة إلا الله، فيقول تبارك وتعالى بعد ذلك منكراً عليهم: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أإله مع الله فعل هذا، فتعبدونه مع الله، فإنه إذا كَانَ غيره قد شاركه في فعل ذلك، فيجوز أن تعبدوا غيره الذي شاركه في هذا الفعل، أما إذا كنتم تقرون بأنه وحده: هو المتفرد بخلق هذه المخلوقات، والمتفرد بخلق السماوات والأرض، والمتفرد بأنه جعل الأرض قراراً، وجعل فيها أنهاراً، وجعل فيها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً، والمتفرد بأنه: هو الذي يهدي في ظلمات البر والبحر، وأنه هو الذي يكشف الضر ممن دعاه، فيجب عليكم أن تفردوه وحده بالعبادة، ولا تعبدوا غيره أبداً -سبحانه- فلا تدعوا غيره، ولا تصلوا لغيره، ولا تذبحوا لغيره، ولا تنذروا لغيره.

التفسير الصحيح لقوله تعالى ((أإله مع الله))

يقول المُصنِّفُ: ليس الأمر كما فهم بعض الشراح أو بعض المفسرين أن السياق قد انتهى، وكأن قوله:

أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ معناه هل هناك شريك لله؟

ص: 1067

فهذا الوجه خطأ لأن الكلام يجب أن يقرأ متصلاً فنقول مثلاً: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه [النمل:60] التقدير: أإله مع الله فعل هذا؟!

سيكون جوابهم: لا. وهذا سؤال إنكار هذا الوجه هو الصحيح في الآية أما الوجه الخطأ فهو أن يظن أن الآية تقول: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل:60] انتهى.

ثُمَّ يقول: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ كأنه سؤال جديد يقول: هل لله شريك؟

فهذا الوجه خطأ لأنهم يثبتون لله شريكاً، والله تَعَالَى لا يسألهم هل له شريك؟

يعني مجرد سؤال، إنما المقصود أإِله مع الله فعل هذا فتعبدونه من دون الله؟ فإذا قلتم: لا، لم يفعل هذا أحد مع الله، وإنما فعله الله وحده، فهَؤُلاءِ الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله إذن عبادتكم لهم باطلة وشرككم لهم باطل فهذا هو المراد.

وكما قال سبحانه وتعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:1] فهم يشهدون، ولكن أنت قُلْ لا أَشْهَد أي: أنهم هم يشهدون أن مع الله آلهة أخرى ويدعون مع الله آلهة أخرى، والاستفهام هنا إنكار عليهم، كيف تؤمنون وتقرون بأنه لم يفعل ولم يخلق أحد غير الله ثُمَّ تعبدون وتدعون غير الله سبحانه وتعالى؟!

وذكر المُصْنِّفُ رحمه الله أيضاً الآيات التي في سورة البقرة -التي قلنا أن فيها أول أمر في القرآن- منها قول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] .

ص: 1068

وسورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة، وهي من أعظم سور القرآن؛ لاشتمالها عَلَى أعظم آية في كتاب الله سبحانه وتعالى وهي: آية الكرسي ولما اشتملت عليه من الأحكام العظيمة، والمعاني الجليلة، ولذلك -كما في الحديث الصحيح- (لا تستطيعها البطلة) -أي: السحرة والكهان- والشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه -كما في الحديث الآخر.

وهي أول سورة نزلت في المدينة، جاءت في مفتتح القُرْآن بعد الفاتحة، فذكر الله سبحانه وتعالى في أولها صفة القُرْآن العظيم، ثُمَّ صفات المؤمنين فيه ثُمَّ الكافرين ثُمَّ المنافقين، وبعد الانتهاء من صفات المنافقين أمر بهذا الأمر الذي هو أول أمر في القُرْآن فقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هذا خطاب عام لجميع النَّاس اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] .

أمر النَّاس جميعاً أن يعبدوه وحده، لأنه هو الذي خلقهم الَّذِي خَلَقَكُمْ فكونه هو الذي خلقكم، وكونه هو الذي خلق الذين من قبلكم، هذه قضية بدهية، وهي حقيقة مقررة عندكم؛ إذاً فاعبدوه وحده لا شريك له وأفردوه بالعبادة سبحانه وتعالى.

والآية التي في سورة الأنعام قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام:46] وهم مقرون وعالمون أنه لا أحد غير الله يأتيهم بذلك، وأن الله هو الذي رزقهم.

فهذا يبين ويوضح أن كل الآيات التي وردت في القُرْآن -ومنها الآيات التي في سورة النمل- إنما المراد بها أنكم لِمَ تجعلون لله شريكاً في العبادة ما دام أنه ليس له شريكاً في الخلق؟! هذا هو مضمون ما ذكره المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى- في ذلك.

الغاية العظمى لإرسال الرسل هو توحيد الألوهية

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 1069

(وإذا كَانَ توحيد الربوبية، الذي يجعله هَؤُلاءِ النظار، ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد: داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم السلام ونزلت به الكتب، فليعلم أن دلائله متعددة كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول، فإن العلم كلما كَانَ النَّاس إليه أحوج كانت أدلته أظهر، رحمةً من الله بخلقه.

والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القُرْآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

وما كَانَ من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها، ولم يحتج إِلَى الاستدلال عليها، والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القُرْآن بخلاف ما يدعيه الجهال، الذين يظنون أن القُرْآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه.

ص: 1070

ولما كَانَ الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند النَّاس كلهم، باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض الْمُشْرِكِينَ إِلَى أن ثُمَّ خالقاً خلق بعض العالم كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفة الدُّهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هَؤُلاءِ يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مُشْرِكُونَ في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك، فلما كَانَ هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس، بيَّن القُرْآن بطلانه، كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] فتأمل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إِلَى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كَانَ معه -سبحانه- إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر عَلَى قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر عَلَى ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم عَلَى قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد ثلاثة أمور:

إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.

وإما أن يعلو بعضهم عَلَى بعض.

وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.

ص: 1071

وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره، من أدل دليل عَلَى أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه. كما قد دل دليل التمانع عَلَى أن خالق العالم واحد، لا رب غيره ولا إله سواه، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان، فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية] اهـ.

الشرح:

هذا المقطع الطويل كله في بيان حقيقة توحيد الربوبية، ويبدؤه المُصْنِّف رحمه الله ببيان أنه إذا كَانَ توحيد الربوبية الذي يجعله بعض النظار أو المتكلمين هو الغاية؛ فإن التوحيد الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء -وهو توحيد الألوهية- متضمن لهذا التوحيد، بمعني: أن توحيد الربوبية داخل في توحيد الألوهية، فكيف تجعلونه غاية وهي داخلة في الغاية العظمى التي دعا إليها الأَنْبِيَاء وهي التوحيد الحقيقي توحيد الألوهية؟! ثُمَّ يقول: إذا علم ذلك وأن هذا التوحيد داخل في ذلك التوحيد، فينبغي أن يعلم أن دلائل ذلك التوحيد -أي توحيد الربوبية- كثيرة مثلما أن دلائل توحيد الألوهية كثيرة، وأن دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، والدلائل عَلَى أن القُرْآن حق كثيرة، ثُمَّ يقول المُصْنِّف في تعليل كثرة الأدلة عَلَى توحيد الربوبية:

ص: 1072

إن العلم كلما كانت الحاجة إليه أكثر، كلما كَانَ دليله أظهر وأقوى رحمة من الله سبحانه وتعالى بخلقه، فإن أمور العقيدة الدقيقة التي لا يحتاج إليها كل إنسان لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، وأدلتها تحتاج إِلَى تتبع وقراءة ودراسة ونظر، ولكن الأمور العظمى والكبرى التي يترتب عليها كون الإِنسَان مؤمناً أو كافراً، يدخل الجنة أو يدخل النار، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه أوضحها وأظهرها وجلاها لعباده، فجعل الأدلة عَلَى توحيد الربوبية كثيرة جداً في الكون وفي الآفاق وفي الأنفس.

إلا أنه قد يقال كما يقول هَؤُلاءِ النظار: أين الأدلة البرهانية في القُرْآن عَلَى توحيد الربوبية أي: الأدلة العقلية فقط.

عندما يقول الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [يونس:6] في الآيات الكونية، فعندما يقول: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] وغير ذلك يقولون: هذه الآيات عيانية يعني: تشاهد بالعين والنظر، فهل جَاءَ في القُرْآن براهين نظرية يقينية عقلانية نفحم بها الفلاسفة ونسكت بها الملاحدة؟ فنقول لهم: إن الإعجاز العظيم والمعجزة العظمى التي جَاءَ بها القرآن، هو الإعجاز اليقيني قبل أي نوع من أنواع الإعجاز، والإعجاز اليقيني وبلاغته التي هي من أعظم أنواع الإعجاز الذي خرصت العرب أمامها، ما هي إلا وسيلة للإعجاز اليقيني، وهو أن هذا القُرْآن جعله الله تبارك وتعالى هداية مطلقة لا ضلال معها أبداً، وما من شهوة إِلَى قيام الساعة وإلا في القُرْآن ما يعالج هذه الشهوة، وما من بدعة ولا انحراف إلا وفي القُرْآن ما يدل عَلَى بطلانه، وبيان ضرره وانحرافه أوضح وأجلى بيان، علمه من علمه وجهله من جهله.

ص: 1073

فالقرآن إنما جَاءَ بياناً وهدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، شفى الله سبحانه وتعالى به القلوب، وقضى عَلَى الشكوك والريب، فلا تجد إنساناً في أي دين من الأديان غير هذا الدين يعبد عَلَى ثقة واطمئنان قلبي أبداً، بل يتردد ويتشكك، ولهذا يوجد من كبار علماء اليهود والنَّصَارَى وأحبارهم من يفكر ثُمَّ يلحد ويترك دينه نهائياً، ويوجد منهم من يفكر ثُمَّ يدخل في الإسلام أو ينقلب إِلَى أي دين غير دينه، ولكن لم يوجد -ولله الحمد- فيمن رسخ إيمانه في هذا الدين من يرتد إِلَى دين آخر أبداً، لأن هذا الدين دين اليقين، وكل من يعبد الله بغير دين الإسلام فإنه في شك مما يعبد، ولو أنه حكم عقله لعرف أنه لا يعبد حقيقة إلا وفق آراء بشرية ومكتوبات إنسانية، إلا المؤمن فإنه يعبد الله سبحانه وتعالى عَلَى بينة وبرهان وطريق مستنير واضح.

فمعنى قول المصنف: إن هذه الشبهة التي يزعم بعض النظار أنهم يدافعون بها عن الإسلام، لأن القُرْآن إنما جَاءَ بالأدلة الخطابية والأدلة العيانية، ويقولون: نَحْنُ نزيد ونضيف فندافع عن الدين بالقضايا العقلية، قد يكون هذا قول بعضهم، وإما أن يكونوا ملاحدة ينكرون ما في القُرْآن لأنه لم يأت بهذه القواعد، وكلاهما عَلَى خطأ، وإن كَانَ هَؤُلاءِ كفار وأولئك مخطئون، لكن نقول كما قال المصنف: إن القُرْآن تضمن هذه الأدلة وجاء بأوجز وأعظم الأدلة البرهانية، فإن من أعظم ما تسمونه البراهين النظرية أن تقولوا مثلاً: العالم متغير وكل متغير حادث وكل حادث لا بد له من محدث، إذاً فالله موجود وهو المحدث لهذا الكون، هذه التي يسمونها براهين تقوم عَلَى مقدمات، وطريقة القُرْآن تأتي في أجلى وأوضح أنواع الاستدلال، بحيث تحذف المقدمة الضرورية المعلومة.

ص: 1074

فمثلاً: كون الكون متغيراً فهذه معلومة بدهية كل النَّاس يعرفونها، يتغير الليل والنهار والحياة والموت والمطر والجفاف، فالشيء البدهي المعلوم يستدل به ولا يستدل عليه، فالله سبحانه وتعالى لما كَانَ توحيد الربوبية بدهياً معلوماً، استدل به عَلَى توحيد الألوهية الذي فيه النزاع.

فالقرآن يجمع بين غاية الإعجاز اليقيني وغاية الإعجاز البلاغي العلمي في الأسلوب، فلا يصل به إِلَى الحق واليقين بعد مقدمات طويلة لا ثمرة ولا فائدة من ذكرها، فمثلاً العرب في الجاهلية كانوا يعظمون الشعر، ولذلك تجد المعلقات العشر، ولما فيها من البلاغة وقوة التعبير كتبوها وعلقوها في الكعبة، وسميت المعلقات لعظمتها ونفاستها، فالعرب أمة بيان يهمها البيان، فلما أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القُرْآن الذي جَاءَ بالهداية، تضمنه كلام معجز لا يستطيع العرب ولا الإنس ولا الجن ولو اجتمعوا وكان بعضهم ظهيراً لبعض، أن يأتوا لا بمثله ولا بعشر سور من مثله ولا بسورة من مثله أبداً، فلما سمع أعرابي قول الله سبحانه وتعالى في سورة يوسف: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً [يوسف:80] ما كَانَ منه إلا أن نزل من فوق البعير وسجد، وهو لم يؤمن ولم يدر أن في القُرْآن شيء اسمه سجود فتعجبوا وَقَالُوا: ما لك؟ قَالَ: والله هذا ليس من كلام البشر أبداً، فالجملة موجودة في كلام العرب (استيأس وخلص والنجوى والنجيء) لكن لم يوجد عَلَى الإطلاق في كلام العرب لا شعراً ولا نثراً أن جَاءَ بهذا المعنى فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً في ثلاث كلمات تدل عَلَى معنى طويل جداً، تدل عَلَى أنهم جادلوا الملك -الذي هو يوسف وهم لا يعرفونه- حتى تعبوا ثُمَّ اتفقوا عَلَى أنهم يخرجون إِلَى مكان بعيد ثُمَّ أخذوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ وماذا نفعل؟ كل هذه المعاني التي هي عبارة عن عدة حلقات أو عدة فصول من الحديث والنقاش جاءت

ص: 1075

في هذه الكلمات الموجزاة، فلذلك لم يملك الأعرابي إلا أن نزل من عَلَى ظهر البعير وسجد وقَالَ: والله لا يكون هذا من كلام البشر أبداً.

والأعرابي الآخر الذي كَانَ يطوف وسمع القارئ يقرأ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:21-23] فعجب وقَالَ: من أغضب الجبار؟! من أغضب الجبار؟!، هذا الكلام الذي لم يعهدوا مثله يأتي باليقين إِلَى قلوبهم، حتى أنه لا يحتاج إِلَى تأكيد ولا يمين فَيَقُولُ: من الذي أغضب الجبار حتى أقسم فقَالَ: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فمجرد أن سمع ذلك أيقن أنه حق ولا مجادلة فيه.

ص: 1076

والآية التي ذكرها المُصْنِّف رحمه الله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91] هي حقيقة يقررها الله سبحانه وتعالى أنه ما اتخذ الله من ولد -كما يقول اليهود والنَّصَارَى وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ كما يقول جميع الْمُشْرِكِينَ "إذاً" نلاحظ الكلمة -كلمة "إذاً"- أي: لو كَانَ كذا وكذا إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] أي: لو افترض وجود ولد أو إله مع الله سبحانه وتعالى عَلَى الحقيقة - كما تزعمون - لحدث الذي يحدث في حال ملوك الدنيا وهو مشاهد أنهم يتغالبون، ويحاول الملك أن يأخذ ما تحت قبضة الملك الآخر ليتفرد وحده بالملك، فإن عجز عن المغالبة فإنه ينفرد بملكه، ويتصرف في مملكته، ويتصرف الآخر في مملكته، فانتظام أمر العالم واتساقه واتفاقه ينبيء ويشعر ويدل عَلَى أن مدبره واحد وهو الله سبحانه وتعالى أما التعارض والتصادم والاختلاف فهو الذي ينبيء ويشعر بأن هناك عدة آلهة وأنَّ كلاً منهم يملك جزءاً من هذا الكون، وحينئذ فلا بد إما أن يكون هذا الإله يغالب الإله الآخر وإما أن يتفرد بجزء من الكون، وإما أن يكون لا وجود له بل يغلبه الإله الآخر ويأخذ ما عنده.

ص: 1077

فالنتيجة أن المتفرد واحد، وما دام أن الكون عَلَى انتظام ولم يحدث أية تعارض ولا تصادم فيه، فالإله واحد سبحانه وتعالى كما يضرب علماء الفلك لذلك فيقولون: إن احتمال أن يتصادم نجم مع آخر في المدارات التي تدور فيها النجوم مثل احتمال أن تصطدم سفينة تمخر في المحيط الهادي بسفينة أخرى في المحيط الأطلسي، فلا يمكن عَلَى الإطلاق أن تصطدم سفينة في هذا المحيط بسفينة في المحيط الآخر، بل لو لم يكن بينهما إلا مسافة مائة ميل أو عشرة أو ميل واحد لما اصطدمتا، ما دام أن كلاً منها يتجه في اتجاه، فكيف إذا كانت هذه في محيط وهذه في محيط، هل يتصور أنهما تتصادمان؟!

ويقولون: إن هذا مثال بسيط للنجوم في مداراتها لا يتصور أن يصطدم نجمان عَلَى الإطلاق مع كثرة هذه المجرات والمجموعات ضمن المجرات التي لم يصلوا بعد إِلَى عمقها وإلى نهايتها، فهذا دليل عَلَى أن خالقهم واحد سبحانه وتعالى.

وقد سبق أن الشرك في الربوبية وإن كَانَ ممتنعاً بإطلاق، لكن توجد أنواع من الفرق مثل الثنوية الذين يقولون: إن الظلمة إله والنور إله، وهم مقرون في النهاية -كما سبق- بأن الإله الواحد والإله الحقيقي هو النور وهي الديانة الإيرانية القديمة.

والقدرية في أفعال الحيوان يقولون: إن الإِنسَان يخلق فعل نفسه والله لم يخلق أفعال العباد الاختيارية وإنما خلق أفعالهم غير الاختيارية -تعالى الله عن ذلك- هذا أيضاً نوع خفي من الشرك في الربوبية.

ص: 1078

وكذلك شرك الفلاسفة الدهرية الذين يقولون: إن الأفلاك بعضها يحرك بعضاً، فيثبتون وجود الله لكن يجعلونه وجوداً مطلقاً لا تأثير له في الكون، وأن الأفلاك بعضها يحرك بعضاً، فيقولون مثلاً: هذه الأفلاك تؤثر في المصائب والنكبات والزلازل والفتن، فإذا تحرك الكوكب واتجه اتجاهاً معيناً قالوا: سيذهب ملك فلان ويقوم ملك لفلان، سيموت كذا من الأمة، ويأتي كذا من الغيث، ويعتقدون أن هذه الأمور تكون بتدبير من الأفلاك، كل هذه الأفكار هي أنواع من الشرك في الربوبية، ولذلك جاءت الأدلة في القُرْآن لتنفي هذا الشرك، والأصل أن يستدل بنفي الشرك في الربوبية عَلَى تقرير حقيقة الألوهية وهذا هو الأهم.

ويقول المُصْنِّف رحمه الله: [كما قد دل دليل التمانع عَلَى أن خالق العالم واحد] فهذا الدليل كذلك يدل عَلَى أن الإله أو المعبود واحد.

فهذا الدليل العقلي البرهاني -كما يسمونه-: عَلَى أن خالق الكون واحد. وهناك شيء مهم يجب أن يفهم في كلمة الكون أو الفساد، فالكون نعني به: العالم كله، نقول: في الكون كذا أي في العالم، والفساد هو البطلان أو هو ضد الصلاح.

وأما اصطلاح الفلاسفة عندما يقولون الكون والفساد يقصدون بالكون: الوجود أو الإيجاد، ويقصدون بالفساد ضد ذلك وهو العدم، وأصل المعنى اللغوي للكون هو: كَانَ يكون كوناً أي وجد يوجد وجوداً، فالكون والوجود لهما معنى عند الفلاسفة أكثر اصطلاحاً من المعنى اللغوي الذي نَحْنُ نستخدمه، وهذا هو سبب ضلالهم في قول الله تبارك وتعالى:لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] فظنوا أن الفساد هو العدم، فيقولون: لو كَانَ هناك أرباباً لم يوجد الكون؛ لأن هذا الإله يريد أن يخلق والآخر لا يريد أن يخلق فتتعارض إرادتان فيكون الذي تحققت إرادته هو الإله، ولهذا رد عليهم المُصْنِّفُ في هذه الآية كما سبق.

ص: 1079

التفسير الصحيح لقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللهُ لَفَسَدتَا

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: لَوْ كَانَ َ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كَانَ للعالم صانعان.. الخ. وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كَانَ فيهما آلهة غيره. ولم يقل أرباب.

وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كَانَ فيهما -وهما موجودتان- آلهة سواه لفسدتا.

وأيضاً فإنه قَالَ: (لَفَسَدَتَا) وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا، ودلت الآية عَلَى أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحدا، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كَانَ للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السماوات والأرض، وأظلم الظلم عَلَى الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد] اهـ.

الشرح:

هذه الآية: لَوْ كَانَ َ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] دلالتها عظيمة عَلَى توحيد الألوهية.

وهي برهان عقلي، لا كما يظنون أنها برهان التمانع أو دليل التمانع بمعنى أنه دليل لوجود الله فقط.

وذلك: أولاً: أن الله قَالَ: لَوْ كَانَ َ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ ولم يقل: (لو كَانَ فيهما أرباب) .

وثانياً: الكلام إنما هو بعد وجود السماوات والأرض فلو كَانَ فيهما هاتين الموجودتين آلهة غير الله لفسدتا وليس الكلام قبل أن توجدا -كما يقولون- وأن الفساد عندهم: هو عدم الوجود والكون: هو الوجود.

ص: 1080

وثالثاً: قوله: (لفسدتا) فلو فرضنا أن الفساد هو عدم الوجود فالآية تقول: لو كَانَ فيهما آلهة غير الله عز وجل لفسدتا فعلى كلامكم: لو كَانَ هناك أرباب أخرى لبطل وجود السماوات والأرض؛ لأن الفساد عدم الوجود.

فأنتم تقولون: إنها دليل عَلَى أن الخالق في الابتداء هو واحد، والآية تتكلم عن شيء قد خلق ووجد، والفساد الذي يحصل فيه يكون بعد وجوده وخلقه، فهذا يوضح أنها ليست دليل التمانع الذي يقولون، وإنما هي دليل للألوهية وأنه متى عبد غير الله عز وجل في السماوات أو في الأرض فإن الفساد يقع الذي هو ضد الصلاح، لأن السماوات والأرض لم تقم إلا بالعدل، وأعظم العدل هو التوحيد، وأعظم الظلم هوالشرك: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] أي: أكبر الظلم.

فانتظام السماوات والأرض وصلاح أمر السماوات والأرض، لا يكون إلا بأن يكون المعبود هو الله، وليس فقط أن نقول أن الذي أوجدها هو الله، وقد قلنا: إن السماوات لا فساد لها؛ لأن المعبود فيها واحد سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه [الزخرف:84] أي: هو الذي في السماء معبود، وفي الأرض معبود؛ لكنه في السماء معبود وحده سبحانه وتعالى ليس ثُمَّ شرك بالله تعالى، فالملائكة كلهم عباد الرحمن المكرمون يعبدونه سبحانه وتعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20] .

ص: 1081

وأما الأرض ففيها يقع الفساد، ولذلك قالت الملائكة منذ اللحظة الأولى: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] لأن الأرض مكان يتوقع فيه وقوع عبادة غير الله كالإشراك بالله سبحانه وتعالى وهذا أعظم الفساد، لكن لو انتظم أمر النَّاس في هذه الأرض، فلم يعبدوا ولم يطيعوا إلا الله ولم يتبعوا إلا أوامر الله سبحانه وتعالى لانتفى الفساد من الأرض، مثلما انتفى من السماء؛ ولكن حكمة الله عز وجل أنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، حكمة الله أنه لا يزال إيمان وكفر وصلاح وفساد، ولذلك شرع الله تبارك وتعالى الجهاد ليدفع النَّاس بعضهم بعضاً وليدفع شر أهل الشر بقوة الحق عند أهل الإيمان؛ ولذلك كانت الأرض هي مكان التكليف والتعبد، وأما الذين في السماء فإنهم يعبدونه سبحانه وتعالى دائماً وأبداً بلا جزاء ولا ثواب، لأنهم لم يكلفوا بأمر يترتب عليه دخول الجنة أو دخول النار.

وهذه الآية عَلَى وجازة لفظها تدل وتبين أن صلاح العالم كله إنما يكون بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يطاع وحده لا شريك له، ولننظر إِلَى واقع العالم اليوم -مثلاً- في حق النساء جعل الله للمرأة أعمالاً ومهمات محددة تعملها، ولا تتعداها، وجعل خروجها عن ذلك فساداً في الأرض وخروجاً عما أراد الله سبحانه وتعالى. فلما ترك النَّاس أمر الله سبحانه وتعالى في هذا الموضوع واتبعوا أمر غير الله سبحانه وتعالى وأُخرجت المرأة -كما في العالم الغربي وأكثر العالم الإسلامي- عن العمل الذي شرعه -اللهُ سُبْحَانَهُ- واتبعت أهواء وأقوال الشياطين ودعاة الضلالة، كم حصل من الفساد؟

وكم حصل من الشرور؟

وتجدون أن الأمراض في العالم الغربي ومن قلده كلها ترجع إِلَى أن الأسرة متفككة، وأن المرأة خرجت لتعمل مثل الرجل، والكفار أنفسهم مقرون بذلك.

ص: 1082

فلو كَانَ الله هو وحده المعبود المطاع واتُبعت أوامره سبحانه وتعالى لما كَانَ إلا الصلاح والخير، ولما وجد هذا الفساد في الأرض بإطلاق.

وكذلك القتل فالعالم يموج ويضطرب بالقتل، لا يكاد يمر يوم إلا والقتلى بسبب حروب أو انفجارات أو تدميرات، لأن الله ليس هو وحده المعبود سبحانه وتعالى بل اتخذوا آلهة من دون الله، فأطاعوا أحباراً ورهباناً أرباباً أو زعماء من دون الله -سُبْحَانَهُ- ومن هنا كَانَ الفساد والاضطراب في الأرض.

ولذلك فهذه الآية عَلَى قلة ألفاظها تدل عَلَى هذه المعاني كلها وأنه لَوْ كَانَ َ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] فالفساد الواقع في الأرض اليوم إنما هو نتيجة أن المحكم هو غير شريعة الله -سُبْحَانَهُ- فجميع الشرور التي في العالم هذا مصدرها وهذا سببها.

توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس. فمن لا يقدر عَلَى أن يخلق يكون عاجزاً. والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً قال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191] .

وقال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17] .

وكذا قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ َ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:42] وفيها للمتأخرين قولان:

أحدهما: لاتخذوا سبيلاً إِلَى مغالبته.

والثاني: وهو الصحيح المنقول عن السلف كقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه، كقوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [الإِنسَان:29] .

ص: 1083

وذلك أنه قَالَ: لَوْ كَانَ َ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] بخلاف الآية الأولى] اهـ..

الشرح:

هذه الكلمة مهمة وهي قول المُصْنِّف رحمه الله: [وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس] فإن من أثبت أن الله خالق رازق محي ومميت، لا يلزم منه ولا يتضمن أنه مفرد وموحد له بالعبادة وبالطاعة، وهذا هو المهم في العلاقة بين التوحيدين، وفي بيان أن توحيد الألوهية هو الأهم.

وأما قول الله تبارك وتعالى: قُلْ لَوْ كَانَ َ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:62] فهي أيضاً تتضمن برهاناً يقينياً عَلَى أن الإله المعبود واحد سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: لو كَانَ معه آلهة كما يقولون أو كما يزعمون إذاً لابتغوا إِلَى ذي العرش سبيلاً، فالمُشْرِكُونَ يثبتون ذا العرش الإله الأعظم أو الإله الأكبر -كما يسمونه- الذي هو الله سبحانه وتعالى ويثبتون معه آلهة أخرى هي شفعاء وتقرب إِلَى الله -سبحانه- وهي واسطة ووسيلة إِلَى الله سبحانه -كما يقولون- فيرد الله سبحانه وتعالى عليهم فَيَقُولُ: لو كَانَ هَؤُلاءِ الآلهة موجودين -كما تزعمون- لابتغوا إِلَى ذي العرش سبيلاً.

وفي معنى: لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا:

يقول بعض المفسرين: أي لابتغوا طريقاً إِلَى مغالبته، أي: لو كَانَ هناك آلهة لغالبوا ذا العرش حتى يكونوا هم الآلهة الكبرى، ولكن هذا المعنى مرجوح.

ص: 1084

والمعنى الصحيح: أنه لو كَانَ هناك آلهة غير الله سبحانه ممن تعبدون لابتغوا إِلَى ذي العرش سبيلاً، أي: لابتغوا التقرب والتعبد والتزلف إليه سبحانه وتعالى كما في الآية الأخرى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [الإِنسَان:29] كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة [المائدة:35] وكما في قول الله سبحانه وتعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57] فالمعبودون من الملائكة والأنبياء والأولياء الصالحين لله -سبحانه- هم يبتغون إِلَى الله سبيلاً.

فأنت تقول: أنا أتخذهم وسيلة إِلَى الله، بينما هم أنفسهم يتخذونه وسيلة إِلَى الله بالعبادة والعمل الصالح والخوف والرجاء والتقرب إليه، فعليك أن تتخذ أنت وسيلة إِلَى الله أيضاً.

وأما الأحجار والأشجار والأبقار والنَّار وكل ما يعبده المُشْرِكُونَ من دون الله مما لا تملك شيئاً ولا تفقه شيئاً، فهَؤُلاءِ لو كانت لهم إرادة في هذا الأمر -مثلاً- لتقربت هي إِلَى الله واتخذت الوسيلة إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى له وحدة الربوبية والألوهية لجميع المخلوقات فلا معبود سواه أبداً، فلو كَانَ هناك آلهة أخرى لكان شأنها أن تتقرب هي إِلَى الله سبحانه.

إذاً؛ لا توجد آلهة من دون الله سبحانه وتعالى، وهذا من الأدلة عَلَى أن هناك آيات في كتاب الله عز وجل لها كلمات موجزة، تتضمن من الدلائل اليقينيات والبرهانيات ما يعجز العقل عن تصوره.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[ثُمَّ التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.

ص: 1085

فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تَعَالَى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أفصح القُرْآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول (الحديد) و (طه) وآخر (الحشر) وأول آلم تنزيل السجدة وأول آل عمران وسورة الإخلاص بكمالها وغير ذلك.

والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد: مثل ما تضمنته سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

[آل عمران:64] وأول سورة: (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها، وأول سورة (الأعراف) وآخرها وجملة سورة (الأنعام) .وغالب سور القُرْآن متضمنة لنوعي التوحيد بل كل سورة في القرآن.

فإن القرآن: إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو التوحيد العلمي الخبري.

وإما دعوة إِلَى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يُعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.

وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.

وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلُّ بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.

فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم،

فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ توحيدالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ توحيدمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِتوحيدإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ توحيد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَتوحيد متضمن لسؤال الهداية إِلَى طريق أهل التوحيد الذين أنعم عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَالذين فارقوا التوحيد] اهـ.

الشرح:-

ص: 1086

جرى المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا عَلَى أحد القسمة الاصطلاحية في التوحيد.

فبعض العلماء يقسم التوحي-د إِلَى نوعين، وبعض العلماء يقسمه إِلَى ثلاثة، وبعضهم يقسمه إِلَى نوعين باعتبار آخر ووجهة نظر أخرى، وبعضهم يقسمه إِلَى أربعة وغير ذلك.

فأما العلماء الذين قسموا التوحيد إِلَى نوعين ومنها هذه القسمة التي هنا أي: توحيد الإثبات والمعرفة، وتوحيد الإرادة والطلب، وإن شئت فقل: هو التوحيد العلمي الاعتقادي أو التوحيد العملي الخبري.

وليس هناك خلاف بين من يجعل التوحيد ثلاثة أقسام أو قسمين أو أربعة، وإنما كلٌ يقسم باعتبار.

أقسام التوحيد باعتبار تعلقه بالله تعالى

فإذا قسمنا التوحيد باعتبار أنه حق الله تعالى، وباعتبار تعلقه بالله سبحانه وتعالى فهو ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية توحيد الأسماء والصفات وهذا هو المشهور كثيراً.

أقسام التوحيد باعتبار تعلقه بالعباد

وأما إذا نظرنا إِلَى التوحيد من جهة تعلقه بنا نَحْنُ كحق لله تَعَالَى علينا فإنه نوعان:

1-

التوحيد الاعتقادي أو توحيد المعرفة والإثبات وهو: أن نثبت لله تَعَالَى ما أثبته لنفسه، ونعتقد له ما أخبر به في كتابه، سواء التوحيد العلمي الاعتقادي، أو توحيد المعرفة والإثبات بالنسبة لنا.

2-

والتوحيد العملي أو التوحيد الإرادي الطلبي فهو: أن نعبده سبحانه وتعالى وحده، فنعرفه حق معرفته ونعبده حق عبادته، فلا يغني أحد نوعي التوحيد عن الآخر.

تقسم آخر لأنواع التوحيد

ومن ناحية أخرى بعض العلماء يجعل التوحيد قسمين:

1-

توحيد المرسِل.

2-

وتوحيد متابعة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم.

وسورة الفاتحة يجب أن ننتبه لها، وأن نعلم أن هذه السورة ليست مجرد عبارات نكررها حتى تعود كأنها ألفاظ روتينية عادية، وإنما لا بد أن نعي ونتدبر معاني هذه السورة العظيمة.

ص: 1087

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2](هذا إثبات لتوحيد الربوبية،) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّين [الفاتحة:3،4] إثبات لتوحيد الأسماء والصفات وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد الألوهية وقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] هذا توحيد من النوع الآخر وهو توحيد متابعة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم.

فالصراط المستقيم هو الذي أوصى به الله عز وجل، وهو الوصية العاشرة من الوصايا العشر التي لا يدخلها التغيير ولا يدخلها النسخ مهما تغيرت الشرائع (َأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فلما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم: (خط خطاً واحداً مستقيماً وخط خطوطاً معوجة فقرأ هذه الآية) .

والخط المستقيم هو: الصراط المستقيم الذي نسأل الله عز وجل وندعوه أن يهدينا إليه في كل ركعة، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وهو السنة الصحيحة التي كَانَ عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ومهما اختلفت الأقوال في تفسيره فقيل: القُرْآن أو الإسلام أو السنة أو طريق أبِي بَكْرٍ وعُمَر فمعناها واحد، وهو من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد، فهذا توحيد متابعة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وترك البدع.

وقوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين)[الفاتحة:7] أي: غير من غلى ومن جفا ومن فرط ومن أفرط وهكذا فاليهود والنَّصَارَى هم قمة في الاتجاهين.

فالخوارج والصوفية غلوهم يشبه غلو النَّصَارَى، وأيضا المرجئة تفريطهم يشبه تفريط اليهود، وكذا أهل الكلام -مثلا- مجادلتهم في دين الله عز وجل تشبه مجادلات ومماحكات اليهودمع أممهم ومع كتبهم.

ص: 1088

وإن قلنا إن التوحيد نوعان: فتكون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا توحيد المعرفة والإثبات، و (ِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِلَى آخرها توحيد الإرادة والطلب؛ لأن الإرادة والطلب لا تكون إلا بعبادة الله وحده، والاستعانة بالله وحده، واتباع طريق النبي صلى الله عليه وسلم وحده الذي هو الصراط المستقيم، فتكون السورة نصفين عَلَى هذا الأساس أي: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والإرادة والقصد.

وكما يقول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: إن القُرْآن أفصح عن النوع الأول - توحيد المعرفة- كل الإفصاح، وقد سبق أن شرحنا معنى (المعرفة) .

ومعرفة الله سبحانه وتعالى إثبات ما أثبته لنفسه تَعَالَى أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بمعرفته، ولا يستلزم منا -عملاً- إلا الإيمان به والإقرار به، وإن كَانَ له أثره عَلَى جوارحنا وعلى أعمالنا.

وتوحيد الألوهية: هي أوامره علينا، فيأمرنا الله عز وجل أن نصلي له وحده، وأن نذبح له وحده، وأن ننذر له وحده، وكذلك الخوف والرجاء والمحبة وبقية أنواع العبادة، هذا جانب توحيد الألوهية.

وأما توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد الأسماء والصفات، فإنما يستلزم أو يتطلب منا أن نعرفه، ونؤمن به، ونستيقن، ولا يشترط أن يترتب عليه في ذاته أمر لنا إلا الاعتقاد، فلم يكلفنا نَحْنُ بعمل، لكن كلفنا أن نعتقد أن لله سبحانه وتعالى يدين وأن له عينين، وأنه ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة، فنؤمن ونعتقد بها، ونؤجر عَلَى الإيمان بها واعتقادها.

ص: 1089

أما توحيد الألوهية الذي هو توحيد الإرادة والطلب فإنه أعمال؛ ولذلك قلنا التوحيد العملي وذاك التوحيد الاعتقادي، فهذا إيضاح لسبب هذه القسمة، ولذلك ذكر المُصْنِّف -هنا- أمثلة كما في أول سورة "الحديد:"، وسورة "طه"، وآخر سورة "الحشر"، وسورة "السجدة"، وآخر سورة "آل عمران" وسورة "الإخلاص"، وآية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله عز وجل.

وآية الكرسي: هي من أعظم الأدلة عَلَى توحيد المعرفة والإثبات، وكذلك تضمنت توحيد الألوهية أو توحيد الطلب والإرادة؛ وهي آية قصيرة أو صغيرة وقد لا يدرك المرء معانيها ولكنها في الحقيقة لم تكن أعظم آية من كتاب الله إلا لحكم عظيمة لو تأملها المسلم لو عرف شيئاً كثيراً منها.

فآية الكرسي: عبارة عن عَشْر جُمل، كل جملة من هذه الجمل تشتمل عَلَى أصل عظيم، وقاعدة عظيمة فيما يتعلق بمعرفة الله سبحانه وتعالى ولو أن أحداً فهم هذه الآية حق الفهم، وأدرك معانيها حق الإدراك، لعرف حقيقتها وعرف الله سبحانه وتعالى معرفة عظيمة بآية واحدة في جمل معدودة، وهذا من عجائب القُرْآن وعظمته، حيث أودع فيه من العجائب ما لا تدركه أكثر الأفهام، مهما نهلت منه ومهما أخذت منه.

فهذه السور في التوحيد الطلبي والقرآن كله متضمن لنوعي التوحيد:

توحيد المعرفة والإثبات، كالآيات التي جاءت في الاستواء، والتي جاءت في صفات الله سبحانه وتعالى مثل: آخر سورة "السجدة" وأول "الحديد".

وسورة "الإخلاص"كلها كما قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ولذلك صح الحديث (بأن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن) لاشتمالها عَلَى نوع من أنواع التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات.

ص: 1090

فالإِنسَان يقرأ سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد [الإخلاص:1] في ركعتي الفجر، وفي سنة المغرب والوتر وكذلك ركعتي الطواف ونحو ذلك، حيث تضمنت هذه السورة توحيد المعرفة والإثبات، وتضمنت سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ توحيد الطلب والإرادة.

فهناك حكمة في فضل هاتين السورتين، وتكرر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لهما فيما ذكرنا.

أما التوحيد الثاني الذي ذكره المُصْنِّفُ فهو: توحيد الطلب والقصد ودليله مثل قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية [آل عمران:64] التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى أعظم الملوك في الأرض في زمانه وهو هرقل عظيم الروم، وهو الذي كَانَ يمثل قمة وزعامة أرباب أوروبا النصرانية التي تدين بالدين المعروف الذي ينسبونه إِلَى المسيح عليه السلام.

فهذه الآية من الأدلة عَلَى التوحيد العملي وتوحيد الألوهية، وكذلك أيضاً أخبرنا الله سبحانه وتعالى، عن أهل الكتاب أنفسهم في سورة التوبة حين قَالَ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه [التوبة:31] وهنا يقول: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ آل عمران:64] ، فهذه الآية دالة عَلَى أن أهل الكتاب وخاصة النَّصَارَىأعظم ما أضلوا فيه أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فالبابوات والكردينلات والأساقفة والقساوسة والبطاريق يشرعون لهم العبادات من دون الله سبحانه وتعالى فيطيعونهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، ولذلك نزلت هذه الآية في حقهم.

ص: 1091

ويقول الله سبحانه وتعالى في حق أهل الكتاب: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] فإن أهل الكتاب أتاهم الشيطان من هذا الجانب فعبدوا المسيح بن مريم واتخذوه وأمه إلهين، وعبدوا الأحبار والرهبان.

وكذلك أول سورة: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ [الزمر:1] فإنها تكرر فيها ذكر الإخلاص لله عز وجل في أولها وفي آخرهاقُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:64-66] فهذه الآيات من ضمن الآيات التي جاءت في سورة الزمر تدل عَلَى أفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وهو توحيد الألوهية، وكذلك أول سورة يونس وأوسطها وآخرها هي في التوحيد الذي هو توحيد الألوهية، وكذلك أول سورة الأعراف والآيات الأخيرة من السورة، وجملة سورة الأنعام من السور المتميزة المتفردة عَلَى طولها؛ لأنها ناقشت وبحثت وتحدثت عن قضية توحيد الله سبحانه وتعالى بجميع أنواعه، فجاءت بذكر ما لم يذكر في السور الأخرى من تفصيل لشرك الْمُشْرِكِينَ.

مثلاً: ذكر في بعض السور أن الْمُشْرِكِينَ عبدوا وأطاعوا من دون الله كما في الآية من سورة التوبة: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] ونحو ذلك من السور، لكن في سورة الأنعام تأتي الآيات بالتفصيل في بيان ما حرم المُشْرِكُونَ، وما شرعوا من البدع الضالة.

ص: 1092

وفي سورة المائدة: (َما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَام)[المائدة:103] وفي سورة الأنعام تفصيل أكثر: بأنهم حرموا ما رزقهم الله تبارك وتعالى واستحلوا المحرمات مثل قتل الأنبياء، وحرموا بعض الأنواع من الأنعام التي لا مجال الآن لتفصيلها، فرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله -مثلا في الأنعام-: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام:143] بمعنى: إما أن يكون التحريم لجنس الأنثى فتحرم كل أنثى، وإما أن يكون التحريم لجنس الذكور فيحرم كل ذكر، وإما أن يكون التحريم لما حمل البطن فيحرم ما حمل البطن جميعاً لكنهم خصصوا.

وهذا من أعظم الأدلة عَلَى تحريم البدع في دين الله عز وجل، مثال ذلك: لك أن تتصدق بما شئت وتقول هذه الشاة لله تعالى، وهذا المبلغ لله؛ لكن أن تخصص وقتاً معيناً ومبلغاً معيناً لكيفية معينة وتتحرى زمناً معيناً فيها فهذا التخصيص يجعل القضية تخرج من السنة إِلَى البدعة، وإلا لو بقي الأمر عَلَى إطلاقه لدخل في الأدلة العامة ولَمَا كَانَ هناك حرج.

فسورة الأنعام هي: سورة التوحيد الكبرى التي جَاءَ فيها تحريم اتخاذ غير الله رباً وولياً وحكماً، وهذه هي أصول التوحيد الثلاثة فإن الله سبحانه وتعالى هو وحده الرب الذي يعبد دون من سواه، وهو وحده الولي وهو وحده الحكم الذي يتحاكم إليه، وعلى هذه الثلاث القضايا تدور أكثر السورة بالإضافة إِلَى ما اشتملت عليه من توحيد الأسماء والصفات وتمجيد الله سبحانه وتعالى.

القرآن كله في التوحيد

يقول المُصْنِّف رحمه الله:

ص: 1093

[وغالب سور القُرْآن متضمنة لنوعي التوحيد] بل إن كل سورة في القُرْآن متضمنة للتوحيد، والقرآن كله في التوحيد فمثلاً: يذكر الله سبحانه وتعالى القصص في القرآن، وقد يذكر ما ليس له تعلق بالأنبياء، كقصة قارون ويحدثنا بالتفصيل عن أحوال الأمم، وهلاك قوم عاد وثمود ونوح وتكذيبهم، وما أجابوا من الرسل وليس فيها أمر صريح بالتوحيد، ولكنه خبر عن حال الذين كذبوا بالتوحيد، وماذا كَانَ مصيرهم لما جحدوا بالتوحيد وأشركوا بالله سبحانه وتعالى.

وكذا الآيات في وصف الجنة، في وصف النار، كما في سورة الإِنسَان، وكذلك في سورة الواقعة، علاقتها بالتوحيد أنها تتحدث عن مصير الموحدين وهو الجنة، وعن مصير الْمُشْرِكِينَ وهو النار، فكل شيء في القُرْآن فهو: إما عن التوحيد في ذاته وإما عن لوازمه ومقتضياته، وكذلك إما عن الشرك في ذاته وحقيقته، وإما عن لوازم الشرك ومقتضياته، وإما عن جزاء أهل الشرك أو جزاء أهل التوحيد.

فذكر المُصْنِّف رحمه الله أن القُرْآن إما أخبر عن الله وأسمائه وصفاته مثل سورة: قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد وآية الكرسي وما أشبه ذلك، وهو التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات أو التوحيد الاعتقادي كلها أسماء لشيء واحد.

وإما دعوة إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه وهو التوحيد الإرادي الطلبي، فمثلاً: سورة الكافرون والأنعام والزمر هي أمر ونهي وإلزام لطاعته، فآيات تأمرنا بالمحافظة عَلَى الصلاة، وآيات تحث عَلَى الإنفاق وتبين فضل الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى وآيات تدل عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالصلاة والزكاة من حقوق التوحيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رَسُول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) وقَالَ: (إلا بحقها) .

ص: 1094

وبذلك استدلأبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتدت العرب فَقَالَ له عُمَر رضي الله عنه ومعظم الصحابة: كيف تقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) فاستدلوا عَلَى أبِي بَكْرٍ بالرواية المطلقة التي ليس فيها التفصيل واستدل عليهم أبُو بَكْرٍ بقوله: (إلا بحقها) وأن الزكاة حق المال.

ومثلاً تحدث في سورة يوسف عن سيرة إنسان موحد هو نبي من أنبياء الله، اصطفاه الله تَعَالَى لتتحقق عَلَى يديه هذه الآيات البينات ويدعو إِلَى الله تبارك وتعالى فَقَالَ في السجن: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ يوسف:39] وأخذ يدعوهم وهم في السجن.

وأما قصة حسد إخوانه، وكيف ألقوه في البئر، وكيف شروه بثمن بخس، وكيف وقعت له الفتنة مع المرأة وخلصه الله سبحانه وتعالى ورفعه عن دنس الحرام والزنى، وكيف صار ملكاً، كل هذا حديث عن إكرام من الله لأهل التوحيد.

سعة مفهوم التوحيد

كل ما ذكر الله في القُرْآن من توحيد سواء في موضوعه من أصله أو مكملاته، كل هذا يدلنا عَلَى أهمية التوحيد من ناحية، وعلى سعة مفهوم التوحيد من ناحية أخرى، فإذا دعونا إِلَى الله عز وجل فأول ما ندعو إليه هو توحيد الله، وهو البدء بتصحيح عقائد النَّاس سواء كانوا مسلمين لديهم انحرافات؛ أو كانوا كفاراً يعبدون غير الله، فندعوهم إما إِلَى التوحيد نفسه أو إِلَى تحقيقه وتصحيحه عند الْمُسْلِمِينَ فهذا في أهميه التوحيد.

ص: 1095

والجانب الآخر في سعة مفهوم التوحيد، فإن بعض النَّاس يأخذ أجزاء من التوحيد ويدعو إليها وينسى الأجزاء الأخرى، وهذا لا شك أنه قد أحسن وأنه يجزى عَلَى ذلك أجراً -بإذن الله تعالى- لكن ينبغي أن ندعو إِلَى التوحيد كله كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ الأنفال:39] فينبغي لنا أن ندعو إِلَى جميع أنواع التوحيد.

وبعض النَّاس - هداهم الله - قد يكون عن إخلاص أو اجتهاد يدعون إِلَى أن يوحد الله في الألوهية، وأن يطاع وحده، وأن تتبع شريعته وحده ولكنهم لا يريدون الحديث عن توحيد الأسماء والصفات، فنقول لهم: مهلاً -جزاكم الله خيراً- هذا خطأ فكيف تدعون إِلَى جانب من جوانب التوحيد وتتركون الجانب الآخر.

وأكثر من ذلك أن يأتي فينتقد هذا الجانب من التوحيد وينتقد من يدعو إليه!! وهذا الإِنسَان في الحقيقة يخشى عليه لأن المسألة حرب أو إنكار لنوع من أنواع التوحيد هي في غاية الخطورة، ولولا ما نعرفه أنه قد يكون بعضهم قصده حسناً وهو جاهل به لكان حكمهم أصعب مما يظنون، لأن هذا محاربة لنوع من أنواع التوحيد.

وبعض النَّاس يدعو إِلَى توحيد الأسماء والصفات -مثلاً- أو إِلَى جانب من جوانب الألوهية، ويترك جوانب أخرى، فمثلاً يدعو إِلَى نبذ الشرك والتقرب والتنسك لغير الله عز وجل كشرك الدعاء وما أشبه ذلك، ويهمل بالكلية مثلاً شرك الطاعة وشرك الاتباع.

ص: 1096

فكما نفرد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وبالطاعة وبالتقرب معاً، فكذلك ندعو إِلَى توحيده سبحانه وتعالى بالطاعة والاتباع، فلا يحاكم إِلَى غير شرعه، ولا تتبع غير شرعته، ولذلك جاءت الآيات بنفي الإيمان عمن تحاكم إِلَى غير شرع الله فَقَالَ تبارك وتعالى: اَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه [النساء:60] فدلت هذه الآية عَلَى أنه لا يتحاكم إلا لشرع الله وحده سبحانه وتعالى ولا يتحاكم إِلَى أي قانون بشري أو نظام وضعي أبداً فإن هذا من الشرك بالله، مثَلُه في ذلك مثل من يعبد غير الله عند قبر فيدعوه أو يتوسل بصاحبه، فالشرك في هذا كالشرك في هذا.

فيجب أن ندعو إِلَى التوحيد بشموله، وكماله الذي يجتث هذه الأمراض والأخطاء والجزئيات الكثيرة، التي لو ذهبنا نعالجها لتفانت الأعمار ولم تعالج، لكن إذا عولج الأصل وهو أن يدعى إِلَى الإيمان بالله عز وجل، وأن يوضح الإيمان بالله، وتوحيد الله كاملاً، فسنجد أن المسلم الذي يعبد الله وحده تتكامل شخصيته بتكامل حقيقة التوحيد في قلبه.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام [آل عمران:18، 19] فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد عَلَى جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجلَّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلَّ شاهد بأجلِّ مشهود به.

ص: 1097

وعبارات السلف في (شهد) تدور عَلَى الحكم، والقضاء، والإعلام، والبيان والإخبار.

وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها: فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه.

فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته، وثانيها: تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بها بما يشهد به ويخبره به ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.

فشهادة الله -سبحانه- لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.

فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كَانَ الشاهد شاهداً بما لا علم له به قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] وقال صلى الله عليه وسلم: (عَلَى مثلها فاشهد، وأشار إِلَى الشمس) .

وأما مرتبة التكلم والخبر، فَقَالَ تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ [الزخرف:19] فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.

وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر: تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله.

ولهذا كَانَ من جعل داره مسجداً وفتح بابها وأفرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنها وقف وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وجد متقرباً إِلَى غيره بأنواع المسار، يكون معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.

ص: 1098

وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه. وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه: "أنه لا إله إلا هو" وقال آخر:

وفي كل شيء له آية

تدل عَلَى أنه واحد

ومما يدل عَلَى أن الشهادة تكون بالفعل، قوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17] فهذه شهادة منهم عَلَى أنفسهم بما يفعلونه، والمقصود أنه -سبحانه- يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله] اهـ.

الشرح:

لما أراد المُصنِّفُ رحمه الله أن يستشهد عَلَى أن الله قد بين أنواع التوحيد، وأن القُرْآن كله توحيد، جَاءَ بآية الشهادة وهي من أعظم الدلائل عَلَى الأصل الكلي: أن القُرْآن هو الدعوى وهو الشاهد، وهو أيضاً الحكم وهذه الثلاث من خصائص القُرْآن.

فالقرآن تضمن الدعوى والبرهان القاطع عَلَى أنه من عند الله سبحانه وتعالى فكل من أراد أن يتأمل حقيقة الدعوى، عليه أن يتأمل القُرْآن فإن الدعوى هي نفسها البرهان.

هذه الآية هي حقاً من كتاب الله سبحانه وتعالى ففيها الدعوى وفيها البرهان معاً قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] ثُمَّ قَالَ: (ِإنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ [آل عمران:19] هذه الشهادة شهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه، فما بالكم بأمر يكون الشاهد فيه هو الله سبحانه وتعالى والمشهود له هو الله سبحانه.

ص: 1099

فيشهد سبحانه وتعالى أنه هو وحده الإله فهو الشاهد، وهو المشهود له؛ ولذلك يقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إن هذه الآية تضمنت إثبات حقيقة التوحيد والرد عَلَى جميع طوائف الضلال الذين خالفوا في توحيد الله سبحانه وتعالى وأنها تضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وهو التوحيد.

فهي الشهادة التي جَاءَ بعدها قول الله تعالى: (ِإنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ فشهادة أن لا إله الله هي: دين الإسلام وحقيقته، وبقية أركان الإسلام وشعب الإيمان هي أسنان لهذه الشهادة.

وسبب نزول سورة آل عمران أن وفد نجران الذين كانوا عَلَى دين النَّصارَى، جاءوا إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وجادلوه في ألوهية المسيح وبنوته لله -كما يعتقدون- فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات يبين فيها حقيقة المسيح عليه السلام، ورد دعاوى هَؤُلاءِ النَّصارَى في ألوهية المسيح أو أنه ابن لله، وبين تَعَالَى أن ملة إبراهيم هي التوحيد، وأن أولى النَّاس بإبراهيم هم الذين آمنوا به في عهده والنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه أيضاً، وأنكر عَلَى أهل الكتاب أنهم يكتمون الحق، وأنهم يلبسون الحق بالباطل، وألزمهم إن لم تنفع وتجدي فيهم هذه الحجج بالحجة المعروفة المشهورة التي لو تأملها كل من ينتمي إِلَى هذا الدين لأيقن بحقيقة دين الإسلام، وهي أنكم إن كنتم تقولون: أن المسيح عليه السلام هو ابن لله! - تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً -لأنه ولد من أم بلا أب، فماذا تقولون في آدم؟!

ص: 1100

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فالأعجوبة الخارقة في آدم أعظم منها في عيسى، لأن الله تبارك وتعالى خلق آدم من غير أب ولا أم، ثُمَّ إنه خلق حواء من أب -وهو آدم- وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] بدون أم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بدون أب، فالله تبارك وتعالى يخلق ما يشاء، فلماذا يكون عيسى هو إله أو ابن لله كما تزعمون؟!

وبعد ذلك تأتي الحجة الأخيرة الدامغة في مناظرتنا دائماً لأهل الكتاب وهي المباهلة، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في ذلك إذا حاجونا من بعد ما جاءتهم البينات موضحة لهم، أن نقول كما قال الله تَعَالَى لنبيه: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] .

وعبارات السلف في شهد جاءت بمعنى: حكم، وقضى، وأعلم، وبين وأخبر، وكلها حق، فحكم الله -سبحانه- أنه لا إله إلا هو، وقضى أنه لا إله إلا هو، وأعلم أنه لا إله إلا هو، وبين، وأخبر أنه لا إله إلا هو، فكل ذلك حق وكل ذلك تتضمنه كلمة شهد، فإذا أردنا أن نتبين ذلك فلنعلم مراتب الشهادة.

مراتب الشهادة

هذه الشهادة تتضمن أربع مراتب وهي: العلم، والتكلم، والإعلام والإخبار، والأمر والإلزام.

الأولى: مرتبة العلم، فعندما نقول: فلان يشهد بشيء، معنى ذلك أنه يعلمه لأنه شهد به، لكن فرق بين مرتبة العلم ومرتبة الإعلام؛ لأن الإِنسَان قد يعلم الشيء ولكنه لا يتكلم به ولا يخبر به.

وهذه المرتبة قد دلت عليها أدلة كثيرة من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 1101

والمخلوقون ينبغي لهم أن يعلموا حقيقة هذه الشهادة أيضاً: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] أي: أنه لا إله إلا هو، فهو سبحانه وتعالى يعلم أنه لا يوجد هناك إله معبود بحق سواه سبحانه وتعالى ولا يمكن أن يكون شيء خارج عن علم الله، فهذا علم الله.

وفي حقنا نَحْنُ فالعلم بها: أن نعتقدها ونصدقها بأنه سبحانه وتعالى واحد لا شريك له.

الثانية: مرتبة التكلم، وفيه الحديث:(عَلَى مثلها فاشهد) فهذا الحديث معناه صحيح ولكن لفظه ضعيف، وهو {أن رجلاً جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عن الشهادة، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الشمس وقَالَ: عَلَى مثلها فاشهد، أو دع} فالإِنسَان لا يشهد إلا بما يعلم لا بما يظن، فلا يجوز لشاهد في قضية دنيوية أن يشهد فيها بظنه؛ وإنما يشهد بما يعلم وما هو متأكد ومستيقن منه، فما بالك بمن يشهد أنه لا إله إلا هو!

فمرتبة التكلم: أن تتكلم بما تشهد به بالنسبة لله تَعَالَى وبالنسبة لنا، فتتكلم به وتقول للناس: إن الله سبحانه وتعالى تكلم بهذه الشهادة، فجاءت ضمن القُرْآن شهادة أن لا إله إلا الله والأمر بتوحيد الله.

والتكلم بشيء شهادة له، والدليل عَلَى ذلك في كتاب الله قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ [الزخرف:19] فهذا القول بذاته شهادة، فهم شهدوا بأن الملائكة إناث مع أنهم لم يقولوا شهدنا، وإنما قالوا: الملائكة إناث.

الثالثة: مرتبة الإعلام والإخبار: وهي أن تتكلم بشيء فتخبر غيرك به وهذا يكون شهادة، يقول المصنف: إنه عَلَى نوعين، فقد يكون بالفعل وقد يكون بالقول.

ص: 1102

النوع الأول: ومثاله: لو أن إنساناً فتح باباً لمبنى وجاء النَّاس يصلون فيه، وفرشه ووضع فيه مكبر الصوت -مثلاً- فهو وإن لم يكتب صكاً بأن هذا وقف فإنه يحكم فيه أنه وقف. ومثله إنسان يفتح بابه ويضع مائدة يدخل النَّاس إليها، ويأتي الذي يعرف والذي لا يعرف، فهو كأنه يقول: تعالوا أنا أدعوكم إِلَى وليمة، ودلالة الحال تدل عليه، ففعله هذا يدل عَلَى أنه معلن ومخبر.

والإعلام يكون بالفعل المجرد عن اللفظ، ويكون ذلك في حق الله سبحانه وتعالى بأن الله شهد بفعله وبقوله: أنه لا إله إلا هو، ولذلك قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو. حيث جعل الله سبحانه وتعالى السماء بروجاً، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وخلق الإِنسَان في أحسن تقويم، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفةً ألوانها، وبث في الأرض من كل دابة، وسخر الرياح وسخر النجوم.

فبهذه الأفعال التي فعلها الله سبحانه وتعالى شهد أنه لا إله إلا هو كما قالأبو العتاهية:

فواعجباً كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آيةٌ تدل عَلَى أنه الواحد

فهذه من الشهادة بالفعل، ولذلك يكون الإخبار عن صدق القُرْآن دل عليه السمع والبصر والقلب والنقل الذي هو الشرع.

ص: 1103

فعندما يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وكما في الآيات الأخرى التي تتحدث عن الأصنام والمعبودين من دون الله سبحانه وتعالى أنه ليس لهم سمع وليس لهم بصر، وكذلك الآيات التي تنفي السمع عمن يعبدون الأصنامإِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعطي العُمي الأبصار، ولا يعطي الصم الأسماع.

هذه كلها تدل عَلَى أن الله عز وجل قد جعل الآيات الدالة عَلَى توحيده من هذه المنافذ العظيمة - منفذ السمع والبصر- فما يبصره الإِنسَان في هذا الكون من المخلوقات تنطق وتشهد بأنه لا إله إلا هو، وإن لم تتكلم بالكلام الحسي الذي نألفه ونعرفه.

دلالة الشهادة بالفعل

يقول المُصْنِّف رحمه الله: [ومما يدل عَلَى أن الشهادة تكون بالفعل] قوله تعالىمَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17] فهذه شهادتهم عَلَى أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله - في بعض طبعات الكتاب نقص، والزيادة هي قوله:[بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله]- فهي شهادة بكفرهم، وهم شاهدون عَلَى أنفسهم بما شهدت عليهم] .

فلو أن إنساناً يأكل الحرام -أجارنا الله وإياكم- وفي يوم من الأيام وقف وتكلم عن تحريم أكل الحرام فإنك ستقول: شهد عَلَى نفسه، وإن لم يقل أشهد عَلَى نفسي.

ومثله ما قاله الله تَعَالَى عن الْمُشْرِكِينَ: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فإن هذا الفعل منهم شهادة بكفرهم ودلالة عَلَى أنهم لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى.

ص: 1104

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به وإن كَانَ مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه -سبحانه- شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51] وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً [التوبة:31] وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الإسراء:39] وقال تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [القصص:88] والقرآن كله شاهد بذلك.

ووجه استلزام شهادته -سبحانه- لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبيَّن وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطَب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبّه وهو ليس أهلاً لذلك، ويدع من هو أهلاً له فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي.

وأيضاً: فالآية دلت عَلَى أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة، تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تَعَالَى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.

ص: 1105

وأيضاً: فلفظ "الحكم" و"القضاء" يستعمل في الجمل الخبرية، ويقال للجمل الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا، قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:151-154] فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35،36] لكن هذا حكم لا إلزام معه.

والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام. ولو كَانَ المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد ولم تقم بها حجة، وإذا كَانَ لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة:

السمع والبصر والعقل] اهـ.

الشرح:

ذكر المُصْنِّف رحمه الله المرتبة الأخيرة من مراتب الشهادة وهي أهم المراتب: مرتبة الأمر والإلزام به.

ص: 1106

وقلنا: وإن كَانَ مجرد الشهادة لا يستلزمه؛ لأنه إذا شهد إنسان بشيء فشهادته في الأصل لا تستلزم أمراً ولا نهياً ولذا يقول المصنف: لكن الشهادة في موضع التوحيد لله سبحانه وتعالى تستلزم وتتضمن ذلك، -أي: المرتبة الرابعة والأخيرة- فإن الله سبحانه وتعالى شهد شهادة من حكم وأمر وقضى به، ولذلك جاءت الآيات في القُرْآن دالة عَلَى الأمر والقضاء بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وهو ما يقتضي أن شهادة الله عندما قال سبحانه وتعالى: َشهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] تتضمن أمر الله بأنه لا يكون هناك إله إلا هو، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الإسراء:22،39] (َلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر [القصص:88] إِلَى غير ذلك.

فالمرتبة الرابعة من مراتب الشهادة: هي أمر الله وقضاؤه وحكمه بأن يفرد ويوحد بالعبادة سبحانه وتعالى دون من سواه، كما دلت الآيات الأخرى التي ورد فيها القضاء والأمر، وورد فيها النهي.

فمجرد الشهادة في ذاتها لا تتضمن الأمر؛ لكن هذه الشهادة - خاصة- أنه "لا إله إلا الله" تستلزم الأمر، ووجه استلزامها ذلك أن الله سبحانه وتعالى شهد أنه يعلم أنهم ما يدعون من دونه من شيء، فهو يعلم أنه هو الله الإله الواحد ثُمَّ أخبر به كما في الآية، ويتضمن ذلك أن إلهية ما سوى الله باطلة إذ كَانَ هو الإله المعبود بحق.

ويضرب المُصْنِّف رحمه الله لذلك مثالاً فَيَقُولُ: لو جئت إِلَى إنسان قد ذهب إِلَى طبيب ما، فقلت له: ليس هذا بطبيب، الطبيب فلان، فأنت الآن لم تأمر باللفظ ولم تنه ولكن دلالة ذلك أنك تقول: دع هذا الإِنسَان واذهب إِلَى الطبيب الذي هو فلان.

ص: 1107

فعندما تقول: لا إله إلا الله فهذا نفي وإثبات، وهو متضمن للأمر والنهي أي: لا تعبدوا هذه الآلهة واعبدوا الله، فمعنى أنه إله ورب إلزام العباد أن يعبدوه وحده وأن العبادة خالص حقه -كما في الحديث المشهور- قال صلى الله عليه وسلم:(حق الله عَلَى العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) .

من استعمالات الحكم والقضاء

ومن الأدلة عَلَى أن لفظ الحكم والقضاء قد يستعمل في الجمل الخبرية:

أولاً: أن الكلام نوعان: "خبر، وإنشاء" والفرق بينهما أن الجملة الخبرية تحتمل الصدق والكذب، تقول: جَاءَ فلان، ويقول آخر: ما جَاءَ فلان، فهذا محتمل الرد أو القبول يعني: التصديق أو التكذيب.

وأما الجمل الإنشائية فهي التي لا تتضمن ذلك مثل الأمر، كأن تقول: قم يا فلان، فهذا لا يحتمل الصدق والكذب، ومثل الاستفهام، تقول كيف حال فلان؟ فهذا لا يحتمل أن تقول له كذبت.

والحكم والقضاء في الأصل أمر ونهي ويكون في الجمل الإنشائية، فإذا قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:110] وَأَنْفِقُوا [الجمعة:9] (َكُلُوا وَاشْرَبُوا [الأعراف:31] هذه الأوامر كلها إنشاء.

فقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] هذا خبر، ولذلك يحتمل التكذيب، وقد كذب به الكفار المُشْرِكُونَ وصدق به المؤمنون فهذه الجمل خبرية.

ص: 1108

ثانياً: أن المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة: فيها الأمر والإلزام وهو متعلق بالجمل الإنشائية، والآية هي جملة خبرية، فهذا إشكال، وحله أن لفظ:"الحكم والقضاء" يأتي في الجمل الخبرية، فإذا أخبرنا إنسان بشيء فكأنه أنشأ فحكم ودليله من القرآن: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:151-154] هم قالوا: ولد الله، ولم يأمروا ويلزموا فهذا خبر والله تَعَالَى يقول: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَفهذا الكلام منهم حكم، مثلما قال عن قول الملائكة: إنه شهادة: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ [الزخرف:19] فكما أن الله سمى اتخاذهم للولد حكماً، لكنه حكم لا إلزام معه، فإن حكم الله سبحانه وتعالى بأنه لا إله غيره وشهادته سبحانه وتعالى تتضمن الإلزام والأمر، فتأتي الجمل الخبرية في موضع الجمل الانشائية، كما تأتي الجمل الإنشائية في موضع الجمل الخبرية، وكل ذلك بحسب دلالة المعنى، كما يقول الله سبحانه وتعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ [إبراهيم:10] فهذا استفهام لكن معناه نفي -أي: ليس في الله شك- وهذا كله مفصل في علم البلاغة.

فهذه الشهادة فيها إقامة الحجة عَلَى العباد حينما يعلمون أنه أعلمهم بذلك، وشهد أن لا إله إلا هو بآياته الكونية وآياته النفسية، وبما أنزل من الآيات القرآنية، فإن الله سبحانه وتعالى قد بين هذه الشهادة -شهادة أن لا إله إلا هو- بطرق ثلاث هي السمع والبصر والعقل.

طرق بيان الله لها

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 1109

[أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا إياه من صفات كماله كلها، الوحدانية وغيرها، غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة، ومعطلة بعض الصفات، من دعوى احتمالات توقع في الحيرة، تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:2،1] الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1] الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر:1] هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138] فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92] وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44] .

وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إِلَى رأي فلان، ولا إِلَى ذوق فلان ووجْدِه في أصول ديننا. ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينا [المائدة:3] فلا يحتاج في تكميله إِلَى أمر خارج عن الكتاب والسنة.

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله، فيما يأتي من كلامه بقوله: "لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل عَلَى ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة] اهـ.

الشرح:

ص: 1110

من رحمة الله عز وجل أن بين للبشر وحدانيته سبحانه وتعالى غاية البيان، بطرق البيان الثلاثة وهي وسائط المعرفة التي عن طريقها نعرف أي شيء وهي:

أ-السمع.

ب-والبصر.

جـ-والعقل أو القلب أي: التفكر والتدبر.

وهذه الثلاثة هي المنافذ التي تصب جميعاً في المعرفة، فتتكون معرفة الإِنسَان للأشياء والأمور بهذه الطرق الثلاثة، ولذلك نجد أن الذي ولد أعمى -مثلاً- لا يكون لديه أحد هذه المصادر وهو النظر، فلا يستطيع أن يتمتع بآيات الله الكونية، وفاقد السمع أشد من ذلك، لأنه لا يستطيع أن يفهم إلا عن طريق السمع، وإن كَانَ يبصر هذه الأشياء، ومن حرم التفكير والعقل فقد حرم كل شيء أصلاً، وإن كَانَ به سمع أو بصر.

والله سبحانه وتعالى قد بين وجلى وحدانيته سبحانه وتعالى وأنه لا شريك له من هذه الطرق الثلاثة كلها، حتى يقر في قلب الإِنسَان معرفة الله سبحانه وتعالى ووحدانيته.

وأعظم المعارف -كما قال إمام النحاة - سيبويه- هو الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه المنافذ الثلاثة، ووسائل المعرفة كلها تدل دلالات قطعية، وتبين بيانات لا لبس فيها أبداً؛ أنه واحد سبحانه وتعالى وأنه لا شريك له، لا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته.

قول المصنف: [أما السمع فبسمع آياته المتلوة

] .

كلمة السمع تطلق ويراد بها: هذه الحاسة "أي: الأذن" وتطلق في علم الكلام -كما يسمونه- بما يقابل الأدلة العقلية.

أنواع مباحث العقيدة عند علماء الكلام

يقولون في علم الكلام إن المباحث عَلَى نوعين:

عقليات وسمعيات:

ص: 1111

فالعقليات هي: التي يضبطها العقل؛ لأن الحَكَم هو العقل، ولذلك نجدهم يبدؤن الحديث عن الله سبحانه وتعالى وعن صفاته فيقولون: ما يجوز لله عقلاً، وما يجب له عقلاً، وما يمتنع عنه عقلاً، فتقول الأشعرية: إن العقل هو الذي يثبت الصفات السبع، وتقولالمعتزلة: العقل هو الذي يثبت الأسماء وينفي الصفات، وتقول الجهمية: إن العقل هو الذي ينفي الأسماء والصفات، ولا يثبت إلا وجوداً مطلقاً. فهذا القسم "العقليات" تدخل فيه معظم المباحث المتعلقة بصفات الله سبحانه وتعالى.

والسمعيات أي: التي دل عليها الخبر المجرد، والعقل لا يقتضي إثبات ذلك ولا نفيه -مثلاً- يقولون: الإيمان باليوم الآخر وما يكون فيه، لا يقتضي العقل وجوده ولا يحكم بنفيه، فهو من القسم الجائز عقلاً؛ لكن ورد خبراً وسمعاً ومثله: عذاب القبر.

ويرد عليهم: أن الآيات القرآنية التي تظنونها سمعية -كالآيات التي تتعلق بالآخرة- هي براهين عقلية، وقد استدل الله سبحانه وتعالى وبين حقيقة البعث والحساب والنشور بحجج وآيات، هي في ذاتها براهين عقلية لا تملك العقول إلا أن تسلم بصحتها، وتقتضيها إما اقتضاءً كلياً وإما اقتضاءً جزئياً -أي يقتضي كل مسألة بذاتها- مثل: مسألة اليوم الآخر، والبعث، والنشور، فإننا نرى رجلاً جباراً طاغياً ظالماً سفَّاكاً للدماء طول عمره، ثُمَّ يموت، ونرى آخر براً رحيماً تقياً عادلاً حسن العشرة إِلَى آخر صفات الخير ثُمَّ يموت. فالعقل السليم يقتضي -بدون أن يأتيه وحي- أن يكون هنالك جزاء، ويجازى هذا بظلمه وشره، ويجازى هذا بخيره وبره، والله سبحانه وتعالى سمى نفسه الحكيم، وعدم الحساب خلاف الحكمة.

وكلمة "السمع": تطلق عَلَى الأدلة النقلية، والنقل يعني: الكتاب والسنة. أي: التي نقلت إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال لها: دليل خبري.

ص: 1112

ويبين المُصْنِّف رحمه الله: أن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القُرْآن بياناً للناس ولذلك قَالَ: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:2] في آيات كثيرة، وقَالَ: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138] فهذا الكتاب مبين أي: مبين للحجج موضح للحق، وأعظم قضية بينها القُرْآن هي وحدانية الله، بل سائر صفات الله سبحانه وتعالى وما يتعلق بتوحيده في أنواعه الثلاثة -التي مرت معنا- لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات؛ من دعوى أن الآيات والأحاديث السمعية النقلية توقع في الحيرة وتدل عَلَى معانٍ محيرة؛ ولهذا لجؤوا إِلَى القواطع أو البراهين العقلية، فرد عليهم المُصْنِّف رحمه الله بأن الله سبحانه وتعالى قد أوضح وبين في كتابه، وحدانيته سبحانه وتعالى وسائر صفاته بما لا مجال معه لقول هَؤُلاءِ النَّاس بأنها غير واضحة، أو أنها توقع في الحيرة، فمثلاً: في قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ورد الاستواء في سبع آيات من القُرْآن الكريم فيقولون: إن هذا المعنى يوقع العقول في حيرة، فهي تتصور كذا وتتصور كذا، فتقع في حيرة، فنقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى قد بين أعظم البيان، ولكن الحيرة أو الاضطراب وعدم الفهم سببه أن المحل الذي خوطب لا يفقه ولا يفهم كما قال الشاعر:

وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم

ص: 1113

فلما تخيلوا معنى الاستواء أنه سبحانه وتعالى فوق العرش بشكل هم يتخيلونه، وتركوا الآيات والأحاديث الأخرى، مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] التي تدل عَلَى التنزيه، وأن الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تتوهمه الأذهان أو الخيالات، قالوا هذه الآيات توقع في الحيرة، كيف نقول: إن الله عَلَى العرش استوى ثُمَّ نقرأ قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] ؟ هذه توقع في الحيرة، فيردون هذه الآية، ويلجؤون إِلَى قواعد وضعوها هم أنه لا داخل العالم ولا خارجه، فردوا الآيتين معاً، ولو أنهم إذ لم يفهموا ذلك رجعوا إِلَى أهل العلم ليبينوا لهم أن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق جميع المخلوقات، والعرش أحد هذه المخلوقات، وهو بعلمه سبحانه وتعالى وباطلاعه وإحاطته مع كل أحد، وليس هناك أي تعارض ولا تنافي، بل النبى صلى الله عليه وسلم فصل ذلك، والصحابة فهموه ومن بعدهم وأجمعوا عليه، وليس في ديننا شيء أوضح من معرفة الله سبحانه وتعالى لأنها هي أشرف أنواع المعلومات، فهي أشرف العلوم جميعاً.

بعض أدلة وحدانية الله تعالى

إن الله سبحانه وتعالى قد بين في القُرْآن حقيقة الوحدانية في آي كثيرة جداً:

أ- منها: الاستدلال بتوحيد الربوبية الذي يؤمن به الكفار عَلَى الوحدانية.

ص: 1114

ومنها الاستدلال بالأمم الماضية ومانرى من آثارهم قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْل أفلا تبُصِرون [الصافات:137-138] فهذه الآية نزلت في قوم لوط، وكذلك الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح يؤمن به جميع البشر، فإن العلماء الذين تخصصوا في الدراسات الجيولوجية يثبتون أن الأرض في فترة ما قد عمها الماء، وكذا علماء الاجتماع درسوا دراسات نظرية بعيدة جداً عن الدراسات العلمية البحتة فَقَالُوا: إن الخرافة المشتركة هي أسطورة الطوفان؛ لأن كل مجتمع درسوه ودرسوا لغته فيأفريقيا، وفي أمريكا الوسطى، واستراليا، ومناطق آسيا يجدون أن هذه القبائل القديمة أو الهمجية عندها إثبات الطوفان، فَقَالُوا: هذه خرافة أو أسطورة مشتركة.

ومنها: الآيات القرآنية، فلها تعلق بالآيات العيانية، وهي نوع من أنواع الاستدلال عَلَى وحدانية الله، فإن الله سبحانه أخبرنا أن هذا هو مصير من كفر وكذب وجحد بآيات الله كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36] أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس:68] أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26] فهي قرآنية سمعية نقلية خبرية، ولكنها أيضاً عقلية، فلو تأملها الإِنسَان لوجد أنها معجزة عظيمة، وكل الأمم قبلنا قد أهلكها الله سبحانه وتعالى لما كفرتوَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58] وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُون [القصص:59] وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]

ص: 1115

ومنها كذلك: السنة فإنها تأتي مبينة ومقررة لما دل عليه القُرْآن في باب معرفة الله تبارك وتعالى وبيان أنواع التوحيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سد كل الذرائع المفضية إِلَى الشرك؛ ولذلك نهانا عن قول:{لو أني فعلت كذا لكان كذا، وكذا} ونهانا أن نقول: {ما شاء الله وشئت} بحرف العطف مباشرة، وهذه الأمور هي من باب الألفاظ، فما بالك بما كَانَ من باب الاعتقاد.

وكذلك توحيد الأسماء والصفات أو توحيد المعرفة، قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم غاية البيان؛ ولهذا جاءت بعض صفات الله سبحانه وتعالى في السنة ولم تأتِ في القرآن، وهو يفسر قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] فهذا بيانه صلى الله عليه وسلم لما في كتاب الله تبارك وتعالى ولم يحوجنا الله إِلَى رأي فلان، ولا إِلَى ذوق فلان.

وهذه قاعدة عظيمة جداً، فكل إنسان له رأى، وكل ناظر من النٌظار يأتي برأي جديد، ويأتي بمذهب كلامي جديد، وهذا يرد عَلَى هذا، وهذا يناقض هذا؛ لذا الجميع حيارى -كما يقولون- والله سبحانه وتعالى لم يحوجنا في هذا الباب الذي هو أعظم أبواب العلوم أعني معرفة الله تَعَالَى إِلَى أي وجد من الوجدان، ولا أدلة عقلية مركبة من مقدمات ونتائج.

ص: 1116

فإن الصوفية وأمثالهم يعتمدون عَلَى الأدلة الوجدانية والأذواق والكشوفات الروحانية، وأهل الكلام يعتمدون عَلَى الأدلة العقلية المركبة من مقدمات ونتائج، فلا عَلَى هذا ولا هذا نعتمد في بيان ديننا، وإنما نعتمد عَلَى كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولذا يقولأبو جعفر الطّّحاويّ:[لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم] أي: إنما نؤمن بما جاءنا عن الله ورسوله، ولا نتوهم بآرائنا وعقولنا.

ومنها: الآيات العيانية والبصرية التي يبصرها الإِنسَان فإنها عظيمة جداً قال تعالىإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران:190-191] فالمتأمل في آيات الله من أعظم الأدلة عَلَى التوحيد، لذا قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20] وأينما رمى الإِنسَان ببصره ولاحظ، فإنه يجد الآيات العظيمة الدالة عَلَى وحدانية الله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات تحول الإيمان من مجرد إيمان فطري إِلَى إيمان راسخ عميق، فإن الإيمان يزيد وينقص كما هو في مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، والوسيلة لكي يزيد هذا الإيمان هي هذه المجالات الثلاثة: الآيات القرآنية، والآيات العيانية البصرية، والآيات العقلية أو التفكر العقلي.

ص: 1117

حتى إن العلماء الكفار "علماء الكون" الذين تمردوا عَلَى النصرانية، وتدينوا -كما يقال- بدين العلم، عندما تعمقوا، وجدوا أن كل هذه العلوم، وكل نتائجها تدل عَلَى أن لهذا الكون إلهاً واحداً هو الله سبحانه وتعالى، فهذه الآيات قادتهم إِلَى الاعتقاد بأنه لا إله إلا الله، وأنه حكيم، خالق، رازق، يدبر هذا الكون وينظمه.

ولا شك أن المؤمن بالله سبحانه وتعالى، وبما أنزل إذا تأمل في آيات الله الكونية يكون إيمانه أضعاف ذلك الإيمان السابق، ويختلف اختلافاً كلياً عن إيمان ذلك العالم الطبيعي أو الكيميائي أوالفيزيائي.

والله سبحانه خلق الكون لم يخلقه عبثاً ولا باطلاً؛ بل هذا ظن الكفار وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] أما قول المؤمنين فإنهم يقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:91] كما تأمل من قبل إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام في ملكوت السموات والأرض، وهكذا كل مؤمن يكون حظه من زيادة الإيمان بقدر ما يقرأ ويتدبر من الآيات القرآنية، ومن النظر في الآيات العيانية المشاهدة، وبالتفكير بعقله في هذه الحجج والبراهين التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في كتابه وأودعها في مخلوقاته.

فوحدانية الله مما تتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة عليها كما قاله المُصْنِّف رحمه الله.

الآيات التي أعطاها الله للأنبياء تدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 1118

[فهو -سبحانه- لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامته الحجة، لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل عَلَى صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل:44،43] وقال تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183]، وقال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184] وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17] ، حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53] ، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 54-56]، فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزعٍ ولا فزعٍ ولا خوَّار، بل هو واثقٌ بما قاله، جازم به، فأشهدَ الله أولاً عَلَى براءته من دينهم، وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه، ثُمَّ أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه برئٌ من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها، ويعادون

ص: 1119

عليها، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها، ثُمَّ أكد ذلك عليهم بالاستهانة بهم، واحتقارهم وازدرائهم، ولو يجتمعون كلهم عَلَى كيده وشفاء غيظهم منه، ثُمَّ يعاجلونه ولا يمهلونه لم يقدروا عَلَى ذلك إلا ما كتبه الله عليه، ثُمَّ قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تَعَالَى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه عَلَى صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يُشمت به أعداءه.

فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأَنْبِيَاء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟

وهي شهادة من الله-سبحانه- لهم، بينها لعباده غاية البيان] اهـ.

الشرح:

موضوع النبوات يأتي -بإذن الله عز وجل في باب قادم، لكن الشاهد هنا أنه من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة عَلَى وحدانيته آيات الأنبياء.

ب- ومنها الآيات التي أعطاها لأنبيائه:

ص: 1120

فالله عز وجل بيّن وحدانيته بالقرآن والسنة والآيات الكونية، وبآيات أعطاها لأنبيائه الداعين إليه، تدل عَلَى أن الواحد المعبود حقاً هو الله سبحانه وتعالى، وأن الأَنْبِيَاء عندما يدعون الأمم إِلَى التوحيد لا يدعونهم بكلام مجرد، وإنما ببراهين قاطعة لا يملك أحد إلا أن يؤمن بها، إلا من يكابر ويعرض ويستكبر بعد قيام الحجة ووضوحها، فهو تبارك وتعالى لكمال عدله ورحمته وإحسانه بخلقه، ولأنه لا أحد أحب إليه العذر منه كما في الحديث الصحيح:(ليس أحد أحب إليه العذر من الله) ؛ يقدم ويعطي للإنسان طرق الخير موضحة، فإن عذب بعد ذلك وأهلك وعاقب، فإنما يعاقب بعد إقامة الحجة والإعذار البالغ الذي ليس وراءه إعذار، ولو أن الأمم جاءها العذاب قبل أن يأتيها الأَنْبِيَاء لقالوا: رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134] ، ولكن حكمة الله اقتضت أن جعل رسلاً مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس عَلَى الله حجة بعد الرسل، فآيات الأَنْبِيَاء عظيمة، وهي من أعظم الأدلة عَلَى أنه تَعَالَى قد جلى ووضح هذه الوحدانية، فكل نبي جَاءَ ببينة عظيمة يراها قومه ويفتخرون بها، ومن أعظم هذه البينات -ليس كما يقول علماء الكلام: إنها مجرد معجزة أن موسى عليه السلام قد ألقى العصا فإذا هي حية، وأن عيسى عليه السلام أحيا الموتى، ففي حقيقة الأمر لو تدبرنا آيات الأنبياء، لوجدناها من أولها إِلَى آخرها دلائل وبراهين عَلَى أنهم عَلَى الحق، وأنهم يدعون إِلَى الحق، ويولد أحدهم وينشأ عَلَى ما يدل عَلَى الاختيار والاصطفاء اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] يختاره الله من أوسط قومه وأشرفهم، كما في صحيح البُخَارِيّ قصة هرقل

ص: 1121

لما سأل أبا سفيان فقَالَ: ما نسبه فيكم؟

فَقَالَ أبو سفيان: هو من أوسطنا نسباً -أي من أشرفنا- فيقولهرقل: وكذلك الأَنْبِيَاء تبعث من أوسط أقوامهم، يختار الله نسبه وأباءه من أشرف القوم، لا من أراذلهم المحتقرين أو المرذولين، فمثلاً: موسى عليه السلام، كَانَ فرعون يأمر بقتل كل طفل يولد من بني إسرائيل، إلا هذا الطفل حفظه الله سبحانه وتعالى، والأم التي هي أحرص ما تكون عَلَى ابنها ينفث في روعها ونفسها أن تضع هذا الابن -الذي تخاف عليه من زبانية الطاغوت- في صندوق ثُمَّ ترميه في البحر، ثُمَّ يلتقطه آل فرعون، ثُمَّ لما شعر أنه لم يلب ما في نفس زوجته من حاجة ومن إلحاح فطري إِلَى وجود ابن، لما قالت له: قُرَّتُ عينٍ لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً [القصص:9] انهزم الطاغوت أمام إلحاح المرأة فقَالَ: فليكن ذلك، وهذه المرأة ألقى الله محبة موسى في قلبها، فبعثت إِلَى المراضع تخشى أن يموت هذا الطفل ولم يرضع من امرأة قط، وأرسلت أم موسى أخته فتتبعت وسمعت أن في بيتفرعونطفلاً حالته كذا وكذا، وهو لا يرضع من أي امرأة، فقالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ [القصص:12] وتكون النتيجة أن يعود الطفل إِلَى الأم، وفرحت امرأة فرعون فرحاً شديداً لما رأت الطفل قبل هذا الثدي، وأعطوها النفقة ورجع إِلَى أمه، ثُمَّ كَبُر، ونشأ تنشئة العز في مجتمع الذل -مجتمع بني إسرائيل- ثُمَّ يوحى إليه ويأتي إِلَى هذا الطاغوت، بالآيات الأخرى، ثُمَّ تكون الآية العظمى -بعد ذلك- الدالة عَلَى صدق ما جَاءَ به، ثُمَّ يهلك اللهفرعون وجنده، ويغرقهم في الوقت الذي ينجي فيه موسى عليه السلام ومن آمن معه.

ص: 1122

فآيات الأَنْبِيَاء عظيمة وعجيبة كآيات النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تأتي البشائر منذ لحظة ولادته، فيولد في المكان الذي كانت العرب تهفو قلوبها إليه ثُمَّ ينشأ، ويسمونه الأمين صلى الله عليه وسلم، ولم يحفظوا عنه كذباً قط، وكان معصوماً بعصمة الله عز وجل عن أن يعبد الأصنام أو يسجد لها، أو يشارك أهل الجاهلية في أي عمل من أعمالهم الشركية الجاهلية، وما كَانَ يرجو أن يلقى إليه الكتاب، وما كَانَ يعلم ذاك ولا يتوقعه أبداً، ثُمَّ جاءت رحمة الله سبحانه وتعالى وبعث بالآيات البينات، فلما جاءه جبريل بالوحي، كَانَ تقييم ورقة بن نوفل له صلى الله عليه وسلم -شهادة شهد بها رجل من أُولَئِكَ القوم عنده علم من الكتاب فإنه قَالَ:(إن هذا هو الناموس الذي أنزل عَلَى موسى) يعني: جبريل عليه السلام ثُمَّ يؤيده الله سبحانه وتعالى بالبراهين العظيمة، كانشقاق القمر، وتكثير الماء من بين أصابعه، والإسراء، والمعراج به إِلَى السماء، ثُمَّ يكون التأييد الأعظم الذي ليس بعده تأييد؛ أن تتحول الأمة الأمية المحتقرة التي ليس لها تأريخ عَلَى الإطلاق ولا حضارات ولا أمجاد، وإنما يعرف الرجل منهم أن أباه فلان، وأنه من قبيلة كذا، وهي أقل أمم الأرض عدداً، أن تتحول هذه الأمة فتكون سيدة العالم وتفتح دول العالم، كل هذه آيات بينات عَلَى صدق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك ثمود لما أعطاهم الله سبحانه وتعالى الناقة مبصرة، وأخرج لهم هذا الحيوان العجيب العظيم الذي يأتي وله شرب يوم، ويعطيهم الحليب، كل هذه آيات بينات جعلها الله سبحانه وتعالى لأنبيائه.

ص: 1123

وحقيقة الأمر: أن أعداء الله سبحانه وتعالى ليس الأمر أنهم لم يعقلوا، وأن المجادلة لهم كَانَ فيها ضعف في الحجة مثلاً، أو لم تأتهم براهين عقلية تقنعهم بها، بل كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] لذا قال قوم هود: إن من كَانَ قبلك جاؤا ببينات، وأنت يا هود ما جئتنا ببينة فلن نؤمن لك. فكان جوابه عليه السلام هو في حد ذاته بينة قال:: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 54-56] فكان هود عليه السلام يقول: إني أعلن إعلاناً عاماً عَلَى الملأ أنني برئ من معبوداتكم التي تقولون: إنها تضر أو تنفع فأنا برئ من هذه الآلهة، ومما تشركون من دونه، فكيدوني بأي أمر تريدون، واعملوا بي ما شئتم، فإنني لن يصيبني إلا ما يقدره الله سبحانه وتعالى فهو ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها.

ص: 1124

فماذا بعد هذا التحدي لهم؟ من إعطائهم آية وبرهاناً مثل من أحيا ميتاً، أو ألقى عصاً فإذا هي حيةٌ تسعى، أو أخرج لهم من الجبل ماءً، وهذه آيةٌ خفية؛ لكن من تدبرها وجدها آيةً عظيمة؛ إذْ كيف يأتي هذا الرجل فيتحدى أمةً من الأمم بآلهتها وقواها ومعبوداتها، وهو مطمئن معتمد عَلَى صدق توكله إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:56] فلا يجرؤ الكاذب في أي قضية من القضايا عَلَى أن يتحدى جميع الملأ وجميع الناس، ويصبر وهو كاذب، بل الكاذب إذا حدث اثنين فلا يريد أن يدري الثالث بهذه الكذبة، ولذلك نجد أن خوارق الكُهّان والمشعوذين والسحرة لا يبرزونها للعيان أبداً، لأنها ليست آيات، بل هي شعوذات وأكاذيب وأوهام مختلقات، وتجده مخفياً لا يعرفه إلا بعض مريديه ومن يأتون إليه، وتجده مع دعوى أنه يشفي جميع الأمراض، ويستطيع أن يخبرك بأي شئ من المغيبات، لا يعرفه أهل العلم والعقول؛ بل هو في الأحياء الفقيرة والأماكن المنزوية، ومع الطبقات الحقيرة أو مع النساء، فكلما كَانَ المجال والوسط الذي يعيش فيه أضعف عقلاً كَانَ عمله هناك أكثر.

وأما أنبياء الله عزوجل فلأنهم عَلَى الصواب والحق والبرهان، يواجهون نفس الطاغوت الأكبر، فيأتي موسى ويخاطبفرعون، ويأتي إبراهيم ويخاطب النمرود، ويأتي نبينا ويخاطب الملأ الأعلى من قومه فيرقى عَلَى الصفا ويدعو جميع كبراء قريش، فيخاطبهم خطاباً عاماً ويبين لهم ما يدعوهم إليه من الحق.

دلالة الأسماء والصفات على وحدانية الله سبحانه وتعالى

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 1125

[ومن أسمائه تعالى: "المؤمن" وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم؛ فإنه لا بد أن يُري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حقٌ، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] .

أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [فصلت:52] ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53] فشهد سبحانه لرسوله بقوله: إن ما جَاءَ به حق، ووعد أن يُري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضاً، ثُمَّ ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته -سبحانه- عَلَى كل شيء، فإن من أسمائه: الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه، بل هو مُطًّلعٌ عَلَى كل شيءً مشاهدٌ له، عليم بتفاصيله.

وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.

فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟

فالجواب: أن الله تَعَالَى قد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه -سبحانه- الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رُسُلُه، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه.

ص: 1126

ومن كماله المقدس شهادته عَلَى كل شيء واطلاعه عليه، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السماوات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، ومَن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره، ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثُمَّ ينصره عَلَى ذلك ويؤيدَه ويعلي شأنه ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر عَلَى يديه من الآيات والبراهين ما يعجِزُ عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟! ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى عَلَى كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوَّز ذلك فهو من أبعد النَّاس عن معرفته.

والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص، يستدلون بالله عَلَى أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله، قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47] وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

ويستدل أيضاً بأسمائه وصفاته عَلَى وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:23] وأضعاف ذلك في القرآن. وهذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص. وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولاً وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه عَلَى بعض.

فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تَعَالَى لمن طلب آية تدل عَلَى صدق رسوله:

ص: 1127

أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51]] اهـ.

الشرح:

هذا نوع آخر من أنواع الاستدلالات في بيان وحدانيته سبحانه وتعالى وهو:

الاستدلال بأسمائه وصفاته عَلَى وحدانيته -سبحانه- وهذا الاستدلال خفي لا يدركه كل أحد، بخلاف الاستدلال بالآيات الكونية أو النفسية المشاهدة، لكن من رقي إيمانه وعظم في قلبه معرفة الله تَعَالَى وقدر الله تَعَالَى حق قدره، فإنه يستدل بمعرفته بالله سبحانه وتعالى عَلَى ما يليق به تَعَالَى أو ما لا يليق به من الأفعال.

ومن ذلك: أنه يستدل بمعرفته بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته عَلَى أنه لا يجوز أن يُشْرَك به سبحانه وتعالى أي أحد سواه، بأي نوع من أنواع العبادة، ومن أسمائه تَعَالَى "المؤمن" ومعناه عَلَى أحد القولين:"المصدق" الذي يصدق الصادقين. -أي: يصدق المؤمنين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، وبما يعطيهم من الأدلة الشاهدة عَلَى أنهم صادقون-، كما قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38] وهذا قول الكفار من الأمم الماضية، فكان الجواب عَلَى ذلك: بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ*لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيه [النحل:38،39] فهذه حكمة، أن جعل الله هنالك يوماً يبين فيه الذي يختلفون فيه فيظهر المحق من المبطل، ثُمَّ قَالَ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39] .

ص: 1128

وقال تَعَالَى في آخر سورة فصلت: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53] أي: إننا سنري الْمُشْرِكِينَ آياتنا، وهذا والله أعلم فيه إشارة إِلَى ما وقع وترونه الآن، أن أكثر الآيات الكونية والنفسية أكثر النَّاس إطلاعاً عليها هم الكفار، ومع ذلك لم يؤمنوا، لكن الله تَعَالَى يقول: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] أي: القُرْآن حق، ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:52] .

ومن ذلك: أننا نطبق هذا الاستدلال عَلَى نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى القُرْآن الذي جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: إن الله سبحانه وتعالى لما بعث هذا الرَّسُول وأنزل هذا القرآن، كَانَ النَّاس في الأرض عَلَى نوعين:

1-

أهل كتاب يزعمون: أن ما في أيديهم من الصحائف والكتب هو الوحي الحق المنزل من عند الله.

2-

ومشركين كمشركي العرب وغيرهم من عبدة النيران والأبقار، الذين لا كتاب لهم وإنما ورثوا هذه الأديان عن الآباء والأجداد كما قال الله عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]

فكانت البشرية عَلَى نوعين، فظهرت دعوة جديدة عَلَى يد رجل يزعم أنه نبي -كما يقولون- وأن كتاباً من عند الله تبارك وتعالى نقياً خالصاً، قد نزل تصديقاً لما بين يديه من الكتب، وهدى وبشرى للمؤمنين، ومن علماء أهل الكتاب من شهد بصدق هذا النبي صلى الله عليه وسلم أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ [الشعراء:197] وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10] .

ص: 1129

وقَالَ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص:52-53] ومن كذب بهذا النبي الذي جَاءَ بهذا القُرْآن يقتلهم، كما فعل ببني قريظة، ويجليهم من بلادهم، كما فعل ببني النضير، ويأتي إِلَى مقر الدولة العظمى التي تحمي هذا الدين، وهي الامبراطورية الرومانية في بلاد الشام الذين يقولون: نَحْنُ أهل الدين الحق، ولدينا الإنجيل، ونحن أتباع عيسى، فيقتلهم ويأخذهم أسرى عنده، ويحكم بأن هذه الكتب باطلة ومحرفة، فيضرب عليهم الجزية ويسترق منهم من يسترق، ويقتل منهم من يقتل.

ثُمَّ يأتي أيضاً إِلَى الأمم الشرقية التي كانت تعبد النيران والأحجار، الذين يقولون: نَحْنُ أهل الدين الحق، ونحن الذين عَلَى ملة إسماعيل وإبراهيم، فيقتلهم أيضاً كما فعل في بدر ويوم الفتح ببعضهم، ثُمَّ يفتح هذا البيت، ويكون له ولأتباعه من بعده إِلَى قيام الساعة، وقريش لم تأخذ من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، وإنما هو ظاهرٌ عليها، حتى عندما حاولت أن تقتله لم تستطع، وحاولت اليهودية أن تضع له السم فأنطق الله الذراع المسمومة، فما عمل عملاً إلا والنصر معه، وما خطا خطوة إلا والنصر حليفه، وما تقدمت الجيوش التي ترفع رايته لتعلى كلمته إلا وهي منتصرة عَلَى رغم قلة العدد والعدة، وكثرة الأعداء، وما نوظروا بمناظرة إلا وأفحموا خصمهم، ولا جادلوا غيرهم إلا وغلبوه، وما احتج عَلَى دينهم أحد إلا وغُلب وأُفحم وظهر عليه الخزي والذل والعار.

هذا التمكين للنبي صلى الله عليه وسلم يدل عَلَى صدقه أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53] فلولا أن هذا النبي حق ورسالته صدق لما تحصلت له هذه الأدلة العظيمة.

ص: 1130

لذا قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46] أي: لعاقبناه عقوبة أعظم من عقوبتكم.

فهل يليق فعلاً بمن يؤمن بالله، وأنه حكيم وعادل ورحيم، أن يظن أن الله يؤيد هذا الرجل وهو كاذب عليه؟!

لا شك أن رحمة الله بالعالمين، وحكمته وإحسانه بالبشرية هو الذي اقتضى بأن يبعث في الأميين رسولاً منهم، هذا هو اللائق بالله سبحانه وتعالى.

وبهذا الاستدلال الخفي العجيب -الذي لا يستدل به إلا الخواص -كما يقول المصنف- استدلت خديجة رضى الله عنها، وهذا يدل عَلَى فقهها وكمال عقلها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:(لقد خشيت عَلَى نفسي، فقالت له خديجة رضى الله عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبداً) .

فلا يصح ما قاله بعض المتكلمين: أنه يجوز أن يدخل الله إبليس الجنة، ويعذب الأولياء والأنبياء؛ لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، كما قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35،36] فحكمة الله تدل عَلَى أن هذا غير ممكن أبداً، ولذلك لما ادعى مسيلمة الكذاب النبوة، وأن لديه قرآناً، فضحه الله من واقع كلامه الذي يقوله: يا ضفدع نقي.. في الماء تنقنقين.. ولا الطير تبلعين..، وأيضاً: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً

فلا يمكن أن يكون هذا قرآناً أبدا، وقالوا لـ مسيلمة الكذاب: إن محمداً جيء له بعلي يوم خيبر، وكان في عينه رمد فتفل فيها فبرأت، فجيء له برجل مريض العين فتفل فيها فعميت.

ص: 1131

وقالوا لـ مسيلمة: إن كل نبي يأتي برحمة يرحم بها قومه، فبم ترحم قومك؟ قَالَ:"قد أسقطت عنكم ثلاث فرائض فصلوا فريضتين" لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الكفار: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، قال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [يونس:15] وقالت عَائِِِشَةَ رضي الله عنها: لو كَانَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القُرْآن لكتم هذه الآية التي جاءت بشأن قصة زيد رضي الله عنه، قال الله سبحانه وتعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب:37] ولكتم قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] وهذا عتاب من الله عز وجل له، ولكتم قوله تعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68] أما أحمد القادياني -هذا الكذاب- فإنه كَانَ يأتي بكتب ويسميها البيان والكتاب الأقدس، ويقول: هذا وحي، أوحي إلي من عند الله، وهذا الرجل كَانَ لا يعرف الحذاء الأيمن من الأيسر إذا أراد أن يلبس، ولذلك اضطر -كما يقول خادمه- أن يغير لون أحد الأحذية، ثُمَّ يقول: قد سقط عنكم جهاد الإنجليز، والحكومة الإنجليزية هي التي تمثل الله في الأرض.

ص: 1132

وما كَانَ للأنبياء فهو أيضاً لأتباع الأنبياء، فلو قيل لأحدنا -مثلاً- من هو الخليفة الذي عذب الإمام أحمد؟ أو من هو قائد الشرطة أيام الإمام أَحْمَد؟ ومن هو الوالي الذي طرد البُخَارِيّ وأخرجه وآذاه؟! لما عرف هذه الأسماء إلا من تخصص وقرأ، بل لو قيل لأحدنا: من العلماء الذين كانوا في زمن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ يناظرونه ووشوا به إِلَى السلطان فسجن من أجلهم؟! لما عرفهم أحد إلا من تخصص في التاريخ؛ لكن الإمامأَحْمَد أظهره الله ونصره، حتى عرفه الخاصة والعامة، وعرفوا أنه كَانَ صادقاً، وأنه عَلَى الحق. وكذلك الإمام البُخَارِيّ، والإمام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الذي أصبح يعرفه أكثر الْمُسْلِمِينَ الآن في العالم، وقد ظهرت دعوته، وانتشرت كتبه، وقد مات وهو سجين وحيد في القلعة، لا يملك أي شيء، حتى أنهم جردوه من قلمه.

فمن كَانَ عَلَى الحق فإن الله عز وجل ينصره ويؤيده ولو بعد حين، ومن كَانَ عَلَى الباطل ونسبه إِلَى الله، وافترى الكذب عَلَى الله، وابتدع في دين الله ونسبه إليه، فإن الله عز وجل يفضحه ويخزيه، ويظهر للعالمين كذبه وزيف ما ادعاه وبطلانه، ولو بعد حين.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة، فلا يلتفت إِلَى قول من قسم التوحيد إِلَى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يَثبُت بالحقائق، والنوع الثالث: توحيد قائم بالقِدم، وهو توحيد خاصة الخاصة، فإن أكمل النَّاس توحيداً الأَنْبِيَاء - صلوات الله عليهم- والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً وهم:"نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومُحَمَّد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين".

ص: 1133

وأكملهم توحيداً الخليلان: مُحَمَّد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفةً وحالاً ودعوةً للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم فيه، كما قال تَعَالَى بعد أن ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك، وصحة التوحيد وذكر الأَنْبِيَاء من ذريته: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] .

فلا أكمل من توحيد من أُمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: {أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ}

فملة إبراهيم: التوحيد، ودين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: ما جَاءَ به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي: ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبوديةً وذلاً وانقياداً وإنابةً.

فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131]

ص: 1134

وكل من له حس سليم، وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إِلَى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم ألبتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به] اهـ.

الشرح:

تدّعي الصوفية أن العلم علمان: علم الحقيقة وعلم الشريعة، فالشريعة هي ظاهر هذه الآيات: من القُرْآن والسنة، والأحكام الظاهرة التي نسميها نَحْنُ الشريعة يسمونها هم -أيضاً- الشريعة، ويقولون: إن الحقيقة أمر آخر غير الشريعة، وقد يثبت بالحقيقة ما لا يثبت بالشريعة، -وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك- وهو استدلالهم بقصة الخضر مع موسى عليهما السلام، فإنهم قالوا: إن الشريعة لا تبيح أن تقتل نفس برئية، والشريعة لا تبيح أن تخرق مركب لمن قد أحسن إليك، والشريعة أيضاً لا تجيز أن الإِنسَان يذهب ويحسن إِلَى قوم لم يطعموه ولم يضيفوه ويبني هذا الجدار عندهم، إما أنها لا تجيز ذلك أو أنها لا تدعو إليه، فكيف فعل الخضر ذلك؟!

يقولون: إن موسى كَانَ عَلَى الشريعة، وأما الخضر فإنه كَانَ عَلَى الحقيقة، وقد فندنا ذلك القول ولا داعي لإعادته، فالخلاصة أن كلاً منهما كَانَ عاملاً بالشريعة ولم يخالفها، وأما ما يسمى بالحقيقة فإنه لا وجود له إلا في أذهان الذين اختلقوه ليهدموا به الدين، فيقولون: الصلاة والزكاة والحج والجهاد هذه كلها من الشريعة، أما نَحْنُ فنحن أهل الحقائق. والذين يسمونهم الخاصة هم الذين يوحدون الله بتوحيد الحقيقة. كما سبق. حيث يقولون: إن غاية التوحيد هو إثبات الربوبية، ثُمَّ أن يترقى الواحد منهم في التوحيد حتى يرى من قوة توحيده أن الله تَعَالَى هو الفاعل لكل شيء، وأنه لا فعل لأحد معه عَلَى الإطلاق في هذا الكون، هذا هو غاية التوحيد عندهم.

ص: 1135

وتوحيد خاصة الخاصة: هو الحلول والاتحاد وهو أن لا يبقى ذات معبودة وذات عابدة، وإنما تصبح الذاتان ذاتاً واحدة -والعياذ بالله- وهذا هو الفناء وهو غاية السالكين كما يسمونه؛ لأن الطريق عندهم كالتالي:

يبدء المرء مريداً، وهذا المريد يتعلم، ثُمَّ السالك يمشي في المقامات، ثُمَّ الواصل وهو الذي قد وصل وانتهى وفني وسقطت عنه التكاليف، فهذا يسمى الواصل.

وعندما يبتدئ الإِنسَان عندهم يقولون له: عَلَى المريد أولاً: أن يلتزم بأحكام الشريعة، ويجب عليه أن يصلي وأن يصوم لأنه أولاً: لن يألف توحيد خاصة الخاصة لأن قلبه لم يتعود بعد عليه.

ص: 1136

ثانياً: حتى لا ينكر عليه العامة، إذ لو أنكروا عليه العامة في أول الطريق لهرب منهم، ولم يمشِ في الطريق، ففي أول الطريق يعمل بالأحكام الظاهرة، التي هي الشريعة الظاهرة من إقامة الصلاة ونحو ذلك كما يعمل النَّاس وهذا هو توحيد العامة عندهم، ولكنه يترقى بالأفكار التي يعطونه وكل طريقة تعطيه كما تشاء، حتى يصبح من أهل الحقيقة فإذا أصبح من أهل الحقيقة فإن التكاليف تتحول عنده من تكاليف صلاة وصيام ونحو ذلك، إِلَى أذكار وأوراد وعبادات يملونها هم عليه، ثُمَّ يترقى حتى يصبح من أهل الفناء ومن أهل الشهود، وهَؤُلاءِ هم أهل وحدة الوجود -والعياذ بالله- فيرى نفسه أنه هو الخالق والمخلوق عياذاً بالله فلا يبقى هناك ذاتان منفصلتان، وإنما ذات واحدة، وهذا من أعظم أنواع الكفر، وأبو حامد الغزالي -غفر الله له- قد رجع عن هذا في آخر حياته، وندم عَلَى ما فرط منه، لكن نقول: إن أبا حامد عندما ذكر هذه الأشياء ذكرها كمصدر من مصادر الحقيقة ومصادر المعرفة، ولم يكن مستيقناً من لوازم هذا القول وما ينبني عليه، لأنه يقول كما ذكر في الإحياء: كيف يترقى الإِنسَان لينتقل من كونه من أصحاب توحيد العامة [من أصحاب الشريعة] إِلَى أن يكون من أصحاب الحقيقة، يقول: إما أن يذهب إِلَى جبل أو إِلَى مغارة يختبئ فيها ويذكر الله حتى يأتيه الكشف، فإن لم يستطع فليأخذ كساء أسوداً غليظاً ويلفه عَلَى رأسه، وبهذا يكون قد اختلى ويظل يردد ويقول: الله الله الله وغيرها من الأذكار حتى يأتي الكشف، فمثل هذا الكلام من الإمام أبي حامد الغزالي والهروي شيء غريب جداً لكن نحسن الظن بهم لأنهم لم يكونوا يدركون ماذا سيترتب عَلَى هذا الكلام، فإنه كَانَ سبباً لأن يأتي بعدهم الملاحدة الذين كشفوا القناع وصرحوا بذلك، وقد كَانَ قبلهم من صرح بذلك، ولكن أكثر المتأخرين يعتمدون عَلَى كتاب الهروي منازل السائرين الذي شرحه ابن القيم في كتابه مدارج السالكين، وكتاب أبي

ص: 1137

حامد الغزالي إحياء علوم الدين وكذلك المنقذ من الضلال، وكذلك الرسائل الأخرى التي جمعت وطبعت وفيها من هذا الكلام.

الرد عليهم

ونرد عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً وهذا هو الذي يهمنا بأن أكمل النَّاس توحيداً هم الخليلان كما قال الإمام مالك: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام هما أكمل النَّاس توحيداً، فليس هناك رقي ولا ترقي في التوحيد بحيث يكون الإِنسَان أعظم من مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أو إبراهيم عليه السلام، ومع ذلك: فإن دين الخليل ودين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هو إفراد الله بالعبادة، أي توحيد الألوهية وهو عبادته تَعَالَى إِلَى أن يأتي الموت كما قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: لا تنفك عن عبادته تَعَالَى إِلَى أن يدركك الموت، فما دمت عبداً حياً فوصف العبودية لا ينفك عنك مطلقاً، أما ما يقال من الحقيقة والفناء أو من الشهود، فهذه مصطلحات بدعية شركية لم يعرفها الخليلان ولم يعرفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ولم يعرفها أولوا العزم من الرسل، وإنما هذه بدع وضلالات ابتدعها هَؤُلاءِ القوم وأدخلوها في دين الإسلام، فهل كَانَ فيما حققوه أنهم جعلوا التوحيد ثلاثة أقسام، توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، ثُمَّ توحيد خاصة الخاصة؟

ص: 1138

بل وإنما كانت الدعوة إِلَى عبادة الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله أمام أصحابه، وكان أصحابه يقتدون به في عبادته، وهكذا كَانَ الأَنْبِيَاء من قبل ولم يكن أحد منهم أبداً عَلَى هذا التوحيد الذي هو مجرد ذكر أو ترانيم، توصل صاحبها إِلَى ما يسمى بالفناء المزعوم، قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131] وفي الحديث الذي أخرجه الدارمي وابن السني أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يعلم أصحابه ويقول: (أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ) ويستدل المُصْنِّف بمعناه، ومعناه صحيح من حيث إن ملة إبراهيم هي دين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ولا شك في ذلك وهي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم في عقبه كما قال تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28] وهي الشهادة شهادة أن لا إله إلا الله كلمة التوحيد فبين المُصْنِّف رحمه الله أن هَؤُلاءِ الصوفية ومن ادَّعى هذه الدعوى قد افتروا عَلَى الله الكذب حين قسموا التوحيد إِلَى هذه الأنواع الثلاثة، وأما القسمة الصحيحة الحقيقية للتوحيد فهي أن نقول: إنه توحيدان توحيد خبري علمي اعتقادي، الذي هو توحيد المعرفة أي توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد عملي طلبي إرادي وهو توحيد الألوهية، أي: توحيد العبادة، وأيضاً قلنا: إن المُصْنِّف قال إن هناك توحيدان -أي باعتبار آخر- توحيد المرسِل، وهو الله سبحانه وتعالى، وتوحيد المرسَل أي: متابعة الرَّسُول

ص: 1139

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنوحد الله تَعَالَى بالطاعة والعبادة بأن نعبده وحده، ونوحد النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء فلا نقتدي بأحد غيره.

شرح أبيات الإمام الهروي والرد عليها

ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

[ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إِلَى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر، يفضي إِلَى الاتحاد. انظر إِلَى ما أنشده شَيْخ الإِسْلامِ أبو إسماعيل الأنصاري رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حيث يقول:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

وإن كَانَ قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كَانَ أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كَانَ مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا النَّاس إليه وبينه، فإن عَلَى الرَّسُول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار إليه؟ ! هذه النقول والعقول حاضرة.

فهذا كلام الله المنزل عَلَى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جَاءَ ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟ وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين، المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النَّصَارَى في دينهم.

ص: 1140

وقد ذم الله تَعَالَى الغلو في الدين ونهى عنه، فَقَالَ تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُول لُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [النساء:171] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] .

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كَانَ قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبو داود] اهـ

الشرح:

كما ذكر المُصْنِّف رحمه الله، أن القول بقسمة التوحيد إِلَى ثلاثة أقسام يفضي إِلَى القول بالحلول والاتحاد وقد ذكر المُصْنِّف عَلَى ذلك مثالاً: فالأبيات التي ذكرها الهروي في كتابه منازل السائرين يقول:

ما وحد الواحد من واحد

الواحد هو الله سبحانه وتعالى، أي:[لم يوحده أحد] .

إذ كل من وحده جاحد

فيحكم بأن كل من وحد الله فهو جاحد

توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد

يقول: إن توحيد من ينطق عن نعته أي: كل من تكلم في التوحيد وفي صفات التوحيد من النَّاس فإن هذا التوحيد عارية أبطلها الواحد الذي هو الله سبحانه وتعالى فلا حقيقة لتوحيد هَؤُلاءِ القوم.

توحيده إياه توحيده

ص: 1141

"توحيده" الأولى مبتدأ، و"توحيده" الثانية خبر، فتوحيد الله لنفسه هو التوحيد [توحيده إياه توحيده] حقيقة توحيده هو ما وحد به نفسه لا ما وحده غيره.

ونعت من ينعته لاحد

أي أن وصف غير الله له سبحانه وتعالى إلحاد، ونستطيع أن نرد عَلَى هذه الأبيات كما رد عليها ابن القيم في المدارج وهو قول الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] ثُمَّ قال بعد ذلك:

وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ فأثبت الله سبحانه وتعالى أن الملائكة وأن أولى العلم وحدوه أي شهدوا له بالوحدانية فمن يقول: إنه لم يوحد الله أحد، وأن من وحده أو نعته فإنه ملحد جاحد، فهو مكذب لهذه الآية، فإن الله سبحانه وتعالى قد بين أن عباده يوحدونه، بل إن ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يقول: "إن الأرض والسماء نفسها هذه هي التي تسبح الله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] فهي نفسها توحد الله وتعبده فهذا نقض لهذا الكلام الذي ذكر فيه أن لا شيء يوحد الله لا الأنبياء، ولا العباد الصالحون، ولا مخلوقات الله التي تسبح الله سبحانه وتعالى وحده والآيتان دليل عَلَى بطلان هذا القول، والذي أوقع الهروي في هذا هو الغلو في فهم التوحيد، حتى ظن أن حقيقة التوحيد -الذي في ذهنه- أمر خفي عميق بعيد لا يدركه أحد، ومن هذا المنطلق -منطلق الغلو مع الابتعاد عن نصوص الكتاب والسنة- وقع فيما وقع فيه أهل الكتاب لقوله بهذا القول الذي تبطله الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة.

ص: 1142

وجاء أهل الحلول والاتحاد، وتعلقوا بهذه الأبيات وَقَالُوا: إن الهروي كَانَ من أهل الحلول والاتحاد، لأنه يقول: إن الله لم يوحده أحد غيره، فهو الذي وحد نفسه إذاً كل البشر لا يوحدون الله، والذي يعرف حقيقة التوحيد -كما قالوا- هو من يؤمن بوحدة الوجود، أي: من يؤمن بالحلول والاتحاد، فهذا الكلام دليل لهم.

يقول المصنف: [وإن كَانَ قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد] نعم الهروي إنما أراد الغلو في مفهوم التوحيد ولم يرد حقيقة الاتحاد؛ لكنه لما جَاءَ بهذا الكلام الباطل الذي أبطله القُرْآن وأبطلته السنة جَاءَ الاتحادي فنسبه إليه وادعاه، ولا يهمنا أن يكون الهروي أراد هذا أو لم يرده وإن كَانَ الظاهر من سيرة الرجل أنه كَانَ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكان من المثبتين لصفات الله تعالى، وإنما المأخذ عليه هو أنه مشى عَلَى منهج الصوفية، وأخذ اصطلاحاتهم في المقامات والأحوال والمنازل والإشارات، لكن لا يهمنا ذلك بقدر ما يهمنا أن هذه المعاني باطلة، وأن التوحيد الحقيقي الذي هو توحيد الله سبحانه وتعالى قد قام به الأَنْبِيَاء أكبر قيام ومنهم الخليلان إبراهيم ومُحَمَّد صلى الله عليهما وعلى أنبيائه أجمعين، وقام به أصحابه صلى الله عليه وسلم وأننا يجب علينا أن نبتعد عن الغلو في الدين، حتى ولو كَانَ غلواً في التوحيد فلا نعمل ولا نقول إلا بما ثبت في القُرْآن أو في السنة.

ص: 1143

وأما الغلو فإنه قد أهلك أهل الكتاب من قبلنا، وقد أهلك هَؤُلاءِ الذين ظنوا أنهم بهذه التعقديات والتجريدات والخيالات والشطحات، يوحدون الله سبحانه وتعالى حق توحيده، ويعرفون قدره وعظمته، ويظنون أن من تعظيم الله أن يقولوا: إن الله لن يوحده أحد، ونحن نقول: من تعظيم الله عز وجل أن نقول: إننا لم نعبد الله حق عبادته سبحانه وتعالى، ونقر بأننا لا نعرف الله حق معرفته ولا نقدر الله حق قدره؛ لأن هذه درجة عالية عظيمة، ولكن نسأل الله أن نحقق ذلك في أنفسنا، وأن يتحقق لنا، ونسعى في ذلك ونرجوه.

أما أن نقول: إنه لم يوحده أحد، وأن كل من نعته أو وصفه فإنه ملحد، فهذا غلو فاحش باطل، وهذا هو الفرق بين اعتراف المؤمن بالتقصير، وأنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يعبده حق عبادته ولم يتقه حق تقاته، وبين من يقول: إنه لم يوحده ولن يوحده أحد مطلقاً وإنما توحيده إلحاد، ووجه استدلال المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الرد عَلَى الأبيات هو في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [المائدة:77] أي: أن هذه نتيجة الغلو، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود (لا تشددوا فيشدد الله عليكم) فإن هذا نهي عن التشدد حتى في مفهومات الإيمان والتوحيد ولذلك وقع الخوارج في تكفير الْمُسْلِمِينَ بسبب هذا التشدد، والله أعلم.

ص: 1144

اللهُ سبحانه وتعالى هو الغاية التي يسعى إليها كل المخلوقين، فيسعون إِلَى معرفة ربهم سبحانه وتعالى، ويسعون إِلَى نيل رضاه، ويحرصون عَلَى أن يدفع الله تبارك وتعالى عنهم ما يكرهون، وأن يمنَّ عليهم ويتكرم بما يريدون، فالأصل في البشرية جميعاً أن اتجاهها هو إِلَى اللهِ سبحانه وتعالى، وأن غايتها وإرادتها تنتهي إليه سبحانه وتعالى، ولكن الانحراف واقع، وقد وقع قديماً وحديثاً، فيظن أن غير الله سبحانه وتعالى يملك ما يملكه الله، أو يمكن أن يكون وسيلة إِلَى ما عند الله سبحانه وتعالى.

أعظم ما يتوسل به إلى الله

إن القلوب لا تطمئن ولا تسعد ولا ترتاح في هذه الحياة الدنيا إلا إذا عرفت ربها سبحانه وتعالى، وتقربت إليه بأنواع القربات، التي جعلها الله تبارك وتعالى وسيلة إليه، فهذه هي الوسيلة الشرعية، والله تبارك وتعالى لما أن علم ذلك وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] جعل هذه النفوس هكذا مجبولة، لا ترتاح ولا تطمئن ولا تسعد في الدنيا ولا في الآخرة، إلا بعبادته وطاعته، وبمعرفته، وبالتقرب إليه، وما عدا ذلك فهو شقاء وضياع ونكد، وهو أرحم الراحمين، وهو الغني سبحانه وتعالى، وهو الكريم الذي كَّرم بني آدم، وهو الذي امتن عليهم بالرسل، وهو الذي أنزل عليهم الكتب، فجعل هذا الباب واسعاً جداً، لأنه لا سعادة للخلق إلا به.

وهو سبحانه وتعالى جعل نعيمه مترتباً عَلَى التقرب والتوسل إليه بما شرع، وجعل عقوبته وعذابه لمن توسل أو تقرب إليه بغير ما شرع سبحانه وتعالى، أو استكبر وأعرض عن التقرب والتوسل إليه سبحانه وتعالى.

توسل الأنبياء والملائكة

ص: 1145

لقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن أفضل خلقه وأعلاهم درجة، وأرفعهم رتبة وقرباً منه سبحانه وتعالى، وهم الأنبياء، فقَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57] فهَؤُلاءِ الأنبياء والملائكة، والصالحون الذين ما دعوا وعبدوا إلا لمتابعتهم لطريق الأنبياء -هَؤُلاءِ- أعظم ما وصفهم الله سبحانه وتعالى به أنهم يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، واللهُ تَعَالَى أمرنا جميعاً بأن نبتغي إليه الْوَسِيلَةَ فَقَالَ سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] فيجب أن نبتغي إِلَى اللهِ الْوَسِيلَةَ وأن نتزلف ونطلب الْوَسِيلَةَ إليه والقرب منه، فهَؤُلاءِ الأنبياء والملائكة والصالحون الذين عبدوا من دون الله، والذين أُشِرك بهم مع الله سبحانه وتعالى، والذين ابتدع أهل الباطل وأهل الشرك في حقهم ما لم يأذن به الله، وما لم يشرعه سبحانه وتعالى، هَؤُلاءِ المدعوون المعبودون، الذين يشرك بهم من أشرك ويستغيث ويستعيذ ويلوذ بهم البعض، هَؤُلاءِ بأنفسهم يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، فجبريل عليه السلام أفضل الملائكة، ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أفضل البشر يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، والملائكة الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى مطهرين من كل ذنب، ولا تخطر لهم خاطرة بسوء أو معصية، وهم مع ذلك من خشيته مشفقون، ويعبدونه سبحانه وتعالى، ويسبحون له بالليل والنهار، لا يملون ولا يفترون، ويتقربون إليه جل شأنه، ويخافون من عذابه وسطوته، ومن نقمته سبحانه وتعالى، وهم بهذه الحالة من القرب ومن

ص: 1146

التقرب.

توسل النبي صلى الله عليه وسلم بربه

وقد كَانَ صلى الله عليه وسلم مع أنه أعرف الخلق بالله، وأقرب الخلق إِلَى الله، وأخشى الخلق لله واتقاهم له سبحانه، كما صرح بذلك صلى الله عليه وسلم، فقَالَ:(إني: لأعلمكم بالله، وأخشاكم له) ومع ذلك كله كَانَ يتقرب بنفسه إِلَى الله وكان يبتغي إِلَى الله الوسيلة بكل ما تستجلب به مرضاة الله، وكل ما يؤدي إِلَى جنة الله ووعده، وبعث الله أنبياءه الكرام جميعاً ليعلموا النَّاس كيف يتوسلون إليه، وكيف يتوصلون إليه.

التوسل بمعناه العام

ص: 1147

وأعظم ما يُتوسل به إِلَى الله سبحانه وتعالى هو توحيده جل شأنه ثُمَّ يتوسل إليه بالعمل الصالح، وهذه هي الوسيلة العامة، أو الدعاء بمعناه العام، و (الدعاء هو العبادة) ، كما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن يعبد الله فهو يدعو الله، أو من يدعو الله، فهو يعبد الله سبحانه وتعالى، فكل ما يريده الناس من قربة تقربهم إِلَى الله، أو يتطلعون إِلَى وسيلة تكون لهم زلفى عند الله سبحانه وتعالى، فقد جَاءَ بها الأَنْبِيَاء والرسل، وامتن الله تبارك وتعالى بها عليهم، وهي أعظم ما امتن به، حتى أن الله سبحانه وتعالى لما قَالَ: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4] في هذه الآيات جعل تعليم القُرْآن قبل خلق الإِنسَان لأن تعليم دين الله سبحانه وتعالى، وما يقرب إليه سُبْحَانَهُ وما يهتدي به المهتدي إليه أعظم من كونه خلق الإِنسَان، وإلا فكم من مخلوق ليس بمهتد إِلَى اللهِ سبحانه وتعالى ولا يعرف الطريق إِلَى ربه لا فائدة في حياته، والأموات خير منه، وعدمه خير من وجوده أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] هذا هو المؤمن الذي أحياه الله سبحانه وتعالى وأنار قلبه بالإيمان والهدى، والقرآن، فهذا الدعاء بمعناه العام، والتوسل بمعناه العام، هو العبادة، ولهذا لا طريق للتوسل إِلَى الله سبحانه وتعالى إلا بما شرعه الله وبما أنزله عَلَى نبيه مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وما سنه رَسُولهُ صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فلا يوصل إِلَى الله، ولا يقرب منه بل هو طريق الضلال، والغواية وفي الأخير نهايته إِلَى النار، وإلى غضب الجبار، تَعَالَى وتقدس.

ص: 1148

لقد انحرف كثير من النَّاس في مفهوم التوسل فوقعوا في التوسل بذوات المخلوقين، حتى بلغ بهم الأمر أن عبدوا أُولَئِكَ المخلوقين، وما كَانَ غرضهم في الأصل إلا أن يتوسلوا بذواتهم أو يتقربوا بهم إِلَى الله سبحانه وتعالى.

شرك قوم نوح

أقدم شرك وقع في بني آدم هو شرك قوم نوح، وذلك بسبب هذا الأمر، أنه كَانَ يوجد فيهم عباد وأولياء صالحون، "ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسراً" كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس، وهَؤُلاءِ الصالحون قال قومهم لما ماتوا: كيف نتذكرهم؟ وكيف نعبد الله مثل عبادتهم ونتقرب إليه مثل تقربهم؟ فلو صورناهم فتذكرنا عبادتهم وتقواهم، فعبدنا مثل عبادتهم واتقينا مثل تقواهم، فلما صوروهم، ونسخ العلم، وجاءت الأجيال بعد الأجيال نسيت القضية الأساسية وهي التذكر وأصبحت توسلاً، فَقَالُوا: نتقرب بهَؤُلاءِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ أصبحوا يعبدونهم من دون الله سبحانه وتعالى، ومن النَّاس من عبد الملائكة، ومنهم من عبد الكواكب، والهدف واحد مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] الآية. أي: جعلناهم واسطة بيننا وبين ربنا عز وجل، ووسيلة نتوسل بها إِلَى الله عز وجل.

ص: 1149

ولما أن بعث الله عز وجل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ورفع راية التوحيد ونشرها في الآفاق، وحطم الله سبحانه وتعالى به الطواغيت والأصنام، وهدمت بيوت النار، وهدمت الصوامع الشركية وكل أنواع العبادات لغير الله بما قدَّر الله سبحانه وتعالى أن تصل إليه دعوة الإسلام؛ ظل أعداء الإسلام يكيدون لهذه الأمة وحرصوا عَلَى أن يعيدوها إِلَى ملة الجاهلية الأولى، وِإلَى التوسل، ودعاء غير الله، ودعاء الأموات، وعبادة الصالحين، يريدون أن يردوها إِلَى تلك القرون السحيقة، وكأن نوحاً لم يبعث ولا النبيون من بعده وآخرهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

العبيديون وإحداث بدعة التوسل

نستطيع أن نقول: إن أول من أحدث وأحيا عبادة القبور وبنى الأضرحة والقباب في دين الإسلام هم العبيديون المنتسبون زوراً وبهتاناً إِلَى فاطمة، وهذه الحركة الباطنية جزء من المجوسية الباطنية، أو من الباطنية التي كانت مكونة من اليهود والمجوس وأعوانهم، ممن أرادوا هدم الإسلام عن طريق هذه الحيلة العظيمة، وكتابهم الذين يرجعون إليه ويقتبسون منه، وينقلون منه، وأرادوا أن يجعلوه بديلاً عن القرآن.

ص: 1150

وهو عبارة عن خمسين رسالة كتبت عَلَى رأس الثلاث المائة، قيل: إنه بُدئ في كتابتها في أيام المأمون ولكن المترجح أنها عَلَى رأس الثلاث مائة وزيادة، وهي خمسون رسالة كتبت في الفلسفة، كل رسالة في موضوع معين من الموضوعات الفلسفية، مشتقة من الفلسفة اليونانية القديمة، ومن بعض فلاسفة الهند وفارس، وكانوا يرجعون إليها وينسجون عَلَى منوالها، ويهتدون بما فيها -وما فيها إلا الضلال- وهذه الرسائل سميت رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وهي موجودة الآن ومطبوعة، وهي تشتمل عَلَى هذا الشرك ويقول أصحابها: وجدنا أننا ضعفاء عاجزون، ومذنبون، وأنه لا يمكن الوصول إِلَى الله سبحانه وتعالى مباشرة، فلا بد أن نتخذ بيننا وبينه الوسائل والوسائط نتوسل بها إليه سبحانه وتعالى، وكلاماً هذا مجمل معناه، فأحيوا هذا الدين الفاسد وإلا فهو قديم من عهد قوم نو.

ولما أن سيطر هؤلاء العبيديون، وحكموا القسم الغربي من العالم الإسلامي -كما هو معلوم- فإن حكمهم بدأ من المغرب، من المدينة التي سماها أبو عبيد الله الشيعي بالمهدية في تونس، وهناك بدأت الدعوة ثُمَّ جاءوا إِلَى مصر، وكان قائدهمجوهر الصقلي، ففتحوا القاهرة، وفتحوا مصر، وفيها أسسوا قاعدتهم ومنها دخلوا إِلَى بلاد الشام، فاحتلوها حتى أنهم في فترة من الفترات، وصلوا بغداد وخطب لهم عَلَى منابر ببغداد في أيام وسط فترة خلافة الدولة العباسية.

حتى جَاءَ ملوك السلاجقة، فطردوهم عَلَى ما هو مفصل في التاريخ، فاحتلوا هذه المساحة الكبيرة من المغرب، ومصر والشام وكذلك الحجاز واليمن، وكان في القسم الشرفي الذي يشمل جنوب بلاد الشام وشرقيها وجنوب العراق، وبلاد فارس وشرق الجزيرة العربية كَانَ القرامطة وهم أيضاً عَلَى دين الباطنية، وأعلنوا الكفر بالله سبحانه وتعالى والشرك جهاراً نهاراً.

ص: 1151

وشرعت مسألة التوسل تطبيقاً لماشرعه أُولَئِكَ الكهنة أو الأحبار الذي كتبوا رسائل إخوان الصفا ففي مصر لما بنوا المدينة التي سموها القاهرة قالوا: نَحْنُ من آل البيت، وابتدعوا قولاً وهو أن رأس الحسين بن علي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما لما قتل في كربلاء أرسل إِلَى مصر، وليس لهذا ذكر في التاريخ، وليس له من مبرر، حتى قيل: إن إرسال رأسه من كربلاء إلى دمشق لم يحصل أصلاً، ولماذا يرسل رأسه هل للتأكد من موته؟ وهل هو إنسان مجهول حتى يعلم أنه مات أو لم يمت؟!

إن موت الكبراء والعظماء معروف سواء كانوا عَلَى حق أو عَلَى باطل، فزعموا وادعوا أنالحسين قد أرسل رأسه إِلَى مصر فقالوا: نتوسل إِلَى الله بالحسين، وبرأس الحسين ثُمَّ وضعوا أيضاً، مشهداً للسيدة زينب، وهذا للسيدة نفيسه وهكذا حتى يؤكدوا أنهم من آل البيت، وأنهم يعظمون ويحيون ما اندرس من شعائر الدين التي يستحقها أهل البيت، والتي يأذن بها ويشرعها أهل البيت، عملاً بما جَاءَ في كتب الرافضة -قبحهم الله- من كذب وافتراء عَلَى آل البيت أنهم هم الوسيلة إِلَى الله -كما في كتاب الكافي - فالأصل أن المنبع واحد، فهذا هو الذي أوجد قضية التوسل في العالم الإسلامي، وأصبحت بهذا الشكل المشاهد الآن.

فالرافضة رووا روايات -كما في الكافي - عن جعفر الصادق أنه قال (نَحْنُ آل بيت رَسُول الله، ونحن الوسيلة إِلَى الله، ولا وسيلة إِلَى الله إلا عن غير طريقنا أو من سوانا) فَقَالُوا: إذاً آل البيت هم الوسيلة إِلَى الله، وأولئك يزعمون أنهم من آل البيت فاتفقت الفكرة المجوسية القديمة، مع تلك الفكرة الرافضية التي منابعها وأصولها مجوسية أيضاً، والهدف من الجميع واحد وربما كَانَ المخطط أيضاً واحد، فهؤلاء أقاموا في بلادهم القباب والقبور وشيدوها وكذلك هؤلاء وكل ذلك بدعوى محبة آل البيت، وبهذه الطريقة انتشرت عبادة القبور.

الصوفية والتوسل

ص: 1152

تُعدُّ الصوفية الجناح الثالث الذي نشر هذه الفكرة باسم التوسل وتعظيم القبور، حتى أصبح الآن أنك إذا قلت: هذا صوفي، فمعناه: أنه يعظم الأموات والقبور، بينما كانت في الأصل الباطنية.

والقائمون اليوم عَلَى الأضرحة والمشاهد والقباب والقبور كُلهم من الصوفية، مما يدل عَلَى أن هناك أصلاً مشتركاً، كما أنهم يقولون: إن أصل التصوف هو عَلِيّ رضي الله تَعَالَى عنه، وأصل العلم الباطن هوعَلِيّ فكل دعاة الإلحاد والإفساد في دين الله دخلوا من باب التشيع ومن باب محبة آل البيت، إلا أنه وفي المرحلة الأولى، وأول ما وجدت هذه المشاهد كانت عَلَى أيدي العبيديون، الذين كانوا كما قيل فيهم: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، فأظهروا المولد وبنوا المساجد عَلَى القبور كما فعل النَّصَارَى الذين قَالَ فِيهمُ النبي صلى الله عليه وسلم:(لعن الله اليهود والنَّصَارَى اتخذوا قبورا أنبيائهم مساجد) أو قَالَ: (كانوا إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا عَلَى قبره مسجداً) هذا ما فعله أُولَئِكَ وامتلأ به العالم الإسلامي.

الرافضة والتوسل

بعد أن انقرضت وهلكت دولة العبيدين عَلَى يد الأمير المجاهدصلاح الدين الأيوبي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الذي أفنى الله تَعَالَى بسيفه أُولَئِكَ المجرمين الزنادقة وأهلكهم وورث التركة الرافضة وورثتها الصوفية فيما بعد، فأما الرافضة فإنهم يعتقدون أن الوسيلة التي شرعها الله هي التوسل إِلَى الله بعبادة الذوات وبالأخص أهل البيت: علي، الحسن، الحسين، عقيل، وصاحب السرداب هذا المعدوم الموهوم وغيره.

ص: 1153

وتجدون ذلك في جميع كتبهم كما في كتابهم المسمى الجنان أو البستان وتعليق عَلَى البستان وأمثال ذلك، ففيها أدعية من أولها إِلَى آخرها ماذا يقال عند مشهد وقبر كل واحد منهم، حتى ألف أحدهم وهو من كبرائهم الخبيث المسمىابن المفيد ألف كتاباً سماه مناسك المشاهد فكما أن للحج والعمرة مناسك، فقد جعلت الرافضة مناسك لزيارة المشاهد وَقَالُوا: إن تربة قبر الحسين عندهم أفضل من الكعبة، وأن من جَاءَ لزيارة الحسين فهو أفضل من الحج إِلَى مكة، قيل: بسبع مرات، وقيل: بسبعين مرة، وقيل أضعاف ذلك، فهذا هو الرفض الأساسي، صرف النَّاس عن التوحيد وعن تعظيم ما عظم الله، فالله تَعَالَى شرع تعظيم شعائره، ومن شعائره تعظيم هذا البيت المحرم، وهذا الحرم الآمن فهم يريدون أن ينقلوا ذلك إِلَى غيره، فهم اتجهوا شرقاً، والعبيديون اتجهوا غرباً.

قبر الحسين عند الرافضة:

لقد أصبحنا نجد في مصر قبراً يقال له: قبر الحسين أو مشهد الحسين وهو من أكبر أماكن العبادة لغير الله، والعياذ بالله، كما يوجد في شمال أفغانستان في مدينة كبيرة مشهورة تسمى مزار شريف أي المزار الشريف وهو قبرُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، في بلد لم يصل أمير المؤمنين علي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وإنما المعروف المتواتر أنه قتل بالكوفة ودفن هنالك وجُهِلَ وخفي قبره.

ويحضر عنده الآلاف للحج كأنك ترى النّاس في منى أو في عرفة، وخاصة في فترات معينة من السنة، يحضرون من أفغانستان ومنباكستان ومن التركستان ومن مناطق عديدة، وترى النّاس وكأنك في المشاعر التي عظمها الله وقدسها وأمرنا أن نعظمها.

ص: 1154

وفي نفس الوقت تجد الحسين الذي قتل في كربلاء يعبد في مصر، ويعبد في دمشق ويعبد في العراق أيضاً، فكل يدعي أن الحسين قبر عندهم ولو ثبت أنه في مكان معين لما صح أن يعبد الله عز وجل عند قبره فضلاً عن أن يعبده أو أن يدعوه من دون الله، ثم جَاءَ بعد ذلك دور التصوف لما ظهرت أعلام السنة، وأصبح كل من انتسب إِلَى الرافضة أو التشيع عرف الْمُسْلِمُونَ أنه عدو الله ولرسوله وللمؤمنين.

الحروب بين الرافضة وأهل السنة:

قامت الحروب المشتعلة في كل مكان بين الْمُسْلِمِينَ وبين هَؤُلاءِ الروافض، فعلى سبيل المثال في بغداد عاصمة العالم الإسلامي عاصمة الدنيا جميعاً في القرون الوسطى، كانت تنقسم إِلَى قسمين: الكرخ، والرصافة، ففي كتب التاريخ أن المعارك نشبت بين الكرخ وبينالرصافة، والشيعة في الكرخ وأهل السنة فيالرصافة، فأحياناًأهل السنة يهجمون عَلَى الكرخ ويحرقونهم.

وأحياناً يحرق أهل الكرخ الرصافة وهكذا طوال التاريخ، وهذه عاصمة الخلافة الإسلامية، وعاصمة الدنيا، وهذا الحال فيها، وكذلك كثير من البلدان، فعداوة الرافضة اتضحت وأُعِلَنت، فجاءوا من طريق آخر خفي وهو الأخبث، ولا يزال موجوداً إِلَى اليوم ينشر الشرك وهو الذي وَرِثَتهُ الصوفية عن الرافضة والباطنية.

ص: 1155

كتب أحد أساتذة التاريخ في جامعة القاهرة كتاباً كبيراً عنوانه السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة أثبت الكاتب فيه بالمصادر وبالتحليل أن المسألة تدبير وتخطيط لإعادة المجد العبيدي الفاطمي -كما يُسَمى- فهي مؤامرة للقضاء عَلَى الإسلام متلبسة بلباس أهل البيت ولكن عن طريق آخر غير صريح، ولا مباشر، وهذا هو طريق التصوف، ولهذا فالبدوي وأمثاله يدعون أنهم من أهل البيت، فكل من خرج وادَّعى وشرع طريقة من طرق الصوفية فهو من آل البيت، ولو كَانَ من أبعد بلاد الله تَعَالَى عن جزيرة العرب فضلاً عن أن يكون عربياً، فضلاً عن أن يكون من قريش، يختلقون له نسباً ويدَّعون أنه من أهل البيت لتتوطد تلك العلاقة التي يريدونها.

فذكر الكاتب كيف أن هذا البدوي وأمثاله خططوا لإعادة تلك الفكرة سواء عن طريق دولة تقوم أو عن طريق إحياء ذلك المبدأ وذلك الهدف الذي شرع، والغرض منه القضاء عَلَى الإسلام وأن ينقل الْمُسْلِمُونَ من دين الإسلام إِلَى دين الشرك وهم يظنون أنهم مسلمون، وبذلك يحقق أعداء الإسلام من اليهود والمجوس والنَّصارَى وأمثالهم المآرب التي يريدونها؛ لأنهم يعلمون أن هذه الأمة متى خرجت عن دينها وانحرفت، ومتى تعلقت بالأموات والقبور، فلن تقومَ لها قائمة، بل هي من ذُلٍ إِلَى ذُلٍ، ومن هزيمةٍ إِلَى هزيمةٍ، ومن ضياعٍ إِلَى ضياعٍ.

وإذا وحَّدت وآمنت واعتصمت بالله فإنها سوف تحقق الأعاجيب، وقد رأوا ذلك في تاريخهم القديم، وفي تاريخهم الحديث وهم جربوا ذلك وعرفوه بالتجربة.

ص: 1156

وذكر الكاتب كيف كَانَ الدعاة يأتون من المشرق والمغرب يهدفون جميعاً إِلَى شيء واحد، وكانت لهم صلة لا تخفى عَلَى كل من قرأ حياتهم بشياطين الجن، فكانوا هم شياطين الإنس، وأولئك هم شياطين الجن كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112] .

فكانوا يستعينون بأولئك الشياطين ويدعون الكرامات والخوارق الكاذبة حتى سحروا ألباب النَّاس وسخروا من عقولهم، فغنموا الأموال والجاه والسلطة، وغنموا كل شيء باسم أنهم أولياء وأتقياء لله سبحانه وتعالى، ومن أهل الدين، ومن أهل الولاية والقربة، فكان كثير منهم له غرض واضح في إقامة دولة مجوسية شيعية، والبعض الآخر لم يفكر في ذلك، أو لم يستطيع أن يفعل ذلك؛ لكنه اكتفى بغرض هدم الدين، وإخراج الْمُسْلِمِينَ عن الصراط المستقيم، وعن عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده الذي هو أساس نجاحهم وسر حياتهم.

أثر هذه المخططات أيام الاستعمار

وقد ظهرت آثار هذه المؤامرات والاتصالات الخفية عندما جَاءَ الاستعمار، وإذا به يدس في أولئك من أوليائه وتكون الصلة بينهم وبينه، وما دخل الاإنجليز والفرنسيون بلداً، إلا ولهم أولياء وأصفياء مقربون من أهل تلك البلاد، ولذلك لما دخل الانجليز إِلَى الهند مثلاً ظهر الذي يسمى سيد أحمد خان، وجاء بدعوة جديدة، وظهر أيضاً في المقابل أحمد القادياني والكل يدعو إِلَى تعظيم الإنجليز وإلى محبتهم، وإلى ترك الخروج عليهم وعدم مجاهدتهم.

وهكذا ظهر من الباطنية سيف الدين الذي تنتسب إليه الفرقة السيفية من الباطنية التي لا تزال قائمة إِلَى اليوم، وقد أمَّده الانجليز وساعدوه وشجَّعوه في إحياء الباطنية من جديد، وكذلك الآغاخانية.

ص: 1157

وهكذا في كل بلد دخلها هَؤُلاءِ يمدون العلاقات والصلات مع الباطنية ومع الصوفية، فانتشرت هذه الضلالات وهذا الشرك في العالم الإسلامي تحت اسم التوسل، فإذا قلت لأحد منهم: لا تشرك بالله، لا تقل: يا علي، يا حسين، يا عباس، يا كذا! لا تدعوا غير الله فَيَقُولُ: أنا لا أشرك بالله بدعاء هَؤُلاءِ الأولياء والصالحين، بل هذا توسل والتوسل قد قال بعض العلماء: إنه بدعة، وقال بعضهم: لا بأس به فينقلك إِلَى خلاف العلماء، فهو يفعل التوسل الشركي، ويحاول أن يجعله من التوسل البدعي.

والتوسل البدعي هو الذي تكلم عليه المُصْنِّف رحمه الله وسوف نشرحه بإذن الله؛ لكن رأينا أن أهم منه وأولى الحديث عن التوسل الشركي الذي ابتدأ منذ أن عبد الرجال الصالحون من قوم نوح، وانتهى بما ترونه اليوم مما يعبد في مشارق الدنيا ومغاربها من الأضرحة والقبور والأولياء بحجة واحدة وهي التوسل، وكثير من النَّاس أصحاب علم في تلك البلاد، وأصحاب عمائم ولديهم الباع الطويل في الفقه وفي غيره، ولكنهم واقعون في هذا الشرك والعياذ بالله ويبررونه ويفلسفونه، ويقولون: هذا هو التوسل، بل يسمون تلك الأماكن بالأماكن المباركة، المقدسة، الطاهرة، ويحرصون أن يُعقد الزواج في تلك الأماكن المقدسة، وأن تكون حلقات العلم في تلك الأماكن المقدسة، هكذا بلغ تقديسها وتعظيمها، وكأنك تقول أنت أيها المؤمن الموحد السني: إننا في بيت من بيوت الله أو في مسجد رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الأقصى، فالمساجد التي هي فعلاً بيوت الله، وقد أمر الله أن ترفع وأن تقَّدس وتعظَّم، وهي لا تعظم عندهم إلا إذا كَانَ فيها شرك.

ص: 1158

ولهذا فالعلامات كثيره والأمر واضح، وتجدون أن زعيم الباطنية الآغاخانية وزعيم الصوفية الجديدة وأمثالهم يتبرعون بتكاليف بناء المنابر والقباب -وبتجديدها وتلميعها- عَلَى الأضرحة وعلى المزارات التي يعبد فيها غير الله سبحانه وتعالى، وينفقون عَلَى ذلك الأموال الطائلة، وتطلى بالذهب وبأفخر أنواع الرخام والفضة والخشب النادر الثمين، وأُولَئِكَ المغفلين السذج يتقربون إليها ويعبدونها.

فهذا كاتب مصري ليس من العلماء عاش مأساة هذه الأمور ثُمَّ هداه الله سبحانه وتعالى وعرف التوحيد عَلَى يد الشيخ مُحَمَّد جميل غازي كتب كتيباً صغير سماه اعترافات كنت قبورياً ذكر فيه أمور يتعجب منها القارئ، هذه الأمور التي ذكرها لا يصح معها دين ولا صلاة ولا صيام كيف يقبل عمله وهو يعتقد أن البدوي يرزق الولد، ويحفظه من الموت، فأي عبادة تقبل منه والله تبارك وتعالى يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] فإذا خاطبت هَؤُلاءِ الجهال احتجوا بالعلماء، وإذا ذهبت إِلَى العلماء قالوا: هذا توسل، نتوسل إِلَى الله، والشرك فقط أن تعتقد أن أحداً غير الله يؤثر في شيء من الأشياء، ونحن نعتقد أنه لا فاعل إلا الله ولا مؤثر إلا الله، فجعلوها جبرية محضة، وأثبتوا جزءاً من توحيد الربوبية، وليس هو توحيد الربوبية الحقيقي، وإنما هو ما ظنوه أو فهموا أنه هو التوحيد، وهو أن تعتقد أن الله خالق كل شئ وأنه الفاعل لكل شيء، وهذه عقيدة شركية باطلة، فمعنى من يعتقد أن الله هو الفاعل لكل شيء: أنه إذا زنى زان، أو شرب الخمر شارب، ماذا يُقال عَلَى اعتقادهم هذا عياذاً بالله؟ الجواب معروف يعتقدون المجاز؟ فهم يعبدون الأموات ويدعون غير الله الزمن الطويل ولا يعبدون ولا يدعون الله إلا قليلاً.

ص: 1159

فيقال لهم: لو كَانَ ذلك حقاً وأنكم ترون أن عين التوحيد وحقيقته هو ذلك، فلماذا تقولون إن البدوي حفظ الولد، فالبدوي لا يحفظه؛ لأنه لا فاعل إلا الله فالفاعل الحقيقي هو الله وهذا عَلَى سبيل التنزل معهم، ولكنَّ هذا من تلبيسات الشيطان، والله سبحانه وتعالى جعل ذلك فتنة للناس، وكما مر معنا أنه ما عُبدَ غيرُ اللهِ، ولا أُنكِرت صفاته، ولا أَلحدَ المُلحدون، ولا ابتدع المبطلون، إلا بشبهات وتأويلات.

أن مما يفسر به هَؤُلاءِ الصوفية والروافض قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] قالوا: إن الله يأمرنا أن نبتغي إليه الوسيلة ومعنى ذلك أن نتخذ وسائل ووسائط من العباد لندعو الله عن طريقهم أو ندعوهم فإذا قال أحدهم: بجاه مُحَمَّد، أو بجاه الحسين، أو بجاه عَلِيٍّ، أعطني يارب كذا فَيَقُولُ: الآن اتخذت إِلَى الله الوسيلة، وهذا هو التوسل البدعي كما سنفصله إن شاء الله.

لكن أكثر ما يستخدمون هو الدعاء المباشر يا علي، يا حسين، يا بدوي، فإذا قلت لهم: كيف تدعون هَؤُلاءِ من دون الله، قالوا: هذا فقط مجرد وسيلة، فنحن لا نقصد الدعاء المباشر لهم، فسواء قلنا: يا علي، أو قلنا بجاه علي، أو يا مُحَمَّد أو بجاه مُحَمَّد كله واحد لأنه لا فاعل إلا الله، فنجدهم يلَّبسون فيجعلون التوسل الشركي بدعياً ثُمَّ يأتون للبدعي ويقولون: هذا هو الصحيح.

فتكون النتيجة: أنهم نقلوا الجماهير المغفلة المسكينة من الشرك الأكبر، إِلَى حقيقة التوحيد -في ظنهم وفي زعمهم- فيشركون بالله ليلاً ونهاراً وهم يحسبون أنهم يحسنون وأنهم يوحدون الله سبحانه وتعالى.

التوسل المشروع

وأعظم ما يكون به التوسل عند أهل السنة هو التوسل بتوحيد الله وبطاعته.

ص: 1160

فمن أراد أن يتوسل إِلَى الله فهذا طريقه الذي أمر الله به أن تبتغى إليه الوسيلة هي: أن يطاع وأن يتقرب إليه بما شرع فهذا هو ابتغاء الوسيلة، وهذا هو توسل عباد الله الصالحين (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) [الإسراء:57] في أنهم يعبدون الله ويتقونه ويخشونه، ولا يبتدعون في دين الله بل ولا يعصونه فيما هو أقل من ذلك.

التوسل الشركي

وأما التوسل الشركي فهو: أن يُدعي غير الله، وأن يستغاث بغير الله سبحانه وتعالى وأن يذبح وينذر لغير الله، أو أن يصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، ويُقَالُ: هذا واسطةٌ بيننا وبين الله، وهذا هو عين ما قاله المُشْرِكُونَ حينما قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] .

التوسل البدعي

وأما التوسل البدعي فهو أن يكون المدعو والمعبود هو الله سبحانه وتعالى عَلَى الحقيقة ولكن يتوسل إليه بذات من ذوات المخلوقين أو بجاههم، أو بعمل من الأعمال التي لا يصح التوسل بها، أو بحق من الحقوق فهذا هو التوسل البدعي، لأن لدينا قاعدة بسيطة سهلة يحفظها الجميع وهي أن كل عمل لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة، حتى ولو جَاءَ إنسان وقَالَ: هذا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وجاهه عند الله عظيم.

فنقول: نعم، النبي صلى الله عليه وسلم كذلك؛ لكن هل معنى ذلك أننا نسأل الله بذاته؟ هل ورد ذلك؟ هل فعل الصحابة ذلك بعد مماته؟ لا.

ص: 1161

ومن هنا نرجع إِلَى قضية الاتباع وليس الابتداع، فإذا وجدنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته توسلوا بذاته إِلَى الله، أو دعوا الله بذاته، فهم أولى النَّاس بالإتباع، وهم أعرف النَّاس بالدين، فنتبعهم وإن كانوا لم يفعلوا؛ بل بينوا لنا ما هو التوسل المشروع كما في قصة عُمَر ومعاوية مع العباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، عرفنا ما هو التوسل المشروع وما هو غير المشروع.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إِلَى الله تَعَالَى في الدعاء، ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيّك. أو بحق فلان، يقسم عَلَى الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين:

أحدهما: أنه أقسم بغير الله.

والثاني: اعتقاده أن لأحد عَلَى الله حقاً، ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد عَلَى الله حق إلا ما أحقه عَلَى نفسه، كقوله تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وهو رديفه يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله عَلَى عباده؟

قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم.

قَالَ: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.

قال: أتدري ما حقُّ العباد عَلَى الله إذا فعلوا ذلك؟

قلت: الله ورسوله أعلم.

قَالَ: حقهم عليه أن لا يعذبهم) .

فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق لا أن العبد نفسه مستحق عَلَى الله شيئاً كما يكون للمخلوق عَلَى المخلوق، فإن الله هو المنعم عَلَى العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو: أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يسأل بسببه، ويتوسل به، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً] اهـ.

الشرح:

ص: 1162

الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم له صور وحالات، فبعض الناس يدعو الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أو غيره مباشرة، فيقولون: الشَّفَاعَة يارَسُول الله! أو الشَّفَاعَة يا ابن عباس، أو يا حسين، أو يا عَلِيّ، أو يا جيلاني، أو يا بدوي أو غير ذلك، وهذا ما يكون دارج عَلَى ألسنة كثير من النّاس عافانا الله وإياكم من الشرك، فهو يطلب الشَّفَاعَة من غير الله طلباً صريحاً.

هل من استشفع بغير الله قصده أن يدعو الله

من المعلوم أن من دَعَا غيرَ اللهِ سبحانه وتعالى مباشرةً، فلا مجال لقول المتمحلين أو الملبسين: أن هذا إنما قصده أن يدعو الله، ولكن دعا ذلك الرجل ليقربه من الله.

وإذا قلنا: إن هذا يحتمل أنه إنما أراد أن يقول: يا الله، ولكن سأل أو دعا غير الله، لقرب ذلك المدعو منه، فهذا من التوسط فقط.

ولو قلنا بذلك لفسدت العقيدة والدين بل وتفسد اللغة العربية وأساليب العرب، فمثلاً: إذا كَانَ اسمك محمد، واسم ابنك علي، فلو قلت عَلَى سبيل المثال: يا علي فأجاب فتقول له: أنا لم أقصدك، وإنما أقصد أباك، فيقول الأب: أنا اسمي محمد، فأقول له نعم أنت اسمك محمد، ولكن هذا علي ولدك فأنا أدعو ولدك وأقصدك فهل هذا الكلام يعقل؟

فاللغة والمعاني تختل ويصبح ليس هناك عقل مميز، لأن القرب -كما تعلمون- درجات فالنبي صلى الله عليه وسلم أقربُ الخلقِ إِلَى اللهِ سبحانه وتعالى وهم مُتوسلون به صلى الله عليه وسلم، وقد يتوسلون بأبِي بَكْرٍ وعُمَر، وهما أقل بلا شك في القرب من الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وقد يتوسلون برجل في القرن العاشر أو الثامن أو الرابع عشر أو الخامس عشر، وإذا قيل لهم: هذا شرك، قَالَ: أنا لم أقصد هذا، إنما أقصد "يا الله"، لكن هذا مقرب عند الله.

ص: 1163

وهذا الكلام لا يقوله عاقل أبداً، ولو فتشنا لغة العرب من أولها إِلَى آخرها لما وجدنا عَلَى الإطلاق ما يؤيد هذا الكلام ولا ما يشهد له، فإن العرب وإن كَانَ في كلامها ما يسمى مجازاً أو استعارة وما يسميه غيرهم: أسلوباً من أساليب العرب في الفصاحة والبلاغة، لا بد لهذه الأساليب من رابطة، ومن علاقة واضحة محددة ومفهومة، أما مجرد أن تدعو فلاناً وتقول: أنا لم أقصده وإنما أقصد غيره فهذا لا يمكن.

فكيف بالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- فالفرق بينه وبين قرب كل أحد منه وبين قرب أي مخلوق من مخلوق فرقٌ بعيد جداً؛ لأن الكل بالنسبة إِلَى الله سبحانه وتعالى عبد فقير محتاج مضطر بالذات إِلَى اللهِ سبحانه وتعالى، فمهما كانت درجته، ومهما كَانَ قُربهٌ من اللهِ، فهو مُفتقر إليه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، حتى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك لأحدٍ من الناسِ، بل هو صلى الله عليه وسلم والملائكة والأنبياء يدعون الله سبحانه وتعالى، وينكسرون بين يديه ويطلبون منه أن يقضي حوائجهم من جلب نفع أو دفع ضر.

ولهذا قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57] فالأنبياء يتوسلون إِلَى اللهِ تَعَالَى ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، ولا يملكون جنة، ولا يدفعون عن أنفسهم ولا عن أحد النَّار أبداً، فهذا هو الأصل.

فمن قَالَ: إنه يدعو ذلك لقربه من الله، أو لعلاقة ما بينه وبين الله، ويدعو ذلك دعاءً صريحاً، ويزعم مع ذلك أنه إنما يدعو الله؛ فهذا شرك أكبر، ومهما تمحل من الاعتذار لشركه بأنه يقصد كذا أو كذا فهذا مما لا تقره الأساليب العربية، ويعرف ذلك كل من عرف لغة العرب وأساليبهم.

ص: 1164

هذا هو النوع الأول، وهو شرك أكبر، ولذلك كَانَ هو التوسل الشركي، أو هو نوع من أنواعه.

دعاء الله تعالى بواسطة غيره من البشر

يقول المصنف: [وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إِلَى الله تَعَالَى في الدعاء، ففيه تفصيل، فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان] في هذه الصورة من صور الاستشفاع وهي: أن أحداً لا يقول: يا رَسُولَ اللهِ! اشفع لي، ولكن يقول: يارب! بحق نبيك، أو بحق فلان من الصالحين أعطني أو أدخلني الجنة، أو يدعو بما شاء، متوسلاً بحق أي إنسان ولو كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقسم عَلَى الله بأحد من مخلوقاته فهذا محذور من وجهين:

[أحدهما: أنه أقسم بغير الله] وذلك حينما قَالَ: "بحق فلان" كائناً من كان فلان، وكما سيذكر بعد ذلك في حكمه.

[والثاني: اعتقاده أن لأحد عَلَى الله حقاً ولا يجوز الحلف بغير الله] هذا إبطال للعلة الأولى.

وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .

والشرك ينقسم إِلَى قسمين:

1-

الشرك الأكبر: الذي يخرج صاحًبه من الإسلام عافانا الله وإياكم.

2-

الشرك الأصغر: وهو ما كان دون ذلك، إلا أنه من أكبر الكبائر، فهو أكبر من الزنى ومن شرب الخمر، ومن اللواط، ومن كل معصية لم يسمها الله تَعَالَى ورسوله شركاً.

درجات المعاصي

المعاصي عَلَى ثلاث درجات: النوع الأول: وهو أكبر الكبائر، وهو الشرك بالله الذي يخرج بصاحبه من الملة، وهو المعصية الكبرى التي لا يغفرها الله سبحانه وتعالى أبداً إلا لمن تاب منها.

والنوع الثاني: المعاصي التي لا تخرج صاحبها من الملة، ولكن سماها الله ورسوله شركاً أو كفراً، فهذه أكبر مما دونها.

ص: 1165

والنوع الثالث: المعاصي المعروفة، التي هي الكبائر والصغائر، التي لا يخفى أمثالها عَلَى أحد.

الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر

سميت المعاصي التي لا تخرج صاحبها من الملة شركاً تعظيماً لشأنها، وأنها أقرب شيء إليه، ولأن علاقتهما به واضحة، وهي أكبر في درجة المعصية من مجرد المعاصي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الرياء: الشرك الأصغر حينما قال لأصحابه: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فلما سئل عنه؟ قَالَ: الرياء) .

أما الذين هم خارجون من الملة، يتقربون لغير الله، ويعبدونه رأساً من اللات أو العزى أو فرعونأو الأحبار أو الرهبان أو كائناً من كان، فهَؤُلاءِ يدعونه رأساً.

أما المرائي فإنه يعبد الله من أجل غير الله، فهذا قريب ويلتحق بذلك، وهو أكبر من مجرد المعصية، ولهذا سمي شركاً وهو أصغر؛ لأنه لا يخرج من الملة.

فمثلاً: الحلف بغير الله سبحانه وتعالى لا بد أن نفصل فيه:

فإذا حلف بغير الله، معتقداً أن للمحلوف به ما لله تبارك وتعالى من التعظيم والمقام والقدر فسوى بين الله وبين أحد من خلقه، فهذا شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة من أجل ذلك الاعتقاد فهذا اللفظ يعبر عن اعتقاد، وبمجموعهما خرج من الملة، أو فبالاعتقاد وحده وإن لم يحلف يخرج من الملة، لأن من ساوى بين الله وبين أحد من خلقه في الاعتقاد فقد خرج من دين الإسلام.

خطورة الشرك

ص: 1166

لقد مقت الله الْمُشْرِكِينَ، وكتب وأوجب عليهم الخلود ولعنهم من أجل الشرك، كما ذكر الله تَعَالَى في القُرْآن في سورة الأنعام في موضعين منها حقيقة ما يفعله المُشْرِكُونَ، فَقَالَ في أول آية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] والعدل في اللغة العربية معناه: التسوية أو المساواة، فكان العربي إذا ركب البعير أو الدابة وضع هاهنا حملاً وهاهنا حملاً فتعادل، فلا يميل أحدهما عَلَى الآخر.

قَالَ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي: يساوون، وجاء في آخر السورة أيضاً وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:150] وهذا العدل الذي جَاءَ في سورة الأنعام جَاءَ في سورة الشعراء مُعبراً عنه بكلمة أخرى هي التسوية كما قال تعالى: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الشعراء:97] لماذا استوجبتم النَّار؟ عافانا الله وإياكم من ذلك، يقولون:

إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:98] فالعدل والتسوية هي الشرك بالله سبحانه وتعالى، ويكون العدل، وتكون التسوية، كما بين ذلك في سورة البقرة فقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] عدلوا بالله غيره وسووا بين الله وبين وغيره في المحبة التي هي أساس كل الأعمال، ومن ساوى بين الله وبين أحد من خلقه في المحبة والتعظيم والإجلال، اللذان لا ينشأن إلا عن محبة.

ص: 1167

فقد اتخذ من دون الله أنداداً بل حتى الخوف الحقيقي الذي هو خوف العباد لا يكون إلا من خوف المحبة وكذلك الرجاء الحقيقي لا ينشأ إلا عن المحبة، فالمحبة أساس كل عمل من الأعمال بحيث لو أن أحداً أبغض الله، أو أبغض رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أبغضَ شيئاً مما جَاءَ به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يخرج من الدين نسأل الله العفو والعافية.

والبغضُ هنا بغض اعتقاد لا مجرد غلبة النفس، أو عدم رغبتها، فالمقصود أن من حلف بغير الله، أو ساوى الله تَعَالَى بغيره، وعادله بالله، في التعظيم والإجلال فإنه يكفر -والعياذ بالله- ولا يكون مؤمناً قط وإن عمل ما عمل من الطاعات لأن الله تبارك وتعالى قال: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] ولا ينفع الْمُشْرِكِينَ أي عمل وإنما من فضله وعدله أنه لا يظلم أحداً، فيعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ويعطيهم بها الذكر الحسن، أو الصحة أو العافية أو المال، أو ما يشاؤون في هذه الحياة الدنيا، أما يَوْمُ القِيَامَةِ فلا يجدون شيئاً عَلَى الإطلاق؛ لأنه لا أساس لهذه الطاعات من توحيد الله، فكل ذلك قد محقه الشرك وأذهبه.

التسوية مع التعظيم "شرك أكبر"

هناك صور أشنع ممن عظَّم غير الله تعظيماً مساوياً لتعظيم الله وهو أن من يعتقد أن لغير الله سبحانه وتعالى من التعظيم أعظم مما لله عياذاً بالله، كمن يُحْلَف له بالله فلا يُصدِق، أو يحلف هو بالله، فلا يُصدَق فيحلف له بالشيخ فلان فيصدق ذلك، فلما أن جعل الشيخ آخر شيء؟! دل عَلَى أن الشيخ ليس بعده احتمال ولا ملجأ، فقد حلف حتى بالشيخ، وفي أول مرة حلف بالله، ولم يصدقه، وفي الأخير يقول: أخذنا معه حتى حلف بالشيخ، أي: ليس وراء الحلف بالشيخ أي شيء والعياذ بالله.

ص: 1168

إذاً: الأكثر تعظيماً هو هذا الشيخ، فهَؤُلاءِ الأمر عندهم ليس مجرد تسوية أو عدل، بل أكثر من ذلك فهم عكس من قَالَ اللهُ فيهم: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] .

الحلف بغير الله عادة أو وراثة "شرك أصغر"

الحالة الثانية: أن يحلف الرجل بغير الله، إما عادة تعودها أو وراثة ورثها، أو سبق لسانه إِلَى ذلك مع خلو القلب من اعتقاد أن ذلك الإِنسَان مثل الله أو أنه أحب إِلَى الله، فهذا هو الشرك الأصغر، ونعود إلى القاعدة السابقة: فمعصية سُميت شركاً هي أكبر من معصية لم تسم شركاً.

ولهذا قال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: " لأن أحلف بالله كاذباً، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً " انظروا إِلَى فقه الصحابة الكرام ومعرفتهم للتوحيد، ولهذا نقول: هذا هو الأثر والثمرة والبركة، ومن أثر ذلك: نصر الله الصحابة الكرام، فقد رفعهم في الدنيا قبل الآخرة، لأنهم عرفوا الله ولم يدعو إلا إِلَى توحيد الله، ووحدوه، وعبدوه عَلَى علم وبصيرة وبينة.

حكم اليمين الغموس

أما حكم الحلف بالله كاذباً فهذه هي اليمين الغموس، وهي كبيرة من الكبائر التي ورد التغليظ فيها، ولا يغرنكم ما هو رائج في النَّاس اليوم، فإن ما وقعت فيه الأمة من المصائب والدواهي فهي أكثر من أن تحصر، ولا سيما ما يتعلق بالتجار، يحلف ليروج سلعته، وأن هذا أفضل نوع، وأن رأس ماله كذا، وما أشبه ذلك.

ص: 1169

فالحلف الكاذب وهو أحد الثلاثة الذين َلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -والعياذ بالله- لأنك حلفت عَلَى أمر من أمور الدنيا وكلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة فلا يستحق أن تحلف كاذباً بربك العزيز الجبار المتكبر سبحانه وتعالى، حتى أن المشترين أصبحوا لا يبالون بالأيمان؛ لأنهم تعودوا أن يحلفوا بغير الله كذباً، فترى الواحد يتناقض بيمينه في نفس اللحظة، فنحن تهاونا بها لكنها في الحقيقة غموس تغمس صاحبها في النَّار ولا كفارة لها إلا ذلك، وهذا مما يخطئ فيه بعض العوام والواجب عَلَى طلاب العلم أن يعلموا النَّاس أن الكفارة لا تكون إلا عَلَى فعل شيء مستقبل، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحل وهو: إذا حلف أحدكم ورأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير.

فمن أقسم أنه لا يأكل نوع من الطعام، أو أنه لا يفعل عمل من الأشياء الحلال، وإِنْ كَانَ هذا العملُ وَاجِبَاً، فهذا أشد بلا شك وأوجب لأن يكفر عن يمينه بأن يطعم عشرة مساكين أو كسوتهم من أوسط ما يطعم أهله فإن لم يجد فليصم ثلاثة أيام هذا في اليمين المنعقدة التي يعقدها الإِنسَان عازماً عَلَى أمر ما، لكن إذا نوى الكذب وأن يحلف عَلَى شيء ليس له أصل، فهذه تسمى اليمين الغموس، ولا كفارة لها إلا النار، إلا إذا تاب، فالله تبارك وتعالى يقبل التوبة عن عباده مما هو أكبر من ذلك وهو الشرك.

ضرورة معرفة حقيقة ألفاظ الشارع

ص: 1170

إذا حلف الرجل بالولي فلان، وقال: إنني أعطيتك كذا، وقَالَ: أنا صادق فيما أحلف، نقول: القضية ليست في الكذب أو الصدق، لأننا خرجنا الآن من قضية المعاصي إِلَى مبحث آخر أهم وأكبر وهو أنك فعلت ما سماه الله ورسوله شركاً، فلا ننظر إِلَى كونه وقع أو لم يقع، وإنما ننظر إِلَى ذات اللفظ حين حلفت وأقسمت بغير الله، وهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال، ومثل ذلك: الحديث الصحيح الثابت عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) كما نطبق ذلك عَلَى نفس الدرجات الثلاثة.

هل قوله: (قتاله كفر) تعني: من قتل، أو قاتل مسلماً كفر وخرج من الملة؟

لا، فاللهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] فكون الإِنسَان قَتَلَ أو قَاتَلَ مؤمناً، لا يعني أنه قد خرج من الملة، لكن هذا الذنب عظيم لأن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم سماه كفراً، إذاً عندنا الكفر الحقيقي وعندنا ما سمي كفر هو أعظم من ما لم يسمَّى كفر، وهكذا فإذا قلت: إنَّ السبَّ مجرد فسق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(سباب المسلم فسوق) فإذا آذيته فهذا فسق؛ لكنك إذا قاتلته أو قتَلْتَهُ فهذا كفر كما سماه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فهو جريمة أكبر وأشنع مما سبق، وهذا فعل الكفار، فلا يقتل الْمُسْلِمِينَ إلا الكفار -وإن كنا لا نخرجه من الملة- فهو إن قتلهم قال: أنا مسلم، وكفى بالله زَاجِرَاً لِمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ ورَسُولِهِ واليَومِ الآخِرِ.

فلو قال قائل قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) هل هو مثل القتل، أم لا؟

الجواب: لا، وهو من ناحيتين:

ص: 1171

أولاً: أن ترك الصلاة قد دلت الأدلة وأجمع الصحابة -ولا يعتد بخلاف من خالف بعد إجماع الصحابة- عَلَى أن تارك الصلاة كافراً كفراً يخرج من الملة.

والشيء الثاني: -كما في نفس اللفظ- فرق بين قوله: (قتاله كفر)، وقوله:(بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) الكفر المعرف هذا غير قوله: (قتاله كفر) .

ولهذا يجب أن نفهم ألفاظ ديننا فبعض النَّاس يخلط بين هذا وذاك، تجده لا يفقه نصوص الوعيد، ولا يفقه كلام العلماء، فإذا قال العلماء: هذا الفعل شرك، قَالَ: أنت تحكم عَلَى هَؤُلاءِ بأنهم مشركون، وفرق بين قوله:(هذا الفعل شرك) وبين قوله: (هَؤُلاءِ مُشْرِكُونَ) ، فلهذا لا مجال للغلو فيه كما فعلت الخوارج حين جعلوا مجرد ارتكاب المعصية كفراً، وهذا لا يجوز لأنه من المروق في الدين والغلو فيه، ولا مجال أيضاً للاستهانة بالأوامر، وبما حرم اللهُ سبحانه وتعالى وارتكاب حدود الله بحجة أن هذه لا تخرج من الملة؛ بل يجب أن نعرف حقيقة وعيد الشارع وألفاظ الشرع ونتقيد بها، وتظهر مقتضياتها في حياتنا، هذا الوجه الأول.

الوجه الثانية: اعتقاد ذلك الذي يقول "بحق نبيك أو بحق فلان" أنَّ لأحدٍ عَلَى الله حقاً، يقتضي أن يدعوه وأن يسأله به، فجعل ذلك الحق من الوجوب والتأكيد كما لو كَانَ من أسماء اللهِ سبحانه وتعالى وسيبدأ المُصْنِّف بالموضوع من أوله وسيأتي بتفصيل كلام العلماء في كلمة "الحق" وما تحتمله من معاني.

كلمة " بحق فلان " وضلال المعتزلة فيها

ص: 1172

نبدأ بقضية الحق من أولها، لأن هذه الكلمة لا يعرفها النَّاس حق المعرفة، عندما نقول:"حق فلان عَلَى الله"، أو "حق فلان عند الله" والمعتزلة تَعرِفون ضلالهم وهو قولهم: إنه يجب عَلَى الله أن يعاقب المسيء نعوذ بالله كيف يجرأ لسان أو فم أو قلب أن يوجب عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى شيئاً الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والذي عنده خزائن كل شيء وله الأمر والخلق، ولا معقب لحكمه ولا رادّ له ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ومع ذلك يقولون: يجب.

ولهذا كما سبق لما أنكروا الشَّفَاعَة، قالوا: كيف نثبت الشَّفَاعَة في إنسان عصى الله وتذهب المعصية هكذا، لا، بل يجب عَلَى الله أن يعذبه -والعياذ بالله- وهَؤُلاءِ حجروا رحمة الله، وهو سبحانه وتعالى قد كتبها وجعلها سابقة لغضبه.

فيقول المُصْنِّف رحمه الله: ليس لأحد عَلَى الله حق إلا ما أحقه عَلَى نفسه، ولا يفرض أحد عليه حقاً، بل هو من كمال عدله جعل ذلك وإلا لو شاء لفعل غير ذلك، ومن الذي يحاسبه أو يؤاخذه أو يقول: لم فعلت؟ لا أحد، فكل الخلق نواصيهم بيده سبحانه وتعالى.

ص: 1173

ثُمَّ من هذا الذي عَبَدَهُ فاستحقَّ بعبادته أن يكون له حق واجب عَلَى الله سبحانه وتعالى، فلو نظرنا إلى هذا العابد: من الذي خلقه وهداه وأطعمه وسقاه وقواه وعلمه هذه العبادة؟ لوجدنا أنَّهُ اللهُ سبحانه وتعالى، إذ الفضل أولاً وأخيراً لله وحده، فمن أين يكون لأحد حق عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى؟ لكن مِنْ رحمةِ اللهِ وفضله وعدله وهو الذي لا يظلم أحداً، وأخبرنا بذلك ويخاطبنا بهذا النداء ونحن العبيد الضعفاء المخلوقين:(يا عبادي: إني حرّمتُ الظلم عَلَى نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فلو أن من يظلمون خلق الله بأي نوع من أنواع الظلم، فطنوا إِلَى هذا المعنى الذي يقوله الله تَعَالَى في هذا الحديث القدسي، حرَّمَ الظلم عَلَى نفسه.

فهل يرضى منك أيها المخلوق أن تظلم مخلوقاً غيرك، وقد حرمه الذي له الفضل عَلَى كل أحد من كل وجه، وفي كل لحظة؟! لا والله؛ لكنهم ما قدروا الله حق قدره، ولم يعلموا عقوبته، ولهذا تجد الْمُسْلِمِينَ يفتري بعضهم عَلَى بعض، ويظلم بعضهم بعضاً عافانا الله وإياكم.

ص: 1174

والله تَعَالَى هو الذي أوجب عَلَى نفسه وحرم عَلَى نفسه ما يريد فَيَقُولُ: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] وقَالَ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] وقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9] فإذا وجدنا أناساً غير منصورين -كحالنا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ اليوم- فمعنى ذلك أنا لسنا بمؤمنين إيماناً نستحق به الوعد كما قال تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] وفي الواقع اليوم الْمُسْلِمُونَ هم من أرذل الأمم إن لم يكونوا أرذلها في المجامع والمحافل العالمية، لأننا لسنا من الإيمان بالصفة التي نستحق أن نكون بها الأعلين، ويقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] ونجد الآن أن الكفار متسلطين عَلَى المؤمنين، لأنهم ليسوا من الإيمان بحيث يستحقون ذلك، وهكذا قس ما شئت، والحديث الثابت في الصحيحين لما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: يا معاذ أتدري ما حق الله عَلَى عباده؟

قَالَ: قلت: الله ورسوله أعلم.

قَالَ: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً) .

وأعظم حق له جل شأنه عَلَى عبيده هو التوحيد قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] الآية.

أو وصية من الوصايا: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً؛ ولهذا لما رتب الله الحقوق جعل أعظم حق هو التوحيد، وقال بعد ذلك: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً لأن الحق الثاني بعد حق الله حق الوالدين.

ثُمَّ قال صلى الله عليه وسلم: (أتدري ما حق العباد عَلَى الله إذا فعلوا ذلك؟

قال قلت: الله ورسوله أعلم.

قَالَ: حقهم عليه أن لا يعذبهم)

ص: 1175

فجاءت هنا كلمة "الحق"، فمعنى ذلك كما يقول المصنف:[فهذا الحق وجب بكلماته التامة، ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحق عَلَى الله شيئاً، كما يكون للمخلوق عَلَى المخلوق] فالمخلوق ممكن أن يستغني عنه ولكن لا غنى للمخلوق عن الله سبحانه وتعالى.

التوسل المشروع

وهو ماذكر في الفقرة الثالثة، وهذا النوع من التوسل لا خلاف فيه وَلله الحمد بين العلماء بل هو الذي ينبغي أن نتوسل به إِلَى الله تَعَالَى بعد توسلنا إليه بأسمائه الحسنى. كما علَّمنا ربنا تبارك وتعالى وأخبرنا عن حال أولي الألباب الذين قالوا: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:193] وهذا العمل الصالح هو أعظم الأعمال، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي العمل أفضل؟ قَالَ:(إيمان بالله وبرسوله) فهذا هو العمل المتوسل به والمطلوب في هذا التوسل هو رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193] ومثل هذا في القُرْآن والسنة كثير، وسوف نذكره إن شاء الله في موضعه.

والمقصود أنه يبقى نوعان من التوسل هما اللذان فيهما الإجمال أو الإشكال، النوع الأول كقوله:"اللهم بحق نبيك" أو "بحق الشيخ فلان" أو "بحق الوالي فلان"، وهو يقصد بذلك: أن يقسم عَلَى الله تعالى بهذا المتوسل به، وهذا فيه محذوران كما تقدم، ويأتي بعد ذلك إن شاء الله تفصيل الكلام في النوع الثاني.

يقول المُصْنِّف رحمه الله: [فإن الله هو المنعم عَلَى العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم وترك تعذيبهم معنىً لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به؛ لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً] .

ص: 1176

والمقصود بهذا النوع في الحديث: (لا يعذبهم) من حقق كمال اليقين وكمال الإخلاص، وفي الوقت نفسه لم يأت بكبائر الذنوب التي تضعف ذلك وتوهنه. والأحاديث التي وردت في فضل قول:"لا إله إلا الله" عَلَى نوعين:

النوع الأول: التي تدل عَلَى أن من قال: "لا إله إلا الله" عَلَى الروايات المطلقة، والروايات المقيدة (خالصاً من قلبه) أو (غير شاك) ، وأمثالها دخل الجنة.

والنوع الثاني: التي تدل عَلَى أن من قال: "لا إله إلا الله" حرم الله عليه النَّار كما في حديث عتبان الطويل وفيه (فإن الله حرم عَلَى النَّار من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) .

والوعد بدخول الجنة ليس معناه أنه لا يدخل النَّار إذ يحتمل أن يدخل النار، ثُمَّ يخرج منها، لأنه من أهل التوحيد -كما سبق معنا في أبواب الشَّفَاعَة الماضية-، أما النصوص التي جاءت بتحريم النَّار عليه كما في قوله:(فإن الله قد حرم النار) وقوله: (إلا غفرت لك ولا أبالى) وأمثال ذلك مما جَاءَ فيمن حقق التوحيد فإنها تفيد معنى آخر.

وهو أن الذي حرم الله تَعَالَى عليه النَّار لاشك أن توحيده ويقينه وإخلاصه وصدقه أعظم من ذلك الذي جَاءَ فيه الوعد بأنه يدخل الجنة.

وحديث معاذ قوله: (حقهم عليه أن لا يعذبهم) من النوع الثاني ومثل حديث عتبان رضى الله تَعَالَى عنه الذي يفيد أن من حقق التوحيد يحرم عَلَى النار، وهذا كما ذكر شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله: أن هذا الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأتي بهذه الشهادة مع اليقين والإخلاص والصدق، ولم يأتِ معها بسيئات تضعفها أو توهنها، وهذا يحتمل في حقه حالتين:

الحالة الأولى:

ص: 1177

أن يكون شهد أن لا إله إلا الله بهذا اليقين والإخلاص والصدق وحقق سائر الشروط، ثُمَّ ظلَّ يقوي إيمانه ويجاهد نفسه وكلما أرادت نفسه أن تضعف درجتها ومنزلتها في التوحيد والإيمان قواها، فلقي الله سبحانه وتعالى وهو لم يزل عَلَى تلك القوة في الإيمان وفي تحقيق الشهادة، فلذلك حَرُمَ عَلَى النَّار.

الحالة الثانية:

ارتكب المعاصي ثُمَّ حقق شروط التوحيد: كمن ارتكب من الموبقات والذنوب والمعاصي ما شاء الله سبحانه وتعالى، وعند قرب الموت تاب توبة نَصوحاً، وشهد أن لا إله إلا الله بيقين وصدق وإخلاص، وحقق شروطها، لقي ربه سبحانه وتعالى وهو لم يقارف ما يوهنها من كبيرةٍ أو إصرارٍ عَلَى صغيرة، فهذا حاله يكون من النوع الأخير وهو الذي (حرم الله عليه النَّار) ومن هذه الطائفة السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهَؤُلاءِ هم قمة وذروة من حقق التوحيد من المؤمنين، وبهذا نعرف حقيقةُ مذهبِ السلف الصالح رِضْوُانُ اللهِ تَعَالَى عليهم، ومباينته لما كَانَ عليه الخوارج والمعتزلة من جهة، والمرجئة من جهة أخرى، عافانا الله وإياكم من الضلال.

التوسل الممنوع

ثُمَّ يقول المصنف: [لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً] أي: أن السبب هو ما جعله الله تبارك وتعالى سبباً، لا ما يتوهمه النَّاس سبباً، فترك تعذيب أهل التوحيد معنى من المعاني لم يجعله الله تَعَالَى سبباً من الأسباب التي نتوسل بها إليه، بل هو مسألة أجنبية بعيدة فقول القائل:"بحق فلان" أو "بجاه فلان" أما النبي صلى الله عليه وسلم فله جاه عند الله تبارك وتعالى ومنزلة عظيمة، لكن هذا القائل أجنبي عن هذا الجاه وعن هذه المنزلة.

ص: 1178

وقد وعد اللهُ تَعَالَى أهل الخير والصلاح والتقوى بالأجر العظيم، فما شأن هذا القائل عندما يتوسل إِلَى ربه بمنزلة غيره؟! وما العلاقة؟! لِمَ يسأل الله بعمل غيره والله سبحانه وتعالى جعلنا جميعاً عبيداً له، وافترض علينا عبادته وطاعته، وجعل لنا أسباباً مشروعة هي الوسيلة إليه سبحانه وتعالى، وأمرنا أن نبتغي إليه الوسيلة بها، وهي توحيده جل وعلا وطاعته، وشرع لنا ما نتوسل به إليه وهي أسماؤه الحسنى، وكذلك الأعمال الصالحة عَلَى ما يأتي تفصيله إن شاء الله، ولكن المقصود هنا أن السبب هو ما جعله الله تَعَالَى سبباً لا ما جعله النَّاس أو توهموه أنه سبب، وهذا من القول عَلَى تَعَالَى بغير علم، أن يظن بعض النَّاس أن منزلة فلان عند الله تشفع للأجنبي فلان بن فلان!!

أما إذا قال قائل: "اللهم إني أتوسل إليك بمحبتي أو باتباعي لرسولك صلى الله عليه وسلم " لم تعد القضية علاقة أجنبية؛ بل أصبح هناك رابطاً لأن اتباعه ومحبته للرَسُول صلى الله عليه وسلم من عمله، وهو في هذه الحالة يتوسل إِلَى ربه بعمله الذي عمله، وهو محبته له صلى الله عليه وسلم واتباعه له، وهذه هي الوسيلة المشروعة التي شرعها الله تبارك وتعالى، والتي وصف بها أولياءه في القُرْآن بأنهم يتوسلون إليه بالإيمان به وبطاعته.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إِلَى الصلاة (أسألك بحق ممشاي هذا، وبحق السائلين عليك) فهذا حق السائلين، هو أوجبه عَلَى نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يُجيبهم، وللعابدين أن يُثيبَهم، ولقد أحسن القائل:

ما للْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌ وَاجِبٌ كَلَاّ وَلا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ

ص: 1179

إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أو نُعِّمُوا فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكَرِيمُ السامِعُ

فإن قيل: فأيُّ فرقٍ بين قول الداعي: (بحق السائلين عليك) وبين قوله: (بحق نبيك) أو نحو ذلك؟ فالجواب أن معنى قوله: (بحق السائلين عليك) أنك وعدت السائلين بالإجابة، وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي، بخلاف قوله: بحق فلان، فإن فلاناً وإن كَانَ له حقٌ عَلَى الله بوعده الصادق، فلا مُناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل: فكأنه يقول: (لكون فلانٍ من عبادك الصالحين أجب دعائي) وأي مناسبة في هذا وأيُّ ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، ولا عن أحدٍ من الأئمة رضى الله عنهم، وإنما يُوجَد مثل هذا في الحُروز والهياكل التي يكتبها الجُهَّال والطُّرقية.

والدعاءُ من أفضلِ العبادات، والعباداتُ مبناها عَلَى السنة والاتباع، لا عَلَى الهوى والابتداع] اهـ.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه الإمام أَحْمَد في المسند وكذلك ابن ماجه عن فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد والحديث في إسناده كلام.

الكلام على الحديث سنداً

أولاً: فُضيل بن مرزوق ضعيف.

ثانياً: فيه عطية العوفي، وفيه يقولُ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ:"إنه ضعيف باتفاق العلماء" أي: أنه لم يوثقه أحد من العلماء إلا الحافظ ابن حجر رحمه الله قَالَ: "إنه صدوق كثير الخطأ والأوهام"، ثُمَّ قَالَ:"كان شيعياً مدلساً"، وكيف كان مدلساً؟

ص: 1180

ذكر ذلك الشيخ الأرناؤوط ناقلاً عن ابن حبان قوله -وهو من كلام الإمام أَحْمَد عندما سُئل عن عطية - قَالَ: سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث، فلما مات جعل يجالس الكلبي ويحضر قصصه، وكان الكلبي من القصاص المشهورين بذلك، فإذا قال الكلبي: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فيحفظه عطية ورواه عن الكلبي مكنياً له بأبي سعيد فَيَقُولُ: عطية حدثنا أبو سعيد والنَّاس يعلمون أنه لقي أبا سعيد الخدري الصحابي المشهور رضى الله تَعَالَى عنه، بينما هو في الحقيقة رواه عن أبي سعيد الكلبي.

وهذا نوع من شر أنواع التدليس؛ لأنه بمنزلة الكذب فهو يوهم السامع بأنه رواه عن ذلك الصحابي وأن الحديث محفوظ ومتصل وهو في الحقيقة ليس كذلك. وكفى بهذا الطعن رداً لهذا الحديث، والحديث لم يأت إلا من هذه الطريق، فهو لا يصح.

الكلام عليه متناً

ثُمَّ نقل المُصْنِّف رحمه الله كلام شَيْخِ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ الموجود في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة قَالَ: [فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي " بحق السائلين عليك " وبين قوله: "بحق نبيك أو نحو ذلك" فالجواب أن معنى قوله: " بحق السائلين عليك" أنك وعدت السائلين بالإجابة وأنا من جملة السائلين] نفترض صحة الحديث، فإذا سأل العبد الله تَعَالَى بعمل عمله هو ويظن عند نفسه أن هذا العمل خالص لِوجه الله سبحانه وتعالى، وأنه خرج من بيته متطهراً يبتغي وجه الله، ورضوانه، إِلَى بيت من بيوت الله فيتوسل إِلَى الله بهذا العمل فَيَقُولُ:"أسألك بحق مماشى هذا" فهو يسأل الله بعمل له صالح.

ص: 1181

ثُمَّ يقول: [وبحق السائلين عليك] ، وهو أحد السائلين، وعطفهم عَلَى عمله الذي عمله بنفسه فهذا لا يماثل من قَالَ:"أسألك بحق فلان" لأنه كما ذكر المُصْنِّف هنا لا مناسبة ولا ملازمة ولا علاقة بين هذين الأمرين فيقول المصنف: ففي قوله:"أسألك بحق ممشاى هذا وبحق السائلين عليك" هذا حق السائلين هو الذي أوجبه سبحانه عَلَى نفسه فهو الذي أحق لهم أن يجيبهم، وللعابدين أن يثيبهم.

والمصنف رحمه الله بنى الكلام عَلَى أساس افتراض صحة الحديث، والحديث غير صحيح فكلام المُصْنِّف هنا يجب أن يعلق عليه بأن الحديث غير صحيح وأن هذا الكلام عَلَى فرض صحته زيادة من علماء السنة رحمهم الله تَعَالَى في نفي أي استدلال لأهل البدعة بأي وجه من الوجوه، فأجابَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ بهذا الكلام الذي لخصه المُصْنِّف هنا:

وهو أن الحديث لا دلالة فيه حتى عَلَى فرض صحته، ثم ذكر في ذلك قول الشاعر:

ما للْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌ وَاجِبٌ كَلَاّ وَلا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ

نعم، ليس لأحدٍ من الخلق عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى حق واجب، وكذلك لا سعي ضائع لأحد منهم، لأنه سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة كما قَالَ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] وقال أيضاً: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] فهذا ميزانه سبحانه وتعالى، وهذه معاملته لعباده:"إن عذبوا فبعدله" فالله سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة ولن يعذب الله تبارك وتعالى أحداً، إلا وهو مستحق لذلك.

فإن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله سبحانه وتعالى، فهو الذي أعطاهم الهداية، وهو الذي وفقهم لكل خير وصلاح.

ص: 1182

فالخير من الله سبحانه وتعالى، وهو الذي أعطى الإِنسَان خلقه، وعافاه وهداه للإيمان، وأنعم عليه بنعمه ظاهرةً وباطنه، فإذا عبده العبد، أو أطاعه بأي أمر من الأمور فالفضل له أولاً وآخراً سبحانه وتعالى.

ولو أن الله تبارك وتعالى لم يجعل لعباده من الجزاء والإفضال مقابل ما يقدمونه من طاعات إلا ما أنعم به عليهم من النعم في هذه الحياة الدنيا، لكان الفضل أيضاً لله سبحانه وتعالى؛ لأن عبادةَ هَؤُلاءِ الخلق لا تكافئ أن تكون مقابل بعض نعمه سبحانه وتعالى التي تفضل بها عليهم، فكيف وهو جل شأنه الذي يمد الإِنسَان بالقوة والعافية والهداية، ثُمَّ يثيبه عَلَى ما يعمل من طاعات، وَهو الذي وفقه لها بجنةٍ عرضها السماوات والأرض خالداً فيها أبداً، هذا غاية الكرم ولا أحد أكرم منه سبحانه وتعالى فلهذا قال الشاعر:

إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أو نُعِّمُوا فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكَرِيمُ السامِعُ

ولو أنه قَالَ: "وهو الكريم الواسع"، لكان أولى من ناحية المعنى لأن الواسع ورد في القُرْآن إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115] وهو سامع أيضاً سبحانه وتعالى، لكن ما دام أن القافية تصح مع ما ورد فأظن أن ذلك أولى.

فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: "بحق السائلين عليك" وبين قوله: "بحق نبيك" وأهل البدعة يأتون بمثل هذا الحديث. ويقولون: "إن الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله قد ذكر هذا الحديث في كتابه آداب المشي إِلَى الصلاة فالشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب يقر التوسل الذي -أنتم أيها الوهابيه - تنكرونه وتسمونه بدعياً"! فأنتم حتى خارجون عن الوهابية.

وهذا الذي يريد أهل البدع أن يقولوه، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ عَلَى فرض صحة الحديث أن هناك فرق بين قول القائل "بحق السائلين عليك" وبين قوله:"بحق نبيك" صلى الله عليه وسلم أو "بحق فلان من الناس".

ص: 1183

يقول المصنف: [فالجواب أن معنى قوله "بحق السائلين عليك" أنك وعدت السائلين بالإجابة وأنا من جملة السائلين فأجب دعائي] فهو في حالة سؤاله يسأله بحق السائلين، وهو منهم فهو لم يسأل بأجنبي، فَيَقُولُ: إنما أنا من جملة السائلين فأجب دعائي، فهنا صلة بين المتوسَّل به، وبين المتوسِل.

أما قوله: " بحق فلان أو بحق فلان من النَّاس " فإن فلاناً وإن كَانَ له حق عَلَى الله بوعده الصادق سبحانه وتعالى فإنه لا مناسبة بين حق فلان الذي وعده الله تَعَالَى به وبين الداعي، ولهذا بين المُصْنِّف أن هذا الداعي المبتدع كأنه يقول:[لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي] وهذا حقيقة ما يريدون أن يقولوه، ولا ملازمة، ولا مناسبة، ولا علاقة بين هذا وبين ذاك، فعباد الله الصالحين كثر، فمنهم الملائكة المقربون عنده، ومنهم الأَنْبِيَاء والرسل والشهداء وعباد الله الصالحين، وكلهم عبيد لله سبحانه وتعالى، كما قَالَ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93] فهذا هو حالهم جميعاً وهذا السائل من جملة المطالبين بالعبودية لله، والعبد مطلوب منه أن يعبد الله، وأن يتوسل إليه بما شرع من أعمال الخير، والطاعات وعلى رأسها التوحيد وعدم الابتداع.

ثُمَّ قال المصنف: [وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]] .

ووجه الاعتداء فيه أنه دعا بأمر غير مشروع وجعل سبباً لم يجعله الله تبارك وتعالى سبباً، وتوسل بما لم يجعله الله تبارك وتعالى وسيلة.

ص: 1184

ثُمَّ يقول: [وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، ولا عن أحد من الأئمة رضى الله عنهم] وهذا صحيح، فلا يوجد نقل صحيح يُثبت ذلك، وإنما نقل من بعض الكتب التي تروي الموضوعات أو الواهيات كما ورد شيء من ذلك في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم، وفي تاريخ ابن عساكر.

وذكر بعضاً منها شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله تَعَالَى في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة وبين وجه بطلانها، وعدم صحتها، كما ينقل عن عبد الله بن الزبير أنه قَالَ: أسألك بحرمة هذا البيت العتيق وبحق الطائفين أن تزوجني فلانة، وهذه الرواية بعينها لم تصح، وغير هذا مما هو مشهور في كتب الأدب، ولا يصح ولا يمكن أن يحصل هذا عن أحد من السلف وإن حصل فالعبرة بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل البدع يتمسكون بمثل هذه الأمور ليوقعوا النَّاس في الشرك الأكبر.

ثُمَّ يقول رحمه الله: [وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرقيه] ، ومثل هذا مما هو موجود في كتب السحر والشعوذة التي فيها الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة بمردة الشياطين وملوكهم والتقرب إليهم بأنواع العبادات -عافنا الله من ذلك- وإذا كَانَ مَنْ يتوسل بحق النبي صلى الله عليه وسلم، أو بحق أي رجل صالح يكون توسله بدعياً، لا يصح ولا يُقبل الدعاء به! فما بالك بمن يتوسل بالشياطين المردة، الذين يتقرب إليهم هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ بأنواع من العبادات التي لا تجوز إلا لله سبحانه وتعالى؟! وإذا سُئِلَ هذا المشرك المتقرب إِلَى هَؤُلاءِ الشياطين ماذا تفعل؟ قَالَ: هذا خادم لي أو هذه خادمة -أي: الشيطان- ولو سُئِلَ الشيطان المارد أيضاً لقال: هذا خادم لي -يعني: الإنسي- فكل منهما يخدم الآخر هذه هي الحقيقة.

ص: 1185

ولهذا في يَوْمِ القِيَامَةِ إذا تجلت الحقائق، وانكشفت ولم يعد هنا مجال للكذب، والإنكار والافتراء فإنهم يقولون: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128] ، وكما هو ملاحظ أنه كلما كثرت عبودية، وتعلق النَّاس بهَؤُلاءِ -الذين يسمونهم سادة أو أولياء وهم مشعوذون دجالون- تكثر الأمراض ويكثر دخول الجن في بني آدم ويكثر أذية الجن للناس لأنهم يزيدونهم رهقاً وخوفاً، وأذىً، حتى ظفر أُولَئِكَ بمزيدٍ من العبودية لأوليائهم الذين هم واسطة بين هَؤُلاءِ النَّاس المخدوعين العوام، وبين ذلك الطاغوت من طواغيت الجن الذي يعبد ويعظم من دون الله سبحانه وتعالى.

مروجو الأدعية المبتدعة هدموا العقيدة والحياة

الطرَّقية: نسبة إِلَى الطرق، والطرق الصوفية من أسباب تدهور الْمُسْلِمِينَ في العقيدة؛ وفي الحياة والعلم؛ لأن الإيمان بهذه الحروز والهياكل يدمر العقيدة فيجعل الإِنسَان مشركاً يعبد ويخاف، ويرجو غير الله، ويقضي كذلك عَلَى الحياة؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرع لنا الأسباب التي بها ندفع العدو، وبها نتقي الأمراض،

فالأمة التي لا تتعلق بهذه الخرافات تقوي نفسها وتعد ما استطاعت من قوة لمواجهة عدوها، وكذلك تتعلم ما ينفعها من العلوم كالطب وأمثاله، لكن عندما لجأوا إِلَى هَؤُلاءِ الطرُّقية أصبحوا يستدفعون الأعداء، ويستجلبون النصر عليهم بهذه الحروز والهياكل، فلا إعداد بعد ذلك ولا جهاد ولاصناعة حربية! لأن الأمر بيد هَؤُلاءِ الشياطين والعفاريت! فإذا قدم عليهم عدو توسلوا بقبر فلان ولاذوا بالولي فلان: كما قال قائلهم:

يا خائفين من التتر لوذوا بقبرأبي عمر

ص: 1186

ويأتي هولاكو بجيش عرمرم ويفعل تلك المجزرة الرهيبة، ويأتيقازان ومن بعده بجيوش يدكون بها بلاد الْمُسْلِمِينَ، وهَؤُلاءِ يقولون: إذا خفتم من التتر لوذوا بقبر أبي عمر! وما ذلك إلا لأنهم تركوا ما أمروا به وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] .

هكذا أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين وهكذا كَانَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده يمتثلون ذلك، فلم يكونوا يعلقون أحرازاً وتمائم ولو كانت من القرآن؛ لأنهم يعلمون أن هذه أمور لا تجوز ولأنها دمار الحياة والعقيدة.

وعندما تفشت الأمراض بين الْمُسْلِمِينَ في العصور الأخيرة كالجدري وغيره من الأوبئة وكانت تأخذ من النَّاس بالآلاف وربما بالملايين لم يأخذ الْمُسْلِمُونَ بالأسباب المشروعة كالأدعية الصحيحة، أو الرقى المشروعة، أو تعلم الطب الصحيح أو غيرها بل لجأوا إِلَى أصحاب الأحراز والهياكل، وتعلقوا بما يعطونهم من حروز وهياكل، بل واتبعوهم وامتثلوا أوامرهم التي تجانب الكتاب والسنة صراحة.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

[وإن كَانَ مراده الإقسام عَلَى الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق عَلَى المخلوق لا يجوز فكيف عَلَى الخالق؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد أشرك " ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك حتى كرهأبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه، وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك.

ص: 1187

ومراده لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضاً محذور، فإنه لو كَانَ هذا هو التوسل الذي كَانَ الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عُمَر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه: بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كَانَ ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس] اهـ.

الشرح:

صور التوسل تنحصر في ثلاث صور إما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بحق نبيك، أو بجاه نبيك مثلاً، أو بجاه فلان من النَّاس عندك.

وإما أن يقول: أسألك باتباعي لنبيك، أو بمحبتي له.

ص: 1188

وسبق أن قلنا: إن الإِنسَان إذا قَالَ: اللهم بحق نبيك، هكذا مجملة من غير أن يأتي بالفعل "اعطنا كذا" "اغفر لي" -أو بحق أي مخلوق- يحتمل الأمر وجهين: أن يكون سؤالاً وأن يكون إقساماً، فعلى هذا يكون الجاه "بحق" متعلقة بأي شيء لنقدر الفعل "أسأل" فكأنه قَالَ: اللهم إني أسالك بحق فلان، وإذا كانت كذلك كَانَ الاحتمال الآخر فكان الجاه متعلقه بفعل هو "أقسم" فكأنه يقول: أقسم عليك يا ربي بحق فلان، سواءً كَانَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، أما إذا كَانَ الإقسام سؤالاً بالحق كَانَ يقول رجل: اللهم إني أسألك بحق نبيك مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أو بحق فلان من النَّاس عندك أن تغفر لي فهذا الوجه من التوسل البدعي إذ لا مناسبة ولا علاقة بين كون هذا الرجل له حق عند الله سبحانه وتعالى، وبين أنك أنت ذلك الأجنبي البعيد تدعو الله أو تسأله بحق فلان عندك، ما العلاقة بينك وبين فلان؟

فاللهُ تَعَالَى له عباد طائعون وله عباد عاصون، وله أولياء وله أعداء، ويجازي هذا بطاعته وبتقربه ويجازي ذلك بمعصيته.

فما العلاقة أن مقصراً أو عاصياً يقول: يا رب! أسألك بحق فلان -عبدك الذي أطاعك- أن تغفر لي. ما العلاقة بينهما؟ إن هذا الشيء محذور وبدعي؛ لأنه لا يثبت أصلاً لأحد عَلَى الله حق، وإنما كتب الله سبحانه وتعالى ذلك عَلَى نفسه، وجعله حقاً يجازي به ذلك المحسن، فما علاقة المسيء الذي يريد أن يدعو ربه من خلال حق فلان عنده؟ هذا هو الوجه الأول.

ص: 1189

وقد استطرد المُصنِّفُ في الكلام السابق وتعرض لحديث: (أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين) وقد بينا أن هذا الحديث لا يحتج به ولا يثبت بحال من الأحوال، وعلى تقدير ثبوته فإنه لا وجه فيه للاستشهاد، لأن قوله:(بحق ممشاي وبحق السائلين) يدخل في عمل العبد نفسه، وأنه عمل المشي، وهو من جملة السائلين فهذا لا يدخل ولا يصلح دليلاً لما يستدلون به عَلَى جواز أن يقول الإِنسَان: أسألك بحق فلان؛ لأن كون الإِنسَان من جملة المجاهدين أو الحاجين أو المصلين، ويسأل الله تبارك وتعالى بذلك، هذا أقرب إِلَى أن يكون التوسل مباحاً؛ لأنه هو الذي عمل هذه الطاعة فهو يرجع في الحقيقة إِلَى النوع الثالث المباح الذي سوف نبينه إن شاء الله، وهو أن يسأل الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح، أو باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته، وهذا لا خلاف في جوازه، بل هذا هو كل العبادة وهذه حقيقة العبادة، وهي ابتغاء الوسيلة إِلَى الله تبارك وتعالى.

ثُمَّ ذكر المُصنِّفُ أن هذه الأدعية البدعية توجد في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرُّقية وسبق أن التوسل الموجود فيها هو في الحقيقة من النوع الشركي؛ لأنه توسل بأسماء مجهولة، وهي في الغالب أسماء شياطين من الجن، يتقرب إليهم أصحاب الهياكل والحروز بهذه التوسلات، وغيرها من أنواع التعبدات، في مقابل أن يقدموا لهم أي خدمة، كَانَ يدخلوا في إنسان ثُمَّ يتركوه، أو يعطوه أمراً كخبر عن غائب، المهم أن يخدموه في أي قضية من القضايا التي هي من باب الاستمتاع الذي ذكره الله تبارك وتعالى.

الدعاء من أفضل العبادات

ص: 1190

ختم المُصْنِّف هذه الفقرة بقوله: [والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها عَلَى السنة والاتباع، لا عَلَى الهوى والابتداع] وحينما يكون دعاء أكثر الْمُسْلِمِينَ الذين وقعوا في هذه البدعة "اللهم وبجاه نبيك" أو "بحق نبيك" كلما جلس أو قام، وكلما تذكر أن له حاجة، يتحول الأمر إِلَى اعتداء وابتداع، في حين أن الأدعية المشروعة المأثورة في القُرْآن والسنة كثيرة جداً، ومع ذلك فالدعاء المباح بابه واسع.

وكون الدعاء من أفضل العبادات يدل له أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الدعاء هو العبادة) فحقيقة العبادة بجميع أنواعها هي التقرب إِلَى الله لنيل رضاه واجتناب سخطه هذه هي: التي من أجلها يسعى الساعون جميعاً، من الأَنْبِيَاء والملائكة إلى أدنى عباد الله، هذا هو غايتهم، إذاً فالدعاء هو العبادة، والعبادة هي الدعاء في حقيقتها.

والله تبارك وتعالى هو الذي شرع لنا الدين، وأمرنا بعبادته، وجعل لنا هذا الطريق المشروع الواضح إليه، وأرسل رسله ليبينوه، فهل يضيِّقون علينا طريق دعائه، وطريق الوسيلة إليه، فلا يكون إلا عن طريق التوسل بالذوات المخلوقة، قلنا: هذا لا يمكن. وقد ذكر الشيخ مُحَمَّد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان هَؤُلاءِ الجُّهال عند تفسير قوله تَعَالَى من سورة المائدة: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] قَالَ: وليست الوسيلة ما يزعمه جهال الملاحدة من الصوفية وأمثالهم أنها الواسطة، وبين أن من الوسيلة هي: العمل الصالح فقوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي: تقربوا إليه وتوسلوا إليه سبحانه وتعالى بما شرع.

وكما بين المصنف: أن العبادات مبناها عَلَى السنة والاتباع فنتقرب إليه سبحانه وتعالى ونتوسل إليه بالاتباع بما شرع، لا بالأهواء والبدع.

ص: 1191

ثم انتقل المصنف رحمه الله إلى الاحتمال الثاني: وهو أن يقول الرجل: اللهم بحق فلان أعطني كذا، أو اللهم بحق نبيك محمد صلى الله عليه وسلم اغفر لي ذنبي أو اشفِ مريضي أو ما أشبه ذلك، فإذا قالها هذا الرجل، وهو يقصد الإقسام على الله بحق النبي صلى الله عليه وسلم، أو بحق أي مخلوق يظن أنه من الأولياء لله المقربين عنده سبحانه وتعالى.

يقول المصنف: [وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز فكيف على الخالق؟] أي أن مجرد أن يقسم إنسان بأي شيء مخلوق لا يجوز، بل هو شرك قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، فكيف إذا كان الإقسام على الله؟!

فإنه يتضاعف الإثم والكبيرة، ومن ذا الذي يقسم على الله ويتألى عليه بحقه أو بحق أحد من خلقه، هذا فيه زيادة اعتداء فهو يجمع بين أنه إقسام وحلف بغير الله، وبين ما فيه من الاعتداء، وهو أنه على الله سبحانه وتعالى لا على أحد من خلقه،

يقول: [وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ] أو فقد: (فقد كفر) على روايتين، وبيِّنا أن الحالف بغير الله تبارك وتعالى إن كان معتقداً تعظيم المحلوف به ومساواته بالله تعالى، وأنه يقسم به لأنه في منزلة من التعظيم، كما لو أقسم بالله فهذا يكون من الشرك الأكبر، لأن هذا هو العدل والتسوية والندِّية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً [البقرة:165]، وفي الآية الأخرى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] .

ص: 1192

وفي الآية الثالثة إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين [الشعراء:98] فالمصيبة التي وقع فيها المسلمون في هذا الباب: أنهم أصبحوا يحلفون بالولي أو بالشيخ، مع اعتقاد أن له التصرف في الكون، وأنه يضر أو ينفع؛ بل يعتقدون أنه يحيي ويمت -عياذاً بالله- ويوردون ذلك في أخبارهم عندما يتحدثون عن كرامات الشيخ وعن أحواله، أنه أحيا، وأنه أمات، وأنه اطلع على اللوح المحفوظ، وأنه تصرف في الكون إلى آخر ذلك، فلو حلف أحد بالشيخ على هذا الاعتقاد فيكون هذا النوع من الشرك الأكبر، أما الشرك الأصغر فهو شرك الألفاظ، وندِّية الألفاظ كـ (الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما شاء الله وشئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟) ، هذا لم يجعله لله نداً في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر ولا شيء من ذلك، وإنما قرنه في اللفظ بواو العطف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله، ثم شئت) و"ثم" للتراخي تفيد أن المعطوف غير الغاية المعطوفة عليه ومتراخية عنه، لكن الواو للمصاحبة والمساواة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم نوعاً من الندِّية فقال:(أجعلتني لله نداً) لكن النوع الذي في الآيةوَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] من أنواع الشرك الأكبر؛ لأن المحبة والتعظيم والإجلال تدخل في باب الشرك الأكبر لأنها إما أن تصرف لله.

ص: 1193

وإما أن تصرف لغير الله، فتكون شركاً أكبر، وهذا مناقض للتوحيد، الذي من أجله كان الجهاد بالقرآن وبالدعوة، ثم الحرب بالسيف، وهذا يدل على أن التوحيد شأنه أعظم مما يظن هؤلاء، ومن لم يكن الله تبارك وتعالى في قلبه بالمنزلة اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى، وبربوبيته للعالمين جميعاً، فإنه لا يستحق أن يكون من أهل الإيمان، لأنه قد ارتكب الشرك المخرج من الملة عافانا الله وإياكم من دقيقه وجليله.

بعد ذلك انتقل المصنف إلى بيان المذهب، والمصنف -رحمه الله تعالى- حنفي المذهب وهو أيضاً ثقة عندما ينقل عن المذهب؛ لأنه من علمائه المتمكنين منه، فهو يكتب في بعض الأبواب ثم يعرج على المذهب ليبين ما وقع فيه أصحابه، لأن أتباع أبي حنيفة رحمه الله هم أكثر أتباع المذاهب الأربعة عدداً، في نفس الوقت يقع فيهم من الشرك ومن الأخطاء الشيء الكثير لا سيما معظمهم من العجم، وطريقة المصنف أن يأتي بمذهب السلف من آيات وأحاديث ليوضح مذهب السلف الحق، ثم يأتي بالمذهب الفقهي أبي حنيفة رحمه الله هم أكثر أتباع المذاهب الأربعة عدداً، في نفس الوقت يقع فيهم من الشرك ومن الأخطاء الشيء الكثير لا سيما ومعظمهم من العجم.

وطريقة المصنف أن يأتي بمذهب السلف من آيات وأحاديث ليوضح مذهب السلف الحق، ثم يأتي بالمذهب الفقهي لأبي حنيفة رحمه الله ولصاحبيه، ليبين أن هذا مثل هذا، وأنه لا منافاة بينهما لأن الأئمة الأربعة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- على عقيدة ومنهج السلف الصالح، فلم يكن في الأئمة الأربعة من هو مبتدع في أي باب من أبواب العقيدة والإيمان، إلا ما نقل عن أبي حنيفة في مسألة الإرجاء، وقد نقل الرجوع عنه، وهو أخف أنواع الإرجاء؛ لكن الإمام أبا حنيفة رحمة الله في الصفات من أشد الأئمة في هذا الباب حتى أنه قال: من قال: لا أدري أربي في السماء أو في الأرض فقد كفر؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .

ص: 1194

فالمؤسف أن الأمة الإسلامية لما انحرفت وضلت عبر القرون، أصبح الإنسان ينتمي إلى أي مذهب من المذاهب في الفقه فقط، وينتمي إلى أي مذهب كلامي في العقيدة، فيكون مثلاً معتزلياً في العقيدة حنفياً في الفقه، صوفياً في الطريقة؛ والمصنف هنا يأتي بكلام الإمام أبي حنيفة وصاحبيه -رضي الله تعالى عنهم- ليبين أنهم على منهجالسلف، وأن من انتسب إليهم في الفقه يجب عليه أن يكون على مذهبهم في العقيدة، والطريقة من باب أولى؛ لأن ما أحدث من الطرق الصوفية هو أكثر وأوغل في البدعة، حتى جعلوا الفقه -مع أنه يقبل الاجتهاد مع المرونة التي فيه- لا يتعلق بالتعبد، فالأئمة الأربعة وكل علماء الإسلام لم يكن لهم في التعبد إلا منهج واحد فقط، فالعبادة أوضح شيء في حياة المسلم لأنها عمل يومي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يعملونه يومياً ولذلك طبقته الأمة ونقلته بالتواتر حتى جاء هؤلاء الصوفية فغيروا طريقة التعبد في الصلوات وتلاوة القرآن وقراءة الأذكار النبوية، فكتبوا الأوراد وجعلوها كتباً عقيمة سقيمة، تحفظ غيباً ولا يفهمها أحد ولا يفقه معناها، وأرغموا بها الناس وجعلوها ورداً للطريقة تتبع ويتقرب بها إلى الله في اليوم آلاف المرات.

فهؤلاء الانتساب إليهم لا أصل له بإطلاق؛ لأن الانتساب في الفقه أصله أن رجلاً رأى إماماً من أئمة الفقه والعلم فانتسب إليه، لكن هذا ينتسب إلى أي شيء عندما يقول: أنا طريقتي شاذلي، أو قادري، أو رفاعي، ماذا عمل الشاذلي، أو الرفاعي، إن كانت عبادات وأذكار مشروعة يعملها المسلمون، فنحن والحمد لله نأخذ هذه العبادات من مصادرها الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولماذا نفرق أنفسنا فنجعل هذا قادري وهذا شاذلي وهذا رفاعي؟

من الذي شرع هذا الاسم بالذات؟ وشرع لي هذا الانتماء، وهذا الانتساب بالذات؟

ص: 1195

وإذا لقيت الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فقلت له: يا رب أنا عبدتك على الطريقة الشاذلية، فإن قبلها الله عز وجل وقال: نعم هذا هو المقبول، إذاً لن يقبل لا رفاعياً ولا نقشبندياً ولا

ولا

آلاف من الطرق، وإن قلت: يقبل الجميع، فعلام التفرقة؟

لكنهم يقولون: كلها طرق تؤدي إلى الله، سبحان الله! وهل قال الله عز وجل:"وأن هذه طرقاً تؤدي إلي" أو قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فالصراط واحد، والرسول واحدٌ أرسله الله إلينا، فكيفما تعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتعبد، وكيفما ذكر الله نذكر، وما ورد به الأمر سعة فنحن في السعة من الأذكار والحمد لله.

ويرد المصنف على هؤلاء بأن الإمام أبا حنيفة وصاحبه رضي الله عنه قالوا: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسولك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك وهذا هو المنقول عنهم، وكرهوه لأنه بدعة، والكراهية في كلام العلماء المتقدمين لا تعني بالضرورة ما اصطلح عليه الفقهاء، فكلمة: كره عند السلف كانوا يطلقونها على "الأمر الحرام" يقول أحدهم: أكره كذا، وكانوا يفعلون ذلك -رضي الله تعالى عنهم- أي التعبير بالكراهة، لأن أحدهم كان يستصعب أن يقول: هذا حرام وإن كان يعلم أنه حرام، ويعلم الناس أنه لو قال: أكرهه فإنه حرام، حتى لا يتجرأ على الله، أو يقول أحدهم: كانوا يكرهون كذا فيحيل إلى من قبله من العلماء من الصحابة والتابعين، ويفتي في ذلك ليعلم السامعون أن هذا الأمر لا يجوز، أو أنه بدعة، لكن فيما بعد أصبح من الجهال ممن يقولون على الله بغير علم من يقول: هذا حلال وهذا حرام بدون تفصيل، وبلا دليل وقد قال الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِب [النحل:116] .

ص: 1196

ولا يجوز للإنسان أن يتكلم إلا بعلم وببينة في هذا الأمر وفيما عداه، فكرهوا أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام، أو المشعر الحرام وغير ذلك، لأن كل ذلك لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، ولا على ألسنة الصحابة الكرام، بل الذي ورد إنما هو عن العرب في الجاهلية، فكانوا يقسمون بغير الله، ويسألون بغير الله، ومن جملتها السؤال بالحق، والإقسام بالحق، فيأتي الإسلام فيحرم ويمنع منعاً باتاً الإقسام أو الحلف بغير الله سبحانه وتعالى، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة الإقسام بحق أي أحد من الخلق، وهذا مما يدل على أن الأمر فعلاً بدعة الجاهلية، فهذا طرفة بن العبد صاحب المعلقة المشهورة يقول:

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدن لم أحفل متى قام غودي

لولا ثلاث حاجات منها:

سقي العاذلات بشربة كؤوس متى ما تغلى بالماء تزبد

أول شيء شرب الخمر، هذه الشربة الحمراء الأرجوانية التي إذا غليت بالماء يكون لها زبد، وهؤلاء الشعراء هم أفضل ما كانت القبائل في الجاهلية تعتد بهم، فلولا الخمر والزنى والسلب والنهب لما بالى طرفة متى يموت.

فالمقصود أن الحلف بالحق كان معروفاً عند العرب في الجاهلية، فلما كان الحلف بغير الله لا يجوز بأي حال من الأحوال، كان هذا الحلف بالحق لا يجوز كالحلف بالأمور المعظمة عند المسلمين، كأن يحلف الرجل بالكعبة أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بحق الكعبة أو بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو بحق الأنبياء أو بحق الرسل أو بحق المشعر الحرام أو ما أشبه ذلك، لأنه لم يرد عن السلف، مع أن هذه مما عظمها الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] .

ص: 1197

لكن لا يجوز أن نقسم ولا أن نحلف بغير الله تبارك وتعالى، فمن حلف بذلك أو سأل الله بذلك فلا يجوز له، لأن سؤاله هذا إن كان سؤالاً فلا يجوز، وإن كان إقساماً فهو أيضاً لا يجوز، فعلى كلا الحالين لم يرد، ولهذا كرهه العلماء رضي الله تعالى عنهم ونهوا عنه، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه، وكل العلماء الذين يعتد بقولهم في هذا الشأن لم يقل أحد منهم أن ذلك جائزاً، ولكن وُجِدَت روايات في كتب تروي الضعاف والمنكرات ولم يصح منها شيء.

أبو حنيفة وكراهيته للإقسام بشيء مخلوق

يقول المصنف: حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك] .

الإمام أبو حنيفة معروف، وصاحباه هما مُحَمَّد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف القاضي، وقول المُصْنِّف أن: أبا حنيفة ومحمد كرها أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، أما أبو يوسف فلم يكرهه لأنه بلغه الأثر فيه، وهما كرهاه لأنه لا يوجد فيه أثر، وتبقى مسألة هل صح هذا الأثر أم لا؟ الذي توصلت إليه أن هذا الأثر لا يصح.

فلا يجوز أن يسأل الله سبحانه وتعالى بمعقد العز من عرشه؛ لكن نقول: هذا لم يثبت إِلَى حد الآن بحسب علمنا أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الشيخناصر:[قلت: هو حديث مرفوع موضوع كما بينه الزيلعي في نصب الراية (4/ 203) ] يعني: كونه مرفوعاً إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم هذا موضو كما قال الشيخ ناصر، وتبقى أيضاً مسألة هل هو موقوف عَلَى أحد من الصحابة أو من كلام أحد التابعين أو من أمثالهم؟ وهذا لم يثبت، لكن لو ثبت عن صحابي أو عن تابعي فإن الحجة هي فيما يثبت عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وحده، وما صح فنحن تبع له كما فعل هَؤُلاءِ الأئمة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجمعين.

ص: 1198

يقول المصنف: [وتارةً يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة] فأقول: أسألك بجاهه عندك أن تغفر لي وترزقني وتحفظني إِلَى آخر ما يدعو به النَّاس كثيراً في هذه الأيام، يقول:[وهذا أيضاً محذور فإنه لو كَانَ هذا هو التوسل الذي كَانَ الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته] فكيف يموت هذا الجاه أو المنزلة عند الله عز وجل؟!!

فإذاً كَانَ المقصودُ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو ذاته الشريفة، فكيف يصح هذا وقد كَانَ الصحابة الكرام يتبركون بشيء من ذاته، فلما مات انقطع التبرك، وجاه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عند ربه هل ينقطع بموته؟ هل ينتهي بانتهاء وجوده في هذه الحياة الدنيا والتحاقه بالرفيق الأعلى؟

والجواب: أن جاهه لا ينتهي فهو موجود، إذاً فما المحذور؟ المحذور أن ندعو الله بجاهه، إذ لو أن المسألة تعود إِلَى مجردِ أن له جاهاً عِندَ اللهِ لما ترك الصحابة التوسل به. نعم له جاه صلى الله عليه وسلم ومَن مِنْ الخلق أعظم جاهاً عندَ اللهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم الأولين منهم والآخرين، وهو أفضل الرسل أجمعين، وهو خيرة الله ومصطفاه من هَؤُلاءِ الخلائق أجمعين، وهل أحد أكثر جاهاً عند رَبّ الْعَالَمِينَ من عبده ورسوله الأمين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؟! لا يوجد أبداً من هو أكثر جاهاً ومنزلة وشرفاً من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يوجد في الأمة من هو أكثر عبادةً وأكثر حرصاً عَلَى التوسل والتقرب إِلَى الله عز وجل، وأكثر معرفة بقدر النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه من صحابته الكرام؟ لا يمكن أبداً، ولكن بماذا دعا الصحابة؟

ص: 1199

توسل الصحابة بجاه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته

يقول المصنف: [فإنه لو كَانَ هذا التوسل، هو الذي كَانَ الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لما خرجوا يستسقون: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا]- يعني: العباس.

ثُمَّ أمر العباس بالدعاء فدعا العباس، ودعا الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- والصحابة الكرام هم أفضل النَّاس في العبادة وأحرصهم عَلَى التوسل الصحيح المشروع، وأرجاهم لله، وأحرصهم عَلَى قبول العمل عند الله سبحانه وتعالى، وأعظمهم معرفةً بحق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ومنزلته.

فقد كانوا في حياته صلى الله عليه وسلم يستسقون ويتوسلون بدعائه، فهذا رجل دخل والنبي صلى الله عليه وسلم عَلَى المنبر فقَالَ: يا رَسُول الله هلكت العيال وانقطعت السبل، وكذا وكذا، فادعو الله لنا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه فجاء الغيث العميم، والحديث مخرج في الصحيحين.

كذلك الأعمى الذي جَاءَ إِلَى النبيِ صلى الله عليه وسلم وشكا إليه أنه لا بصر، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يصبر أو يدعو له، فاختار الدعاء، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 1200

وهكذا نَجِدُ أنَّ الصحابة الكرام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتوسلون إِلَى الله بدعائه، وقد يرده صلى الله عليه وسلم، فلما جاءوا إليه وهو متوسداً في ظل الكعبة قالوا: يا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ادعُ اللهَ لنا، إن البلاء قد اشتد علينا من قريش، فلم يستجب لهم؛ بل قام صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه من الغضب، المقصود من هذا كله أنهم كانوا يأتون إِلَى رَسُول الله ويقولون: ادع الله لنا في كذا، أو يخرجون يدعون وهو يدعو معهم، أو يدعو وهم يؤمنون، فهذا هو التوسل المقصود به في حياته صلى الله عليه وسلم.

وما ورد فيه من أحاديث كثيرة فهذه صورته وهذه حقيقته، فعندما توفي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وجَاءَ الجدب في عهد عُمَر خرجوا يستسقون ويدعون الله، فلو كَانَ التوسل بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم جائزاً فلماذا لم يقولوا: اللهم إنا نسألك بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن ترحمنا وأن تسقنا وأن تغيثنا؟ ما المانع من ذلك؟!

وهَؤُلاءِ هم الصحابة كلهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين عُمَر، الذي تعلمون عِلمَهُ وفقهه ودرجته في الدين يقول: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، والآن لأنه صلى الله عليه وسلم قد مات نتوسل إليك بعم نبينا، إذاً المسالة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم تختلف اختلافاً كلياً عنها في حياته.

ص: 1201

وقوله: [وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه كما في الاستسقاء وغيره] ، ثُمَّ ذكر ماذا صنع الصحابة الكرام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم أكثر الأمة إيماناً، وحرصاً عَلَى الخير، وأعظمهم تقرباً وحباً لرَسُول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة لمنزلته وجاهه عند ربه، حتى توفي ولحق بالرفيق الأعلى.

وإن توسل الصحابة بجاهه كما يزعم هَؤُلاءِ النَّاس فهم القدوة، ولا محظور في ذلك، وما نَحْنُ إلا أتباع وإن كانوا انصرفوا وعمدوا إِلَى أمر غير ذلك مع معرفتهم به، فنذهب إِلَى ما ذهبوا إليه، إلا أن يتهمهم متهم بأنهم جهلة ولاسيما أنهم جميعاً خرجوا للاستسقاء واحتاجوا إِلَى ذلك، ولم يتوسلوا بجاه النبي. فهل جهلوا أو نسوا كلهم أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم له جاهه عند الله لا يموت ولا يفني بموته صلى الله عليه وسلم وانتقاله إِلَى ربه، وأنه كَانَ يجب عليهم أن يتوسلوا بهذا الجاه، فإن قال ذلك قائل، فيا لها من تهمة، وإن لم يقلها فالحق واضح، فالذي وقفنا عليه هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات انقطع توسل الصحابة الكرام بدعائه صلى الله عليه وسلم.

توسل عمر بدعاء العباس دليل واضح على عدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته

عندما وقع الجدب في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، خرج الصحابة يستسقون، وكان معهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أمير المؤمنين في دعائه، اللهم إنِّا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، أي: كنا في حياته صلى الله عليه وسلم نتوسل إليك يارب بدعائه.

ص: 1202

فهو يدعو صلى الله عليه وسلم، أو هم يطلبون منه الدعاء، وعلى أي حال: فطلب الدعاء من الْمُسْلِمِينَ بعضهم لبعض لا محذور فيه إن لم يتجاوز به قدره، ويعتقد في إنسان بذاته، ولم يتكل عَلَى دعاء غيره له، لكنك لو دعوت لي وأنا دعوت لك، فهذا لا حرج فيه لأنه من التعاون عَلَى البر والتقوى، وفي الحديث الصحيح (ما من عبد يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل به ملك يقول: آمين، ولك مثل ذلك) .

فينبغي لنا أن نغتنم هذه الفرصة، وأن يدعو بعض الْمُسْلِمِينَ لبعض، وكان الْمُسْلِمُونَ ولا يزالون أهل الخير والتقى والصلاح يفعلون ذلك، لكن المحظور أن يستغني الإِنسَان عن التضرع إِلَى الله، والانكسار بين يديه، بالذهاب إِلَى أخ صالح أو فاضل يدعو له وهذا لا ينبغي؛ لأن الدعاء هو العبادة، فعلى الإِنسَان أن يتضرع إِلَى الله، ويبذل السبب، ولا بأس أن يستعين بدعاء أخيه له.

هل كل دعوات النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة؟

الحالة الأولى: لمَّا اشتد أذى قريش عَلَى المؤمنين في مكة، ذهب الصحابة إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد في ظل الكعبة نائم، وشكوا إليه ما يلاقون وَقَالُوا: ادعوا الله لنا عَلَى قريش، فلم يستجيب الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، بل قام غاضباً محمرَّاً وجهه وبين لهم أنهم يستعجلون، كما في حديث خباب في البُخَارِيّ، وأنهم لو تدبروا ما لاقى الأنبياء، وما يلاقي دعاة الخير من الأذى لما استعجلوا؛ ثُمَّ بشرهم بأن الله سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين حضرموت وصنعاء لا يخاف إلا الله والذئب عَلَى غنمه، وهذا الحديث صحيح له عدة روايات.

ص: 1203

الحالة الثانية: طلبوا منه أن يدعو لهم، فدعا واستجيب له، وهذا مثل ما حصل في الاستسقاء (أجدبت المدينة واشتد القحط والمحل في زمنه صلى الله عليه وسلم، وكان عَلَى المنبر يخطب الجمعة، فدخل رجل من الأعراب وقَالَ: يا رَسُول الله، هلكت العيال، وانقطعت السبل) الحديث متفق عليه، وكحديث الأعمى وغيره مما هو موجود في كتب السنة الثابتة.

الحالة الثالثة: أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستجاب له وهذا واقع في السيرة، فمن ذلك: لما صلّى صلى الله عليه وسلم ركعتين، صلاة رغبة ورهبة أطال فيها، وسأل ربه عز وجل ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومنعه الثالثة، بمقتضى ما أنزل الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض [الأنعام:65] الآية.

وأيضاً قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عَلَى زعماء قريش.

وكذلك قنت شهراً يدعو عَلَى رعل وذكوان وعصية ولم يستجب له؛ بل أنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] . فكان أن تاب وأسلم من تلك القبائل خلق كثير، وكذلك من زعماء قريش، فلا بد أن نعلم أن لمقام الألوهية قدر عظيم جداً، والله هو الذي يفعل ما يشاء فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107] .

ص: 1204

فمشيئته سبحانه وتعالى لا يحدها ولا يقيدها أحد، تنفذ كما يشاء وكما يريد، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ومقام الرسالة عظيم، ولهذا كَانَ الصحابة الكرام يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، لمعرفتهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومقامه عند ربه، ولا يتوسلوا في حياته لا بالعباس ولا بغيره، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى، كان الصحابة يعرفون حقيقة التوحيد، فقالوا كما قال عُمَر رضي الله عنه في حياته:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إ ليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم فاسقنا" مع أن العباس لم يكن أفضل الأمة بعد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بل كَانَ عُمَر رضي الله عنه وبقية العشرة، وأهل بدر وأهل الشجرة أفضل، ولكن العباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أفضليته هنا من جهة قرابته، ولذلك قال عُمَر:"بعم نبينا" ولو أن الأفضلية للعباس في ذاته لقالوا: نتوسل إليك بالعباس، فهو رجل صالح فاضل، وهو قريب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكبير القرابة، وإن كَانَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب ابن عمه؛ لكن العباس أكبر، وهو بمنزلة الوالد، والعم أولى وأقرب من ابن العم، ولم يكن العباس رضي الله عنه رغم تأخر إسلامه يوماً ما يتمنى الهزيمة للمسلمين، أو الخذلان لمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وقد قال بعض العلماء: إنه كَانَ يكتم إيمانه، وكان عيناً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويرسل إليه بكل ما يقع، ويحاول أن يطلعه عَلَى كل ما تديره قريش، وكان يحضر معهم عَلَى أنه من كبار قريش، الذين يعملون ضد الدعوة، لكن شيمة الوفاء والقرابة والغيرة والحمية لرَسُولِ صلى الله عليه وسلم كانت لديه كما كانت لدى أبي طالب.

ص: 1205

فالقرابة هي السبب في التوسل، ولايعني ذلك أن التوسل محصور في قرابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وعُمَر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ إنما اجتهد ورأى أن فعله هذا قرينة يستجاب له مع وجودها، وليس شرطاً أننا لا نتوسل إلا بقريب لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك ما فعله معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وقد وصفه ابن عباس بأنه فقيه، فأعطى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان هذه الشهادة وهي وثيقة عظيمة بقوله:"إنه فقيه"، فمن فقه معاوية رضي الله عنه أنه لما أجدب أهل دمشق فاحتاجوا إِلَى استسقاء، خرجوا وكان معهم جملة من خيار الأمة في الشام، وكان أحد التابعين الفضلاء الصالحين الأولياء يُقال له: الأسود بن يزيد الجرشي فقال معاوية كمقولة عُمَر في العباس "اللهم إنا نتوسل إليك بالأسود بن يزيد يا أسود ارفع يديك وادع واسأل الله فدعا ودعوا، فمطروا بإذن الله تعالى".

فهذا فقه الصحابة الكرام، كانوا يعلمون حقيقة التوسل بعبدٍ من عباد الله الصالحين، نخرج به إِلَى الاستسقاء يدعو ونؤمن عَلَى دعائه، فإن كَانَ قريباً للنبي صلى الله عليه وسلم فحسن، وإن لم يكن فلا بأس، وليس في ذلك تحديد رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقول عُمَر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك" أي: بذات نبيك، "بدعائه وسؤاله" وليس بجاهه، أو أن نقسم عليك به، فالاحتمالين كلاهما غير وارد في الباء.

يقول: [إذ لو كَانَ ذلك مراداً، لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاهالعباس] وجاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بالموت، لكن لأن الأموات لا يدعون، ولا يطلب منهم أن يدعو ولو كَانَ ذلك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أما إن كَانَ من الأحياء، فنطلب منه أن يدعو الله تَعَالَى وهذا كل ما في الأمر.

ص: 1206

ذكر حديث الأعمى والتعليق عليه

أما حديث الأعمى الذي يشيعه أهل البدع ويحتجون به فقد رواه التِّرْمِذِيّ والنَّسَائِيُّ والبيهقي، وغيرهم، وقضيته أن رجلاً أعمى جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يا رَسُول الله ادع الله أن يرد علي بصري، فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم:(إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك) .

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل الأمر مجرد دعاء، وإنما خيره بين الصبر والدعاء، -والصبر أعظم- كما في الحديث الآخر (ما من عبد صالح أخذت منه حبيبتيه -أي عينيه- فصبر إلا عوضته عنهما الجنة) فالذي يصبر عَلَى اللأواء والنصب يخفف الله تَعَالَى عنه، فلا نكره المرض والمصائب، وإن كنا نكرهها بحكم الجبلة والطبيعة الإِنسَانية، لكن إذا وقعت فنقول: قدر الله وما شاء فعل، ونقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، ولعل في هذا خير فقد يكفر عنا من الذنوب والخطايا.

لكن الأعمى لم يأخذ بذلك الصبر، لأنه لو كَانَ عنده صبر لما جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رَسُولَ اللهِ! بل ادع لي، فقَالَ: قم فتوضأ وصل ركعتين، وادعوا الله فذهب الرجل فتوضأ وصلى، ثُمَّ أخذ يدعو: اللهم يا رب رد علي بصري، أو "يا مُحَمَّد يا نبي الرحمة، إني أتوجه إِلَى الله بك"، أو "اللهم شفعه فيَّ، ورد علي بصري" عَلَى ألفاظ مختلفة في الروايات.

وهذا الحديث صحيح وإن كَانَ التِّرْمِذِيّ قد شكك في أحد الرواة عَلَى أنه مجهول العين إلا أنه قد عُلم هذا المجهول من روايات أخرى، وقد صححه شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله، وغيره من الحفاظ.

ص: 1207

وفيه دلالة عظيمة لمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في التوسل ورد جلي عَلَى أهل البدع والضلال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ حياً يقول: إن شئت دعوت لك، وأيضاً لم يكتفِ صلى الله عليه وسلم بأن دعا له بل قَالَ: توضأ وصل وادعو، فيكون ذلك أرجى لقبوله دعائه، فالاستجابة بعد وضوئه وصلاته ركعتين بإخلاص لا سيما في ذلك الوقت، لأن المسألة ليست هينة، بل مسألة عظيمة ترتب عليها أن يعود له بصره.

فكم كَانَ في المدينة من عميان في ذلك الزمان؟ وكم فيها من ذوي العاهات؟ وهل أحد أحرص عَلَى الخير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك لم يبلغنا قط عن أحد منهم أنه دعا بهذا الدعاء، أو بمثله أو توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بجاهه ليشفى من مرضه، فهل القوم جهلة؟ أم غافلون عن هذا الدعاء؟ لا؛ بل علموا أن هذه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودليل من دلائل النبوة الدالة عَلَى صدق نبوته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تحقق شيء يعجز عنه الأطباء ويعجز عنه كل البشر إلا إذا شاء الله، فعلم الصحابة أن هذه الحادثة خاصة بهذا الأعمى، ولو أن الأمر أمر دعاء لحفظ كل أعمى هذا الدعاء ودعا به، فبقيت هذه القصة دليلاً من أدلة نبوته صلى الله عليه وسلم.

ص: 1208

ولهذا يروي هذه القصة أصحاب السيرة عَلَى أنها من دلائل النبوة، لا عَلَى أنها من الأدعية والأذكار الواردة، ومن هنا فرق بين هذا وهذا، وقوله:"اللهم شفعه في" نعم، يجوز هذا لمن كَانَ في حياته صلى الله عليه وسلم، وقصده دعاء الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فلا تزاح الأحاديث الصحيحة التي أثبتت أن الشَّفَاعَةَ للأمةِ جميعاً، فنحن ندعو الله أن يجعلنا من الأمة المرحومة التي يشفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حرج في هذا الدعاء، لأننا لم ندعُ إلا الله، ولم نعتدِ في الدعاء، بل دعوناه بأمر قد أخبرنا أنه حق.

ما كَانَ لنبي قط أن يرضى بأدنى جرح في التوحيد، فضلاً عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الذي سد كل ذريعة توصل إِلَى الشرك من الآثار أو المقابر، أو ما يعظمه النَّاس كتعظيم الصور والتماثيل، والصلاة عَلَى المقابر، كل ذلك ورد النهي عنه صريحاً، وأنه وسيلة إِلَى الشرك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه رجلاً أتاه فقَالَ:"ما شاء الله وشئت"، فَقَالَ له النبي (أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده) .

وفي الحديث الآخر -وإن كَانَ في سنده كلام- أنهم لما قالوا: قوموا بنا نستغيث بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم فقَالَ: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله) .

ص: 1209

ولما جَاءَ رجل وأخذ يطري فيه قَالَ: (إنما السيد الله) وينكر في مواضع كثيرة من يقرنه بالله تَعَالَى اقتراناً لفظياً فقط، والله تَعَالَى يقول: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80] .

فالآية تفيد أن الله تَعَالَى يقول: إنه لم يكن وما كَانَ أبداً، ولا ينبغي ولا يصح لنبي من الأَنْبِيَاء أن يقول للناس: كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ لأن الله بعثهم ليخرجوا النَّاس من الشرك إِلَى التوحيد، فهذا الرجل الأعمى إنما كَانَ يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم -يا محمد- ويكلمه لأنه بين يديه، والآن وبعد تلك القرون يقوم الرجل فيعثر فَيَقُولُ: يا محمد، أو يكتب عَلَى السيارة وعلى جدار المسجد "يا الله يا محمد" وإن أنكرت عليه استدل بحديث الأعمى، ولا تقارب بينهما، ولو سأل النَّاس أهلَ الذكر ما وقعوا في أمثال هذه الأغلاط الجسيمة.

التوسل الشرعي وبم يكون

وهو قول المصنف:

ص: 1210

[وتارة يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له، وإيماني به، وبسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم، ونحو ذلك فهذا من أحسن ما يكون من الدعاء والتوسل الاستشفاع، فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه، وكذلك السؤال بالشيء قد يراد به التسبب به، لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به.

ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إِلَى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فتوسلوا إِلَى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نَحْنُ فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون، فهَؤُلاءِ دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إِلَى الله، ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله] اهـ.

الشرح:

ص: 1211

التوسل الشرعي هو: طلب الوسيلة من اللهِ تَعَالَى كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] الآية. وهي أن يتوسل العبد ويتقرب إِلَى الله تَعَالَى بالأعمال الصالحة، فما كَانَ له علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن التوسل إليه تَعَالَى يكون باتباعه وبمحبته صلى الله عليه وسلم وهذا عمل صالح ينجينا، بل نتوسل إليه بغير ذلك مما قد لا تظن أنه عمل في ذاته، وهو: الإقرار والاعتراف بالذنب والانكسار بين يدي الله كما في الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيرا فاغفر لي) كأنك تقول: اللهم إني أتوسل إليك بإقراري واعترافي بتقصيري وذنوبي وأخطائي، أن تغفر لي، وأبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فهذا الإقرار هو في ذاته عمل صالح.

فوسيلتنا إليه العمل الصالح وإن دعونا فبذلك العمل، لأن العبادة كلها دعاء، ومن الدعاء: دعاء المسألة، وهي: أن يكون لك حاجة فتدعو ربك، اللهم اعطني كذا، واصرف عني كذا؛ فأنت العبد الفقير الضعيف تدعو الغني الحميد في هذه المسألة.

أمثلة على التوسل

هناك أمثلة تدل عَلَى هذا النوع من التوسل الشرعي.

ص: 1212

فمثلاً: حديث الثلاثة النفر الذين خرجوا ولم يجمعهم أيُّ جامع إلا أنهم خافوا من المطر، فأووا إِلَى غار فانطبقت عليهم الصخرة، وفي هذه الحالة الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء هو الله، ولو انطبقت عَلَى أعتى الطواغيت، وأكبر الملحدين المنكرين لوجود الله، لتضرع ودعا الله، لأن ذلك الوقت تتبخر فيه تلك البهرجة والكذب المنمق والأفكار المادية، والنظريات عن الكون والحياة، لكن أين الملجأ في هذه الحالة؟ مهما كَانَ عتو العبد وطغيانه فلن يبقى أمامه إلا رب العباد سبحانه وتعالى، فهذا: الطاغية الكبير وهو عَلَى سرير الملك يقول "أنا ربكم الأعلى"، فلما أدركه الغرق ماذا قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل [يونس:90] لكنه لم ينفعه ذلك.

فكلنا نضطر في لحظات الضيق والكرب إِلَى أن ندعو الله، لكن المؤلم والمؤسف أن بعض من ينتسب إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ودينه نجده في حالة الكرب والضيق والشدة يقول: يا سيدي فلان، فأين تذهب العقول حتى في هذه الحالة؟ فهل ملكوا -هؤلاء المدعويين- لأنفسهم شيئاً لما جَاءَ ملك الموت؟ بل إنما يدعون من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، وينسون الحي الذي لا يموت، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء.

فهَؤُلاءِ الثلاثة قالوا: ما الحيلة؟ كل منَّا يدعو الله بخالص عمله، فنجاهم الله سبحانه وتعالى، بل حتى الكفار فإنهم إذا ركبوا في الفلك، وجاءت الريح وهاجت الأمواج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين نجاهم، لكن إذا نجاهم إِلَى البر إذا هم يشركون.

فالإِنسَان هكذا إذا مسه الضر دعا ربه قائماً وقاعداً وعلى جنب، ولكن إذا عوفي مر كَانَ لم يدع الله إِلَى ضر مسه، سُبْحانَ اللَّه! ما أكثر عتوه! لأنه ظلوم جهول.

ص: 1213

فهَؤُلاءِ الثلاثة توسل الأول منهم ببر الوالدين، ولو كَانَا كافرين، كما قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] الآية. أي: الأبوان الكافران لا تطعهما عَلَى الكفر، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، قدم لهم الطعام والكساء، وأعطهم طلباتهم المادية في غير معصية الله، وادعهم إِلَى الخير بالتي هي أحسن، هذا حق واجب عليك وهما كافران، فكيف إذا كانا مؤمنين، فهذا الأول كَانَ يحلب لهما اللبن، وينتظرهما ويعطيهما قبل أن يطعم الأطفال، وذات مرة غلبهما النوم فانتظرهما وهو واقف، والأطفال يتضاغون ويصيحون، ولم يوقظهما ولم يطعم أطفاله، تأمل هذه المواقف، كيف وقف هذا الرجل؟!

والثاني توسل إليه بترك الزنى، الذي أصبح اليوم في هذه الدنيا وكأنه من مستلذات الحياة، ومن الأمور العادية -عافانا الله من ذلك- فهذا الرجل تمكن من الفاحشة، ثُمَّ قام لما قالت له: اتق الله، وهذا الزمان كم من واحد تقول له: اتق الله ولكنه من الذين قال الله فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ [البقرة:206]، وقد قال الله تَعَالَى لنبيه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] وكلنا في حاجة إِلَى أن يقال لنا: اتق الله في كل وقت وحين، ولا خير فينا إن لم نقلها لبعضنا البعض ونتناصح بها، فلما قالت له: اتق الله، ماتت الشهوة وذهبت، واستحضر عظمة الله، وقام وقد قعد منها مقعد الرجل من أهله.

ص: 1214

في هذا الموقف والصخرة عَلَى فم الغار فرجت للأول قليلاً لكن لا يستطيعون الخروج منها، وفرجت للثاني قليلاً؛ ولكنهم كذلك لا يستطيعون الخروج منها، والثالث: دعا الله أنه أوفى الأجير حقه بعد أن نماه له، فهَؤُلاءِ النَّاس عملوا أعمالاً صالحة، وتوسلوا إِلَى الله بها، ألم يكن عندهم أنبياء؟ بلى كَانَ عندهم أنبياء وأولياء ولم يتوسلوا إلا بالمشروع، ففرج الله عنهم ما هم فيه بالتوحيد فالتوحيد يفرج الله به عن الإِنسَان، فبالتوحيد تنال العزة في الدنيا والآخرة، وبالشرك يكون الخزي والذل في الدنيا ويكون العذاب الأبدي في الآخرة، فهذا هو شأن الثلاثة، فالتوسل بالأشخاص لم يكن لا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره، وفيه إجمال كما قال المصنف.

أما التوسل بدعائه في حياته فلا بأس به أما بعد موته فلا نتوسل إلا بالإيمان به، وبمحبته وطاعته صلى الله عليه وسلم، فإن كَانَ عبداً صالحاً حياً فلا بأس أن يدعو للمسلمين، وإن كَانَ ميتاً فلا يُدعى، وأما إذا أريد به الإقسام بالحق والجاه -ولو كان جاه النبي - فلا يجوز، وهو مما لم يُشرع لنا أن نتقرب به إِلَى ربنا، يقول المُصْنِّف رحمه الله: فهَؤُلاءِ -يعني: الثلاثة- دعوا الله بصالح الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إِلَى الله، ويتوجه به إليه ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.

التوحيد أمر مركوز في الفطر لا يحتاج إِلَى استدلال، وإنما يحتاج إِلَى أن يتذكر ويستظهر، ولذلك ذكر الله تبارك وتعالى دلائل الربوبية العظمى في القُرْآن مربوطة بالنظر في ملكوت السموات والأرض والتأمل في الأنفس والآفاق.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

ص: 1215

[ومحال توهم عمل الطبائع فيها لأنها موات عاجزة، ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير، فإذا تفكر في ذلك، وانتقال هذه النطفة من حال إِلَى حال، علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إِلَى توحيد الإلهية.

فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر، ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه] اهـ.

الشرح:

تعرض المُصنِّفُ لشبهة كانت تثار قديماً وحديثاً وهي القول بأن الطبيعة هي التي تخلق، فتسند أفعال الربوبية إِلَى الطبيعة، فيُقَالُ: الطبيعة خَلَقت، والطبيعة أَوجدَت، والطبيعة أَعطَت، إِلَى آخر ما تقرأونه وتسمعونه، فينسبون أفعال الربوبية إِلَى الطبيعة.

والمصنف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ذكر هذا هنا -وذكره من قبله من العلماء- لأن التأليه للطبيعة أو نسبة الربوبية لها كانت معروفة عند اليونان، فهم أول من أطلق هذه الكلمة وأله الطبيعة، واليونان أمة جاهلية وثنية، وأول نظرية ظهرت واصطدمت بهذا هي نظرية جاليلو، ونظرية كوبرنيك التي حولت أنظار النَّاس إِلَى أن الأرض ليست هي مركز الكون كما قال كوبرنيك: إن الأرض ليست مركز المجموعة الشمسية أو الكون، وإنما الأرض تابع للشمس، ومعها ظهرت نظريةجوردا نوبرونو وأمثالهم.

فقام البابوات فأحرقوا هَؤُلاءِ، وأما كوبرنيف فكان له رتبة من رتب الكنيسة فسلم من الأذى، وأما جاليلو فقد عذب وسجن، فكانت هذه المعركة سبباً في أن هرب من الكنيسة هَؤُلاءِ الذين يريدون أن يتخذوا طريقة للعلم والبحث والفكر والعقل، وفي ذلك الوقت لم تكن الطبيعة تسمى إلهاً، وإنما بعد ذلك بزمن، وبالذات لما ظهرت نظرية نيوتن في الجاذبية، قالت النظرية:"إن هذا الكون متماسك بشكل ميكانيكي" أي كل مجموعة وكل جرم من أجرامه متماسك مع الآخر حسب قوانين الجاذبية، فهو بهذه الطريقة يتحرك ويدور تلقائياً وفق هذا القانون الذي اكتشفه نيوتن.

ص: 1216

صراع بين الكنيسة والعلم والعلماء

بعد هذا الصراع وجد هَؤُلاءِ النافرون من العبودية لرجال الدين مهرباً يفسرون به هذه الحياة بعيداً عن الإنجيل وبعيداً عن سيطرة رجال الدين، وَقَالُوا: إن كَانَ هناك من إله فإنه قد خلق الكون، ثُمَّ تركه يمشي في طبيعته ويسير وفق هذا القانون، ونادى بذلك كثير من الزعماء، في نفس الوقت الذي كانت الديانة النصرانية ضد الفطرة وضد الطبيعة في الناحية الاجتماعية.

ولقد وصف الله تَعَالَى الرهبانية بقوله: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] .

فهذه الرهبانية تفرض عَلَى رجل الدين - لكي يكون الإِنسَان ديِّناً، ومقبولاً في ملكوت الرب كما يعبرون - أن لا يتزوج، فيمتنع عن هذه الغريزة الفطرية التي جعلها الله تبارك وتعالى في جميع الحيوانات، فكان هذا بالنسبة لهم موضع ثورة عَلَى الكنيسة تبدأ الاعتراضية من هنا وعلى مبادئها -فالكنيسة معناها المجمع البابوي ورجال الدين "البابا" والكاردينالات الذين من تحته، ثُمَّ القساوسة، ثُمَّ هذا المجمع الديني كله يسمى الكنيسة- لأنهم وجدوا أن هذا ضد الفطرة وضد الطبيعة، وبدأوا يتحللون من هذه القيود، فثار مارتن لوثر وكالسن وأمثالهم من رجال الدين من أجل أن يتحرروا ويتزوجوا.

ص: 1217

أما بالنسبة لبقية المجتمع فهم يريدون أن يثوروا عَلَى هذا النظام الذي هو ضد الفطرة من أجل تحقيق الشهوات، فعندما يلبي بنفسه هذه الرغبة الفطرية حكم عَلَى نفسه بأنه خارج أهل الطهر وأهل النقاء الذين يترفعون عن الشهوات، فوجدت في نفسياتهم هذه الحاجة والإلحاح وهو الزواج، إلا أن يحطم هذا القيد حتى ولو تزوج فإنه يستشعر أنه مقصر ومذنب، هذا الشعور هو الذي بقي مكبوتاً، ثُمَّ تولدت عنه الثورة الجنسية التي شاعت وعمت في أوروبا إِلَى اليوم فلم تشبع ولا تريد أن تشبع من الانهماك في هذه اللذة وهذه الشهوة، كيف قاوم علماء الاجتماع، هذه النظرية وهذا الوضع؟

قالوا: لو ترك الإِنسَان عَلَى طبيعته لتزوج، فالحيوان يتزوج في الغابة، إذاً هذه القيود ضد الطبيعة، ثُمَّ جاءت نظرية نيوتن، وقالت: الطبيعة نظمت الكون، فالأجرام لا تصطدم بعضها ببعض؛ لأن الطبيعة نسقتها ورتبتها، وَقَالُوا: لو تركت الحياة الإِنسَانية عَلَى الطبيعة لانتظم أمر النَّاس ولأفلحوا ولسعدوا، وإنما يأتي الخلل والضرر والشر من تدخل الملوك والأباطرة فيفرضون عَلَى الناس أمور غير طبيعية، ومن هنا دخل تأليه الطبيعة في جميع مناحي الحياة.

يقول علماء الاجتماع: الإله هو الطبيعة، ويقولون: الطبيعة هي التي تنظم حياة النَّاس في صورة تلقائية لا انفصام فيها ولا عداء، وعلماء القانون وجد عندهم ما يسمى بالقانون الطبيعي وهو عبارة عن مبادئ عامة أو ما يسمى أحياناً بالعدالة المطلقة وهي مبادئ مركوزه في الطباع مبثوثة في الكون، فيقولون: الطبيعة أودعت قوانين أبدية سرمدية هي الحق والعدل، والإِنسَان إذا خالف هذه القوانين يكون مخطئاً، ومتجاوزاً للحد، فوضعوا قانوناً يسمى القانون الطبيعي، أو الشريعة الطبيعية.

ص: 1218

وجاء علماء الاقتصاد فَقَالُوا: إن تحريم الربا، أو تحريم بعض الأنواع من البيوع، أو تحريم حركة الإِنسَان يخالف الطبيعة؛ لأن النظام السائد في أوروبا هو النظام الإقطاعي، أي: مجموعة قرى يملكها واحد يتحكم فيها، والفلاحون الذين هم فيها أرقاء له، فلا يخرجون إِلَى أي إقطاعية أخرى، ولا يعملون عند أي إقطاعي آخر، فهو متحكم في الأرض ومن عليها قالوا: هذا قانون ضد الطبيعة، وهي أن الإِنسَان يمشي كما يشاء، ويعمل كما يشاء، ولهذا أطلقت جميع القيود باسم القانون الطبيعي وباسم العدالة الطبيعية.

ففي علم الاقتصاد أُلَّهت الطبيعة بناءاً عَلَى هذا الشيء، فخرج النَّاس وقامت الثورات وابتدأت ما يسمى بـ"حرية الإِنسَان" بأن يكسب المال بأي وجه شاء، وينفقه فيما يشاء، لأن هذه الحرية هي مقتضى الطبيعة، وهذا هو الذي تدعوا إليه طبائع الأشياء، أو تؤيده القوانين الطبيعية المودعة في الأشياء.

ونتيجة لذلك نجد أن الطبيعة قد ألهت في معظم مجالات الحياة، حتى أصبحت بمنزلة الإله فعلاً، فهي تُشرِّع وتَقنَّن وتخلق وترزق، وفي الجانب العلمي الخاص كَانَ العجب أكثر، لأن الذين يشتغلون في الجوانب العلمية في دراسة الطبيعة التي هي الطبيعة فعلاً، لما أخذوا يدرسونها بدأوا يقولون: الطبيعة هي التي تخلق، ثُمَّ بعد ذلك قالوا: كيف نقول: إن الطبيعة تخلق، وكلمة الرب تخلو عنها تماماً؟ فأصبحوا يكتبون كلمة الطبيعة عَلَى أنها علم لا مجرد مخلوق، ولذلك يبتدئون الاسم بالحرف الكبير عادة، كعادة الأعلام في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات. وثاروا عَلَى ما يسمى بالإله والرب عند النصرانية وأسندوا هذه الأفعال إِلَى الطبيعة.

بطلان نظرية المصادفة في الكون

ص: 1219

كلما تطور العلم نظر هَؤُلاءِ الطبائعيون في دقائق الكون ووجدوا أن هذا لا يمكن، ولا يؤدي إِلَى تفسير صحيح، فَقَالُوا: إذاً لمن ننسب الخلق ولمن ننسب الحياة؛ فَقَالُوا: إِلَى المصادفة، فاستخدموا كلمة المصادفة، ووجدوا بعد ذلك أن القوانين الرياضية، والقوانين العلمية نفسها تنفى نفياً قاطعاً أن يكون للمصادفة أي دور في إيجاد هذا الخلق، أفهذا الكون المنظم البديع وجد بالمصادفة؟

هذا شيء لا يقبله أي عقل ولا يمكن عَلَى الإطلاق، بل علماؤهم في أوروبا كتبوا كتباً كثيرة ضد المصادفة، وَقَالُوا: لا يمكن أن يكون للمصادفة أي دور في الحياة لا لأنهم متدينون، ولكن بالنظريات العقلية والبراهين الرياضية وجدوا أن المصادفة لا يمكن أن تفعل أي شيء عَلَى الإطلاق، ولهذا ظهر واشتهر عالم إنجليزي كبير في الطبيعة اسمه وايت هيد فقَالَ: نضع اصطلاحاً وهو: ضد المصادفة، فضد المصادفة هو الذي خلق الإِنسَان، وضد المصادفة خلقت الطبيعة.

إذاً ما هو ضد المصادفة؟ فلو قالوا: الطبيعة ليس تحتها حقيقة وإن قالوا مصادفةً، فقد أنكروها، وإن قالوا الرب، قالوا: لا، الرب قد تركناه من قبل أربعة أو خمسة قرون وانتهينا مع الكنيسة.

إذاً: ما الذي نقول؟ قالوا: نقول ضد المصادفة، ويعتبرون هذا الوصف أفضل ما يعبر عنه، بل قال بعض مفكريهم لاداعي أن نستخدم أي فاعل أصلاً، فنقول: وجد الإِنسَان قبل 10000 سنة مثلاً، ووجدت الأرض قبل كذا، ونأتي بها منسوبة إِلَى المجهول، فلا داعي لذكر فاعل يدخلنا في ورطة كما سبق، فنجعلها عامة هكذا، فنقول: وُجِد وخُلِق وهكذا تصبح الأفعال مبنية للمجهول ونرتاح، فانظروا إذا غفلت القلوب وطبع عليها، هَؤُلاءِ النَّاس الذين ألهوا الطبيعة.

ص: 1220

أما في المجال العلمي الخاص، وفي المجال العام وفي المجال الصحفي وفي مجال المؤلفات، بقيت كلمة الطبيعة هي الرائجة وهي المشهورة، لأنها سهلة، ولأنها متداولة عند اليونان وعند الرومان في أكثر من قرنين أو ثلاثة قرون في أوروبا ولأنها أيسر، حتى أصبحت إلها، وأصبح الإِنسَان يستخدمها وهو لا يشعر، فَيَقُولُ: أوجدت الطبيعة، وخلقت الطبيعة وفعلت الطبيعة، وهذا كله مصادم للفطرة السليمة.

وهذا أول رائد فضاء في العالم جاجارين السوفيتي، عندما خرج إِلَى الفضاء، ورأى الأرض فذهل ودهش ونسي الرقابة الأرضية عليه واستيقظت فطرته، لأنه ابتعد عن الأرض ونسي أن كلامه محسوب عليه، فكان يقول وهو في الفضاء عندما رأى هذا الكون: لا بد أن لهذا الكون من إله، ولما هبط إِلَى الأرض أرغمته وكالة الأنباء السوفيتية أن يعترف أنه ليس لهذا الكون إله، لا يريدون أن يقولوا: هذا الكون خلقه الله، حتى لا يقال لهم: أنتم رجعيون متعصبون، ومتزمتون ومتدينون ومتطرفون، فيهربون من هذه الكلمة، فَقَالُوا: نقول الطبيعة لأنها تدل عَلَى أننا أناس علميون متحضرون.

وفي الحقيقة ما زادوا عَلَى أنهم سموا الله تبارك وتعالى بغير اسمه، فسموه "الطبيعة" وليس من أسماء الله سبحانه وتعالى الطبيعة، وهم يثبتون الحكمة، ويقولون: الطبيعة حكيمة، الطبيعة عاقلة، الطبيعة تقدر، الطبيعة تخلق، وهذه صفات الله، لكن لا يريدون أن يسمونه باسمه، فهم في الحقيقة لم ينكروا وجود خالق، وإنما سموا هذا الخالق بغير اسمه. وإن كانوا يقولون: نَحْنُ نقصد بالطبيعة حقيقة هذه الأشياء المخلوقة، الموجودة، فنقول: أنتم نسبتم هذا الشيء إِلَى نفسه مثل الذي يقول: الإِنسَان خلق الإِنسَان، والطبيعة خلقت الطبيعة.

ص: 1221

وهذا الكلام لا يقبله أي عاقل، لأنها هي الخالقة وهي المخلوقة في نفس الوقت، وهذا لا يمكن أبداً، وإنما هي اسم يطلق عَلَى المخلوقات، فمن الذي يخلق المخلوقات؟ فأنتم إِلَى الآن لم تأتوا بحل، والكفار في الغرب والشرق الذين نشروا هذا المذهب الإلحادي، والذين أظهروا هذه الكلمة، وعممومها في العالم، وجعلوها هي الإله، أو الذي يُكتب مكان الإله هم يعرفون أنهم يتعلقون بأسماء سموها ليس لها حقيقة، وليس تحتها شيء، وإنما هي أسماء واصطلاحات وضعت هروباً من الإقرار بالله سبحانه وتعالى ومن الاعتراف بالحق.

وإذا بينا للناس حقيقة صفات الله سبحانه وتعالى كما وردت في الكتاب والسنة، فإنه لن يبقى في أذهان النَّاس التباس بأن هذا هو الله وهو الرب وهو الخالق سبحانه وتعالى، من آمن منهم يؤمن عَلَى بينة، ومن كفر فإنه يكفر عن بينة أيضاً، وإلا فإن هذا مفطور ومركوز في جميع الأذهان، وفي جميع القلوب: بأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وأنه عَلَى كل شيء قدير، وأنه هو الخالق سبحانه وتعالى، وأنه الرزاق، وأنه المدبر.

فهذه أمور في ذهن كل إنسان، ولكن هذه المعارك التاريخية التي تدور، وهذه الأحقاد والمخاصمات والمجادلات التي تقع بين الناس، وحب الشهوات والاستكبار، وحب الاستعباد، كل هذه أسباب تطرأ عَلَى الإِنسَان، فينكر ربه سبحانه وتعالى، ويُؤلِّه غير الله كما ألهت الطبيعة من قبل.

استحالة عمل الطبائع في النطفة

ص: 1222

يقول المُصْنِّف رحمه الله: [ومحال توهم عمل الطبائع فيها] أي: في هذه النطفة التي خلق الإِنسَان منها، وهي عجيبة. وأصبحت أكثر إثارة للعجب في العصر الحاضر، لأن هذه النطفة عدة ملايين من الحيوان المنوي، يقول:[لأنها موات عاجزة ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعلٌ وتدبير] كيف يأتي من الميت الذي يسمونه الطبيعة، وهي الجبال والأشجار وما إِلَى ذلك إيجاد الحياة، وكيف يتأتي منها الفعل أو التدبير؟ فإذا تفكر الإِنسَان كيف تنتقل هذه النطفة من حال إِلَى حال، علم بذلك توحيد الربوبية، وهل يكفي أن يعلم الإِنسَان توحيد الربوبية؟

يطلق الناس عَلَى بعض العلماء -في الغرب- أنهم مؤمنون، لأنهم يؤمنون بوجود الله، وأن الذي خلق هذا الكون ويدبره هو الله، والذي يؤمن بوجود الله من علماء الطبيعة والفيزياء والكيمياء، فليس بمؤمن في الشرع؛ لأنه لا فرق بينه وبين كفار قريش، كما قال الله تَعَالَى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] .

فهم مؤمنون بأن الله هو الخالق وكانوا يدعونه، بل كانوا يصرفون أنواعاً من العبادات له سبحانه، لكن يشركون فيها معه غيره، إذاً فكفار قريش أكثر إيماناً من هَؤُلاءِ، لأن هَؤُلاءِ لا يتعبدون لله تَعَالَى بشيء، ولا يؤمنون بدين الإسلام ولا بنبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ولا يؤمنون بالقرآن، ولا يقدمون لله تَعَالَى أي نوع من أنواع العبودية، إلا أنهم يقولون: إن الله موجود وهو الذي خلق ورزق وهو الذي يدبر الكون، وهَؤُلاءِ ليسوا بمؤمنين، وإنما هم كفار، ولكن نقول: هَؤُلاءِ الكفار يقرون بالربوبية، هذا غاية ما في الأمر.

حقيقة العبودية

ص: 1223

إن التوحيد الذي أنزل الله تبارك وتعالى من أجله الكتب، وأرسل من أجله الرسل، هو توحيد الألوهية، ليس توحيد الله في أفعاله، كما هو الحال في توحيد الربوبية، بل هو توحيد الله في أفعال العباد، بأن يعبده الخلق وحده لا شريك له، وأن ينقادوا لأمره، ولا يعترضوا عَلَى حكمه القدري أو حكمه الشرعي، بل يكونون عبيداً لله سبحانه وتعالى، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والتقرب إِلَى الله بما شرع، هذه حقيقة العبودية كما قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فلا بد من تحقيق ذلك، لكي يكون العبد مؤمناً، وإلا فإنه مشرك.

فَيَقُولُ: إذا علم ذلك وتفكر في حال النطفة وفي خلقه وفي طعامه كما أمر الله سبحانه وتعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] إذا تأمل في هذا الكون فإنه يقر حينئذ بتوحيد الربوبية، وإذا فعل ذلك انتقل منه إِلَى توحيد الألوهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ سُبْحانَ اللَّه! يخلقك ويرزقك ويحييك ويميتك ويعطيك وينعم عليك، ثُمَّ تعبد غيره قُتِلَ الإِنسَانسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17] وَكَانَ الإِنسَانسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54] .

ولهذا روي في بعض الآثار القدسية (إني والجن والإنس لفي أمر عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إِلَى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي)، وهذا من العجب وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يونس:18] .

ص: 1224

يعبدون الأبقار في الهند قرابة 800 مليون، وفي الصين أكثر من 1000 مليون، يعبدون تماثيل بوذا -سُبْحانَ اللَّه- وفي الدول الأخرى يعبد الصليب ويعبد عيسى وتعبد مريم، كيف يعبدون غير الله؟! (أخلق ويعبد غيري) وعبدوا النَّار الكواكب، حتى يقال: إنه يوجد في الهند، من يعبد النمل! إن الإِنسَان إذا لم يعبد الله فإنه يتيه ويضل، يوقد النَّار ويعبدها، يصنع الصنم من التمر كما كَانَ العرب في الجاهلية ويعبدونه، ويصنع الحجر ويعبده، فإذا أراد أن يطبخ جَاءَ بحجرين وهذا الثالث وطبخ فوقه، أهذا إله؟ أين عقلك أيها الإِنسَان؟ والعجب أنهم يقولون: إن الله هو الخالق.

فإذاً يخلق ويعبدون غيره، هذا من العجب العجاب، ويرزق ويشكرون سواه، انظروا إِلَى حال النَّاس اليوم، إن حصل أحدهم عَلَى رزق، كم من النَّاس يرد الفضل والشكر لله وحده، وكم منهم من النَّاس من يقول إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] (هَذَا لِي)[فصلت:50] وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [فصلت:50] .

الاعتماد على الأسباب ينافي حقيقة العبودية

قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا عَلَى أن ينفعوك، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) .

ص: 1225

فالله تَعَالَى هو الذي كتب الخير والشر، فهذه الأرزاق من الله عز وجل، وهَؤُلاءِ البشر يسخرهم الله سبحانه وتعالى، نعم يُثنى عَلَى النَّاس ويشكرون ويكافئون ولو بالدعاء، وهذا من حسن أخلاق المسلم أنه يكافئ ويحسن إِلَى من أحسن إليه ولو بالدعاء إذا عجز، لكن أن ينسب كل خير ونعمة وفضل إِلَى الأسباب وينسى الله تبارك وتعالى، فهذه غفلة كبيرة عن الله سبحانه وتعالى، ولو علم أنه سبحانه وتعالى هو وحده الخالق والرازق لعبده وحده كما أشار المُصْنِّف رحمه الله هنا كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] ،.

هذا هو الوصف الذي وصفه الله رَبّ الْعَالَمِينَ، هذا الإِنسَان وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53] فالله تبارك وتعالى هو الذي يخلق، ولكن يعبد سواه، ويرزق، ولكن يعبد غيره، خيره نازل إِلَى العباد، فكم ينزل الله تبارك وتعالى كل يوم من الخيرات عَلَى هَؤُلاءِ العباد، فكم من فقير أغناه الله تعالى، وكم من مريض عافاه الله سبحانه وتعالى، وكم من مكروب فرج الله تَعَالَى كربه، وكم من مهموم أزال الله همه؟

ص: 1226

كم وكم يتحنن عَلَى هَؤُلاءِ العباد ويرحمهم ويمتنُّ عليهم كل يوم، بل كل حين، بل كل لحظة ونِعَم الله سبحانه وتعالى نازلة عَلَى هَؤُلاءِ العباد، ولكن ما الذي يصعد إِلَى الله سبحانه وتعالى، فالملائكة الذين يتعاقبون فينا في الليل والنهار، ما الذي يصعدون به، دعونا من عالم الكفر، فماذا تتوقعون أن تصعد الملائكة به من عالم الكفر، انظروا إِلَى عالم الْمُسْلِمِينَ ودعونا من عالم الْمُسْلِمِينَ عامة، انظروا إِلَى حالتنا نَحْنُ طلبة العلم الذين نعيش -ولله الحمد- في الغالب مع كتاب الله وسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أهل الذكر، ومع أهل الخير، بم ترتفع الملائكة إِلَى ربنا عز وجل، ما الذي في صحفنا، صلوات نغفل عنها، ونحن في أثنائها قد لا ندري كم صلينا، وربما جاءت من هاهنا كلمة، ومن هاهنا نظرة، ومن هاهنا شبهة أوشك، فدمرت وأهلكت ما يظن الإِنسَان أنه جمعه من حسنات نتيجة هذه الصلوات، فمن الذي يسلم إلا من عصمه الله تَعَالَى وسلمه.

نحن لا نستغني عن الله سبحانه وتعالى فخير الله إلينا نازل، كل حين يمدنا بالنعم وبالعافية، وبهذه الحواس التي أعطانا الله إياها من سمع وبصر وفكر وأجساد وقلوب وأموال كل ذلك من نعم الله، وسخر لنا هذه الدنيا وهذا الكون وهذه الكواكب، وجعل الشمس والقمر دائبين لأجل هذا الإِنسَان وليعرف المواقيت والزمان، وليكون لديه نصف العمر ضياءاً، فيكدح ويعمل وينصب، والنصف الآخر هدوءً وراحةً.

ص: 1227

وهذا الماء العجيب الذي لا يمكن للحياة أن تكون بغيره كيف أنزله الله تبارك وتعالى، وكيف جعله نوعين عذب فرات، وملح أجاج، وهذا فيه من العجائب وهذا فيه من الفوائد وغير ذلك، وكل هذا من عظيم نعم الله سبحانه وتعالى فخير الله إلينا نازل، ولكن شرورنا وذنوبنا وسيئات أعمالنا إليه صاعدة، تصعد بها الملائكة كل يوم، وهو تبارك وتعالى يتحبب إلينا بالنعم، ولكننا نتبغض إليه بالمعاصي نعوذ بالله، فإن العبد إذا عصى الله تبارك وتعالى فقد باعد بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، الصلة فتضعف حتى تنقطع.

ومع ذلك يتحبب إليه الله سبحانه وتعالى بالنعم ويستر عليه، حتى إذا فعل الذنب وراء الذنب والله تَعَالَى يستره عليه، ويذكره ولا يوجد مذنب يفعل ذنباً إلا ويقول الآن سلمت، إذاً لماذا لا أتوب؟ يذكره الله سبحانه وتعالى أن داعي الخير في نفسه موجود، وقد جعله الله تَعَالَى في قلب كل مؤمن عرف الله وآمن به، فنعمة الرزق رغم الاستمرار في المعصية موجودة ونعمة الفؤاد موجودة ولم يحجبها الله سبحانه وتعالى عنه، ومع ذلك يلح الإِنسَان ويصر إلا أن يستخدم هذه النعم في معصية المنعم الذي أعطاه إياها سبحانه وتعالى، فالإِنسَان ظلوم كفار وهذا شأنه، ولكن في الحقيقة هل العبد يظلم ربه: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57] هذا التمادي إنما هو عليك أيها العبد الفقير المسكين المحتاج إِلَى ربك وإذا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ يتعجب كثير من النَّاس.

ص: 1228

قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] فماذا تتوقعون أن يرى الكافر، وكذلك المسلم العاصي؟ كَانَ بعض السلف إذا قرأ هذه الآية يبكي: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، لأن الإِنسَان لا يدري ما حاله عند الله، كيف إذا جيء بالثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النَّار نسأل الله العفو والعافية، يؤتى بالقارئ أو العالم فَيَقُولُ: قد قرأت القرآن، وتعلمت العلم، وتفقهت في الدين، من أجلك يارب، فيُقَالُ له: كذبت، إنما تعلمت ليقال قارئ أو عالم، وقد قيل، اذهبوا به إِلَى النَّار نسأل الله العفو والعافية، كَانَ يرى أنه عَلَى خير، وعلى حسنات، وإذا بتلك الأكوام من الحسنات تذهب وتمضي، وكذلك الجواد الكريم المرائي، وكذلك المجاهد المرائي.

كذلك الذي يظلم عباد الله تبارك وتعالى ويغشهم ويفتري عليهم ويغتابهم ويضربهم ويؤذيهم هَؤُلاءِ يأتون بحسنات كالجبال، ولكن يأتي أحدهم وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وسفك دم هذا، وغصب مال هذا، فماذا تكون النتيجة إذا طالب أهل الحقوق بحقوقهم؟ يأخذ من حسناته فتعطى لهم، ففي الآخرة لا درهم ولا دينار، إنما هي الحسنات والسيئات فيؤخذ من حسناته فيعطى لأولئك الغرماء، وإذا لم تكفِ يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه فيطرح في النَّار نسأل الله العفو والعافية، إذاً هذا يوجب من العبد كمال التيقظ ودوام التذكر والتدبر، فالعبد إذا عرف بالعقل أن له رباً أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر، ازداد يقينا وتوحيداً، والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه.

دعوة إلى التفكر في الأنفس والآفاق

ص: 1229

ولهذا أُمرنا في آيات كثيرة بأن نتفكر وأن نتدبر في أنفسنا وفي الآفاق وفي الأحياء والأموات وفي الماء وفي الجبال والشمس والقمر والنجوم والسماء وفي هذه الحدائق والأزهار والأشجار، وكل ما نراه أمامنا فهو موضع عبرة، وموضع تفكر، لو تفكر الإِنسَان لازداد يقيناً، وازداد توحيداً، وطاعة لله سبحانه وتعالى.

ولقد كَانَ السلف الصالح رضوان الله تَعَالَى عليهم يتفكرون في هذا، ويتفكرون معه في أحوال الأمم، وفي مصير الغابرين والهالكين من الموتى، وهذه عبر عظيمة لا يتفكر فيها إلا المؤمنون.

فالنظر في الطبيعة من هذا الكون يشترك فيه المؤمن والكافر ويتعجبون، لكنِ المؤمنون يختصون بنظر اعتبار وإيمان في الموتى وفي الأمم الخالية وفي العصور السابقة.

ويتفكر الإِنسَان أين قوم نوح؟ وكم كَانَ يعيش الإِنسَان من قوم، نوح وأين عاد؟

وكيف كَانَ حال عاد؟ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7،8] .

وكيف كَانَ حال ثمود الذين نحتوا الجبال واتخذوا من سهولها قصوراً، وأمدَّهم الله تبارك وتعالى بالأنعام والبنين، ماذا صنع الله تبارك وتعالى بهم؟ وماذا كَانَ جزاؤهم ومصيرهم؟

وأين قوم لوط؟ ولماذا أهلكوا؟ ولماذا عذبوا؟ وما هو الذنب الذي فعلوه؟ كل ذلك مما يتفكر به عباد الله المؤمنون، يتفكرون في أقدار الله سبحانه وتعالى، وفي عجائب خلقه وتدبيره.

كيف يموت أبو طالب عَلَى الكفر وقد ولد وتربى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم في حضنه وفي حجره، جَاءَ الوحي إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وعاش صلى الله عليه وسلم يدعو إِلَى الله وهو في حماية أبي طالب حتى أنه حوصر معه في الشعب، ودافع عنه وحماه، ولكنه مات عَلَى الكفر.

ص: 1230

وسلمان الفارسي في أقصى البلاد يترك النَّار ويتحول من راهب إِلَى راهب، كل ذلك ليبحث عن الدين والحق، ثُمَّ يؤمن، فيهديه الله تبارك وتعالى للإيمان وينفر بفطرته من الكفر، وهذا الذي يرى الآيات البينات الساطعات أمام عينيه، ولكنه لم يؤمن، فالله سبحانه وتعالى إذا شاء أهلك الإِنسَان، وأماته وهو في منتهى القوة، وإذا شاء سبحانه وتعالى أنقذه من موت محقق، وقد شارف عَلَى الهلاك وقارب الموت، فإذا به يعود صحيحاً سوياً معافىً كأنه لم يضره شيء.

اعرف نفسك تعرف ربك

لو تفكر الإِنسَان في ربه سبحانه وتعالى لآمن به وازداد به يقيناً ومعرفة، ولهذا قال من قال من السلف:"اعرف نفسك تعرف ربك"، فإذا عرفت ضعفك عرفت قوة الله سبحانه وتعالى، وإذا اعرفت جهلك عرفت علم الله سبحانه تعالى، وإذا عرفت ذنوبك عرفت رحمة الله سبحانه وتعالى بك ولطفه، وأنه لم يهلكك بهذه الذنوب ولم يؤاخذك بها بل تركك لعلك تتوب، وإذا عرفت تقصيرك عرفت كرم الله ومنَه عليك بالنعم والخيرات التي تتابع وتتوالى وأنت في غفلة عنها ولا تدري ولا تحسب لها أي حساب، ولو فقدت واحدة منها لتغيرت حياتك جميعها.

إذاً: لو أن الإِنسَان عرف نفسه عَلَى الحقيقة فلن يرى في نفسه إلا الضعف والعجز والافتقار، ويعرف أن ربه سبحانه وتعالى هو الموصوف بكمال الغنى، وكمال العلم، وكمال الحكمة، وأنه تبارك وتعالى لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فالتفكر في هذه الأمور، مما يجب علينا جميعاً، لنزداد إيماناً بالله تبارك وتعالى، ونزداد عبودية له سبحانه في أنفسنا.

العبودية عبوديتان

ص: 1231

لنكن عباداً لله حقيقة وإلا فكل ما في الكون هو عبد لله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93] كلهم عباده، لكن فرق بين العبد المتعبد بالاختيار، وبين العبد الذي يتكبر عَلَى الله، فلا بد أن نحقق عبودية الاختيار لله سبحانه وتعالى، ولنحذر من الاعتراض عَلَى الله تبارك وتعالى والاعتراض عَلَى أمره وأقداره وأحكامه، فإن هذه تتنافى مع اليقين والتوحيد، وتتنافى مع التفكر، لأنه لا يعترض إلا الجاهل الذي لم يتفطن إِلَى حكمة الله سبحانه وتعالى أبداً، من إذا قيل له: هذا حرام اعترض، هذا جاهل بحكمة الله سبحانه وتعالى في التشريع، ومن إذا قيل له: هذا قدر الله، فاعترض وأبى هذا جاهل بحكمة الله سبحانه وتعالى بالمقادير،.

فيجب أن يكون المؤمن دائماً منقاداً مذعناً مستسلماً لربه تبارك وتعالى، هذه الدرجة التي لو بلغ الإِنسَان ذروتها لكان كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وإذا وصل العبد إِلَى هذه الحالة، فإنه يصبح في منزلة عظيمة عند ربه عز وجل كما في حديث الولي (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سئلنى لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) .

ص: 1232

فالإِنسَان إذا ازداد به اليقين والتفكر والتأمل يصل إِلَى هذه الدرجة، الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب الموت عَلَى كل حي كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35] ، فلا يتردد سبحانه وتعالى في شيء مثل تردده في هذا، وهنا أمران يتعارضان، هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته، لا يريد أن يسوء هذا العبد بالموت، والعبد طبيعتة أنه يكره الموت، فهذا الذي هو ملك لله، وهو غني عنه في لحظة، ومع ذلك تبلغ قيمة هذا العبد عند الله أن يصير عنده بهذه المنزلة، وبهذه الدرجة، لما أن تقرب إِلَى الله سبحانه وتعالى.

ص: 1233