الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح العقيدة الطحاوية
الرؤية
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تَعَالَى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] وهي من أظهر الأدلة، وأما من أبى إلا تحريفها بما يُسميه تأويلاً: فتأويل نصوص المعاد والجنة والنَّار والحساب أسهل من تأويلها عَلَى أرباب التأويل. ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرِّفها عن مواضعها إلا وجد إِلَى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنَّصارَى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد عَلَى الدين وأهله من جناية، فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟ ! وكذا ما جرى في يوم الجمل وصِفِّين، ومقتل الحسين رضي الله عنه، والحرة، وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة عَلَى ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟!
وإضافة النظر إِلَى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل عَلَى خلاف حقيقته وموضوعه، صريحٌ في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إِلَى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات، بحسب صلاته وتعديه بنفسه. فإن عدي بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] وإن عدي بـ (في) فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:185] وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: المعاينة بالأَبصار، كقوله تعالى: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر [الأنعام:99] فكيف إذا أضيف إِلَى الوجه الذي هو محل البصر؟!
وروى ابن مردويه بسنده إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] قَالَ: من البهاء والحُسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قال في وجه الله عز وجل.
عن الحسن قَالَ: نظرت إِلَى ربها فنُضِّرت بنوره.
وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قَالَ: تنظر إِلَى وجه ربها عز وجل.
وقال عكرمة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قَالَ: من النعيم إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قَالَ: تنظر إِلَى ربها نظراً َ.
ثُمَّ حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله.
وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث] اهـ.
الشرح:
يثبت الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله أن من اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن الرؤية حق لله تبارك وتعالى في الجنة، فأهل الجنة المؤمنون -جعلنا الله وإياكم منهم- يرون ربهم جل وعلا عياناً بالأبصار، كما جَاءَ في الحديث الصحيح، وهذا هو النعيم الأعلى والأعظم في الجنة، وهو أعظم نعيم يتنعم فيه أهل الجنة بل هو ألذ من جميع أنواع النعيم التي لم ترها عين، ولم تسمع بها أذن، ولم تخطر عَلَى قلب بشر، ثُمَّ يقول:[بغير إحاطه ولا كيفية]، أي: أنه لا يستلزم من هذاالنظر الإحاطة.
والذين نفوا الرؤية كالمعتزلة وغيرهم قالوا: إن مما يدل عَلَى نفي الرؤية قول الله تبارك وتعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] فما دام أن الأبصار لا تدركه؛ فهو لا يُرى وما علموا أن هناك فرقاً بين الرؤية والإدراك، فإن الإِنسَان قد يرى الشيء لكن لا يحيط به ولا يدرك حقيقته، والذي نفى الله تبارك وتعالى وقوعه هو الإحاطة به وإدراكه وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] فإذا كَانَ العلم لا يحيط به سبحانه وتعالى -ومجاله أرحب وأوسع من الرؤية- فكيف تحيط به الرؤية؟!
قوله: [ولا كيفية] أي: لا نعلم الكيفية التي يرى بها المؤمنون ربهم جل وعلا، وكما قَالَ:[وتفسيره عَلَى ما أراد الله تَعَالَى وعلمه] يعني: تفسير الكيفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فنحن نؤمن بالرؤية وأما كيفية وقوع هذه الرؤية فإن الذي يعلمها هو الله سبحانه وتعالى ونحن لا نعلمها، وعماد استدلاله كَانَ بهذه الآية وبالأحاديث الصحيحة الدالة عَلَى الرؤية فقَالَ:[كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: في شرح هذا الكلام: [وقد ذكر المُصنِّفُ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] . وهي من أظهر الأدلة] .
ومن أوضح وأبين وأجلى الأدلة عَلَى رؤية الله تبارك وتعالى، ولهذا فإن الإمام البُخَارِيّ رحمه الله في صحيحه جعل هذه الآية هي عنوان الباب، ثُمَّ أورد بعد ذلك أحاديث كثيرة في إثبات رؤية الله تبارك وتعالى عن عدد من الصحابة الكرام: عن جرير بن عبد الله البجلي، وأَبِي هُرَيْرَةَ، وأبي سعيد الخدري، وأورد أحاديث كثيرة في الحشر ويَوْمَ القِيَامَةِ، تثبت رؤية الله تبارك وتعالى، منها الأحاديث التي ستأتي إن شاء الله تعالى. ٍٍ
فالآية لوضوح دلالتها، ولوضوح معناها الذي لا يلتبس فيه عقل أحد كانت دليلاً عَلَى هذا الأصل العظيم، الذي هو أصل من أصول عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لكن الجهمية والمعتزلة ومن اتبع مذهبهم أبوا إلا الانحراف.
استطرد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا في بيان خطر التأويل، هكذا يسميه أهل البدع وهو في الحقيقة تحريف، وقد سبق توضيح معاني التأويل.
وقلنا: إذا كَانَ التأويل بمعنى التفسير فهذا هو المعروف في كلام العرب، كقولهم: هذه الآية تأويلها كذا، يعني: تفسيرها كذا، كما هو ملاحظ في تفسير الإمامابن جرير الطبري وأمثاله من كتب السلف، فإنهم يطلقون التأويل بمعنى التفسير، لكن التأويل المصطلح عليه عند المتأخرين: هو صرف دلالة اللفظ من المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح، وهذا في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه، فالله تَعَالَى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالوا: نؤولها فنقول: استولى! وهذا تحريف، حرفوا كلمة "استوى" التي قالها الله وفهمها الصحابة إِلَى "استولى"، وأمثال ذلك من التحريفات.
ثُمَّ بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أن تأويل هذه الآية مع وضوح دلالتها، فإن تأويل آيات المعاد والبعث والحشر وآيات الجنة والنَّار والجزاء أسهل؛ لأن هذه الآية واضحة كوضوح تلك الآيات، بل هذه الآية أوضح في بعض الجوانب، فالذي يؤول قول الله تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] . ويحرفها عن معناها إِلَى معنى بعيد، لا يصعب عليه أن يؤول أيضاً كل الآيات التي تدل عَلَى البعث والنشور والحشر وأحوال يَوْمَ القِيَامَةِ بل حتى آيات الأحكام، كالصلوات الخمس: قالوا: هي عَلِيّ والحسن والحسين وفاطمة ومحسن!
فإذا فتحنا باب التأويل في الأمور الواضحة الجلية، فإنه لن يبق هناك شيء لا يؤول من ديننا فيمسخ الدين والعياذ بالله، وهذا هو الذي فعله هَؤُلاءِ المؤولون؛ لأن التأويل كما ذكر المُصنِّفُ رحمه الله هو الذي أفسد الدنيا والدين.
رد النصوص أو رفضها لا يخلو من أحد أمرين
رد النصوص أو رفضها وعدم قبولها لا يخلوا من أحد أمرين في الغالب:
إما رداً واضحاً مباشراً، وإنكاراً كلياً، كَانَ ينكر الإِنسَان ثبوتها، كما كذَّبَ بالقرآن من قبل، وأنكر أنه كلام الله عز وجل، وهذا ردٌ واضحٌ مباشر، أو إنكار المعنى إنكاراً كلياً، هذا أحد الوجوه.
الوجه الثاني: تأويلها وتحريفها، والاحتيال عليها، حتى تخرج عن المعنى الذي أراده الله ورسوله، إِلَى معنى آخر لم يرده الله ورسوله بهذا الخطاب، ولم يفهمهالسلف الصالح.
وكلاهما رد، والرد الواضح يجرؤ عليه الملحدون والكفار المجاهرون، أما التأويل فإنما يلجأ إليه المتأولون الذين يزعمون أنهم ينزهون وكما قال المنافقون من قبلهم! إن نريد إلا إحسانا وتوفيقا.
وهَؤُلاءِ يقولون: نَحْنُ نثب ألفاظ النصوص كما هي؛ لكن ننفي دلالاتها وننفي معانيها! فما الفائدة من وجود الألفاظ إذاً؟! أتجعل هذه الألفاظ رسماً في المصحف بدون معاني حقيقية، وبدون المدلولات، التي من أجلها جَاءَ هذا الخطاب، ونزل عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، أو تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وبهذا التأويل هدمت الأديان التي من قبلنا، وهو الذي شتت هذه الأمة وفرقها.
فإذا قلنا: إن التأويل سائغ وجائز، فإن المُصْنِّف يقول:[فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد] ، وذلك لمَّا خرج عبد الله بن سبأ اليهودي ومن اتبعه، وعملوا في السراديب وفي الظلام عَلَى إذكاء نار الفتنة بين الْمُسْلِمِينَ، ولم يكونوا يقولون للناس: نَحْنُ نعادي الإسلام، ونكره الدين، ونريد أن نقتل الخلفاء! لا؛ بل ألبسوها بتأويل العدل، والمطالبة بالعدل، والمطالبة بسنة عُمَر؛ لأن عثمان -كما يزعمون- انحرف عن منهج عُمَر رضي الله عنه، فكانوا يقولون: نريد منهج عُمَر! نريد منهج النبي صلى الله عليه وسلم! ونريد أن لا يتولى أقارب الخليفة الإمارة بل يتولى الْمُسْلِمُونَ الآخرون! إِلَى أخر ما تأولوا به حتى قتلوه رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وكذلك في يوم الجمل ما خرجت الخوارج إلا بالتأويل، يقولون: إن الله عز وجل يقول: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36] والضلال المبين هو الكفر، وعلى هذا فمن عصى الله بزناً أو خمرٍ أو سرقةٍ فإنه كافر، وتأولوا بقية الآيات والأحاديث مثل:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وتركوا جميع الأحاديث الصحيحة الدالة عَلَى أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار.
وكذلك الرافضة، أتوا إِلَى الآيات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في المنافقين فجعلوها في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الآيات التي نزلت في عبد الله بن أُبيَّ بن سلول ومن معه، فجعلوها في أبي بكر الصديق صاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ومن ماثله من الصحابة وهكذا.
فتفرقت الأمة بناءً عَلَى هذا التأويل. فلو فتحنا المجال لِكُلِ إنسان بأن يؤول كما شاء في كتاب الله عز وجل لَمَا بقي من ديننا شيء، فلا بد من إغلاق هذا الباب واتباع منهجالسلف الصالح في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك فهم هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] التي أنزلها الله عَلَى نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وقرأها عَلَى أصحابه، وقرأها الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، وقرأها السلف جميعاً فما سمعنا أن أحداً أولها، أو أخرجها عن معناها، بل في الآية نفسها ما ينفي وما يقطع أي تأويل يؤوله الجهمية ومن اتبعهم فيها.
والجهمية عندما أولوا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قالوا: إن "إلى" مفرد آلاء كما في قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13] فـ"إلى" بمعنى النعمة، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني: منتظرة، تنتظر نعمة ربها، فمعنى الآية عندهم -على تأويلهم-: أن هذه الوجوه تنتظر نعمة الله سبحانه وتعالى عليها! فانظروا إِلَى هذا التكلف والتلاعب بكتاب الله عز وجل! ولذلك لما أخذ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يردون عليهم قالوا: أولاً: إضافة النظر إِلَى الوجه الذي هو محله من القرائن الدالة عَلَى أن المقصود هو المعنى الحقيقي: وهو النظر. فالنظر أضيف إِلَى الوجه الذي هو محل النظر، أي: أسند إليه، فهو الفاعل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فهو نظر حقيقي حسي، ثُمَّ "إلى" حرف جر وليست كما زعموا بأنها مفرد "آلاء" وإذا تعدى النظر بإلى لم يكن في معنى الانتظار إنما أصبح بمعنى النظر، نظرت إِلَى كذا، يعني: رأيته بالعين الحسية المعروفة.
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وإخلاء الكلام من قرينة تدل عَلَى خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إِلَى الرب جل جلاله] .
ولو أخذنا كلمة نظر في اللغة العربية واستعمالاتها لوجدنا أنها تختلف بحسب ما بعدها وبحسب تعديها بالحرف أو بغيره، وبما يأتي بعدها من الصفة فيقول المصنف: فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار:انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم [الحديد:13] فإذا قلت: انظر فمعناها توقف لي، وتمهل، وانتظرني، " وإن عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار "، كما قال الله تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] أي: أولم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، وهذا في القُرْآن الكريم كثير أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية:17] ، أي: يتفكرون، فالنظر بمعنى التفكر وبمعنى الاعتبار.
أما إن تعدى إِلَى مفعوله بـ"إلى" فهذا هو النظر الحسي الحقيقي بالعين والبصر، كما في قوله تعالى: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99] فانظروا بمعنى: تأملوا وشاهدوا وطالعوا ذلك بالعين لتتأملوا ذلك وتعلموا دقيق صنع الله سبحانه وتعالى، وعجيب خلق الله في هذه الثمار إذا أظهرها، وفي هذا الينع إذا أطلعه سبحانه وتعالى، إضافة إِلَى أن التعدي كَانَ بـ"إلى" في هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فقد أُسند الفعل إِلَى الوجوه، والوجه محل النظر، وهو محل العينين، فلم يعد هناك أي احتمال لأن يكون معنى النظر الانتظار أو التفكر أوالتوقف. وهناك دليل آخر دل على هذا وهو الدليل الذي نعتمد عليه دائماً في كل أمر من الأمور، وهو أن أعلم الناس بكتاب الله عز وجل وبتفسيره هم السلف الصالح رضوان الله عليهم، فبماذا فسر السلف الصالح هذه الآية؟ فضلاً عن الأحاديث الأخرى التي جاءت تدل على رؤية الله سبحانه وتعالى، ولقد روى ابن مردويه بسنده إِلَى عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قَالَ: من البهاء والحُسن، وناضرة من النضارة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قَالَ: ناظرة في وجه الله عز وجل، وسواء ثبت هذا مرفوعاً أو كَانَ من تفسير الصحابي فإنه -ولله الحمد- هو المعنى الذي لا يحتمل الكلام غيره، وعلى كلا الحالين فهو مقبول.
وعن الحسن البصري رحمه الله قَالَ: نظرت إِلَى ربها فنظرت بنوره يعني: وجوه يومئذ ناضرة عليها البهاء، وعليها الحُسن وعليها النضارة، لأنها نظرت إِلَى ربها فنضرت، وطلع عليها البهاء والحسن والجمال بنوره تبارك وتعالى، هكذا فسرها هذا التابعي الجليل.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أيضاً أنه فسر: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فقَالَ: تنظر إِلَى وجه ربها عز وجل.
وقال عكرمة تلميذ ابن عباس وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قَالَ: ناضرة من النعيم، أي: متنعمة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قَالَ: تنظر إِلَى الله نظراً، يعني: تراه رؤية حقيقية، ثُمَّ حُكي عن ابن عباس مثله.
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث] فنقول لأهل البدع الذين أولوا هذه الآية: ائتونا بواحد من علماء السلف صح عنه أنه قال في هذه الآية: إنها ليست في الرؤية الحقيقية، بل هي في الانتظار أو بأي معنى من المعاني التي تبتدعونها! وإنهم لن يستطيعوا ذلك، ونحن يسعنا في كل أمر من الأمور ما وسع السلف الصالح والقرون المفضلة، فنقف حيث وقفوا، ونفسر كتاب الله عز وجل كما فسروا، ثُمَّ انتقل المُصْنِّف إِلَى دليل آخر من الأدلة عَلَى إثبات رؤية الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وقال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، قال: الطبري: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.
وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة) ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر، معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل.
وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير عن جماعة، منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي الله عنهم.
وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي، وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرتمحمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] ؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا] اهـ.
الشرح:
هنا دليلان:
الدليل الأول: الزيادة.
والدليل الثاني: حجب الكفار عن الله تبارك وتعالى مما يدل على رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا.
وكما هو واضح أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فسروا المزيد وفسروا الزيادة برؤية الله تبارك وتعالى.
فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنس بن مالك، وأبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس -وهؤلاء أعلم الصحابة بالتفسير وبغيره من العلوم- كل هؤلاء فسروا المزيد بأنها رؤية الله تبارك وتعالى قال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [قّ:35]، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ.
فإذا كانت الحسنى هي الجنة، وإذا كان لأهل الجنة ما يشاؤون من النعيم -كما هو متفق عليه بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة وغيرهم- وفيها ما يشاء الإنسان مما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين من أصناف النعيم وأنواع الملذات، وهي الحسنى التي وعد الله تبارك وتعالى بها عباده الصالحين، فما هي الزيادة على الجنة؟ والجنة نعيمها لا ينفذ ولا ينقطع وإنما هو متجدد دائم متصل.
فَسَّرَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الصحيح الذي رواه صهيب رضي الله تعالى عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وقال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟) لأنهم يرون أنهم قد زحزحوا عن النارفَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] .
فالفوز الذي كانوا دائماً يحلمون به والأمنية العظمى التي كانت تراود أنفسهم وقلوبهم قد تحققت، فما أن اجتازوا وعبروا الصراط وأنجاهم الله تبارك وتعالى من الكلاليب التي مثل شوك السعدان والتي تخطف الناس وتهوى بهم إلى النار، فلما جاوزوا ذلك إلى الجنة، وجدوا فيها مالا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فعند ذلك تعجبوا، وماذا بقي بعد هذه الجنة؟! وماذا بقي من موعد وعدنا الله تبارك وتعالى به ولم يحققه لنا تبارك وتعالى؟!
(فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟) يعمل المؤمن الحسنة فيجعلها الله تبارك وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، ويفعل الفعل من أفعال الخير ويأتي يوم القيامة وإذا به مثل الجبال ويجعله الله تعالى في الميزان عظيماً ثقيلاً وهو من فضله تبارك وتعالى.
(ألم يبيض وجوهنا؟) يوم تبيض وجوه أهل الإيمان والسنة وتسود وجوه أهل الكفر والنفاق والبدعة هكذا يسألون ربهم عز وجل.
(فيكشف الله سبحانه وتعالى الحجاب عن وجهه الكريم فينظرون إليه) ثم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه) كل ذلك النعيم الذي رأوه من الحور العين ومن الولدان ومن النعيم الذي لا ينقطع، والأنهار التي من العسل واللبن ومن ماء غير آسن ومن الخمر وكل ما في الجنة من نعيم ولذة وبهجة، كل ذلك لا يساوي لذة النظر إلى وجه الله الكريم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يمتعون بذلك إنه سميع مجيب.
قال: (فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) وقرة عين المؤمنين في الدنيا هي في معرفة ربهم سبحانه وتعالى من صفاته ونعوت جلاله، واتباع دينه وعبادته، ومناجاته والتضرع إليه والعمل لوجهه الكريم، هذه قرة أعينهم في الدنيا، وقرة أعينهم يوم القيامة بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، وهذه أعظم نعمة. والإنسان في هذه الحياة الدنيا ينعم ويرتاح ويسعد بقدر ما يكون إيمانه ومناجاته لله سبحانه وتعالى، وقوة صلته بالله جل شأنه، وقوة يقينه بالله ومعرفته لنعوت جلاله وصفات كماله سبحانه وتعالى، فهذه غاية السعادة وغاية الطمأنينة والراحة في هذه الحياة الدنيا.
يقول الإمام ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى أجمعين: (إني لأكون في حال، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي نعيم) ، ما هي هذه الحال؟ إنها حال تلذذ القلب بذكر الله سبحانه وتعالى والأنس به، ومناجاته والتضرع إليه سبحانه وتعالى، وقرة عينه في الآخرة التي هي قرة العين العظمى والغاية الكبرى ليست في نعيم الجنة: من الحور والولدان والمتاع والفاكهة واللحم، وإنما تكون قرة العين العظمى والكبرى والنعيم الأعظم واللذة التي لا يعدلها لذة، هي رؤية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي تقر به العين ورؤيته تعدل جميع أصناف وجميع أنواع النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم في الجنة.
فذكر بعد ذلك المصنف رحمه الله أن هذه الزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النظر إلى وجهه الكريم، وهذه الطريق جاءت مرفوعة صحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت جاءت عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كما روى ذلك الإمام ابن جرير الطبري عن أبي بكر وحذيفة وأبي موسى وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بالإضافة إلى أن علي بن أبي طالب وأنس بن مالك فسروا قول الله تعالى وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ بأنها رؤية الله سبحانه وتعالى. فالآية من كتاب الله واضحة جلية، فلم يبق بعد ذلك مجال لمؤول ولا لمنكر وهذا الدليل الثاني.
والدليل الثالث على رؤية الله تبارك وتعالى هي قوله جل شأنه في حق الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ َ [المطففين:15] وهذه الآية احتج الشافعي رحمه الله بها على الرؤية كما ذكر ذلك المصنف فقالالشافعي: (لما حجب هؤلاء بالسخط -أي: عن رؤيته- كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا) فمقتضى رضاه أن يراه أولياؤه وأحباؤه المؤمنون كما كان من مقتضى سخطه وغضبه على الكافرين أن يمنعهم عن رؤية وجهه الكريم.
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] هل المسلمون والمجرمون سواء في الحجب عن رؤية الله سبحانه وتعالى؟
وفي كلام الشافعي والإمام مالك: دليل وتصريح بأن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا يوم القيامة، وهذا من الأدلة التي تبطل دعاوى المؤولين والمحرفين. ثم ذكر المصنف مناقشة المعتزلة وما استدل به المعتزلة والجهمية المنكرون لرؤية، وكما قلنا: لا بد لهم من تأويلات ولا بد لهم من شبهات.
فمن ذلك أنهم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: قَالَ لَنْ تَرَانِي وبقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] وقد أطال المصنف -رحمه الله تعالى- هنا في إبطال استدلالهم بآية الأعراف وهي قوله تعالى: لَنْ تَرَانِي.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] وبقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصار [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم:
أما الآية الأولى: فالاستدلال منها عَلَى ثبوت رؤيته من وجوه:
أحدها: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم النَّاس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال.
الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح عليه السلام ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله، وقَالَ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46]
الثالث: أنه تَعَالَى قَالَ: لَنْ تَرَانِي ولم يقل: إني لا أُرى، أو لا تجوز رؤيتي أو لستُ بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كَانَ في كمه حجر فظنه رجل طعاماً، فَقَالَ أطعمنيه، فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل، أما إذا كَانَ طعاماً صح أن يقَالَ: إنك لن تأكله، وهذا يدل عَلَى أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه:
الوجه الرابع: وهو قوله: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خُلق من ضعف؟!
الخامس: أن الله سبحانه قادر عَلَى أن يجعل الجبل مستقراً وذلك ممكن وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء.
السادس: قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا [الأعراف:143] فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله تَعَالَى أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما. وأما دعواهم تأبيد النفي بـ (لن) وأن ذلك يدل عَلَى نفي الرؤية في الآخرة: ففاسد، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل عَلَى دوام النفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت؟
قال تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة:95] مع قوله: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جَاءَ ذلك، قال تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] فثبت أن (لن) لا تقتضي النفي المؤبد، قَالَ: الشيخ جمال الدين ابن مالك، رحمه الله:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا
] اهـ.
الشرح:
إن المُصنِّفُ رحمه الله مثله في ذلك مثل أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الآخرين، فقد قلبوا ما جَاءَ به الجهمية دليلاً للنفي عليهم وأثبتوا أنه دليل للإمكان وللإثبات، وأعظم ذلك قوله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف: 143] وهذه الآية أخذ المعتزلة منها لَنْ تَرَانِي فقط وَقَالُوا: إن رؤية الله سبحانه وتعالى محال فلا يمكن أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن "لن" لفظة للتأبيد إِلَى الأبد، يعني: لو قلت في شيء "لن " فمعناه إِلَى الأبد ولا يمكن أن يقع، فإذاً لَنْ تَرَانِي جَاءَ فيها النفي بلن مؤبداً فلا يمكن أن تقع الرؤية لله سبحانه وتعالى، لا في الدنيا ولا في الآخرة وهذا إفكهم وتأويلهم.
فبين المصنف: أن الآية دليل عليهم، يعني: دليل عَلَى إثبات الرؤية من عدة وجوه، ذكر سبعة أوجه نأخذها واحداً واحداً، إن شاء الله.
الأول: أنكم إذا قلتم إن رؤية الله سبحانه وتعالى محال كما هو مذهبكم، فيُقَالُ: هل يظن بنبي الله وكليم الله وأعلم الخلق بالله في زمانه وهو موسى عليه السلام أن يسأل أمراً محالاً في حق الله عز وجل. فسؤال موسى عليه السلام دليل عَلَى الإمكان، والأنبياء هم أعلم النَّاس وأعرفهم بصفات ربهم عز وجل، أرسلهم الله سبحانه وتعالى، ليعلموا النَّاس صفات الله سبحانه وتعالى وما ينبغي له وما لا يجوز أن يطلق عليه وما لا يجوز أن يقال في حقه، فإذا جَاءَ النبي وسأل ربه ذلك، فهذا في ذاته دليل عَلَى أنه ليس بمحال، ومنكرو الرؤية لا يجعلونه ممكن، بل يجعلونه محال استحالة مطلقة، فكأنهم أعرف بالله عز وجل وبما يليق به وما لا يليق من نبيه موسى عليه السلام!!.
الثاني: أنه سبحانه وتعالى لم ينكر عَلَى موسى عليه السلام سؤال الرؤية، بينما نجد أنه سبحانه وتعالى ينكر ولو عَلَى الأَنْبِيَاء إذا سألوه وطلبوه أمراً محالاً، لا نقول: إحالة كلية لأن المحال بالمرة لا يسأله الأنبياء، ولكن إذا سألوا أمراً يظنون أنه ممكن وهو مما لم يشأ الله عز وجل أن يفعله، كما سأل نوح عليه السلام ربه نجاة ابنه فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] يستعطف ويسترحم ويسأل ربه سبحانه وتعالى أن ينجي ابنه، فرد الله تبارك وتعالى عليه بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46] فسؤال الله عز وجل أمراً قد قطع الله سبحانه وتعالى بأنه لا يتحقق هذا مما يفعله الجاهلون، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنوح عليه السلام: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فهو ليس من الجاهلين عليه السلام، ولكن الرحمة والشفقة الفطرية جعلته يدخل الابن في عموم من ينجو من الأهل فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَق ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الابن خارج عن الوعد وليس داخل فيه، ووعظ نبيه نوحاً أن يسأله مثل ذلك، فلو كَانَ سؤال نبي الله تَعَالَى موسى الكليم من هذا القبيل لقال له أيضاً، لا تفعل ذلك ولا تسألني مثل هذا ولا تطلب مني شيئاً من هذا، وهذا لم يقع ولم يحصل في سؤال الكليم موسى عليه السلام.
الثالث: أنه تَعَالَى قَالَ: لَنْ تَرَانِي ولم يقل: إنني لا أُرى، أو إنني لا تجوز رؤيتي، أو إنني لست بمرئي، ففرق بين هذا وبين قوله: لَنْ تَرَانِي فهو مجرد نفي لوقوع الفعل، ليس نفياً لإمكان الوقوع مطلقاً.
ثُمَّ ضرب المُصنِّفُ مثالاً شاهداً لذلك: أنه من كَانَ في كمه حجر فَقَالَ له إنسان أطعمنيه، فالجواب الصحيح أن يقول: إنه لا يؤكل، وليس الصحيح أن يقول له: إنك لن تأكله، فالحجر لا يمكن أن يؤكل أصلاً، حتى يبين للطالب أو للسائل أن هذا محال نهائياً، لكن لو كَانَ في كمه طعاماً، وقال له إنسان: أعطني، فقَالَ: لن تأكل منه، فبهذا نعرف أنه طعام لكن لن يعطيه إياه، فمن الممكن أن يعطيه غداً، ويمكن أن يعطيه بعد غدٍ أو يمكن أن يعطى غيره، لأن هناك فرقاً بين نفي الفعل ونفي الإمكان بشكل مطلق وعام.
وهنا حكمة عظيمة وهي أن موسى عليه السلام في هذه الدار لا تستطيع قواه ومداركه أن ترى الله سبحانه وتعالى، ولذلك جَاءَ التعليق بالرؤية للجبل المخلوق العظيم القوي، الذي يراه الإِنسَان فيعجب من قوته ويعجب من صلابته، بالنسبة إِلَى هذا الضعف المشاهد في المخلوق المسكين الضعيف.
فالله سبحانه وتعالى قال: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فعلق الرؤية بشيء ممكن وهو استقرار الجبل، وقوة الجبل أقوى من قوة موسى عليه السلام في التحمل، فلما علق الرؤية بذلك كَانَ دليلاً واضحاً عَلَى أن عدم إمكان رؤية موسى عليه السلام لربه جل وعلا، هو بسبب ضعفه في هذه الحياة الدنيا، فقواه تضعف عن احتمال رؤية الله سبحانه وتعالى، فيقول المصنف: فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف فهو لا يثبت لتجلي الله سبحانه وتعالى ولا يتحمل ذلك، فإذا كَانَ الجبل أصبح دكاً فإن الإِنسَان البشر يسحق أعظم من ذلك بمجرد أن يتجلى الله سبحانه وتعالى عليه وهذا هو الوجه الرابع.
الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قادر عَلَى أن يجعل الجبل مستقراً وذلك ممكن وقد علق به الرؤية فالله تَعَالَى قادر عليه وليس بمحال أن يجعل الجبل مستقراً يعني: في تلك اللحظة لما قال الله عز وجل لموسى: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي وبهذا يكون هناك بقية الأمل عند موسى عليه السلام، فلو استقر الجبل -وهذا ممكن- فسيرى ربه، فهناك نوع من الأمل ممكن أن يتحقق، وليس هناك نفي للوقوع مطلقاً فتعليقه بأمر ممكن غير تعليقه بأمر محال عَلَى الله عز وجل، كما لو قَالَ: إن استقر الجبل فسوف آكل أو فسوف أنام أو أشرب أو غير ذلك مما تنزه الله سبحانه وتعالى عنه، [والكل عندهم سواء] فكونه عندهم يُرى مثل كونه: يأكل أو ينام أو يسهو أو يغفل تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
السادس: قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً فإن الله سبحانه وتعالى قد تجلى للجبل، فلما تجلى للجبل وهو مخلوق جماد لا ثواب له ولا عقاب عليه، فتجليه سبحانه لأوليائه ولأهل كرامته ولأحبائه وعباده الصالحين أمر ممكن ولا يجوز ولا يصلح بأي حال من الأحوال أن نجعله من قبيل المحال.
السابع: أن الله تَعَالَى كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز في حقه التكليم جاز في حقه الرؤية؛ لأن كلام الله سبحانه وتعالى لموسى وخطابه له أمر عظيم فإذا جاز ذلك فلا يمتنع أن يكشف الحجاب فيراه، ولتلازمهما نفت المعتزلة والجهمية الكلام والرؤية معاً.
لا يستغرب أن أعداء الله سبحانه وتعالى الذين لا يريدون الحق، ولا يريدون الهدى يبحثون عن أية شبهة مهما كانت ضعيفة أو بعيدة لتساند بدعتهم.
الرد على استدلالهم بقوله تعالى: ((لَنْ تَرَانِي))
ومن ذلك أنهم اخترعوا هذه الشبهة التي لا أصل لها في لغة العرب وهي قولهم: إن (لن) في لغة العرب تنفي نفياً مؤبداً، يعني: نفياً قطعياً إِلَى مالا نهاية، فكأنك إذا قلت -لن أدخل بيت فلان- فمعنى ذلك: النفي المؤبد الذي لا يمكن أن يكون فيه استثناء.
ولكننا نجد أن هناك من يقول: " لن أفعل كذا " ويفعله في ذلك اليوم أو في اليوم الثاني، ويكون منتهى ما يدل عليه ذلك النفي، أنه لن يفعل في ذلك الوقت الذي عرض عليه أن يفعله، ولا أكثر من ذلك، أما أن يحمل هذا الأسلوب -وهو استخدام "لن" مع الفعل- عَلَى النفي المطلق إِلَى ما لا نهاية، فهذا من الغلو ومن التعسف الذي لا أصل له، ولكن القلوب المريضة تتصيد الشبهات وتتبعها لتزيغ وتزداد زيغاً وضلالاً.
وهكذا فعل المعتزلة ومن وافقهم فَقَالُوا: إن "لن" للتأبيد المطلق، ولما قَالَ:" لن تراني " أي لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تراني لا في هذه الدنيا، ولا في الآخرة إِلَى أبد الآبدين وما لا نهاية، ولذلك أخذ المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يرد عليهم.
فبين رحمه الله أن هذا القول باطل وفاسد لوجوه عديدة منها:
الوجه الأول: أنه حتى لو قيد بالأبد لما دلت عَلَى ذلك. فلو أنه قَالَ: "لن تراني أبداً" لما دل ذلك عَلَى نفي الرؤية مطلقاً إِلَى ما لا نهاية له؛ لأن "الأبد" هنا له غاية محدودة هو هذه الحياة الدنيا، فإن الكلام إنما هو في الدنيا. وقد سأل الله تبارك وتعالى عبدُه وكليمُه موسى عليه السلام الرؤيةَ في الدنيا، فأجابه الله تبارك وتعالى في حدود هذه الدنيا، ولم يتَعرض لقضية الآخرة والأزل في هذا الموضوع. فكيف وقد جاءت مطلقة لا مقيدة، فلم يأت فيها " أبداً "، ولم يقل الله "لن تراني أبداً" وإنما قَالَ: لَنْ تَرَانِي مع أنه في لغة العرب حتى ولو قال أحد: لن أفعل أبداً. لما دلّ ذلك عَلَى أن النفي سيستمر إِلَى قيام الساعة، وما بعد قيام الساعة.
وقد بين المُصْنِّف رحمه الله أنه قد جَاءَ في القُرْآن النفي بـ"لن"، وجاء مع ذلك ما يدل عَلَى عدم التأبيد، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن الْمُشْرِكِينَ من اليهود وغيرهم أنه تحداهم إن كانوا عَلَى الحق والعقيدة الصحيحة والدين الصحيح أن يتمنوا الموت؛ لأن اليهود كما قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّر [البقرة:96] فهم يخافون من الموت خوفاً لا نظير له، والواثق من دينه لا يخاف من الموت، نعم كل البشر يخافون من الموت لكن الذي يثق بدينه، وأنه إن مات عَلَى هذا الدين والإيمان، فإنه سيتلقاه الله سبحانه وتعالى بالرحمة والرضوان؛ لأنه عَلَى هدى من ربه ويقين من دينه لا يخاف.
لكن هَؤُلاءِ يخافون لأنهم ليسوا واثقين مما هم عليه من الدين، فلهذا قال الله تبارك وتعالى عنهم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة:95] أما في الدنيا فنعم ولكن في الآخرة أخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل النَّار أنهم سيقولون: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ويتمنوا ذلك وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] ولكن الله سبحانه وتعالى قد كتب أنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخرجون منها - عافانا الله من عذابها -فلما أخبر تَعَالَى أنهم في الدنيا لن يتمنوه، وأخبر أنهم في الآخرة يتمنون ذلك علمنا أن "لن" ليست للتأبيد المطلق وإنما غاية ما تدل عليه أنهم لن يتمنوه في هذه الحياة الدنيا، فقوله: لَنْ تَرَانِي، غاية ما يدل عليه أن الرؤية لن تقع في حدود الحياة الدنيا.
الوجه الثاني: أن "لن" لو كانت للتأبيد لما جاز أن يحدد الفعل بعدها، فلو كانت هذه الأداة في لغة العرب كما يزعمون للتأبيد المطلق لما صح أن يقع بعدها استثناء أو تحديد للفعل، بينما نجد أنه قد جَاءَ ذلك في القرآن، كما في قوله تبارك وتعالى عَلَى لسان أخي يوسف فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] إذا حصل الإذن من أبيه فإنه سيبرح الأرض، فحصل النفي بـ "لن" وحصل معه التحديد، فالنفي يستمر إِلَى حالة حصول الإذن، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي.
إذاً: ليست "لن" للتأبيد المطلق الذي لا تحديد فيه، وإنما تأتي للتأبيد المحدد بقدر محدد، وهذا معلوم من لغة العرب، ولا يمكن لأي إنسان سليم الفطرة ونقي العقل يقرأ كلام العرب ويتخاطب به إلا فهم أنه لا يمنع أحداً أن يقول:" لن أفعل كذا حتى يكون كذا " بل هذا سائغ ووارد من كلام العرب.
واستدل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذلك بقول الإمام الشيخ " جمال الدين ابن مالك "صاحب" الألفية " وغيرها من الكتب النحوية المشهورة، الذي بلغ صيته الآفاق في النحو وكان -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من النحاة الكبار الذين أحيوا وجددوا هذا العلم في العصور المتأخرة، فابن مالك هذا -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يقول:
ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا
أي: والقول الآخر قوّه، ورد قول من يقول إن النفي "بلن" مؤبد.
فهذا رجل من المشهود لهم بالمنزلة العالية في النحو وهو يشهد بما عليه مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من أن "لن" ليست لتأبيد النفي، فبطل بذلك قول أُولَئِكَ المعتزلة -ولله الحمد- وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام عن الآية الأولى وهو قوله تَعَالَى لموسى: لَنْ تَرَانِي.
الرد على استدلالهم بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ
الآية الثانية التي استدل بها المعتزلة: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأما الآية الثانية فالاستدلال بها عَلَى الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو: أن الله تَعَالَى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية.
وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تَعَالَى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيتة وألوهيتة وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشَّفَاعَة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه.
فإذاً المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103] ، يدل عَلَى كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن "الإدراك" هو الإحاطة بالشي -وهو قدر زائد عَلَى الرؤية- كما قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62،61] ، فلم ينف موسى عليه السلام الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تَعَالَى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها عَلَى ما هي عليه] اهـ.
الشرح:
أما قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ فإنها أيضاً تدل لمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهو إثبات الرؤية، ولا تدل عَلَى ما ذهب إليه المعتزلة من نفي الرؤية، وتفصيل ذلك أن يقَالَ: إن هذه الآية جاءت في سياق التمدح والثناء من الله تبارك وتعالى عَلَى نفسه، وهو أولى شيء بالثناء، وهو المستحق لصفات الثناء والإجلال والمدح والكمال سبحانه وتعالى، فلما أن أثنى الله سبحانه وتعالى عَلَى نفسه وتمدح بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ دلَّ ذلك عَلَى أن هذا المعنى يندرج تحت قاعدة عظيمة من قواعد الأسماء والصفات وهي: "ليس في صفات الله سبحانه وتعالى نفي -مطلق- عدمي، وإنما النفي يأتي لإثبات كمال وجودي" فلا نصف الله سبحانه وتعالى بالنفي المطلق، ولا يُمدح الله سبحانه وتعالى بالنفي المجرد؛ لأنه عدم.
وإنما يأتي النفي في القُرْآن والسنة في صفات الله سبحانه وتعالى لإثبات متعلقه ومتضمنه وهو إثبات صفة وجودية ثبوتية لله سبحانه وتعالى.
فالمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، وذكر المُصْنِّف أمثلة عَلَى ذلك، مثلاً: قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] هذا نفي يتضمن كمال حياته وقيوميته، فمن كمال حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وقد سبق أن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله، وهاتان الصفتان " الحي القيوم " تضمنتا جميع صفات الله سبحانه وتعالى ودلتا عليها، فالحي: دليل عَلَى جميع الصفات الذاتية، والقيوم: دليل عَلَى جميع الصفات الفعلية.
ونفي اللغوب والإعياء كما قال تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [قّ:38]، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:33] ، ونفيه للإعياء يتضمن كمال القدرة، وهذا لا يكون إلا الله سبحانه وتعالى، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير -المعين- مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً [الجن:3] ، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] هذا يتضمن كمال الربوبية والألوهية وكمال القهر، وليس مجرد نفي.
وقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3،4] نفي يتضمن كمال صمديته وأحديته.
وكما أن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، فسورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] هي: أفضل سورة في القرآن، وهي {تعدل ثلث القُرْآن} كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهما إثبات عظيم وبعده نفي يؤكد كمال الإثبات ففي آية الكرسي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] ثُمَّ أكد كمال الحياة والقيومية بقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، وفي سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) ثُمَّ أكد الله كمال وحدانيته وصمديته بقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3،4] .
وهذه هي أصول الصفات، وأصول المدح والثناء، فيأتي بصفة صفة ثبوتية ثُمَّ يعقبها نفي يؤكد كمال تلك الصفة الثبوتية، فلا مدح في النفي العدم المطلق المحض.
ونفي الأكل والشرب المتضمن لكمال صمديته وغناه، ونفي الشَّفَاعَة عنده إلا بإذنه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] فذكر أولاً كمال الحياة وكمال القيومية، ثُمَّ ذكر ثانياً كمال الغنى وتوحده، فإن المخلوقين جميعاً مربوبون ومقهورون، فقراء إليه سبحانه وتعالى وهو الغني عن كل أحد، ومن فضله ورحمته أنه يأذن لمن شاء أن يشفع عنده، فيأذن للشافع المرضي عنه كالأنبياء والملائكة والصالحين والشهداء أن يشفعوا لمن شاء من خلقه من أصحاب الكبائر ومن شاء الله.
ونفى الظلموَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] لإثبات كمال عدله وقسطه سبحانه وتعالى، فلا يظلم أحداً لأنه المتفرد بكمال العدل والقسط والغنى أي: غني عن أن يظلم أحداً من خلقه، وهذا أيضاً يتضمن كمال علمه فإنه يعلم ذنوب العبيد جميعاً، فلا يخفى عليه منها شيء، ويعلم حسناتهم، فلا يخفى عليه منها شيء، وهو في غنى مطلق عنهم، فَلِم يظلمهم؟!
ونفى النسيان وعزوب الشيء عن علمه المتضمن لكمال علمه وإحاطته، فالله سبحانه وتعالى لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3] .
وكذلك نفي المثل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] المتضمن كمال ذاته وصفاته، فهو نفى أن يكون له مثل، ليس لمجرد النفي كما يقول هَؤُلاءِ الجهمية، والقرامطة الباطنية.
وهم درجات، فمنهم من ينفي الأسماء والصفات، ومنهم من ينفي الصفات ويثبت الأسماء، ومنهم من ينفي بعض الصفات ويثبت بعض الصفات، ويثبت بعض الأسماء، ومنهم من يثبت جميع الأسماء منفصلة.
أما أهل الحق أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فإنهم يثبتون جميع الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة.
أماالقرامطة، الباطنية، الإسماعلية: فهَؤُلاءِ ينفون جميع الصفات والأسماء ووصل بهم الغلو إِلَى أن قالوا: " لا يقال موجود ولا غير موجود!
وهذا مما أوجب أن يحكم العلماء بالإجماع عَلَى كفرهم، حتى المعتزلة والأشاعرة وغيرهم يكفرونهم فهم خارجون عن ملة الإسلام والعياذ بالله، متبعون لمذهب بعض كفار اليونان، يقولون:"إن الله لا تدركه العقول فلا يوصف الإله بشيء فلا يُقَالَ: موجود ولا غير موجود".
فالنفي المحض العدمي هو من شأن هَؤُلاءِ الإسماعليين، وغلاة الجهمية شاركوهم في ذلك، فلا يصفون الله سبحانه وتعالى إلا بالصفات السلبية، ولا يثبتون الصفات الثبوتية، فيقولون: الله ليس بجاهل، ولا يقولون: عالم، فهم يظنون أن الإثبات يدل عَلَى حقيقة وصفة لا يستطيعون إدراكها، وهذا من الإفك والافتراء عَلَى الله عزوجل.
وأولئك الذين لا يصفونه إلا بالعدم المحض، والذين يصفونه بغير صفاته، ويثبتون له الصاحبة والولد، أو يشبهونه بأصنامهم ومعبوداتهم، أو يقولون بأن يده مغلولة، وما أشبه ذلك، رد الله سبحانه وتعالى عليهم بالمنهج الذي ذكرناه بالقاعدة المذكورة، وهي: " أنه يأتي بالنفي المتضمن مدحاً، ولذا قال المصنف:[فلم يمتدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ لأن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه] .
أي: إذا كانت الصفة عدم محض فإنه لا يوصف بها شيء موجود فضلاً عن الذي هو في كمال الوجود سبحانه وتعالى؛ لأن العدم المحض هو صفة الشيء المعدوم الذي لا وجود له، فكيف يجعل هذا الذي لا وجود له مطلقاً مثل الذي له كمال الوجود، هذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
وعلى ضوء هذه القاعدة نفهم هذه الآية وندرك الاستدلال بها عَلَى خلاف فهم المعتزلة فمعنى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فهذا نفي يتضمن كمال عظمته وكبريائه سبحانه وتعالى، أي أنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يُحاط به.
فلا ينفي الرؤية وإنما ينفي الإحاطة به إدراكاً، وإثبات ضد ذلك هو كمال العظمة، وأنه أعظم شيء وأكبر من كل شيء، فلا تدركه الأبصار؛ ولأنه قد يظن بعض النَّاس بإثبات الرؤية أن الرائين يحيطون به سبحانه وتعالى إدراكاً إذا رأوه؛ فجاء نفي الإدراك والإحاطة، فلا تدركه الأبصار لكمال عظمته سبحانه وتعالى، والإحاطة بالشيء قدر زائد عَلَى الرؤية.
واستدل المُصْنِّف عَلَى ذلك باستدلال واضح وهو قوله تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] .
فلما رفض فرعوندعوة نبي الله موسى عليه السلام أن يرسل معه بني إسرائيل وجادله بالمجادلة المعروفة في سورة الشعراء، وأرسل فرعون وحشر الجند والجمع وقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:54،55] واستثار فرعون الشعب ضد هَؤُلاءِ القلة، وهم بني إسرائيل وموسى عليه السلام فخرج موسى كما أمره ربه ببني إسرائيل فأتبعهفرعون وجنوده، وهرب بنو إسرائيل وأولئك عَلَى آثارهم فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ يعني: لما رأى بعضهم بعضاً، رأى قومفرعونأصحاب موسى، ورأى أصحاب موسى جيش فرعون.
في هذه اللحظة بالحسابات المادية المجردة انتهى موضوع قوم موسى، لأن الجيش العرمرم القوي الفرعوني سوف يسحقهم، ليس هناك إمكان للنجاة، ولهذا قال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قضي علينا وانتهى أمرنا، فحصلت الرؤية ولكن لم يحصل الإدراك، فهم متراؤن يرى بعضهم بعضاً، قَالَ: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] قد رأونا ولكن لن يدركونا.
وعليه فالرؤية شيء والإدراك شيء آخر، ولم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك يوجد كل منهما مع الآخر وبدونه، يعني: قد ترى شيئاً فتدركه، وقد تراه ولا تدركه، وقد تدرك شيئاً ولا تراه مثل الأمور الغيبية المعنوية، فتعرف صفاتها ولكن لا تراها بالعين، فالرب تَعَالَى يرى ولا يدرك، كما أنه في هذه الدار في الدنيا نعلم بصفاته وأسمائه ونعوت كماله ولكنه لا يحاط به علماً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والتابعون من هذه الآية.
ثُمَّ قال المصنف: [بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها] يعني: من إدراك صفتها، لقوة الشعاع والعلو والارتفاع والكبر والعظمة، فلا أحد يدرك حقيقة ما عليه الشمس، وبذلك تكون الآية بخلاف ما استدل به المعتزلة وإنما هي شاهد لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ولله الحمد.
فتدل بالدلالة اللطيفة الحسنة عَلَى إمكان رؤية الله وثبوت تلك الرؤية وأنه لا تدركه الأبصار، بل إنما تراه بالكيفية التي يعلمها، لكنها لا تدرك حقيقته، ولا كيفية ذاته من جميع الوجوه سبحانه وتعالى.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، الدالة عَلَى الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، فمنها: حديثأَبِي هُرَيْرَةَ: (أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك) الحديث أخرجاه في " الصحيحين " بطوله.
وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً " في الصحيحين " نظيره، وحديث جرير بن عبد الله البجلي قَالَ:(كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة فقَالَ: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته) الحديث أخرجاه في "الصحيحين ".
وحديث صهيب رضي الله عنه المتقدم، رواه مسلم وغيره.
وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء عَلَى وجهه في جنة عدن) أخرجاه في "الصحيحين ".
ومن حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً، فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟! فَيَقُولُ: بلى يا رب) الحديث أخرجه " البُخَارِيّ " في " صحيحه ".
وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرَّسُول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء، وإذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يَوْمَ القِيَامَةِ، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك إِلَى غير ذلك من الصفات التي سماعها عَلَى الجهمية بمنزلة الصواعق] اهـ.
الشرح:
الأحاديث التي تدل عَلَى رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى في الدار الآخرة متواترة، قد رواها نحو ثلاثين صحابياً، وتواتر ذلك نقله التابعون وتابعوهم ومن بعدهم، واتفقت الأمة عَلَى ذلك إِلَى أن ظهر أهل البدع الذين لا يعتد بخلافهم، والإجماع أيضاً عَلَى فهم هذه الأحاديث متواتر، فكلالسلف الصالح فهموا من هذه الآيات والأحاديث، حقيقة إثبات رؤية الله تبارك وتعالى ويكفينا ذلك دلالة عَلَى أن من خالف هذا الإجماع وهذا التواتر، أنه مكذب لله ولرسوله، وهو ضال مبتدع.
ولهذا عقَّب المُصنِّفُ رحمه الله في الأخير ببيان أن هَؤُلاءِ يقولون في دين الله برأيهم، وأنهم لا يتبعون الكتاب والسنة في ذلك، فمن الأحاديث التي ذكرها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الطويل في البُخَارِيّ في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] ونفس هذا الحديث يأتي في باب إثبات الرؤية التي أولها وحرفها أُولَئِكَ المبتدعة الضلال، وفيه: أن ناساً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو العليم بربه- قالوا: هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟
جاءت برواية "تضارون" بالراء، وفي أخرى "تضامون" بالميم، ولا تعارض بينهما، فلعله لتعدد القصة، وكل منهما يدل عَلَى معنى صحيح، فقَالَ:(هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يارَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك......) ثُمَّ ذكر الحديث وهو حديث طويل.
ثُمَّ ذكر حديث أبي سعيد الخدري الذي يسمى حديث الشَّفَاعَة أو حديث الجهنميين، رواه أَبو هُرَيْرَة وأبوسعيد رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وأخرجه البُخَارِيّ ومسلم وهو حديث طويل يتضمن أهوال المحشر والموقف إِلَى أن ينتهي الأمر بالشَّفَاعَة وإخراج آخر أهل النَّار وهم المسمون "الجهنميون" الذين يخرجون من النَّار بشفاعة الصالحين الذين يتحنن الله سبحانه وتعالى عليهم برحمته، ويشفعهم فيهم فيكونوا آخر أهلها خروجاً. وفي كل منهما إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى.
وأيضاً حديث جرير بن عبد الله البجلي في الصحيحين قَالَ: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة، فَقَالَ لهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:(إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر) ، وهم أفهم النَّاس وأعلم الناس، وهذه إشارة وخطاب يفهمه البدوي والأمي الساذج لأنه كلام واضح، فليس هناك أي لبس يستدعي أدنى شبهة من التأويل أو من تحريف المعنى.
وحديث عدي ابن حاتم الذي أخرجه الإمام البُخَارِيّ -وهذا الحديث ليس فيه دلالة واضحة عَلَى الرؤية- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليلقين الله أحدكم يَوْمَ القِيَامَةِ وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فَيَقُولُ: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب) .
ويأتي إن شاء الله أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالمؤمنين؛ بل هو أقرب أن يكون في مخاطبة الكافرين المنكرين، وأما المؤمنون فمن فضل الله عليهم أنهم مقرون بالرسالة.
واستدل النفاة المعتزلة علىنفي الرؤية بثبوت اللقاء من الله للكافرين والمؤمنين.
فقال بعضهم لأحد أهل السنة: أنتم تثبتون الرؤية؟
قَالَ: نعم.
قال فما تفعل بقوله سبحانه وتعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة:77] ، فهَؤُلاءِ المنافقون نفاقاً أكبر، وجعل الرؤية لهم كاللقاء..
والجواب: أن اللقاء غير الرؤية، فاللقاء يكون للمؤمنين والمنافقين والكافرين، ولكن الرؤية أمر آخر ولا سيما رؤية النعيم، وأما الرؤية التي تحصل في الموقف والتي يكون المنافقون مشاركون فيها فهذه رؤية الاختبار والامتحان، سيأتي إن شاء الله ذكرها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يُكلم من شاء] فهذه الأحاديث تتضمن أصولاً عظيمة من أصول الصفات، منها الرؤية والكلام، والإتيان والعلو؛ لأنه كما مر أن الله تَعَالَى يكلم الأنبياء، ويكلم الصالحين، يقول: اذهبوا فأخرجوا من وجدتم فيه أثر السجود، فيعرفونهم بعلامة السجود، ويكون لهم علامة. يقول: هل لكم من علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن الساق، ففيه خطاب بين الله عزو جل وبين أهل المحشر، وفيه إثبات الرؤية والكلام، يكلم من شاء بما شاء، وفيه إثبات الإتيان، وأنه يأتي لفصل الموقف يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفّاً صَفّاً [الفجر:22] فإنه يأتي إِلَى المحشر سبحانه وتعالى بكيفية لا نعلمها، وفيه إثبات العلو، وأنه فوق العالم كما قال سبحانه وتعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] .
كلام الله يكون بصوت خلافاً لتعليق الأرنؤوط
قَالَ: [وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب] . لكن في طبعة الشيخ الأرنؤوط بعد أن ذكر الروايات قَالَ: ولم تثبت صفة الصوت في كلام الله عزوجل أو في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الذي رواه البُخَارِيّ تعليقاً بصيغة التمريض. وليس بنا ضرورة إِلَى إثباته.
الرد على من أنكر الصوت من كلام شيخ الإسلام
لأن هذا الشرح قد يلتبس عَلَى بعض الناس، ولأن المسألة أهم من قضية أن إنسان أخطأ أو اجتهد أو علق تعليقاً خطأً، أحببت أن أنقل إليكم كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله في مجموع الفتاوى (6/513) ورده عَلَى هذا الزعم بنفسه، -وهو نفي أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بصوت- قَالَ: (.. وليس في الأئمة والسلف من قَالَ: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي، إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت، فقَالَ:"يا بني هَؤُلاءِجهمية، إنما يدورون عَلَى التعطيل".
ثُمَّ ذكر بعض الآثار المروية في ذلك؛ أي: ثُمَّ ذكر عبد الله بن أحمد عن أبيه بعض الآثار، وهي موجودة في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد.
ثُمَّ ذكر شَيْخ الإِسْلامِ مصدراً آخر قَالَ: ذكر ذلك البُخَارِيّ في كتابه " خلق أفعال العباد " وذكر أيضاً أن البُخَارِيّ ترجم لذلك في الصحيح الذي أنكره ونفاه الشيخ الأرنؤوط، قَالَ: وليس من طوائف الْمُسْلِمِينَ من أنكر أن الله يتكلم إلا ابن كلاب ومن اتبعه، يعني من الأشعرية، فنخشى أن يكون الشيخ هنا قد اتبع ابن كلاب في هذه القضية.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ أيضاً: قول القائل: إن الله لا يتكلم بصوت ونحو ذلك كلام لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، وليس فيه حديث لا صحيح ولا ضعيف -أي: في نفيه- وأما الإثبات ففيه عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، وآثار كثيرة عن السلف والأئمة، ثُمَّ استدلشَيْخ الإِسْلامِ بأدلة أخرى:
أولاً: ما جَاءَ في القُرْآن من آيات مناداة الله تَعَالَى للمشركين " وناداهم، ويوم يناديهم، ويوم يحشرهم فيناديهم
…
وما أشبه ذلك كثير في القُرْآن "، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: إن المناداة تكون بصوت مسموع يسمعه المخاطب، وغير هذا لا يمكن أن يتصور، فالمناداة إنما هي بالصوت والكلام.
الأمر الثاني: تكليم الله تَعَالَى لموسى، فإذا كَانَ النداء والكلام بدون صوت، فما الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام وبين وحيه إِلَى أي نبي من الأَنْبِيَاء عن طريق الإلهام، أن يلهمه الله في قلبه كما قال تعالى: وَمَا كَانَ َ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51] .
فهو أحد الحالتين: إما الوحي، أو من وراء حجاب، وأما إرسال الرَّسُول فهو وحي غير مباشر، وأما الوحي المباشر فيكون بالإلقاء أو الإلهام إِلَى الرَّسُول من دون سماع للصوت من الله سبحانه وتعالى، أو من وراء حجاب أي كلام وصوت من غير رؤية، فحصل لموسى عليه السلام أنه نودي بصوت من غير رؤية، فإذا قلنا: لم يسمع موسى صوتاً، فالأمر كله إذاً من القسم الأول وهو مجرد الوحي ولم يسمع شيئاً.
وهذا مما يدل عَلَى بطلان هذا الكلام الذي تكلم به الشيخ الأرنؤوط غفر الله له.
وأيضاً يقول شَيْخ الإِسْلامِ: "إن السلف -المفسرين من السلف - اتفقوا عَلَى أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى بصوت، وأيضاً من الأدلة ما جَاءَ في قوله الله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه سماع الصوت كأنه سلسلة عَلَى صفوان.
يقول: فمن أراد الوقوف عَلَى الحقائق، وأراد اتباع الدليل الصحيح، ومعرفة ما يصف به ربه سبحانه وتعالى، وما يدل عَلَى ذلك وما لا يدل، فليواظب عَلَى سماع الأحاديث النبوية، فهو الدليل والمنهج الصحيح الهادي إِلَى الرشاد في معرفة الله سبحانه وتعالى وفي معرفة الحلال والحرام والأحكام والآداب والفضائل والسنة.
ففيها إثبات هذه الأحاديث التي إثباتها وسماعها علىالجهمية، بمنزلة الصواعق؛ لأن القوم قد أعموا أبصارهم ولا يريدون أن يسمعوا بأي حال من الأحوال ما يخالف ما استقرت عليه قلوبهم المريضة وعقولهم الضالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وكيف تُعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله، وسنة رسوله؟ وكيف يُفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم ": من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " وفي رواية: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [عبس:31] . ما الأب؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟
وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله؛ بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟ ومن قال: يُرى لا في جهة فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابراً لعقله أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة] اهـ
الشرح:
حديث: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) حديث ضعيف لأن مدار سنده على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي وهو ضعيف، والحديث الآخر أيضاً:(من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) حديث ضعيف.
وننبه إلى أن الشيخ ناصر الدين الألباني لما ذكر هذا قال: رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب، فاستدرك عليه الشيخ الأرنؤوط فقال: وقول الشيخ: ناصر الدين الألباني رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب وهم منه! فإن لفظ رواية جندب: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) أخرجه الطبري، فرواية حديث جندب ليست فيها هذا النص وإنما هي (من قال بالقرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) .
ولكن ضعف السند لا يعني بطلان المعنى، والمعنى الذي أراده المصنف رحمه الله صحيح ولا شك فيه، وهو أنه قال:[فكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسول صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟]
فكون القرآن لا يجوز أن يفسر بالرأي ولا بالهوى حتى ولو أصاب من فسره بمجرد الرأي، هذا أصل صحيح وقاعدة صحيحة تدل عليها الآيات والأحاديث الأخرى غير هذا الحديث الذي في سنده من ضُعِّفَ.
ومن ذلك أن نفهم أصل ذلك كله ونعلم أن القرآن هو كلام الله عزوجل، وأن تبيينه وإيضاحه وتفسيره بغير علم، وبالرأي والهوى؛ هو قول على الله عز وجل بغير علم، وحكم ذلك التحريم، قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] وهذه الآية ذكرت فيها المنكرات والكبائر بالتدرج، وأكبر شيء بعد الشرك هو القول على الله عز وجل بغير علم، كأن يأتي إنسان فيضع ديناً جديداً من عنده، ويقول: هذا هو دين الله، وهذا الذي نتعبد الله به هذا أكبر وأعظم من مجرد الإشراك بالله في العبادة.
وكذلك ما ورد في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسئل صلى الله عليه وسلم في الأمر فلا يتكلم حتى ينزل عليه الوحي، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [عبس:31] ما هو الأب؟
فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم!
وهم أعلم الناس بالقرآن وأفصح العرب وأعلمهم بلغة العرب.
فهؤلاء الذين يعلمون حق العلم ما قاله الله ورسوله، ويفسرونه قد اتفقوا على إثبات رؤيته سبحانه وتعالى وعلى إثبات صفات الله، كما مر عن ابن عباس، وعلي ابن أبي طالب، وأنس بن مالك، وأبي بكر، وحذيفة، وأبي موسى رضي الله عنهم وكلهم - ولله الحمد - فسروا الآيات لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [قّ:35] ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22،23] ولِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] .
فسروا النظر وفسروا الزيادة بالرؤية الحقيقية، وكذلك في كل باب من أبواب العقيدة نجد إجماع السلف الصالح، فلا يجوز لنا أن نتقدم عليهم.
وليس المقصود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم تشبيه المرئي بالمرئي، وإنما هو تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: رؤيتكم لربكم كرؤيتكم للقمر، ولم يقل: إن ربكم كالقمر أو كالشمس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وهي حقيقية مؤكدة قطعية ليس فيها شك ولا غيم ولا قتر ولا حجاب.
وفيه دليل على علو الله على خلقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر والشمس، ومعلوم أنها في جهة العلو.
والأشعرية يثبتون الرؤية وينكرون العلو، فيقولون: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله ولا خلفه ولا أمامه، وينكرون جميع الجهات -كما يسمونها- ويقولون: إنه يُرى لا في جهة!
فنقول لهم كما قال المصنف: من قال: يُرى لا في جهة من غير إثبات الجهة، يعني: من غير إثبات العلو، فليراجع عقله! فإما أن يكون مكابراً لعقله، وإما أن يكون في عقله خلل.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة.
وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي؛ بل لعجز الرائي، فإذا كَانَ في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته.
ولهذا لما تجلى الله للجبل وَخَرَّ مُوسَى صعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف 134] بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كَانَ البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله، كما أيد نبينا قال تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 8] .
قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا إليه ملكاً لجعلناه في صورة بشر وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا.
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم عَلَى أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في وجهه.
ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة: أتريد بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أراد بها أمراً وجودياً كَانَ التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل عَلَى إثباتها بل هي باطله، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر، وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً كانت المقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار.
وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقاه من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده؛ بل نقلوا نظمة ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن، كما يتعلم الصبيان؛ بل يتعلمونه بمعانية ومن لا يسلك سبيلهم، فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله، ولم يتلقَ ذلك من الكتاب والسنة، فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة، فهو مأجور وإن أخطأ؛ لكن إن أصاب يُضَاعفُ أجره] اهـ. .
الشرح:
موضوع إثبات الرؤية له علاقة بنفس الأحاديث بموضوع إثبات علو الله تبارك وتعالى، فلما ذكر المُصنِّفُ رحمه الله قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنكم سترون ربكم كما ترون هذا) في الحديث المتفق عليه أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يستدرك أن هذا الحديث لا يقتضي أن يشبه الله سبحانه وتعالى بالقمر ولا بالشمس، وإنما التشبيه تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي.
ثُمَّ قَالَ: وفي ذلك دليل عَلَى علو الله عَلَى خلقه لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في كلا الحالتين -عندما أشار إِلَى الشمس أو أشار إِلَى القمر في الليلة التي كَانَ فيها القمر أو لما قَالَ: (هل ترون الشمس أو ترون القمر ليس بينكم وبينها قتر ولا سحاب) كان يشير إِلَى شيء أعلى وهو هذا المخلوق - الشمس أو القمر - وهو في جهة العلو، فدل ذلك عَلَى علو الله تبارك وتعالى عَلَى خلقه.
وإثبات علو الله سبحانه وتعالى من أعظم ما تدل عليه النصوص والفطر والعقول حتى أن الأدلة عَلَى العلو من القُرْآن والسنة وكلام السلف لا تعد بالمئات فقط، بل قد تكون بالآلاف فالعلو ثابت بالأدلة، وبالنصوص وبالعقول وبالفطر، وأما الاستواء فهو الذي ثبت بالنص فالنَّاس قبل إرسال النبي صلى الله عليه وسلم، حتى العرب في الجاهلية وغيرهم أصحاب الفطرة كل من يؤمن بالله بفطرته يعلم أنه تبارك وتعالى فوق المخلوقات ويثبت له العلو، لكن الاستواء لا يثبته له تَعَالَى إلا من قرأ وسمع الوحي ينزل عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما يعلم عن طريق الوحي، وكلاهما يدل عَلَى الآخر.
مذاهب الناس في الرؤية والعلو.
ولما ذكر المُصْنِّف رحمه الله موضوع الرؤي والعلو ناسب أن يذكر الفرقتين اللتين لهما كلام فيه، وهاتان الفرقتان هما: المعتزلة والأشعرية.
فالمعتزلة: ينكرون الرؤية والعلو، والأشعرية يثبتون الرؤية وينكرون العلو.
فقال المعتزلة للأشعرية: مادام أنكم تنكرون العلو إذاً فلتنكروا الرؤية مثلنا.
فالأشعرية قالوا: لا، نَحْنُ نثبت الرؤية.
فقال لهم المعتزلة: إذا أثبتم الرؤية فكيف يُرى أي شيء إلا في جهة، إذاً يلزمكم أن تثبتوا الجهة وأنتم لا تثبتون الجهة، حتى قالوا قولةً أصبحت شبيهة بالمثل، قالوا:(من أثبت الرؤية وأنكر الجهة فقد أضحك النَّاس عَلَى عقله) وهي التي نقلها المُصْنِّف هنا فقَالَ: [من قَالَ: يُرى لا في جهة فليراجع عقله] ووجه ذلك أن الرائي -بغض النظر عن كون المرئي تثبت له الجهة أو لا تثبت- لا بد أنه ينظر من جهة ما، في مكان ما ينظر منه، ولا بد أن يكون المرئي في جهه ما مِنهُ، إما أمامه مباشرة، وإما فوقه، وإما عن يمينه، وإما عن شماله، المهم أنه لا بد أن هناك جهة، فالقول بأن الرؤية تقع وتكون بالعين حقيقة وبدون جهة هذا فيه مكابرة للعقل.
وقالأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: يلزمكم أيها الأشعرية وأنتم تثبتون الرؤية أن تثبتوا العلو، وقالت المعتزلة للأشعرية: يلزمكم وأنتم تنكرون العلو أن تنكروا الرؤية، فهذه ثلاثه مذاهب: أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يثبتون العلو ويثبتون الرؤية، وهذا هو الذي يتفق مع جميع النصوص، ومع العقل السليم والفطرة السليمة.
والمعتزلة ينكرون العلو وينكرون الرؤية، والأشعرية يثبتون الرؤية ويقولون من غير جهة ولا مقابلة، فأصبحوا يتعاورهم الفريقان: أهل السنة يقولون: يلزمكم أن تثبتوا العلو مادمتم تثبتون الرؤية، وأما المعتزلة فقالوا لهم: ما دمتم مثلنا موافقون لنا في إنكار العلو فيلزمكم أن تنكروا الرؤية أيضاً، فينتهي حكاية كلام المعتزلة إِلَى عند قوله بغير جهة.
يقول: [ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية] وقال كلمة [بالذات] ؛ لأن الأشعرية يقولون: العلو بالقهر وبالغلبة وبالسلطان وبالتمكينوَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه [الأنعام: 18] يقولون: قاهر فوقهم مثل أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء [الملك:16] يعني سلطانه وقهره وقوته، فلا يثبتون علو الذات وإنما علو القهر والغلبة والملك والتمكين، فلهذا قَالَ:(الذات) لأن الرؤية محلها أو متعلقها الذات وهذا الكلام هو عن الذات وليس عن أي شيء أخر من متعلقات الذات فهو متعلق بالرؤية فَيَقُولُ: [ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات نفي الرؤية] أي يلزمه أن ينفي الرؤية، [وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية -بلا مقابلة- بغير جهة] .
والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قال بعد ذلك: وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام -يعني المعتزلة ما ألزموا الأشعرية والماتريدية أيضاً وهم في ذلك تبع لهم- إلا لما وافقوهم عَلَى أنه تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، يعني لم يثبتوا له أية جهة من الجهات، ولكن يستدرك المُصْنِّف فَيَقُولُ:[لكن قول من أثبت موجوداً يُرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يُرى ولا في جهة] يقول: مع هذا الإلزام القوي من المعتزلة للأشعرية إلا أن المعتزلة أبعد، فهم يثبتون ذاتاً عَلَى الحقيقة قائمة بنفسها، ومع ذلك ليست في جهة، ولا يمكن أن تُرى، وأما أُولَئِكَ فإنهم أنكروا الجهة وأثبتوا الرؤية فهم أخف منهم في هذا الجانب، وإن كَانَ من حيث العقل المجرد -بالنسبة للمعتزلة على الأقل ومن نحا نحوهم- يرون أن مذهب الأشعرية هو الذي أبعد عَلَى العقل، لكن المُصْنِّف يرى أن الذي نفى الجهة ونفى الرؤية معاً أبعد في العقل من الذي أثبت أحدهما، وينتهي كلامه عن المعتزلة عند قوله: بلا مقابلة بغير جهة.
يذكر المُصنِّفُ أننا لم نر الله في الدنيا لعجز أبصارنا، يعني هذا من الأدلة العقلية والحجج والبراهين التي يقولها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بعد أن أثبتوا الرؤية بالأدلة الشرعية وناقشوا أدلة المعتزلة فيها.
ثُمَّ أخذوا أيضاً يكلمونهم بالعقل السليم الصريح، فيقولون: إنما لم نره في الدنيا لضعف أبصارنا، فإن قُوْىَ الإِنسَان وإدراكاته في الحياة الدنيا محدودة، فلا تستطيع أن ترى الله تبارك وتعالى وليس لأن الرؤية مستحيلة.
وضرب لذلك مثالاً بهذا المخلوق الذي يبعث النور في الأرض وهو الشمس فإن الإِنسَان لا يستطيع أن ينظر إِلَى الشمس ويتأكد من حرها وحجمها؛ لأن شعاعها ونورها يُعشي عينه، فهو أقوى من أن يطيقه بصره وحاسته، وليس ذلك لأن الشمس ليس بالإمكان أن ترى لكن لضعف الحاسة، فإن قويت وتضاعفت فإنها تستطيع أن ترى الشمس عَلَى حقيقتها وجرمها كما تشاء.
أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فنقول: إنه لا يرى في هذه الدار التي فيها هذا الضعف، وإنما يرى في الدار الآخرة حيث يكون الإِنسَان خلقاً آخر في قواه وفي إدراكاته، فذلك عالم آخر والله تبارك وتعالى يمن عَلَى المؤمنين بأن يعطيهم القدرة عَلَى أن يروه جل شأنه كما يليق بجلاله وعظمته، فيطيقون ذلك يَوْمَ القِيَامَةِ مع أنهم لا يطيقون هذا في الدنيا، فيستدل المُصنِّفُ عَلَى ذلك بنفس الآية التي سبقت وهي آية الأعراف عندما طلب موسى عليه السلام أن يرى ربه، فَيَقُولُ: ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، فلما أفاق قَالَ: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] أي: يقول: وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا جمادٌ ولا يابس إلا تدهده، والجبل عَلَى عظمته لما حصل له التجلي، فإنه تدهده وتحول إِلَى حطام، وهذا لعجز الإِنسَان ولعجز حتى الجماد في هذه الحياة الدنيا عن تحمل تجلي الرب سبحانه وتعالى.
ثُمَّ يستدل عَلَى ذلك بشيء آخر فَيَقُولُ: ولهذا كَانَ البشر لا يطيقون أن يروا الملك عَلَى حقيقة الملائكة الذين هم من خلقه سبحانه وتعالى؛ لأن أجسامهم نورانيه عظيمة، لا يستطيع الإِنسَان أن يتحملها وأن يراها في هذه الحياة الدنيا فكيف برؤية الله سبحانه وتعالى، إلا من أقدره الله تبارك وتعالى عَلَى رؤية الملك كما أقدر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى أقدره عَلَى أن يرى جبريل، وقد رآه مرتين عَلَى خلقته التي خلقه الله تبارك وتعالى عليها، له ستمائة جناح كل منها ملء الأفق، وهذا شيء لا يمكن للإنسان أن يتصوره ولا أن يستوعبه، حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك -وهو من أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:(ما هَؤُلاءِ الذين يخوضون في الصفات؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن لجبريل ستمائة جناح، وإنما يعلم النَّاس أن للطائر جناحين فأين يكون الثالث) يعني: أن العقل البشري حينما يريد أن يتخيل طائراً فإنه يتخيله بجناحين هذا هو الذي يتخيله الإِنسَان، فأين يكون الثالث؟ فضلاً عَلَى الرابع، فضلاً عن الستمائة جناح، كيف تكون؟ هذا شيء لا يستطيع الإِنسَان أن يتخيله عَلَى حقيقته، فكيف ينكر فيما هو أعظم من جبريل ومن كل المخلوقات وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] سبحانه وتعالى عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به العقول والأنظار.
يقول المُصنِّفُ في قوله تبارك وتعالى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 8] قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته.
إنَّ من العلل الواهية التي تعلل بها المكذبون للأنبياء أنهم قالوا: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [الشعراء: 154]، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [إبراهيم:10] فكيف نؤمن بأنكم أنبياء من عند الله؟ نريد أن يكون النبي ملكاً من الملائكة، فرد الله سبحانه وتعالى عليهم في مواضع منها هذا الموضع في سورة الأنعام وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [الأنعام:8] يُحتمل المعنى: أنه لو أنزلنا ملكاً لم يستطيعوا أن يروه فيموتوا، ويحتمل: أنه لو أنزلنا ملكاً أن يروه كَفَرُوا به لاستحقوا العقوبة العاجلة بخلاف ما إذا كَانَ المخاطب لهم من أنفسهم؛ لأن الملك هذا من عالم الغيب، فأصبح في عالم الشهادة، يكلمهم ويخاطبهم، فحينئذ لا ينفع التكذيب ولا الرد ولا الجدال ولا يقبل عَلَى الإطلاق، إما أن يؤمنوا ويذعنوا فوراً وإما إن يحيق بهم العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، لكن عندما يأتي بشر مثلهم فيدعوهم إِلَى الله فَيَقُولُ: إنه يوحى إليّ من الله، إذا أمنوا بنبوته فإنهم يؤمنون فعلاً عَلَى الغيب لا عَلَى الشهادة، فإذاً لم تأتهم الآية وإذا أتت الآية ورأوها عياناً فما بعدها إلا العذاب كما رأى قوم صالح الناقة مبصرة، فماذا حصل لهم لما عقروها؟ أهلكوا.
أصحاب المائدة توعدهم الله سبحانه وتعالى أنه بعد أن ينزلها عليهم فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 115] لأنهم يرون الغيب شهادة، فكذلك بالنسبة للأنبياء فمن رحمة الله عز وجل أنه أرسل الرسل من البشر ليكون هناك مجال للأخذ وللجدال وللنقاش، ولا يأتي العذاب المفاجئ، هذا أمر.
والأمر الآخر وهو أظهر وأوضح في الحكمة أن النبي إذا كَانَ من الملائكة، وقال لهم: اتقوا الله لا تسرقوا ولا تزنوا ولا تخونوا الأمانة ولا تفعلوا كذا وكذا، ورأوه يلتزم بعمل ذلك لأنه بطبيعة الحال لابد أن النبي يلتزم ويعمل بما يدعو إليه، قالوا: هذا ملك ولكن نَحْنُ بشر مركب فينا الشهوة، والضعف، والذنب، إذاً لا تناسب.
فمن حكمة الله ورحمته ولطفه أنه جعل الأَنْبِيَاء أيضاً من البشر، فليس هناك مجال للاعتذار، صحيح أنه لن يبلغ أحد من غير الأَنْبِيَاء مبلغ الأنبياء، ولكن مع ذلك تظل القدرة، وتظل إمكانية المتابعة والتأسي، ويبرز في الأمم التي بعث فيها الأَنْبِيَاء صديقون يقربون من درجة النبوة، كالأئمة العشرة المبشرين بالجنة ومن قاربهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فهَؤُلاءِ أقرب النَّاس إِلَى مرتبة النبوة لأنهم كانوا في أخلاق وإحسان وتقوى الأَنْبِيَاء وتأسوا بخاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فقاربوهم في هذه الدرجة -درجة البشرية- فيكون الاقتداء وارداً وممكناً بخلاف ما إذا كَانَ هذا النبي من جنس آخر، ومن الحيوان المخلوق من لا يستطيع الإِنسَان رؤيته فضلاً عن الملك، أي أن الإِنسَان قدرته ونظرته محدودة وهذا لا يناسب موضوع الرؤية هنا، وقد قال ابن قتيبة رحمه الله: إن من الحيات نوع يموت الإِنسَان بمجرد أن يراه نوع مفزع مخيف وفي عينه شعاع خاص بمجرد أن يراه الإِنسَان يموت من عدم تحمل رؤية هذا الحيوان.
يقول المصنف: [ويُقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها -وهو الجهة- وهم المعتزلة: أتريدون بالجهة أمراً وجودياً أم أمراً عدمياً؟]
ما المقصود بالجهة؟
إما أن تكون أمراً وجودياً أي: شيئاً موجوداً اسمه الجهة، أو حيزاً معيناً يُقال له الجهة من ضمن الموجود في هذا الكون، هذا شيء، وإما أن تكون الجهة أمراً عدمياً، يعني شيئاً مثلياً إضافياً، لا شيئاً موجوداً بذاته أو مميزاً بذاته.
لا يخلو مرادهم بالجهة من هذين الاعتبارين، وعلى ذلك نقول لهم: إن كَانَ المقصود بالجهة الحيز والشيء الوجودي، فنحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا نثبت لله سبحانه وتعالى الجهة بهذا الاعتبار؛ لأننا في الأصل لا نقول كلمة "الجهة" كما سبق، وإنما نقول: العلو، فنثبت له العلو، لأن الكلمات التي فيها لبس والتي تُحتمل معنيين لا نثبتها ولا نذكرها إلا مبينين أو مفسرين لِمَا نريد أن نقول.
فـ"الجهة" هنا ليس أمراً وجودياً، يعني ليس ظرفاً أو حيزاً معيناً، فالأرض جميعاً قبضته يَوْمَ القِيَامَةِ والسماوات مطويات بيمينه، والكون كله في يده سبحانه وتعالى كالخردلة في يد أحدكم، إذاً ليس هناك شيء يسمى جهةً أو ظرفاً وجودياً بمعنى أنه يحويه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ سبحانه وتعالى، ليس هذا مرادنا، فلا حجة علينا بقولكم لنا: إنكم تثبتون الجهة فيلزم منها كذا ويلزم منها كذا
…
إلخ لا حجة لكم علينا لأنا لا نثبت ذلك، ومع ذلك فإن كون الجهة أمراً وجودياً كما ذكر المُصنِّفُ هنا لا يعني النفي.
لأنه يقول: تقدير دليلكم أن تقولوا: كل ما ليس في شيء موجود لا يُرى، يعني كأنهم يقولون: أي شيء ليس في شيءٍ موجودٍ لا يرى، فَيَقُولُ: هذا ليس بلازم، لا يلزم أنه لا يرى بمجرد أنه ليس في شيء موجود، ويستدل عَلَى ذلك بقوله: إن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر، يعني سطح العالم يمكن أن يرى، وهو ليس في شيء آخر بل هو ذاته نفسه يمكن أن يرى، فهذا إن قلنا: إن الجهة أمر وجودي.
وأما إذا قلنا: إن الجهة أمر عدمي أو أمر اعتباري -وهذا هو الذي يقوله أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقولون: إن الجهة أمر اعتباري وليس أمراً وجودياً- فالنملة إذا كانت تسير في هذا السقف فأين العلو بالنسبة لها؟ وبيتها وحبها وحياتها وكل شيء فوق -كثير من الحشرات تعيش فوق- فالعلو بالنسبة لها نحن، لكن نَحْنُ العلو بالنسبة لنا فوق، بالعكس إذاً الجهة عندما نقول:"العلو" هل هي أمر وجودي حقيقي أم أمر نسبي باعتبار إضافي؟ فبالنسبة للنملة نَحْنُ أسفل، لكن بالنسبة لنا هذا هو الفوق ونشير إِلَى النملة، ولكن النملة فوق بالنسبة لِمَا هو أسفل، وهكذا هذه قضية نسبية اعتبارية، والذي يجلس عَلَى يمينك يقول: فلان عَلَى يميني، وآخر يقول: فلان عَلَى يساري؛ لماذا؟
لأن الجهة ليست شيئاً موجوداً، ليس هناك شيء موجوداً اسمه الشمال، ولا شيء موجود محدود اسمه اليمين؟ ولا فوق ولا تحت؟ كلها أمور اعتبارية نسبية، فهذا يمين بالنسبة لهذا، وهذا يسار بالنسبة لهذا، وهذا فوق بالنسبة لهذا، وهذا تحت بالنسبة لهذا.
وبهذا نعرف أنه لا يلزم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من إثبات أن الله تَعَالَى فوق المخلوقات وإثبات العلو له سبحانه وتعالى أن يكون محصوراً أو محدوداً في حيز وجودي يُسمى الجهة، ولكن بالنسبة للمخلوقات هو أعلى منها سبحانه وتعالى، أما الجهة بذاتها فليست شيئاً وجودياً مادياً محسوساً خارجاً، ومن هنا فإنه سبحانه وتعالى يرى.
وقولكم بأنه يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجهة لا معنى له، مادام أن الجهة أمر نسبي اعتباري، فالله سبحانه وتعالى يرى، وتجوز رؤيته، هذا بالأدلة العقلية، ولقد أثبتنا ذلك بالأدلة الشرعية، ولكن نتكلم الآن بالأدلة العقلية وننقض أدلتهم العقلية، فالمخلوق الرائي لابد أنه في جهة، فباعتبار المخلوق الرائي الناظر لابد أن يرى شيئاًٍ في جهةٍ ما، ففي أي جهة يرى الله سبحانه وتعالى يَوْمَ القِيَامَةِ وهي الجهة التي يدعى في الدنيا فيها نقول: في جهة العلو، يعني: بالنسبة للإنسان، لا بالنسبة لكونه سبحانه وتعالى يحيط به شيء وجودي معين اسمه الجهة بمعنى أنه سبحانه وتعالى -كما يقولون- مثل المخلوقات التي تكون في حيز، تَعَالَى الله عن ذلك علو كبير.
ونجد أن أهل العلم من أهل السنة كالمصنف هنا أو شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أو غيرهما يضطرون إِلَى الإثبات بهذه الأدلة، وهذه الأمثلة العقلية، لنبين فساد أقوالهم بالعقل والنقل لا لأننا نحتاج إِلَى أن نقرر ونثبت صفات الله سبحانه وتعالى بهذه الطرق، ولكن لأننا نقول: نَحْنُ نثبت بطلانها في الجهتين العقلية والنقلية، ولنثبت أن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هو الذي يستقيم مع الأدلة، ومع العقول السليمة، ومع الفطرة المستقيمة في آن واحد.
أصل الضلال الانحراف في منهج التلقي
ثُمَّ أخذ المُصْنِّف رحمه الله يعقب عَلَى هذا فَيَقُولُ: [وكيف تكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة] .
وأساس الخلاف والإشكال وأساس ظهور الفرق وخروجها عدم التلقي، والأخذ من الكتاب والسنة فبعضهم أخذ بالعقل مثل المعتزلة، والاشعرية، والماتريدية، وبعضهم قَالَ: نأخذ بالكشف والذوق والوجدان مثل الصوفية ومن نحى نحوهم.
وبعضهم كـ الباطنية، والرافضة قالوا: لا من الكتاب ولا من السنة ولا من العقل ولا من الكشف، ولكن عن طريق الإمام المعصوم، وهذا الإمام المعصوم هو بالنسبة لالرافضة الذي في السرداب، ومعه العلم الباطني، ويأخذون علمه عن طريق النواب والحجاب الذين جعلهم نواباً وحجاباً له، ولهذا فمنهج التلقي عندهم أنهم لا يأخذون من كتاب الله ولا من صحيح البُخَارِيّ ولا من صحيح مسلم وهم ينكرون الرؤية وينكرون هذه الصفات، ولكنهم يتلقون من الرقاع، وكيفية ذلك: أنهم ينامون وفي الصباح يذهبون إِلَى شجرة من الشجر ويجدون فيها رقاعاً، تقول: اعملوا أو اتركوا، ويقولون: إن الإمام المعصوم ألقى ذلك، أو أوحى به إِلَى بعض النواب ويكتبون هذه الرقاع ويلقوها، فتتلقى الأتباع منها العلم وينفذونه، ولهذا حصل أن أحد اليهود وكان يكتب لهم رقاعاً يقرؤنها، فكتب مرة من المرات: استوصوا بفلان اليهودي خيراً ووضعه في رقعة في شجرة، فلما قرأها الرافضة في اليوم الثاني ملأوا بيت ذلك اليهودي من الذهب والفضة وفرحوا به لأنهم وجدوا رقعة من العلم من الإمام المعصوم المحجوب أنه قال:استوصوا بهذا اليهودي خيراً، هكذا يبلغ سخف العقول.
إن الله عز وجل أعطانا المصدر الكتاب والسنة الصحيحة أفنعدل عنها إِلَى أمثال هذه التوافه؟!
وكذلك هَؤُلاءِ الصوفية وأمثالهم -كما ذكر المُصْنِّف رحمه الله يظنون أن الصحابة إنما كانوا يتلقون القُرْآن كما يتلقى الأطفال الصبيان، يحفظون ألفاظاً لا معنى لها، ولذلك يحتاجون إِلَى مصدر آخر يقول أحدهم: بحثت وفكرت في الصفات فوجدت أن النَّاس ما بين مجسم، ومشبه، ومعطل، ومؤول، فيحتار في أمرهم فَيَقُولُ: فلا سبيل إِلَى معرفة ذلك إلا بالكشف، فيتعبد ويذكر الله وينام لعله يرى رؤيا في المنام أو يلقى في قلبه شيء، وأبو حامد الغزالي في كتاب قواعد العقائد، وهو أحد الكتب من كتب إحياء علوم الدين رجح طريق الكشف، وقَالَ: إن الإِنسَان يحتار بين أهل التأويل وبين أهل التجسيم، والطريق الصحيح لمعرفة ما يؤول لا يعلم إلا بالكشف، سُبْحانَ اللَّه! قد ينكشف لواحد إثبات أشياء لم ترد لا في كتاب ولا في سنة، والآخر انكشف له ثلاث صفات أو صفتين، فكيف نعبد الله سبحانه وتعالى إذاً؟
رد المصنف رحمه الله على هؤلاء المنحرفين
يرد المُصْنِّف رحمه الله عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً فَيَقُولُ: [كيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقان من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسيركتاب الله من أحاديث الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد] .
فالذين لا يأخذون الدين من المصدر الصحيح فمن أين يأخذونه؟ ولهذا فإن كل أحد يمكن له أن يسأل أي إنسان واجهه من المعتزلة أو الاشعرية أو الماتريدية هذا السؤال: ما الدليل من كتاب الله أو من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أن الله سبحانه وتعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته؟ ولا يوجد أبداً، فيقال لهم: إذاً أنتم لا تأخذون من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم!.
وإما أن يأخذوا من القرآن، ولكن لم يأخذوا تفسير كتاب الله عن الصحابة وعن علماء السلف، وهذا يمكن أن تزل فيه الأقدام وتضل فيه الأفهام؛ لأن القُرْآن حمالُ وجوهٍ " كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره، فالقرآن حمال وجوه، أي: بعض الآيات تحتمل وجوهاً فمن يبين لنا؟ قال تَعَالَى:وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ [النحل: 44] فالذي يبين للناس ما نزل إليهم هو رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أعلم النَّاس بالكتاب والسنة؟ لا شك أنهم الذين قرأوه وفهموه وعرفوا معانيه ومعاني السنة أقصد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ العلماء الذين من بعدهم، فما شرحوا به كتاب الله نقوله، وما لم يشرحوه، ولم يبينوه لا نبينه، فنجدهم يقولون: إن لله سبحانه وتعالى يدين حقيقة، صفة من صفاته سبحانه وتعالى، لكن هَؤُلاءِ الضلال يقولون مثلاً: إن اليد تأتي بمعنى القدرة، وتأتي بمعنى النعمة، وتأتي بمعنى كذا، ومع أنهم قد يأتون بما يدل عَلَى ذلك من شعر العرب لكن لا يستطيع الواحد منهم أن يأتي بواحد من الصحابة نفى اليد عن الله سبحانه وتعالى، ففهم الصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم مقدم وهو الحجة وكذلك العين والساق وأمثال ذلك من صفات الله.
فالمسالة في أصلها تعود إِلَى التلقي إما من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو من الفهم لها كما فهمها الصحابة وكما فهمها العلماء الثقات الذين يؤخذ عنهم هذا العلم ويؤخذ منهم الدين، فالصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، والسلف لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده، -يعني الألفاظ وحدها- وإنما نقلوا اللفظ والمعنى، ولم يكونوا يتعلمون كتاب الله كما يتعلم الصبيان الذين لا يستطيعون أن يستوعبوا المعاني، وإنما يحفظون الألفاظ؛ فهذا سوء ظن بأفضل جيل.
وذكر المُصْنِّف أن من لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه وبالهوى المجرد، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب، وبالعكس من أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لأنه ليس كل إنسان يوفق للفهم الصحيح في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد يفهم خطأ، كما وقع ذلك حتى في جيل الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، لكن إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، أما من أخذ من غير الكتاب والسنة فهو آثم، وإن أصاب، فلو جَاءَ أحدهم وقَالَ: أنا أثبت العلو لله كابن رشد مثلاً فإنه يثبت كثيراً من الصفات التي تنكرها الأشعرية -وكان عدواً شديداً للأشعرية.
يقولون: نثبت بالعقل وبالرأي أن الله سبحانه وتعالى فوق العالم.
ولو قيل: ما رأيكم في الكتاب والسنة؟
لقالوا: لا، هذه تحتمل وظاهرها فيه تشبيه، نَحْنُ نثبت بالعقل.
فيقال لهم: هذا أثم، وإن كَانَ الكلام صواباً؛ لأنه لم يتبع الحق من منبع المحق ومن مصدر الحق وهو الكتاب والسنة، فنقول: ليس عقلك هو مصدر التلقي ولا مصدر الإثبات إلا في المجالات التي هي من شأن العقل وهي المجالات الاجتهادية لكن كلامنا في الدين وفي الاعتقاد، وفي الصفات، فلا يستطيعها العقل وليس في مجاله ولا من اختصاصه.
قال المصنف رحمه الله:
[وقوله: [والرؤية حق لأهل الجنة] تخصيص أهل الجنة بالذكر، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ A> [الأحزاب:44] .
واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه لا يراه إلا المؤمنون.
الثاني يراه أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.
الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف] اهـ.
الشرح:-
قد مر معنا حديث عدي بن حاتم وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقول: أولم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب، يقول: ألم أزوجك؟ فيقول: بلى يا رب) إلى أخر الحديث الذي سبق وقد ذكرنا أن اللقاء لا يستلزم الرؤية، يعني: أن الاستدلال بهذا الحديث على إثبات الرؤية فيه نظر؛ لأن مجرد اللقاء لا يستلزم الرؤية، لأن في الحديث:(ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك) وهذا يقال في حق الكافر، فهل نستفيد من هذا الحديث أن الكافر يرى الله عز وجل أم لا؟
فالمسألة موضع نظر، ولهذا لا يذكر هذا الحديث ضمن الأحاديث التي نستدل بها على رؤية الله تبارك وتعالى، وإنما ضمن الأحاديث التي هي محل نظر، والإمام الطحاوي توفي في أوائل القرن الرابع، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن الخلاف -هل يرى الكفار الله عز وجل أو لا يرونه- إنما نشأ بعد المائة الثالثة، يعني نستطيع أن نقول: إن الإمام الطحاوي لم يدرك هذا الخلاف وإنما تكلم بما كان عليه عامةالسلف، وهو أنهم يتكلمون بأن المؤمنين يرون ربهم وكان أهل البدع ينكرون ذلك، ويقولون: إن الله لا يُرى، فكان الخلاف محصوراً في هل يُرى أولا يُرى؟ والذين يقولون يُرى وهم أهل السنة يقولون: المؤمنون يرون ربهم، وأولئك قالوا: لا يرى مطلقاً.
وبعد الثلاث مائة نشأت قضية أخرى وهي: هل يراه الكفار والمنافقون أو لا يرونه؟ وهذه قضية اجتهاد ونظر، أي: ليست هذه من الأمور التي تؤثر في الاعتقاد والدين سواء قيل الكفار يرونه أو لا يرونه ولكن بالقيد الذي سنذكره، وليست مسألة محنة ولا فتنة، وهنا سنقف قليلاً لذكر قصة وقعت في زمنشيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا الموضوع لنأخذ منها العبرة.
فأهل البحرين في زمنشيخ الإسلام ابن تيمية كان فيهم علماء وصلحاء، فحصلت بينهم فرقة وشقاق، وتهاجر وعداوة من أجل هذه القضية، هل الكفار يرون الله أم أنهم لا يرون الله وهم متفقون على أنه ليس في الجنة قطعاً، فالكفار لا يدخلون الجنة، لكن قالوا: في أثناء الحشر قبل الحساب، هل يرونه أو لا يرونه؟ وتهاجروا وتقاطعوا واختلفوا في هذه المسألة فكتبوا إلىشيخ الإسلام ابن تيمية ولما بلغه ذلك رضي الله تعالى عنه كتب إليهم ليهون عليهم الأمر.
ويقول: إن من أمور الدين ما هي أمور معلومة بالقطع، وبالدليل الجلي وهذه هي الأمور التي يجب على الإنسان أن يظهرها وأن يدعو إليها، ولو أوذي في سبيل ذلك وأن يجاهد في ذلك ويتحمل الأذى أو أن يقاطع وأن يهجر من أجل ذلك، وهناك أمور ليست من هذا القبيل، وإنما هي محل نظر واجتهاد، فلا يمتحن فيها الإنسان، ولا يهجر من أجلها ولا يؤدب ولا يعزر، بل غاية ما يقال: إنه مخطئ ومنها هذه القضية.
فنحن في حاجة دائمة إلى أن نعرف ما هي الأصول التي نوالي ونعادي فيها، وما هي الأمور التي تقبل الخلاف، فلا نجعلها هي محل الإثارة والإشكال في مجالسنا أو مع العلماء، هل هذا هو المخطئ أم هذا هو المصيب، هل نضع اليدين قبل الركبتين أو العكس، هل نضع اليدين بعد الرفع من الركوع أم لا نضع
…
الخ.
هذه الأمور التي لا يترتب عليها شيء وليس على المسألة امتحان ولا ابتلاء ولا هجران ولا تبديع ولا تفسيق، يجب أن نحذر من الخلاف فيها، وأن نضع الشيء في موضعه، فنحن أحوج ما نكون إلى أن يكون شباب أهل السنة والجماعة يداً واحدة على أهل الشرك والبدعة والفجور، بدلاً من أن يكون موضوع أحاديثهم وموضوع لقائهم مع علمائهم هو أمثال هذه القضايا، أقول الذي يقرأ رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية يجد الناحية التربوية والدعوية فضلاً عن الناحية العلمية، فهي في الجزء السادس من مجموع الفتاوى تبتدئ من صفحة (465) .
ترجيح شيخ الإسلام بأنه لا يراه إلا المؤمنون.
ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ثلاثة أقوال:
القول: بأنه لا يراه إلا المؤمنون ومن أقوى الأدلة عَلَى ذلك قوله سبحانه وتعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] وكل ما سبق أن ذكرناه من الآيات والأحاديث يستدل به هَؤُلاءِ ويقولون: إن الكفار لا يدخلون في ذلك، أي: لا يدخلون في النعيم ولا فيما يتعلق بالنعيم، وهو أمر معلوم، إذاً فلا يرون ربهم سبحانه وتعالى في أي موقف من مواقف يَوْمَ القِيَامَةِ.
أما الذين قالوا: إن الكفار يرونه فيقولون: نَحْنُ نقول: إنهم يرونه وقت الحساب فقط، ويستدلون بعموم ما جَاءَ في الأحاديث، منها: حديث أبي سعيد الخدري وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ الذي أوله أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية القمر
…
الخ.
وحديث جرير وأبي سعيد (كنا جلوساً عند رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إِلَى القمر وقال لهم ذلك، الحديث بطوله وفيه يقول الله عز وجل بعد ذلك: من كَانَ يعبد شيئاً فليتبعه، فيذهب الذين يعبدون الطواغيت، ويأتي اليهود والنَّصَارَى فيمثل لهم شيطان عزيز وشيطان المسيح.....) الخ كما جَاءَ في الحديث، فيقولون: إن هذه الرؤية تحصل لأهل المحشر جميعاً والحديث فيها عام.
وأيضاً في حديثأبي رزين العقيلي قَالَ: يا رَسُول الله: كيف يرى الخلائق ربهم وهو واحد؟ فَقَالَ ألا ترى أنهم جميعاً ينظرون إِلَى القمر وهو واحد قَالَ: بلي فيستدلون بنفس الأحاديث في الرؤية لكن بعمومها، وأنها تدل عَلَى أنه لا فرق بين المؤمنين وبين الكفار في الرؤية التي قبل الحساب.
وفصلت فرقة ثالثة وقالت: إن نفس هذه الأحاديث جَاءَ في بعضها ما يفصل وهو أنه سبحانه وتعالى يأتي الخلائق في صورة غير الصورة التي يعرفون، فيسألهم ويمتحنهم، ثُمَّ ينفض الكفار، وتذهب كل فرقة أو طائفة من الكفار مع طاغوتها الذي كانت تعبده، فتبقى هذا الأمة ومعها منافقوها، فيتجلى الله سبحانه وتعالى، فإذا رأوه خروا سجداً، والمؤمنون يسجدون والمنافقون تكون ظهورهم كالخشبة فلا يسجدون، فهذا دليل عَلَى أن المنافقين يرون الله وأن الكفار لا يرون الله سبحانه وتعالى.
والكلام كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وكما ذكر المُصْنِّف هنا أن الأمر فيه هين -ولله الحمد- وذلك بأن يقالأهل السنة جميعاً: متفقون عَلَى أن رؤية الإنعام والتكريم والتلذذ لا تكون إلا للمؤمنين في الجنة هذا أمر معلوم وقطعي متفق عليه.
فبقي إذاً مسألة الرؤية أثناء الحساب وأثناء العرض، إن وقعت للكفار فليست تكريماً ولا تنعماً، وإنما هي إقامة للحجة، وإن لم تقع لهم، فهي أيضاً من ضمن العقوبات، هذا ما يجعلنا نخرج من الخلاف، حتى أن شَيْخ الإِسْلامِ في آخر هذه الرسالة قَالَ: إن الوقت لا يتسع للترجيح فيها، ولكن ليست بذات الأهمية التي لا بد أن نرجح فيها، فنحن يكفينا هذا، وهو أن نعلم: أنه إن ثبتت الرؤية للكفار في حال الحساب وما قبله، فهي ليست رؤية التنعم والتلذذ والإكرام، وإنما هي رؤية لإقامة الحجة وللمحاسبة وللعقوبة.
وأما التي بالإجماع ولا ينالها الكفار ولا المنافقون إنما هي للمؤمنين، فهذه الرؤية التي هي للنعيم، وهي رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، هذه الرؤية التي تُنَضِّرُ الوجوه، وهذه هي الزيادة التي يعطيها الله سبحانه وتعالى أهل الجنة، ويحسن بها إليهم فوق إحسانه إليهم بإدخالهم الجنة، هذا ما يقتضيه المقام هنا.
من سوى النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى الله في الدنيا بعينه بالاتفاق
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله تَعَالَى:
[واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صلى الله عليه وسلم، وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في رؤيته صلى الله عليه وسلم وإنكار عَائِِِشَةَ رضي الله عنها أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لمسروق حين سألها: هل رأى مُحَمَّد ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، ثُمَّ قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب.
ثُمَّ قَالَ: وقال جماعة بقول عَائِِِشَةَ رضي الله عنها وهو المشهور عن ابن مسعود وأَبِي هُرَيْرَةَ واختلف عنه وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه.
وروى عطاء عنه: رآه بقلبه ثُمَّ ذكر أقوالاً وفوائد ثُمَّ قَالَ: وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه عَلَى آية النجم والتنازع فيها مأثور والاحتمال لهما ممكن، وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنه إذ لو لم تكن ممكنة، لما سألها موسى عليه السلام؛ لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه بل ورد ما يدل عَلَى نفي الرؤية، وهو: ما رواه مسلم في صحيحه عنأبي ذر رضي الله عنه قَالَ: سألت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فَقَالَ: (نور أنَّى أراه) وفي رواية (رأيت نورا) .
وقد روى مسلم أيضاً عنأبى موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قَالَ: (قام فينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقَالَ: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النَّار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فيكون -والله أعلم- معنى قوله لأبى ذر (رأيت نوراً) أنه رأى الحجاب ومعنى قوله: (نورٌ أنى أراه) النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه؟ أي: كيف أراه والنور حجاب بينى وبينه يمنعنى من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية والله أعلم، وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة عَلَى ذلك ونحن إِلَى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى وإن كانت رؤية الرب تَعَالَى أعظم وأعلى فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة.
وقوله: بغير إحاطة ولا كيفية -هذا لكمال عظمته وبهائه سبحانه وتعالى: لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يُعلم ولا يحاط به علما، قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام: 103] وقال تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] اهـ.
الشرح:
يقول المُصْنِّف رحمه الله تعالى: [واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه] هذه قاعدة عظيمة وإجماع متواتر لا يشك فيه عالم بدين الله تعالى، ولا يماري فيه ولا يدعي خلافه إلا زنديق أو جاهل، وهو أنه لا يرى الله تَعَالَى أحد في هذه الدنيا جهرة، ولو كَانَ ذلك حاصلاً لأحد من الأولياء أو من العباد لكان كليم الله موسى أولى به، بل الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق عَلَى الله وأعظمهم ولاية وقربة من الله تبارك وتعالى وأرفعهم درجة وهو الذي وصل عنده في ليلة الإسراء والمعراج إِلَى الغاية التي لم يصل إليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومع ذلك فإنه لم ير ربه بعينه في الدنيا وعلى هذا يدل الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:(لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت) ،
ولم يخالف في ذلك أحد من أئمة الإسلام وعلمائه المعتبرين -والْحَمْدُ لِلَّهِ- وإنما وردت في كتب الصوفية الزنادقة -الذين يتمسحون بالتعبد والتأله والتزهد، وهم زنادقة فجرة- نقل عنهم أنهم يرون ربهم وأنهم يثبتون ذلك للأولياء أو الأقطاب، وقد أفتى العلماء ومنهم شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، بأن من قَالَ: إن أحداً من الأقطاب أو الأولياء أو الأوتاد يرى الله سبحانه وتعالى بعينه في هذه الحياة الدنيا، فإنه يبين له الدليل، فإن تاب وإلا قتل، ويكفر إذا كَانَ يعتقد أن في ذلك تفضيلاً، فإذا بُين له أنك بهذا القول تفضل القطب أو الولي عَلَى أنبياء الله؛ لأن الله منع الرؤية عن موسى عليه السلام، فإذا اعتقد أن هذا الولي أو القطب أياً كَانَ أفضل من موسى عليه السلام، أي: حصل له ما لم يحصل للنبي، وكان ممن يعتقد تفضيل الأولياء عَلَى الأَنْبِيَاء كما كَانَ يقول ابن عربي وأمثاله، فعليه أن يرجع ويعود إِلَى حظيرة الإيمان ولا يعود إِلَى هذا القول، فإن أصر عَلَى هذا القول، فإنه يقتل كفراً وردة، وينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وذكر منها: التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا ترك الدين وفارق الجماعة بعد قيام الحجة عليه، هذا بخصوص رؤية غيره صلى الله عليه وسلم.
النزاع في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا
النزاع في رؤية النبي لربه قديم من أيام الصحابة -رضوان الله عليهم- وبعض العلماء ينفى التنازع ويقول: إنه لم يحدث، ولم يقع خلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الله عياناً بالبصر وكلهم متفقون عَلَى أنه لم يقع، وما نقل عن بعضهم كابن عباس وابن مسعود وأَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنهم، إما أنه لم يثبت وإما أن المقصود به الرؤيا بالقلب وليست بالعين، وهذا القول رجحه كثير من العلماء، وهو الذي رجحه الإمامعثمان بن سعيد الدارمي وقَالَ: إن الصحابة اتفقوا عليه، وهو أيضاً القول الذي اختاره الحافظ ابن كثير في أول كلامه عَلَى سورة النجم وإن كَانَ بعد ذلك ذكر ما يشعر بخلافه، وكأنه رحمه الله اضطرب في ذلك، فالمقصود أن الذي عليه الأغلب والذي تجتمع به الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به لم ير ربه تَعَالَى بعينه فضلاً عما سوى ذلك. وإنما حصل له صلى الله عليه وسلم رؤية أخرى بالقلب، وهي التي ذكرت في حديث اختصام الملأ الأعلى (رأيت ربى في أحسن صورة)، وهو من رواية ابن عباس التى سندها سند البُخَارِيّ لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام في أحسن صورة فقَالَ:(يا مُحَمَّد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى، فقَالَ: لا، فقَالَ: في الكفارات والدرجات) وهو الحديث الذي ذكر طرقه ورواياته الإمام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة (ص) عند قوله تعالى: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [صّ:69] وشرحه الحافظ ابن رجب في كتاب منفرد وهو (اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) والمصنف رحمه الله اختصر ما جَاءَ في كتاب الشفا في أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض المالكي، وقد تحدث وأطال في موضوع الرؤيا، ولخص المُصْنِّف رحمه الله كلامه، كما أطال في ذلك الشرح،
وقد شرحه اثنان أحدهما شهاب الدين الخفاجي وسمي شرحه نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض2 والشرح الآخر للملا عَلَى القاري الحنفي. وأصل الخلاف في موضوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم -هل حصلت بالعين أم لم تحصل- هو اختلاف العلماء من عهد الصحابة في تفسير سورة النجم في قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:1] وإذا تأملنا الآيات نجد أنها أثبتت رؤيتين لما قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] هذه هي الأخرى، وكلمة (نَزْلَةً) اسم مرة، يعنى: مرة أخرى، والمرة الأولى كانت قبل ذلك، والفهم الذي يمكن أن نفهمه قبل أن ندخل ونخوض في الخلاف أن القول الصحيح الراجح يتبين من سياق الآيات نفسها، فإن الله تَعَالَى أقسم بالنجم إذا هوى بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بضال ولا غاوي عن الطريق كما يزعم أولئك، وأن ما يقوله صلى الله عليه وسلم إنما هو وحي يوحى علمه شديد القوى، وقد جَاءَ في القُرْآن في مواضع أخرى أن الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم القُرْآن والوحي هو جبريل الأمين كما قال تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23] والمقصود بالرؤية هنا بلا شك هو جبريل عليه السلام. وفي صحيح
البُخَارِيّ وغيره أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عَلَى خلقته التي خلقه الله تَعَالَى عليها، له ستمائة جناح قد سد الأفق وفي القُرْآن يقول الله: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ إذاً الآية والأحاديث الصحيحة تدل عَلَى أن المرئي هنا جبريل وعلى أن الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالأفق الذي ورد هنا ورد في الآية الأخرى وفي الأحاديث، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] إذاً جبريل عليه السلام دنا فتدلى من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:9] أي: لا يزيد عن ذلك، فـ (أو) ليست للشك وإنما هي لنفي الزيادة، أي: تكون أقل من ذلك كما قال تَعَالَى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147] فقوله (أو) ليست للشك؛ لكن المعنى أنهم لا ينقصون عن المائة ألف بل يزيدون. فالمقصود أن جبريل عليه السلام دنا فتدلى وهو بهيئته وخلقته العظمى التي خلقه الله تعالىعليها بعد أن كَانَ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، في صورة إنسان من البشر، كما أتى في صورة دحية الكلبي، فإن الله تَعَالَى أعطى الملائكة قوة التشكل والتصور كما يشاء تَعَالَى أن يأتوا، ولكن من حكمته سبحانه وتعالى، ومن رحمته، وليثبت نبيه صلى الله عليه وسلم، ويذهب عنه الروع والخوف مما لقيه لما نزل عليه الملك بحراء، وليطمئنه صلى الله عليه وسلم بأن هذا ليس بجني وليس بشيطان، وأن هذا حق وهو رسوله إِلَى رسله وأمينه الذي ائتمنه عَلَى وحيه، فجاءه جبريل في تلك الصورة فتأكد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم واستيقن أن هذا هو رَسُول الله وأمينه، وهو روح
الله تعالى؛ لأن تلك الصورة العظمى لا يمكن ولا يتخيل أن يكون عليها أي مخلوق من المخلوقات، فإنها من العظمة بما تعجز عنه العقول، حتى قال في إحدى الروايات في المسند (فكان له ستمائة جناح يسقط منها التهاويل والدر والياقوت) يعنى: الجواهر والياقوت الملون العظيم تتساقط من ستمائة جناح قد سدت الأفق كله، وهذا دليل عَلَى عظم خلق جبريل عليه السلام التى خلقه الله عليها وإذا شاء الله عز وجل جَاءَ في صورة رجل كما جَاءَ في حديث جبريل المعروف، وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم جلسة المتعلم السائل وهو في الحقيقة المعلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . إذاً قوله تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:8-10] معناها: فأوحى جبريل إِلَى عبد الله مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وقد جَاءَ هذا التعبير كما في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه [الإسراء: 1] والعبودية هي أشرف وصف يوصف به المخلوق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ونص عليه وقَالَ:(لا تطروني كما أطرت النَّصَارَىابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله) فأشرف وصف يقال للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله العبد الذي تحققت فيه كل معاني العبودية ففي مجال التكريم والتعظيم والتشريف يقول الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه ويقول: فَأَوْحَى إِلَى6005822 عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] كأنه هو وحده العبد، وإلا فالخلق كلهم عباد، ولكن اختصاصه بهذا لأنه بلغ الدرجة العليا في العبودية، وهو أيضاً عند الله بمنزلة عليا لا يشاركه فيها أحد. والتعبير فيه إشارة لطيفة جداً إِلَى أن الرؤيتان حصلتا لجبريل: رؤية في العالم السفلي
حيث رآه في أجياد أو في الأبطح وهنالك مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] فهي ليست مجرد رؤية بالعين بل حقيقة استيقنها القلب، ورؤية حصلت في الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى وهناك مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] فلم يزغ البصر ولم يطغ مما رأى لأنه فوق طاقة البشر لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] ومنها رؤية جبريل عَلَى خلقته فالرؤيتان كلاهما لجبريل فرآه النبي صلى الله عليه وسلم في خلقته التي خلقه الله عليها مرتين. إذاً: إذا تأملنا آوائل سورة النجم التي حصل فيها الخلاف لم نجد الظاهر والراجح إلا القول بأن الرؤية لجبريل عليه السلام، وأنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه سبحانه وتعالى، وليس فيه إشارة إِلَى أنه رأى ربه، يعنى: لا يدل عَلَى ذلك، فالكلام كله في الوحي، وفي نزول جبريل عليه السلام بالوحي، وفي الرؤية التي حصلت ثُمَّ قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] فالمرأي في الأخرى هو المرأي في الأولى، وهناك إجماع عَلَى أن هذا المرأي في قوله: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23] الضمير يعود عَلَى جبريل عليه السلام. إذاً يكون كل ما ورد بخلاف ذلك فهو مرجوح، مثل ما ورد في رواية شريك بن عبد الله (ثُمَّ دنا الجبار فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) هذه رواية مرجوحة مضطربة كما سيأتي إن شاء الله الكلام عَلَى ضعفها واضطرابها بالتفصيل في مبحث الإسراء والمعراج. وكيف حصل النزاع؟ الذي يبدوا -كما أشرنا- أنه حصل لبس في فهم الرؤية وفي الضمير عَلَى من يعود في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى وليس فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما وعن أَبِي هُرَيْرَةَ وإن كَانَ لا يثبت عنه، وعن ابن مسعود من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ لأنه قد روى النَّسَائِيُّ وغيره
عن ابن عباس قَالَ: (إن الله اختص موسى بالتكليم، واختص إبراهيم بالخلة، واختص مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بالرؤية) . وأيضاً ما رواه ابن خزيمة عن ابن عباس في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [الإسراء:60] قَالَ: (رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به)، فحصل اللبس في مثل هذا. إما أن يكون صح عن ابن عباس أنه قَالَ: إنه رآه بعينه ويكون اللبس حصل في فهمه -فلا يمنع ذلك- وهو الحبر العالم الجليل المشهور، ولكن العصمة إنما هي لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن الخطأ في مثل هذه الأمور وما عداه فالخطأ عليه وارد. وإما أن يكون الخطأ حصل من الرواة ومن بعد الصحابة كعكرمة ومسروق ومن روى عنهم هذا القول، وقصةمسروق مع أم المؤمنين في هذا الحديث الصحيح الذي رواه البُخَارِيّ تدل عَلَى أن اللبس في الفهم وقع من مسروق، كما في الحديث المتفق عليه، وهذا لفظ مسلم قال مسروق:كنت متكئاً عند عَائِِِشَةَ رضي الله عنها فقالت: (يا أبا عَائِِِشَةَ ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية) ثلاثة أمور مهم جداً أن نعلم هذه الأمور، ولا سيما وأن أم المؤمنين قد قالتها وهي جازمة متأكدة، لنعلم أن احتمال الغلو في رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ من قديم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتوقعونه إن لم يكن قد ظهر بوادره في أيامهم، وعالجوه بمثل ما عالجت به أم المؤمنين بقولها هذا: قالت لمسروق (أبا عَائِِِشَةَ ثلاث من تكلم عَلَى الله بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية، أي: افترى عَلَى الله افتراءً عظيماً. (قلت: ما هنَّ؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية، وكانمسروق متكئاً فجلس فمسروق)، أحس أنها صدمته بقول كَانَ يظن ويعتقد خلافه. قَالَ:(فجلست وقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعذريني) أي: يا أم
المؤمنين سأقول كلاماً يخالف كلامك تبيني ما أقول ثُمَّ أجيبيني. (قالتأم المؤمنين: نعم قَالَ: ألم يقل الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. أي: أن مسروقاً كَانَ لديه لبس وهو أن هذا المرئي بالأفق المبين وفي النزلة الأخرى هو الله. (فقالت أم المؤمنين: أنا أول هذه الأمة سأل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالت: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما هو جبريل) أي أن الذي رأيته بالأفق المبين، والذي رأيته نزلة أخرى إنما هو جبريل، ولم أرَه عَلَى صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، ثُمَّ قالت أم المؤمنين:(ألم تسمع أن الله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103] ألم تسمع أن الله يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51] . ثُمَّ قالت أم المؤمنين (ومن زعم أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم عَلَى الله الفرية) إذاً فقد كَانَ يوجد في أيامها من يفهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ولهذا ردت عليه بالأولى، وكان في أيامها من يشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من العلم ولم يبينه للأمة، وقد وجد ذلك فكانت بداية الرفض في أيام عَائِِِشَةَ رضى الله عنها بل قبل أن يراها مسروق. وفي إمارة أمير المؤمنين عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رضي الله عنه كَانَ الرافضة يشيعون بأن هناك علماً خاصاً أوحاه الله إِلَى محمد؛ ولكنه كتمه عن الأمة جميعاً، واختص به علياً وآل البيت، وهو علم الجفر الذي يزعمون أن علياً أخذه،
وأخذ الأئمة من بعده يتداولونه سراً حتى وصل إِلَى الإمام الثاني عشر، فأخذه ودخل به السرداب، ولن يرى النَّاس هذا العلم المكتوم إلا إذا خرج من السرداب، فحينئذ ينشر شيئاً من علم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يعلمه أحد من الأمة، وهذه الإشاعات كانت لها بدايات موجودة في أيام أمير المؤمنين عَلِيّ رضي الله عنه. ولهذا صح عنه في الصحيح وغيره لما سُئل هل خصكم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ وهذا دليل عَلَى أنه قد أشيع، وإلا فكيف يسئل عنه؟ قَالَ:(لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة: ما خصنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم، إلا فهماً في كتاب الله يؤتيه من يشاء، وما في هذه الصحيفة، فلما أخرجها وإذا فيها الديات وفكاك الأسير، ولعن الله من آوى محدثاً وأن المدينة حرم) عَلَى اختلاف الروايات. وهذا الحديث وما فيه من الأحكام، كانت مكتوبة واحتفظ بها علي رضي الله عنه، ولم تكن خاصة لأنها قد رويت عن غير عَلِيّ رضي الله عنه وهي معلومة عند الأمة من طرق ومن أحاديث أخرى، فليس فيها اختصاص إلا أنها كانت مكتوبة، وكان أمير المؤمنين يضعها في قراب السيف ليحتفظ بها. والقضية الثالثة التي من قال بها فقد أعظم عَلَى الله الفرية تقولأم المؤمنين (ومن زعم أنه -أي: النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم عَلَى الله الفرية) ، وفي رواية أيضاً صحيحة:(ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية) ، وهذا افتراء عظيم عَلَى الله، فقد كانت هناك أيضاً بوادر غلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الجارية تنشد (وفينا رَسُول الله يعلم ما في غد) فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول ذلك، وقد ظهر وانتشر في الأعصار المتأخرة حتى وجد من يقول: أنه
عَلِمَ كل شيء حتى أنه علم متى تقوم الساعة -نعوذ بالله - أيُّ غلو وأي افتراء عَلَى الله وأي تكذيب لكتاب الله أعظم ممن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم الغيب كله حتى أنه يعلم متى تقوم الساعة؟ فماذا بقي لله عز وجل؟ بل قال قائلهم وهو البوصيري: ومن علومك علم اللوح والقلم
الكتاب المبين الذي أحصى الله فيه كل شيء ما كَانَ وما سيكون يجعلونه جزاءً من علوم النبي صلى الله عليه وسلم، فأي غلو وأي افتراء أعظم من ذلك؟! وهذا تكذبه الآيات من كتاب الله وتكذبه سنة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، كما نطقت به أم المؤمنين وقد أعظموا عَلَى الله الفرية بقولهم هذا. ثُمَّ استشهدت أم المؤمنين الفقيهه عَلَى القضية الأولى بنفي الرؤية بآيتين، وقد سبق شرح الآيتين وجاءت الآية الثانية وهي البلاغ فقالت:(يَا أَيُّهَا الرَّسُول ولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] فمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من العلم فإنه يتهمه بأنه لم يبلغ الرسالة. واستدلت عَلَى القضية الثالثة وهي أنه لا يعلم الغيب أيضاً بآية من كتاب الله وهي قوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:58-59] وتقديم الضمير والظرف للاختصاص. والمراد أنه بهذه الأحاديث وبالحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي ذر يتضح لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه وأن ما قيل عن رؤيته لربه يحمل عَلَى الرؤية القلبية. يعنى ما جَاءَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: (رآه بفؤاده مرتين) فنحمل المطلق عَلَى المقيد، ونقول: ما أثبته ابن عباس
هو رؤيته لربه بفؤاده وقد يرد سؤال فيقول بعضهم: الرؤيا بالفؤاد ثابتة لجميع الأَنْبِيَاء والصالحين؟ ومن حقيقة هذا كلام يطلق ويقال ولو دقق فيه الإِنسَان لوجد أنه غير صحيح إذ كيف تحصل الرؤيا بالفؤاد لجميع المؤمنين؟! وإذا وجدنا أن ابن عباس نفسه قد جَاءَ عنه بالسند الصحيح الذي هو سند البُخَارِيّ حديث الرؤيا المنامية (رأيت ربى في أحسن صورة) فنعلم حينئذ أن ابن عباس لم يتناقض، وإنما يقصد أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده ورآه في المنام ورؤيا الأَنْبِيَاء حق، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه في المنام مرتين بفؤاده، وليس مجرد العلم بالله أو بصفاته بالقلب بل رآه حقاً بفؤاده مرتين ورأى جبريل عليه السلام بعينه بخلقته التي خلقه الله عليها مرتين، وبذلك تجتمع النصوص والأدلة. أما ما روي عن ابن مسعود وأبى هريرة، فإنه لا يصح كما يظهر من الروايات التي رويت عنهما، وحديث أبي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه، وهذا يدل عَلَى أنه إن صح عن أبي ذر احتمال للرؤية، فإنه كَانَ قبل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، أما بعد أن سأل فلم يعد هنالك احتمال؛ لأن الحديث صحيح صريح (قَالَ: سألت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فَقَالَ نور أنى أراه) ، وفي رواية (رأيت نوراً) أي: لا أستطيع كيف أراه؟ ورواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في صحيح مسلم تؤيد هذا، وهو قوله قام فينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، أي: خمس كلمات عظيمة جداً، وهذا الحديث فيه (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته. وذكرنا أنه ليس هناك نفي مطلق مجرد وإنما يأتي النفي المطلق لإثبات مقابله من الصفات الثبوتيه، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ
سِنَةٌ وَلا نَوْم [البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ [فاطر: 44] أي لكمال قدرته، فكل نفي يأتي في القُرْآن لا يأتي مجرداً، إنما يأتي لإثبات الصفة الثبوتية التي يدل عليها ذلك النفي. وتمام الحديث (يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) . والصحابة مجمعون عَلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بأم عينه، وقد تقدم الكلام عَلَى المراد بآيات سورة النجم. قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله تعالى:[وأما وجوبه -وجوب الرؤيا- لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه] المقصود بالوجوب في كلام القاضي عياض أي الوقوع فالمعنى: وأما وقوعه كما قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا [الحج: 36] . لكن الذين يقولون: إنها قد وقعت فإنه يجب الإيمان بها، لأن ما صح في الحديث يجب أن نؤمن به، فإن الوجوب فرع عن الثبوت. والشاهد من قول القاضي عياض "فليس فيه قاطع ولا نص إذا المعول فيه عَلَى آيتي النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله تَعَالَى تعليقاً عليه: [وهذا القول الذي قاله القاضي عياض هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام] فالأنبياء لا يجهلون ما ينبغي في حق الله سبحانه وتعالى إِلَى حد أن يسألوا الرؤية وهي مستحيلة، وإنما هي ممكنة، ولكنها في هذه الدنيا لم تقع ولم يوقعها الله له، وإنما تقع في الآخرة.
تقرير رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام
يقول المصنف: [ونحن إِلَى تقرير رؤيته - أي: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى وإن كانت رؤية الرب تَعَالَى أعظم وأعلى فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة] .
معنى كلامه نَحْنُ أحوج إِلَى أن نثبت ونقرر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل، ولا شك أن رؤية الله أعظم من ذلك، ولكن لا تتوقف النبوة عَلَى إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، إذ من المعلوم لدى جميع الأمم التي تؤمن أن الله يرسل رسلاً وأولئك الرسل لم يقل أحد منهم إني رأيت ربي.
فمعلوم عند بني الإِنسَان أن رؤية الله تَعَالَى ليست شرطاً في النبوة، لكن نَحْنُ أحوج إِلَى تقرير أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، وهذا تقريره عظيم ومهم؛ لأن فيه علاقة بإثبات النبوة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من النَّاس من قالوا: إن الشياطين تنزلت بالقرآن فنفى الله ذلك وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء:210-211] . قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل:24] ولم يكن المُشْرِكُونَ ينفون الوحي من ربه، وأنه لم يرى ربه؛ بل كانوا يقولون إن هذا الوحي ليس عن طريق ملك، وإنما هو شيطان يلقي إليه هذا القول.
فإذا أثبتنا وقررنا أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل عليه السلام في خلقته الحقيقة الكاملة له التي خلقه الله عليها، فهذا رد واضح عَلَى مزاعم أُولَئِكَ الكفار الذين يزعمون أنه تلقاه عن الشياطين وقد أثبت الله تَعَالَى أنه قول رَسُول كريم نزل به الروح الأمين وهو جبريل عليه السلام، ولهذا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل في صورته التي خلقه الله عليها اطمئن وتيقن أن هذا ملك مرسل من عند الله عز وجل وخاصة بعد أن نزل الوحي، ولم يكن لديه صلى الله عليه وسلم شك أصلاً، ولكن بلغ ذروة اليقين بأن هذا ملك من عند الله، وهذا هو الملك الذي لا يمكن أن تتخيل صورته بأي مخلوق آخر من المخلوقات، فحينئذ وصل النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الطمأنينة الكاملة.
وقوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ورد أن الذي أوحى به إليه هو أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، أو الضحى وبنزول هذه الآيات عليه زادته اطمئنانا، خاصة بعد أن زعم الكفار أن شيطانه قد كذبه فَقَالَ الله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] إذاً فنحن إِلَى تقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى.
أما قوله [بغير إحاطة ولا كيفية] فقد سبق شرحها، وقلنا: إنه إذا جَاءَ في الكتاب أو السنة نفي مجرد فإن الله لا يوصف به؛ بل لإثبات كمال ضده [بغير إحاطة ولا كيفية] لكمال عظمته فالله تَعَالَى يُرى بغير إحاطة ولا كيفية؛ أي معلومة من جنس الكيفيات التي يرى بها المخلوقون.
ثُمَّ قال فيما سبق أيضاًً: [وهذا لكمال عظمته وبهائه سبحانه وتعالى، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يُعلم ولا يُحاط به علماً] فهو كذلك يُرى، ولا تدركه الأبصار ثُمَّ قَالَ: قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103] وقَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وهذا مما سبق شرحه وإيضاحه.