الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح العقيدة الطحاوية
الأسماء والصفات
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
موضوع التشبيه وما يتعلق به من أهم الموضوعات التي خاض فيها النَّاس قديماً وحديثاً، ولا يزالون يخوضون وفي ربهم يختصمون.
فمنهم: من يشبه المخلوق بالخالق سبحانه وتعالى.
ومنهم: من يشبه الخالق سبحانه وتعالى بالمخلوق.
ومنهم: من ينفي بعض صفات الله سبحانه وتعالى أو كلها بدعوى التشبيه.
ومنهم: من يثبت إثباتاً مغالياً فيه، فيقع في التشبيه وهو يظن أنه من أهل الإثبات.
ومنهم: من يشتط ويغلو في نفي الشبيه عن الله سبحانه وتعالى، ولكنه ينفي بذلك ما ثبت وصح لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات.
وهذا الموضوع جدير بأن نتأمله ونتفهمه ونعيه، فإنه من أهم أبواب العقيدة لاسيما وأن الذين ضلوا في أبواب العقيدة والإيمان في توحيد المعرفة والإثبات؛ إنما ضلوا لعدم فهمهم حقيقة التشبيه من حقيقة الإثبات والتنزيه، وهذا ما سوف نشرحه بإذن الله سبحانه وتعالى.
التشبيه
قال الإمامالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ولا شيء مثله] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[اتفق أهل السنة عَلَى أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام النَّاس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن، ودل عليه العقل، من أن خصائص الرب تَعَالَى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، رد عَلَى الممثلة المشبهة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، رد عَلَى النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النَّصَارَى في كفرهم، ويراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقَالَ: له قدرة، ولا علم، ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذا كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك، وهم يوافقون أهل السنة عَلَى أنه موجود، عليم قدير، حي. والمخلوق يقال له: موجود حي عليم قدير، ولا يقَالَ: هذا تشبيه يجب نفيه، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل، فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمى فسمى نفسه: حياً، عليماً، قديراً، رؤوفاً، رحيماً، عزيزاً، حكيماً، سميعاً، بصيراً، ملكاً، مؤمناً، جباراً، متكبراً. وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقَالَ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95] وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28] فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيم [الصافات:101] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإِنسَان:2] قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ [يوسف:51] وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79] أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً [السجدة: 18] كَذَلِكَ يَطْبَعُ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35] ومعلوم أنه لا يماثل الحيُّ الحيَّ، ولا العليمُ العليمَ، ولا العزيزُ العزيزَ، وكذلك سائر الأسماء، وقال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِه [البقرة:255] أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [السجدة:15]، وعن جابر رضي الله عنه قَالَ:{كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثُمَّ ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قَالَ: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثُمَّ بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قَالَ: عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثُمَّ رضني به. قَالَ: ويسمي حاجته} رواه البُخَارِيّ.
وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النَّسَائِيُّ وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ يدعو بهذا الدعاء:{اللهم بعلمك الغيب وقدرتك عَلَى الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إِلَى وجهك الكريم، والشوق إِلَى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين} . فقد سمى الله ورسوله صفات الله علماً وقدرة وقوة، وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54] وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاه [يوسف:68] ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة، وهذا لازم لجميع العقلاء] اهـ.
الشرح:
موضوع التشبيه من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعرفها المسلم، ليعرف حقيقة التشبيه، وماذا ينفى عن الله سبحانه وتعالى من التشبيه، والفرق بين التشبيه والإثبات، فإن فيه أموراً دقيقة لا يدركها كل أحد.
ومن الأمور التي ينبغي معرفتها في مبادئ وأوليات موضوع التشبيه، أن أكثر الخلق وقعوا في تشبيه المخلوق بالخالق.
فلو تأملنا قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح أو نحو ذلك من الأمم، لوجدنا أن أكثر شرك الأمم هو أنهم جعلوا المخلوقين كالخالق سبحانه وتعالى، وهذه حقيقة مهمة، ينبني عليها معرفة أن كثيراً من الخوض الذي خاض فيه المتكلمون، وأجهدوا أنفسهم فيه، هو فيما يتعلق بتشبيه الخالق بالمخلوق فقط؛ حتى أنهم نفوا الصفات الثابتة، وتركوا مع ذلك الجانب الأهم الذي وقع فيه أكثر النَّاس.
فأول أمةٍ وقع فيها الشرك هم قوم نوح عليه السلام حيث شبهوا المخلوقات بالخالق سبحانه وتعالى ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسراً، وهم أُناسٌ صالحون عبادٌ لله سبحانه وتعالى، فصوروهم ليتذكروا بهم عبادة الله، ثُمَّ غلوا في التعظيم حتى عبدوهم، ثُمَّ جعلوهم آلهة، وجعلوا لهم مما لله سبحانه وتعالى من الخصائص: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا [نوح:23] فهم شبهوا هذه المخلوقات بالله سبحانه وتعالى لما رفعوها إِلَى منزلة الله تبارك وتعالى. وكذلك عُبّاد الأصنام من سائر الأقوام إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان العرب يفعلون ذلك، ومن أعظم الطواغيت الذي ذكرهم الله تعالى في القرآن فرعون، وقد قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فشبّه نفسه بالخالق سبحانه وتعالى ولم يُشبه الله بنفسه. وهكذا كَانَ أكثر الأمم، إما أن يجعلوا الحجارة كالله سبحانه وتعالى، أو يجعلوا الملوك والأباطرة كالله سبحانه وتعالى، أو يجعلوا الأحبار والرهبان كالله سبحانه وتعالى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] .
وهذا ما وقعت فيه طائفة الصوفية من هذه الأمة وما شابهها من الطوائف، ولا سيما الرافضة.
ومن هذه الأمة من شبه الله بخلقه، وهذا ينسب لبعض من لهم دراية بالتفسير كمقاتل ونحوه، واشتهر عن طوائف من الرافضة، وقد فصّلها أبوالحسن الأشعري في كتابه: مقالات الإسلاميين فقليل من النَّاس من يقول: "إن الله تَعَالَى مثل المخلوق"، وأكثر من اشتهر عنه ذلك هم اليهود، كما في أول صفحة في التوراة الموجودة اليوم -والكلام بالمعنى-: (وإن آدم وحواء لمّا أكلا من الشجرة بدت لهما عورتهما، فاختبئا في ظل شجرة في طرف جنة عدن، وهي أرض تقع بين البصرة والفرات.
فجاء الرّبُ يتمشى في الجنة فلم ير آدم وحواء وسمع صوتهما، وهما لما سمعا أقدام الرب اختبئا تحت الشجرة ليهربا منه، فسألهما الرب: كيف أصبحتما عارفين الخير والشر؟
ما أدراكما أنكما عريانين؟
أأكلتما من الشجرة؟
فيقولان: نعم يا رب) .
فالرب سبحانه وتعالى لم يدرِ أنهما أكلا من الشجرة إلا بعد أن رآهما قد سترا العورة، وهم يصورون الإِنسَان أنه كَانَ جاهلاً تماماً، ولا يبالي أنه كَانَ عارياً أو متستراً أو نحو ذلك، إلا بعد أن أكل من "شجرة معرفة الخير والشر".
فتسميها التوراة المحرفة: (شجرة معرفة الخير والشر) التي إذا أكل منها الإِنسَان صار يعرف الخير والشر، وهذا كله باطل؛ لأن الله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها، وعلمه الخير والشر، وفطره عَلَى ذلك قبل أن يأكل من الشجرة. فنجد عدة معاني باطلة في مثل هذا النص تقطع بأن هذا ليس من كلام الله ولن يكون أبداً كلام الله، ومن أعظم الأدلة عَلَى أن هذا الكتاب ليس من عند الله أن الإِنسَان يقرأ في آخر السفر الخامس من الأسفار الخمسة:(ثُمَّ مات موسى ودُفِن في مكان كذا، ولا يزال قبره معروفاً حتى اليوم ولم يأتِ بعده نبيٌّ مثله) فهل يعقل وهل يصدق عاقل أن الله ينزل عَلَى موسى هذا الكلام؟!.
وإنما هو كما قال الله تبارك وتعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّه [البقرة:79] .
وفي موضع آخر تقول التوراة المحرفة: (إن الله سبحانه وتعالى نزل من السماء، وتصارع هو ويعقوب طول الليل إِلَى الفجر، وفي الصباح يرى يعقوب هذا الذي صارعه، وإذا به الرب، ويقول: أأنت الرب الذي كنت تصارعني طول الليل؟) .
ومما فيه أيضاً: أن موسى عليه السلام قال للرب تبارك وتعالى لما أن غضب عَلَى بني إسرائيل وعاقبهم: يارب ارجع عن حموّ غضبك، واندم عَلَى ما فعلت بشعبك قَالَ: فندم الرب عَلَى ما فعل بشعبه.
وقد بين الله سبحانه وتعالى لنا جانباً من تشبيه اليهود حينما قال سبحانه وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وقوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] .
فتشبيه الخالق بالمخلوقين إنما أصله من اليهود، والذين نفوا صفات الله عز وجل التي في القُرْآن أو في السنة -بزعمهم-، وَقَالُوا: ننفي التشبيه عن الله، قد شبهوا القُرْآن بالتوراة المحرفة التي كتبها الأحبار والرهبان بأيديهم، وغيروا فيها وبدلوا.
ولم يُنَزِّل الله سبحانه وتعالى في أي كتاب من كتبه ما فيه تشبيه له بخلقه سبحانه وتعالى. بل أعظم الحقائق التي يبينها الله تبارك وتعالى في كتبه هي ما يتعلق به وبمعرفته، وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وبما يجب له من حقٍ عَلَى العباد وهو توحيده سبحانه وتعالى، وإفراده وحده دون أحد سواه.
وأصل دين الرافضة من اليهود، وليس غريباً أن تكون الطائفة المشتهرة بالتشبية في أمة الإسلام هي الرافضة، لأن عبد الله بن سبأ الذي أسس دين الرافضة هو يهودي، خرج من يهود صنعاء اليمن، وجاء وبذر الفتنة والشقاق عند العوام، ولم يستجب له إلا: منافقٌ كَانَ مختفٍ بنفاقه عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم أو عَلَى عهد أبِي بَكْرٍ وعُمَر إِلَى أول صدر خلافة عثمان، أو جاهل، أو الذين أسلموا خوفاً وحقداً، أو من المجوس الفرس -العجم- لأن هَؤُلاءِ القوم دكَّ الإسلام ملكهم، وشتت قوتهم وأباد دولتهم، وهدم معابدهم وسحقهم سحقاً تاماً، بخلاف النَّصَارَى؛ لأن الإسلام في أول أمره إنما احتل بلاد الشام وبقيتالقسطنطينية، لم تفتح إلا في عهدمُحَمَّد الفاتح، وبقيت لهم روما مقر البابوية فلم تُمس، فكأن الديانة النصرانية -العدو الغربي للإسلام- اقتِطعت منه بعض الأطراف، ولذلك لم تكن الصدمة عليه قوية وعميقة. لكن العدو الشرقي للإسلام طحن ودمر تدميراً كاملاً؛ ومن هنا كَانَ حقدهم أعظم وأكثر عَلَى هذا الدين.
قالوا: أنت أنت!! لعَلِيّ أمير المؤمنين رضي الله عنه.
ـ قَالَ: ومن أنا؟
ـ قالوا: أنت الله.
ـ فقَالَ: أعوذ بالله.
فحفر الحفر، وأوقد فيها النيران ورماهم فيها، وقَالَ:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً
فلما فعل عَلِيّ >ٌ رضيَّ الله تَعَالَى عنه ذلك هرب عبد الله بن سبأ من الكوفة إِلَى كرمان في بلاد الشرق، وهنالك بذر دين التشييع والرفض، وأوجد في دينهم التشبيه، فقال عنهم أئمة الإسلام -أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في عصرهم- أنتم كفار؛ لأنكم تُشبِّهون الله بخلقه.
وهذا من أعظم الأدلة عَلَى أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ونحوهم ليسوا مشبهة؛ لأنهم يُكفِّرون المُشبهة.
ولكن عقائد الرافضة المعاصرين في القرون المُتأخرة هي عقيدة المعتزلة ينفون الصِّفات جميعاً، ومن أسباب ذلك:
1ـ أن التشبيه نبذته الأمة الإسلامية نبذاً شديداً، ورفضته رفضاً قاطعاً، وكفَّر علماء السلف أصحابه.
2ـ وأن الذين كانت لهم الجولة والصَّولة ضد أهل السنة إنما كانوا معطلة، كالذين عذبوا الإمام أَحْمَد وسجنوه وآذوه، وهم الذين دخلوا في الدولة وفي الوزارة وتمكنوا منها، حتى كَانَ منهم البرامكة وأمثالهم من المعطلة، الذين كانوا يجحدون الله سبحانه وتعالى ولا يؤمنون إلا بدين مزدك، وتمكنوا وأظهروا السلاح الذي كَانَ بأيديهم يحاربون به الإسلام، فتحولت الرافضة من التشبيه إِلَى التعطيل، وذلك لأن الرافضة ليس لديهم في الأصل دين من عند الله ثابت، بل الثابت عند الرافضة هو: عداوة الإسلام، فهم يدورون مع عداوة أهل السنة ومع عداوة الإسلام الحقيقي حيثما دارت، وقد نص عَلَى ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه العظيم منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية الذي ألفه رداً عَلَى ابن المُطَهِّر -كما سمى نفسه، وهو ابن المُنجِس- في كتابه منهاج الكرامة.
بل المعتزلة أنفسهم كانوا يفسقون أو يكفرون الطائفتين المختلفتين، طائفة أهل العراق - عَلِيّ ومن معه- وطائفة أهل الشام معاوية ومن معه رضي الله عن الصحابة أجمعين؛ حتى قال عمرو بن عبيد:[[لو شهد عندي]] عَلِيّ ومعاوية وعَائِِِشَةَ والزبير وعمرو -يعني أصحاب الجمل، وأصحاب صفين- لو شهد عندي واحد من هَؤُلاءِ عَلَى درهم لرددت شهادته " لأنه فاسق، والفاسق ترد شهادته، ثُمَّ بعد ذلك صاروا شيعة في العقيدة في مجال الصحابة، فالمعتزلة ليس اسمهم المعتزلة، بل هم نفس الشيعة، إما زيدية وإما إثنى عشرية، وذلك لأن المعتزلة أصل دينهم مرض في القلب وشبهات ونفاق، فدخلوا في طائفة الشيعة؛ لأنها طائفة عاطفة بلا عقليات.
فالتقت عاطفة بلا عقل صحيح سليم مع الجدليات-أي: الشيعة - وكلام بلا عاطفة -أي: المعتزلة - وأصبحا خطاً واحداً ومنهجاً واحداً، بينما لو قارنَّا كلام الشيعة المتأخرين لوجدناه يخالف كلام الشيعة الأولين في موضوع التشبيه؛ لأن الأولين مشبهة والآخرين معطلة، ولو نظرنا إِلَى المعتزلة الأولين لوجدناهم يكفرون أو يفسقون عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رضي الله عنه، وهم أقرب إِلَى رأي الخوارج، بينما المعتزلة المتأخرين نجد أنهم متشيعين يثبتون الإمامة والخلافة لعَلِيّ أمير المؤمنين وحده، ويبطلون خلافة من عداه.
أما أهل السنة فقد اتفقوا عَلَى أن الله تَعَالَى ليس كمثله شيء، وهم وسط بين المعطلة والمشبهة، فعرفوا حقيقة الإثبات وحقيقة التنزيه؛ لأنهم اتبعوا ما جَاءَ في الكتاب والسنة.
وموقف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من التشبيه أنهم ينفونه عن الله كما نفاه الله تَعَالَى عن نفسه حيث قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ونحوها من الآيات، لكن لفظة التشبيه صارت كلمة مجملة تحمل معنيين: أحدهما صحيح، والآخر باطل.
فأهل السنة ينفون التشبيه بمعنى أنه نفي مالا يليق به -سبحانه- مما هو من صفات المخلوقين.
والمعطلة ينفون التشبيه عن الله سبحانه وتعالى بمعنى نفي بعض صفاته، ويقولون: إننا ننفيها عنه؛ لأنها تقتضي أو تستلزم أو توهم التشبيه، ونحو ذلك من العبارات.
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في معنى كلامه: "إثبات الصفات التي تشترك فيها أكثر المخلوقات، فيها دليل عَلَى أن الله أولى بإثبات هذه الصفات وهذا الكمال، وهذا الإثبات ليس فيه تشبيه؛ لأنه قال في أول الآية:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فنفى التشبيه، ثُمَّ أثبت لله سبحانه وتعالى ما يليق به من الإثبات، فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رد عَلَى الممثلة المشبهة، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد عَلَى النفاة المعطلة.
فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، مثل ما قلنا في اليهود والرافضة وأمثالهم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النَّصَارَىفي كفرهم حيث قالوا: إن عيسى إله.
والنَّاس في هذا عَلَى مراتب: منهم من ينفي جميع الأسماء والصفات، ومنهم من يثبت الأسماء وينفي جميع الصفات، ومنهم من يثبت الأسماء وبعض الصفات، وينفي بعض الصفات؛ لكن يجمعهم جميعاً شبهة واحدة، وهي ما ذكره المُصْنِّف رحمه الله هنا أنهم يقولون: إذا أثبتنا له شيئاً وللمخلوقات نظيره ففي هذا تشبيه.
ونبدأ في الرد عليهم بأهم وأول صفة لا نختلف نَحْنُ وإياهم عليها، وإن كَانَ فيهم من خالف؛ لكن معظم أهل القبلة المنتسبين للإسلام لا يخالفون فيها، وهي: وجود الله ووجود المخلوقات، فالله موجود والمخلوقات موجودة وليس الوجود كالوجود، وبما أن الوجود ليس كالوجود، فنقول ذلك في جميع الصفات فالحياة ليست كالحياة، واليد ليست كاليد، والاستواء ليس كالاستواء، والعلو ليس كالعلو، وهكذا في جميع ما أثبته الله لنفسه وما أثبته الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لله سبحانه وتعالى.
الاشتراك في الاسم هو الذي أوقع الشبهة لدى بعضهم، ولهذا أورد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كثيراً من الآيات والأحاديث التي تثبت أن الاشتراك في الأسماء أو الصفات إنما هو اشتراك لفظي، وأن إثبات أسماء الله سبحانه وتعالى لا يستلزم التشبيه؛ لأنه لو كَانَ يستلزمه لما أثبت الله لنفسه أسماء وأثبت نفس الاسم للمخلوق أبداً.
فمثلاً سمى الله سبحانه نفسه حياً، عليماً، قديراً، رؤوفاً، رحيماً، عزيزاً، حكيماً، إِلَى آخر ما مر من الآيات. وسمى المخلوقات بذلك، كما قال الله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95] وقَالَ: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:128] وليس الحي مثل الحي، ويقول تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101] ويقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] ووصف نفسه في آيات كثيرة بأنه غفور ورحيم، ورؤوف رحيم.
وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإِنسَان:2] ويقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، فليس السميع كالسميع، وليس البصير كالبصير.
وحديث الاستخارة جَاءَ فيه العلم: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر) ففيه إثبات صفة العلم والقدرة لله سبحانه وتعالى.
وإبليس اللعين أثبت لله صفة العزة فقَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] فكيف ينفيها عنه بعض من يدعي أنه من الْمُسْلِمِينَ.
ا- دلالة المطابقة:
ب- دلالة تضمن.
جـ- دلالة التزام.
فمثلاً: اسم: "الله" هذا الاسم من أسماء الله يدل على ذات الله سبحانه وتعالى دلالة مطابقة، وهو يدل على الصفة المشتقة منه بالتضمن، وهي الألوهية.
فالاسم يدل على المسمى -وإن كثرت وتعددت- دلالة مطابقة.
واسم القدير: يستلزم إثبات القدرة له، والحي: يستلزم إثبات الحياة له، والرحيم: يستلزم إثبات الرحمة له، فهذه دلالة التزام.
ودلالته على بقية الصفات بالتضمن، فعندما نقول: الله قدير وعليم، فهذا الاسم يدل على أن الله حي، فدلالة الاسم على صفة أخرى غير الصفة التي تشتق منه تسمى: دلالة تضمن.
وسوف نقرأ كلام المصنف عند تقسيم الطوائف الأربع في موضوع التشبيه، وأن الطوائف التي نفت جميع الأسماء ونفت جميع الصفات خارجة من الملة كالجهمية؛ لأنها نفت ما ثبت في القرآن والسنة. فهي لم تثبت إلا وجوداً مطلقاً لا يوصف بأي شيء.
والذين قالوا: نثبت الأسماء فقط كالمعتزلة، والأسماء تدل على الذات دلالة واحدة فقط وهي المطابقة، فلا تضمن ولا لزوم، فالأسماء كلها مترادفات لا تدل على صفات، ولا يشتق منها صفات لله سبحانه وتعالى فلا يصفون الله سبحانه وتعالى بشيء من الصفات التي تشتق من أسمائه سبحانه وتعالى بطريقة اللزوم عند أهل السنة والجماعة.
وأما الأشاعرة فقالوا: نحن نثبت الأسماء ونثبت سبع صفات أو إحدى عشرة أو ثلاثة عشر، وبعضهم يجعلها عشرين، لكن أصلها سبع، يركب منها حتى تصير عشرين فقط، وهي الصفات العقلية: العلم والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصروالقدرة، ولا يثبتون الصفات الخبرية لله، كالغضب والرضا، واليد والاستواء والعلو، إنما يثبتون الصفات العقلية لأن العقل دل عليها.
وقد مر أن اشتراك المخلوق والخالق سبحانه وتعالى في لفظ الاسم لا يدل أبداً على الاشتراك في الحقيقة.
فنقول للأشاعرة قولوا في صفة الغضب والرضا واليد مثل ما تقولون في صفة العلم والحياة والإرادة والكلام، فله -سبحانه- علم وإرادة ليستا كعلم المخلوقين وإرادتهم، فكذلك له غضب ورضىً لا كغضب المخلوقين ورضاهم، ويجيء وينزل ليس كنزول المخلوقين ومجيئهم.
ونقول للمعتزلة: كما أنكم تثبتون الأسماء فأثبتوا أيضاً الصفات، فكما تقولون: الأسماء لا تشبه الأسماء، فكذلك الصفات لا تشبه الصفات.
ونقول للجهمية: بما أنكم تقولون وجود لا يشبه وجود المخلوقين، فقولوا في الحياة والإرادة والعلم واليد مثل ما قلتم في الوجود.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب، والمحبة والبغض، ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم! قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما يثبت للعبد.
فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه، فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة!
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود، حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلاً له، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه. وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك. وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه.
فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم، والآخر حادث، أحدهما غني، والآخر فقير، أحدهما خالق، والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً.
ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك، لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قِدمه وهو موجود بنفسه.
والآخر لا يجب قِدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما: خالق، والآخر: ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير. فلو تماثلا، للزم أن يكون كل منهما واجب القِدم ليس بواجب القِدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما، فعُلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع. فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل، والله أعلم وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه.
فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه] اهـ.
الشرح:
علم الكلام ثمرته قليلة، والمصنف رحمه الله أطال في الرد هنا، يريد أن يلزمهم بجنس كلامهم، وإلا فالأسلوب الفطري أخصر وأسهل للفهم.
فمن لا يثبت وجود الله لا بد أنه يثبت وجود المخلوقات، وهذه المخلوقات الموجودة كانت بعد أن لم تكن، وما كان بعد أن لم يكن فهو مفتقر إلى من أوجده، ومن أوجد يستلزم العقل أن يكون كائناً أزلياً لا أول لوجوده، أما هذا الذي كان بعد أن لم يكن فإنه مخلوق لخالق هو الله سبحانه وتعالى، وافتقار المخلوق إليه فهو افتقار إلى غني وإلى خالق أزلي لا أول لوجوده، وهذا أمر مقطوع به لا يكابر فيه إلا من سلب نعمة العقل بالكلية، فهذا شيء موجود وهذا شيء موجود، وتماثلهما ممتنع؛ لأنه اجتماع للضدين.
بل لهذا وجود مستقل وصفات مستقلة، ولهذا وجود مستقل وصفات مستقلة عن الآخر، فالاشتراك في كونهما موجودين لا يستلزم الاشتراك في الصفات، فهما متفقان من وجه ومختلفان من وجه، متفقان في الاسم: أن هذا يسمى شيء ويسمى موجود، ولكن مختلفان في الحقيقة؛ فهذا وجوده وجود كمال وأزلي، وهذا وجوده حادث وناقص، فاتفقا من وجه واختلفا من وجه.
فهذا كله لا يستلزم التشبيه ولا يقتضيه -ولله الحمد- فليس إثبات ما أثبته الله لنفسه أو رسوله مما يقتضي التشبيه أو يستلزمه.
والطائفة الأخيرة "الرابعة" هي: التي قالت بقضية الاشتراك الكلي والوجود الكلي، وكونه في الأعيان أو كونه في الأذهان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد.
وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال: بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا وعلى كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً؛ بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها، كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد، لكن بوجهين مختلفين.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى، وزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه. وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه، فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر. والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه] اهـ.
الشرح:
قضية المشترك المطلق الكلي قد سبق أن قلنا: إنه لما وجد أناس ينكرون الحقائق رد عليهم آخرون، وأثبتوا الحقائق بإثبات المطلقات الكلية، ثم إثبات المعينات في الخارج.
فمثلاً: الوجود المطلق، علمه كلي، والوجود أمر مطلق في الذهن لم يعين ولم يخصص، ويتحول هذا المطلق إلى الحقيقة إذا عين بآحاده، فنقول: الله سبحانه وتعالى موجود، فكل ذلك يشمله لفظ الوجود، وهو يطلق على جميع معناه دون استثناء، وكذلك كلي -أي: أن جميع آحاده تدخل فيه كل الموجودات.
وكلمة الوجود: هو الذي جعل المعطلة ينفون صفات الله سبحانه وتعالى بزعم التشبيه، قالوا: لأن هذه كلها تشترك في حقيقة واحدة وهي الوجود.
فمثلاً: الله عليم والمخلوق عليم، إذاً يشتركان في العلم لكن الاشتراك المطلق الكلي ما لم يعين أو يخصص لا يستلزم التشبيه أبداً حتى يتعين؛ لأن هذه قضية معينة لا وجود لها في الأعيان "الذوات الخارجية"، وإنما توجد في ذهن الإنسان، فقولك -مثلاً- "الوجود ". لا يتصور به شيئاً معيناً أبداً، فإذا عينت وقلت: هذا موجود، أو زيد موجود، أو الله موجود، تعين هذا الموجود.
فمجرد الاشتراك في هذا الشيء المطلق الذهني الذي لا وجود له خارج الذهن لا يستلزم التشبيه بحال من الأحوال بدليل أننا عندما نقسم الوجود نقول: ينقسم إلى قسمين: خالق ومخلوق؛ لأن مجرد الوجود هو عام لا يدل على شي معين بإطلاق، فالفرق بين الموجود الكلي والمشترك اللفظي هو: اسم يطلق على شيئين مختلفين في الحقيقة لكن اللفظ واحد، مثل المشتري والعين، فلفظة العين -مثلاً- تطلق على العين التي هي الباصرة، وتطلق على الماء الذي يجري، وتطلق على الذهب. وكذلك المشتري، يطلق على المبتاع الذي يشتري شيئاً، ويقال للكوكب مشتري، ولكن ليس المشتري كالمشتري، وليست العين كالعين.
لكن إثبات الصفات ليس من باب المشترك اللفظي فقط، بل ثبت أن علم المخلوقات غير علم الله، لكن يشتركان في مطلق كلي لا مجرد الاشتراك اللفظي، الذي يستخدم في علم البلاغة أو الأصول، بل علم الإنسان يعرف به الأشياء ويدرك حقائقها، ولكن بشكل محدود جداً، أما الله سبحانه وتعالى فإن علمه أكمل وأعظم وأعم.
فهناك اشتراك في الجنس، ولكنه لا يستلزم الاشتراك في الحقيقة أو الذات.
فالقضية ليست من باب المشترك اللفظي، وإنما هي من باب الاشتراك في المطلق الكلي الذي يوجد في الأذهان، ولا يوجد في الواقع إلا معيناً مختصاً، فمثلاً: الإنسان مطلق كلي موجود في الأذهان، لكن عندما نقول: زيد وعمر والملك والخادم، فليس الملك كالخادم، فهما يشتركان في الإنسانية، لكن يختلفان في الصفات والحقيقة.
وأعظم منه ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى، كالعلم والحياة والقدرة، وهي ثابتة لله عز وجل، وأثبتها الله للمخلوقات، فلا يستلزم الاشتراك في الإطلاق الكلي، وهو ذهني مجرد، فإذا عين المراد به وعين المسمى به ـ الله أو المخلوق ـ اختلف اختلافاً بيناً.
فالفلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي والكندي من فلاسفة اليونان أو المنتسبين للإسلام لهم اصطلاح.
والمتكلمون الذين هم: المعتزلة والأشعرية وأمثالهم لهم اصطلاح، فالفلاسفة يستخدمون عبارة واجب الوجود أو ممكن الوجود أو مستحيل الوجود، والمتكلمون يستخدمون عبارة قديم وحادث.
والفرق بينهم في الاستخدام والاصطلاح، أن الفلاسفة يقولون: العقل يدل على أن الأشياء إما واجبة بذاتها، وإما ممكنة، وإما ممتنعة الوجود لذاتها. فمثلاً يقولون: الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، لا يفتقر وجوده إلى أحد غيره، فالناس لا ينفون الوجود، وليست هي مشكلة الأنبياء مع أممهم، ولا مشكلة أهل السنة مع الطوائف الضالة، لأن الفلاسفة لا ينكرون الوجود، وإنما يسمونه واجب الوجود.
وإنما القضية: "قضية الألوهية".
فواجب الوجود عندهم هو ما كان وجوده لذاته، لا يحتاج ولا يفتقر وجوده إلى غيره وهو الله.
وممتنع الوجود هو وجود شريك ومماثل لواجب الوجود.
ووجود أمثال الشجر والحجر يسمونها الممكنات، وبهذا نفهم اصطلاح الفلاسفة، الذي يريد به أصحابه ما نسميه نحن المربوبات كما سماه الله في كتابه قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -فالمخلوقات أو العالمين: كلمة تشمل كل ما سوى الله -سبحانه- فكل ما عدا الله فهو مربوب، والرب هو الله عز وجل، والمربوبات هي الممكنات، فهذا تقسيم الفلاسفة.
وأما تقسيم المتكلمين فيقولون: الأشياء الموجودة إما أنها موجودة بعد أن لم تكن، وإما أنها أزلية الوجود، فالأزلي هو القديم الذي لا أول لوجوده وهو الله، والموجود بعد أن لم يكن هو الحادث.
وما دام أن الله سبحانه وتعالى موجود ومادام أنه واجب الوجود فلنثبت له ما شئنا والإثبات هذا وارد ومثبت في الكتاب السنة لكنه إثبات بلا تشبيه. فهم زادوا وغلوا في الإثبات حتى أثبتوها بما يشبه صفات المخلوقين وأما المعطلة فإنهم عرفوا جانباً من الحق وهو جانب عدم المشابهة وعدم المماثلة وهو حق وأن الله سبحانه وتعالى لا يشابه ولا يماثله شيء لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هذا حق عرفوه ولكنهم زادوا عليه بأن نفوا ماله من الحق سبحانه وتعالى وقالوا: إذاً لا نثبت له شيء حتى لا نقع في التشبيه.
قول المُصنِّفُ في آخر عبارة: [فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤا في نفي المعاني الثابتة لله تَعَالَى في نفس الأمر. والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه] وهذا الكلام يقتضي أن كل المعطلة وكل المشبهة وقعوا في التشبيه بنية حسنة، فمجرد التشبيه لا شك أن فيه إثباتاً، ومجرد التعطيل لا شك أنه متضمن للتنزيه هذا مجرد الحكم عَلَى العمل، لكن هل يعني أن المشبهة أو النفاة محسنوا النية، بحيث لا يوجد أحد ممن نفى الصفات إلا ونيته حسنه؟
ليس كذلك؛ لأن من أعظم المشبهة اليهود.
وهل نيات اليهود حسنة بحيث أنهم أرادوا الإحسان في الإسلام وَقَالُوا: نشبه؟
لا يمكن ذلك لكن وجد في الْمُسْلِمِينَ من أخذ هذا الكلام بحسن نية بغير فهم ولا عقل.
فالنفاة المعتزلة وهم أشهر هذه الطوائف ليسوا كلهم عَلَى حسن نية وعلى تنزيه لله، فإبراهيم النظام على سبيل المثال لو قرأتم ترجمته في سير أعلام النبلاء وغيرها من الكتب التي ذكرت ترجمته كَانَ عَلَى دين البراهمة الذين في الهند وهم موجودون إِلَى اليوم وكان في البراهمة فلاسفة ينكرون النبوات والوحي فدخل إبراهيم النظام في دين الإسلام وعنده هذه العقيدة، ولهذا قال عنه بعض العلماء:"وواقع حاله ينطق بذلك" -أي: أنه دخل في الإسلام ليفسد دين الإسلام- وأفسده بطريق المبالغة في العقل؛ لأن البراهمة أو طائفة منهم يقولون: إن العقول تغني عن الشرائع.
جاء إبراهيم النظام ودخل في المعتزلة وصار من رؤسائهم وقَالَ: إن العقل هو المعيار في إثبات أي شيء لله وفي نفي أي شيء ويكتفى به عن الشرع، وقال بعضالفلاسفة مثل: ابن رشد في كتاب فصل المقال بما بين الحكمة والشريعة من الاتصال يقولون: الشريعة لا تنافي الحكمة -والحكمة هي الحقيقة نفسها عند الصوفية - لكن العقل أو الحكمة لا تتنافى مع الشريعة؛ لكنهم لو صرحوا لقالوا: الشريعة تنافي الحكمة فحينئذ يكفرهم العوام وتنبذهم؛ لأنهم سوف يقولون: نَحْنُ مع الشريعة ولسنا مع الحكمة، وهذا شيء طبيعي عند الناس؛ لكنهم قالوا: الشريعة لا تتنافى مع الفلسفة، أي: الحكمة.
ويقولون: أعظم شريعة جاءت عَلَى ظهر الأرض وعرفها العالم شريعة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ونحن لو قرأنا هذا الكلام لقلنا: هَؤُلاءِ طيبون يمدحون الإسلام، ولكن هَؤُلاءِ في الحقيقة يقصدون شيء آخر.
يقولون: نَحْنُ عندما عرضنا الشرائع القديمة عرضنا اليهودية والنصرانية عَلَى العقل، أي: عَلَى الحكمة التي هي الميزان فوجدنا فيها الخلل والاضطراب والتناقض، فمثلاً عندما يقرأ أي إنسان التوراة وعنده عقل. فأول ما يقرأ في سفر التكوين يقرأ عن قضية خلق آدم وأن جنة عدن في البصرة وأن الرب يمشي في الجنة، ولا يدري أين ذهب آدم وحواء، وأنهم كانوا مختبيئن، ثُمَّ طلعهم ثُمَّ كذا.. هذا الكلام لا يقبله العقل حتى الفلاسفة الأولين لما قرأوا هذا الكلام، قالوا: هذه الشريعة باطلة ينقضها العقل، وَقَالُوا: لما قرأنا القُرْآن وجدناه جَاءَ بحكمة عجيبة، ثُمَّ قالوا: لو نقول: إن في القُرْآن تشبيه، هكذا بصراحة لنفر منها الْمُسْلِمِينَ، لكن نقول لهم: الشريعة والحكمة كلاهما حق وكلاهما يدل عَلَى شيء واحد؟ ثُمَّ قالوا: إن الشرائع جاءت للعوام، والعوام لا يفهموا إلا أن تقول لهم يد وغضب ورضى ورحمة وخوف ورجاء وكذا لكي يفهموا؛ لكن العقلاء الحكماء هَؤُلاءِ جاءت لهم الحكمة.
أي: أن شريعة الله وحي رَبّ الْعَالَمِينَ الذي نزل به جبريل للضعفاء والبسطاء؛ ولكن نَحْنُ عندنا ما هو أعظم مما أنزل الله عياذاً بالله هذا كلامهم أعظم مما نزل الله في الكتب، وأعظم مما بعث به جبريل، وأعظم مما أرسل به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو من كلامأرسطو وأفلاطون وفرخريون إِلَى ابن سينا والكندي والفارابي يقولون: هذا للطبقة العليا المثقفة وهذا يشبه قول الصوفية عندما قسموا الدين إلى: حقيقة وشريعة. وَقَالُوا: لا يوجد تعارض بين الحقيقة والشريعة. فالحقيقة للخاصة ولخاصة الخاصة أما الشريعة فهي للعامة.
نرجع فنقول: هذا لأن كلمة المُصنِّفُ هنا قد توهم: لأن النَّاس قد يقولون: أنتم تهاجمون المعطلة وتهاجمون المشبهة والمصنف يقول: إن المعطلة والمشبهة أحسنوا، لكننا نقول: العمل في ذاته فيه حق وتبعه كثير من الباطل لكن لا يستلزم ذلك القول بأن هَؤُلاءِ النَّاس جميعاً جاؤا وأرادوا الحق وأرادوا الإحسان، بل الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين لما أقسموا بالله أنهم لا يريدون إلا الإحسان والتوفيق لم يقبل الله سبحانه وتعالى منهم ذلك؛ بل رده عليهم وأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عنهم وأن لا يصدقهم في هذا القول، فكثير من النَّاس يدعي الإحسان ويدعي التوفيق [إما التوفيق بين العقليات والنقليات، وإما الإحسان، وإما الإصلاح بين الحقيقة والشريعة، أو بين الحكمة والشريعة] كما يزعم هَؤُلاءِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
إن وجود الاقتران أو الاشتراك اللفظي هو سبب ضلال الفرق في معرفة الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى خاطبنا ووصف نفسه بكلامنا ولغتنا، فهذه اللغة أوهمت بعضهم حتى قال: نحن لا نتصور الاستواء إلا بالشكل الحسي المعروف، ولا نتصور النزول إلا بالشكل الحسي المعروف، وهو انتقال جسم من مكان إلى مكان، ولا نستطيع أن نتخيل اليد إلا جارحة، ولا نتخيل السمع إلا بأذن وصماخ
…
الخ.
هذا هو منشأ الخطأ في حق الله تبارك وتعالى، مع أن الله تعالى أخبرنا عن الجنة أن فيها حوراً عيناً، وأن فيها أنهاراً من خمرٍ وأنهاراً من لبن وأنهاراً من عسل، وأن فيها فضةً وحريراً وذهباً، وأن فيها ولداناً وأشجاراً وثماراً، وغير ذلك من أنواع النعيم الذي في الجنة، ومع ذلك نعتقد أن ما عندنا من نعيم الجنة إنما هو الأسماء، فنؤمن به مع اعتقادنا أنه يكون لأهل الجنة، ونرجوا الله سبحانه وتعالى أن نذوق هذا النعيم، ونؤمن أنه نعيم لا يشبهه في الدنيا، ولا يشبهه شيء مما تراه أعيننا في الدنيا، ولا يمكن أن تتخيل عقولنا وأذهاننا شيئاً يشبهه.
فكيف نقول: إننا لا نفهم من صفات الله سبحانه وتعالى إلا ما نعلمه من صفات المخلوقين، وأنه يجب أن نؤولها وننفيها، فخفاء صفات الله سبحانه وتعالى عنا أعظم وأكثر من خفاء نعيم الجنة، وكذلك أحوال يوم القيامة، وغير ذلك من العوالم الغيبية التي نعلمها.
فإن الشبهة الكبرى التي وقع فيها من أوّلَ في باب الصفات هي قولهم: إن الله أنزل هذا القرآن بلغة العرب، وخاطب العرب بما يفهمون، ونحن لا نفهم من لغة العرب إلا أن اليد جارحة، وأن النزول والمجيء هو الانتقال من مكان إلى مكان، وأن العين هي هذه الباصرة، وأن الغضب ثوران القلب، والرحمة استعطاف وانكسار في القلب، وهذه شبهه كبيرة، ولكنها ليست بشيء عند أصحاب العقول السليمة والفطر القويمة.
فصفات الله سبحانه وتعالى جاءت بلغة العرب، فلو خوطبنا بشيء لا ندركه تماماً لما فهمنا أي شيء تماماً، فلا بد أن يكون هناك قدراً معيناً بين الألفاظ الموضوعة وبين المعاني التي وضعت لها الألفاظ، وهذا القدر المعين لا يستلزم بحال من الأحوال أن يكون كل من أطلق عليه اللفظ مساوياً للآخر في الحقيقة.
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] وقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فالله سبحانه وتعالى له سمع يسمع به وبصر يبصر به فيحيط به المسموعات والمرئيات والمبصرات.
فنستطيع فهم الصفات واللوازم، وأما العين والحقيقة والذات فهذه لا نستطيع أن نفهم كيفيتها أبداً، فنؤمن أن الله سميع وبصير، وأنه على العرش، وأنه ينزل، وأنه يغضب، وأنه يرحم، مع الاعتقاد بأننا لا نستطيع معرفة كيفية الغضب والرحمة والاستواء وسائر الصفات؛ ولهذا عندما نفى علماء السلف الكيف وقالوا: نؤمن بلا كيف، ومعناه: إثبات شيء وبمعناه مع جهل كيفيته؛ لأنا إذا كنا ننفي نفس المعنى، فلا نحتاج أن نقول ليس له يد بلا كيف.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينهما قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد، ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن.
فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر أول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه فلا يعرف باللفظ ابتداء. ولكن يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك، ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه] اهـ
الشرح:
إن الألفاظ وضعت لتدل على معان معينة، وهذه المعاني لا بد أن يكون بينها وبين اللفظ قدراً مشتركاً ومن هنا كانت اللغة محتاجة إلى التعليم السماعي، ولذلك لو عاش طفل بين بعض الحيوانات -كما في علم الاجتماع - وصار يرضع منها، ويعيش معها، فإنه لا يتكون لديه لغة، لأن اللغة سماعية، ولها مراحل.
الدرجة الأولى: وهي أبسط مراحل تعلم اللغة كأن تشير للطفل وتقول: هذا جبل، هذا قمر، هذا أب، هذه أم. والطفل يرتبط في ذهنه المعنى بالإشارة فيحفظ، ولذلك لو حفظ الطفل خطأ، وخاطب الناس فسيشير إلى الجبل ويقول: هذا ماء؛ لأنه أخذها تعلماً سمعياً.
ولهذا يذكر المصنف رحمه الله: أنه لا يمكن لأحد أن يستغني عن السماع، لأن أبانا آدم عليه السلام علمه الله سبحانه وتعالى أسماء كل شيء، وعلمه كيف يطلق الأسماء على مسمياتها، الموضوعه لها.
والدرجة الأولى أقل درجات الخطاب ومعرفة المخاطب، فالمتكلم إذا كان له معنى في نفسه يريد أن يعبر عنه ويشرحه لغيره، فأوضح شيء في الشرح أن يقول: لو سألك أحد عن شيء لا تعرفه تماماً فقل: مثل هذا، فاللفظ هنا يدل على المعنى الذي فهم عن طريق الإشارة، فهذه الدرجة أدنى درجات الإفهام، ولو ذهب أحدنا إلى أي بلد من البلدان وأراد أن يتعلم لغة ما، لتعلمها بهذه الطريقة، بل حتى في الكتب التعليمية تكتب الكلمة، ويرسم شكلها جوار الاسم، فيعرف أن المقصود بالكلمة المكتوبة هي هذه الصورة.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده، أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا. والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عيَّنه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه. أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره] اهـ.
الشرح:
الدرجة الثانية: هي الشيء غير المحسوس كالجوع والظمأ.
عندما يكون الشيء معقولاً، وليس أمراً مشاهداً؛ فإنه يفهمه إذا أحس من نفسه هذا الشيء أو من غيره، واحتفت قرائن تدل على أن هذا هو الشيء المراد، فمثلاً. الطفل يفهم معنى كلمة الجوع أو العطش، إذا أحس في نفسه هذا الشيء ووجد أن أمه تقول: أنت جائع، فتقدم له الطعام أو الحليب، وفي كل مرة يتكرر هذا العمل، أو تقول: أنت عطشان، وتأتي بالماء، فيقترن في ذهنه أن الماء للعطش، وأن الطعام للجوع، فيفهم أن هذا الشيء الذي ينشأ في داخله وهو الحاجة إلى لطعام يسمى جوعاً، والحاجة إلى الشراب تسمى عطشاً، فيفهم الطفل هذا الشيء ويتلقاه، مع أنه غير مشار إليه، فهذا النوع عقلي باطني يدرك بالعقل، فعندما يرى الطفل إنساناً عليه ملامح التجهم والانقباض ويقول أبوه: هذا غضبان، ويأتي إنسان عليه علامات الانشراح والابتسام فيقول الأب: هذا فرح، يفهم الطفل أو غيره معنى كلمة غضبان، ومعنى كلمة فرح.
قال المصنف -رحمه الله تعالى:
[إذا عرف ذلك، فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلوا إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله ، وإما أن لا يكون كذلك، فإن كانت من القسمين الأولين، لم يحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:9،8] أو قيل له: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه. وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لم يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل.
فالرسول -صلوات الله وسلامه عليه- لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قالربيعة بن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] ا. هـ
الشرح:
إذا أردت أن تبين معنى من المعاني، فعليك باللفظ الذي يعرفه الناس إما معرفة حسية أو معرفة عقلية، كالأمثلة التي ضربها المصنف ومنها قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:9،8] فاللغة كفت لبيان الأمور المحسوسة والمشاهدة، كما تكفي لمعرفة الأشياء المعقولة لدى الإنسان، كالعلم والرضا والجهل والكرم والغضب وأمثال ذلك من الأمور غير المشاهدة، وهي معلومة بعقول بني آدم.
مثاله: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (لا تغضب) فعرف الرجل معنى: لا تغضب؛ لأن الغضب معروف لديه ولدى غيره من المخاطبين، وكذلك العلم والرحمة معروفة عند بني آدم.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله سبحانه وتعالى بمعان جديدة، كالصلاة؛ فإنها في لغة العرب بمعنى: الدعاء، والزكاة في لغة العرب بمعنى: التطهير، والصيام عند العرب بمعنى: الإمساك، وكذا الحج بمعنى: القصد إلى الشيء.
فلما جاء الشرع من عند الله سبحانه وتعالى وخاطب الناس بلغتهم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4] عبر عن المعاني الجديدة التي لم يعرفوها قط عن طريق التمثيل والتقريب، وكلما كان المخاطِب أبلغ كان بيانه أجلى، وتمثيله أعظم.
فأتى بالقدر المشترك، كالصلاة فطبقها النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم فبدأ بتكبيرة الإحرام، وانتهى بالتسليم، بما في ذلك من قراءة وركوع وسجود، وكذلك الحج: قصد البيت الحرام وأداء النسك.
فقربت هذه المعاني من جنس كلام العرب حتى يفهموها، وأصبح الإنسان بعد ذلك لا يفهم من الصلاة أنها الدعاء، وإنما يفهم منها الصلاة المعروفة، مع أن الصلاة المعروفة الآن بأركانها لا تشبه في مدلولها مجرد الدعاء، الذي يعرفه العرب في الجاهلية، فخوطب الإنسان بما يؤديه، ومن الممكن أن يفهمه، فكيف بما يتعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والآخرة؟ وما يتعلق بالأمور الغيبية المطلقة التي لا يعلمها الإنسان ولا يمكن أن يفهمها.
فلا بد أن هناك قدراً مشتركاً بين ما خوطب به الإنسان، وبين حقائقها الغيبية، فمثلاً: النار أو جهنم -والعياذ بالله- إذا قرأها الإنسان في القرآن، فإنه يعلم أنها لا تشبه نار الدنيا، لكن هناك قدر مشترك يجعل هذه تشبه هذه، وكذا الجنة وردت في القرآن بمعنى: الروضة الجميلة، والبستان -مثل أصحاب الجنة في سورة القلم وصاحب الجنتين في سورة الكهف- وليست هي مثل جنة الخلد، والعلاقة بين الطرفين أن فيهما نعيم ورخاء، وكلتاهما تستلذ وتستطاب، ومن أجل هذا القدر المشترك قرب لنا اللفظ، وسميت الجنة لنفهم ونعرف أن فيها نعيم.
والذين أنكروا الصفات قالوا: إن الجنة في كلام العرب لا تعقل، إلا أنه هذا النخل والعنب والشجر والماء، فجنة الآخرة مثلها، وهذه الجنة تفنى؛ لأنها أجسام معينة ونباتات، والنباتات من خواصها ولوازمها الفناء، فدخلوا في قضايا عقلية قياسية بسبب قولهم: إن اللغة وضعت هذه اللفظة هكذا.
ونرد عليهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن نعيم الجنة: فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ، وكما قال ابن عباس:(ما عندكم في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) أي: الاشتراك اللفظي فقط، فهذه جنة وهذه جنة، وهذا نهر وهذا نهر، وهذا خمر وهذا خمر، لا يعني أن جنة الدنيا كجنة الآخرة، ولا أن أنهارها كأنهارها، ولا أن خمرها كخمرها؛ لكن لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يفهمنا ويُعْلمَنا بهذه الجنة، وكانت مما لا ندركه بحواسنا ولا بعقولنا، خاطبنا بأمر نعقله عن طريق التمثيل للتقريب.
وصفات الله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجل، فإن الله سبحانه وتعالى عليم، سميع، بصير، رحيم، كما أخبر عن نفسه، فهناك قدر مشترك لفظي فقط، بينها وبين صفات الإنسان، وهو أن الإنسان يدرك المسموعات التي تليق به، والله تبارك وتعالى يدرك المسموعات التي تليق به، وهو سبحانه قد أحاط بكل شيء علماً، ولا يفوته شيء، ولا يعجزه شيء، بخلاف الإنسان فإن سمعه محدود.
وكذلك البصر فإنه لا يخفى على الله تبارك وتعالى شيء، وأما الإنسان فبصره محدود.
فخوطبنا بهذه الكلمة من كلام العرب لكي نعرف حقيقة المعنى، ونميز بين هذا المعنى والمعنى الآخر، فكون الله سبحانه وتعالى سميعاً غير كونه بصيراً، وكذلك الإنسان له سمع وبصر، وكونه سميعاً يفرق عن كونه بصيراً، فإذا قلت لك: هذا إنسان بصير، فإنك تفهم أن له عيناً يبصر بها.
وإذا قلت لك: هذا إنسان سميع، فإنك فهمت شيئاً آخر، ولذلك جاءت الألفاظ في القرآن والسنة لتبين هذه المعاني، ونعرف القدر المشترك البسيط من إدراك المسموعات أو إدراك المبصرات، ولكن ليس الإدراك مثل الإدراك، أما حقيقة الذات المعني بها اللفظ فلا يمكن إدراكها، ولا يمكن للعقول أن تتخيلها أو تتوهمها، لأنك لا تستطيع أن تتخيل ما هو أهون من ذلك، وهو نعيم الجنة الذي هو أقل من ذلك بكثير.
فالدرجة الثالثة: إذاً هي درجة الأشياء التي لا تدخل تحت معرفة البشر الحسية أو العقلية، ولكن الخطاب يكون بما يماثلها ليقربها، وكلما كان البيان أكمل كلما كان تقريب المعنى لديه أعظم.
وهذا يستعمل حتى في الأشياء البشرية المستجدة؛ فلو أن هناك جهازاً اُخترع، وتريد أن تعرفه لإنسان وتشرحه له، وهو لم ير هذه الآلة من قبل، ولم يفكر فيها، فتضرب له مثلاً وتقول: هذه الآلة مثل الطائره -مثلاً- ليعرف أو يتصور شيئاً معيناً يميز به هذا الشيء، فإذا أريته الآلة، وقلت له: هذه الآلة التي كنت أشرحها لك، فإنه سيجد شيئاً غريباً لم يخطر على باله، والذي خطر على باله أولاً إنما هو شيء يميز به هذه عن غيرها.
وهذا هو فائدة الاسم في اللغة العربية، أن يميز به الشيء عن الآخر، فالأسماء توضع للتمييز بين الأشياء فقط، فهذا أحمدُ، وهذا عليٌ وهكذا، ولكن قد يكون هناك شخصان كلاهما اسمه علي، وتختلف حقيقة كل منهما، فالألفاظ تأتي للتقريب والدلالة، وأسماء الله تعالى وصفاته وضعت لها ألفاظ ليميز بعضها عن بعض.
وكذلك القدر المشترك اللفظي بين ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، وما وصف به خلقه من بنى الإنسان، أمر معقول في كل ذهن، لا في الحقيقة والواقع والذوات؛ فليس هناك أي تشابه على الإطلاق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم، وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية. ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ألفاظ ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة، فينبغي أن تعرف هذه الدرجات:
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب.
فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة، فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها، لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها، بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك، وإذا تقدر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع منه وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط] اهـ
الشرح:-
لكي نفهم هذه المراتب الثلاث: المعرفة الحسية، والمعرفة العقلية، ومالا يدخل تحت الحس أو العقل، ينبغي أن نعرف الرد على الذين ينفون صفات الله سبحانه وتعالى ويقولون: الألفاظ الموضوعة لا يفهم منها إلا هذا الشيء، فنحن لا نفهم من اليد إلا الجارحة، ولا نفهم من النزول إلا الانتقال، ولا نفهم من المجيء إلا الانتقال وهكذا، فنقول: ما أتفه هذه العقول وما أضلها، يقول تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فنحن لا نستخدم أي لفظ لم يأت به الشرع، بل هذا دليل على أن التشبيه في قلوبنا إن استخدامنا غير الألفاظ الشرعية، أما علماء الكلام ونفاة الصفات ففي قلوبهم وأنفسهم تشبيه فهم يحرفون كلام الله، ويضيفون إليه ما لم يضفه.
قال الطحاوي رحمه الله:
[ولاشيء يعجزه] .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[لكمال قدرته، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20] : وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] .
لا يؤده أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه. فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] ، لكمال عدله، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3] لكمال علمه. وقوله تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] لكمال قدرته. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103] لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا يرى أن قول الشاعر:
قُبَيِّلة لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل
لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله:"قُبيلة" عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم، وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضاً.
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل.
يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض ولا بذي لون ولا طعم، ولا رائحة، ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجرى عليه زمان، ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناهٍ، ولا يُوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدودٍ، ولا والد ولا مولود، ولا تُحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار
…
إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.
وفي هذه الجملة حق وباطل، ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك، لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي، فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلم منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي، أجملت في الأدب] ا. هـ.
الشرح:-
يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
[ولا شيء يعجزه] .
فقال المصنف رحمه الله تعالى: [لكمال قدرته
…
إلخ....]
وهذا من دقيق فهم ابن أبي العز "الشارح" رحمه الله، وهو أن الله سبحانه وتعالى إذا وصف بنفي شيء، فإنما يكون لكمال ضده، فكل آية فيها نفي يأتي بعدها ما يدل على الكمال، كما قال: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب [ق:38] وذلك لكمال قدرته سبحانه وتعالى في خلق السماوات والأرض، وقال: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْم [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته التي وردت في أول الآية، وقال: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103] أي: لكمال جلاله وعظمته أن يحيط بها أي شيء.
فالنفي الصرف المطلق لا يقتضي المدح، أي: لا مدح فيه في لغة العرب، قال أحد الشعراء يهجو قبيلة:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فهذا ليس مدحاً لهم، وإنما أراد أن يقول: إنهم ضعفاء عاجزون لا يؤذون أحداً لضعفهم، ولا يغدرون إذا عاهدوا، ولا يظلمون الناس ولو حبة خردل لضعفهم وجبنهم، كما قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
أي: أن هناك علة، كعدم قدرة أو خوف، وذلك لأن الظلم من شيم النفوس، وهذا هو المعنى الجاهلي، وكما قال آخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس إنسان
أي: كأن الله لم يخلق أحداً يخافه إلا قومه، ينفي عنهم الشر، وهذا ليس مدحاً لقومه، بل يهجوهم ويتهمهم بالضعف والخور والجبن والعجز.
فالله سبحانه وتعالى وهو أعظم من يُوصف ويُثنى عليه الثناء اللائق بجلاله، لا يوصف بمجرد السلوب.
فلا نقول: لا يظلم فقط؛ وإنما: لا يظلم لكمال عدله، والذين يصفون الله بالنفي المجرد فقط فقد وقعوا في ضلال في صفات الله سبحانه وتعالى، ووقعوا في إساءة الأدب مع الله سبحانه وتعالى.
فلو دخل أحد على ملك وأراد أن ينزه الملك، فقال: أيها الملك أنت لست بزبال، ولا كناس ولا طباخ، ولا حجام، فإن الملك سيؤدبه، والناس سيسخرون منه ويقولون: الملك في درجة عالية وأنت تخاطبه هكذا، فتنفي عنه أشياء حقيرة.
فكيف يوصف مالك الملوك بصفة سلبية أو إضافية، فيقولون: ليس بجاهل، أو يقولون: له علم، أو عنده علم، فيضيفون له العلم، ولا يقولون: إنه عليم.
لأنه يخيل إليهم أنهم إذا قالوا: "عليم"، أنهم قد أثبتوا شيئاً فيه تشبيه، أما إذا قالوا:"ليس بجاهل" فهذا مجرد نفي ولا يقتضي إثبات شيء.
وقد ذكر المصنف رحمه الله ألفاظاً كثيرة جداً فقال عنها: فيها حق وباطل، فقولهم: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم، هذه نفيها حق، وقد يكون فيها باطل، كما نفوا عن الله صفة ثابتة له بقولهم: وليس فوق، وأما قولهم: وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، فهذه توهم الباطل؛ فإنهم يريدون بقولهم هذا أن يوهموا ويجعلوا الصفات من باب الأعضاء والجوارح.
وكقولهم: الحمد لله الذي تنزه عن الزمان والمكان، وأصرح منه: ولا يسأل عنه بالأين، فهذا كله باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعرف الخلق بالله سأل الجارية (أين الله؟)، وقولهم: ولا والد ولا مولود، هذا حق كما جاء في كتابه سبحانه وتعالى، فبعض كلامهم في النفي حق، وبعضه باطل، وبعضه يوهم الباطل أو قد يؤدي إليه.
وأما في الثناء والمدح والإثبات فإننا نفصل، كما فصل الله ورسوله، فالآيات والأحاديث في الإثبات مفصلة، فيخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه بأخبار مفصلة، كما في أواخر سورة الحشر، وآية الكرسي، والفاتحة، والإخلاص ونحو ذلك، وأما النفي فإنه مجمل، كما قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وهو استفهام بمعنى النفي، وهو نفي مجمل، وقال تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3-4] .
وأما لفظ: الجوهر والعرض والرطوبة والحرارة والعمق والارتفاع ونحوها.
فهذا من إساءة الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المعطلة هم في أصلهم مشبهة، وأن تعطيلهم نابع من التشبيه، فشبهوا الله بفهمهم ثم نفوا ما فهموه، فعندما قالوا: ليس بذي حرارة ولا رطوبة، كان هذا ما توهموه، وأن إثبات أسماء الله وصفاته يستلزم حرارة ورطوبة وطولاً وارتفاعاً، ثم قاموا بنفي ما فهموه، فالقاعدة المهمة في باب الصفات عند أهل السنة والجماعة أن نثبت لله سبحانه وتعالى الصفات إثباتاً مفصلاً، وننفيها نفياً مجملاً.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية، هو سبيل أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ. والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.
وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده، والذي قاله هَؤُلاءِ إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به عَلَى الكتاب والسنة. والمقصود: أن غالب عقائدهم السُلوب، ليس بكذا، ليس بكذا.
وأما الإثبات، فهو قليل، وهي أنه عالم قادرٌ حيٌ، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ولاعن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات، فإن الله تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي، ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب:(اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القُرْآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي) .
وسيأتي التنبيه عَلَى فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى.
وليس قول الشيخ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ولا شيء يعجزه] من النفي المذموم، فإن الله تَعَالَى قَالَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] .
فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية عَلَى دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تَعَالَى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو عَلَى كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز، لما بينه وبين القدرة من التضاد؛ ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً] اهـ.
الشرح:
قاعدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الأسماء والصفات أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً مفصلاً، وينفون نفياً مجملاً، وأما طريقة أهل البدع فإنهم ينفون نفياً مفصلاً، ويثبتون إثباتاً مجملاً، والجهمية والباطنية الغلاة والمتفلسفة ينفون جميع الصفات ويوافقون في إثبات صفة واحدة وهي الوجود، وكلامهم خارج عن الكتاب والسنة؛ لأنه لم يرد فيهما الاقتصار عَلَى النفي فضلاً عن النفي بالسلب فقط، وكذلك هو خارج عن الطرق العقلية التي يتخذها بعض مثبتة الصفات -أي: الطرق العقلية التي سلكها الأشاعرة في إثبات الصفات السبع- بل بعضهم يقول: لا نقول موجود، بل نقول: ليس بمعدوم فقط، فهم لا ينفون إلا بالسلب.
وبعضهم يقول: موجود، ويسميه واجب الوجود.
فيُقَالُ لهم: إذا أثبتم وجوداً لا يشبه وجود غيره وهي صفة ثبوتية، فكذلك أثبتوا له استواءً لا يشبه استواء غيره، ويداً لا تشبه يد غيره، وهكذا في جميع الصفات.
وفي هذا الحديث دعاء عظيم فمن دعا بهذا الدعاء فكأنما دعا الله باسمه الأعظم؛ لأنه يقول: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك
…
إلخ) وفي الجملة الأخيرة يدخل الاسم الأعظم وإن كَانَ ورد أنه في آية الكرسي أو نحو ذلك، لكن حقيقة الاسم الأعظم، أو حقيقة أن لله سبحانه وتعالى صفات وأسماء لا نعلمها، هذه ثابتة بنص هذا الحديث، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يثبت له ما أثبت لنفسه سبحانه وتعالى وبعض صفاته التي لم يخبرنا بها، فاعتمادنا عَلَى ما ثبت به الدليل وليس للعقل أو غيره مجال في ذلك، ثُمَّ عاد المُصنِّفُ معقباً عَلَى قول الإمام الطّّحاويّ الذي هو جزء من الآية "لا يعجزه شيء" وهل يدخل في النفي المحض أم لا؟ ونحن نقول: لا يدخل في ذلك لأن هذا جزء من الآية، التي في آخر سورة فاطروَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] ويكون العجز من الإِنسَان بسبب الجهل وقد يكون عالماً بالشيء؛ لكنه لا يقدر عليه، أما الله سبحانه وتعالى، فإنه نفى عن نفسه العجز، وأثبت العلم والقدرة، فمن كَانَ لديه كمال العلم وكمال القدرة -وهو الله سبحانه وتعالى فإنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-: [ولا إله غيره]
قال المصنف رحمه الله:
[هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها كما تقدم ذكره، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا - والله أعلم - لما قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] قال بعده: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] فإنه قد يخطر ببال أحدٍ خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وقد اعترض صاحب " المنتخب " على النحويين في تقدير الخبر في " لا إله إلا هو " فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في " ري الظمآن " فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب فإن " إله " في موضع مبتدأ على قول سيبويه وعند غيره اسم "لا" وعلى التقديرين، فلا بد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.
وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية، فليس بشيء، لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين "لا ماهية" و"لا وجود". وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهيةً عاريةً من الوجود. و"إلا الله" مرفوع، بدلاً من "لا إله" لا يكون خبراً لـ"لا" ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك، وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم:" في الوجود " ليس تقييداً، لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] . ولا يقال: ليس قوله: "غيره" كقوله: "إلا الله" لأن "غيراً" تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد "إلا" فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا] اهـ.
الشرح:
هنا المبحث ذو شقين، الشق الأول يتعلق بمعنى لا إله إلا الله وبأهميتها، والشق الآخر يتعلق بإعرابها وما أثاره بعضهم حول إعراب "لا إله إلا الله"، ونحن كما ذكر المصنف رحمه الله لا يهمنا الإعراب والخلاف فيه، أو الخلاف في التقدير، وإنما الذي يهمنا هو معرفة حقيقة لا إله إلا الله، لكن مع ذلك لا بد أن نشرح هذا الكلام بقدر ما نستطيع من التبسيط والتقريب إن شاء الله.
أهمية معنى (لا إله إلا الله) .
يقول المصنف رحمه الله: [هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل]، أي: كلمة الشهادة، فكلمة لا إله إلا الله هي الشهادة لله سبحانه وتعالى بالوحدانية أي أن يكون الله تعالى هو وحده المعبود دون ما سواه من المعبودات والآلهة، هذا هو ما جاءت به جميع الرسل ودعت إليه أقوامهم.
وقوم لوط عليه السلام هم الأمة الوحيدة التي كانت دعوتها إلى ترك الفاحشة، وإلى التقوى والإيمان بالله سبحانه وتعالى ولكن مرد ذلك إلى أن هؤلاء القوم كانوا موحدين، لكنهم كانوا يرتكبون الفاحشة، وإلا فعموم قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] يدخل فيه قوم لوط وغيرهم فإن التوحيد يدعى إليه الموحد أيضاً، لكن قد يأتي نبي كما هو الحال في لوط عليه السلام، أو يأتي أي داعية من الدعاة إلى ناس من أهل التوحيد يرتكبون منكراً ظاهراً، فيكون همّ دعوته هو القضاء على هذا المنكر وإن كان أقل من الشرك.
ومع ذلك لا ينبغي لأي داعية أن يُغفل جانب الألوهية والدعوة إلى تصحيح أنه لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة، من الدعاء أو الرجاء أو الخوف أو النذر أو الرغبة أو الرهبة أو المحبة أو الخشوع أو الذبح أو نحو ذلك من أنواع العبادات لغير الله تعالى؛ بل تصرف كل هذه العبادات لله وحده، وكذلك الطاعة والتسليم والانقياد في التحليل والتحريم واتباع الأمر لا يكون ذلك إلا لله سبحانه وتعالى وحده، فالمراد أن هذا هو ما دعى إليه الأنبياء، فكل نبي جاء إلى قومه وقال لهم: اعبدوا لله ما لكم من إله غيره، وجميع الأنبياء قالوا ذلك، وإن كان بعضهم أو بعض الدعاة قد يدعو ويجعل محور دعوته أمراً غير ذلك إذا كان التوحيد متحققاً، ولكن بعض لوازمه غير متحققة كالمجتمع الذي تفشوا فيه المنكرات وتنتشر فيه الرذيلة، مع وجود القدر المطلوب من التوحيد، ومع ذلك فإن هذا من مقتضيات التوحيد ومن لوازمه وهو الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى.
أركان كلمة لا إله إلا الله
تتكون كلمة التوحيد من ركنين هما النفي (لا إله) والإثبات (إلا الله) ، ومن هذين الركنين يتكون معنىً أعم وأبلغ وأدق من المعنى المثبت بدون نفي، فلو قلنا: الله الإله، أو الإله الله، فقط من دون النفي والإثبات لم يكن أدق ولا أبلغ من قولنا:(لا إله إلا الله)، ولذلك يقول المُصْنِّف مثلاً لما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] هذه الآية جاءت إثبات فقط دون نفي، لكن قال عقب ذلك: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] فأعقب ذلك بالنفي لحكمة كما قال المصنف: [إنه قد يتبادر خاطر شيطاني] وهذا الخاطر الشيطاني كأن يقول: هذا إلهكم إله واحد، فلغيركم إله آخر، فتأتي الآية فتنفي هذا الخاطر الشيطاني وتشمل وتعم نفي جميع المعبودات من دون الله، فيقول الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وإلهكم معاشر المخلوقين أو المخاطبين إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، فدل ذلك عَلَى نفي ألوهية غير الله سبحانه وتعالى وأنه لا إله سواه جل شأنه، فهذا الذي يدل عَلَى أن اللفظة ما دامت مركبة من النفي والإثبات، فهي أبلغ وأدل مما لو كانت فقط للإثبات، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) تكون من ركنين "النفي والإثبات"، هذا النفي المقرون بـ "إلا" يسمى في اللغة العربية:"الحصر" أو "القطع" وهو في قوة "إنما" وهي أداة حصر، تسبق المبتدأ والخبر، فكأنه يقول: إنما الإله الله، هذه أساليب الحصر، و"إنما" من أدوات الحصر، ولذلك جَاءَ في القرآن:"إنما الله إله واحد" والأسلوب الثاني من أساليب الحصر هو النفي "بلا" والاستثناء بعد "لا""بإلا"، فهذان الركنان النفي والإثبات هما ركنا شهادة أن لا إله إلا الله.
شروط لا إله إلا الله
أما شروط لا إله إلا الله، فقد قلنا: إنها سبعة، لو تأملناها لوجدنا أنها أعمال القلوب الرئيسية، أي: أصول أعمال القلوب من "العلم، واليقين، والصدق، والإخلاص، والمحبة والانقياد، والقبول"، هذه الشروط أعمال قلبية، وهي أساس أعمال القلوب، فلو أن إنساناً عنده شك ففي المقابل ليس عنده يقين، كَانَ يكون عنده شك في الله! هل يكون هذا مؤمناً أو مسلماً؟ لا يكون أبداً، وإذا كَانَ إنسان ليس عنده علم بأن الله هو الإله وحده سبحانه وتعالى هذا لا يكون مسلماً أيضاً، فهو يقول:(لا إله إلا الله) لكنه غير صادق في قول (لا إله إلا الله) إنما يقولها كما يقولها المنافقون نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] ، فلا تنفعه؛ لأنه يقولها وهو غير محبٍ لها ولقائلها وغير منقادٍ لها وللوازمها ولمقتضياتها، وغير قابل لها أيضاً، وهذا لا ينفعه، ولذلك نقول: ليس المطلوب منا هو مجرد لفظة (لا إله إلا الله) .
بعض المفاهيم الخاطئة من مفهوم لا إله إلا الله
غلط من غلط في معنى (لا إله إلا الله) ، وظن أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد اللفظ، وقال من قال لا إله إلا الله، أو من نطق بلا إله إلا الله، فإنه يكون مسلماً وإن عمل ما عمل، وإن اعتقد ما اعتقد، وهذا من أبطل الباطل، ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك: أن المنافقين عَلَى كثرتهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: لا إله إلا لله، ويغزون، ويحجون ويتصدقون ويصلون ويصومون لكن لا ينفعهم ذلك؛ لأنهم كانوا كاذبين، وكانوا غير مخلصين، فلو أنهم صدقوا الله في قولهم (لا إله إلا الله) وصدقوا في قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه [المنافقون:1] وأخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى لكانوا من المؤمنين، وإن كانت فيهم بعض المعاصي، لكن لما أنهم لم يكونوا كذلك لم ينفعهم مجرد أن قالوا:(لا إله إلا الله) أو شهدوا أنه (لا إله إلا الله) فهذا أحد أنواع الغلط في شهادة (لا إله إلا الله) وذلك لظنهم أنها مجرد لفظ.
النوع الثاني من أنواع الغلط في شهادة أن (لا إله إلا الله) : قول من ظن أن معناها: (لا رب إلا الله) بمعنى: الربوبية أي: (لا خالق إلا الله) ، و (لا رازق إلا الله) ، و (لا فاعل إلا الله) ، وهذا يقول به طوائف من الناس، وسبق أن تحدثنا عن ذلك، وتحدث عنه المُصْنِّف وهذا قول بعض طوائف من المتكلمين وبعض الصوفية الذين يقولون: إنه لا فاعل إلا الله، ولا موجود إلا الله، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم هو الفاعل لكل شيء، وأن غيره كالسراب لا وجود له ولا فعل ولا تأثير له، وهذا أيضاً قول باطل، فإن إثبات أن الله هو الخالق، وهو الرازق سبحانه وتعالى وأنه المحيي والمميت لم يخالف فيه العرب في الجاهلية؛ بل كانوا يقولون في تلبيتهم:(لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، وكما تقرأون في آيات الله سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] فهذا التوحيد في الحقيقة جزء من توحيد الربوبية، كَانَ يؤمن به المُشْرِكُونَ الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، والجزء المتعلق به هو جانب الألوهية وهو الذي كانت فيه المعركة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم، ولهذا لا يجوز لأحد كائناً من كَانَ أن يجعل همه من الدعوة إِلَى (لا إله إلا الله) أن يدعو النَّاس إِلَى أن يعتقدوا أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا نافع إلا الله ويقف عند هذا، نعم هذا جزء من الحق لكن ليس هو الحق كله؛ بل يجب علينا أن نبين ونوضح معنى شهادة أن (لا إله إلا الله) كاملةً، كما وضحها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: نفي اتخاذ شفيع أو وسيط من دون الله سبحانه وتعالى تصرف بعض من أنواع العبادة له، ومن ذلك أيضاً نفي اتخاذ متبوع أو مطاع، يقدم كلامه وأمره ونهيه عَلَى أمر الله ورسوله،
وكلام الله ورسوله، ونهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نكون عالمين بهذه المعاني، عَلَى أن التعرض لمثل هذه الجوانب هو جزء من الحق كما قلنا، وقد يوجد عند الإِنسَان اليقين بأن الله هو الرازق، وبأنه هو الخالق، وبأنه هو الضار النافع المحيي المميت، وهذا اليقين مطلوب بلا شك، وهو يثمر في القلب الإيمان بالله سبحانه وتعالى ويثمر عند الإِنسَان من الخوف، ومن الرجاء الشيء العظيم، ولكن الاعتراض هو عَلَى الاكتفاء بهذا فنحن يجب علينا أن نبين للناس حقيقة الربوبية، ونقول هذا الكلام؛ لأن بعض النَّاس قد يفهم خطأ وربما أيضاً وجد ممن يتكلم ويقول: بأن توحيد الربوبية مفروغ منه، لأن كل العرب في الجاهلية يثبتونه، فلا يتحدث عنه، وإنما نتكلم فقط في الألوهية، فنقول: ليس الأمر كذلك، بل يجب أن يعرض أيضاً توحيد الربوبية، لكن الخطأ هو أن يكتفى به عن الألوهية، فيجب تعليم النَّاس حقيقة أن الله هو الخالق الرازق، وأن الله هو الضار النافع، ويربط ذلك بواقع حياة الناس، فكثيراً من عوام الْمُسْلِمِينَ لو ناقشته في هذا الموضوع فإنه يقول لك: نعم الله هو الخالق، وهو الرازق، والضار، والنافع، لكن ليس هناك أثر لهذا الكلام في حياته، ولا بد أن يظهر أثر ذلك عظيماً جداً في حياة المسلم، وهو أنه لا يأخذه الهلع والجشع عَلَى الدنيا، ولا يأخذه الحرص واللهث وراء هذا المتاع الفاني، ولا يتعلق بالأسباب ويظن أن الرزق يأتيه من هذه الأسباب، أو يأتيه من كدحه أو من عمله أو من اجتهاده أومن مصادر الثروة التي يظنها مصادر للثروة أو من أي شيء، يستيقن أنه لا رازق إلا الله سبحانه وتعالى، فيصل إِلَى اطمئنان، وإلى إيمان ويقين يدفع به هلع النفس وحرصها الشديد؛ لأن الإِنسَان شديد في حب الخير، كما ذكر الله سبحانه وتعالى، وكما هو معلوم أن الإِنسَان يحب المال حباً جما، ويأكل التراث أكلاً لما، كما
أخبر الله سبحانه وتعالى وغير ذلك من الصفات التي هي صفات متأصلة في النفس الإِنسَانية، فإذا أيقن أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى فإنه يزكي نفسه ويطهرها وينقيها من رواسب هذه الصفات السيئة، التي هي من صفات غير الموقنين بأن الله هو الرازق وحده سبحانه وتعالى لا شريك له، ولذلك فلا يجوز أن تصرف العبادة إلا له سبحانه وتعالى، فما دام أنه هو الذي يرزق الخلق فهو الذي يجب أن يعبد وحده تبارك وتعالى، فنعلم النَّاس توحيد الربوبية وإن كانوا مقرين به في الأصل، لكن نعلمهم حقائقه ومقتضياته الواقعية، التي يجب أن تطبق عَلَى نفوسنا، ومن ذلك الدعاة، فإذا دعا الداعية إِلَى الله سبحانه وتعالى فيجب أن يعلم هذا التوحيد، أن الله هو الرازق، فلو آمن به الدعاة جميعاً حق الإيمان لما رأينا الإحجام والتردد في الدعوة، فإذا علمت أن الله هو الرازق فإنك تدعو إِلَى الله، وتنكر المنكر، وتقول الحق ولا تخاف عَلَى رزقك ولا عَلَى طعامك ولا عَلَى رزق أولادك من بعدك، لأنك تعلم أن الله هو الذي يرزقك وأن الله هو الذي يرزقهم، وأن سبيل الدعوة محفوف بالأذى واالمخاطر، ومنها قطع هذا السبب الذي هو سبب ظاهر جعله الله سبحانه وتعالى مصدراً لرزقك، فكثير من النَّاس يقول: لولا عملي، أو لولا رزقي، أو لولا وظيفتي، أو لولا خشية أن ينقطع راتبي لقلت الحق، ولأمرت بالمعروف، ولدعوت إِلَى الله، فيا سُبْحانَ اللَّه! هل يكون مثل هذا الإِنسَان مؤمناً حقيقة بتوحيد الربوبية، وأنه لا رازق إلا الله.
فلا بد من الصبر ولا بد من المجاهدة، فهذا الجانب من التوحيد مهم وينبغي الحث عليه وينبغي الإيمان به.
وكذلك من أسمائه الضار النافع، وهذا جزء من توحيد الربوبية ولا يجوز إهمالها، فكثير من النَّاس يقول: إن الله هو الضار وهو النافع ومع ذلك تراهم يلتمسون أسباب الشفاء، وأسباب النفع من الوسائل المحرمة، ومن غير الطريق المشروع وهذا دليل عَلَى أنهم لم يستيقنوا فعلاً أن الضار النافع هو الله سبحانه وتعالى، فالذي يوقن بأن الله هو الضار النافع هل يذهب إِلَى الكهان والسحرة والمشعوذين، ويأخذ منهم أنواعاً من العلاجات والأدوية وهو يعلم أن فيها شركيات؟ إن الذي يوقن بأن الله هو الضار النافع يكون قلبه كما قال النبي؛ (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا عَلَى أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) فهناك فرق بين من يعرف حقيقة معنى الضار النافع، وبين من يجهله، وقس عَلَى ذلك بقية أمور الربوبية، فهذان النوعان من أنواع الغلط في مفهوم لا إله إلا الله والآن ينتقل المُصْنِّف إِلَى ما يتعلق بكلمة (لا إله إلا الله) من ناحية الإعراب.
صاحب المنتخب وانتقاده على بعض النحويين من إعراب لا إله إلا الله
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [وقد اعترض صاحب المنتخب عَلَى النحويين في تقدير الخبر] .
أولاً: صاحب المنتخب لم أستطع أن أعرف من هو فكتاب المنتخب بعضها في الأدب وبعضها في اللغة، ولعله الحسن بن صالح المتوفى 568هـ الملقب بملك النحاة، نقول ذلك ولا نجزم به حتى نطلع عَلَى الكتاب ونجد هذا اللفظ فيه، ويبدوا أن هذا الكتاب مفقود، أو مخطوط قال صاحبه فيه:"إن النحويين أخطأوا في إعراب (لا إله إلا الله) ""النحويون يقولون لا إله موجودٌ إلا الله " يقدرون خبر (لا) بأنه موجود، بينما الصحيح أن لا يكون هناك تقدير، ولا نقدر الموجود؛ لأننا إذا قلنا لا إله موجود، فالمنفي هو وجود الإله، يقول: ولكن المفروض أن ينفى ماهية الإله (ذاته) وليس وجوده، فنقول:(لا إله) أي: لا ماهية إله بدلاً من أن نقول: وجود إله، وكلمة "موجود" نلغيها ونجعل النفي منصباً عَلَى كلمة إله، (وإلا الله) تكون بدلاً، هذا الكلام في حقيقته فيه نوع من الصواب، من حيث عدم التقدير، وإن كَانَ المُصْنِّف مال إِلَى غيره وقَالَ: إنه كلام المعتزلة، وهذه القضية تحتاج إِلَى شيء من الدقة والتبسيط، فقوله (لا) هذه تسمى لا النافية للجنس، وتدخل عَلَى المبتدأ والخبر، وهي تفيد النفي المطلق، ولذلك قيل لنفي الجنس أي: لا يمكن أن تقول: لا رجلٌ في الدار بل رجلان؛ لأن قولك لا رجل في الدار يعني: أنك تنفي نفياً مطلقاً أن يكون في الدار رجل، إذا كانت لمجرد النفي نقول: لا رجلٌ في الدار بل رجلان، فنفينا وجود "رجل" وأثبتنا رجلين، وهذه (لا) قد لا تحتاج إِلَى خبرٍ أصلاً فتستغني عن الخبر بالكلية، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى:، َفَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ [البقرة:197] فلا تحتاج إِلَى خبر وقد يضمر الخبر أو يحذف، عَلَى خلاف في لغات العرب بين لغة الحجازيين ولغة الطائيين أو الشماليين هل يحذف وجوباً؟ أو يحذف جوازاً؟، الشاهد: أنه قد تستغني "لا" عن الخبر نهائياً أو يحذف خبرها مطلقاً، وإن ذكر خبرها فهي تدخل عَلَى المبتدأ وعلى
الخبر، فلو حذفنا (لا) وحذفنا (إلا) من كلمة (لا إله إلا الله) وتركنا المعنى يبقى (الإله الله) المبتدأ والخبر، كلمة "الإله" ندخل عليها "أل" لأنه لا يجوز الابتداء بالنكرة فنقول:(إله الله)، ومن أجل زيادة التأكيد ينفى الجنس فنقول:(لا إله) فحذفنا (إلا) لأن لا النافية للجنس لا تدخل إلا عَلَى النكرات فنحذف (الأل) فنقول: (لا إله إلا الله) إذاً فالكلام ليس فيه تقدير.
فكون صاحب المنتخب هذا معتزلياً، أو غير معتزلي، لا يجعلنا نخطأه إذا كَانَ قوله صواباً، نعم أخطأ المعتزلة عندما فرقوا بين الوجود وبين الماهية، لكن كلام الرجل بعضه صحيح، وقوله:" إن النحويين قالوا: تقديره لا إله في الوجود إلا الله وهذا يكون نفياً لوجود الإله ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود " معناه: نَحْنُ لا نقدر موجود فننفي نفس ماهية الإله وقَالَ: " فكان إجراء الكلام عَلَى ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى " وكلامه هذا الأخير صحيح، لأن إجراء الكلام عَلَى ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى، لكن كلامه الأول في كون العلة هي أن نفي الوجود ليس أقوى من نفي الماهية خطأ، أما إذا نظرنا إِلَى المسألة نظرة لغوية بحتة فإننا نجد أن كلام هذا الرجل صحيح في أنه لا إضمار في الكلام، فالشهادة تتكون من مبتدأ وخبر فأدخلنا عليها "لا" النافية وأدخلنا الحصر الذي يفيد التأكيد وهو أكثر من مجرد الإثبات كما قلنا، فصار الكلام (لا إله إلا الله)، مثل قولنا: لا حولا ولا قوة إلا بالله، فليس في الكلام تقدير في هذا الباب عَلَى هذا الوجه اللغوي البحت.
المرسي يرد على صاحب المنتخب
أراد أبو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الفضل المرسي أن ينتصر لمذهب أهل السنة، ضدالمعتزلة ولا نعلم حقيقة ما إذا كَانَ هذا الرجل سنياً بمعنى: أنه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أم أنه أيضاً متأثر بإحدى المذاهب المنتسبة إِلَى السنة، لكن هذا الرجل يقول عن كلام صاحبالمنتخب:[هذا كلام من لا يعرف لسان العرب] فخطأه؛ لأن (إله) في موضع مبتدأ عَلَى قول سيبويه وعند غيره اسم (لا) وكلاهما لا فرق بينهما، أي سواء قلنا هي مبتدأ أو اسم "لا""وعلى كلا التقديرين فلا بد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد"، يقول المرسي:" الاستغناء عن الإضمار خطأ "، نبدأ بالكلام الصواب من كلام المرسي الذي يبين لنا الخطأ من كلام صاحبالمنتخب، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية، فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي للوجود، فلا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، هذا مذهبأهل السنة خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود.
الماهية هي ذات الشيء أو حقيقته، وهي مشتقة بما يُسئل عنها (بما) ، وقد سبق هذا معنا، عندما خاطب فرعون موسى فقَالَ: وما رَبُّ الْعَالَمِينَ، قال المتكلمون: إنفرعون سأل موسى عن الماهية، أي: أنفرعونمن المتكلمين الباحثين في الصفات، فهو من المناطقة حيث سأل عن الماهية بـ "ما"، قَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، أي: ما كنهه وما ذاته وما حقيقته؟
ثُمَّ قال المتكلمون، إن موسى عليه السلام حاد عن الجواب حينما قَالَ: قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:26] فلم يجب له بالأجوبة المنطقية، وسبق أن قلنا: إن هذا الكلام خطأ من المتكلمين؛ لأن فرعون لا يعرف المنطق ولا الفلسفة، ولا يتدخل في هذا الكلام كله، ف، فرعونيقول: وما رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى سبيل الاستخفاف والعناد، فهو لا يؤمن به؛ بل ينكره، ولهذا قَالَ: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] ففرعون لا يريد أن يؤمن بإله.
وليست القضية عندفرعون قضية ماهية هذا الإله، أو السؤال عنه بـ "ما"، فلم يخطر لفرعون أن المناطقة يقولون: إن السؤال عن الماهية هو بحرف "ما"، ومعنى قول المرسي أنا إذا قلنا (لا إله) موجود فقد نفينا وجود الإله، وإذا قلنا:(لا إله) بدون تقدير نفينا ماهية الإله، إذاً عدم التقدير أفضل.
فنقول: هذا التفريق بين الوجود وبين الماهية خطأ؛ لأن أي شيء نقول: إنه موجود، فمعنى ذلك أن له ماهية بطبيعة الحال، أما أن عدم التقدير صحيح فهذا الكلام أيضاً صحيح؛ لأن عدم التقدير هو الأولى.
الإعراب الصحيح لـ" لا إله إلا الله"
وإعراب "لا إله إلا الله": (لا) : نافية للجنس، و (إله) : اسم (لا) أو المبتدأ، و (إلا) أداة استثناء، و (الله) : خبر، فهذا النفي والاستثناء أسلوب من أساليب الحصر المراد به تأكيد أبلغ وآكد في إثبات العلاقة بين الموضوع والمحمول أي: بين المبتدأ والخبر، وأن الإله وحده هو الله سبحانه وتعالى لا إله غيره تبارك وتعالى، هذا مختصر إعراب (لا إله إلا الله) وليس هناك تقدير فيها؛ لأن المبتدأ والخبر يدخل عليها الحروف (لا) و (إلا) فلا تقدير في الكلام بالكلية، هذا هو الراجح والصحيح في اللغة. قوله:[وليس المراد هنا ذكر الإعراب فالمراد هو رفع الإشكال الوارد عَلَى النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو ثابت وقلنا: إن المنتقد من المعتزلة إذا كَانَ انتقاده صواباً قبلناه وإن كَانَ معتزلياً وفيلسوفاً ومتكلماً، فنحن نتبع الحق حيث كان، ولا يضرنا أن يكون قائله من غيرأهل السنة لا سيما وأن الموضوع موضوع لغة وليس موضوع دين وإيمان، قَالَ: " فإن قولهم في نفي الوجود ليس تقييداً لأن العدم ليس بشيء" يقول المُصْنِّف عندما قال النحاة (لا إله موجود) لم يقيدوا النفي بالوجود فقط حتى نقول: إنهم لم ينفوا الماهية، وإنما نفوا الوجود فقط، وإنما قال ذلك؛ لأن العدم ليس بشيء، وما دام أن العدم ليس بشيء فنفي الوجود هو العدم، والعدم ليس بشيء، إذاً ليس هناك شيء يقيده، فليست كلمة (في الوجود) قيداً، وإنما نفي أن يكون شيء في الوجود هو عدم، والعدم لا قيد فيه بإطلاق؛ لأنه ليس بشيء [كما قال الله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] ولا يقال ليس قولهم "غير" كقوله: (إلا الله) ] ، أي: بدلاً من أن نقول: (لا إله إلا الله) نقول: "لا إله غير الله"، يقول المصنف:" لا نقول إن (غير) مثل (إلا) " وكلامه هنا خطأ، بل الواقع أنها مثلها والمعنى واحد؛ لأن كلمة غير الله في قوة (إلا الله) ، فـ (لا إله غير
الله) أو (لا إله إلا الله) بمعنى واحد؛ لكن كلمة "غير" نفيها في ذاتها، وهي تنفي الشيء الآخر، وأما (لا إله إلا الله) فنفيها من (لا) وليس من "غير"، فلما اجتمع الحصر (لا) و (إلا) صار المعنى (لا إله إلا الله) فلما أخذنا (إلا) انتقل الحصر في عموم كلمة "غير"، وهي في ذاتها عامة تنفي؛ لأنها من ألفاظ العموم المطلقة الكلية، فأصبح (لا إله غيره) ، أو (لا إله إلا الله) ، بمعنى واحد، هذا هو ملخص ذلك.
قال الإمام الطحاوي: [قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء]
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[قال الله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر [الحديد:3] وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) فقول الشيخ رحمه الله: [قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء] هو معنى اسمه: الأول والآخر.
والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطرة، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، قطعاً للتسلسل.
فإنّا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر، وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة، ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] .
يقول سبحانه: أحَدَثوا من غير محدثٍ أم هم أحدثوا أنفسهم؟
ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه بل إن حصل ما يوجده، وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.
وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق، ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33] .
ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة الطويلة، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حالٍ أخرى.
وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع، ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية] اهـ.
الشرح:
انتقل المصنف رحمه الله إلى شرح قول الإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله تعالى-: [قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] والإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة يريد أن يرد على الطوائف الضالة، ويأتي بكلام مبسط وواضح يعتقده المسلمون ويفهمونه.
ويقول: [قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] وهذا من المعاني الضرورية الفطرية عند الناس في حق الله سبحانه وتعالى، إلا أن لفظ (القديم) إطلاقه على الله تعالى خطأ، وسيأتي هذا في آخر كلام المصنف وهو أنه لم يرد في أسماء الله تعالى القديم وورد بدل هذه العبارة في القرآن ما هو أجلى وأعظم وهو قول الله تبارك وتعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] فهذا الإطلاق هو الأصح بل هو الواجب؛ لأنه هو الذي ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى فهو أبلغ لأنه هو الدرجة العليا في الفصاحة والبلاغة.
وجاء تفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدعاء قبل النوم (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) وهذا هو الذي يسميه المتكلمون قطع التسلسل في الأول وكذلك في الآخر، فهم يقولون: يمتنع أن يكون لله سبحانه وتعالى بداية كان قبلها عدماً ، وكذلك يمتنع أن يكون له نهاية ويكون بعدها عدما، فقالوا إذاً نقول: التسلسل ممنوع في الأول وممنوع في الآخر، وهذا الكلام جاء في القرآن والسنة بأوفر بيان وأفضله، فقال الله سبحانه وتعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) وهذا يغني عن كلام الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين، لكن المصنف هنا يريد أن يثبت ذلك من واقع كلامهم.
فالفلاسفة ينظرون إلى الوجود من حيث إنه ثلاثة أقسام: واجب الوجود أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، فيقولون: إن هذه الأقسام الثلاثة، تحوي كل متعلقات الوجود، فإن الأشياء إما واجبة الوجود لذاتها، وإما ممتنعة الوجود لذاتها، وإما ممكنة الوجود والعدم، وذكر المصنف: أن هذه المخلوقات المشاهدة لا شك أن لوجودها بداية بدليل أننا نراها وجدت قبل أن لم تكن موجودة، فنحن -مثلاً- جئنا والأرض موجودة لكننا نرى السحاب كيف يوجد، ونرى الشجرة كيف تنمو وتوجد، فكثير من الأشياء توجد بعد أن لم تكن موجودة، إذاً هذه الأشياء لا نقول ممتنعت الوجود لأنها موجودة، ولا نقول: إنها واجبة الوجود لأنها كانت من قبل في العدم، إذاً فهي من القسم الآخر وهو ممكن الوجود، وأنتم متفقون معنا أي: الفلاسفة والمتكلمون على أن ممكن الوجود يفتقر إلى واجب وجود أوجده.
إذاً فواجب الوجود هذا لا بد أن يكون أزلياً يعني: لا أول لوجوده، لأنه إذا كان لوجوده أول أصبح من جملة الموجودات الممكنات التي تحتمل الوجود والعدم، إذاً ثبت بالدليل العقلي من كلامكم ومن نظرياتكم أن الله سبحانه وتعالى لا أول لوجوده أو لا بداية له وهذا مثل ما قطعه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: هذا خلق الله حتى يقول له: من خلق الله فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله) ونحن نشاهد هذا الكلام لا ميزان له في العقل، هذا الشعور أو هذا الخاطر أو الهاجس لا وجود له ولا صحة له في نظر العقل السليم حتى عقولالفلاسفة أنفسهم نجد -على كلامهم هذا- أن الممكنات أو المحدثات لا بد لها من محدث فهي مفتقرة إلى واجب الوجود، ولو قلنا: إن واجب الوجود مثلها مخلوق أو ممكن أو محدث لاحتاج إلى واجب يوجده وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، إذاً لا بد أن نقول هناك موجودات وجدت ولوجودها بداية، وهناك خالق مُوجِدٌ أوجدها ولا أول لوجوده ولا بداية له.
ولهذا يقول المصنف: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك في أوجز مما يقول هؤلاء ولم يذكر مصطلحاتهم لا الوجود ولا الإمكان وإنما قال سبحانه وتعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] .
قال بعض السلف: "لما قُرأت علي هذه الآية أو لما سمعت هذه الآية كاد قلبي أن ينصدع" فكثير من الناس يمر عليها ولا يبالي، مع أنها على وجازتها شملت الرد على كل هذه الطوائف، وعلى كل هذه ضلالات أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] فأي ملحد أو أي إنسان ينكر وجود الله سبحانه وتعالى فإن هذا السؤال يوجه إليه بأسلوب القرآن لا بأساليب الفلاسفة ولا المتكلمين وإنما يقال له: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] هؤلاء البشر وهذه الأجرام وهذا الكون كله، هل خلق من غير خالق؟ لا يمكن ذلك، أم هو الخالق؟
أيضاً لا يمكن ذلك، إذاً النتيجة أنه مخلوق وأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى فنقول: هذه الآية تدل على نفي أن يكون غير الله سبحانه وتعالى يشارك الله في أنه لا بداية لوجوده وأنه هو الأول، فالأول من أسمائه سبحانه تعالى، وهو بدلاً من قوله هنا قديم.
وسيأتي كلام المصنف في معنى القديم وإطلاقه على الله سبحانه وتعالى؛ لكن يريد المصنف أن يقول: الشاهد من مثل هذه الآية ومثل هذا الحديث أننا نعرف أن المتكلمين ما يأتون به من طرق ومن مقدمات عقلية.
فالحق والصواب من هذه المقدمات قد جاء به الكتاب والسنة في أوجز عبارة وأبلغها فبدلاً من قولهم -وهو كلام غايته حق- إن هذا الموجود ممكن والممكن مفتقر إلى واجب وجود، والواجب الوجود لا أول له، فبدلاً من هذه المصطلحات جاء القرآن بما هو أوجز منه وأفضل.
لا مانع من استخدام الأدلة النظرية للتفكر والتأمل
ثُمَّ يقول المُصْنِّف يقول: [ولا نقول لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة النظرية] فكلامنا السابق لا يعني أننا نعترض عَلَى أي أحد يستدل بمقدمات أو بكلام خفي؛ لأن الظهور والخفاء أولاً من الأمور النسبية، وحتى في الأمور الواضحة وضوحاً كاملاً تجد بعض النَّاس يقتنع بالأمر الخفي الدقيق ولا يقتنع بالأمر الظاهر الجلي.
فالذي يهمنا أن يقتنع الإِنسَان وأن يعرف الحق مثال ذلك: إذا جَاءَ أحد وقَالَ: أنا أستدل عَلَى عظمة الله عز وجل وآياته بخلق الإِنسَان، فإن الله تَعَالَى جعل له العيون وجعل له الفم، وأعطاه الأعضاء كالسمع والبصر وكذا وكذا، فهذا الاستدلال بالأمور الظاهرة أكثر وهو الذي ورد الاستدلال به في القرآن؛ لأن العوام وهم أكثر النَّاس ليسوا كلهم فلاسفة ولا كيميائيين ولا أطباء والعبرة واحدة، والتعمق فيها تعمق في نفس العبرة، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] كلام واضح أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:17-18] كلام واضح أيضاً فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء:32] آيات كثيرة جداً في القُرْآن تلفت النظر إليها وأن عَلَى الإِنسَان أن يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ويتأمل في خلق السماوات والأرض في الجبال والنبات والإبل والدواب والشجر وغير ذلك.
لكن مع ذلك ما دام أن الاستدلال بالأدلة الخفية ينفع بعض النَّاس فلا بأس من أن نستخدم المقدمات الخفية ولا بأس بأن نستدل بها، ولذلك كما قلنا لما قيل: إن الإمام أحمد أوالإمام الشَّافِعِيّ أحدهما قَالَ: إن من الأدلة عَلَى وجود الله، وعظمته هذه البيضة التي ظاهرها عَظْم وباطنها الماء ثُمَّ يخرج منها هذا الحيوان وله منقار وله سمع وله بصر، وهذا المثال من الأمثلة الكثيرة جداً عَلَى وجود الله وعظمتة وحكمتة سبحانه وتعالى، وهذا المثال يذكره الإمام كمثال من أمثلة كثيرة، وربما ذكره لخفائه عَلَى بعض الناس، وكذلك هو من ضمن مدلول الآيات القرآنية، كما قال الله عز وجل: (فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ؛ لأن كثيراً من النَّاس يأكل ولا يذكر أن يتفكر في هذا الشيء، إذاً فما الفرق بين الإِنسَان وبين الحيوان الذي يهجم عَلَى أي شيء فهو يأكل ولا يفكر ما أصل هذه الشجرة ومم تركيبها، المهم عنده أن يأكل، فالإِنسَان لا ينبغي ولا يجوز له أن يكون كذلك، فليتأمل في هذا الطعام كيف سخر الله عز وجل له من زرعه وحصده وخبزه، حتى وصل إليه رزقاً مقسوماً مكتوباً في ساعة معينة، لم يكتب الله أن هذا الرغيف يقع في يد غيره، ولم يكتب الله عز وجل أن يكون هذا الرغيف غداء أو فطوراً وإنما كَانَ عشاء.
إذاً فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] تشمل كل هذه الأشياء، فتشتمل أيضاً الماء الذي يشربه، ثُمَّ ذكر الله تَعَالَى بعد تلك الآيات كيفية نشأة الطعام منذ أن شق الله سبحانه وتعالى الأرض إِلَى أن يخرج منها الحب إِلَى أن أكله الإِنسَان وهكذا النظر في السماوات أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية: 17، 18] والنظر في السماء كيف رفعت معناه: أن يتأمل الإِنسَان في عظمة هذه المخلوقات.
فبعض النَّاس قبل تطور العلم يتعجبون من القمر يرون أنه أكبر شيء في السماء فيتعجبون من ضوءه ومن كبر حجمه، ويستدلون بذلك عَلَى عظمة الله سبحانه وتعالى الآن عرف النَّاس أن هذا القمر جرم صغير وأن هناك أجراماً أخرى أكبر وأعظم، لكن لأنها أبعد ترى أصغر، كل ذلك داخل في النظر والتفكر في السماوات، وإنما أصبح أكثر تفصيلاً، فلا يضر الجاهل الأول أنه لا يعرف حجم القمر.
ولم يزد المعاصر معرفته بما هو أكبر من القمر إنما العبرة واحدة، وهكذا سائر الآيات والأحاديث التي فيها ما يدل عَلَى إثبات أمر من الأمور.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ [النحل:78] فكل إنسان تقرأ عليه هذه الآية يفهم ماذا تريد منه، لكن هناك أناس متخصصون متعمقون يدرسون الأعصاب، ويعرفون جهاز الإحساس عند الإِنسَان وكيف ينشأ عنده العلم بالأشياء، وكيف تسقط من ذاكرته الأشياء يتعمقون جداً، فهذا الكلام قد ينفع بعض الناس، وقد لا يجدي معهم إلا هذه الأشياء المتعمقة، ولكن أكثر النَّاس يفهم هذا الاستدلال بمجرد الأمر الظاهر وكذلك نجد عالماً كبيراً جداً.
ومع هذا لما خلق من بطن أمه لم يكن يعلم شيئاً فمن الذي علمه وأعطاه السمع والبصر والفؤاد؟ إنه الله سبحانه تَعَالَى فالعبرة واحدة وإن أخذها بعضهم بالتفصيل وبعضهم بغير ذلك.
الاقتصار على دلائل الكتاب والسنة هو الأفضل
إن ما يتعلق بالمقدمات وخفاء الأدلة، نَحْنُ نقول: إن الطريقة الصحيحة الواجب اتباعها هي طريقة القُرْآن والسنة، وهي أجلى وأوضح من كل طريق، لكن مع ذلك لو استُخدمت طريق أخرى أقل جلاءً أو طريق خفية.
ودلت عَلَى المراد الذي دل عليه الكتاب والسنة فلا بأس بها نظراً لمرض يقع في قلوب النَّاس وفي تفكيرهم فيفهمون بالخفي ولا يفهمون بالجلي.
وهذا حتى عند بعض النَّاس الذين ينكرون الحقائق نهائياً ويستدلوا عَلَى وجود الشمس بالحرارة التي يحس بها الإِنسَان في النهار ولا يحس بها في الليل، وحقيقة الأمر أن هذا الدين أنزله الله سبحانه وتعالى عَلَى أمة فطرية، ليس عندها تعمقات ولا تعقيدات الأمم اليونانية، مثلاً أو الهندية.
فالفطرة السليمة نزل القُرْآن عليها وخاطبها، فآمنت واعتقدت ما يتلى عليها، ولذلك انظروا كيف غير في معاني الكتاب والسنة لما دخل فيه أُولَئِكَ الذين تأثروا بغير منطق العرب، كما قال الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله:" ما فسد النَّاس وتناقضوا واختلفوا إلا عندما تركوا منطق العرب ومالوا إِلَى منطق أرسطو طالين " فالمنطق معناه أسلوب التفكير العربي فلما تركه النَّاس -حتى من كَانَ عربياً منهم- ومالوا إِلَى طريقة المتكلمين الفلاسفة كـ، المتكلمين الذين أخذوا طريقة الفلاسفة أو كَانَ هو أعجمي الفطرة، ثُمَّ دخل في الإسلام، مثل: الإمام فخر الدين الرازي عَلَى عظمته وعلى سعة علمه وعلى مؤلفاته لولا لاحظتم كتابه التفسير الكبير ستشاهدون التأثر الكبير بالفلاسفة لأنه من أئمة الكلام، فكان إمام الأشعرية في عصره.
تجد هذا الشيء الذي يتنافى مع الفطرة العربية التي هي فطرة العربي الجاهلي في فهم الألفاظ -مثلاً- يقول في قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] يقول: ربما فهم آدم وحواء أن النهي عن الأكل من الشجرة منصب عليهما مجتمعين، لأن اللفظ مثنى "لا تقربا" لكن لو أكل كل واحد منهم وحده لكان جائزاً، ولذلك أكل.
كلام لا يمكن لأي إنسان عنده أدنى فطرة من كلام العرب أن يصدقه، فضلاً عن عالم كبير؛ لكنه يقول: هذا ليبين أن آدم معصوماً لا يخطأ، أمثلة كثرة جداً إذا قرأها أي إنسان منكم يتعجب، وسبب وقوع هذه العقول الكبيرة الضخمة في مثل هذا الشيء هو فساد الفطرة في هذه الفلسفات، بينما العرب الذين نزل عليهم القُرْآن قريش وغيرهم كانوا يعاندون، ويكابرون وينفون نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ويقولون: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، ويقولون: لولا أنزل معه ملك، جاءوا بحجج كبيرة جدّاً فيها عناد،، لكن لم يأتوا أبداً بمناسبات أو بردود من جنس هذا الكلام الذي فيه مماحكات أو مماطلات ليس لها معنى، بل لا يقبلها العقل ولا تقبلها الفطرة، فهم إما أن يؤمنوا به عالمين حقيقته، وإما أن ينكروه مكابرة وعناد.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى " القديم " وليس هو من الأسماء الحسنى فإن " القديم " في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم كما قال تعالى: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] . والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم، وقال تعالى:وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيم [الأحقاف:11] . أي: متقدم في الزمان وقال تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء:76،75] . فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله، وقال تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار [هود:98]، أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً كما يقال: أخذني ما قدم وما حدث ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدماً لأنها تقدم بقية بدن الإنسان، وأما إدخال "القديم" في أسماء الله تعالى فهو المشهور عند أكثرأهل الكلام وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه" الأول ". وهو أحسن من "القديم"، لأنه يشعر بأن ما بعده آيلٌ إليه وتابع له بخلاف "القديم"، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة] اهـ
الشرح:
لما قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] أخذ المصنف رحمه الله يشرح ذلك، فتحدث عن إطلاق وصف القديم على الله سبحانه وتعالى، وهل هو من أسماء الله الحسنى؟ فالإمام الطحاوي قال:[قديم بلا ابتداء] يريد أن يوضح حقيقة الأزلية، فاستخدم لفظة مفهومة عند الناس وفسرها فقال:[قديم بلا ابتداء] لأن القديم في كلام العرب هو الشيء المتقادم البعيد وإن كان له بداية، فكلام الإمامالطحاوي هنا هو مجرد إخبار ولم يسم الله تعالى قديماً، وإنما أخبر فقط، قال:[قديم بلا ابتداء] حتى لا يدخل في الوهم أن القديم في اللغة العربية الذي يكون له بداية، وإن كان قديم العهد لكن المصنف هنا لم ينتقد الإمام الطحاوي فلم يقل وقد أخطأ الإمام في أنه جاء بهذا الاسم وإنما هو استطراد لبيان الحقيقة في ذلك، وهو أن أحداً يأتي ويقول: ما حكم إطلاق اسم القديم على الله؟ لأن الطحاوي يقول: [قديم بلا ابتداء] فيكون الجواب عليه: أن قوله: [قديم بلا ابتداء] هذا خبر أطلقه عليه أما "القديم" المستخدم في كتب علم الكلام فهو الذي يمتنع كما في عبارةالجنيد أنه سأل ما التوحيد؟ قال: التمييز بين القديم والمحدث، وغير ذلك كثير في كلامالصوفية وفي كلام المتكلمين يقول المصنف رحمه الله: " المتكلمون الذين أدخلوا اسم القديم من أسماء الله مخطأون في ذلك؛ لأن القديم في لغة العرب يطلق على الشيء البعيد العهد وقد يكون له بداية ولا يختص بما لا بداية له، بل الذي ورد في القرآن يدل على أنه كان له بداية أي: قد سبقه العدم، كقول الله تبارك وتعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] فلا شك أن القديم سبقه عدم، وليس هذا هو المراد بالإطلاق على الله سبحانه وتعالى الذي يريده المتكلمون فهم يريدون القديم أي الذي لا أول لوجوده ولم يسبقه عدم، فالدلالة تختلف بين هذا وبين هذا، كما قال
تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء: 75-76] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، أي: مهما كان آباؤكم موغلين في هذا الشرك ومتقدمين في فعله، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه مذهب الشافعي القديم والجديد] ، فالشافعي رحمه الله لما كان في العراق كان له مذهب لأنه تعلم الحديث وهو مذهب أهل المدينة، فانتقل إلى العراق وتعلم مذهب أهل الرأي فأصبح لديه فقه مستقل، فانتقل إلى مصر وصار له مذهب جديد غير ما كان يفتي به في العراق فصار يُقال للشافعي مذهبان، وهذا من أعظم الأدلة على أنه لا يجوز أن يقلد رجل في كل كلامه، ويؤخذ جميع ما يقول لأن الإمام الشافعي حتى وهو إمام -رضي الله تعالى عنه- رجع عن بعض آرائه فله شيء في القديم وشيء في الجديد، إذاً القديم معناه ما تقدم الجديد،أي:ما تقدمه غيره، وليس المقصود أنه الذي يسبقه عدم، ولهذا أنكر كثير من العلماء إدخال اسم القديم في أسماء الله سبحانه وتعالى، والذي نقوله: إنه لا يطلق على الله اسماً بمعنى الاسم إلا ما ثبت إطلاقه وتسمية الله سبحانه وتعالى به، أما مجرد إخبار بدون تسمية فهذا يجوز، أو قد يتساهل فيه، لأنك تخبر مجرد خبر لا أن تسمي الله سبحانه وتعالى اسماً بغير ما أنزل في كتابه ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك ما ذكره المصنف في كلامه الأخير:[أن أسماء الله حسنى وليست حسنة] ، لأن الحسنى أعظم وأعلى من مجرد أنها أسماء حسنة، فقولنا: إنه متقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره هذا معنىً حسن، وهذا الذي يريده المتكلمون ولهذا يسمون الله تعالى القديم، لكن الحسنى تأنيث الأحسن، فالأحسن من ذلك "الأول" الذي جاء في القرآن لأنه يدل على أعظم من كون أنه مجرد متقدم على الحوادث، فدلالة اسم "الأول" أعظم بدليل أنه قد يدخل في ذلك معاني كثيرة، ويدخل في ذلك أنه
سبحانه وتعالى خالقها، فقد نقول: فلان أقدم من فلان، أو قديم بالنسبة لفلان دون أن يكون هو الذي أوجده، لكن في حق الله عز وجل لا يقال هذا، فالأول هو الذي أوجد هذه المخلوقات سبحانه وتعالى، أما كلمة القديم فإنها غاية ما تدل عليه أنه متقدم عليها في الوجود فقط، فلذلك لا نسمي الله سبحانه وتعالى إلا بما ثبتت تسميته به أما في الإطلاقات فقد يتساهل في ذلك إذا كان المعنى حقاً، وصحيحاً، لكن لا نعدل عما جاء به القرآن أو السنة، إلا على سبيل الشرح أو الإيضاح هذا هو الأفضل والأوجز.
ونحن لم نستخدم كلمة "القديم" إلا لأن المتكلمين استخدموها في معنىً على قواعدهم هم لا يؤديه إلا هذه الكلمة، لكن كلمة العتيق ليست كلمة اصطلاحية حتى نقول هذا المصطلح يؤدي نفس المعنى ولاجاءت في الشرع حتى نقول: إنها كلمة، وشرعية هذه الكلمة "القديم" لولا أنها دخلت في اصطلاح المتكلمين لما بحثناها هنا، لكن لأنهم أطلقوها واستعملوها، فنظرنا فإذا المقصود منها معنىً صحيحاً، وهو أنه لم يتقدمه شيء من المخلوقات، قلنا: إذاً هذا هو موضع البحث، وكلام الإمام الطحاوي رحمه الله لما قال:[قديم بلا ابتداء] هو من هذا الباب إذاً فلا حرج، لأن هذا مجرد إيضاح لأولية الله سبحانه وتعالى لكن التسمية لا نسميه إلا بما ثبت في الكتاب والسنة.
قال الطّّحاويّ رحمه الله: [لا يفنى ولا يبيد]
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27،26] والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضاً مقررٌ ومؤكدٌ لقوله:" دائم بلا انتهاء "] ا. هـ.
هذه الفقرة الأخرة لا يفنى ولا يبيد واضحة، وهو أن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ يقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يفنى ولا يبيد، وهذا لكمال حياته ولكمال قيوميته، كما قلنا: إن النفي المحض ليس مدحاً في حق الله، لكن إذا نفي شيئاً فهو لكمال الصفة المتعلقة به، أي: لكمال حياته ولكمال قيوميته، ولهذا يستدل المُصنِّفُ رحمه الله تَعَالَى بقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27] ويبين أن الفناء والبيد متقاربان في المعنى وهذا لا إشكال فيه.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
[لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام] .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] قال فيالصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته.
فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم، ولا يحيط به علم.
قيل الوهم: ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به، والله تعالى لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحدٌ، صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض [البقرة:255] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:24،23] اهـ.
الشرح:
موضوع نفي أو تشبيه الله بخلقه، قد سبق الحديث عنه عند قول المصنف رحمه الله:
[فلا شيء مثله] ، وهذا استكمال وإيضاح لذلك؛ لأن الطحاوي رحمه الله قد يأتي بعبارات مترادفة، والمقصود منها هو تجلية المعنى وإيضاحه وتحقيقه لدى السامع.
ولكن المصنف رحمه الله يشرح كل جملة بما يراه مناسباً للفظها.
وقوله: [لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام] في هذا نفي لجميع أنواع العلم؛ لأن العلم إما يقين يفهمه العقل ويعقله ويستوعبه ويتأمله، وإما ظن يتخيله العقل ويتوهمه ويحسبه.
والله سبحانه وتعالى قد نفى إحاطة البشرية له علماً وعقلاً وفهماً ويقيناً، وكذلك ظناً وخرصاً وتوهماً، فالعقول لا تستطيع أن تعرف حقيقة الله وكنه ذاته تبارك وتعالى بحقائقها التي تفهم بها، ولا بظنونها وتخييلاتها وأوهامها وفي هذا النفي دليل على أنه سبحانه وتعالى لا سبيل إلى معرفته إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فما جاء في الكتاب والسنة يفهمه العقل؛ لأن الله سبحانه وتعالى خاطبنا بما نعقل، والرسول صلى الله عليه وسلم شرح ذلك الخطاب، وخاطبنا أيضاً بما نفهم وبما نعقل، ومهما حارت عقولنا في فهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا لا نحيله، فقد تحار العقول في فهم إدراك حقائقه، ولكن لا تحكم باستحالته لا في إدراك معانيه اللغوية -كما مر معنا إيضاح الفرق بينهما.
والشرع جاء بمحارات العقول ولم يأت بمحالات العقول، فلم يأت الشرع بما تحيله العقول وتقطع وتجزم بنفيه، ولكن جاء بما قد تحار العقول في إدراك حقيقته وفهمه، مع العلم بأن الألفاظ من جنس الخطاب والكلام الذي يعهده العرب ويعرفه السامعون، فالله سبحانه وتعالى لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام، فليس هناك من سبيل إلى معرفة صفاته عز وجل إلا ما جاء في الكتاب أو السنة.
وهناك مثلان مشهوران ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية يبينان ذلك:
الأول: نعيم الجنة، فقد صح الحديث أن (فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ومعنى هذا أن الإنسان مهما توهم أو تخيل أنهار الجنة أو عسلها أو مياهها أو أشجارها أو مسكها أو زعفرانها، فإن هذا مجرد خيال يتخيله، وليست الجنة بما تصوره؛ لأن الحقائق التي فيها لا يستطيع الإنسان أن يتخيلها كما هي أبداً، وإنما هذه ألفاظ جاءت في القرآن أو السنة، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما-:"ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء" فهو اشتراك في الاسم فقط، أما في الحقائق فمختلفة تماماً.
الثاني: الروح، فكل إنسان حيٍ له روح، يحس بهذه الروح، ويجزم بوجودها في الأحياء جميعاً، ومع ذلك لا ندري كنه هذه الروح، ولا كيف تعمل وتتأثر، ولا كيف حالها حال اليقظة وحال النوم، ومع ذلك إذا جاء أجل الإنسان فإن روحه تقبض، والناس ينظرون، كما قال عز وجل: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [الواقعة:84] ، فحقيقة الروح مجهولة، مع أننا نؤمن بها ونعرف من أوصافها ما جاء في الكتاب والسنة، ونسلم بحقيقة وجود الروح، ونعيم الجنة، مع أننا لا ندرك الحقيقة ولا الذات.
فهذان مثلان مضروبان في مخلوقات الله عز وجل، فكيف يكون الحال مع ذاته سبحانه وتعالى الذي هو أجل وأعظم من كل شيء، الذي عجزت العقول عن أن تدركه، وأن تعرف حقيقة ذاته، سبحانه وتعالى، فما علينا إلا التسليم والانقياد والإذعان، ولنعرف ربنا بما أخبر سبحانه وتعالى كما قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص] وكما قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض [البقرة:255]، وكما قال:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23] ونحو ذلك من الآيات، وكما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) وأنه ينزل سبحانه وتعالى في الثلث الأخير، وأنه يضحك، ويعجب ونحو ذلك، مما يجب علينا أن نؤمن به دون أن يخطر ببالنا لحظة واحدة أن نطلب إدراك حقيقة اتصافه سبحانه وتعالى وكيفيتها؛ لأنه أمر حجب عنه العقل البشري تماماً، ومن تخوض في ذلك فقد كلف نفسه مالا تطيق، ومصيره إلى الزيغ والضلال، وهذا من أخطر الأمور التي وقعت فيها الفرق، فلم يقفوا بالعقل البشري عند حدود ما شرع الله سبحانه وتعالى وإنما تجاوزوا ذلك وتقحموا الحديث في أمور لا قبل لهم بها، ومن تكلف علم أمر لا قبل له به، فإنه يقع في الضلال حتماً ويقيناً سواء كان في المحسوسات، أو المعلومات، أو المرئيات.
فالأفهام البشرية لم تحط علماً بالكون الذي تعيشه، ولم تدرك حقيقته، ولا كيفيته الكاملة، ولا نهايته، رغم المراصد ووسائل الاستكشاف.
فيا سبحان الله مَن كان حائراً في معرفة حقيقة ما يرى ويسمع ويحس ويشاهد، فما باله يقحم نفسه في معرفة ما لا يمكن إدراكه قط؟! هذا من أعظم الأدلة على أن الإنسان ظلوم كفار كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب، وهذا من أعظم الأسباب التي أوقعت الفرقة بين المسلمين، وجعلتهم شيعاً من المعتزلة والجهمية والرافضة وأمثالهم؛ فإنهم لم يقفوا عند ما أمر الله به، بل تجاوزوا الحد ونظروا إلى ما قاله علماء الكلام، وأخذوا يخوضون فيما خاض فيه أولئك، فكانت النتيجة أن وقعوا في الحيرة التي وقع فيها أولئك من قبل.
قالالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولا يشبه الأنام] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق، سبحانه وتعالى، قال عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ثُمَّ قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى. وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه، فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله، فهو كافر بالله العظيم. وقَالَ: علامة جهم وأصحابه: دعواهم عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة. وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقَالَ: إن الله لا يقال له: عالم ولا قادر، يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه، لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقَالَ: هو مجاز، كغالية الجهمية، يزعم أن من قَالَ: إن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة، فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقَالَ: إن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا كلام، ولا محبة ولا إرادة، قال لمن أثبت الصفات: إنه مشبه، وإنه مجسم؛ ولهذا كتب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم، كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة، ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم: المالكية، ينسبون إِلَى رجل يقال له: مالك بن أنس! وقوماً يقال لهم: الشافعية، ينسبون إِلَى رجل يقال له:
مُحَمَّد بن إدريس حتى الذين يفسرون القُرْآن منهم، كعبد الجبار، والزمخشري وغيرهما، يسمون كل من أثبت شيئاً من الصفات، وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف؛ ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين: أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة: أنه تَعَالَى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، فنفى المثل، وأثبت الوصف، وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات، تنبيهاً عَلَى أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات] اهـ.
الشرح:
موضوع نفي المثل عن الله سبحانه وتعالى ونفي الشبيه قد تقدم في قول الإمام الطّّحاويّ رحمه الله: [ولاشيء مثله] وشرح هناك قوله تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .
أما التشبيه فإنه خلق وعقيدة من أخلاق وعقائد اليهود، وأصل التشبيه هو عند اليهود، والتوراة المحرفة الموجودة إِلَى اليوم في أيدي الناس، فيها تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه.
وأول فرقة عرفت التشبيه وأظهرته في الإسلام هي فرقة الرافضة، وسبب ذلك عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أخذ ما كَانَ يعتقده -هو وقومه- من التشبيه، فأدخلوه في دين الرفض، واشتهر ذلك عن رجل من الرافضة يقال له: هشام بن الحكم.
فكان يصف الله سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين، ويقول: هو مثل واحد من المخلوقين، ويشبه يد الله بيد المخلوق، وقد كفره علماء السلف وذكروا بدعته.
وهذا من أعظم الأدلة عَلَى أن علماء السلف ليسوا مشبهة، ولكن هَؤُلاءِ الذين نفوا الصفات هم الذين اتهموهم بالتشبيه، لأسباب سيأتي إيضاحها.
ثُمَّ تطور معنى التشبيه حتى غلب -في القرن الثالث فما بعد- عَلَى إثبات الصفات، وأصبح الذي يثبت صفات الله عز وجل كما جاءت في الكتاب والسنة يسمى مشبهاً، وقد ذكرنا أن الرافضة تحولت من التشبيه إِلَى الاعتزال بعد المحنة والفتنة التي حدثت للإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فاجتمع الرافضة -أصحاب عاطفة بلا عقل- والمعتزلة -أصحاب عقل بلا عاطفة- وكوَّنا منهجاً واحداً، ولا يوجد الآن فرقة اسمها: المعتزلة.
فيقولون: إن الإمامأَحْمَد روى في مسنده أن الله سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا وإلى الأرض، وأنه يركب عَلَى حمار ويمشي، وهذا كذب وبهتان، ولا يمكن لأحد عرف مسند الإمام أَحْمَد أن يخطر بباله أن هذا الحديث موجود في المسند، لكن يقولون لعوامهم هذا.
فهَؤُلاءِ ينتقمون ويثأرون لما حصل لهم من الإمام أَحْمَد وأهل السنة، الذين كانوا يغلب عَلَى تسميتهم في بغداد الحنابلة فإنهم كانوا لا يدعون رافضياً إلا ضربوه أو قتلوه أو أخرجوه.
فيفترون عَلَى الإمام أَحْمَد مثل هذا الحديث الذي لا يوجد -ولله الحمد- في مسنده، وهكذا انقلبت التهمة عند هَؤُلاءِ والرافضة قوم بهت، كما أن اليهود قوم بهت، كما في الحديث الصحيح لما جَاءَ عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وقَالَ: يا رَسُول الله (إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه) .
وأول من أطلق كلمة: "الجسم" في هذه الأمة هوهشام بن الحكم الرافضي، فالتشبيه والتجسيم كلمة لم ترد في حق الله عز وجل، وأول من أطلقها هم الرافضة.
وعقيدة الإمامالطّّحاويّ مثل غيرها من عقائد أهل السنة شرحها بعض الماتريدية شرحاً ماتريدياً، فكما أولوا القُرْآن وأولو السنة، أولوا كلام الطّّحاويّ، فَقَالُوا: قول الطّّحاويّ: [لا يشبه الأنام] فيه نفي للصفات، مع أنه يريد نفي الشبيه والمثيل عن الله سبحانه وتعالى وهو مثبت للصفات.
ومثلها عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني، الإمام المشهور عند المغاربة المالكية، ومن عادة كتب المالكية أنها في أول كتب الفقه، تُقدم بمقدمة في العقيدة، ثُمَّ تبدأ بأحكام الطهارة وأحكام الوضوء والصلاة، وهذه عادة حسنة؛ لأن الإِنسَان أول وأهم ما يجب أن يتعلمه هو العقيدة، فإذا صلحت العقيدة تعلم الوضوء والطهارة عموماً، وهذا ترتيب جيد في باب البحث والعلم والتصنيف.
والإمامابن أبي زيد رحمه الله كتب عقيدة مبسطة سلفية واضحة في أول كتابه: الرسالة فشرحوا هذه العقيدة شرحاً أشعرياً تماماً.
فيقول مثلاً: [ولا شيء مثله] فيقول الشارح وهو منهمالشنقيطي، في القرن الحادي عشر، والأزهري صاحب الفواكه الدواني هذا النفي إشارة إِلَى الصفات السلبية، وقوله:"وهو الحي القيوم": هذا الإثبات إشارة إِلَى الصفات الثبوتية.
وقَالَ: [وهو عَلَى عرشه المجيد بذاته] فَقَالُوا: وهو عَلَى عرشه، والمجيد بذاته، فالله تَعَالَى مجيد بذاته ليس مجيداً بأحد من خلقه، ويحتمل أن "بذاته" يعود عَلَى العرش -يعني بذات العرش- فهو عَلَى عرشه المجيد بذات العرش.
ولهذا نبه المُصنِّفُ رحمه الله عَلَى هذه القضية فقَالَ: وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ثُمَّ قال بعد ذلك: وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، فالإمام أبو حنيفة يثبت لله الصفات وينفي التشبيه، وهذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عامة، لكن بدأ بالإمام أبي حنيفة؛ لأن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ حنفيٌ، ولأن الذين شرحوا العقيدة وأولوها عن معانيها هم من الأحناف.
وقال نعيم بن حماد رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -شيخ الإمام البُخَارِيّ في مصر وإن كَانَ في روايته ضعف- وهو من أشد النَّاس عَلَى الجهمية، فلما سُئل عن ذلك؟ قَالَ: لأني كنت عَلَى منهجهم في أول أمري، فلما تعلمت الحديث عرفت الحق، فكان من أشد علماء الحديث والسنة عَلَى أهل البدع، لأن من عرف بدعة من البدع ثُمَّ هداه الله سبحانه وتعالى للرجوع إِلَى حقيقة الدين فإنه يكون أشد عَلَى أهلها ممن لا يعرفها.
قال -أي- نعيم بن حماد -: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه"، فهذا كلام واضح وجلي بأن نفي الصفات شيء، وإثبات الصفات شيء، والتشبيه شيء آخر، فالمشبه هو الذي يقول: يد كيدي، أو رجل كرجلي، أو نزول كنزولي، وأما المثبت: فهو الذي يثبت ما يليق بجلاله فَيَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11] ، فيثبت له الصفات وينفي عنه التشبيه، كما جَاءَ في الكتاب والسنة.
وكيف يقولون: إن من شبه الله تَعَالَى بخلقه فقد كفر، ثُمَّ يكونون مشبهة؟!
وقال إسحاق رضي الله عنه -شيخ الشيخين الإمام البُخَارِيّ ومسلم وقرين الإمام أَحْمَد، ومن أجل أئمة الإسلام وأعلامه-: مَن وصف الله، فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله، فهو كافر بالله العظيم.
وهذه الأقوال هي جزء من أقوال كثيرة ذكرتها روايات كتب العقيدة، التي كانت تسمى كتب السنة أو الشريعة، مثل كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لللالكائي بالسند المتصل إِلَى هَؤُلاءِ الرجال الأعلام الذين هم حجة في دين الله عز وجل، وأئمة من أئمة السلف، الذين ورثوا العقيدة والإيمان والعلم النبوي الصحيح في عصرهم، وقاوموا هذه البدع التي نشأت في أيامهم مثل:
ابن الماجشون، وإسحاق، وابن المبارك، ونعيم بن حماد، والإمام أَحْمَد، والفضيل ابن عياض، ووكيع بن الجراح، ويحي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي
…
وغيرهم كثير.
وكلها نقولٌ تبين حقيقة ما هم عليه من الاعتقاد قي ذات الله سبحانه وتعالى، وأنهم يثبتون الصفات، وينفون التشبيه عن الله سبحانه وتعالى، وكلامإسحاق: علامة وقاعدة على أن الجهمية يسمون أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة، ولا يزال هناك قائلون بها منذ ظهور هذه البدع إِلَى هذا اليوم، حتى من المؤلفين الأحياء في هذا الزمن، كالكوثري وتلاميذه، كالدكتور على سامي النشار، ومثلهم كثير، ولا نريد أن نذكر الأسماء؛ وإنما لنبين أن هَؤُلاءِ يقولون: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، وأحياناً يقولون: إن الحنابلة مشبهة، أو أن ابْن تَيْمِيَّةَ تعلم التجسيم والتشبيه.
وكما قال الإمام إسحاق بن راهويه: علامة الجهمية تسمية أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة، قَالَ: بل هم المعطلة، عطلوا ونفوا الصفات عن الله سبحانه وتعالى وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فهم مثبتة وليسوا مشبهة.
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رحمه الله إِلَى بيان تدرج الفرق في إنكار الصفات، واشتراك جميع هذه الفرق في إطلاق التشبيه عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ. الفرقة الأولى: الغلاة، الذين لا يثبتون أي صفة ولا اسم، وهم القرامطة والفلاسفة، وهم الطبقة الأولى من المنكرين، ولا يثبتون إلا الوجود المطلق، لا صفة له عَلَى الإطلاق، فكل من أثبت شيئاً من صفات هذا الموجود المطلق قالوا: هذا مشبه ومجسم. الفرقة الثانية: الجهمية، الذين قالوا: هذه الأسماء الموجودة مجازات لا حقيقة لها، فمن قَالَ: إن هذه الأسماء حقيقة، قالوا عنه: مشبه. الفرقة الثالثة: المعتزلة، الذين قالوا: هذه أسماء وليس له صفة تشتق منها، فمن قَالَ: إن له صفات فهو مشبه. الفرقة الرابعة: الأشعرية، الذين يثبتون العلم والإرادة والكلام عَلَى معنى يفهمونه ويفسرونه، لكن ينفون الصفات الخبرية -كما يسمونها - مثل اليد، والنزول، والاستواء ونحو ذلك، فهَؤُلاءِ يقولون: من أثبت له اليد، أو النزول، أو الغضب، أو الرضا، أو الضحك، أو العجب ونحو ذلك، فإنه مشبه. وهكذا
…
فكل طائفة من طوائف أهل البدع تسمي من أثبت ما نفته هي مشبهاً، فهي تعتقد أن ما هي عليه هو الحق وغاية التنزيه، وإثبات شيء غيره تشبيه وتجسيم. ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رحمه الله: إن كثيراً من الرافضة والمعتزلة أصبحوا يستخدمون هذا الكلام العجيب المضحك، فيقولون: المشبهة هم الذين يثبتون لله يداً وقدماً وساقاً وعيناً ونزولاً وكذا وكذا، يعنون أهل السنة، وهم عَلَى أنواع: أولاً: الشافعية: وهم ينتسبون إِلَى مُحَمَّد بن إدريس. ثانياً: الحنفية: وهم طائفة ينتسبون إِلَى
أبي حنيفة. ثالثاً: الحنابلة، وهكذا
…
! فأهل السنة جميعاً -بما فيهم الأئمة الأربعة ومن هم أعظم منهم- كلهم مشبهة، كما في كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي الرافضي، وهو غيرأبي حاتم الإمام المعروف، وكتاب الغلو والفرق الغالية وكلاهما مطبوع متداول. والقاضي عبد الجبار -وهو كبيرالمعتزلة - ألف أضخم مؤلفات المعتزلة التي ما تزال موجودة إِلَى اليوم، ومنها "المغني "، وهو أضخم كتب علم الكلام المطبوعة البدعية، وكتاب الأصول الخمسة -أصول المعتزلة الخمسة-، ونشر كتب هَؤُلاءِ المبتدعة والرافضة المعتزلة وأمثالهم من المبتدعة لا تجوز، خاصة في بلاد الْمُسْلِمِينَ، ولا يقَالَ: إنها مراجع ليعلم النَّاس باطلهم، لأنها تنشر محققةً مفهرسةً موضحةً، وتقذف إِلَى الأسواق. وكثير من النَّاس يعتمدون في كلامهم في التفسير عَلَى كلام عبد الجبار، ومحمود جار الله الزمخشري صاحب كتاب الكشاف الذي هو مليء بالاعتزاليات، ولأن الاعتقادات الضالة التي فيه، قد يأخذها الإِنسَان وهو لا يريد الضلال، ولكنه يقع في الضلال ويوقع غيره فيه؛ لأنه ينقل عن أمثال هَؤُلاءِ الذين يعتبرون أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والأئمة الأربعة مشبهة. نعم لا بأس أن يؤخذ عنهم بعض المعاني اللغوية، أو بعض المعاني البلاغية التي لا علاقة لها بالعقيدة، ولا تتعارض معه، لكن أن يرجع إليهم في فهم آيات كتاب الله -وخاصة في فهم آيات الصفات- فهذا لا يجوز أبداً. قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: ثُمَّ غلب ذلك -يعني هذه التسمية وهي: "نفي التشبيه"- عند المتأخرين لما غلبت البدع وفشت وانتشرت، لكن علماء السنة -أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - قديمهم وحديثهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، فهم يثبتون الصفات، وإنما ينفون التشبيه الذي هو تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه، أو تشبيه خلقه به سبحانه وتعالى. كما في كتب أهل السنة، ككتاب السنة لعبد الله بن
الإمام أحمد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلٍ يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياسٍ شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها.
ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60] .
مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه ـ: فالواجب القديم أولى به.
وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات، فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى.
ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات أو الأسماء. ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(تخلقوا بأخلاق الله) ، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟!
وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله. ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته. فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: ولا يشبه الأنام. والأنام: الناس وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان.
وظاهر قوله تعالى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [الرحمن:10] يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم] ا. هـ.
الشرح:
مما يوضح ويجلي حقيقة إثبات صفات الله تعالى أن العلم الإلهي -وهو العلم بالله سبحانه وتعالى لا يستدل فيه بقياس تمثيلي، ولا بقياس شمولي، والقياس التمثيلي توضيحه ببساطة: هو إلحاق أصل بفرع، أو: مساواة الشيء بنظيره، إذا كان لهذا النظير حكم معين، وله ما يناظره ويشابهه نلحق هذا بهذا، وهذا هو المعروف في أصول الفقه، وهو قياس الفقهاء، قال العلماء: كيف يصلي إنسان في الطائرة؟ قالوا: كما يصلى على السفينة، فتقاس الطائرة على السفينة مثلاً، ونحو ذلك من أنواع القياس المعروفة.
الأرز مثلاً يقاس على الأصناف الستة في الربا أو في زكاة الفطر؛ لأن هذا مطعوم وهذا مطعوم، وهذا حب وهذا حب مقتاتان. فنلحق هذا بهذا بجامع مشترك وهو -مثلاً- القوت أو الحبوب أو نحو ذلك، والنتيجة: أن يأخذ الرز حكم البر -مثلاً- أو حكم الحبوب.
فقياس التمثيل: أن يستوي فيه الأصل والفرع، الأصل: هو ما تبين حكمه لدى المخاطب أو السامع، والفرع: هو ما ألحق بذلك الأصل.
قياس الشمول: هذا يستخدم عند المناطقة في علم الكلام، وليس في علم الفقه والأصول، وهو مساواة الشيء بالمستوي معه المماثل في الحقيقة بجامع اندراجهما معاً تحت أصل كلي شامل لهما.
فقياس التمثيل: أن نلحق شيئاً بما يشبهه، لكن في قياس الشمول نلحق الشيء بما هو مثله تماماً، والجامع هو اسم مشترك أو كلي -كما يسمونه- يشمل هذا وهذا، فمثلاً: نقول زيد مثل علي، فهذا قياس شمول؛ لأن زيداً إنسانٌ وعلياً إنسانٌ، وكل إنسانٍ حيوانٌ ناطق.
والشيء الكلي: هو ما كان له إفراد مستوون في الحقيقة، مثل الإنسان، هذا يسمونه كلى؛ لأن له أفراداً متساوون في الحقيقة، فما أثبت لأحدهم يثبت للآخرين بجامع أن الكلي يشملهم، ولهذا يسمى قياس الشمول الكلي.
فالمناطقة "فلاسفة اليونان " -الذين استخدموا قواعد المنطق- يعتمدون في إثبات الصفات أو نفيها على قياس الشمول، فيقولون مثلاً: إذا قلنا: إن له يداً، فمعنى ذلك أن له جسماً، وإذا قلنا: إنه مستو على العرش أو يسأل عنه "بأين"، فمعنى هذا أنه جسم، وكل جسم هو جواهر وأعراض، إذاً فله جواهر وأعراض، فجعلوا حقيقة الله -سبحانه- فرداً من كلي معين يتخيلونه هم.
وهذا القدر هو أصل ضلالهم، فلا نستخدم في العلم الإلهي لا قياس التمثيل ولا قياس الشمول؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء، فالمثلية منفية عن الله سبحانه وتعالى فما هو الأصل الذي نقيس الله تعالى عليه ونلحقه به بجامع علةٍ بينهما؟! وما هو الكلي؟ وما هو الكلي الذي تستوي أفراده في الحقيقة بحيث نجعل الله تبارك وتعالى جزءاً أو واحداً من أفراده المتساويين في حقيقته المشتركة؟! نحن لا نعلم حقيقة الله سبحانه وتعالى حتى نجعل له حقيقة مشتركة، وذات تشترك مع غيرها من الذوات في كلي له حقيقة واحدة، بحيث نلحق هذا بهذا في الأحكام.
والعلم بإلحاق المجهول بالمعلوم لا يخرج عن هذين الطريقتين عندهم، إما القياس بمصطلح الأصول الفقهي، وإما القياس بالمصطلح الكلامي المنطقي، فما دام أننا قد قررنا أنه لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الإفهام، ولا يحيطون به علماً -كما أخبر سبحانه وتعالى فلا يجوز أن يستدل في باب العلم الإلهي، لا بقياس الشمول ولا التمثيل.
وإنما يستخدم قياس الأولى -وهو الذي لم يتنبه ولم يفطن له هؤلاء المعطلون للصفات- وهو: أن كل كمال للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به، فمثلاً: العلم صفة كمال للمخلوقين، فكل عامي من عوام المسلمين يدرك بفطرته أن الله عليم، فهذا قياس فطري جلي؛ لأن العلم صفة كمال لا نقص فيها، فالله تبارك وتعالى أولى وأحق بها من المخلوق.
وقلنا: لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأن الإنسان يتزوج، وهي صفة كمال في حق الإنسان، فالذي لا يتزوج حصور، لكنها بالنسبة لله عز وجل نقص؛ لأنه ليس له صاحبة ولا ولد سبحانه وتعالى.
وهذا من الأدلة الفطرية العقلية التي تتفق مع الأدلة النصية النقلية على إثبات صفات الله سبحانه وتعالى.
أما قياس الشمول أوالتمثيل، فإنما أورث علماء الكلام الحيرة والشك والتناقض؛ لأنهم يقيسون على ما لا يعلمون حقيقته، ويجعلون هذه الذات -التي لا يدركونها ولا يمكن أن يدركوا حقيقتها- أفراداً من كلي تستوي في الحقيقة ثم يقيسون ويتكلمون في الاسم والتركيب والأعراض والجواهر وكذا وكذا، وكأنهم قد علموا حقيقته سبحانه، وعرفوا ذاته، وجعلوها كسائر الذوات.
والله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبصفاته سبحانه وتعالىقُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه [البقرة:140] ، فلذلك لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نخوض فيها بهذين القياسيين الباطلين في موضوع العلم الإلهي، وإن كان في مجال الأصول أو المنطق قد يصحان وقد يبطلان.
وإنما القياس الذي يسمى قياساً اصطلاحاً، وإلا فهو معرفة فطرية بدهية -إن صح التعبير عنه- هو قياس الأولى، فكل كمال للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به؛ لأن مصدر هذا الكمال للمخلوق هو الله سبحانه وتعالى.
يقول الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فالعلم صفة كمال، فإذا جاء أحد من المعتزلة أو المعطلة نلزمه بقياس الأولى، نقول: إذا كان العلم صفة كمال للمخلوقين ومدح وثناء فهو في حق الله أوجب وألزم؛ لأن هذا الكمال الموجود في الإنسان إنما أعطاه الله، فالذي أعطاه هذا الكمال - في نظرك - يكون هو ناقصاً خالياً منه.
فغاية ما تقولون: ليس بجاهل، ولو قيل لكم: كيف علم الشيخ؟ وقلتم: إنه ليس بجاهل، كان هذا حطٌ من قيمته، فهذا غاية ما يصفون به الله عز وجل: أنه ليس بجاهل، ولا يقولون: هو عليم ولا عالم.
ومن أعجب العجب أن غلاة نفاة الصفات الذين ينفون جميع الصفات عن الله، يقولون -في كتبهم القديمة-: غاية الفلسفة هي التشبه بالله على قدر الطاقة، والتخلق بأخلاق الله، وجاء المتفلسفون من المسلمين ومن اقتفى نهج هؤلاء من الصوفية، وأخذوا ينقلون هذا الحديث الذي هو "تخلقوا بأخلاق الله"، كما في إحياء علوم الدين وأمثاله، فكيف قلتم: ما له صفة، وإنما هو وجود مطلق فقط، ولا يوصف بشيء، فنتشبه بأي شيء إذن؟! وهذا من أعجب العجب، تناقض هؤلاء النفاة في مثل هذه الأقوال التي يقولونها.
ويقولون: إن الله موجود مطلق ليس له أي صفة، فغاية الكمال ـ وهذا خاص بالفلاسفة الذين يسمون في الإسلام صوفية -أن تمحى صفات المخلوق ويفنى حتى تتحد ذاته بذات الحق الخالق سبحانه وتعالى، فلا يبقي للإنسان صفة.
فكيف يمكن أن يدافعوا عن أنفسهم بهذا الكلام، وهو يخرجهم من الملة والدين لاعتقاد زوال البشرية بالاتحاد بذات الخالق الإله سبحانه وتعالى، وهذا الكلام في غاية الكفر، والله سبحانه وتعالى قد كفر النصارىفي ما هو أقل من ذلك فكيف بهؤلاء؟
وقد سبق الحديث بالتفصيل عن الحلولية والاتحادية، وأمثال هؤلاء القوم الذين يشبهون المخلوق بالخالق فالتشبيه نوعان:
1-
تشبيه الله بخلقه.
2-
وتشبيه المخلوق بالخالق سبحانه وتعالى.
وأكثر ما وقع فيه الناس وبسببه عبدت الأصنام أنهم شبهوا المخلوق بالخالق، فعبدوا الأحجار وشبهوها بالله، وظنوا أنها تنفع أو تضر أو تشفع عند الله إلى آخر ما ظنوا فيها من صفات الألوهية، مع أنها أحجار لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً، فشبهوها بالله سبحانه وتعالى وكذلك عندما أطاعوا الملوك أو الأحبار أو الرهبان، وعبدوا الكهان والأحبار والرهبان وشبهوهم بالله سبحانه وتعالى، وزادوا بأن شبهوا المخلوق بالخالق في نفس صفات الألوهية مثل ما قالالنصارى عن عيسى أنه هو إله بذاته، وأنه يحي الموتى ولا يعتريه الفناء السابق ولا اللاحق، وكذلك الحلولية والاتحادية الذين يشبهون المخلوقات أو الأقطاب أو الأغواث بالله سبحانه وتعالى ويطبقون عليهم صفات الألوهية، حتى أن بعضهم يقول: تركت قولي للشيء كن فيكون، تأدباً مع الله تعالى -والعياذ بالله-.
فنفي مشابهة شيء من المخلوقات لله مستلزم لنفي مشابهته لشي من مخلوقاته، فكل منهما يستلزم الآخر، فلا يشبه الأنام سبحانه وتعالى ولا يشبهه الأنام سبحانه وتعالى، والأنام هم الناس أو المخلوقات، كما ذكر في الخلاف في تفسير هذه الآية.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[حي لا يموت، قيوم لا ينام]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] .
فنفي السنة والنوم دليل عَلَى كمال حياته وقيوميته، وقال تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [آل عمران:1-3] وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111] وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] وقال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُو [غافر:65] وقَالَ: صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) ، الحديث.
لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه، أشار إِلَى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه، بما يتصف به تَعَالَى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تَعَالَى دون خلقه، فإنهم يموتون.
ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد به نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال، لكمال ذاته.
فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَان [العنكبوت:64] ، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقَالَ: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها، هو الذي وهب للمخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.
واعلم أن هذين الاسمين -أعني الحي القيوم- مذكوران في القُرْآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم عَلَى معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً عَلَى كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود. والقيوم أبلغ من "القَيَّام" لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه، باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل تفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه، لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب، ولا ينقص، ولا يفنى، ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل، ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال.
واقترانه بالحي، يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل عَلَى بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً. ولهذا كَانَ قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تَعَالَى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
وأما القيوم، فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إِلَى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام] ا. هـ.
الشرح:
ابتدأ المُصنِّفُ رحمه الله بذكر الآيات الثلاث التي ورد فيها هذان الاسمان الحي القيوم وهي:
1ـ آية الكرسي من سورة البقرة: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] .
2ـوأول سورة آل عمران: الم*اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1،2]
3ـ وفي سورة طه قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111] .
وجاء في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه) ثُمَّ شرح ذلك هشام بن عمار -شيخ الإمام البُخَارِيّ بدمشق بالشام - فقَالَ: أما البقرة فقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] وأما آل عمران فقوله تعالى: الم*اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1،2]
وأما طه فقوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111] .
فدل ذلك عَلَى أن هذين الاسمين هما: "الاسم الأعظم"، وقد سبق أن حقيقة الاسم الأعظم بالتعيين فيها اختلاف، وأن لله تَعَالَى حكمة في إخفاء هذا الاسم وتعيينه، كما أن هنالك حكمة في إخفاء ليلة القدر، ومن حكمة هذا الاسم أن يُدعى الله سبحانه وتعالى بجميع أسمائه، لأن من دعا الله سبحانه وتعالى بجميع أسمائه فقد دعا الله سبحانه وتعالى باسمه الأعظم، كما إن من قام رمضان، بل قام العشر، بل قام الوتر من ليالي العشر، فقد أدرك ليلة القدر، فهذا الإخفاء فيه ترغيب وحث وحض حتى يديم الإِنسَان الطاعة.
ولو تأملنا هذه الآيات الثلاث لوجدنا فيها العجب العجيب من المعاني، فمثلاً: آية الكرسي التي تتكون من عشر جمل كلها في تعظيم الله سبحانه وتعالى وفي توحيده بأنواع التوحيد، ولا سيما في معرفة الله سبحانه وتعالى وما له من حق عَلَى العباد، ومعرفة عظمته تبارك وتعالى.
فابتدأها الله بقوله اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] ولفظ الجلالة: أعرف المعارف، واختلف النحويون في أعرف المعارف فَقَالَ بعضهم: العلم، وقال بعضهم: اسم الإشارة، وقال بعضهم: الضمير، وقال بعضهم: المعرف بـ "الـ"، وكل منهم نظر من زاوية ولكن سيبويه -إمام النحاة- قَالَ: أعرف المعارف لفظ الجلالة "الله"، وقيل: إنسيبويه رؤي في المنام. فقيل: ما حالك عند الله؟ فقَالَ: قد غفر لي، لأني جعلت أعرف المعارف "الله".
واسم الجلالة: "الله" هو أعرف المعارف حقيقة وواقعاً، بحيث أنك مع أي بشر تخاطبه إما باللغة العربية -وهو الله- وإما بأية لغة ينطقها ويعرفها، فإنه هو أعرف المعارف عنده.
فإذا قلت له: الله.
فإنه يعرف تمام المعرفة ولا يختلط عليه، بخلاف لو قلت مثلاً: الملك أو الأمير أو كذا فربما يلتبس عليه.
و"لا إله إلا الله" هي أعظم كلمة ذكر ودعاء، بعث بها رسل الله سبحانه وتعالى، وأنزلت بها الكتب من عند الله سبحانه وتعالى، وقام لأجلها الجهاد بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وبين المؤمنين والكافرين.
ثُمَّ قال تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ فذكر هذين الاسمين اللذين ترجع إليهما جميع نعوت الجلال والكمال، وجاء هذان الاسمان أيضاً في أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر -يعني أهمه- يقول: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) ، يجمع بين هذين الاسمين معاً -يا حي يا قيوم- وهذه من الأدعية الجوامع التي بإمكان كل إنسان منا أن يحفظها ويرددها أيضاً، فيقول إذا أهمه أمر -يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، وفي حديث آخر:(أنه صلى الله عليه وسلم علم بعض أصحابه أن يقول: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين) هذا تمام التوكل والتفويض والانقياد لله سبحانه وتعالى ولهذا يكون هذا الدعاء حرياً بالإجابة بإذن الله تبارك وتعالى.
وجاء في الآيات اسم الله الحي مقروناً بتوحيد الألوهية والعبادة، كما في قوله تَعَالَى في سورة غافر: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65] فلو تأمل الإِنسَان في هذه الآية مع الآيات السابقة، لعرف وتحقق أن اسم الله:"الحي" يوضح أن كمال الحياة لا يكون إلا في الله وحده سبحانه وتعالى، ولهذا لا يجوز أن نصرف العبادة إِلَى أحد غير الله سبحانه وتعالى أياً كَانَ المعبود من دون الله.
فالذين يعبدون الكواكب يعبدون الآفل؛ لأن هذه الكواكب تغيب وتأفل وتزول ويعتريها الكسوف والخسوف ونحو ذلك، وتتفتت وتتطاير في الفضاء، ثُمَّ إن مصيرها إِلَى الفناء، وليس لها الحياة المطلقة.
والذين عبدوا اللات والعزى إنما عبدوا أحجاراً صماء ليس فيها حياة. وهكذا كل ما عُبد من دون الله من ملك أو نبي أو ولي أو حجر أو شجر أو كوكب، نجد أنه ما كَانَ له أن يُعبد من دون الله لو أن العابدين له كانت لهم عقول، فلو أنهم تأملوا في حقيقة هذا الاسم، وقدروا الله حق قدره، وعرفوا حقيقة اسم الله:"الحي" لما عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى أحداً سواه بإطلاق.
ومن كمال حياة الله سبحانه وتعالى: أنه لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، أما البشر فلأن حياة الإِنسَان ناقصة، وله جسم يتعب ويلغب ويمسه النصب، فإنه يحتاج إِلَى أن ينام ويصحوا ويحيا ويموت، فلا يمكن أن يكون معبوداً، ولا يمكن أن يكون إلهاً.
أما الله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تعتريه غفلة ولا سهو سبحانه وتعالى، وهذا الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .
فهكذا من يقرأ هذه الآيات وهذه الأحاديث، ويستيقن حقيقة الله سبحانه وتعالى، ويحاول أن يتعرف عَلَى صفات الله سبحانه وتعالى، فإنه يعظم الله تبارك وتعالى في قلبه، فيخشع له ويخبت وينيب إليه وحده سبحانه لا شريك له، فمن كمال حياته سبحانه وتعالى: أنه لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، ولا يعتريه سهو ولا غفلة، ولا آفة من الآفات التي هي علامات نقص الحياة، ودلالات عَلَى أن حياة صاحبها ليست الحياة الكاملة المطلقة.
ولما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه، أشار إِلَى ما تقع به الفرقة بينه وبين خلقه بما يختص به سبحانه وتعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت.
قَالَ: لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تَعَالَى دون خلقة، فإنهم يموتون: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27،26] فلا بد أن يموتوا كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35] ، وفي ذلك إشارةٌ إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات.
ومنه: أنه قيوم لا ينام، وفي ذلك إشارة إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال؛ لكمال ذاته.
وقَالَ: لا يشبهه الأنام، ثُمَّ قَالَ: حي وقيوم، فهذا دليل عَلَى أن المنفي هو التمثيل لا حقيقة الأسماء والصفات.
وبعض الشراح من الماتريدية فهموا أن المؤلف لما قَالَ: [لا يشبه الأنام] أنه ينفي الصفات التي ينفونها هم، فالمصنف رحمه الله وضح أن الإمام الطّّحاويّ لا ينفي الصفات، بدليل أنه بعد نفي التشبيه في الصفات أثبت فقَالَ:[حي لا يموت قيوم لا ينام] .
والفرق بين حياة الله سبحانه وتعالى وبين حياة غيره. كالفرق بين الحياة الكاملة الباقية وبين أية حياة يمنحها الله سبحانه وتعالى ويعطيها لمن يشاء من الحياة الناقصة، ولهذا قارن بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة، فالحياة الدنيا سميت في القرآن، "لهو، ولعب، وغرور"، لكن الحياة الآخرة قال الله سبحانه وتعالى فيها: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] أي: الحياة الحقيقية.
فالدنيا كالمنام، والآخرة كاليقظة، كما جَاءَ في الأثر عن عَلِيّ رضي الله عنه:"النَّاس نيام، فإذا ماتوا استيقظوا" فكأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية التي تكون فيها معاني الحياة كاملة، فإن قيل: أليست الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، والملائكة والولدان والحور العين الذين في الجنة يعيشون الحياة الكاملة؟ فما الفرق بين هذه الحياة وبين حياة الله سبحانه وتعالى؟
فنقول: الفرق عظيم بين ما يتصف به المخلوق وبين ما يتصف به الخالق سبحانه وتعالى، فإن حياة الله سبحانه وتعالى هي من لوازم ذاته، فهو الحي بذاته سبحانه وتعالى، أما ما في الجنة من الملائكة وغيرهم إنما هم أحياء بإحياء الله لهم، فالله هو الذي أحياهم وهو الذي وهبهم الحياة، وإن كانت هذه الحياة هي فعلاً أكمل من الحياة الدنيا، وهي حياة حقيقية بالنسبة للحياة الدنيا العارضة الزائلة العابرة.
فالله سبحانه وتعالى الحي بذاته، وأما غيره سبحانه وتعالى فإنما هو حي بإحياء الإله له، وليس الأحياء في الجنة ذاتهم من لوازم ذواتهم أن يكونوا أحياءً، ولكن الله هو الذي يمنحهم الحياة، ولو شاء لأهلكهم جميعاً تبارك وتعالى، فما يليق بالخالق سبحانه وتعالى له شأن، وما يليق بالمخلوق له شأن آخر.
والقيوم: يدل عَلَى معنى الأزلية والأبدية، يعني: عَلَى معنى: ما لا أول له ولا بداية له في الأزل، وعلى معنى: ما لا نهاية له في الأبد، فهو أعظم دلالة من اسم القديم، فإن اسم القديم وإن دل في الاصطلاح -لا في أصل اللغة- عَلَى ما لا أول له، فإنه لا يدل عَلَى ما لا آخر له.
وقد سبق أن الاسم الذي جَاءَ في القُرْآن ويدل عَلَى معنى القديم عند المتكلمين هو اسم الله سبحانه وتعالى "الأول"، والأول والآخر فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) فالقيوم: يدل عَلَى معنى الأزلية والأبدية بما لا يدل عليه أي اسم.
ومنها: القديم، ويدل عَلَى كونه قائماً بنفسه، موجود بذاته سبحانه وتعالى، فهو يدل عَلَى معنى كونه واجب الوجود -أي في اصطلاح الفلاسفة - والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، فالقيوم بما أنه ورد في القُرْآن فلا شك أنه أبلغ من القيام؛ وإن كَانَ معناها واحداً.
وهل ورد القيام في شيء من الكتاب أو من السنة؟
نعم ورد القيام في حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المشهور: كَانَ إذا قام إِلَى الصلاة في جوف الليل قَالَ: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن
…
) إِلَى آخر الحديث.
والمعنى واحد، لكن الأبلغ هو القيوم، وهو أيضاً يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين، وأهل اللغة، وذلك معلوم بالضرورة.
لكن هل كونه قيوماً يفيد أن غيره لا يقوم إلا به؟
في المسألة قولان، وأصحهما أنه يفيد ذلك، أن غيره سبحانه وتعالى لا يقوم إلا به، فهو قريب من اسمه الصمد في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ [الإخلاص:1-2] والصمد: هوالذي تعتمد عليه الخلائق في حوائجها، والذي لا يستغني عنه أي مخلوق، وهو غني عن جميع المخلوقات.
وكذلك القيوم الغني الغنى المطلق عن كل من عداه، ومع ذلك فإن ما عداه لا يقوم إلا به سبحانه وتعالى، فهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه -كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل.
وأخذ المُصنِّفُ ذلك من نظر إبراهيم عليه السلام لما أراه الله سبحانه وتعالى ملكوت السموات والأرض، وناظر قومه فجادلهم، فرأى كوكباً. فقَالَ: هذا ربي.
فلما أفل قَالَ: لا أحب الآفلين، ثُمَّ رأى القمر، ثُمَّ رأى الشمس -كما في سورة الأنعام-، فالآفل لا يمكن أن يكون رباً معبوداً من دون الله، فالقيوم ينفي الأفول وينفي الزوال عن الله عز وجل، فهو قيوم قائم بذاته سبحانه وتعالى، ولا قوام لغيره إلا به، وهو الذي قامت له السموات والأرض بإقامته لها، فالله سبحانه وتعالى هو ربها، وهو الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، والذي لولاه لما كانت هذه المخلوقات جميعها، فهو الدائم الباقي الذي لم يزل سبحانه وتعالى، ولا يفنى ولا يعدم ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال.
فالحي: يدل عَلَى كمال الحياة، والقيوم يدل عَلَى كمال الغنى، ومن هذين الاسمين معاً نفهم أن جميع صفات الكمال ونعوت الجلال ترجع إليهما، ولهذا كانت آية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في حديث أبي بن كعب لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم:(يا أبا المنذر! أي آية أعظم في كتاب الله سبحانه وتعالى؟ فَقَالَ له: آية الكرسي. فَقَالَ له: ليهنك العلم أبا المنذر) وهذا دليل عَلَى علم أبي بن كعب رضي الله عنه حيث عرف أعظم آية في كتاب الله سبحانه وتعالى.
فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليها ترجع معانيها.
فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة من الصفات إلا لضعف الحياة، فمثلاً: ضعيف القدرة دليل عَلَى أن حياته غير كاملة، وكذلك ضعيف الإرادة، فهذا يدل عَلَى أن حياته غير كاملة، وهكذا كل صفة.
لكن الذي يتحقق فيه كمال الحياة يستلزم أن يكون لديه كمال القدرة، وكمال الإرادة، وكمال الحكمة، فترجع هذه الصفات جميعاً إليه سبحانه وتعالى، ويكفي غير الله أنه فانٍ وهالكٌ وميتٌ، والله سبحانه وتعالى هو الحي.
فغير الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون قيوماً، ولا يمكن أن يكون قَيَاماً؛ لأن غير الله محتاج مفتقر بذاته إِلَى الله سبحانه وتعالى لأنه لولا الله لما وجد، فهو مفتقر إِلَى الله في إيجاده وفي كل أمر من أموره.
فينبغي للمؤمن أن يتأمل في معاني هذه الاسمين، وأن يدعو الله سبحانه وتعالى بهما، وأن يتقرب إِلَى الله سبحانه وتعالى بمعرفة أسمائه وصفاته، ومنها هذان الاسمين:"الحي القيوم "، وهذه المعرفة هي التأمل والتفكر في عظمة الله المستلزمة للإخبات والخشوع والتذلل والرهبة والرغبة إِلَى الله.
وقال بعض الضُّلال: مادام أن هذا الاسم فيه خصائص عظيمة فنحن نجعله الاسم الذي يردد في غالب الأذكار عَلَى طريقتهم البدعية التي ورثوها عن قدماءالمجوس والهنود وأمم الشرك والضلال.
فتجدهم يقولون: الله حي، الله حي، الله حي، ويرددونها آلاف ومئات المرات، ويرقصون رقصاً شديداً، ويقولون: هذا من خواص هذا الاسم "الحي"، كما يروى عن يحي بن معاذ الرازي كما في ترجمته في الحلية أنه أنشد يقول:
دققنا الأرض بالرقص على غيب معانيك
ولا عيب عَلَى الرقص لعبد هائم فيك
وهذا دقنا الأرض إذا طفنا بواديك
1
إن حقائق اسم الله تَعَالَى ليست لمثل هذه التعبدات الضالة، وليس استخدامها أيضاً فيما يسمى بالرقى أو الحجب، وهو أن يكتب: يا حي يا قيوم، أو الحي عدة مرات، ويظن صاحبه أنه يتحقق بذلك الشفاء أو نحو ذلك، وإنما هي في استشعار عظمة الله تَعَالَى والخضوع والتذلل له وطاعته، ولهذا نجد أن أبا العلاء المعري - الشاعر الزنديق الذي اعترض حتى عَلَى أحكام الله يقول:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وأمثال ذلك من الضلالات أو الشركيات الموجودة في ديوانه.
وقال لما سمع أن هَؤُلاءِ القوم يجلسون ويجتمعون في المساجد، وتحضر لهم الموائد -تهدى لهم من الأمراء والملوك- فإذا أكلوا وشبعوا قاموا يرقصون ويقولون: حي حي، هو هو، إِلَى آخره لما بلغه هذا قال:
أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وأبو العلاء هذا الزنديق يطعن في الدين؛ لأنه يظن أن هَؤُلاءِ هم أهل الدين.
فأولى بهَؤُلاءِ أن يتأملوا ويتفكروا إذا كَانَ الزنادقة عرفوا أن محبة الله ليست بأن يملؤا بطونهم ويرقصوا له، فكيف بمن يدعون الولاية العظمى، أو القطبية، أو الدرجات العلى ومرتبة الإحسان كما يسمونها؟!
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[خالق بلا حاجة، رازق بلا مُؤنة] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاء [محمد:38] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14] وقال صلى الله عليه وسلم: من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) الحديث رواه مسلم. وقوله: بلا مؤنة: بلا ثقل وكلفة] اهـ.
الشرح:
إن الله تَعَالَى خالق بلا حاجة، وهو الذي خلق الخلق ولم يخلقهم لحاجة منه إليهم، لا لحاجة أن يعبدوه، ولا أن يرزقوه، ولا أن يطعموه سبحانه وتعالى، فهو الغني الغنى المطلق عنهم، كما سبق في قوله: القيوم، فقيوميته سبحانه وتعالى تستلزم غناه المطلق عن أن يخلق الخلق لحاجة، وإنما خلقهم لحكمة عظيمة -ليبتليهم، وليعبدوه- ثُمَّ جعل منهم فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير، وليصطفي منهم من يشاء سبحانه وتعالى، ويتخذهم أولياء وأحباباً، ويرفعهم في الدرجات العلى، وليذل ويهين من شاء منهم في معصيته، فيسكنهم في جهنم وساءت مصيراً.
فلله سبحانه وتعالى حِكم عظيمة في إيجاد الخلق، ليس منها أنه تَعَالَى محتاج أو مفتقر إِلَى وجود هذا الخلق، أو إِلَى أي مخلوق كائن من كان، كما بين ذلك في الحديث العظيم الذي رواه أبو ذر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، وقال الإمام أَحْمَد: هذا أشرف حديث حدثه أهل الشام: (يا عبادي إني حرمت الظلم عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا
…
إلى أن قَالَ: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) سُبْحانَ اللَّه تعالى! هو الغني سبحانه ونحن الفقراء إليه، فهو في غنى عن عبادتنا وتقوانا.
وفي المقابل: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا) سُبْحانَ اللَّه! فهو في غنى عن طاعتنا وعبادتنا ولا يضيره سبحانه وتعالى في شيء معصيتُنا أو كفرنا يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-16] فنحن الذين في وجودنا وحياتنا وكل أمورنا وفي كل طرفة عين فقراء إِلَى الله سبحانه وتعالى.
أما هو جل شأنه، فهو الغني الغنى المطلق التام، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14] سُبْحانَ اللَّه! هو يطعم المخلوقات جميعاً، وهو الذي يربيهم سبحانه وتعالى بالنعم ولا يُطعم سبحانه وتعالى، فهل يعبد المطعوم ويترك من يطعمه سبحانه وتعالى؟! ولهذا كما جَاءَ في الحديث القدسي (أن الله سبحانه وتعالى يقول: إني والإنس والجن لفي أمر عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي) هذا هو حال العالمين مع رَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى يخلق ويعبد سواه سُبْحانَ اللَّه وهذا من جهل الإِنسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] هكذا طبع الإِنسَان قُتِلَ الإِنسَانسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17] فمن جهل الجنس البشري وظلمه وكفره: أن الله هو الذي يرزقه، ومع ذلك فإنه يشكر ما سواه، ينظر إِلَى الأسباب التي أعطته الرزق وينسى الذي خلق الأسباب وهيئها وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] .
فمن اقتران الخالق مع الرازق أيضاً نفهم كمال الغنى لله سبحانه وتعالى وكمال افتقار المخلوقين إليه؛ فإنهم مخلوقون والله هو الذي خلقهمأَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] .
وقوله: " بلا مؤنة " يدل عليه ما جَاءَ في حديثأبي ذر هذا، من قوله سبحانه:(يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط -يعني الإبرة- إذا غمس في البحر) فهذا دليل عَلَى كمال غنى الله سبحانه وتعالى مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21] .
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً.
وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنَّار) وهو وإن كَانَ عرضاً، فالله تَعَالَى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح:(أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح عَلَى أقبح صورة) .
وورد في القرآن: (أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون) الحديث، أي: قراءة القارئ.
وورد في الأعمال: (أنها توضع في الميزان) ، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران:(أنهما يَوْمَ القِيَامَةِ يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) .
وفي الصحيح: (أن أعمال العباد تصعد إِلَى السماء) . وسيأتي الكلام عَلَى البعث والنشور إن شاء الله تعالى] اهـ.
الشرح:
قوله رحمه الله: [مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة] ، هذا استمرار للنعوت والصفات في حق الله تبارك وتعالى، فهو يحي ويميت سبحانه وتعالى من يشاء بلا مخافة، ولا يبالي متى أهلكه، وإنما جَاءَ في حق العبد الصالح المؤمن المتقرب إِلَى الله سبحانه وتعالى، أن الله تَعَالَى يقول كما في الحديث القدسي:(وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، هو يكره الموت وأنا أكره مساءته) أما غير ذلك فالله سبحانه وتعالى لا يبالي بأن يهلك أياً كَانَ من المخلوقين، وهو كذلك "باعث بلا مشقة" يبعثهم سبحانه تَعَالَى بلا مشقة.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: إن الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم من متكلمي الْمُسْلِمِينَ؛ فإنهم يقولون: الموت ليس شيئاً وجودياً، إنما هو شيء عدمي لا وجود له، فعدم الموت عندهم هو عدم الحياة.
لأن الله تَعَالَى يقول: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] خلق الموت وخلق الحياة يعني: أن هذا أمر وجودي مخلوق؛ لأن العدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، (أنه يؤتي بالموت يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنَّار) فيذبح الموت بهذا الشكل، حتى يستيقن كلٌ من هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ بالخلود، ويعلم أهل الجنة أنهم في نعيم ولا فناء ولا موت ولا خروج، ويعلم أهل النَّار أنهم في شقاء وعذاب أبدي؛ إلا من ورد في حقه الخروج من العصاة في شفاعة النبيين والصالحين، أو بتحنن الله سبحانه وتعالى عليهم من بعد ذلك.
فالموت إذن أمر وجودي، ولهذا يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، فَيَقُولُ: هل تعرفون هذا الكبش؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح.
ثُمَّ يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النَّار خلود فلا موت، ثُمَّ قرأ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] هذه رواية الإمام البُخَارِيّ رحمه الله للحديث، وله روايات أخرى.
وقد يُقَالُ: ولكن الموت عرض فكيف يوصف بأنه جسم؟
والجوهر عندهم: ما قام بذاته، والعرض: ما قام بغيره، فالإِنسَانُ جوهر، واللون لا يقوم بذاته فهو عرض، وهكذا الحياة والموت.
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى يقلب هذه الأعراض فتصير أعياناً، فمن ذلك: أن العمل الصالح يأتي صاحبه بصورة الشاب الحسن، والعمل القبيح يأتي في صورة الشاب القبيح، وذلك ضمن الحديث الطويل الذي رواه الإمام أَحْمَد فيالمسند في صفة موت المؤمن والكافر أو المنافق.
فمن صفات المؤمن: (أنه إذا وضع في قبره يأتيه شاب حسن فَيَقُولُ: من أنت؟ فوجهك الوجه يبشر بالخير، أو وجهك الوجه الحسن، ويستبشر بوجوده، فَيَقُولُ: أنا عملك الصالح، وأما المنافق أو الكافر -والعياذ بالله- فإنه يأتيه في أقبح صورة، فَيَقُولُ: من أنت؟ قبحك الله أو قاتلك الله فوجهك الوجه ينذر بالسوء، فَيَقُولُ: أنا عملك القبيح) فصور الله سبحانه وتعالى الأعمال التي كَانَ يعملها هَؤُلاءِ في صور محسوسة.
ومن ذلك أيضاً: ما ورد في القُرْآن أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة) والبطلة: هم السحرة؛ ولذلك من يقرأ سورة البقرة فإنه يعصم -بإذن الله سبحانه وتعالى وينجو من شر السحرة وأعمالهم، ثُمَّ قال صلى الله عليه وسلم:(تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يَوْمَ القِيَامَةِ، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) و (إن القُرْآن يلقى صاحبه يَوْمَ القِيَامَةِ حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فَيَقُولُ: ما أعرفك.
فَيَقُولُ: أنا صاحبك الذي أسهرت ليلك وإن كل تاجر وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة
…
إلى آخر الحديث) ، الشاهد في هذا، هو قوله:"إن القُرْآن يأتي في صوره الشاب الشاحب"، وفي الحديث الآخر:(إن البقرة وآل عمران يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) .
فهذا من أعمال الإِنسَان التي توضع في الميزان، وتصعد إِلَى الله سبحانه وتعالى مع أنها أعراض، لكي يُعرف أنه لا استدلال للجهمية القائلين بأن القُرْآن مخلوق بأمثال هَؤُلاءِ الآيات؛ لأن قرآتي مخلوقة وقرآتك مخلوقة، وأما القُرْآن الذي هو كلام الله فهو ليس بمخلوق، فالذي يأتي كل إنسان منا هو قرآته لا القُرْآن الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا مما أبطل به الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى استدلالالجهمية الذين قالوا: إن القُرْآن مخلوق.
وهذه الأعمال توزن يَوْمَ القِيَامَةِ في الموازين، كما ثبت ذلك وورد في أحاديث كثيرة صحيحة منها: حديث المفلس لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رَسُول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار -هذا العرف المادي البشري- فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: لكن المفلس من يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ بحسنات كالجبال، أو قال بصلاة وصيام وجهاد وحج ثُمَّ يأتي وقد ظلم هذا وسرق هذا وأخذ مال هذا -حين تنصب الموازين- فيؤخذ من حسناته فيعطى هَؤُلاءِ الذين ظلمهم وضربهم من حسناته، فإذا نفذت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فيلقى في النَّار) .
وكما في حديث الرجل الذي يقول الله سبحانه وتعالى له يَوْمَ القِيَامَةِ بعد أن توزن جميع أعماله، وإذا بحسناته طائشة، وإذا بسيئاته عظيمة وثقيلة، فتجعل سيئاته في تسعة وتسعين سجلاً، فيقول له الرب تبارك وتعالى:(هل بقي لك من شيء)، فَيَقُولُ: لا يا رب ما بقي شيء، فيقول الله:(ولكن لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، بقي لك هذه البطاقة)، فيرى بطاقة مكتوب فيها:"لا إله إلا الله" فَيَقُولُ: يا رب! وما تصنع هذه البطاقة بتسعة وتسعين سجلاً؟! فتوضع البطاقة فترجح عَلَى هذه السجلات جميعاً) التوحيد يرجح بجميع السجلات، فهذا كانت عنده حقيقة التوحيد، ولكنه كَانَ يرتكب ويفعل من الآثام ما الله سبحانه وتعالى به عليم، وقد أحصاه عليه وعده، ثُمَّ أراه إياه، ثُمَّ تجاوز عليه بفضل تحقيقه للتوحيد.
وسنتحدث عن الميزان في آخر الكتاب -إن شاء الله- ضمن الحديث عن البعث، وهناك نبين الرد عَلَى مثل هذه الشبه، وهي قول الفلاسفة والمعتزلة ومن وافقهم بأن الأعمال أعراض، والأعراض لا توزن، وانكروا لذلك الميزان، مع أن الله سبحانه وتعالى قَالَ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105] .
من المشكلات التاريخية التي أثيرت عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بشكل عام وعلى شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمة الله بشكل خاص هذه المسألة: حتى أن كثيراً من النَّاس لا يزالون يعادون شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ويطعنون فيه، ويسيئون الظن فيه لا لذاته، وإنما للعقيدة التي يدعو إليها، والمبدأ الذي أحياه.
ومن أعظم المسائل التي يذكرونها -كمثال عَلَى أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ خارج عن مذهب السلف وغيره، وأنه مبتدع، ويأتي بأفكار لم يسبقه إليها أحد، ويخرق الإجماع- مسألة: القول " بجواز حوادث لا أول لها " حتى الشيخ شعيب مع أنه مهتم بالسنة والحديث؛ إلا أنه في هذا الموضوع -في مكان غير محتاج إِلَى التعليق نهائياً- أقحم هذه المسألة، وأخذ يتكلم في شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ بالكلام الذي نرده ونبين بطلانه وخطأه -بإذن الله تعالى- فالقضية أصبحت كأنها مسألة تشفي عَلَى شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، مع أن ما كتبه شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ في هذه القضية تعجز عنه جميع العقول الفلسفية، فمن استطاع أن يفهمه فقد حاز عَلَى فضل كبير أما نقضه فإنه من المُحال.
وقد ذكر الفخر الرازي أنه استقصى أعظم الأدلة في هذه المسألة في كتاب له اسمه المباحث المشرقية ذكر فيه عشرة براهين، ويقول: هذه هذه البراهين العشرة ليس بعدهها أي برهان ولا دليل عَلَى بطلان حوادث لا أول لها، وأن الحوادث كانت مسبوقة بالعدم المحض الكلي.
وقد نقض شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في منهاج السنة هذه البراهين العشرة برهاناً برهاناً، وبيّن بطلانها وخطأها، وأضاف عليها، فنقض كلام الرافضي وغيره.
واستطرد في ذكركل ما في هذه المسألة من الفلاسفة المتقدمين أمثال أرسطو ومن شايعه وابن سينا، ومن كَانَ عَلَى منهجهم، ومن خالفهم في هذه المسألة، كابن رشد وغيره، فجاء عَلَى جميع أقوالهم في هذه المسألة وفندها جميعاً.
فقضية بهذا العمق والطول، ليس من البساطة أن يأتي الإِنسَان فيجازف بالطعن في شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أو يتهمه وينتقده، فلا نرضى لمن كَانَ سنياً أن يجازف بالطعن والرد عَلَى أي مبتدع مجازفة بدون علم، مع أن هذا سني يرد عَلَى مبتدع، فكيف بإمام من أئمة السنة؟! ثُمَّ نقول بأنه خارج عن الإجماع في هذه المسألة، أو أنه موافق للكرامية، أو أنه موافق للصائبة الحرانية.
وهذا مما يدل عَلَى أن المسألة ينبغي لنا أن نفهمها بما يقدره الله من الفهم، ونحاول أن نستوضح ونعرف الخلفية التي وراءها، وما الذي يمكن أن يجر من لوازم؟
قَالَ الطّّحاويُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كَانَ بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها، لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كَانَ متصفاً بضده.
ولا يرد عَلَى هذا، صفات الفعل، والصفات الاختيارية، ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء، والإماتة، والقبض، والبسط، والطي، والاستواء، والإتيان، والمجيء، والنزول، والغضب، والرضا ونحو ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] .
كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت، كما في حديث الشَّفَاعَةِ:(إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) .
لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن. ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس، لا يقَالَ: إنه حدث له الكلام، ولو كَانَ غير متكلم، لآفة كالصغر والخرس، ثُمَّ تكلم يقَالَ: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حالة الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته الكتابة] اهـ.
الشرح:
إن الله تبارك وتعالى متصف بصفات الكمال قبل أن يخلق الخلق، وكذلك لا تزال هذه الصفات له بعد خلق الخلق، وهي أزلية وأبدية؛ لأن له الكمال المطلق سبحانه وتعالى، وهذا الكمال لا يجوز أن يقَالَ: إنه حدث له بعد أن لم يكن لديه؛ لأن عدم الكمال نقص، فلا يقَالَ: إنه موصوفٌ بالنقص، ثُمَّ حدث له الكمال، فالله لم يزل متصفاً بصفات الكمال -سواء صفات الذات أو صفات الفعل- ولا يجوز أن يُعتقد أن الله وُصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها.
ولا ترد عَلَى هذه القاعدة صفات الفعل والاختيار.
2-
أنواع الصفات:
والصفات عَلَى نوعين:
1ـ صفات ذاتية.
2ـ صفات فعلية.
فالصفات الذاتية
هي الصفات الملازمة لذاته سبحانه وتعالى، التي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى مثل: الحياة، والقيومية، والقدرة، والسمع، والبصر وأمثال ذلك.
وأما الصفات الفعلية
فهي الصفات المتعلقة بالإرادة، فهو يتكلم متى يشاء -مثلاً- ويغضب ويرضى، فهذه صفات فعل يفعلها سبحانه وتعالى متى شاء بإرادته، لكنها ليست ملازمة لذاته، ولا يعني هذا أنه تحصل له هذه الصفة بعد أن خلق الكون، ولم يكن متصفاً بها من قبل.
لكن قد يقال -مثلاً- نزوله إِلَى السماء الدنيا، كَانَ بعد أن خلق السماء الدنيا، أو إتيانه لفصل القضاء يَوْمَ القِيَامَةِ؛ فإنه كَانَ بعد أن خلق المخلوقين وكذلك بعد أن تقوم الساعة، فكأن هذه الصفات وُصف بها الله سبحانه وتعالى بعد، واستفاد هذه الصفة من وجود المخلوقات.
والجواب أن نقول: إن هذه الصفات الاختيارية وإن كنا لا ندرك حقيقتها -كما هو معلوم، كما قال الإمام مالك في ذلك- لكنها تحدث في وقت دون وقت، ولا ينفي ذلك أن الله سبحانه وتعالى متصف بالفعل وبالقوة.
والفرق بين القوة والفعل: أن الإِنسَان منا إذا كَانَ يجيد القرءاة أو الكتابة نقول: هذا الإِنسَان كاتب، ونصفه بأنه كاتب، فهذا يسمى:"كاتب بالقوة"، يعني: أن هذه الصفة والملكة موجودة فيه، فيستطيع أن يكتب، فإذا أمسك القلم وكتب سُمي كاتباً بالفعل.
فلا شك عندنا أن صفات الله سبحانه وتعالى الاختيارية يتصف بها الله بعد أن لم يكن متصفاً بها من حيث وقوعها في الفعل، لا من حيث أصل الاتصاف بها، والدليل عَلَى أن هذه الصفات الاختيارية أو الفعلية تكون في وقت دون وقت قول النبي صلى الله عليه وسلم:{إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله} ، وحديث النزول نفسه؛ {ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر} ، بخلاف غيره من الأوقات، وهذه الأمور تحدث في وقت دون وقت.
وكذلك رضا الله سبحانه وتعالى عن الإِنسَان حال الطاعة، ثُمَّ غضبه عليه حال المعصية، فهذا الشيء يحدث في وقت دون وقت، والقول بأن هذا يستلزم حلول الحوادث بالله سبحانه وتعالى كَانَ مدخل نفاة الصفات حين قالوا: إن -الله سبحانه وتعالى يتنزه عن الزمان، والمكان، والانتقال، والتغير، وفي الحقيقة كل كلمة من هذه الكلمات تحتوى في ضمنها هدم لصفة من صفات الله أو أكثر، فقولهم:"يتنزه عن المكان " معناه: لا تقل أين الله؟
لأنهم يظنون أنك تثبت له مكاناً يحويه ويحيط به، وقولهم:"يتنزه عن الانتقال" معناه: إبطال حديث النزول، والإتيان يَوْمَ القِيَامَةِ.
وقولهم:"يتنزه عن التغير" معناه: لا يغضب ولا يرضى؛ لأن الغضب والرضا فيه تغير وأمثال ذلك من الصفات، كالخلق، والتصوير، والإماتة، والقبض، والبسط، والاستواء، والإتيان، والمجيء، والنزول، والغضب، والرضا. ويقولون: القواطع العقلية أو البراهين العقلية التي تدل عَلَى نفي التغير عن الله سبحانه وتعالى أقوى في الاستدلال من ظواهر بعض الآيات، أو من الأحاديث التي هي آحادية وإن كانت صحيحة.
وهذه الصفات وإن كانت تحدث في وقت دون وقت، فإن الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، فالله سبحانه وتعالى كلم موسى، وتكلم بالقرآن، وليس هذا من حدوث شيء بعد أن لم يكن مطلقاً، وإنما يقَالَ: هذا في الذي كَانَ أخرساً مريضاً، ثُمَّ عولج فتكلم، أو طفل بلغ مرحلة من العمر لم يكن ينطق ثُمَّ تكلم، فهذا الذي حدث له الكلام بعد أن لم يكن؛ لكن من كَانَ ساكتاً ثُمَّ تكلم فلا نقول: حدث له الكلام، وإنما نقول في حقه: تكلم فقط.
فالله سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً كما يشاء بما يشاء سبحانه وتعالى، ومن كلامه: ما خاطب به موسى وآدم، وما أنزله من الكتب.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وحلول الحوادث بالرب تعالى، المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال، فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضي لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل.
وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، عَلَى ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي، ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل، لم ينقطع معه] اهـ.
الشرح:
المثال الأول: حلول الحوادث بالله.
لا شك أن استخدام واستعمال الألفاظ الشرعية الصحيحة مثل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] يغنينا في التنزيه عن كل ما يقولون، فإذا أريد بنفي الحوادث بالله سبحانه وتعالى أنه لا يحل به شيء من مخلوقاته؛ لأن الحوادث تطلق عَلَى المخلوقات، فالله تَعَالَى يتنزه أن يحل به شيء من مخلوقاته، فنوافقكم عليه، وهو كلام صحيح؛ لكن لا نجعله من لوازم صفات الله التي نصفه بها، بل عندما نقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ونعلم أن ذاته ليست كالذوات، وأنه سبحانه وتعالى بائن من خلقه، يغنينا هذا عن القول المجمل الذي فيه احتمال حق وباطل.
وإن كنتم تريدون بنفي حلول الحوادث فيه نفي الصفات الاختيارية فهذا باطل، فلا نسلم لهم، وإنما نفصل القول، فننفي من جهة ونثبت من جهة. .
وهناك معركة تاريخية قديمة بدأها أعداء شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ في حياته منهم: الإمام السبكي رحمه الله، الذي رد عَلَى شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في رده عَلَى الرافضي بالأبيات المعروفة -التي ذكرها طابع كتاب منهاج السنة - ومن جملتها أن ابْن تَيْمِيَّةَ يقول: بحوادث لا أول لها، وأن هذا الكلام يدل عَلَى أنه يقول: إن الحوادث تحل بالله سبحانه وتعالى.
والشيخ الأرنؤوط لم يفهم الفصل بين القضيتين، وكأنه كَانَ في النفس شيء، فمجرد أن جاءت فرصة انتهزها، فأخذ يعلق هذا التعليق، وسنقرأ هذا التعليق، وسنبين ما فيه من الخطأ، وليس هو بياناً لخطأ رجل، وإنما هو بيان لأخطاء كثير من النَّاس الذين يشنعون عَلَى شَيْخ الإِسْلامِ زوراً وظلماً.
يقول الشيخ الأرنؤوط: "جمهور المتكلمين من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وفلاسفة، اتفقوا عَلَى منع قيام الحوادث بذاته تعالى، وجوز قيامها بذاته تَعَالَى الكرامية، ففرقوا بين الحادث والمحدث.
فالأول عندهم: هو ما يقوم بذاته تَعَالَى من الأمور المتعلقة بمشيئته واختياره.
وأما الثاني: فهو ما يخلقه عز وجل منفصلاً عنه، وقد تبعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في تجويز قيام الحوادث بالذات، والمؤلف هنا يختصر كلامه المذكور في منهاج السنة وقد غلا رحمه الله في مناصرة هذا المذهب والدفاع عنه ضد مخالفيه من المتكلمين والفلاسفة، وادعى أنه هو مذهب السلف مستدلاً بقول الإمام أَحْمَد رحمه الله وغيره:[لم يزل الله متكلماً إذا شاء] ، لأنه إذا كَانَ كلامه تَعَالَى -وهو صفه قائمة به- متعلقاً بمشيئته واختياره، دل ذلك عَلَى جواز قيام الحوادث بذاته؛ لأن ما يتعلق بالمشيئة والاختيار لا يكون إلا حادثاً، ثُمَّ يقول: وقد انتهى به القول إِلَى أن كلام الله تَعَالَى قديم الجنس حادث الأفراد، وكذلك فعله وإرادته ونحو ذلك من الصفات غير اللازمة للذات، وبما أن القول بذلك يستلزم التسلسل، فقد جوزه في الماضي والمستقبل جميعاً، وادعى أن مثل هذا التسلسل ليس ممتنعاً.
ثُمَّ أخذ يرد عليه، يقول: وغير واحد من العلماء -ولم يذكر أسماء- يعدون هذا الذي انتهى إليه شَيْخ الإِسْلامِ من جملة ما ندَّ فيه عن الصواب، وينكرون عليه، ويقولون: كيف يقول بقدم جنس الصفات والأفعال مع حدوث آحادها؟ وهل الجنس شيء آخر غير الأفراد المجتمعة؟ وهل يتركب الكلي إلا من جزئياته؟ فإذا كَانَ كل جزئي من جزئياته حادثاً، فكيف يكون الكلي قديماً؟
وكان عَلَى المُصنِّفُ رحمه الله -كما يقولالأرنؤوط - أن يتجنب الخوض في هذه المسألة، ويكف عنها ويكتفي بما قاله الإمام أَحْمَد وغيره من السلف رحمهم الله في ذلك".
وهذه النصيحة ليت الشيخ الأرنؤوط لم يذكرها، بل كَانَ عليه هو أن يتجنب الخوض في هذه المسألة؛ لأن كلام المُصنِّفُ هنا ليس فيه اعتراض ولا إشكال، فالمصنف يشرح متناً معيناً؛ فإن كَانَ في هذا المتن خطأ فإنه لا بد أن يشرحه، ولا يكون هذا خوضاً؛ لأن هذا لابد منه سواء كَانَ مقراً أو غير مقرٍ، فمن لوازم كونه شارحاً أن يشرح هذا الكلام ويبين ما فيه، لكن المخرِّج والمعلق عَلَى الأحاديث لماذا يأتي بهذه المسألة، ثُمَّ يتمنى من غيره عدم الخوض؟
فقول الشيخ شعيب: إن الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة. والفلاسفة اتفقوا عَلَى منع قيام الحوادث بذاته تَعَالَى] لا حجة فيه؛ لأنه مهما اجتمع هَؤُلاءِ عَلَى أي شيء فليس اجتماعهم بحجة في دين الله عز وجل، إنما الحجة هي فيما كَانَ من كتاب الله أو سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أو مذهب السلف، ومن الفخر لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أن يقَالَ: إنه خالف ما اتفق عليه الأشاعرة والماتريدية والفلاسفة والمعتزلة.
ثُمَّ يقول: [وجوز قيامها بذاته تَعَالَى الكرامية] ، وهي فرقة من الفرق المبتدعة وأكبر ما تظهر بدعتها في مسألة الإيمان، وشَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ قد رد عَلَى الكرامية في مواضع كثيرة جداً فهو -ولله الحمد- متبع لمذهب السلف، وقد توجد مسائل عند الكرامية والمعتزلة والأشاعرة وافقوا فيها أهل السنة، حتى الرافضة والفلاسفة في بعض القضايا يوافقون شيئاً مما جاء به دين الإسلام، فهل يعني هذا أننا أخذنا منهم؟ لكن يريد بعض النَّاس تشويه ما يدعو إليه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ فقَالَ: إن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في عقيدته إنما ينقلها عن الكرامية والصائبة الحرانية، والذي تولى كبر هذا القول من المعاصرين هو الكوثري، ثُمَّ تبعه الدكتور علي سامي النشار رحمه الله، وفي آخر أمره تبين له الحق -إن شاء الله- وجمع مجموعة رسائل وسماها عقائد السلف، فنرجو أن تكون هذه توبة له من كلام خطير وقع في كتابه: نشأه الفكر الفلسفي في الإسلام وقد كَانَ أكبر أستاذ للعقيدة فيمصر، وتتلمذ عليه مجموعة كبيرة من الأساتذة في العقيدة مثل الدكتور مصطفى حلمي، والدكتور عمار طالبي، والدكتور نصار، والدكتورة فوقية حسين، والدكتور سهير مختار، سلسة كبيرة جداً من المؤلفين في العقيدة تتلمذوا عَلَى الدكتور علي سامي النشار، وهذا الدكتور اعتمد عَلَى الكوثري كثيراً، وكان من هَؤُلاءِ: الشيخ مُحَمَّد خليل هراس رحمه الله وكان عَلَى هذا القول حتى جَاءَ إِلَى المملكة، واتصل بأهل السنة وتبين له خلاف ذلك، وكتب كتابه ابْن تَيْمِيَّةَ السلفي ورد عليهم في هذه المسألة.
فالقضية إذاً ليست منقولة عن الكرامية، وللعلم؛ فإن الكرامية فرقة منقرضة، بل حتى على أيام شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن لها ذلك الوجود، وإنما كَانَ لها وجود أيام الفخر الرازي في جهة بلاد ما وراء النهر، والفخر الرازي هو الإمام المتأخر للمذهب الأشعري الذي يعتبرونه أعظم فلاسفة هذا المذهب، عَلَى ما فيهم من تناقضات، وله ردود كثيرة جداً عَلَى الكرامية، وابْن تَيْمِيَّةَ ما هو إلا كرامياً، -على حد زعمه- فهو من الفرقة التي سبقللرازي أن هزمها وانتصر عليها.
فكأنهم يقولون: ابْن تَيْمِيَّةَ ما زاد عَلَى أن ابتدع بدعة جديدة أخذها من مذهب الكرامية، والكرامية قد كفينا أمرها بالإمام الفخر الرازي الذي من كلامه ومن قواعده استنبط كتاب المواقف، الذي لا يزال هو إِلَى الآن عمدة مذهب الأشاعرة، والمقرر الذي يدرس في الكليات المعتبرة الآن في معظم العالم الإسلامي تقريباً.
وأما قوله: "إنه غلا رحمه الله في مناصرة هذا المذهب والدفاع عنه ضد مخالفيه من المتكلمين والفلاسفة، فنعم الموقف موقف الرجل الذي يناصر السنة ضد شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في هذا، وإنما ذكر ما يراه هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بل لم يقل هذا مذهب مجمع عليه، بل قَالَ: هذا مذهب أكثر أهل الحديث.
ثُمَّ أخذ يبين الرد ويتفلسف ويقول: "إنه انتهى به القول إِلَى أن كلام الله تَعَالَى قديم الجنس حادث الأفراد وكذلك فعله وإرادته، وبما أن القول بذلك يستلزم التسلسل، فقد جوزه في الماضي والمستقبل جميعاً
…
إِلَى آخر كلامه".
نقول: ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله في منهاج السنة: أن التسلسل والدور عَلَى نوعين:
باطل، وصحيح، فإما أن يكون في العلل والمعلولات -يعني في الفاعلين والمفعولات، وإما أن يكون في اسم الآثار والحادثات.
والتسلسل الباطل: هو ما كَانَ في العلل وفي المعولات- أي: في الفاعلين والمفعولات، مثل ما جَاءَ في ذلك الحديث الصحيح: {يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا، من خلق كذا حتى يقول: من خلق الله؟) يعني أنت تقول: هذا خلقه مخلوق، والمخلوق خلقه مخلوق، هذا تسلسل باطل؛ فلا بد أن ينتهي إِلَى أنه خلقه خالق.
وأما التسلسل بالآثار؛ فهذا غير باطل، فهو أن يكون حادث إثر حادث، وحادث إثر حادث؛ لأنها آثار من آثار الله سبحانه وتعالى؛ ولأنه سبحانه وتعالى لم يزل خالقاً أزلاً وأبداً سبحانه وتعالى، فهو يخلق شيئاً، ثُمَّ يخلق بعده شيئاً ثُمَّ يخلق بعده شيئاً إِلَى ما لا نهاية، لما لا بداية له، ولا نهاية له، فلا يمتنع ذلك ما دمنا أننا قلنا: إن صفة الله عز وجل أزلية لا بداية لها، فإن آثارها ولوازمها التي تستلزمها أيضاً لا بداية لها.
لكن هل يعني هذا أن هناك مخلوقاً أزلياً لا أول لوجوده؟ يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: لا، ليس هناك مخلوق أزلي لا أول لوجوده، لكن هناك مخلوق يحدث بعده مخلوق، ويحدث بعده مخلوق، أو مخلوق حدث قبله مخلوق، وهذا حدث قبله مخلوق. إِلَى آخره، فهذا تسلسل بالآثار، التي هي آثار الصفة التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى فالحوادث لا أول لها من حيث النوع والجنس، لكن الأفراد حادثة، فكل مخلوق بذاته هو حادث، لكن الجنس قديم -بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى هو خالق أزلاً، وكونه خالقاً ومريداً ومتكلماً، لأنه قد خلق أشياء وأراد أشياء، وهذه الأشياء ليست أزلية بذاتها، لكن لما كَانَ لا أول لصفة من صفاته، فإن آثارها ولوازمها مما لا أول له كذلك.
ولهذا يرد علينا كما سياتي إن شاء الله تَعَالَى حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- المعروف في وفد اليمن، لما جاءوا إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رَسُول الله! جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، أو عن هذا الأمر كيف كان؟ "فالله سبحانه وتعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم استأنف خلق المخلوقات بعد أن لم يكن معه شيء، وقد كفى ابْن تَيْمِيَّةَ الرد عَلَى هذه المسألة بأن شرح رسالة مستقلة طبعت في رسائل المسائل، وفي مجموع الفتاوى في حديث عمران بن حصين، وذكر فيه الروايات الثلاث:
(ولم يكن قبله شيء) .
(ولم يكن غيره شيء) .
(ولم يكن معه شيء) .
وذكر أن الذي ترجح من هذه الروايات هي رواية (قبله) !
لأنها تتفق مع قول الله: هُوَ الْأَوَّلُ..، وتتفق مع الحديث الصحيح أيضاً "أنت الأول فليس قبلك شيء".
وكذلك الدور نوعان:
1-
دور قبلي.
2-
ودور اقتراني، أو معي من المعية والاقتران.
فالدور القبلي: مثل قولك: لا يكون زيد إلا بعد عمرو، ولا يكون عمرو إلا بعد زيد، بمعنى توقف كل واحد من الشيئين عَلَى الآخر، فهذا باطل. فمثلاً نقول: أنا لا أقدر أن آتيك إلا بسيارة، وما أقدر أن أحصل عَلَى سيارة إلا عندما آتيك.
وأما الدور الاقتراني: فهو صحيح، مثل قولك: أنا لا أقدر أن آتيك إلا مع محمد، ولا يقدر أن يأتيك مُحَمَّد إلا معي، فهذا صحيح؛ فإن اقتراني هذا يعني أن نجيء مع بعض أو نقعد مع بعض، ويُمثل هذا بالأبوة والبنوة، فلا تتصور الأبوة إلا بالنبوة، ولا بنوة إلا بالأبوة، فعندما نقول: هذا الشيء فوق، فإنه لا تتصور الفوقية إلا بالتحتية، ولا تحتية إلا بالفوقية، فكلمة فوق تستلزم بذاتها وجود تحت، وكذلك كلمة أب.
وأما التسلسل في المستقبل: فإنه متفق عليه عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وأهل الملل، ما عدا الجهمية الذين قالوا: إن الجنة والنَّار تفنيان -كما سيأتي إن شاء الله- فمثلما قيل: إن التسلسل لا يمتنع في المستقبل فَلِمَ يمتنع في الماضي، وكلها متعلقة بإيجاد الله لها، وبإبقاء الله لها؟!
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وكذلك مسألة الصفة: هل هي زائدة عَلَى الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير، فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.
ولهذا كَانَ أئمة السنة -رحمهم الله تعالى- لا يطلقون عَلَى صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره، لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذ كَانَ لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل.
فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا غير صحيح.
وإن أريد به أن الصفات زائدة عَلَى الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة، كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال. ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كَانَ الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً، ويتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.
وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد، والتحقيق أن يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله فإن الثاني باطل لأن مسمى الله يدخل فيه صفاته بخلاف مسمى الذات، فإنه لا يدخل فيه الصفات، لأن المراد أن الصفات زائدة عَلَى ما أثبته المثبتون من الذات والله تَعَالَى هو الذات الموصوفه بصفاته اللازمة ولهذا قال الشيخ رحمه الله[لا زال بصفاته] ولم يقل "لازال وصفاته" لأن العطف يؤذن بالمغايرة وكذلك الإمامأَحْمَد رضي الله عنه في مناظرته الجهمية لا نقول الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه، وقدرته ونوره، هو إله واحد سبحانه وتعالى، فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.
وإذا قلت: أعوذ بعزة الله فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى، ولم أعذ بغير الله، وهذا المعنى يفهم من لفظ "الذات"، فإن "ذات" في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم إِلَى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى صاحبة كذا.
تأنيث ذو، هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كَانَ الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات، كما يفرض المحال.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) . ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله.
وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات) ] اهـ.
الشرح:
المثال الثاني: هل الصفة زائدة عَلَى الذات أم لا؟
أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لم يستخدموا هذه الفلسفات ولم يتساءلوا: هل صفات الله هي ذاته أو ليست بذاته؟ لأن الله سبحانه وتعالى طهر عقولهم، وزكاها عن الخوض في مثل هذه الأمور الجدلية الفلسفية، التي هي في الحقيقة منقولة عن قدامى اليونان الذين تقعروا في أمثال هذه المسائل، لكن لما اضطر أهل السنة أن يردوا عليهم ويبينوا لهم خاضوا في هذا المجال.
فنقول: ماذا تقصدون بقولكم الصفة زائدة عن الذات أو هي غير الذات؟
إن أردتم أن هناك ذات مجردة من الصفات فهذا مستحيل ولا يوجد في الخارج، وإن أردتم أن هناك ذاتاً، وهذه الذات لها صفات موصوفة بها من باب التفرقة الذهنية فقط، فهذا المعنى صحيح.
فلا يوجد في خارج الذهن شيء لا صفة له مطلقاً؛ لأن صفات الشيء ملازمة لذاته، وأقل شيء صفة الوجود، فكونه موجود، فلا بد أن له من صفة الوجود، وهذه الصفة لا يجوز أن تنفك عنه إلا إذا عدم الشيء، فهذا هو التفصيل.
ومن أمثلة ذلك عندما يقول الإِنسَان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يستعيذ بالله، وعندما يقول: أعوذ بعزة الله، أو أعوذ بقدرة الله من شر ما أجد وأحاذر
…
فالعوذ بعزة الله وقدرته عوذ بالله؛ لأن القدرة أو العزة هي عين الذات.
فإذا استعذنا بصفات الله دل ذلك عَلَى تلازم صفات الله لذاته، فمن استعاذ بشيء من صفات الله فقد استعاذ بالله سبحانه وتعالى فلا انفكاك بينهما.
وكذلك: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) .
و (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك) .
وكذلك (أعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) ، فمن استعاذ بشيء من صفات الله، فإنما يستعيذ بالله سبحانه وتعالى، ولذلك يجوز الحلف بصفات الله سبحانه وتعالى فَيَقُولُ: وعزة الله، وقدرة الله، وهكذا
…
فإن هذا يدل عَلَى أن الصفات -علاقتها بالذات- خارج الذهن لا تنفك عن الذات، وأما في داخل الذهن، فالذهن يتصور التقسيم النظري، بأن هذا ذات وهذه صفات.
ويستدل عَلَى ذلك بالمعنى اللغوي، فكلمة "ذات" في لغة العرب هي: تأنيث لـ"ذو"، فعندما نقول: ذو المال، أو ذات الولد، أو ذو السلطان -أي: صاحب السلطان، ونقول ذات المال، أو ذات الولد، أو ذات كذا- بمعنى صاحبة كذا، فكلمة "ذات" في أصل اللغة هي: تأنيث لكلمة "ذو"، وهذه من الكلمات التي لا تستعمل إلا مضافة، فلا يمكن أن تستغني عن الإضافة، بل لا بد أن يُذكر بعدها مضاف إليه، فكيف يُقال إذاً بالتفريق بين الذات والصفات، مع أنها في أصل اللغة لا بد أن توصف بنفسها؟! فتقتضي بذاتها ولفظها أن لها موصوفا مضافاً.
وقد مر بنا أن العقل والذهن يتصور أشياء هو يتخيلها، مع أنه لا حقيقة ولا وجود لها في الواقع الخارجي بإطلاق -فمثلاً- يقولون إن الشيء قد يكون جائزاً عقلاً، لكنه مستحيلاً عادة، فالشاعر إذا ذكر في قصيدته شيئاً مستحيلاً عادة، لكنه جائز عقلاً، كَانَ هذا من الأمر الممدوح الذي يدل عَلَى أن الشاعر لديه شاعرية عظيمة، كقول المعري:
فلولا الغمد يمسكه لسالت يذيب منه كل عظم فلولاً
أي لو أن الغمد مسك السيف لسال ولذاب، يعني: من شدة دقة السيف، مبالغة في وصف السيف بأنه حاد دقيق، وما عُلم أن سيفاً ذاب، فهذا مستحيل ولا يقع، لكن العقل يجوز ذلك.
فالعقل يجوز أن المعادن تذوب، فلذلك يقولون: هذا ممدوح وليس عليه غبار.
لكن قول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق
قالوا عنه: هذا لا يجوز وهو خطأ، لأن كلامأبي نواس مستحيل عقلاً وعادة، فالنطف التي لم تخلق تخاف من الخليفة؟! هذا لا يمكن عقلاً ولا عادة.
الشاهد: أنهم يوافقون أن الذهن قد يتصور أشياء في الذهن فقط، لكنها ليست موجودة في الواقع، ومن ذلك قولهم: بأن الصفة هل هي عين للذات أو غير الذات؟
وقال بعض السلف قَالَ: نَحْنُ ننفي أن الصفة لا هي عين الموصوف ولا هي غيره، فننفي الاثنين، فليست الصفة هي عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن، بل هي شيء آخر، وكذا ليست غير الموصوف؛ لأنها متعلقة به، فهي وإياه كالشيء الواحد.
فالاصطلاحات المجملة لا نستخدمها ولا نذكرها، ونعتبرها بدعية، أما وقد ذكرها غيرنا، فنبين ونفصل ما فيها من الحق والباطل، فالوجه الصحيح لا ننكره لمجرد أن اللفظة مجملة، واللفظ الباطل ننفيه، ولكن لا ننفي الكلمة كلها بإطلاق، وهذا من الإنصاف؛ لأن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد- هو المذهب الوحيد الذي يقوم عَلَى الاتباع، لا عَلَى الحقد والعدواة، ولا عَلَى ردود الفعل، ولا هو موجه في الأصل ضد أحد، وإنما هو اتباع لما جَاءَ به الدليل، ومن جَاءَ بأي كلمة -وإن كَانَ أرسطو وأفلاطون - نقول: الكلام الذي قلته في هذه المسألة فيه خطأ وصواب، مع أننا نقول -ونحن واثقون- لا نحتاج إِلَى هَؤُلاءِ النَّاس مطلقاً، لا فلاسفة ولا متكلمين.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره؟ وطالما غلط كثير من النَّاس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه: فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك، فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله: اسم عربي، والرحمن: اسم عربي، والرحمن من أسماء الله تَعَالَى ونحو ذلك، فالاسم هاهنا للمسمى، ولا يُقال غيره، لما في لفظ الغير من إجمال: فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كَانَ ولا اسم له، حتى خلق لنفسه أسماءً، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى] اهـ.
الشرح:
المثال الثالث: هل الاسم هو المسمى أو هو غيره؟ وهذا قريب من المثال السابق:
قال الطبري رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وهذه المسألة نحمد الله أنه عافانا منها، ولم يخض فيها أحد ممن قبلنا، ولا تعرض لها السلف لأنها من الخوض الباطل.
أما وقد قيلت، فنقول كما قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: ما المراد بالاسم؟ وما المراد بالغيرية -بكونه غيره-؟ لأن كلمة "غيره" تطلق عَلَى ضده، كما نقول: فلان غير الشيء، فمعناه: مباين له وضده، وتطلق عَلَى ما ينفك عنه، فنقول: لا نقول الاسم غير المسمى، ولا نقول الاسم هو المسمى، لأن لفظ الجلالة:"الله" قد يراد به الاسم، وقد يراد به المسمى، فإذا قلنا: سمع الله لمن حمده، أو أي شيء ننسبه إِلَى الله، فإن المراد به المسمى، أما إذا قلنا: الله مبتدأ، فالمقصود به لفظ الجلالة الاسم لا المسمى.
وهذه الفلسفات والمماحكات التي أطال فيها أُولَئِكَ ويمهدون بها لأشياء أخرى، فقد يريدون أن الله سبحانه وتعالى كَانَ ولا اسم له، ثُمَّ خلق لنفسه أسماء، أو سماه خلقه بأسماء، أو بعد أن خلق الخلق استفاد أسماء، فهذه اللوازم باطلة.
وأصل القضية هو ما سبق معنا من قول الفلاسفة: الوجود المطلق الذي لا صفة له.
ونعود إِلَى لب الموضوع وهو مسألة الحوادث التي لا أول لها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[والشيخ رحمه الله أشار بقوله: [مازال بصفاته قديماً قبل خلقه
…
] إِلَى آخر كلامه إِلَى الرد عَلَى المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تَعَالَى صار قادراً عَلَى الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه، لكونه صار الفعل والكلام ممكنا بعد أن كَانَ ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي! وعلى ابن كُلاب والأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكنا له بعد أن كَانَ ممتنعاً منه. وأما الكلام عندهم، فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته.
وأصل هذا الكلام من الجهمية، فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ، لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته، بل يمتنع أن يكون قادراً عَلَى ذلك، لأن القدرة عَلَى الممتنع ممتنعة!
وهذا فاسد، فإنه يدل عَلَى امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً، فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.
قالت الجهمية ومن وافقهم: نَحْنُ لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها، ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث.
فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقَالَ: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكنا، بعد أن لم يكن ممكنا وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إِلَى الإمكان من غير حدوث شيء، ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث، أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الأحداث، أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إِلَى الإمكان، هو يصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كَانَ ممتنعاً من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل.
وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً! وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه! فإنه يعقل كون الحادث ممكنا، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً، فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه] اهـ.
الشرح:
هذا المقطع ملخص من أوائل منهاج السنة لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ.
نحن نؤمن جميعاً -وأهل السنة يقولون ذلك، وكل العقلاء في العالم- بأن الله تبارك وتعالى لم يكن قبله شيء، وهي الرواية الحديثية الراجحة التي رجحها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، حتى تتفق مع اسم الله:"الأول" فلم يكن قبل الله سبحانه وتعالى شيء، وهو الأول الذي لا بداية لوجوده سبحانه وتعالى، ليس قبله شيء، وهو أزلي لا بداية لوجوده، كما هو معلوم قطعي لدى جميع العقلاء.
وصفاته سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بها، فصفاته سبحانه وتعالى أيضاً لا ابتداء لها، فلم يكن في وقت من الأوقات عاطلاً عن الخلق ثُمَّ خلق فصار اسمه الخالق؛ لأن صفات الكمال لم يكن الله في وقت من الأوقات غير متصف بها؛ لأن معنى ذلك أنه كَانَ في وقت من الأوقات ناقص، وهذا لا يجوز ولا يليق في ذات الله سبحانه وتعالى.
وقياساً عَلَى المستقبل، وهو أننا نؤمن ونقطع جزماً أن أهل الجنة وأهل النَّار سيظلون في المستقبل خالدين مخلدين فيها، وهم مخلوقون ومحدثون، ومع ذلك لا نهاية لهم، فكذلك لا يمتنع أن توجد أنواع وجنس -لا آحادها- مخلوقات لا بداية لها في الماضي، فحيث كانت هذه الصفة قديمة لا بداية لها، فتقتضي وجود مخلوقات بعده، يخلق مخلوقاً، ثُمَّ يخلق بعده مخلوقاً آخر.
ويقول علماء الطبيعة عن الكون والمادة: لا تفنى ولا تستحدث، فنلزمهم من كلامهم، فنقول لهم: إذا كنتم تقولون هذا في حق المادة التي هي من مخلوقاته، فما بالكم في حق صفات الله أو آثار صفات الله تخالفون في ذلك؟
فنقول: ما دامت صفات الله سبحانه وتعالى باقية ولا تحدث بعد إذ لم تكن، إذاً آثارها كذلك، وأوضح من ذلك ما يتعلق بصفة الكلام، فقد نص الجهمية والشيعة: أن الله سبحانه وتعالى كَانَ ذاتاً بلا صفات، ثُمَّ حدثت له الصفات، فلما خلق الكون صار خالقاً بعد أن لم يكن خالقاً، فكان بذلك في زمن ليس متصفاً بهذه الصفات، فلم يفرقوا بين القوة والفعل، وإنما نظروا فقط إِلَى الفعل، فَقَالُوا: صار قادراً عَلَى الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً.
والأشعرية نصوا عَلَى ذلك في الفعل دون الكلام، لأن الكلام عندهم صفة ذاتية متعلقة بالذات، قديمة بقدم الذات.
بينما الكلام عند أهل السنة -نوعه وجنسه- قديم، لكن الآحاد حادثة، فالقرآن نزل بعد نزول التوراة والإنجيل، وهذا معلوم لجميع العقلاء، فدل ذلك عَلَى أنه يقع بعد أن لم يكن.
إذاً فلا غبار في إثبات حوادث لها أول، ولا نخرج في ذلك عن الشرع ولا عن العقل، لأنه ما من وقت يقدر فيه إمكان الحدوث إلا وغيره ممكن أن يقع فيه وما من دليل يمنع حدوث حوداث قبل الوقت الذي حددتموه.
وكل الفرق الإسلامية تقول: إن هذا العالم حدث بعد أن لم يكن، عدا الفلاسفة الذين يقولون: إنه قديم.
وكلام المانعين لحوادث لا أول لها يدل عَلَى امتناع حدوث العالم؛ لأنه ما من وقت يقدر فيه الحدوث إلا وأمكن أن يقع قبله، وكذلك حديث عمران بن حصين هو نفسه دليل عَلَى أن الكلام ليس عن فترة لم يكن فيها، أيُّ مخلوق أبداً، وإنما يتكلم عن أمر هذا العالم والكون الأرضي الدنيوي، ولهذا لما سألوه قالوا: جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟
فقولهم: "نسألك عن هذا الأمر" إشارة إِلَى الكون الحاضر المشهود، فلم يأت الجواب عن جنس الحوادث والمخلوقات، وإنما جَاءَ الجواب عن هذا العالم المخلوق، فقَالَ: كَانَ الله ولم يكن قبله شيء، وكان عرشه عَلَى الماء، وخلق السموات والأرض، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ.. [فصلت:11] يدل ذلك عَلَى أن العرش والماء والدخان من مخلوقات الله عز وجل قبل ذلك.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فالحاصل: أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟
فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من الْمُسْلِمِينَ وغيرهم:
أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف.
وثانيها قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كقول كثير من أهل الكلام، ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.
والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل، كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار. ولم يقل أحد يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل] اهـ.
الشرح:
علق الشيخ الأرنؤوط عَلَى كلمة ابن كلاب فقَالَ: هو عبد الله بن كلاب المتوفى بعد سنة مائتين وأربعين، كَانَ إمام أهل السنة في عصره، وإليه مرجعها إِلَى آخر كلامه.
ومعلوم أنه كَانَ معاصراً للإمام أَحْمَد، فكيف يكون هو إمام أهل السنة ومرجع السنة في عصره؟
فهذا الكلام من الخطأ أن يقال في حق إمام فعلاً من أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ معاصر للإمام أَحْمَد، فكيف برجل ليس من أئمة أهل السنة.
وهو الذي هجره وأمر بهجره الإمام أَحْمَد رحمه الله، وقَالَ: إنه مبتدع. فهجره أهل العلم نتيجة هذه البدع -وهي اشتغاله بعلم الكلام-، ونتيجة لهجر الإمامأَحْمَد له، فتضاءل تلاميذه وأثره.
إن هذه العبارة "إنه إمام أهل السنة في عصره وإليه مرجعها" هو كلام الكوثري، نقله عنهالدكتور علي سامي النشار، ويبدو أن الشيخ شعيب نقل هذا الكلام من كلام الدكتور علي سامي النشار في مقدمة كتاب الشامل للجويني، أو نقله عن الكوثري مباشرة.
فالقسمة العقلية المجردة النظرية تقتضي أن تكون المذاهب في هذا الموضوع أربعة، ولكن الموجود منها ثلاثة:
القول الأول: -وهو أضعفها- أنه لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل، وهذا قول الجهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة.
وهذا القول تفرد به الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف، وهو قول شاذ حتى عند جميع أهل الملل، والفلاسفة، واليهود، والنَّصارَى، فلم يقولوا: بأن الحوادث لا تدوم لا في الماضي ولا في المستقبل، وينبني عليه أن الله سبحانه وتعالى لم يكن خالقاً، ولا متكلماً، ولا فعالاً لما يريد في زمن من الأزمان، ثُمَّ حدث له ذلك - كما يقولون - فانتقل الأمر من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، ومن ذلك قولهم: إن الجنة والنَّار تفنيان، وعالم الملأ الأعلى يفنى.
والقول الثاني: يمكن دوامها في المستقبل الذي لا آخر له، ويسمى الأبد، ولا يمكن دوام نوع الحوادث في -الزمن الذي لا أول له- الأزل.
وهَؤُلاءِ هم الكرامية والأشعرية والشيعة وبعض المعتزلة وبعض المنتسبين للمذاهب الأربعة، يقولون: لم يكن الله سبحانه وتعالى في الماضي خالقاً، ولا رازقاً، ولا مُحيياً، ولا مميتاً؛ لأنه لم يكن هناك خلق يخلقهم، ولا يرزقهم، ولا يحييهم أو يميتهم قبل أن توجد هذه الحوادث، وأما في المستقبل فالإمكان وارد؛ لأن أهل الجنة وأهل النَّار يبقون أبد الآبدين ولا يفنون.
القول الثالث: وهو الذي عليه أكثر أهل السنة والحديث من العلماء، وهو الذي انتصر له الإمام أَحْمَد رحمه الله: وهو أن أنواع الحوادث دائمة عَلَى طرفي الزمان بحسب الماضي والمستقبل، وهناك فرق بين هذا القول وبين قول الفلاسفة فإنهم يقولون: إن الكون أو بعضه، أو الأفلاك، أو العقول العشرة التي سماها أفلاطون، وما أشبه ذلك، قديمةٌ كقدم الله تعالى، ويسمونه واجب الوجود أي: الله سبحانه وتعالى.
إن الأفلاك أو العقول أو هذا الكون المشهود إذا قيل: إنه لا أول له، هو كفر، وتكفر به الفلاسفة، ومنهم: ابن سينا والفارابي وأمثالهم.
وأما أهل السنة فإنهم لا يتكلمون عن عين من أعيان المخلوقات، فلا يقولون: العرش قديم، ولا القلم قديم أي أزلي، وإنما يقولون: الجنس -جنس الحوادث- وأما الأعيان فكل مخلوق بذاته فهو مخلوق خلقه الله بوقت ما، وسيفنيه متى شاء.
فنفترض أن هذا المخلوق كَانَ قبله شيء مخلوق وكلها مخلوقة، والله سبحانه وتعالى هو الذي ابتدأ خلقها لا أحد سواه، أما هو جل شأنه. فإنه لا شيء قبله سبحانه وتعالى.
القسم الرابع: قلنا: إنه لم يقل أحد أنه يمكن أن تكون الحوادث لا أول لها في الماضي، ولا يمكن أن تكون في المستقبل، والقسم الرابع قسمة عقلية لم يقل به أحد.
والمسألة طويلة ومعقدة، وتعتمد عَلَى قضايا كثيرة لا يستطيع العقل أن يستوعبها، مثل: قضية الأزل، وتصور شيء لا أول له.
والزمان مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، نقدره في الأرض بالليل والنهار الذي جعله الله سبحانه وتعالى لنا، لنعرف بها مواقيت عبادتنا والآجال والأعمار.
ولو تصورنا ما معنى الأزل قبل أن تخلق السماوات والأرض، وكيف يكون الزمان بعد أن تفنى السماوات والأرض وتكور الشمس والقمر، لأدركنا حينئذ أننا لا ندري حقيقة الزمان، ولا نستطيع أن نفهمها، ومع ذلك فإنه مما خلقه الله سبحانه وتعالى.
والفخر الرازي المتوفى في أوائل القرن السابع، - إمام الأشعرية في عصره، وحوى وتبحر في العقليات والكلام الشيء الكثير -، فكتب كتاباً أسماه المباحث المشرقية وهو كتاب مطبوع وذكر عشرة براهين في نفي حوادث لا أول لها، وأنه لا يصلح القول: بحوادث لا أول لها.
فجاء شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ولم يكن قصده أن يرد عَلَى الفخر الرازي، لكن جَاءَ الذي سمى نفسه ابن المطهر الحلي وهو رافضي أبعد شيء عن الطهارة في الاعتقاد والعمل، فألف كتاباً أسماه " منهاج الكرامة " فأخذ ابْن تَيْمِيَّةَ يستعرض أقواله، فلما جَاءَ بمسألة الحدوث تطرق للبراهين العشرة التي للرازي، فنقضها شَيْخ الإِسْلامِ نقضاً طويلاً.
وما ذكره المُصنِّفُ هنا في هذه المواضع إنما هو اختصار لها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تَعَالَى مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من الْمُسْلِمِينَ واليهود والنَّصارَى وغيرهم.
ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً -لفاعله لم يزل ولا يزال معه- ممتنع محال ولما كَانَ تسلسل الحوادث في المستقبل. لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء، ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد [البقرة:253] وقال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16،15] وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه [لقمان:27] وقال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ َ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف:109] ، والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذ فإذا كَانَ النوع دائماً، فالممكن والأكمل هو التقدم عَلَى كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه. وأما دوام الفعل، فهو أيضاً من الكمال، فإن الفعل إذا كَانَ صفة كمال فدوامه دوام الكمال] اهـ
الشرح:
كل من يؤمن بالله سبحانه وتعالى من أصحاب الملل، كاليهود والنَّصارَى والمجوس من الفلاسفة ومن غيرهم، يقولون: بأن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى فهو مخلوق، ومع ذلك يقولون بدوام نوع هذه المخلوقات إِلَى ما لا نهاية له في المستقبل، كما قلنا: إن الجنة والنَّار تبقى إِلَى الأبد، وهذا لا ينافي أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الآخر كما جَاءَ في الحديث:(وأنت الأخر فليس بعدك شيء) ، فإذا أمكن ذلك، فما المانع من مقابله أيضاً، أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومع ذلك فإن نوع حوادث المخلوقات قديم.
فالله سبحانه وتعالى كَانَ ولم يزل فعالاً لما يريد، متكلماً كما يشاء سبحانه وتعالى كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد [البقرة:253] فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] وهناك آيات متعلقة بكلامه سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه [لقمان:27] ، والكلمات هي أوامر الله سبحانه وتعالى التي تكون بها المخلوقات وغير ذلك، فهذا دليل عَلَى أن أفعال الله وكلماته لا تتناهى أزلاً ولا أبداً، وهذا من صفات كماله سبحانه.
وإنما يكون النقص والعيب لو أننا افترضنا مخلوقاً من مخلوقاته سبحانه وتعالى متقدماً عليه أو متأخراً عنه، وأما القول بأن كل مخلوق يخلقه الله سبحانه وتعالى ثُمَّ يفنيه إذا شاء أن يفنيه؛ فهذا لا يقتضي نقصاً، بل النقص أن يقَالَ: إنه سبحانه وتعالى لم يكن متكلماً، ولم يكن مريداً لما يشاء في ذلك الزمن سواء كَانَ الأزل أو الأبد.
فالكمال الذي نريد إثباته لله سبحانه وتعالى هو: أنه فعال لما يريد، متكلم بما يشاء في أي زمن من الأزمان، ونفي ما سوى ذلك هو النقص، إذا افترضنا أنه كَانَ ممتنعاً عليه من الكمال.
ثُمَّ ابتدأ المُصنِّفُ يرد عليهم في قولهم: إن هذا يلزم منه التسلسل.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قالوا: والتسلسل لفظ مجمل، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة، ليجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إِلَى واجب وممتنع وممكن.
وكالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إِلَى غاية.
والتسلسل الواجب: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تَعَالَى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له.
وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال. وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال، ولم يكن ربنا تَعَالَى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل.
وأما التسلسل الممكن، فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف. كما تتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً -وذلك من لوازم ذاته- فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم عَلَى كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن] اهـ
الشرح:
أولاً: كلمة التسلسل ليست كلمة شرعية، فلم ترد في الكتاب ولا في السنة لا بنفى ولا إثبات حتى نراعيها، لأن اللفظ الذي يجب علينا أن نراعيه هو ما جَاءَ في كتاب الله أو في سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فما جَاءَ في الكتاب نفيه يجب أن نراعي نفيه دائماً، وما جَاءَ في الكتاب إثباته فيجب أن نراعي إثباته دائماً، لكن ما لم يأت نفيه ولا إثباته فنحن ننظر فيه ونقيسه بالمقاييس الشرعية الكتاب والسنة، فإن كَانَ الأمر يقتضي نفيه نفيناه، وإن كَانَ الأمر يقتضي إثباته نثبته، وإن كَانَ فيه تفصيل فصلنا.
وهذه الكلمة مما فيه تفصيل، فنقول: لا نطلق القول بأن التسلسل ممنوع، فإنا لو نظرنا إِلَى ما في الكتاب والسنة من البراهين لوجدنا أن التسلسل ثلاثة أقسام، وترد عليه الأحكام الثلاثة وهي: الوجوب أو الامتناع أو الجواز.
وهذه الأحكام يسمونها: "الأحكام العقلية الثلاثة التي ترد عَلَى كل شيء"، فإما أن يكون واجب الوجود، أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، أي: جائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد.
وهذه الأحكام العقلية الثلاثة ترد عَلَى التسلسل، فمنه واجب يجب أن نثبته لله سبحانه وتعالى، ومنه ممتنع يجب أن ننفيه عنه، ومنه ما هو ممكن وجائز.
التسلسل الممنوع
فالممتنع هو التسلسل في المؤثرين أي: في المفعولات، مثلما جَاءَ في الحديث:(لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟) ، هذا خلق هذا وهذا خلق هذا
…
فالمفعولين أو المؤثرين، التسلسل فيهم ممنوع، بل لابد أن نصل إِلَى نهاية، وهذه النهاية في المفعولين أو المؤثرين هي إِلَى الله سبحانه وتعالى وهذا أحد ما يدل عليه قوله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] .
التسلسل الواجب
وأما التسلسل الواجب فهو: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تَعَالَى في الأبد، والتى هي محل الاتفاق عند الجميع؛ إلا الجهم والعلاف، وهذان لا يؤبه لخلافهما، وهي أن الله سبحانه وتعالى يديم نعيم أهل الجنة، وكذلك -والعياذ بالله- عذاب أهل النَّار الكفار إِلَى ما لا نهاية، فكلما انقضى نعيم أحدث لهم نعيما آخر، وهكذا تتسلسل إِلَى ما لا نهاية.
وهذا تسلسل يجب أن نثبته، وبهذا يتضح أن القول بأن التسلسل ممتنع أو أنه غير جائز عَلَى الإطلاق ليس بصحيح.
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف رحمه الله التسلسل في أفعاله سبحانه وتعالى بالنسبة إِلَى الأزل، أي: في الماضي، وأنه واجب في أفعاله سبحانه وتعالى، وواجب في كلامه، وإلا لزمكم -والعياذ بالله- أن تفترضوا أنه كَانَ أخرساً ممنوعاً من الكلام، ثُمَّ حدث له الكلام وتكلم، ومقتضى الكلام أفعال، بل مقتضى الحياة؛ لأن كل حي فعال، حتى أدق الكائنات، فكيف بالحي القيوم سبحانه وتعالى الذي له مطلق الحياة وكمالها؟ إذاً فكونه حياً، وكونه متكلماً في الماضي إِلَى ما لا نهاية، يجب أن نثبته له سبحانه وتعالى، وإن كانت آثار أفعاله سبحانه وتعالى تكون مخلوقات، لكن لا ضير في أن نثبت ذلك، بل هذا كمال الحق لله سبحانه وتعالى.
التسلسل الممكن
ثُمَّ قال رحمه الله: وأما التسلسل الممكن: فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما تتسلسل من طرف الأبد، أي: أنه مثل ما قلنا: إن التسلسل في الماضي واجب، فإنه في المستقبل ممكن غير ممتنع؛ لأنه لم يزل حياً، قادراً، مريداً، متكلماً، فكونه يفعل أكمل من كونه لا يفعل، وكونه يتكلم أكمل من كونه لا يتكلم، وكونه يريد أكمل من كونه لا يريد، إذاً فإثبات هذا الكمال له سبحانه وتعالى ممكن ليس ممتنع، كما يقولون هم بامتناعه، والخلاف بيننا وبينهم بالامتناع، امتناع حوادث لا أول لها، أو إمكان حوادث لا أول لها.
يقول: وهذا الشيء لا يلزم منه أنه لم يزل الخلق كلهم معه، وإن افترضنا ذلك، فإنه سبحانه وتعالى متقدم عليهم تقدماً لا أول له، فإن لكل مخلوق أول، والله سبحانه وتعالى هو الذي لا أول له، وهو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء؛ لأن الأزل نفسه ليس أمراً وجودياً، وليس بشيء، إنما هو ما لا أول له، فكل ما افترضناه نفترض أن قبله شيء آخر، فهذا هو الأزل.
فنتج من هذا: أن التسلسل منه ما هو واجب اتفق الجميع عليه، وهو تسلسل أفعاله سبحانه وتعالى في المستقبل، ومنه ما هو ممتنع -يتكلم فيه النَّاس عادة- وهو تسلسل المؤثرين أو المخلوقين، ومنه ما هو ممكن، وهو تسلسل أفعاله سبحانه وتعالى في الزمن الماضي، إذاً فهذه القسمة الثلاثية تنفي أن القول بوجود حوادث لا أول لها يؤدي إِلَى التسلسل، هذا ملخص ما يريد المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أن يقوله.
الرد على المتكلمين
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الرب تَعَالَى لم يزل قادراً عَلَى الفعل لزمه أحد أمرين لا بد له منهما:
إما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكناً، وإما أن يقول لم يزل واقعاً، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، حيث زعم أن الرب تَعَالَى لم يزل قادراً عَلَى الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فرض إرادته عنده محال. وهو مقدور له، وهذا قول ينقض بعضه بعضاً.
والمقصود: أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تَعَالَى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون الرب تَعَالَى لم يزل معطلاً عن الفعل ثُمَّ فعل، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل عَلَى نقيضه] اهـ.
الشرح:
معنى قول المُصْنِّف رحمه الله: أن من اعترف بأن الرب تبارك وتعالى قادر، وأن هذه القدرة من صفاته سبحانه وتعالى -وكل المتكلمين عن الإسلام إلا من شذ يقولون ذلك- إما أن يقول: إن الفعل لم يزل ممكناً، فإن قَالَ: نعم. إن العقل يقتضي أنه ممكن، قلنا: هذا هو المطلوب، فلا جدال إذاً بيننا وبينك، وإن قَالَ: لا، إنه لم يزل الفعل واقعاً، قلنا هذا تناقض، يعني: إذا قلت أن الله سبحانه وتعالى قديرٌ عَلَى كل شيء، وفعله أو مقدوره وقع وحصل، وأنه متصف بالقدرة أزلاً وأبداً، فكيف تنفي أنه سبحانه وتعالى لم يخلق، ولم يكن له هذه المقدورات أو هذه المخلوقات؟ أو أنه في وقت من الأوقات كَانَ فعلُ المقدور ممتنع؟ وإن قلت: إنه واقع فهذا زيادة في الإثبات أكثر، وهو أنه كَانَ واقعاً.
وننبه إِلَى قضية وهي: أن الفلاسفة تصوروا أن العالم كله أو أن بعضه قديم، ويجعلون الله سبحانه وتعالى علة فقط، وليس خالقاً مريداً، وكذبهم واضح من كلامهم؛ لأن العلة تستلزم وجود المعلول، فلو كَانَ مجرد علة لوجدت جميع المخلوقات دفعة واحدة، أما وأن هناك من يحي ويموت، ثُمَّ يحي غيره ثُمَّ يموت هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ [فاطر:39] .
فهذا دليل عَلَى أنه سبحانه وتعالى هو الذي يحيي ويميت، ويكون الليل ثُمَّ النهار، ثُمَّ فناء الليل والنهار، ويكون المطر، ثُمَّ يكون الصحو، والصحة والمرض، وهكذا سائر التغيرات في الكون دليلٌ عَلَى أنه سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، وأنه يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويأمر بما يشاء، ويغير كما يشاء سبحانه وتعالى، لا معقب لحكمة ولا راد لأمره.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار عَلَى التسلسل في الماضي، فَقَالُوا: إنك لو قلت: لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده درهماً، كَانَ هذا ممكنا، ولو قلت: لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهماً، كَانَ هذا ممتنعاً.
وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة، بل الموازنة الصحيحة أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، فتجعل ماضياً قبل ماض، كما جعلت هناك مستقبلاً بعد مستقبل.
وأما قول القائل: لا أعطيك حتى أعطيك قبله، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله.
فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل، وهذا ممتنع، لم ينفِ الماضي حتى يكون قبله ماض فإن هذا ممكن، والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي، والمستقبل الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لانهاية له فإن ما لانهاية له فيما يتناهى ممتنع] اهـ
الشرح:
[والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي] في بعض النسخ، وهذه أوضح، يعني: جعلنا ابتداءه من المعطي وهو أفضل.
وأبو المعالي الجويني هو صاحب كتاب الإرشاد والشامل، وهو إمام الأشعرية في زمنه، وأراد بهذا المثال أن يستدل عَلَى امتناع الحوادث بالنسبة للماضي.
وكان المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فطناً ولبيباً في رده -وما أحسبه إلا أنه نقله من كلام شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فبين أن هذا التمثيل غير صحيح، لأن الماضي يعبر عنه بفعل الماضي لا بالمستقبل، فالصحيح أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، أما أن تعلق شيئاً في مستقبل بوقوع شيء في المستقبل، فإن هذا لم يقع!
أما أن تعلق شيئاً بوجود شيء قبله في الماضي، فهذا غير ممتنع، بل هو ممكن من حيث القسمة العقلية. هذا ملخص الكلام، وبذلك نكون انتهينا من هذه الفقرة الكلامية.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ليس بعد -في نسخة منذ- خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ظاهر كلام الشيخ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل عَلَى أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: والجنة والنَّار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار، لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى.
وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها، من القائلين بحوادث لا آخر لها فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما، فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد، كما وصف بذلك نفسه، حيث يقول: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 16،15] . والآية تدل عَلَى أمور:
أحدها: أنه تَعَالَى يفعل بإرادته ومشيئته.
الثاني: أنه لم يزل كذلك، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء عَلَى نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات، وقد قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17] ولما كَانَ من أوصاف كماله ونعوت جلاله، لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن.
الثالث: انه إذا أراد شيئا فعله، فان "ما" موصولة عامة أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شان آخر؛ فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلا، لم يوجد الفعل، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلا.
وهذه هي النكتة التي خفيت عَلَى القدرية والجبرية، وخبطوا في مسألة القدر، لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد، وإرادة أن يجعله فاعلا، وسيأتي الكلام عَلَى مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى.
الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعل فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريده، فما ثُمَّ فعال لما يريد إلا الله وحده.
الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، هذا هو المعقول في الفطر، فشأنه سبحانه أنه يريد عَلَى الدوام، ويفعل ما يريد.
السادس: أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته، جاز فعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا، وأن يجيء يَوْمَ القِيَامَةِ لفصل القضاء، وأن يري عباده نفسه، وأن يتجلى لهم كيف شاء، ويخاطبهم، ويضحك إليهم، وغير ذلك مما يريد سبحانه لم يمتنع عليه فعله، فإنه تَعَالَى فعال لما يريد. وإنما تتوقف صحة ذلك عَلَى إخبار الصادق به، فإذا أخبر وجب التصديق، وكذلك محو ما يشاء، وإثبات ما يشاء، كل يوم هو في شأن سبحانه وتعالى.
والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل، ثُمَّ صار فاعلاً. ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تَعَالَى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تَعَالَى له، ليس له من نفسه إلا العدم، والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تَعَالَى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى] ا. هـ.
الشرح:
هذه الأوجه الكثيرة يذكرها المُصنِّفُ رحمه الله في شرح قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] لبيان عموم دلالة هذه الآية عَلَى إثبات ما يريده، وذكر أن ظاهر كلام الطّّحاويّ أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، إلا أنه يثبت اسمي الخالق واسمي الباري لله سبحانه وتعالى وهذا لا نقاش فيه، لكن معنى كلامه: أنهما ثابتان له حتى في الفترة التي لم يكن فيها مخلوق بإطلاق، وهذا هو محل الخلاف، والذي رجحه المُصنِّفُ عدم القول بأن هناك فترة ليس فيها مخلوق بإطلاق، وهذا القول قوي، لأنه ما دام أن الله سبحانه وتعالى موصوف في كل وقت بأنه خالق، وقادر، وفعال لما يريد، فإن مقتضى ذلك أن تكون له مخلوقات بأي وقت من الأوقات.
وقد يتساءل بعض الناس: لماذا لم يرد في الكتاب أو في السنة ما يدل عَلَى أن شيئاً من الأشياء هو أول المخلوقات عَلَى الإطلاق؟ وإنما يرد ما يدل عَلَى أولوية بعض المخلوقات عَلَى بعض أولوية نسبية، كالعرش والقلم بالنسبة لهذا الكون الذي نراه؟ هذا ما سوف نشرحه -إن شاء الله- في حديث عمران بن حصين بعد أن نتكلم عن عموم دلالة قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] .
والشاهد هنا أن عموم قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] يدل عَلَى أنه تَعَالَى يفعل بإرادته ومشيئته، هذا هو الوجه الأول.
والوجه الثاني: أنه لم يزل كذلك فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] في الماضي، وفَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] في المستقبل، فلو قدر وقت من الأوقات أنه لم يكن فيه فعال لما يريد، لكان ذلك نقص في حقه سبحانه وتعالى، فإن له الكمال المطلق في كل وقت.
الوجه الثالث: -أي من أوجه دلالة قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]- أنه إذا أراد أي شيء فعله، فيدخل فيها كل شيء لعموم كلمة "ما"؛ لأنها اسم موصول من ألفاظ العموم، مثل كلمة "شيء"، تدل عَلَى الإطلاق وعلى العموم في سائر الزمان والأوقات.
ثُمَّ استطرد المُصنِّفُ رحمه الله في ذكر إرادة الله المتعلقة بفعله، وهي: أن الله تَعَالَى قادر، فعال لما يريد فعله سبحانه وتعالى وقوله: أما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شان آخر. هذا الشأن الآخر سبق معنا مجملاً في باب الإرادة، عندما أشار بكلمة الإرادة، ويأتي مفصلاً -إن شاء الله- في شرح أبواب القدر.
لكن الشاهد هنا هو: التفريق بين هاتين الإرادتين، الإرادة الكونية التي في قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، والإرادة الشرعية التي هي: ما هو مطلوب من العبد أن يفعله من الأوامر والنواهي، فإن أراد الله أن يوفق العبد ويهديه لفعل من الأفعال أعانه عليه، وإن أراد خذلانه فإنه سبحانه وتعالى لا يعينه عليه، فيجب أن نفرق بين فعل يريد الله سبحانه وتعالى أن يفعله بنفسه، وبين فعل يريد من غيره أن يفعله.
الرابع: أن فعل الله سبحانه وتعالى وإرادته متلازمان لا ينفك بعضهما عن بعض، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله سبحانه وتعالى فقد أراده، لا معقب لحكمه ولا راد لفعله، لأنه لا يفعل إلا ما يريد، بخلاف إرادة المخلوق وفعله فإنهما ينفكان، لأنه يريد ما لا يفعل -وهذا واضح- وأيضاً يفعل ما لا يريد.
فان قال قائل: هل كلما أراد الله شيئاً لا بد أن يفعله، أم أنه إذا أراد شيئاً فإنه قادر عَلَى فعله، قد يفعله وقد لا يفعله؟
قلنا له: إذا أراد أن يفعل شيئاً فعله، وإن لم يرد أن يفعله لم يفعله، وما لم يرد فعله، فإنه لا يفعله سبحانه وتعالى، وهذا لا إشكال فيه.
أما أنه إذا أراد شيئاً فإنه قادر عَلَى فعله، ولكن قد يفعله وقد لا يفعله، فلا؛ لأننا متفقون عَلَى أنه القادر عَلَى أن يفعله فكل شيء متى أراد أن يفعله فعله، وما لم يرد أن يفعله سبحانه وتعالى لا يفعله، ولا يملك أي مخلوق عَلَى الإطلاق أن يفعل ذلك فإن المخلوق يريد ما لا يفعل، ويفعل ما لا يريد..
أما الخامس فمعناه: أن كل ما أراده الله في الكون من الموجودات فله إرادة تخصه، كما هو واضح في الفطرة وظاهر في الأدلة، فإذا قلنا أراد الله أن توجد هذه الشجرة، وأراد الله أن يوجد هذا الجبل، وهكذا في بقية الأمثلة، فإنها إرادات متعددة، لا أنها إرادة واحدة فقط، كما يقول الفلاسفة -وهي عندهم العلة التامة الموجبة التي تقتضي إيجاد كل معلول لها- بل الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء.
ولكننا لا نعلم كيفية اتصاف الله سبحانه وتعالى بالإرادة، كما هو معلوم في جميع الصفات، وإنما الذي نثبته ما دلت عليه عموم النصوص والفطرة والبداهة: أنه سبحانه وتعالى له في كل فعل إرادة تخص ذلك الفعل، وباطل قطعاً قول من يقول: إنها إرادة واحدة اقتضت كل شيء دفعة واحدة، ثُمَّ بقيت الأمور تتسلسل هكذا في الطريق.
أما السادس: فهو يربط الموضوع بما سبق، عندما شرح المُصنِّفُ قول الطّّحاويّ:[ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه] . وذكرنا أن الله سبحانه وتعالى لا يزال متصفاً بصفات الكمال، من صفات الذات وصفات الفعل، وأن صفات الذات تتعلق بذاته سبحانه وتعالى لا تنفك عنه، والصفات الفعلية تتعلق بإرادته سبحانه وتعالى، وقد شرحناهما باستفاضة.
لكن المُصنِّفُ رحمه الله أراد أن يدخل من هذا الباب لإلزام هَؤُلاءِ بأصولهم في صفات الله سبحانه وتعالى الفعلية؛ لأنهم يقولون: إن هذه الصفات يلزم منها الجسمية، والانتقال، والتبعيض، كما سبق أن أوضحنا بأن كل ما صح أن تتعلق به إرادة الله سبحانه وتعالى جاز أن يفعله، فما المانع عقلاً أن تتعلق إرادة الله سبحانه وتعالى بأنه ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا؟
وبما أن ذلك جائز عقلاً، فكيف تنفونه؟ وكذلك: أنه يرضى، أو يغضب، أو يضحك، أو يفعل ما يشاء من الأفعال التي وردت؟
ولكن الذي تتوقف عليه إثبات هذه الأمور في الأصل هو صحة الخبر، فإن جَاءَ الخبر الصادق، كما في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفّاً صَفّا) ً) [الفجر:22]، وكما في الحديث الصحيح:(ينزل ربنا إِلَى السماء الدنيا كل ليلة) وأمثال ذلك، فهذا لا اعتراض عليه، ولا يحيده العقل، بل حينما يخالفه العقل يكون صاحبه غير عاقل.
فما الذي يجعلكم تقولون: إنه لا ينزل، أو لا يضحك، أو لا يرضى، أو لا يغضب، وإرادته عامة، فقد قال سبحانه وتعالى أنه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] وما تقولونه: إنها القواطع العقلية أو البراهين النظرية، أو إمكان كذا واستحالة كذا، كل هذا الكلام يسقط أمام الحق والنور الواضح المبين من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه الستة الأوجه كل منها عظيم، وهي مأخوذة من هذه الآية الموجزة اللفظ، ولكنها عظيمة ككل القُرْآن في معناه، وهي قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] ، ولو تأمل المتأمل لربما زادت عَلَى ذلك.
ثُمَّ يستدرك المُصنِّفُ رحمه الله فَيَقُولُ:
[وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟
واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟
وقد قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] .
وروى البُخَارِيّ وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قَالَ:(قال أهلاليمن لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم: جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقَالَ: كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) .
وفي رواية: (ولم يكن شيء معه) .
وفي رواية: (غيره) .
(وكان عرشه عَلَى الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض)، وفي لفظ:(ثُمَّ خلق السموات والأرض)، فقوله:(كتب في الذكر)، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكرا، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتابا.
والنَّاس في هذا الحديث عَلَى قولين، منهم من قَالَ: إن المقصود إخباره بأن الله كَانَ موجودا وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثُمَّ ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إِلَى حين ابتداء الفعل ولا كَانَ الفعل ممكناً.
والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثُمَّ استوى عَلَى العرش، كما أخبر القرءان في غير موضع.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (قدر الله تَعَالَى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء) . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كَانَ قبل خلقه بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تَعَالَى كَانَ حينئذٍ عَلَى الماء] اهـ.
الشرح:
قوله: [والقول بأن الحوادث لها أول يلزم منه التعطيل قبل ذلك
…
الخ] يحتاج إِلَى تفصيل؛ لأن الأنواع تختلف عن الذوات، فأما الذوات والأعيان، فكل شيء من المخلوقات بعينه، مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وأما أنواع هذه الحوادث - وهو الذي نقول: إنه أثر صفات الله سبحانه وتعالى فهذا الذي لا أول له؛ لأن صفات الله عز وجل لا أول لها.
والكلام في أن أعيان الحوادث لها أول، ينقلنا إِلَى النقطة المهمة التي هي هذا العالم الموجود، وهذا الكون المخلوق الذي نراه ونعيش فيه الآن، هل خلق من مادة، أو أن الله سبحانه وتعالى خلقه من العدم بغير مادة؟ وما هو أول شيء خلق فيه؟
وسنذكر بعض ما قيل في شرح حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو حديث صحيح، رواه الإمام البُخَارِيّ في أول كتاب بدء الخلق، وفي كتاب التوحيد من صحيحه، وله روايات كثيرة.
وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عَلَى وفد بني تميم فقَالَ: (اقبلوا البشرى يا بني تميم اقبلوا البشرى يا بني تميم) فَقَالُوا: قد بشرتنا فأعطنا -فرفض بنو تميم البشرى- فقَالَ: (اقبلوا البشرى يا أهل اليمن) قالوا: قد قبلنا يا رَسُول الله -قبل أهل اليمن البشرى وجلسوا مع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: يا رَسُول الله، جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فَقَالَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يكن شيء غيره) ، وفي رواية:(كَانَ الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء، ثُمَّ خلق السموات والأرض) .
ثُمَّ اختلفت الروايات، وكلها تُجمع عَلَى أن رجلاً قَالَ:(يا عمران، أدرك ناقتك فقد ذهبت، قَالَ: فخرجت فإذا السراب يقطع دونها، فوالله وددت لو أني تركتها) .
أما عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - فهو من خزاعة، كَانَ جالساً قبل أن يكمل النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، فهربت ناقته، فجاءه رجل يقول: أدرك ناقتك يا عمران، فخرج يظن أنه قد يلحقها ويدرك بقية الحديث، فإذا السراب يحول بينه وبينها، وقال مقولته التي في الحديث، لما فاته بقية مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يفت شيء من العلم والْحَمْدُ لِلَّهِ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرره في مواضع، وما قاله هنا بهذا القدر هو كافل لمعرفة الجواب الصحيح في هذه المسألة الشائكة.
والمتأمل للأقوال التي ذكرها المُصنِّفُ هنا، يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في الجواب عَلَى العالم الذي جاءنا خبره، ولا نستطيع أن نقول أن هذا كل العالم، أو هذا كل خلق الله عز وجل.
وحديث عمران قد شرحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شرحاً مستفيضاً وافياً، وكلام المُصنِّفُ هنا ملخص منه، وهذا الشرح موجود في المجلد "18" من مجموع الفتاوى ابتداءً من صفحة "210"، وهي رسالة طبعت أيضاً في مجموعة الرسائل والمسائل اسمها، شرح حديث عمران بن حصين.
والروايات التي ذكرها المُصنِّفُ هنا في الشرح هي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) . ورواية: (ولم يكن شيء معه) . ورواية: (ولم يكن شيء غيره) .
وحتى يعرف وجه الحق في هذه المسألة، يرجع إِلَى كلام عالم السنة الحافظ ابن حجر في الجزء "6" من فتح الباري، في أول كتاب بدء الخلق، فقد ذكر روايات منها ما رواه الإمام أَحْمَد وغيره، (أن أول ما خلق الله العرش) ، ونقل أنه قول الأكثر.
إلا أن ابن حجر يرى أن هناك أول مخلوق بإطلاق، ومعنى كلامه أن الروايات اختلفت أهو العرش أم القلم؟ وأن أكثر الروايات عَلَى أنه العرش، وذكر الرواية التي فيها الترتيب بأن الله خلق الماء، ثُمَّ العرش، ثُمَّ القلم.
أول ما خلقه الله تعالى من هذا الكون المشهود هو العرش
وإذا رجعنا إِلَى كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وجدناه يقول: وقول أكثر السلف أن أول ما خلقه الله سبحانه وتعالى هو العرش.
وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ لم يخض في هذا الموضوع بهذا الشكل، لأنه يرى أن ليس هناك ما يسمى بأول مخلوق بإطلاق، وإنما هناك مخلوقات قبلها مخلوقات، منها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه.
أما الأحاديث التي جاءت، فهي في بيان أولية المخلوقات المعلومة لنا، وحديث عمران بن حصين نفسه يدل عَلَى أن العرش قبل القلم، لأن فيه (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء) ، إذاً كَانَ هناك ماء، وكان هناك عرش قبل أن تخلق السموات والأرض.
ومعنى قول المُصْنِّف رحمه الله في حديث: (أول ما خلق الله القلم
…
) -كما سيأتي في موضعه- أن كلمة "أول" هنا:
إما أن تأتي مبتدأ والقلم خبرها، فنقول: أولُ ما خلق الله القلمُ -بضم آخر كلمتي أولُ والقلمُ- وهذا معروف، وعليه كلام الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.
وإما أن تأتي كلمة أولَ منصوبة، فتكون ظرفاً، بمعنى: عندما خلق الله القلمَ، أي: أول ما خلقه الله قال له: اكتب.
ومن جمع الروايات تبين له أنها تصير عَلَى الوجه الأخير.
وإنما قلنا العالم المشهود، لأن وفد اليمن قالوا: جئنا نسألك عن أول هذا الأمر، أي: أهو العرش، أم الماء، أم هما معاً؟ فيخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن خلق الله سبحانه وتعالى العرش خلق القلم، وعندما خلق القلم -قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جَاءَ في صحيح مسلم - أمره أن يكتب كل شيء.
إذاً؛ فهذا لا يتعارض مع ذلك، بأنه خلق هذا، ثُمَّ خلق القلم، وهو ظاهر ما في صحيح مسلم، والقول بتقدم خلق القلم عَلَى جميع المخلوقات فيه خلاف، والظاهر من روايات حديث عمران بن حصين أن العرش متقدم عليه، ويشهد لهذا روايات أخرى جاءت في المسند وفي غيره، دلت عَلَى أن العرش هو أول المخلوقات من هذا الكون الحسي المشهود، ومن القرءان قوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7]، فقوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، يدل عَلَى أن العرش وهذا الماء غير داخلين في العالم المشهود الذي هو السموات والأرض.
وذكر الشيخ العلامة المحدث مُحَمَّد ناصر الدين الألباني رحمه الله في الجزء الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم "133" حديث: (أول ما خلق الله القلم)، تحت عنوان: أول مخلوق.
وتعرض هناك لنفس الكلام الذي قاله الشيخالأرنؤوط فيما سبق، وهو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أخطأ ووهم، لأنه خالف المذهب المشهور والصحيح، بقوله: بحوادث لا أول لها وليس هذا موضوعنا في الحقيقة، لكن المقصود أننا لما قرأنا تعليق الشيخ الأرنؤوط هنا، وتعليق الشيخ ناصر الألباني، وكلامه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وجدنا نوعاً من التعجل في تخطئة شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ، وكان الواجب التروي والتأكد أولاً.
والشيخ ناصر -جزاه الله خيراً- عالم جليل له قدره، وله مكانته، وكذلك أي عالم، فلا نتسرع ونقول: وهم أو أخطأ، أو خالف الحق، أو ندَّّ عن الصواب، كما قال الأرنؤوط في تخريج الحديث، إنما نتأكد ونبحث، حتى نتبين ونصل إِلَى الصواب، فإن ظهر لنا شيء قلنا: لعله رحمه الله أراد كذا أو كذا.
خاصة علماء الإسلام من أهل السنة، والأئمة الحفاظ، أما علماء البدعة -وإن كنا لا نظلمهم ولا نكذب عليهم- إذا رأينا قولا من أقوالهم الباطلة، خطأناهم وضللناهم لأنهم مبتدعة، وهذا ليس علينا فيه حرج -والْحَمْدُ لِلَّهِ- ثُمَّ لا ننسى أن النسخ تختلف، وأن ما وصلنا من النسخ قد لا يكون الكلام فيها كاملاً، بدليل أن بعض هذه الكتب قد تطبع في المرة الأولى، ثُمَّ تطبع في مرة أخرى عَلَى عدة نسخ، فيظهر أن الطبعة الأولى فيها نقص.
وإن كَانَ لا بد من تبيين الخطأ فبأسلوب فيه أدب، وإنما قلت هذا الكلام لأن بعض النَّاس يتخذون من هذه القضية محلاً للتشينع والتشهير بشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، ولا غرابة أن يفعل ذلك أهل البدع وهم كثير، ومن أعظمهم في هذا العصرالكوثري، ومن تلاميذه من قد ذكرناهم فيما سبق من الشرح، لكن نأسف أن يتبعهم بعض أهل السنة الأجلاء كالشيخناصر مثلاً، كما في هذه المسألة، وإن كَانَ لا يوافقهم في ما يفعلونه من التشهير والتشنيع
الترجيح بين روايات حديث عمران رضي الله عنه
ومعنى كلام شَيْخ الإِسْلامِابن حجر وابْن تَيْمِيَّةَ، أن هذا الحديث قيل في موضع واحد، والجواب كَانَ في وقت واحد، لأن القصة واحدة، فلا بد إذاً أن أحد الروايات الثلاث -"قبل" أو "مع" أو "غير"- هي التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الروايتين الأخريين رويتا بالمعنى، والذي رجحاه كلاهما من حيث الرواية هي رواية:
(كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) ، وهي رواية الإمامأَحْمَد رحمه الله، وإحدى روايتي البُخَارِيّ، كما في كتاب بدء الخلق من صحيحه.
وتُرجَّح رواية "قبل" بدلالات: منها: قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث قيام الليل: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) .
ومنها: أنها وردت من طرق صحيحة، بل يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: إنها رواية الأكثرين والأحفظ، ومنهم الحميدي وهو من أشهر حفاظ مشايخ الإمام البُخَارِيّ.
ومنها: أنها متفقة مع القرآن، ومتفقة مع الأحاديث الأخرى الصحيحة التي لا شك ولا غرابة فيها.
أما الحافظ ابن حجر رحمه الله فإنه يميل إِلَى أن رواية: (غيره) أولى من حيث المعنى، لأنه أصرح في نفي العدم، بمعنى كَانَ الله ولم يكن شيء غيره، ونفي الغير له أقوى في نفي العدم، ولكن ليس المقصود نفي العدم، فإن هذا هو عين القول الأول الذي سبق بعض ما فيه، وسنبين أنه خطأ فيما يأتي أيضاً. 1
1.
في مجموع الفتاوى (216/18) قال شيخ الإسلام: الوجه الثالث: أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) وقد روي: (معه) وروي (غيره) والألفاظ الثلاثة في البخاري اهـ. مع العلم أن لفظة غيره هي في رواية غير البخاري. انظر الفتح (333/6)
سبق أن أشرنا إِلَى أن البشرية كانت وتزال تخوض وتبحث في قضيتين مهمتين:
القضية الأولى: تتعلق بنشأة الكون وبأصله.
القضية الأخرى: قضية أصل الإِنسَان، وكيف وجد؟ وما هي وظيفته؟ مع أن التاريخ أمامهم بما فيه من آثار، وحفريات، وشواهد مكتوبة أو مرئية، ومع ذلك كله لم يصلوا إِلَى يقين، ولا إِلَى حقيقة، ولن يصلوا مطلقاً.
وإن وصلوا إِلَى شيء فقد جَاءَ به الوحي، وقدمه إليهم غضاً طرياً بلا عناءٍ ولا كلفةٍ ولا مشقة، يقول الله تبارك وتعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51] ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه لم يشهد هَؤُلاءِ المضلين خلق السموات والأرض، فكل كلام يقولونه عن نشأة الكون، وعن كيفية خلق السماء والأرض، وعن تكون المجرات أو النجوم وما إِلَى ذلك، فهو كله افتراضات وتخمينات وظن.
وكذلك خلق أنفسهم، فلم يشهد الله سبحانه وتعالى هَؤُلاءِ المضلين كيف خلق الإِنسَان، وكيف ابتدأه، وإنما أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه خلق آدم من الطين، ونفخ فيه من روحه ثُمَّ جعله بشراً سوياً، وجعل ذريته من سلالة من ماء مهين.
هذا هو الذي جَاءَ في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل خوض بعد ذلك عن أصل الإِنسَان، وما إِلَى ذلك، إما باطل لا حقيقة له بإطلاق، وإما خوض فيما لا نتيجة من وراءه ولا غاية ولا ثمرة.
وقد أغنانا الله سبحانه وتعالى وأعفانا عن البحث في أول خلق الأشياء، بأن نتفكر في خلق الكون، لنصل بذلك إِلَى معرفة الله وتوحيده، وإلى إفراد العبودية كلها له سبحانه، وإلى انتظار اليوم الآخر الذي يجمع الله تَعَالَى فيه الأولين والآخرين.
وهنالك يحاسبهم ويجازيهم عَلَى ما عملوا في هذه الحياة الدنيا، فالذين يضيعون أعمارهم في البحث عن أول نشأة الحياة، ثُمَّ يخرجون منها وهم لم يصلوا إِلَى يقين ولا إِلَى نتيجة في ذلك، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، لماذا جاءوا.
ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك ما ترونه من اشتغال كثير ممن يسمَّون علماء الآثار، أو علماء التاريخ القديم، أو علماء الحفريات، حيث يقطعون الفيافي والقفار، ويجهدون أنفسهم، وينفقون الملايين في الحفر والتنقيب والبحث، لعلهم أن يجدوا أثراً من آثار الماضين، ثُمَّ هذا الأثر يقدر عمره بعشرة آلاف سنة، وهذا بخمسة عشر ألف، وهكذا تمضي أعمارهم.
فإذا خرجوا يَوْمَ القِيَامَةِ من قبورهم، يسألهم الله عز وجل عن أعمارهم فيما أفنوها؟ مالكم وللقرون الأولى، فإن: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] ، وإنما عليكم أن تعتبروا بمصير هذه القرون، وتتعظوا بإهلاك الله سبحانه وتعالى لها، مع ما فيها من قوة الخلق، ومن الشدة والبطش.
وكان سبب إهلاكهم أنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم، كما تفرح كل أمة من الأمم بما عندها من الحضارة والثقافة، وبما عندها من الفن، وتقول: إن نُظُمنا وآدابنا وأخلاقنا وحضارتنا، تغنينا عن اتباع شرع الله، وعن الاقتداء بالأنبياء، فلسنا بحاجة إليهم أن يقولوا لنا: هذا حرام، وهذا حلال.
هذا نموذج من نماذج كثيرة، من الضياع والفراغ الذي يعيشه الإِنسَان بعيداً عن الوحي، مصدر اليقين والمعرفة، سواء ما أنزله الله تَعَالَى من كلامه، أو ما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.
فهذا الحديث العظيم، حديثعمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يبين لنا هذه الحقيقة، ويجب أن يعلم أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم ولم يخض في مسألة: هل هذا العالم خلق من مادة أو لم يخلق من مادة؟ ولم يجبهم عن أول المخلوقات بإطلاق، ولا عن بداية تأثير قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما سأله وفد اليمن عن هذا العالم المشهود الذي يرونه ويعيشون فيه، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أول نشأته، وكيف خلقه الله تبارك وتعالى في جواب لا يمكن أن يهتدي إليه أو يعرفه أي إنسان عَلَى الإطلاق، إلا الأمين الذي يأتيه خبر السماء صلى الله عليه وسلم لا غيره.
أما هَؤُلاءِ فليس عندهم إلا مقولات أرسطو وأفلاطون، وما يسمونهم بأصحاب الحضارات والعلوم القديمة، الذين يقولون: إن العلة الأولى خلق عشرة عقول ثُمَّ استراح، ولم يعد ينظر في الكون؛ لأنه كامل -كما يقولون- والكامل لا يفكر في الناقص، والعقول العشرة خلقت الأفلاك، والأفلاك خلقت السموات والأرض، وهذه مقولات نظرية ليس لها أي أساس من الصحة، ولا حتى في عقول الذين جاءوا بها.
وهكذا كل ما قالوه أو يقولونه غير هذه النظرية، فهو أبطل منها، أو هو الجهل المطلق قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فلأنه لا ينطق عن الهوى، وإنما بما يوحي إليه ربه، فأخبر كما في هذا الحديث بهذه الأمور الغيبية التي يتقاصر دونها علم البشر، كائناً من كان، وفي أي زمان أو مكان، ولن يصل الإِنسَان بإطلاق إِلَى أن يعرف هذه الحقائق أبداً.
وهذه المقدمة بين يدي الحديث، لنعلم أن أهميته تتجاوز قضية معرفة هل الأصح هو القول بأن الحوادث لها أول أم لا؟ بل لنعرف ما هو أكثر عبرة وأكثر عظة، خاصة ونحن نعيش في عصر تكاثرت فيه النظريات عن الكون، وعن الإِنسَان، وهذه النظريات لم تعد حديث أذهان الفلاسفة، كما كَانَ أرسطو وأفلاطون وأمثالهم، وإنما أصبحت مصورة ومقربة تدرس في مناهج التعليم، حتى في البلاد الإسلامية، وتقدم للناس عَلَى أنها حقائق وعلم، تحتوي عَلَى كيفية نشأة الكون والإِنسَان.
ولا يجوز لنا أن نستسلم لها، وأن نقررها ونلقنها أبناءنا، لأنها كلها خبط عشواء، وقول عَلَى الله تبارك وتعالى بغير علم.
سبق الكلام عَلَى تخريج حديث عمران رضي الله عنه واختلاف الروايات، وأن الراجح منها هو رواية:(ولم يكن شيء قبله) ، لأنها موافقة للقرآن، وموافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخرى الثابتة عنه.
أما الذين ينكرون علو الله تبارك وتعالى عَلَى عرشه -من الجهمية ومن تابعهم- بأدلة وهمية هي عبارة عن تخرصات تخيلوها من عند أنفسهم.
فقد رد عليهم أهل السنة وأفحموهم، وألزموهم بآلايات الصريحة الواضحة من كتاب الله تبارك وتعالى كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وغيرها من آيات الاستواء، وهي سبع آيات ذكر فيها استواء الرحمن سبحانه وتعالى عَلَى العرش، فضلاً عن آيات وأحاديث العلو، فإن من أكثر صفات الله عز وجل التي دل عليها العقل والنقل والفطرة، بما لا يحصى ولا يعد من الأدلة هي: صفة علو الله سبحانه وتعالى عَلَى جميع المخلوقات، فهي من أخص الصفات بعد صفة الحياة، لأن من يؤمن بالله فإنه يؤمن بأنه حي لا يموت تبارك وتعالى، لكون هذه الصفة تشهد بها الفطرة السليمة.
من شبه أهل البدع في إنكار العلو
ومن أدلة أهل البدع العقلية التي يستدلون بها عَلَى أهل السنة، قولهم: أنتم تقولون: إن الرحمن استوى عَلَى العرش، إذاً هو عال عَلَى جميع المخلوقات، فقبل أن يخلق العرش أين كان؟ أما نَحْنُ فنقول: إنه الآن عَلَى ما كَانَ عليه، قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولم يكن في علو، فيلزمكم ياأهل السنة أنه لما خلق السموات والأرض تغير، لم تكن له جهة وأصبحت له جهة.
هذا إفكهم وما كانوا يفترون، وتقولهم عَلَى الله سبحانه وتعالى بغير علم، ليردوا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن كلامهم هذا لما كَانَ مقولة نظرية، لم تقبله العقول السليمة، ولم تستسغه قلوب أهل السنة، الذين يتكلمون بالأدلة من كتاب الله وسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ويطالبونهم بمثل ذلك، فما كَانَ من بعض كذابيهم إلا أن وضعوا هذه الزيادة: وهو الآن عَلَى ما عليه كان، وبعضهم يرويها كحديث مستقل، يقول: كَانَ الله ولا مكان، وهو الآن عَلَى ما عليه كان.
وهذه زيادة مكذوبة، لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تصح في أي كتاب من كتب الحديث عَلَى كثرتها، فلم يخرجها أحد منهم، ولم يسندها إِلَى أحد حتى نبحث بعد ذلك في سندها، وإنما هو قول ليس له أصل ولا إسناد عَلَى الإطلاق، لا صحيح ولا ضعيف.
ومن شبههم أن العرش أو القلم أول مخلوق مطلقاً
والشبهة الأخرى أنهم قالوا: قولكم يا أهل السنة خلاف أقوال النَّاس في هذا الحديث، فإنهم عَلَى قولين:
القول الأول: أن هذا الحديث هو إخبار عن الله تبارك وتعالى أنه كَانَ وحده، ولا شيء غيره من المخلوقات، لا جنسها ولا أعيانها.
ثُمَّ إنه ما يزال دائماً كذلك، ثُمَّ ابتدأ فخلق هذا الكون المشهود، وبذلك يكون أول المخلوقات هو إما العرش أو القلم عَلَى ما سبق أن أوضحنا، ورجحنا هناك أن العرش هو أول هذا الكون المشهود المسئول عنه، إلا أنهم يقولون: الأولية هنا بإطلاق أول شيء وجد، ولم يكن قبله من المخلوقات إلا العدم المحض.
القول الثاني: أن هذا الحديث لم يتعرض لمسألة كونه تبارك وتعالى كَانَ وحده بذاته، ولم يكن هناك مخلوق قط، فلم يتعرض لهذه المسألة من قريب ولا من بعيد، وإنما تعرض لجواب السؤال الذي سأله أهل اليمن، وكان سؤالهم عن هذا العالم المشهود الذي جَاءَ في القُرْآن بيان خلقه، منها آية سورة هود هذه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] وجاء الحديث موافقاً للفظ هذه الآية، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:(وكان عرشه عَلَى الماء) ، ثُمَّ لم يتعرض لما قبل ذلك.
فدل ذلك عَلَى أن أسبقية القلم هي بالنسبة للسموات والأرض، أما العرش فإنه هو والماء سابقان لوجود القلم.
وهذه إنما هي مجرد مسألة علمية تذكر لتعلم، لكن الذي يهم هو أن نفهم خطأ من انتقد شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في هذه المسألة، وقَالَ: إنه يقول: إن العرش أول المخلوقات، بينما القلم هو أولها.
الرد على القائلين أن العرش أول مخلوق مطلقاً
وخطؤه كما ترى من وجهين:
الوجه الأول: أن الراجح هو القول بأن أول المخلوقات هو العرش، أي في هذا العالم المشهود -كما أسلفنا الآن-.
والوجه الثاني: أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -كما في شرح حديث عمران بن حصين في مجموع الفتاوى، وكذلك في منهاج السنة في الجزء الأول- يقول: لا يوصف مخلوق بأنه الأول مطلقاً عَلَى جميع المخلوقات، فالأولية مقيدة بهذا العالم المشهود الذي سأل عنه أهل اليمن، أما قبل ذلك فلم يأت لا ما يثبته ولا ما ينفيه.
ومما سبق تقريره يتبين أن الله سبحانه وتعالى أزلي بصفاته، خالق، ورازق، وقدير إِلَى ما لا بداية له، فآثار هذه الصفات ومفعولاتها تظهر في حوادث يرسلها تبارك وتعالى لا علم لنا بها، ولا نستطيع أن ندركها، لكننا لا ننفيها أيضاً، لأنه ليس في الدين ولا في العقل ما ينفيها، وإنما نؤمن بأنه سبحانه (لم يكن قبله شيء) ، كما في الرواية الراجحة المختارة.
ثُمَّ يشرع المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في بيان الأدلة الدالة عَلَى صحة القول الثالث، وهذه الأوجه هي بعض ما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ فقد ذكرها بتوسع وتفصيل أكثر، فمن أراد الاستفادة فليراجع شرح حديث عمران ضمن مجموع الفتاوى (18/210)
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه:
أحدها: أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) ، وهو إشارة إِلَى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه عَلَى الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض. وأيضاً فإنه قَالَ:(كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) ، وقد روي (معه) ، وروي (غيره) ، والمجلس كَانَ واحداً، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، ولفظ "القَبْل" ثبت عنه في غير هذا الحديث.
ففي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ يقول في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) الحديث.
واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كَانَ كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ "القَبْل"، كالحميدي والبغوي وابن الأثير.
وإذا كَانَ كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
وأيضاً فإنه قَالَ: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) أو (معه) ، أو (غيره) ، (وكان عرشه عَلَى الماء وكتب في الذكر كل شيء) .
فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و (خلق السموات والأرض) روي بالواو وبثم، فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السموات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذكر السموات والأرض بما يدل عَلَى خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل عَلَى كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له] اهـ
الشرح:
توضيح كلام المُصْنِّف في الوجه الأول: فيه أن كلمة [هذا الأمر] إشارة إِلَى حاضر مشهود موجود، والأمر بمعنى الكون، أي: أول هذا الكون المعروف المشهود، لأن النَّاس يعيشون فيه فتتطلع العقول والقلوب إِلَى نشأته، وكيف كَانَ أوله، وهذه فطرة في النفس الإِنسَانية.
فمثلاً لو أدخلت أي إنسان إِلَى قصر كبير، فسيظل يسأل لمن: هذا القصر؟ ومن الذي بناه؟ وكيف جاء؟ وهكذا جميع البشر، حتى الطفل الصغير، فهي فطرة بشرية جعلها الله سبحانه وتعالى في الناس، وهذه الفطرة في الإِنسَان دائماً تبحث عن العلم ومزيد من الفقه.
فسؤال هَؤُلاءِ دلالة عَلَى كمال عقولهم ونضج تفكيرهم، وذلك لأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض، وقد أمر الله بالتفكر فيهما، فلم يخوضوا بأنفسهم كما خاض الفلاسفة من اليونان والهنود وغيرهم، بل ذهبوا إِلَى مصدر العلم اليقين -رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في الدين، فسألوه هذا السؤال، فأجابهم بما هو مذكور في الحديث.
الوجه الثاني: الروايات، فقد سبق أن ذكرنا أن هذه الروايات الثلاث التي قال شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ: إنها في البُخَارِيّ وغيره، وقال ابن حجر: وفي رواية غيرالبُخَارِيّ: (معه) ، وأشار إليها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله في أول كلامه عن هذا الحديث، فإنهما كلاهما اتفقا عَلَى أن هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم في موقف واحد، وعلى ذلك فلا يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الروايات الثلاث، وإنما قال واحدة.
فرجح شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رواية (قبله) بإطلاق؛ لأنها موافقة للحديث الآخر الصحيح، وموافقة للآيات الأخرى المعلومة، ولأنها رواية الحميدي، ورواهاالبغوي وابن الأثير أيضاً، وذكر المحقق أنها رواية الإمام أَحْمَد، فهي أوثق رواية وأكثر، وأرجح من حيث المعنى، وأما الحافظابن حجر فكأنه يرجح رواية (غيره) لأنها أصرح في نفي العدم، وهو صادق في أنها أصرح في نفي العدم المحض، وإثبات أنه لم يكن شيء موجود مطلقاً غير الله سبحانه وتعالى، لكن الحافظ ابن حجر لم يتعمق في هذه المسألة، فلم يبين رأياً قاطعاً، وإنما مال إِلَى ذلك، والصواب ما رجحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله.
الوجه الثالث: لو نظرنا إِلَى نفس الألفاظ: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) أو (غيره) ، (وكان عرشه عَلَى الماء، وكتب في الذكر كل شيء) -هذه معطوفة كلها بالواو- (ثُمَّ خلق السموات والأرض)، وفي رواية:(وخلق السموات والأرض) ، وسواء كانت بالواو أو بثم، فإن هذا المسئول عنه قبله أشياء، فقبل خلق السموات والأرض كتابة الذكر، وقبلها العرش والماء، فأجابهم بما فيه زيادة بيان منه صلى الله عليه وسلم، فبين لهم الحقيقة التي لا يمكن أن تصل إليها مجرد العقول البشرية بإطلاق، في نشأة هذا الكون.
ومن هنا كَانَ في المسألة إثبات لعظمة الله سبحانه وتعالى بمعرفة عظمة مخلوقاته ولاسيما العرش، وفيها إثبات للقدر، وأنه سابق لخلق السموات والأرض، فوجب عَلَى الإِنسَان أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب هذا قبل أن يخلق السموات والأرض، فمن ذا الذي يعترض عَلَى أقدار الله أو يأباها؟!
ثُمَّ فيها بيان بدء خلق السموات والأرض وإنشائها إنشاءً، وأنه ليس هناك مجال للخوض البشري في ماهيتها، كما خاض فيه الفلاسفة وأمثالهم، فَقَالُوا: هل وجد من مادة؟ أو من غير مادة؟ بل هذه الأمور لم يسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجب عليها، هذا ملخص الثلاثة الأوجه الأولى.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأيضاً فإنه إذا كَانَ الحديث قد ورد بهذا وهذا، فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما، فمن جزم بأن الرَّسُول أراد المعنى الآخر، فهو مخطئ قطعاً، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل عَلَى المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد (كَانَ الله ولا شيء معه) مجرداً، وإنما ورد عَلَى السياق المذكور، فلا يظن أن معناه: الإخبار بتعطيل الرب تَعَالَى دائماً عن الفعل حتى خلق السموات والأرض. وأيضاً، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن شيء قبله) ، أو (معه) أو (غيره) ، (وكان عرشه عَلَى الماء) ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تَعَالَى موجود وحده لا مخلوق معه أصلاً، لأن قوله: (وكان عرشه عَلَى الماء) ، يرد ذلك، فإن هذه الجملة وهي: (وكان عرشه عَلَى الماء) إما حالية، أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود] اهـ.
الشرح:
ومن الوجوه أن يقَالَ: لو افترض أن الحديث ورد بهذا وهذا، فإن الحديث يحتمل القولين، ولا يجوز أن يجزم بأحدهما إلا بدليل قاطع خارق.
والجزم الذي يقوله أُولَئِكَ أن الحوادث لها أول، وأن هذا الأول المذكور في هذا الحديث مسبوق بعدم محض، لم يخلق الله تَعَالَى فيه أي شيء، يقتضي تعطيل الله سبحانه وتعالى عن الخلق في ذلك الزمن، الذي لم يرد الحديث فيه بنفي ولا إثبات، وإنما هو محتمل للأمرين، وترجيح ما فيه تعطيل لصفات الله وما لم يرد به الدليل ترجيحٌ بلا مرجح، فلو أن المسألة مستوية الطرفين لكان الأولى ترجيح ما يدل عَلَى إثبات صفات الله سبحانه وتعالى؛ لكونه سبحانه وتعالى موصوفاً بالخلق وبالحكمة.
والله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء، ويتكلم متى شاء بما شاء، وإذا قلنا: إنه يتكلم، فمعنى ذلك أن له مخلوقات، كما سبق بيانه، وكما هو في قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر [الأعراف:54] ، فإن كلمات الله سبحانه وتعالى الكونية التي ينشئ بها المخلوقات لا حصر لها، كما سبق أن بينا ذلك، لأن الله تَعَالَى يقول للشيء: كن فيكون، فلا يُقَالَ: إن الكلام كَانَ ممتنعاً أو مستحيلاً عليه، ثُمَّ ابتدأ الكلام عندما أراد أن يخلق السموات والأرض فقط، فانتقل الحال من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي -كما يقولون- بلا دليل ولا مرجح، بل لو لم يكن في الأمر إلا أن يتوقف الإِنسَان في هذه المسألة ولا يرجح شيئاً لكفى.
أما الجزم بالوجه المرجوح المتضمن لتعطيل صفات الله سبحانه وتعالى، فإن هذا خطأ.
ولو نظرنا للدليل من وجوه أخرى، وقد ذكرها المُصْنِّف عن شَيْخ الإِسْلامِ هنا، عَلَى قوله صلى الله عليه وسلم:(كَانَ الله ولا شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء)، علمنا أنه لا يصح أن يفهم أن المقصود بهذا الحديث: أن الله تَعَالَى كَانَ موجوداً ولم يكن شيء غيره موجوداً إلا العدم المحض، لأن قوله:(وكان عرشه عَلَى الماء) ، يحتمل أن يكون مجرد عطف جملة عَلَى جملة، أو أن الواو حالية، فيكون المعنى حال كون عرشه عَلَى الماء كَانَ ولم يكن قبله شيء، وهذا لا يقتضي أنه كَانَ هنالك مخلوق قبل الله سبحانه وتعالى.
والذي عليه أهل السنة الجماعة أنه لم يتقدم شيء عَلَى وجود الله سبحانه وتعالى؛ لأن وجوده تبارك وتعالى لا أول له، كما هو ثابت لدى جميع الفطر والعقول، فغاية ما في الحديث إثبات أنه لم يكن هناك عدم متقدم عَلَى الله سبحانه وتعالى، سواء كانت الواو عاطفة أو كانت حالية، هذا ما اقتصر عليه المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- مما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ من الأوجه، وقد أطال فيها شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ومن أراد الاستفادة أكثر فليراجعها هناك، وفيما ذكرت الكفاية -إن شاء الله-.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[يعني: أن الله تَعَالَى موصوف بأنه "الرب" قبل أن يوجد مربوب، وموصوف بأنه "خالق" قبل أن يوجد مخلوق؛ قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قَالَ: (له معنى الربوبية ومعنى الخالق) دون الخالقية، لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم إِلَى الوجود لا غير، والرب يقتضي معاني كثيرة، هي: الملك والحفظ والتدبير والتربية وهي: تبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني، وهو الربوبية. انتهى. وفيه نظر لأن الخلق يكون بمعنى التقدير
أيضاً] اهـ.
الشرح:
في هذه الفقرة الخامسة عشر من كلام الإمام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الحديث عن الصفات، وفي معنى هذه العبارة أراد بعض الشارحين المتأخرين التعمق، فقَالَ: إنما قال هنا: الخالق، وهنا: الربوبية، ولم يقل: الخالقية؛ لأن الرب له عدة معاني: الملك، والحفظ، والتدبير، فكلمة الرب لم يستخدمها بمفردها، فإنها تطلق عَلَى المالك، فعبر بالربوبية.
وأما الخالق فجاء به مفرداً لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم، ورد المُصْنِّف في شرح العبارة الآنف الذكر بكلمة لطيفة ولكنها كافية وذلك أن الخلق أيضاً له معاني منها: التقدير، كما أنه يطلق على: الإنشاء، والابتداء من العدم، فعلى هذا ليس في كلام الإمام الطّّحاويّ رحمه الله ما يدل عَلَى أنه تعمد أن يفرق بين هذا اللفظ وذاك، وإنما هو كلام خرج عَلَى سجيته لم يقصد به معنى آخر.
وبغض النظر عن هذا التفريق اللفظي، فمعنى هذه الفقرة الخامسة عشر، لا يخرج عن معنى الفقرة الرابعة عشر، والثالثة عشر في الجملة.
اتصاف الله بالكمال في الأزل
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[يعني: أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه محيي الموتى قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم، إلزاماً للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم. وتقدم تقرير أنه تَعَالَى لم يزل يفعل ما يشاء] اهـ.
الشرح:
إن الله عز وجل يخلق هذه الأجيال جيلاً بعد جيل، ثُمَّ يجمع الأولين والآخرين، ويحي الموتى سبحانه وتعالى، ومع ذلك نصفه الآن بأنه محيي الموتى، قبل أن يحييهم، وكذلك نصفه سبحانه وتعالى بأنه الخالق، قبل أن يخلق هذا الكون، وهذا هو المقصود والمراد؛ أن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال في الأزل، وهو سبحانه وتعالى متصفاً بها حتى قبل أن يخلق هذه الأعيان المشهودة المرئية لنا، وهذا إلزام للمعتزلة ومن قال بقولهم.
وقد تقدمت مسألة أن الخلق متعلق بالإرادة، وكذلك أن كلام الله سبحانه وتعالى متعلق بالإرادة، والمعتزلة والرافضة وأمثالهم خالفوا في الإرادة، إرادة الفعل، وإرادة الكلام، أما الأشعرية فإنما خالفوا في الإرادة فقط، وَقَالُوا: إن الكلام أزلي قائم بالنفس، وسيأتي تفصيل هذا الكلام إن شاء الله تعالى.
والمقصود: أن هذا إشارة إِلَى ما سبق في شرح الفقرة الثالثة عشر، عندما ذكرنا هنالك المذاهب في قدم صفات الله سبحانه وتعالى وفي أزليتها.
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ذلك بأنه عَلَى كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إِلَى شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ذلك إشارة إِلَى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه، والكلام عَلَى "كل" وشمولها وشمول "كل" في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن، يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.
وقد حرّفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، فَقَالُوا: إنه قادر عَلَى كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد، فلا يقدر عليها عندهم. وتنازعوا: هل يقدر عَلَى مثلها أم لا؟! ولو كَانَ المعنى عَلَى ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقَالَ: هو عالم بكل ما يعلمه، وخالق لكل ما يخلقه، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته عَلَى كل شيء.
وأما أهل السنة، فعندهم أن الله عَلَى كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته. مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حال واحدة، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه، وأمثال ذلك من المحال.
وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر عَلَى تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه عَلَى كل شيء قدير] اهـ.
الشرح:
المقصود بقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: [ذلك بأنه عَلَى كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير] أن ذلك إشارة إِلَى الفقرات السابقة المتضمنة لأزلية صفات الله سبحانه وتعالى، وكونه لم يزل متصفاً بصفات الكمال سبحانه وتعالى قبل إنشاء المخلوقات، ولم يزده خلق هذه المخلوقات صفاتاً أخرى لم يكن متصفاً بها من قبل.
من معاني كلمة "كل" في اللغة والرد على المعتزلة
ويشير المُصْنِّف إِلَى أن كلمة "كل" تطلق في اللغة العربية عَلَى معانٍ كثيرة سيذكرها فيما بعد.
أقول:
ومنها: العموم، ولذلك يسمونها في المنطق: ألفاظ العموم، وهي التي تصور الشيء وتحيط بجميع ما تدل عليه، فإذا قلت: كل الطلاب.
معنى ذلك أنك لا تستثني منهم أحداً، ولكنها أيضاً تأتي أحياناً لعموم مقيد، وهو لا يعني العموم المطلق من كل وجه، ولهذا لما جَاءَ المعتزلة وغيرهم، يناظرون الإمام أَحْمَد رحمه الله في مجلس الخليفة، قالوا له: يا أَحْمَد! أليس القُرْآن شيء؟. قَالَ: بلى. قالوا: أليس الله تَعَالَى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] ؟ قَالَ: بلى، قالوا: إذن القُرْآن مخلوق.
فرد عليهم الإمام أَحْمَد بإلزام يوضح أن كلمة كل هنا ليست بمعنى الإطلاق.
وذلك أنه لما قال الإمام أَحْمَد: أو ليس الله تَعَالَى يقول في الريح التي أرسلها عَلَى عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] ؟ فهل دمرت السماوات؟ وهل دمرت الأرض؟ وهل دمرت الرمال؟ إنما تدمر كل شيء أمرت بتدميره، وهو هَؤُلاءِ الناس، وما يتعلق بهم من أموالهم وأمتعتهم، أو مساكنهم أو نحو ذلك.
فكلمة "كل" إذاً ليس مدلولها الشمولية الكاملة في كل وقت، وإنما تأتي هذه الكلمة بحسب السياق الذي تدل عليه، فعمومها قد يكون مطلقاً، وقد يكون مخصوصاً، أو خاصاً بما يقيده، وتعينه القرائن الحافة به.
ثُمَّ انتقل إِلَى تحريف المعتزلة لمعنى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، بأنه: وهو عَلَى ما يقدر عليه قدير، أو عَلَى ما يشاء قدير، ومقصودهم بذلك أنه لا يشاء أفعال العباد القبيحة، وأن الله لا يشاء معاصي العباد، كما سبق في بحث الإرادة، قالوا: وهو عَلَى ما يشاء قدير، ولا يقولون: عَلَى كل شيء قدير، حتى لا يدخلوا أفعال العباد هذه، وَقَالُوا: وهو عَلَى كل شيء مقدور له قدير، وأفعال العباد ليست مقدورة له.
فرد عليهم المُصْنِّف رحمه الله هنا بأنك إذا قلت: فلان بما يعلمه عليم، وفلان بما يقدر عليه قدير، أنها لا تثبت فائدة في حق المخلوق، فكيف في حق الله سبحانه وتعالى؟!
والمعنى الصحيح أن الله سبحانه وتعالى قدير عَلَى كل شيء بإطلاق، حتى أفعال العباد، فهي من مشيئته سبحانه وتعالى، ولهذا أذكر قصة وهي أشبه بالنكتة:
دخلالزمخشري عَلَى أحد الأمراء، وعنده رجل جالس منأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فأراد الزمخشري -وهو معتزلي- أن يغيظ هذا العالم السني، فقَالَ: سبحان من تنزه عن الفحشاء كلام عادي لو سمعه أي واحد، فإنه يقول: جزاه الله خيراً يذكر الله عز وجل، ولكن هذا الخبيث يقصد أن الله ليس هو الذي خلق أفعال العباد، من المعاصي والأفعال السيئة- فَقَالَ السني: سبحان من يفعل ما يشاء. فألجمه وأفحمه، بأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، يخلق الشر كما يخلق الخير سبحانه وتعالى، وذاك ينزهه عن أن يكون خالقاً للشر، بينما الله يفعل ما يشاء، يخلق الخير ويخلق الشر.
فكان إفحاماً سريعاً، وبنفس اللفظة، وعلى نفس السجعة، وهذا توفيق من الله عز وجل.
الشاهد أن قدرة الله عز وجل تتضمن كل شيء كلية مطلقة، لكن الذين طمس الله عَلَى بصائرهم، وأضل عقولهم، وختم عَلَى قلوبهم، دخلوا في أسئلة من الكلام المتناقض الذي يريدون به التشكيك، وبذر الشبهات في قلوب الْمُسْلِمِينَ.
هل المحال يدخل في عموم كلمة "كل"
جاء سؤال في إذاعة لندن، قبل زمن: إذا كَانَ الله عَلَى كل شيء قدير، فهل يقدر أن يخلق أكبر منه، أو أعظم منه؟
وهذه شبهة قديمة -كما ترون ذكرها المُصْنِّف هنا- وهذه الشبهة لا يقولها إنسان عاقل؛ لأن هذا الإِنسَان العاقل إن كَانَ مؤمناً بالله، فإن كل من يؤمن بالله من مسلم أو يهودي أو نصراني أو غير ذلك، يؤمن بأنه عَلَى كل شيء قدير، وأنه سبحانه وتعالى لا شيء مثله، ولا شيء أكبر منه، ومن قال أن هناك ما هو أكبر من الله، فالإله عنده هو الأكبر وليس الأصغر، فبطبيعة الحال يقال له: كيف تعبد الأصغر مع وجود الأكبر؟
والمعتزلة وأمثالهم يقولون: وجود مثيل لله من المحال، لأن واجب الوجود واحد لا يتعدد، وقولهم من المحال. أي: مما يحيله العقل. فيقال لهم: شيء يحيله العقل كيف تسألون عنه؟ هل يفعله الله أو يقدر عليه؟ فقد تناقضتم مع اعترافكم، ومع إقراركم بأنه محال، لا يمكن هذا أبداً، فالسؤال إنما يكون عن الأمور الممكنة، ولا يحتاج أن يرد عليكم إلا ليبين تناقضكم في نفس سؤالكم من نفس كلامكم وما تعقدونه.
وأنتم تقولون وكل العقلاء: أن المحال شيء، والممكن شيء آخر، وأن الوصفين لا يجتمعان في حق أي شيء، فنقول: ممكن ومحال في نفس الوقت، فسؤالك هذا هو عن الإمكان، والسؤال عن الإمكان لا يكون بالمحال.
وهذه من فلسفات الزنادقة، وتمويهات السفسطائية، يريدون أن يلبسوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وخاصة العوام بأمثال هذه الفلسفات، التي لا أصل لها، ولا حقيقة لها.
والحق ما أجمله المُصْنِّف بقوله: هو الإيمان بربوبية الله تَعَالَى العامة والتامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر عَلَى تلك الأشياء. انتهى.
ومن قَالَ: إنه رب كل شيء، يجب عليه أن يؤمن بأنه رب جميع هذه الأشياء سبحانه وتعالى، فهو ما دام ربها فهو خالقها وحده سبحانه وتعالى، وكذلك لا يؤمن بتمام ربوبيته وكماله إلا من آمن بكمال قدرته سبحانه وتعالى؛ فالمعتزلة حينما يخرجون شيئاً عن قدرة الله، سواء كَانَ فعل الشر، أو أفعال العباد، أو غير ذلك، فإنهم ينقصون من قدر الربوبية، فكأن الله ليس رباً لكل شيء لما أخرجوا ذلك عن قدرته سبحانه وتعالى، وإلا ما دام أنه رب كل شيء كما تقولون، فإذاً كلها تخضع لقدرته سبحانه وتعالى.
هل المعدوم الممكن يسمى شيئاً
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن: هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون، ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب، لا في الخارج، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9]، أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كَانَ شيئاً في علمه تعالى، وقال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإِنسَان:1]] اهـ.
الشرح:
يعني: أن الشيء الذي اختلفوا فيه هو المعدوم الممكن، هل يسمى شيئاً أولا يسمى شيئاً؟
وذكر المُصْنِّف رحمه الله: أن التحقيق في المعدوم في ذاته أنه ليس بشيء، فالمعدوم لا يسمى شيئاً، لكن ما كَانَ في علم الله أنه سيوجد يسمى شيئاً، باعتبار أن الله سبحانه وتعالى يعلم أنه سيوجد، لأنه -جل شأنه- يعلم بالشيء متى يوجد؟ وكيف يكون؟ قبل أن يوجده.
فما وجد وما لم يوجد بعد، هو سواء في علمه سبحانه وتعالى، وقد يسمى شيئاً عنده، أما بالنسبة لنا نحن، فإن ذلك متعذر علينا ولا نسميه شيئاً، ومن الأدلة عَلَى تسمية ما لم يوجد بعد شيئاً عند الله قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] ، والساعة لم تقم بعد، وقد وصفها الله بأنها شيء عظيم؛ لأنها ستوجد، والله سبحانه وتعالى يعلم بكيفيتها إذا حدثت، وقد أخبرنا بذلك. أما بالنسبة لنا نحن، فإن ذلك متعذر علينا ولا نسميه شيئاً،
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، أي: إذا أراد الله شيئاً يكون عَلَى وفق ما يعلمه سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم الشيء قبل وجوده.
وكذلك قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] وقوله: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإِنسَان:1]، أي: لم يكن شيئاً في الوجود الخارجي، أو في العالم المشهود عند الناس، أما في علمه تَعَالَى فإنه موجود.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] رد عَلَى المشبهة. وقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] رد عَلَى المعطلة، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وليس له فيها شبيه، فالمخلوق وإن كَانَ يوصف بأنه سميع بصير، فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من إثبات الصفة تشبيه، إذ صفات المخلوق كما يليق به، وصفات الخالق كما يليق به.
ولا تنف عن الله ما وصف به نفسه، وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنصحهم لأمته وأفصحهم وأقدرهم عَلَى البيان؛ فإنك إن نفيت شيئاً من ذلك كنت كافراً بما أنزل عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وإذا وصفته بما وصف به نفسه، فلا تشبهه بخلقه، فليس كمثله شيء. فإذا شبهته بخلقه، كنت كافراً به.
قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البُخَارِيّ: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً.
وسيأتي في كلام الشيخ الطّّحاويّ رحمه الله: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه] . اهـ.
الشرح:
هذه الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، قد سبق شرحها، وأيضاً ذكر المُصنِّفُ شرحها هنا، وهي من الأدلة القطعية العظيمة، الدالة عَلَى صحة مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإن قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رد عَلَى المشبهة، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد علىالمعطلة.
فنحن نثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، في كتابه أو عَلَى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفصح الخلق وأعلمهم بما ينبغي لجلال وجه الله سبحانه وتعالى من صفات الكمال والجلال، وأقدرهم عَلَى البيان، وننفي مع هذا الشبيه لله سبحانه وتعالى، وبذلك نكون عَلَى المنهاج القويم والقسطاس المستقيم.
أما الذين استدلوا بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فقط، فنفوا الأسماء والصفات، ولم يثبتوا إلا الوجود المطلق، والذين لم يثبتوا إلا أسماءً مجردةً من الصفات، والذين لم يثبتوا إلا صفات عقلية معينة، فإنهم قد ضلوا في فهم هذه الآية، وعموا عن آخرها الذي هو واضح في إثبات هذه الصفات، كما سبق بيانه.
وقد ذكرنا كلام الشيخ الأمين الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في أن صفتي السمع والبصر من أكثر الصفات عموماً، حتى في أدنى الحيوانات، فهذا حد كل المخلوقات، فكل من له صفة الحياة نجد أن صفة السمع والبصر موجودة لديه، إلا القليل النادر، وفي هذا الدليل قوة عَلَى إثبات الصفة، لكن ليست في المخلوقات كمثلها في الله، لأن الله قد قال قبل أن يثبتها: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وهذا فيه قوة النفي المطلق للمثلية، وكذلك في آخر الآية قوة الإثبات لصفتي السمع والبصر، ومعلوم لجميع النَّاس أن عدم الاتصاف بها نقص.
فلو رأينا -مثلاً- حيواناً أعمى، أو لا يسمع، فإنه يقال فيه: حيوان ناقص، هذا وهو حيوان، فكيف بمن له المثل الأعلى سبحانه وتعالى؟
فيُقَالُ: ليس له سمع، أو ليس له بصر؟ هذا غاية النقص لقدره وجلاله سبحانه وتعالى.
ثُمَّ يذكر المُصنِّفُ رحمه الله أن من نفى شيئاً من صفات الله الثابتة له فقد كفر، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر، واستدل عَلَى ذلك بقول الإمام نعيم بن حماد شيخ الإمام البُخَارِيّ -رحم الله الجميع- وقد سبق أن أوردنا هذا القول له وشرحه فيما مضى.
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ إِلَى شرح آية: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60]، مع أن الطّّحاويّ لم يذكرها إنما ذكر آية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
…
، وذلك لأن نفاة الصفات عارضوا بين الآيتين، فأراد رحمه الله أن يبين أنه لا تعارض بين الآيتين كما سيأتي.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد وصف الله تَعَالَى نفسه بأن له المثل الأعلى، فَقَالَ تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60]، وقال تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27] ، فجعل سبحانه وتعالى مثل السوء -المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال- لأعدائه الْمُشْرِكِينَ وأوثانهم، وأخبر أن المثل الأعلى -المتضمن لإثبات الكمال كله- لله وحده.
فمن سلب صفات الكمال عن الله تعالى، فقد جعل له مثل السوء، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كَانَ بها أكمل وأعلى من غيره.
ولما كانت صفات الرب تَعَالَى أكثر وأكمل، كَانَ له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه؛ بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان، لأنهما إن تكافآ من كل وجه، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير] اهـ.
الشرح:
هذا المثل الأعلى المذكور في الآيتين لا يدل عَلَى أن الله سبحانه وتعالى يشبهه شيء، أو يماثله شيء، كما يظن الظانون، وإنما يدل عَلَى أن الكمال المطلق في أي صفة من صفات الكمال له سبحانه وتعالى.
فقوله سبحانه: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27]، أي: الكمال المطلق الذي ليس فوقه شيء، أما مجرد الوصف فهو لجميع المخلوقات، كالوصف بالعلم والقدرة والحياة للإنسان مثلاً، لكن المثل الأعلى في هذه الصفات هو الله سبحانه وتعالى.
وهذا يتضمن أن نثبت لله سبحانه وتعالى كل صفة كمال، فأي صفة يكون عدم إثباتها نقصاً لله عز وجل فيجب أن نثبتها له، لأنه هو الذي له المثل الأعلى سبحانه وتعالى.
وأي كمال يخطر ببال الإِنسَان في أن يصل به أي أحد، فإن الله سبحانه وتعالى هو المتصف بغاية هذا الكمال، ولا يشاركه فيه أي مخلوق من العالمين.
فهو وحده له الكمال الأعلى؛ لأن له المثل الأعلى، وأما الذين من دونه، الذين لا يؤمنون بالآخرة، فأمثالهم أمثلة السوء، كما ذكر الله سبحانه وتعالى.
وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله إما أنها حجارة لا تسمع ولا تنطق، وهذا من أدل الأدلة عَلَى أنها ليست آلهة، لأنها لا تتصف بالسمع ولا بالكلام، كما حآجَّ إبراهيم قومه في ذلك، كما في آخر سورة الأعراف، وكذلك العجل لمَّا اتخذه اليهود، احتج الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] ، فالرب الذي لا يكلم ولا يهدي اتباعه كيف يكون رباً؟
وهكذا نقول: إن مثل السوء -كل نقص في الصفات- فإنه يأتي في حق المعبودات التي عبدت من دون الله سبحانه وتعالى، وفي حق الذين لا يؤمنون بالآخرة.
أقوال أهل العلم في تفسير المثل الأعلى
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[واختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى، ووفق بين أقوالهم بعض من وفقه الله وهداه، فقَالَ: المثل الأعلى يتضمن: الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تَعَالَى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فهاهنا أمور أربعة:
الأول: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه، من معرفته وذكره، ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه.
وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته.
وهذا معنى قول من قال من المفسرين: إن معناه: أهل السموات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظمون له مجلون، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26] .
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها، وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كَانَ الإيمان بالصفات أكمل، كَانَ هذا الحب والإخلاص أقوى.
فعباراتالسلف كلها تدور عَلَى هذه المعاني الأربعة. فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27]، وبين قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ؟ ويستدل بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ عَلَى نفي الصفات ويعمى عن تمام الآية وهو قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم، وهو أحمد بن أبي دؤاد القاضي.
إلى أن أشار عَلَى الخليفة المأمون أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، حرّف كلام الله لينفي وصفه تَعَالَى بأنه السميع البصير، كما قال الضال الآخر جهم بن صفوان: وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] ، فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، بمنه وكرمه] اهـ.
الشرح:
هذا الذي ذكره المُصْنِّف رحمه الله في تفسير المثل الأعلى، وأثنى عَلَى قائله هو من كلام الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وهو موجود في مختصر الصواعق.
ومعنى ما ذكره المُصْنِّف هنا: أن عبارات السلف التي اختلفت في تفسير المثل الأعلى تدور عَلَى أربعة معانٍ:
فمنهم من فسره بأنه صفاته التي يوصف بها.
ومنهم من فسره بإدراك المخلوقين، أو إحساس كل مخلوق بأن الله هو الأعلى في كل شيء.
ومنهم من فسره بأنه ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
ومنهم من فسره بأنه توحيده وإخلاص العبادة له.
والمثل الأعلى -هذه: الجملة العظيمة- يتضمن هذه الأمور جميعاً.
واختلاف أقوال السلف من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد، فإن قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60] يتضمن هذه الأمور الأربعة:
الأول: ثبوت الصفة العليا لله سبحانه وتعالى، أي صفة عليا، وأي صفة كمال، فهي ثابتة لله سبحانه وتعالى سواء علمها العباد أو لم يعلموها، فما علمه الإِنسَان وما لم يعلمه من صفات الكمال، فإنه ثابت لله سبحانه وتعالى، وهو المتصف بالكمال المطلق وحده.
والثاني: وجودها في العلم والشعور، أي أنها توجد لدى الملأ الأعلى، ولدى الناس، حتى لدى الكافر منهم، كما قلنا -مثلاً- أن من يعبد الله عز وجل ويؤمن بوجوده، فلا بد أن يتصور أنه حي سبحانه وتعالى، وأن له كمال الحياة، وأن هذا الإله الحي يفعل ما يشاء، وأنه قدير عَلَى كل شيء سبحانه وتعالى.
فهذه كلها تدل عَلَى أنه قد استقر في نفوس البشر، وفي أحاسيسهم وإدراكهم أن الذي له هذه الصفات بإطلاق، ولا ينازعه فيها شيء، ولا يقارنه في تمامها وكمالها شيء، هو الله وحده سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإنك تجد أن أي إنسان إذا أعجزه أمر من الأمور يقول: هذا شيء لا يقدر عليه إلا الله. أما الكافر وإن كَانَ يقول أنه لا يؤمن بوجود الله، فإنه يُعبر عن هذا بالفطرة، فإنه مستقر في الذهن أن القدرة المطلقة التي لا يغلبها أي شيء، هي لله وحده، وهكذا بقية الصفات.
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
ومعنى هذا أن لله عز وجل من الصفات ما لا يترتب عليها عمل -أي بالجوارح- حسب فهم بعض الناس، فيُقال لهذا: مجرد علمك بها يزيد إيمانك بالله، ويزيد معرفتك به، ويجعل في القلب علم ونور.
ومثل هذا بعض الصفات التي جاءت في الأحاديث من أن الله عز وجل يخفض القسط ويرفعه، وأنه سبحانه وتعالى خلق العرش، وخلق القلم، وأنه قدر المقادير، ولكن نقول: إن هذه الصفات قد يكون لها بعض الأثر المباشر أو غير المباشر في أعمال الجوارح، وقد قلنا: إن مجرد المعرفة القلبية نفسها عمل، ثُمَّ إنها قد تورث عملاً بالجوارح، وهذا من ثمرة معرفتك ربك سبحانه وتعالى.
فعلى هذا: إذا سمعت من يقول لك: لا تتعلم الصفات، فاعلم أنه كأنما يقول لك: لا تقرأ القرآن، ولا تقرأ السنة، ولا تعرف ربك، كما قال بعضهم في كتاب له حق الله عَلَى العبا
وحق العباد عَلَى الله: المهم أن الإِنسَان يطيع الله، فلو أني -مثلاً- أطعت الملك، وسواء كنت أعلم أن هذا الملك هو في هذا البلد أولاً.
المهم أنني أطعته، فكذلك الله -سبحانه- المهم أني أطعت أمره.
فيأتينا بهذا المثال الذي فيه تشبيه بربنا عز وجل، ويخبرنا الله أنه عَلَى العرش، لكنه يقول: لا يهم معرفة كونه عَلَى العرش أولا، فليس لنا دخل، المهم أن نطيعه، نصلي له ونعبده.
فنقول له: -سُبْحانَ اللَّه! - أليست الصلاة نفسها نقول فيها: سبحان ربي الأعلى؟! إذاً فالصلاة مرتبطة بالإيمان، ومرتبطة بالأسماء والصفات.
فهل يجوز لإنسان أن يقول: أنا حر في أن ألغي هذه الآيات التي في العلو، وهذه الآيات الكثيرة التي في الاستواء، والمهم أنني أصلي لله وأصوم له؟!
-سُبْحانَ اللَّه! - كيف يعرض هذا الإِنسَان عن الفقه الأكبر -كما سماهأبو حنيفة رحمه الله وهو معرفة الله، ويعمل بالفقه الأصغر، الذي هو الأحكام، والحلال والحرام؟!
ونعود إِلَى الكلام عن توحيد العبد، حول الكلام عَلَى أن من عارض بين قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60]، وبين قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
…
[الشورى:11]، فهو كما قال المصنف: ليس هناك أحد أضل منه.
لأن مثل هذا الضلال أفضى بابن أبي دؤاد -وكان وزيراً للمأمون مقرباً عنده- إِلَى أن قال للمأمون لما عمل لباساً للكعبة: اكتب عَلَى سترالكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم. وذلك لأنه يرى أن في قوله سبحانه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] تشبيه، وهذا لقلة عقله وفجوره.
-سُبْحانَ اللَّه! - أوليس للبشر أيضاً عزة وحكمة، كما لهم سمع وبصر؟ بلى والله، ولكنه الضلال والافتراء والبهتان، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] ، فيهم أيضاً صفة الحكمة، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12] ، كما أن فيهم صفتي السمع والبصر، قال الله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإِنسَان:2] .
إذاً الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين: أن صفات الله تَعَالَى لائقة بجلاله وعظمته، وأن صفات المخلوقين لائقة بهم، لجهلهم ونقصهم وعجزهم.
كما قال أحد المعتزلة أيضاً: وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]-نعوذ بالله من الضلال-.
وهذا المعتزلي قيل إنه: عمرو بن عبيد، ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً إذا قرأ هذه السورة يتضجر، ويريد أن لا تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقل هذا الفاجر الضعيف -سواء كَانَ هو عمرو أو غيره-، يقول: كيف ينزل الله هذه السورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]-وفيها دليل عَلَى أنأبا لهب سيموت كافراً- وأبو لهب لا يزال حياً وكأن فيها تعجيز؟!
وأصل هذا السؤال أورده عليه الفلاسفة فَقَالُوا: كيف يكون موقف الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إذا آمن أبو لهب، وكان مصيره الجنة؟
فاحتار ولم يعرف الجواب فقَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف، فنرتاح من المشكلة ومن الجواب، نسأل الله العفو والعافية.
وكان الواجب عليه أن يسأل أهل العلم، كما قال الله تعالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] .
ثُمَّ إن هذه الصفات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، صفات كمال ليس فيها نقص من وجه من الوجوه.
والمعنى الرابع: أن إثبات المثل الأعلى لله سبحانه وتعالى يتضمن توحيده، وعبادته وحده لا شريك له بإخلاص؛ لأنه كلما كَانَ إيمان الإِنسَان بأن لله المثل الأعلى أكثر، كلما كانت عبادته لله سبحانه وتعالى أكثر وأعظم، وهذا أمر محسوس.
ولذلك قال كثير من السلف في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، ليس المقصود بالذي يعمل السوء: الذي يرتكب الفاحشة وهو جاهل، كَانَ يزني وهو لا يدري أن الزنى حرام، إنما المقصود أن كل من عصى الله فهو جاهل، أي: جاهل بقدر الله عز وجل حين ارتكب هذه المعصية فإن من كَانَ يعلم أن الله تبارك وتعالى مطلع عليه، عالم بأحواله، رقيب عليه سبحانه وتعالى في كل حركاته، ولا يخفى عليه من أمره شيء، وأنه تَعَالَى شديد العقاب، قد أعد النَّار لمن يعمل هذه الفاحشة، فكل هذه الأمور التي وصف الله بها نفسه، من كَانَ يعلمها حقيقةً في تلك اللحظة، فإنه لا يفعل الفاحشة أبداً، فهو جاهل بقدر الله لا بحكمه، كما في حديث قصة الرجل الذي قيل له:(اتقِ الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه) .
فإن معنى اتق الله: تذكر هذه المعاني كلها، فكف عنها الرجل ولم يفعل شيئاً؛ لأنه في تلك اللحظة كَانَ جاهلاً بقدر الله عز وجل، فأراد أن يرتكب المعصية فلما ذكرته بذلك تذكر الله وعظمته، وعظمة وعيد الله فلم يفعل.
ولذلك نقول: إنه كلما كَانَ الإِنسَان أعلم بالله، كَانَ أبعد عن معصية الله سبحانه وتعالى.
مثال آخر: وهو ذلك الرجل الذي مر ذكر قصته قبل، وأنه قال حين موته: (إذا أنا مت فأحرقوني، ثُمَّ ذروني فضعوا نصفي في البحر ونصفي في البر
…
) ؛ والذي حمله عَلَى ذلك جهله بمعنى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20] ، فما بالك بمن يجهل كثيراً من صفات الله ولا يعلمها؟
والرد عَلَى شبهات أهل الباطل من باب الجهاد بالقرآن، وهذا مما ابتلى الله به العلماء وقبلهم الأنبياء، وهذا لا بد منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله، وكذلك جميع الأَنْبِيَاء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يتمنون أن يأتي أحدهم فيقول لقومه:(اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه) ُ [هود:50] ، فيؤمن القوم، وينتهي الأمر، لكن لم يكن ذلك، بل وجد من يعادي، ومن يجادل، حتى قال القائل: صف لنا ربك؟ وكثرت الشبهات والأقاويل في الله سبحانه، وفي الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر ومفتر وكذاب، وَقَالُوا: أساطير الأولين اكتتبها، فكان لا بد من رد عَلَى هذه الشبهات، ولذلك رد القُرْآن عليها وبين بطلانها.
والكلام هنا عن الصفات من هذا القَبيل؛ لأن حقيقة معرفة صفات الله عز وجل ثمرتها أن يعرف الإِنسَان ربه، وهذا أشرف العلوم جميعاً؛ حتى ولو علمت صفة لا يترتب عليها عمل؛ لأن العلم بها يزيد إيمانك بالله، ويزيد معرفتك بالله عز وجل.
قد تقدم الحديث عن معنى قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] والمؤلف هنا استطرد في بيان أن قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، مع دلالته عَلَى إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، ونفي المثيل عن الله سبحانه وتعالى، لا يعارض قوله تبارك وتعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27] ، فإثبات المثل الأعلى شيء، ونفي المثيل له سبحانه وتعالى شيء آخر.
واستطرد تبعاً لذلك في شرح معنى: الْمَثَلُ الْأَعْلَى.
وموجز ذلك أن المثل الأعلى هو الكمال المطلق، والغاية العليا للصفة التي ليس وراءها شيء، فلله تَعَالَى المثل الأعلى في العلم فمهما كَانَ عند المخلوقين من علم، ومهما وصفنا أي مخلوق بأنه عالم، فإن لله المثل الأعلى في ذلك؛ بمعنى أن له الكمال المطلق في العلم الذي ليس وراءه أي شيء، وليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه، وذكر المُصنِّفُ رحمه الله الأمور الأربعة التي عبر بها السلف عن معنى المثل الأعلى، وتضمن كون المثل الأعلى لله سبحانه وتعالى الأمور الأربعة التي هي ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى، والشعور بها، وعلمها، وإدراكها، ثُمَّ ذكر صفاته والخبر عنها.
ثُمَّ الرابع محبته وتوحيده وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى، وتجريد متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ يبين المؤلف أن هذه الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فيها خلاف بين النحاة والشُّراح المفسرين من الناحية الإعرابية ويذكر هذه الأوجه، ويجيب في أثناء ذلك عَلَى الشبهة التي قد تطرح وهي دخول الكاف عَلَى المثل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيظن أن ليس في الآية نفياً مثلياً مباشرة، وإنما هي نفي شبيه المثلية، فهل هذه الآية عَلَى ظاهرها؟ أو ما المقصود من هذه الكاف الزائدة؟ هذا ما سوف نتحدث عنه فيما بعد.
والقول بأن هناك معارضة بين قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27] .
دعا المؤلف إِلَى نوع من الاستطراد البياني، وأن هناك من يتلقون القُرْآن عَلَى غير ما أمر الله تَعَالَى به من التلقي والقبول؛ وهم الذين في قلوبهم مرض؛ الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] وذكرهم في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26]
وهنا مرضان من أمراض القلوب في تلقي القرآن، سواء ما كَانَ من الصفات أو غيرها، فالأول:
اتباع المتشابه ورد المحكم
وهو أن الإِنسَان يتبع المتشابهات ليحرف ويرد بها المحكمات، ويؤول معاني المحكمات لأجل المتشابهات، وهذا نوع من أنواع المرض والعياذ بالله.
كراهية بعض ما أنزل الله
والثاني: أن يكره الإِنسَان بعض ما أنزل الله ويجامل أعداء الله ويقول: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26] فلا يسلم تسليماً كلياً قاطعاً لما أنزله الله سبحانه وتعالى ولما جَاءَ عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قدر موجب لإحباط العمل، فلذلك قال في آخر الآية: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28] لأن كراهية بعض ما أنزل الله سبب من أسباب إحباط العمل.
فلو أن أحداً آمن بدين الإسلام كله وبشريعة الإسلام كلها، إلا أنه لم يؤمن بحرمة الربا -مثلاً- أو يكره في نفسه كون الربا حرام، أو كون الزنا حرام، أو يكره ويتضجر من أن الله سبحانه وتعالى شرع للمرأة أن تقرَّ في بيتها وأن لا تتبرج وهو يريد هذا التبرج، أو يكره هذه الآيات، ويكره هذا الحكم، وإن كَانَ مسلماً منقاداً لبقية الشريعة فإن هذا كله يؤدي إِلَى إحباط عمله - والعياذ بالله؛ لأن هذا اعتراض وكراهية لبعض ما أنزل الله تبارك وتعالى.
ومن هذا أيضاً ما كَانَ في نفاة الصفات كالذين تحدث عنهم المؤلف كابن أبي دؤاد حيث أشار عَلَى الخليفة المأمون -وكان وزيراً للمأمون مقرباً عنده- أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم والعياذ بالله فقد كره أن يكتب وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ؛ لأن في نظره أن السمع والبصر من صفات المخلوقين، فيكون فيها تشبيه، أما العزة والحكمة، فلا تدل عَلَى التشبيه، وهذا من جهله، وعقله الفاجر.
فإن البشر أيضاً فيهم العزة وفيهم الحكمة، كما أن فيهم السمع وفيهم البصر، والله سبحانه وتعالى قد أثبت العزة له ولرسوله وللمؤمنين، وكذلك أثبت الحكمة لبعض عباده فَقَالَ تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة [لقمان:12] وعليه فليس الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين أن نرد بعض الصفات ونؤمن ببعض! وإنما الفرق أن نقول: إن ما يتعلق بذات الله من صفاته سبحانه وتعالى يختلف اختلافاً كلياً عن صفات المخلوقين، فلله تَعَالَى صفات لائقة بجلاله، وللمخلوق صفات لائقة به وهو الجاهل والناقص والعاجز.
وكذلك ما ذكره عن الجهم بن صفوان أنه قَالَ: وددت أني أحُكُّ من المصحف قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أعاذنا الله من الغواية والضلال، ومثله امرأةجهم فقد سمعت رجلاً يقرأ قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فقالت: محدود عَلَى محدود ليس هكذا.
لذلك قال بعض العلماء: إن الجهمية يريدون أن يثبتوا أنه ليس في السماء شيء، وليس فوق العرش شيء، وهم -كما ذكرنا- يثبتون مجرد وجود مطلق لا يوصف بأي شيء، وهذا من الجرأة عَلَى الله، ومن الزيغ، ومن مرض القلب والضلال.
ومثال ثالث: وهو عمرو بن عبيد ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً لما يقرأ قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] يتضجر ويريد أن لا تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقله الفاجر الضعيف يقول كيف ينزل الله هذه الآية تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وفيها دليل عَلَى أن أبا لهب سيموت كافراً.
وأبو لهب مازال حياً؟! وهذا السؤال يورده الفلاسفة علىالجهمية فيقولون: إن من آمن دخل الجنة، فكيف يكون موقف الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إذا فعلأبو لهب ذلك؟ ولما سمع عمرو بن عبيد هذه الشبهة ولم يعرف لها جوباً، قَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف فنرتاح من المشكلة وشجوابها! نسأل الله العفو والعافية.
عدم رد الأمر إلى ولي الأمر عند التنازع
والقاعدة التي يعرف بها وقوع الضلال والزيغ هي: أنه يأتي من عدم رد الأمر إِلَى أولي العلم، كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، وقَالَ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول ولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] فلذلك إذا جاءنا أمر أي أمر كان: علمي، أو أمر من أمور الدعوة ومصالح الدعوة الإسلامية كما في بداية الآية:وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83] .
فيسأل فيه العلماء عند الإشكال ويتنبه إِلَى أنه قد لا يكون هناك إشكالٌ أصلاً مثل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] فليس فيه إشكال عَلَى الإطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق أبا لهب ويعلم عناده وكرهه للدين، وأنه لن يؤمن فمن المحال أن يقع خلاف ما قدره الله عز وجل.
فالله تبارك وتعالى أنزل القُرْآن بمقتضى ما علمه وقدره، مِنْ أن عناد هذا الرجل لن يجعله يوماً من الأيام يتوب إِلَى الرشد ويسلم، فيظل أبو لهب عَلَى الكفر حتى يموت، فهذا علمه الله عز وجل وقدره، ومن المحال أن يقع شيءٌ خلاف ما قدره الله تبارك وتعالى، وليست المسألة بهذا الإشكال الذي يجعل الإِنسَان عندما يعجز عنها أو تواجهه القضية يتمنى أن هذه الآية ليست موجودة، أو أن هذا الحديث لم يصحَّ عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
بل الذي يتحتم عند مرور الآية والحديث الصحيح أن نتلقى ذلك بالإيمان، وبالقبول، وبالتصديق؛ فإن أشكل علينا شيء في معنى أحدهما رددناه إِلَى أولي العلم من الأحياء، أو من الأموات من خلال كتبهم، فإن لم يكن بعد ذلك معرفة رددنا علمه إِلَى الله سبحانه وتعالى، ويجب أن نعترف دائماً بعجزنا، وجهلنا، وقصورنا، عن فهم كثير مما جَاءَ به الوحي. هذا هو نهاية الاستطراد ثُمَّ بعد ذلك ينتقل المُصْنِّف إِلَى إعراب قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وفي إعراب كمثله وجوه، أحدها أن الكاف صلة زيدت للتأكيد.
قال أوس بن حجر:
ليس كمثل الفتى زهير
خلق يوازيه في الفضائل
وقال آخر:
ما إن كمِثْلِهِمُ في النَّاس من بشر
وقال آخر:
وقَتْلى كمثل جذوع النخيل
فيكون (مثله) خبر (ليس) ، واسمها (شي) .
وهذا وجه قوي حسن، تعرف العرب معناه في لغتها، ولا يخفى عنها إذا خوطبت به، وقد جَاءَ عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم:(وصاليات ككما يُؤْثَفَين) .
وقول الآخر:
فأصبحت مثلَ كعصف مأكولِ
الوجه الثاني: أن الزائد مثل أي: ليس كهو شيء، وهذا القول بعيد؛ لأن "مثل" اسم، والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.
الوجه الثالث: أنه ليس ثُمَّ زيادة أصلاً، بل هذا من باب قولهم: مثلك لا يفعل كذا، أي: أنت لا تفعله، وأتى بمثل للمبالغة، وقالوا في معنى المبالغة هنا: أي: ليس لمثله مثل لو فرض المثل، فكيف ولا مثل له، وقيل غير ذلك والأول أظهر] . اهـ.
الشرح:
هذه الوجوه التي ذكرها المُصنِّفُ رحمه الله في إعراب: كَمِثْلِهِ، من الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] تتفاوت.
أصح أوجه الإعراب أن الكاف حرف صلة زيدت للتأكيد
وهذا هو الوجه الأول: وهو أن الكاف حرف صلة زيدت للتأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا المعنى:(ليس) فعل ناسخ والكاف زائد (مثل) اسم مجرور، وهذا المثل في موضع خبر ليس، بحيث لو كَانَ غير قرآن لقلنا: ليس مثله شيء، وإعراب (شيء) اسم (ليس) متأخر.
وهذا الإعراب عَلَى أساس أن الكاف زائدة، ومن المعلوم أن زيادة المبنى -أي: زيادة اللفظ- لا بد أن تقتضي الزيادة في المعنى، وهذه الزيادة لتأكيد نفي المثل في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقد ذكر المؤلف: أن هذا الوجه قوي، وهو الذي اختاره، ويقويه ويستدل عَلَى ذلك بما ورد في كلام العرب مما يدل عَلَى زيادة الكاف كما في الأبيات التي أوردها: (ليس كمثل الفتى زهير
) .
ومقصود الشاعر بهذا أن نقول: ليس مثل الفتى زهير أحد من الخلق، فقَالَ: ليس كمثل الفتى زهير، وذلك زيادة لتأكيد أنه ليس هناك من يشبه زهير في الخلق.
وقال آخر (ما إن كمثلهم في النَّاس من أحد) ، أو (ما إن كمثلهم في النَّاس من بشر) .
والكاف في هذا المثال زائدة، ومراد الشاعر أن يقول: ليس مثلهم في النَّاس من أحد، لكنه جَاءَ بحرف الكاف الزائد لزيادة التأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا الوجه متكون من فعل ناسخ، وخبر مقدم، ومبتدأ مؤخر، وزيدت الكاف في الخبر المقدم وهو "مثل" للدلالة عَلَى تأكيد المعنى، وحرف الصلة الزائد يعمل لفظاً، وإن لم يكن يغير الحقيقة، وزيادته تدل عَلَى أنه لا بد أن يكون له معنى، وتكون دلالته عَلَى التأكيد غالباً، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه [فاطر:3] أي هل خالق غير الله؟ فـ (مِنْ) هنا حرف جر زائد، زيادته للتأكيد، ولهذا يأتي التابع الذي بعده معطوفاً مرفوعاً بناءً عَلَى المحل هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] فجاء بحسب المحل؛ لأن المحل مرفوع ولم يأت بحسب اللفظ.
وإن كانت (من) في اللفظ أدت إِلَى خفض قوله (خالق)، كما أن الكاف هناك خفضت قوله:(مثل) ، لكن هذا الأثر اللفظي لا يغير من مقصود الألفاظ والعبارات شيئاً، وهذا المعنى واضح إن شاء الله.
يقول: (وقد جَاءَ عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم:"وصاليات ككما يُؤْثَفَيْن"، أي كما أن الكاف تزاد في (مثل) ، فإنها تزاد أيضاً في (كما)، وأصل البيت أن يقول:(وصاليات كما يؤثفين)، فزاد الكاف وقَالَ:(وصاليات ككما يؤثفين) ، وهذا أيضاً من الشواهد الدالة عَلَى أن الكاف قد تأتي زائدة، ويذكر أيضاً البيت الآخر وهو المنسوب إِلَى رؤبة بن العجاج الرجّاز العربي المشهور فيقول:
فأصبحت مثل كعصف مأكول
ومراد الشاعر أن يقول: أصبحت مثل عصف مأكول، أو فأصبحت كعصف مأكول لكنه جَاءَ بمثل وبالكاف معاً للدلالة عَلَى التأكيد، لا سيما وأنَّ وزن الرجز يقتضي أن يأتي بكلمة، فجاء بكلمة فيها زيادة معنى.
والرجز من البحور الشعرية الستة عشر التي أصّلها الخليل بن أحمد وهو من أكثر أشعار العرب.
والعرب يستخدمون الرجز كثيراً وخاصة في مواضع القتال، أو في المواقف التي فيها الحمية والحماس.
ومعظم الرجز يأتي في المعارك ومثاله ما تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم وذكره:
هل أنتِ إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ
ومنه قول جعفر الطيار:
يا حبذا الجنةُُُ واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابُها كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
والقصد أن الراجز أتى بالحرف الزائد من أجل وزن البيت، وهذا الحرف فيه زيادة في المعنى.
إذاًً تأتي (الكاف) زائدة كما في قول رؤبة: (فأصبحت مثل كعصف مأكولِ) ومثله قوله تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] .
الوجه الثاني من الأعراب: أن الزائد هو كلمة (مثل)، فمعنى لَيْسَ كَمِثْلِهِ أي ليس كهو أي كذاته - تَعَالَى - شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فـ (مثل) هنا زائدة؛ لأنه ليس لله سبحانه وتعالى مثل، فننفي هذه المثلية.
ويكون (الكاف) هو حرف التشبيه و (مثل) اعترضت بين الجار والمجرور بحيث لو كَانَ في غير القُرْآن لقلنا ليس كهو شيء وهو السميع البصير، وعلى هذا يرد قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [لبقرة:137] فإن المقصود: فإن آمنوا بالقرآن، أو فإن آمنوا بالله عز وجل فتكون "مثل" في هذه الآية زائدة المعنى زائدة اللفظ.
ولعل من الملاحظ أن هناك فرق بين هذه الآية وبين الآية التي في الشورى ففي آية الشورى نجد أن الحرف هو "الكاف" والاسم هو "مثل" والأحق أن حرف الكاف هو الزائد وأن "مثل" أصل في الكلام.
وعلى هذا كَانَ هذا القول -أي القول الثاني- قولاً بعيداً لأن القول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.
الوجه الثالث من الإعراب: أنه ليس في الآية زيادة أصلاً، فعندما تقول العرب:(مثلك لا يفعل كذا) فكأنهم قالوا: (أنت لا تفعل كذا)، أي: مثلك لا يليق به القبائح، ويأتوا بكلمة " مثل " والمقصود بها أنت المخاطب، فقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي ليس كذاته شيء، ليس كهو شيء، وعلى هذا تكون " مثل " غير زائدة وإنما جرت عَلَى أسلوب العرب وأتى بـ "مثل" للمبالغة وقالوا في معنى المبالغة: ليس كمثله مثل -لو فرض له مثل- فكيف ولا مثل له، أي: ليس لله عز وجل مثل، لكن لو فرض ذلك فإنه ليس لمثله مثل، فيكون هذا المعنى أقوى في نفي المثلية عن الله عز وجل.
وأصحاب هذا القول لا يريدون أن يثبتوا الزيادة في كلام الله تَعَالَى لأن بعض النَّاس عندما يسمع بعضهم يقول: " لا " زائدة في قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1] يقول: لا يجوز أن نقول: إن في القُرْآن شيء زائد.
وكذلك في هذه الآية إنما فيها معنى أصلي والآن نعرف المقصود بالزيادة في كلام الله.
المقصود بالزيادة في كلام الله
والحقيقة أن قولهم: هذه الكلمة زائدة، لا يعني أن في القُرْآن شيئاً زائداً يمكن أن نستغني عنه أو لا قيمة له، كلا، إنما المقصود أن هذه الاصطلاحات وضعت لمعرفة معاني الألفاظ، ومعاني الكلمات والجمل لا أكثر ولا أقل، ولا شك أن قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمَ القِيَامَةِِيَامَةِ [القيامة:1] أبلغ وآكد من قوله: أقسم بيَوْمَ القِيَامَةِ، ومثله قوله تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] ففي أصل الكلام ليس هناك خالق غير الله فلفظة (مِن) زائدة من ناحية لفظية، وأما من ناحية المعنى فلها فائدة عظيمة وهي: التعميم، فإن جملة: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أقوى من قول: (هل خالق غير الله) فظهر بهذا أن هذه الكلمات الزائدة تعطي معانٍ عظيمة لولاها لما حصلت هذه المعاني، وكما تحصل الفائدة في زيادة بعض الكلمات أيضاً تحصل الفائدة في الحذف، وهذا معروف في لغة العرب. وبهذا نكون قد أوضحنا الثلاثة الأوجه الواردة في الآية.
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[خلق الخلق بعلمه] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[خلق: أي: أوجد وأنشأ وأبدع، ويأتي خلق أيضاً بمعنى: قدر. والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق، وقوله (بعلمه) في محل نصب عَلَى الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [لملك:14] وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار [الأنعام:59-60] وفي ذلك رد علىالمعتزلة.
قال الإمامعبد العزيز المكي صاحب الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله وجليسه، في كتاب الحيدة الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فَقَالَ بشر: أقول: لا يجهل.
فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم، تقريراً له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فَقَالَ الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح، فإن قولي هذه الأسطوانة لا تجهل، ليس هو إثبات العلم لها وقد مدح الله تَعَالَى الأَنْبِيَاء والملائكة والمؤمنين بالعلم، لا بنفي الجهل.
فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تَعَالَى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه.
والدليل العقلي عَلَى علمه تعالى: أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد: هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم، ولأن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها؛ لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم؛ ولأنُ من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً وهذا له طريقان:
أحدهما: أن يُقَالَ: نَحْنُ نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين، أحدهما: عالم والآخر: غير عالم، كَانَ العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
الثاني: أن يُقَالَ: كل علم في الممكنات، التي هي من المخلوقات، فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه بل هو أحق به. والله تَعَالَى له المثل الأعلى، ولا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيلٍ، ولا في قياس شمولٍ، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى] اهـ.
الشرح:
انتقل المُصنِّفُ رحمه الله إِلَى الفقرة الثامنة عشرة، وموضوعها إثبات صفة العلم لله سبحانه وتعالى.
والأدلة عَلَى ذلك من الكتاب والسنة والفطرة والعقل.
فأبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله تَعَالَى يقول: (خلق الخلق بعلمه) كما قال الشارح: أي: خلقهم عالماً بهم، أي خلقهم حال كونه عالماً بهم، وفي هذا إثبات العلم لله سبحانه.
العرب في الجاهلية يؤمنون بصفة العلم لله
لقد كَانَ العرب في الجاهلية يؤمنون بذلك وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه [لقمان:25] فكل من يثبت أن الله هو الخالق عليه أن يثبت أن الله سبحانه وتعالى عالم، وفي هذا رد عَلَى من ينكر هذه الصفة -صفة العلم- ويستدل عَلَى ذلك أيضاً بما ورد من الآيات كقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وقوله: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]، وقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:92] .
الأدلة النقلية والعقلية في إثبات صفة العلم لا تحصى
وأمثال ذلك من الآيات والأحاديث والأدلة العقلية كثيرة لا تحصى ولا تحصر في إثبات علم الله سبحانه وتعالى، ومنها ما تقدم الحديث عنه وهو المرتبة الأولى من مراتب القدر: وهو العلم بأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون، وأنه سبحانه وتعالى قد كتب ذلك كله وقدره وهو عليم به -جل شأنه- وأن وقوع الشيء وفق ما قضاه وقدره لا يزيد الله سبحانه وتعالى علماً بالشيء، فإنه يعلمه عَلَى صفته التي سيكون عليها قبل أن يكون.
ومن ذلك آيات علم الغيب قاطبة، ولهذا استدل المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بآية الأنعام:وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59] وأمثال ذلك من الآيات الدالة عَلَى أن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بعلم الغيب.
فهذا إثبات لصفة العلم، والذين ينكرون صفة العلم: هم الجهمية، ومن هَؤُلاءِ الجهمية بشر المريسي ولذلك نقل المُصْنِّف نصاً عن عبد العزيز الكناني -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وعبد العزيز الكناني أو المكي تلميذ من تلاميذ الإمامالشَّافِعِيّ، وكان من جلسائه وخاصته.
وتوفي الإمامالشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قبل أن تفشو فتنة القول بخلق القرآن، ويظهر أمرالجهمية، وبعضهم يقول: إنه أدرك ذلك؛ لكنه اتخذ سبيل التورية ونجا، لكن الأظهر أن الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله لم يدرك ذلك وإنما أدركه تلاميذه، ومنهم عبد العزيز المكي أو الكناني، فلما ظهرت هذه الفتنة وفشت عند المأمون، رحل عبد العزيز الكناني - كما بين ذلك في كتابه الحيدة - إِلَى الخليفة المأمون، واستعد لمناظرة ـبشر المريسي أمام النَّاس عَلَى الملأ، ومناظرة الذين ينكرون صفات الله سبحانه وتعالى ويحرفون كتاب الله.
ثُمَّ كتب الإمام عبد العزيز المكي خلاصة ما دار بينه وبين هَؤُلاءِ القوم في كتابه المسمى الحيدة.
مع العلم أن هناك من يقول: إن كتاب الحيدة لا تصح نسبته للإمام عبد العزيز الكناني.
وأقول: قد لا يكون الكتاب بهذا الشكل المتكامل له؛ لأن فيه بعض زيادات غيره، لكن الكتاب والقضية لهما أصل، والحوار هذا قد جرى ووقع، فقد يكون الذي كتب هذا الكتاب والمناظرة ابن عبد العزيز الكناني الذي اصطحبه معه من مكة إِلَى بغداد ليناظربشر المريسي.
أما بشر فهو رجل يهودي، كَانَ أبوه صباغاً يهودياً - كما قال ذلك الإمام أحمد.
وهذا الرجل تعلم الفلسفة وتعلم الكلام ليفسد به دين الإسلام،
وكان زميلاً للقاضيأبي يوسف المعروف، وكان القاضي يقول له: يا بشر! إما أن تدع الكلام، أو تفسد علينا خشبة، يعني: نصلبك عَلَى خشبة فنخسر هذه الخشبة، لكنَّ بشراً عاند، وأخذ يتعلم هذه العلوم، وهذه الثقافات، يعارض بها كتاب الله سبحانه وتعالى، وكان عَلَى مذهب الجهم بن صفوان في نفي صفات الله سبحانه وتعالى.
حتى أنه ورد أن أم بشر جاءت إِلَى أحد علماء الْمُسْلِمِينَ فقالت له: إن أباه كَانَ يهودياً، وإنه عَلَى دين أبيه، وإنما يريد أن يفسد دينكم بهذا العلوم (بعلم الكلام) الذي جَاءَ به.
وقد رد الإمام المحدث الجليل عثمان بن سعيد الدارمي عَلَى بشر المريسي في كتابه المشهور المعروف: الرد عَلَى بشر المريسي العنيد، أو (رد الإمام عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) ، فرد عليه، وأثبت كثيراً من الصفات التي كَانَ بشر ينكرها ومنها صفة العلم، فبشر والجهمية عموماً يقولون في صفة العلم: ليس بجاهل، وهذا كما قلنا: أولاً: وجود مطلق لا يوصف بشيء إلا بالسلوب، يعني النفي فقط.
فينفون عن الله الجهل ولا يثبتون له العلم، كما كَانَ يقول الإمام عبد العزيز في مناظرته لبشر: الله عالم أو الله يعلم، فيقولبشر: لا يجهل، فهذا يكرر السؤال وذاك يكرر الجواب لا يزيد عَلَى قوله: لا يجهل لا يجهل.
فقال له الإمام عبد العزيز الكناني بعد ذلك: لو قلت هذه الأسطوانة لا تجهل لم يكن ذلك مدحاً لها بأنها تعلم.
وكما قال المصنف: نفي الجهل لا يعني إثبات العلم ولكن إثبات العلم يعني نفي الجهل، فكان هذا مما أفحم به الإمام عبد العزيز الكناني بشراً في مجلس الخليفة.
وقد مدح الله تَعَالَى الأَنْبِيَاء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل، فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تَعَالَى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه، ما أجمل هذه العبارات التي قالها الإمامعبد العزيز وأرشد الخلق إليها "أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه" وهذه هي القاعدة العامة في مثل هذه الصفات: صفة العلم وغيرها.
ثُمَّ انتقل المُصْنِّف رحمه الله إِلَى الدليل العقلي، وهذا الدليل قد سبق معنا عَلَى شكل قاعدة من القواعد التي نعرف بها إثبات الصفات، والتي نستدل بها عَلَى أن الفطرة الإِنسَانية والعقل الإِنسَاني يثبت صفات الله عز وجل وأن له الكمال المطلق عز وجل وهذه القاعدة هي:(كل صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله تبارك وتعالى أحق بها) فلو أخذنا صفة العلم وجدناها صفة كمال، والمخلوق يمدح بأنه عالم، وكلما كَانَ المخلوق أكثر علماً كلما كَانَ هذا زيادة في مدحه، فنقول: هو أكثر علماً من فلان، فالذي له المثل الأعلى سبحانه وتعالى يجب أن يثبت له العلم من باب الأولى، والمخلوق إنما استمد علمه مما أعطاه الله إياه من العلم، وهذه القاعدة فصلها المُصْنِّف فيما سيذكره، يقول:(الدليل العقلي عَلَى علمه -تعالى- أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل) هذا الأمر الأول، لأن الذي يؤمن بأن الله هو الذي خلق الكون، وخْلقُ هذه الأشياء يثبت لله صفة العلم، لاستحالة وجود هذه الأشياء مع الجهل، ولا يخلقها إلا من يعلمها كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أن الإيجاد والخلق لا يكون إلا بإرادة، فالإِنسَان عندما يريد أن يعمل أي عمل، فإن ذلك العمل لا بد أن يُسبق بإرادة وتصور، وهذا معنى قول المصنف: ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، فالإرادة تستلزم تصور المراد، وأن يكون معلوماً عند الفاعل، فتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، وعليه فالإيجاد مستلزم للعلم، فإيجاد الله تَعَالَى للمخلوقات يقتضي أن يكون عالماً بها، وإن كنا لم نعرف الحقيقة الكاملة لعلم الله عز وجل؛ لكن المقصود حقيقة الإيمان بعلم الله عز وجل.
وأن الناظر إِلَى الآيات الكونية والآيات النفسية والآيات الآفاقية، يجد أنها تدل دلالة قاطعة ليس معها شك ولا ريب عَلَى أن الذي خلق هذه متصف بصفة العلم، وأن هذا العلم لا يمكن للمخلوق أن يتصوره ولا يمكن للإدراك البشري أن يصل إليه عَلَى الإطلاق. هذه أدلة فطرية وحسية وعقلية يسقط معها ويتهافت. قول من يقول: إننا لا نثبت لله تَعَالَى العلم، بل ننفي عنه الجهل.
ولا يدخل الله سبحانه وتعالى تحت قياس البشر لا في قياس التمثيل، ولا في قياس الشمول، يقول:(بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به وكل نقص تَنزّه عنه مخلوقاً ما فتنزيه الخالق عنه أولى)، وهذه القاعدة يمكن أن نضيف إليها قيداً فنقول:(كل ما ثبت للمخلوق من كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله سبحانه وتعالى أولى به) .
هذه هي الفقرة الثامنة عشر المتعلقة بإثبات صفة العلم لله سبحانه وتعالى، والرد عَلَى من أنكرها. والأدلة عَلَى إثبات العلم أكثر من هذا وإنما المقصود هنا التعرض لمذهب الجهمية النفاة وبيان بطلانه عقلاً ونقلاً.
ثُمَّ تأتي الفقرة التاسعة عشرة.
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقدَّر لهم أقداراً]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى:: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2] وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3،2]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء) ] اهـ.
الشرح:
أقول: إن جملة: [وقدر لهم أقداراً] .
فيها دليل عَلَى إثبات القدر والمقادير أو التقدير.
فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب فكتب مقادير كل شيء، فلا يقع بعد ذلك شيء في الدنيا إلا وهو موافق ومطابق لما كتبه الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يرد أحد من النَّاس ما قدره الله سبحانه وتعالى وقضاه.
وقد سبق شرح هذا في مبحث الإرادة.
ومن أركان الإيمان الستة: أن يؤمن الإِنسَان بالقدر أي: بأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وذلك قبل أن توجد هذه الأشياء وقبل أن تخلق، وأنه قدر كل ما كَانَ وما سيكون وكتب ذلك عنده، وأن الخير والشر من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يتنافى هذا مع ما قد سبق تقريره من أن سبب الخير فضل من الله سبحانه وتعالى وسبب الشر ذنب العبد، ثُمَّ إن ما كتبه - سبحانه - وقدره لا معقب له، ولا راد لقضائه بأي وجه من الوجوه، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) .
فهذا دليل من أدلة كثيرة عَلَى أن الله سبحانه وتعالى قد كتب القدر، وقدر المقادير أو التقدير.
الفرق بين القدر والتقدير
والتقدير بمعنى: الخلق ومقادير المخلوقات بمعنى الموازين التي توزن به، وخلق الله سبحانه وتعالى كل شيء بقدر قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (الفرقان:2] فقوله: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً هو من هذا الباب أيضاً من باب التقدير الذي هو بمعنى وضع الأمور أي بخلق كل شيء، عَلَى مقتضى الحكمة التي قدرها الله سبحانه وتعالى وشاءها، فهذه مقادير المخلوقات من الحياة والموت، ومن الحجم والطول والعرض.
وتقدير الأمور هو أيضاً من خلق الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:2-3] فهذا من "التقدير" لا من "القدر"، وإن كَانَ المعنى اللفظي واحد، والفرق بينهما أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى علم كل شيء، وكتبه، وقضاه، وقدره، وأنه لا يقع إلا وفق ما علمه سبحانه وتعالى وكتبه وقدره وقضاه، وأنه لا يخرج عن هذا الأمر شيء، وأما إيماننا بتقدير الله مقادير المخلوقات فهذا جزء من إيماننا بأنه هو وحده الخالق، الحكيم، البارئ، المصور سبحانه وتعالى، وهذا الحديث قد سبق أن شرحناه وشرحنا قوله: وإن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء.
ولم يخالف في إثبات القدر إلا القدرية ومن المعلوم أن مراتب القدر أربع: ومن القدرية من خالف في إثبات المرتبة الأولى وهي العلم، وهذه أقل فرقهم وقد سبق أن ذكرنا أن من أنكر العلم من القدرية فهو كافر.
أكثر الاختلاف في القدر هو في باب أفعال المخلوقين
أكثر الخلاف في القدر هو في أفعال المخلوقين وليس في العلم، ولهذا جَاءَ بالجملة التالية وهي امتداد لهذه الجملة، ليرد بذلك علىالمعتزلة الذين يقولون: إن الآجال ليست من تقدير الله سبحانه وتعالى، أو أن الآجال تقع خلاف ما كتب الله عَلَى النحو الذي سنفصله.
يقول أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وضرب لهم آجالا]
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[يعني: أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49] وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران: 145]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قَالَ:(قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورَضِيَ اللهُ عَنْها: اللهم أمتعني بزوجي رَسُول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، قَالَ: فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حله، ولن يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل) فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تَعَالَى وقدَّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إِلَى غير ذلك من الأسباب، والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.
وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إِلَى أجله فكأن له أجلان.
وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إِلَى الله تَعَالَى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه ألبتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم: (صلة الرحم تزيد في العمر) أي: سبب طول العمر.
وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إِلَى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إِلَى هذه الغاية.
ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إِلَى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه] اهـ.
الشرح:
قول أبي جعفر الطّّحاويّ رحمه الله: (وضرب لهم آجالاً) هذه الجملة مأخوذة ومستنبطة من الآيات الكثيرة الدالة عَلَى أن الله سبحانه وتعالى قد جعل للخلق آجالاً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61] كما هو معلوم من آي كثيرة.
ثُمَّ يقول المُصْنِّف رحمه الله: [يعني أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61] . وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران:145] وذكر الحديث الذي في صحيح مسلم، وفيه إثبات الآجال، وأن الله سبحانه وتعالى جعل لكل مخلوق أجلاً، وهذا ثابت بنفس الآيات والأدلة التي تثبت القدر، ومنها الحديث الصحيح عنعبد الله بن مسعود رضي الله عنه في أن الجنين (يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد) فيؤمر الملك بكتب أربع كلمات، منها: الأجل، أي: أجل الإِنسَان، فليس هناك أي مجال لأن يتوقع أحد أن هذا الأجل يمكن أن يُغَيَّر ويمكن أن يُبَدَّل وقد كتبه الله تبارك وتعالى عَلَى الإِنسَان وهو لا يزال في بطن أمه؛ ليقطع الأمل؛ ويقطع تعلق النَّاس بأن أحداً غير الله يملك أن يمد في عمر فلان أو يقصر من عمر فلان، أو أنه إذا قتل فلاناً فإنه قد انتقصه شيء من عمره.
والآجال والأرزاق قد قدرت وكتبت كما جَاءَ في الحديث الصحيح الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن روح القدس -وهو جبريل عليه السلام نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، أي: إذا طلب الواحد شيئاً من أمور الدنيا فليطلبه بإحسان وليجمل في الطلب ولا يلح؛ فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها حتى آخر لحظة من لحظات الدنيا وهي ساعة الاحتضار فإن بقي له في تلك الساعة لقمة من طعام أو شربة من حساء أخذها، وكذلك العمر لن تموت نفس حتى تستوفي ما كتب الله لها من العمر وإن كَانَ لحظة واحدة أو نفساً واحداً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أحصى كل شيء، وهو العليم بكل شيء، وهو الذي قدر مقادير كل شيء، طويت الصحف ورفعت الأقلام، وما عَلَى العباد إلا التسليم والانقياد والإذعان والإيمان بكل ما يقدره الله عز وجل ويقضيه.
أما حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما فهو حديث صحيح، وقد دعت الله سبحانه وتعالى وسمعها النبي صلى الله عليه وسلم وهى تدعو الله أن يمتعها بزوجها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وبأبيها وبأخيها، وهكذا النفس البشرية تتمنى وتتعطش إِلَى الخلود، وتدعو وترجو أن تخلد أو يخلد من تحب، وهذا شيء موجود في النفس البشرية، وليس هذا بذاته بمحظور مادام أن الله تَعَالَى قد جعله، وله فيه حكم.
وهذا الشيء هو الذي جعل أبانا آدم يطيع الشيطان في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] لما أغراه الشيطان بالخلود ولأن النفس الإِنسَانية تكره الموت والانقطاع وهذا هو الذي أشغل أبانا عن قضية أنه إذا أكل وقع في معصية الله عز وجل، وأنساه عما أمر به الله سبحانه وتعالى. فالشاهد أن أم حبيبة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها لما دعت بذلك وسمعها النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(قد دعوت الله بآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة) ، فلن يزيد عمر أحد يوماً واحداً، ولن يزيد رزقه ذرة واحدة، ولن يتأخر أجله ولو لحظة واحدة بسبب هذا الدعاء الذي قد يدعو به الإِنسَان، أو بأي سبب من الأسباب التي يلجأ إليها الإِنسَان. وأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأولى والأحرى والأجدى فقال لها:(لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل) وهذا من آداب الدعاء، وهو أن الإِنسَان يسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذه من عذاب النَّار ومن عذاب القبر، ويسأل الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالنجاة وبالفوز الأخروي، هذا أهم وأولى ما يدعو به الإِنسَان، أما أن يدعو الإِنسَان بأمر فيه اعتداء، كالدعاء بطول العمر -مثلاً- وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى قد ضرب أجلاً محدوداً، فهذا محرم، ومثله من يدعو الله بجميع أنواع الأدعية التي فيها اعتداء كدعاء الله أن يحي ميتاً من الأموات؛ بل عَلَى الإِنسَان أن يدعو بما فيه خيري الدنيا والآخرة، والأولى أن يدعو الله بما فيه علاقة بالفوز بالجنة والنجاة من النار.
الرد على الجهمية والمعتزلة في قضية تقدير الله للآجال
ثُمَّ انتقل المُصْنِّف رحمه الله بعد ذلك إِلَى بيان الرد عَلَى الجهمية والمعتزلة وخاصة المعتزلة في هذه القضية فذكر: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وخلق أعمالهم، وخلق الموت وأسباب الموت، وخلق الحياة وأسباب الحياة، فهو الخالق لذلك كله، بخلافالمعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، فعلى قولهم: لو أن أحداً قتل أحداً، فإن هذا القاتل قد قطع أجل المقتول الذي لو لم يقتله لعاش حتى يبلغه، ولهذا يقتل القاتل!
فرد عليهم المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت، وخلق أسباب الموت، وهو الذي قدر أن هذا يموت بالحرق، وهذا بالغرق، وهذا يقتل بالسيف وهذا بالمرض.
أما المعتزلة فقولهم واضح البطلان؛ لأنه يستلزم إثبات أجلين: أجلاً حقيقياً: وهو الذي قدر كما يقولون، وأجلاً واقعياً: وهو الوقت الذي بقي للمقتول.
وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إليه سبحانه وتعالى: أنه جعل للعبد أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه! وما الفائدة أن يجعل الله له أجل وهو يعلم أنه سيقتل دون أن يدركه، أو أن يجعل أجله أحد الأمرين كفعل الجاهل بالعواقب، وهَؤُلاءِ المعتزلة يقولون: إن الله أذن أن يعيش العبد ستين سنة -وأصل ضلالهم أنهم يقولون: إن أفعال العباد لا يخلقها الله- فلما قُتلَ وعمره أربعين سنة، فمعنى هذا أن الله عز وجل جعل له أجل أربعين، وأجل ستين إن لم يقتله أحد.
وإذا قتله أحد فيما دون ذلك فيكون هذا هو الأجل الحقيقي، فكأنهم والعياذ بالله ينفون العلم عن الله عز وجل بدليل أنه لا يعلم أنه سيقتل، كل ذلك حتى يهربون من قضية أن الله هو الذي خلق أفعال العبد؛ لأنهم قالوا: إذا كَانَ الله هو الذي خلق فعل العبد فكيف يجازيه عليه؟ وإنما يجازى القاتل بالقتل حداً؛ لأنه قطع الأجل وهذا دلالة عَلَى الفعل إذا كَانَ الله خلق الفعل.
والرد عليهم كما ذكر المصنف: وجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل وذلك لارتكابه المنهي عنه ومباشرته إياه برضاه وباختياره، فالذي قتل مسلماً معصوماً بريء الدم برضاه وباختياره مستوجب للقتل ومستحق له؛ لأنه ارتكب ما نهى الله تَعَالَى عنه، ولهذا فإن القاتل إذا كَانَ مجنوناً - مثلاً - فإنه لا يقتل وهذا دليل عَلَى أن القاتل يقتل، لا لأن القاتل قطع أجل الله الذي قدره للمقتول، كما تزعم المعتزلة، بل من أجل أن القاتل ارتكب ما نهى الله عنه ومباشرته السبب المحظور.
ثُمَّ يقول: (وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم: (صلة الرحم تزيد في العمر) أي: سبب طول العمر) ولفظ الحديث: (من أراد أن يُنسأ له في عمره، ويبارك له في رزقه، فليصل رحمه) .
وقد يشكل فهم هذا الحديث عَلَى كثير من النَّاس مع ما قد قدره الله وكتبه من الآجال - كما في حديث ابن مسعود - وحتى يزول ذلك الإشكال لا بد أن يعلم أن الله خلق النتائج مثل الموت والحياة، وخلق سبحانه وتعالى الأسباب: فقدر أن عمر هذا الإِنسَان ستين سنة -مثلاً- وقدر سبحانه وتعالى أن من أسباب كون عمره ستين سنة أنه يصل رحمه، كما لو أن الله سبحانه وتعالى قدر عمر إنسان ثمانين سنة، فلا يسلط عليه وباء ولا داء بل يرزقه الصحة والعافية، فهذه أسباب خلقها بها طال عمر هذا الإِنسَان إِلَى الثمانين، وما قيل في هذا الإِنسَان يُقال في الإِنسَان الأول الذي عمر ستين سنة فكانت صلة الرحم سبباً لطول عمره إِلَى هذا القدر، وعلى هذا فلا يفهم أن من المفترض أن يكون عمر إنسان ما خمسين سنة، فلما جَاءَ بصلة الرحم زاد عمره إِلَى السبعين مثلاً.
قال الطّّحاويّ رحمه الله:
[وحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ] .
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة وهي الخلة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) وقَالَ: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن) والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قَالَ: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومُحَمَّد حبيبه.
وفي الصحيح أيضاً: (إني أبرأ إِلَى كل خليل من خلته) والمحبة قد ثبتت لغيره، قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 76] ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] .
فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه التِّرْمِذِيُ الذي فيه:(إن إبراهيم خليل الله ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) لم يثبت.
والمحبة مراتب:
أولها: العَلاقَةُ، وهي تعلق القلب بالمحبوب.
والثانية الإرادةُ، وهي ميل القلب إِلَى محبوبه وطلبه له.
الثالثة: الصَبابةُ، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور.
الرابعة: الغَرَامُ، وهي الحب اللازم للقلب ومنه الغريم لملازمته، ومنه: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] .
الخامسة: المَوَدَّةُ، والود، وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم: 96] .
السادسة: الشَّغَفُ، وهي وصول المحبة إِلَى شغاف القلب.
السابعة: العِشقُ، وهو الحب المفرط الذي يخاف عَلَى صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تَعَالَى ولا العبد في محبة ربه وإن كَانَ قد أطلقه بعضهم، واختلف في سبب المنع، فقيل: عدم التوقيف، وقيل: غير ذلك، ولعل امتناع اطلاقه: أن العشق محبة مع شهوة.
الثامنة: التَّتَيُّمُ، وهو بمعنى التعبد.
التاسعة: التَّعَبُّدُّ.
العاشرة: الخُلَّة، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه.
وقيل: في ترتيبها غَيْرُ ذلك.
وهذا الترتيبُ تَقْرِيبٌ حسن يعرف حسنه بالتأمل في معانيه.
واعلم أن وصف الله تَعَالَى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تَعَالَى وعظمته، كسائر صفاته تَعَالَى وإنما يوصف الله تَعَالَى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص.
وقد اختلف في تحديد المحبة عَلَى أقوال، نحو ثلاثين قولاً، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيديها إلا خفاء.
وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إِلَى تحديد كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك] اهـ.
الشرح:
يقول الإمام: الطّّحاويّ رحمه الله: [وحبيب رَبِّ الْعَالَمِينَ] هذه الجملة معطوفة عَلَى الجمل السابقة في وصفه صلى الله عليه وسلم والحديث عنه.
وموضوع المحبة وعلاقتها بصفات الله سبحانه وتعالى من الموضوعات التي ستأتي إن شاء الله في آخر الكتاب، وإن كانت أيضاً لا تأتي بالتفصيل اللازم، وإنما تأتي في مبحث الحديث عن الخُّلة والمحبة في الفقرة التي يقول فيها الإمام الطّّحاويّ رحمه الله:[ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وكلم الله موسى تكليماً إيماناً وتصديقاً وتسليماً] .
الرد على من نفوا محبة الله
صفة المحبة اختلف فيها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الجهمية والمعتزلة، فأما الجهمية ومن اتبعهم، فإنهم قالوا: إن الله تبارك وتعالى لا يُحِب ولا يُحَب، فنفوا العلاقة من الطرفين، قالوا: فالله تَعَالَى لا يجوز أن نصفه بأنه يحب أحداً من خلقه، لأن هذا مما لا يليق في حقه، كما يزعمون.
وقالوا أيضاً: إن الله تَعَالَى لا يُحَبُّ، فلا نقول إن أحداً يحب الله، لأن الله يتنزه أيضاً عن ذلك بزعمهم، وقولهم هذا ليس عليه أي دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا عقل، إلا أن الله تبارك وتعالى حجب عقولهم وقلوبهم عن أشرف شيء، كما يقول ذلك الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: هَؤُلاءِ الذين أنكروا محبة الله قد جعلوا عَلَى قلوبهم هذا الحجاب الغليظ الكثيف بينهم وبين الله تبارك وتعالى، وأي حجاب وأي غفلة أعظم من أن يعتقد الإِنسَان [أنه لا يحب الله وأن الله لا يحبه] ، نسأل الله السلامة والعافية وهذا من طمس القلوب، وهذه عقيدة ليس عليها أي دليل، إنما هي مقولة منقولة عن علماء وفلاسفة اليونان الأقدمين -وهم مُشْرِكُونَ- نقلها عنهم الجهمية وجعلوها ديناً يدينون به وأرادوا أن يفرضوها عَلَى الأمة الإسلامية أيضاً، فَقَالُوا: إنه سبحانه وتعالى يتنزه عن أن يُحِب أو أن يُحَب، ورد عليهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بما لا يخفى من الأدلة.
ومنها ماذكره المؤلف رحمه الله من الآيات وهي: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] .
فالآيات والأحاديث الكثيرة صريحة في أن الله سبحانه وتعالى يُحِبُ ويُحَب.
بل إن المحبة هي أساس كل عمل وكل عبادة قلبية، كما أن أسس كل عبادة عملية هو الصدق، فالمحبة أساس لجميع العبادات، وبيان ذلك أن الإِنسَان إذا صلى وهو لا يجب الصلاة ولا يحب من يصلي له، فإن صلاته لا تكون مقبولة، وكذلك إذا زكى أو حج وهو لا يحب من زكى له ولا من حج له فهذه الزكاة وهذا الحج ونحوهما من الأعمال لا تُقبل، وهكذا لوتأملنا لوجدنا أنه كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في مجموع الفتاوى:"إن المحبة هي أساس كل عمل باطن، من أعمال القلب، ثُمَّ بعد ذلك تتفرع منها بقية الأعمال " فأي عمل تعمله الجوارح ولا يرتكز عَلَى المحبة القلبية، فإنه مثل ما لو كَانَ لا يرتكز عَلَى الصدق، فلو أن أحداً صلى، وهو غير صادق في صلاته كَانَ يصلي صلاة كذب واستهزاء، فإن صلاته لا تقبل.
ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] فالمُشْرِكُونَ يحبون الله، ويحبون أصنامهم سواء، ولكن المؤمنين يحبون الله تبارك وتعالى أكثر من محبة الْمُشْرِكِينَ لله تَعَالَى ولأصنامهم عَلَى القولين المذكورين في الآية، فالمؤمنون أشد حباً لله والله تبارك وتعالى يحب من يتقرب إليه باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]
وكما جَاءَ في حديث الولي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها
…
) الخ، وهذا الحديث أيضاً من الأدلة عَلَى أن الله سبحانه وتعالى يحب وأن محبته تبارك وتعالى درجة عالية، يحظى بها الإِنسَان بالاجتهاد في طاعة الله، والاجتهاد في اتباع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما يتعلق بإثبات صفة المحبة، لكن الإمام الطّّحاويّ رحمه الله قال في وصف نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم:[وحبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ] فهل معنى هذا أنه هو وحده حبيب رَبِّ الْعَالَمِينَ، أو أن معناه أن صفة المحبة أكمل من غيرها حتى تقال للنبي صلى الله عليه وسلم، الواقع أن محبة الله سبحانه وتعالى يشترك فيها المؤمنون جميعاً، وإن كَانَ للنبي صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر من محبة الله تبارك وتعالى.
إذاً القضية ليست من أجل الاختصاص، فإذا كَانَ الإمام الطّّحاويّ اختارها؛ لأنها أكمل وأعلى، فإن هذا القول مرجوح؛ لأن المحبة ليست هي أعظم الصفات في بابها حتى نقول إن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم هو حبيب رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بل أعظم صفة في هذا الباب أن نقول: هو خليل الله وهو خليل الرحمن.
الخلة أعلا من المحبة
فقولنا: إن محمداً خليل الله أو خليل الرحمن أعلى وأفضل من قولنا: حبيب الله أو حبيب الرحمن، ولهذا استدل عليه المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فقَالَ: إنه قد ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة، كما سيأتينا بيان أنواع المحبة وأعلى مراتبها وهي الخلة، وهي ثابتةٌ له صلى الله عليه وسلم كما في الحديث:(إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) فهما خليلان للرحمن جل شأنه،
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) هذا لو كنت، أي: لو كَانَ لي من البشر خليل، لما في الروايات الأخرى:(إني أبرأ إِلَى الله أن يكون لي منكم خليل) فليس له من المخلوقين خليل، ولو أنه كَانَ متخذاً أحداً خليلاً من الصحابة لاتخذ أبا بكر رضي الله عنه خليلاً، ولهذا لما (سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ النساء أحب إليك؟ قال: عَائِِِشَةَ، قَالَ: ومن الرجال؟ قَالَ: أبوها) وهوأبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حبيب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب النَّاس إليه من المخلوقين، ولو كَانَ متخذاً خليلاً غير الله سبحانه وتعالى لاتخذ أبا بكر خليلاً، لأنه أحب أصحابه إليه، ولكنه خليل الله فقط، كما أن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، فهما خليلان إبراهيم ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ولهذا قَالَ:(ولكن صاحبكم - يعني نفسه صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن) .
وهذا معلوم لا ينكره أحد إلا الجهمية كما قلنا، لكن الذين اختلفوا فيه من غير الجهمية قالوا: إن إبراهيم خليل الله ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم حبيب الله، واضطرهم هذا إِلَى أن يقولوا: إن المحبة أفضل من الخلة؛ لأنهم يرون أن ما يثبت لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما يثبت لإبراهيم وأعلى.
فَقَالُوا: إن المحبة أعلى من الخلة؛ لأن إبراهيم خليل الله ومحمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله، واستدلوا بحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إن إبراهيم خليل الله ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) وهو حديث في سنده ضعاف لا تثبت به حجة، ولا ينهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة التي سبقت.
وهذا القول أن المحبة أعلى من الخلة قاله بعض الصوفية لأنهم يتعلقون بكلمة المحبة.
وقد ذكرنا عبارةالسلف في ذلك وهي: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: خارجي- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله تَعَالَى بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد" فالخوارج يعبدون الله تَعَالَى بالخوف وحده، والمرجئة يعبدون الله بالرجاء وحده والصوفية يعبدون الله تَعَالَى بالمحبة وحدها كما يزعمون.
ولهذا يستحلون كثيراً من المحرمات ويتركون الواجبات إِلَى حد أن بعضهم يترك جميع التعبدات ويقول: إن الحبيب لا يعذب حبيبه حتى أن بعضهم يقول: إن قلبي مشغول بمحبة الله، وإذا أشغلتني محبته عن عبادته وعن الصلاة له فإنه لن يؤاخذني عَلَى شيء من ذلك لأنه يعلم أنه ما أشغلني عن طاعته وعن صلاته إلا محبتي له، هكذا يزعمون وهذه هي الزندقة، ولذلك قال العلماء هذه المقالة:"من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق"، وهكذا كَانَ حالهم.
إذاً يبطل القول بأن الخلة خاصة بإبراهيم عليه السلام، وأن المحبة خاصة بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، لا سيما وأنَّا قد عرفنا أن الله تَعَالَى يحب المتقين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين، إِلَى غير ذلك مما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليست المحبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بل يدخل معه فيها كل من عمل عملاً صالحاً يرضاه الله سبحانه وتعالى ويحبه.
ذكر المُصنِّفُ رحمه الله مراتب المحبة ليبين لنا أن الخلة هي أعلى مراتب المحبة، والمحبة مراتبها كثيرة، ولكلٍ فيها وجهة نظر من حيث ترتيبها وتقسيمها.
فبعض العلماء يرى أن هذه الدرجات من قبيل المترادفات؛ لأن الشعراء العرب عندما يذكرون الحب أو العشق أو الصبابة أو الخلة أو التتيم يذكرونها عَلَى أنها مترادفات، يعطف بعضها عَلَى بعض حسبما تقتضيه ضرورة البيت الشعري، فَيَقُولُ: إنه يحبه أو متيم به
…
إلخ.
لكن بعض العلماء حاول أن يتلمس فروق بين هذه الأنواع ويجعلها درجات، وهذا هو ما ذكره المُصنِّفُ هنا نقلاً عن الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، فإنه حاول أن يُفصّل هذه الأنواع وهذه الأقسام، وأشار إِلَى ذلك أيضاً شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله.
العلاقة
أول مراتب المحبة هي: التعلق، أو العلاقة ومعناها: وجود علاقة بين طرفين، وهذه هي الدرجة الدنيا في المحبة، وقد وردت في شعر العرب، كما يقول قال الأعشى:
عُلّقتها عرضا وعَلِّقت رَجُلاً غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرَّجُل
فعُلق وتعلَّق بمعنى أحب.
وعُلِّقتها: أي حُبِّبْت إلي وأحببتُها وحُبِّبْتُ فيها.
وعُلِّقت رجلاً غيري، أي وهي تعلقت رجلاً آخر.
وعُلِّق أخرى ذلك الرجل: والرجل تعلق امرأة أخرى، أي: أحب تلك المرأة الأخرى، والعلاقة لم ترد في صفات الله تعالى، فلا يجوز لأحد أن يقول تعلقت الله، ولا يقول: إن الله تعلقه.
الإرادة
والثانية: الإرادة وهي ميل القلب إِلَى المحبوب وطلبه له، وقد وردت الإرادة بمعنى المحبة لله، فالله سبحانه وتعالى يقولوَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] فجاءت الإرادة في حق الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه وتعالى هو أعظم مراد، ولهذا كَانَ أيُّ عملٍ خالص لوجه الله، فإنه يُقَالَ: إنه أريد به وجه الله، فالذين يريدون وجهه في قوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه [الروم:38] أي: يحبونه ويطلبونه، فهو مرادهم ومتمناهم وغايتهم، فأعظم غاية وأعظم مراد وأعظم مطلوب هو وجه الله تبارك وتعالى وكذلك إذا قلنا: إن الله يريد منا الصلاة أو يريد منا الصيام، أو يريد كذا مما شرعه الله.
فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يحبه ويطلبه منا، كما سبق في أقسام الإرادة.
الصبابة
والثالثة: الصبابة وقد جاءت في أشعار العرب، والعرب كانوا يسمون المحب صباً، فيُقَالُ: فلانٌ صبٌ، أي: محب عاشق مُتيّمٌ إِلَى آخر هذه الأوصاف؛ لأنها مشتقة من انصباب القلب وتوجهه وميله.
فكأن صاحبه لا يملكه وإنما هو منصب مثل انصباب الماء في المنحدر فلا يملكه صاحبه، والصبابة لا تطلق عَلَى الله عز وجل لا منه ولا إليه سبحانه وتعالى.
الغرام
والمرتبة الرابعة: الغرام، ومعناه: الحب الملازم للقلب كملازمة الغريم للغريم، يُقالُ: فلانٌ غَرِيمُ فلان، يعني خصمه الملازم له، الذي لا يدعه ولا يفكه، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان في الحديث عن جهنم: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] أي: ملازماً دائماً، نسأل الله العفو والعافية، ولهذا لا يوصف الله سبحانه وتعالى بالغرام وكذلك لا توصف محبة الله سبحانه وتعالى بالغرام.
ويجب أن يعلم أن هذه الكلمات: الغرام والعشق والصبابة والعلاقة والتعلق، تستخدمها الصوفية، في حق الله سبحانه وتعالى، ولذلك يأتون إلى قصيدة قالها بعض الشعراء في معشوقته الحسية وهي المرأة فأخذوها وجعلوها في حق الله سبحانه وتعالى كما هي تماماً مثل البيت الذي كانوا يرددونه دائماً وينسبونه إلى الشبلي يقول:
إنَّ بيتاً أنتَ ساكنُهُ غيرُ محتاجٍ إِلَى السُرج
وجهكَ المأمونُ حُجتنَّا يومَ يأتي النَّاس بالحججِ
هذه أصلها قصيدة قالها أحد الشعراء في محبوبته، يقول: إن البيت الذي هي فيه لا يحتاج إِلَى سراج، وأن وجهها حجته يوم يأتي النَّاس بالحجج، يعني: إذا سأله الله لماذا ضيعت الفرائض وضيعت الطاعات، ما هي حجتك في دنياك؟ فَيَقُولُ: هذه هي الحجة، فوجدوا أن الأنسب في المعنى أن يكون وجه الله هو الحجة يوم يأتي النَّاس بالحجج، وفعلاً من حيث المناسبة إن الشاعر بالغ حيث جعل وجه محبوبته هو الوجه المأمون وهو الحجة، لكنهم جاءوا بها كما هي وجعلوها في حق الله سبحانه وتعالى، ونتج عن معنى البيت الأول:
إنَّ بيتاً أنتَ ساكنُهُ غيرُ محتاجٍ إِلَى السُرج
اعتقادُ أنه تبارك وتعالى يحل في البيوت، كما يحل غيره تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهم إذ يقولون هذا البيت وأمثاله، إن جاءهم أحد من أهل السنة وسألهم: لماذا تطلقون هذا عَلَى الله؟
قالوا: نَحْنُ لا نعتقد هذا، ولا نقصد الحلول، وإنما استشهدنا ببيت من كلام العرب.
بينما التلاميذ والمريدون حينما يقولونه تقع في قلوبهم هذه المعاني وتثبت وهو أنه سبحانه وتعالى يحل حيثما كانوا موجودين وأمثلة ذلك كثيرة.
فكانوا يأتون إِلَى أرق الأشعار مثل أشعار مهيار الديلمي وأشعار عمر بن أبي ربيعة، ويجعلون أبياتهم الشعرية التي تغزلوا بها في من أحبوها من النساء العشيقات في حق الله سبحانه وتعالى، ولذلك ينبغي لنا أن نعرف ما هي الألفاظ التي يجوز أن تستخدم في حق الله عز وجل، وما هي الألفاظ التي لا يجوز أن تستخدم في حقه تعالى.
المودة
الخامسة مرتبة المودة: والود: هو صفو المحبة ولُبُّها؛ لأن خلاصة المحبة يسمى وداً، وقد جَاءَ هذا في القُرْآن يقول تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96] ومن صفاته تَعَالَى الودود، فهو ودود جل شأنه، وهذه من الصفات التي وردت وثبتت له سبحانه وتعالى.
الشغف
والمرتبة السادسة هي الشغف، يقولون: باطن القلب الرقيق جداً هذا هو شغافه، فما ملك شغاف القلب، ووصل إليه فهذا غاية المحبة وأعلى مما سبق من المراتب، وقد جَاءَ ذلك في القُرْآن الكريم عند الحديث عن امرأة العزيز في حبها ليوسف عليه السلام عَلَى لسان النسوة اللاتى في المدينة، قلن: قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً [يوسف:30] يعني وصلت محبته في قلبها إِلَى شغاف القلب وباطنه، فتمكنت بحيث لا يمكن أن تخرج، ولا يمكن أن تغادره، ولا يمكن أن تنسى هذا الحب ولا أن تلتفت عنه.
العشق
المرتبة السابعة العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف عَلَى صاحبه منه، وقد وقع غرائب منه لكثير من الشعراء مثل قيس وليلى، وأمثالهم من العشاق حتى يصل بهم الأمر -نسأل الله السلامة والعافية- إِلَى حد أنه يكون كالمجنون يتبعها أينما ذهبت، يهيم بها فينشد الأشعار فيها وهو في كل مكان؛ لأن عشقها قد تمكن في قلبه حتى قالالمجنون:
أُصلي فلا أدري إذا ما ذكرتها أثنتين صليت العشاء أم ثمانيا
وما بي إشراك ولكن حبها وعظم الهوى أعيى الطبيب المداويا
نسأل الله العافية، يقول: أنا لا أشرك بالله؛ لكنني عندما أصلي لا أدري أصليتُ اثنتين أو ثمانيا؛ لأن قلبه قد شغله العشق ومحبة هذه المعشوقة حتى نسي كل شيء، هذا الوصف بهذه اللفظة أيضاً لا يطلق عَلَى الله سبحانه وتعالى، فلا يُقَالَ: إن الله يعشق أحداً، ولا يجوز أيضاً أن يُقَالَ: إن أحداً يعشق الله سبحانه وتعالى، فهذا لا يليق؛ لأن هذه الكلمة بالذات هي أكثر الأسماء دلالة عَلَى المحبة الشهوانية والحب الإباحي.
فإذا قيل: عشق أو معشوق فهو الحب الشهواني الإباحي وهذا ينزه عنه الله تبارك وتعالى علواً كبيراً- وكذلك بالنسبة للمخلوقين، ومع ذلك فإن الصوفية يستخدمون هذه اللفظة كثيراً جداً في حق الله سبحانه وتعالى علواً كبيراً، ويستخدمونها في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، حتى أن بعضهم يكتبها عَلَى ورقة ويلصقها عَلَى البيت وعلى السيارة هكذا (عاشق النبي يصلي عليه) سُبْحانَ اللَّه!
كيف يُقال عاشق النبي؟ كيف تُستخدم هذه اللفظة التي يستخدمها الإباحيون والشهوانيون في حقه صلى الله عليه وسلم؟
فضلاً عن كون هذه الطريقة بدعية، وحجتهم أنهم يقولون: لنذكرالنَّاس بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لما قَالَ المُصْنِّفُ هنا: [وإن كَانَ قد أطلقه بعضهم] يقصد الصوفية، ثُمَّ يذكر أن العلماء أو الباحثين اختلفوا في سبب منع اطلاق العشق عَلَى الله سبحانه وتعالى منه وإليه، فقيل: لأنه لم يرد وهذا كلام صحيح.
وقيل: غير ذلك، ولعل امتناع إطلاقه أن العشق محبة مع شهوة، ولا تعارض بين السببين؛ لأنه أولاً: لم يرد، وما لم يرد لا نطلقه عَلَى الراجح، والأمر الثاني أيضاً: أن العشق كما بينا لا يكون إلا مع الحب الشهواني الإباحي، فهذه اللفظة مستهجنة ومستقذرة في حق الله سبحانه وتعالى فلا يجوز أن تطلق عليه.
التَّتِّيم
المرتبة الثامنة: وهو بمعنى التعبد، وكأن محبة المحبوب قد استعبدت هذا المحب حتى صار متيماً وكثيراً ما ترد هذه الكلمة أيضاً في أشعار العرب، وفي أخبار العشاق، فيُقَالُ: متيم بها، أو تيمتني، ومن أشعار الصوفية في مجالسهم: تيموني هيموني، أي جعلوني متيماً متعلق القلب
…
الخ.
وتَيَّم: معناها عَبَّد، ولذلك يُقَالَ: بنوا تيم الله، وتيم الله قبيلة من أحد أفخاذ قريش التي منها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فتيم الله معناها: عبد الله، وفلان متيم بالحب أي: مستعبد بالحب وصلت به محبته إِلَى درجة العبودية للمحبوب.
التعبد
المرتبة التاسعة التعبد: ومعناها أن يصل به الحب إِلَى أن يتعبد تعبداً ويقول إنه عبد، كما في البيت المشهور عن عنترة بن شداد:
وأنا يا عبل عبد في الهوى ملك يمناك وفي القرب ابن عم
يعني هو ابن عمها في النسب، ولكنه في الحب عبد، وكثيراً ما يذكر ذلك الشعراء.
يقول: وأصبحت في الحب عبدا، أي: أنه قد أصبح في الحب عبداً رقيقاً يملكه المحبوب أو المحبوبة، نسأل الله أن يعافينا وإياكم من هذا الداء الخبيث، فداء العشق داء عضال، والمناسبة فإن كتاب الجواب الكافي لابن القيم رحمه الله، كَانَ سبب تأليفه أن رجلاً عشق واجتهد في أن يزيل هذه المصيبة عن قلبه، فلم يستطع ويريد السبيل إِلَى علاجها أو إِلَى حلها.
فكتب إِلَى ابن القيم رحمه الله سؤالاً فيه الحياء وفيه اللطف والرقة، قَالَ: ما تقولون رحمكم الله أو ما رأيكم في رجل ابتلي ببلية فصبر وسكت
…
الخ، ففهم ابن القيم رحمه الله المعنى بأنه ابتلي بعشق امرأة وتمكن ذلك من قلبه ولم يستطع أن يفارقه فما هو الحل؟ فكتب الإمام ابن القيم رحمه الله كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي وكان هذا جواباً كافياً فعلاً، تحدث فيه عن أضرار المعاصي جملة وخطرها، ثُمَّ فصل الكلام في ضرر العشق - ومفاسده وفيما يجره عَلَى الإِنسَان، ومن أعظم ما ذكره وما نبه عليه في ذلك أن الإِنسَان إذا تعلق قلبه شيئاً ما وعشقه وأحبه فإنه يذكره عند موته، وعند الخروج من هذه الدنيا والإقبال عَلَى الآخرة، وينسى الأمور الثانوية، ولا يكون في قلبه إلا الشيء الذي كَانَ في دنياه والأساس الذي كَانَ متمكناً من قلبه وشاغلاً ذهنه هو الذي يذكره عند الموت، ولذلك يخشى عَلَى هَؤُلاءِ العشاق أن يموتوا عَلَى غير الإسلام؛ لأن أحدهم يأتيه الموت وهو لا يتذكر إلا هذه المعشوقة أو هذه الحبيبة.
وذَكَرَ عَلَى ذلك أمثلة من واقع التاريخ مثل الرجل الذي جاءته امرأة تريد حمام، والحمام معروف عند العرب قديماً أنه مكان كبير فيه أدوات النظافة والاستحمام وما أشبه ذلك، فكانت تريد الحمام، وكان بجواره حمام منجاب فوقفت وسألت هذا الرجل، فقالت له: أين حمام منجاب، فَقَالَ لها من هنا، ودلها عَلَى بيته فدخلت البيت ودخل هو معها البيت وأراد أن يفعل بها الفاحشة ولم يستطع، المهم أنه تعلقها من ذلك الوقت، فابتلاه الله بمحبتها فوقعت في قلبه فعمل في ذلك أبياتاً:
يارب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إِلَى حمام منجاب
وكان يكرر هذه القصيدة، فلما جاءه الموت -نسأل الله السلامة والعافية ونسأل الله لنا ولكم حسن الختام- قالوا له: قل لا إله إلا الله، اذكر الله، فقَالَ:
يارب قائلة يوماً وقد سألت أين الطريق إِلَى حمام منجاب
وما زال والعياذ بالله يكرر هذا البيت حتى قبضه ملك الموت - نسأل الله السلامة والعافية - فهذا داء خطير ابتلى به النَّاس في كل زمان وفي كل مكان، والله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة يوسف عليه السلام في القُرْآن ذكر من العبر المستفادة: كيف تتمكن هذه الشهوة، وكيف يكون العشق، وما هو العلاج الذي يتخذ في علاج هذا المرض، وسبق أن قلنا: إن التعبد هو: أن يستشعر المحب أنه قد صار عبداً لمحبوبه، وهذه اللفظة تطلق عَلَى الله سبحانه وتعالى منا وهذا معلوم ولا خلاف فيه، لكن -كما تعلمون ولا خلاف في ذلك- لا يطلق عَلَى محبة الله لنا أنها تعبدية، تَعَالَى وجل شأنه عن ذلك.
الخلة
المرتبة العاشرة الخلة: وهي التي من أجلها جئنا بهذه المراتب، لنصل إِلَى أعلى درجات المحبة وهي الخلة، فالخلة هي أعلى ما يتصور من درجات المحبة، حتى في كلام العرب، يقول الشاعر:
قد تخللتِ مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
أي الذي تخللت محبته مسالك القلب ومسالك الروح فهذا يسمى خليل، وأما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قَالَ:(لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) لأنه قد اتخذا الله خليلاً، فمحبة الله قد تخللت مسالك الروح منه صلى الله عليه وسلم، ولا يزاحمه أحد من المخلوقين عَلَى الإطلاق، وكذلك بالنسبة لله سبحانه وتعالى فإن الله تَعَالَى يحبه محبة لا يحبها أحداً من العالمين، يحب إبراهيم ويحب محمداً صلى الله عليه وسلم محبة لا يحبها غيرهما من الناس.
وأما المعنى اللغوي وهو: التخلل، فلا يكون إلا في حق المخلوقين ليس في حقه سبحانه وتعالى.
هذه هي المراتب العشر، وكما يقول المصنف:[إنه قد قيل فيها غير ذلك]، فقد قيل: إنها من باب المترادفات، وقيل: إن لها تفسيراً آخر، لكن هذا الترتيب من أفضل أنواع الترتيب، ومن تأمله وجد أنه من أحسن ما ذكر في الترتيب.
لما ذكر المُصنِّفُ المراتب العشر للمحبة بيّن أنها لا تطلق كلها عَلَى الله سبحانه وتعالى إنما يطلق ما ورد، فقَالَ:[واعلم أن وصف الله تَعَالَى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تَعَالَى وعظمته كسائر صفاته تعالى] .
نثبت له أنه يُحب، ونثبت أنه اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً، لكن خلته تَعَالَى ومحبته تليقان بجلاله، لا تشبه خلة المخلوقين ولا محبتهم.
إنما يوصف الله تَعَالَى من هذه الأنواع الأربعة فقط: بالإرادة، وبالود، وبالمحبة، وبالخلة فالإرادة قد جاءت في الوحي كما ذكرنا في مبحث الإرادة وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27] وهي بمعنى: يُحب ذلك، فهذه مرتبة من مراتب المحبة التي هي الإرادة فقد ورد النص بها في حق الله تبارك وتعالى، ووردت صفة الود إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96] وصفة المحبة: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ، وصفة الخلة (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) هذه الأربع فقط هي التي يوصف بها الله سبحانه وتعالى، والسِّتُ الباقية لا يوصف بها الله سبحانه وتعالى وهي: الغرام، والصبابة، والعشق، والتتيم، والشغف، والعلاقة.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وقد اختُلفَ في تحديد المحبة عَلَى أقوال نحو ثلاثين قولاً] والتحديد معناه: التعريف للمحبة، والمتكلمون اختلفوا في ذلك، فمنهم من يقول: تعلق القلب، ومنهم من يقول: ميل القلب وإرادته الشيء، ومنهم من يقول غير ذلك، إِلَى أن أتوا بثلاثين تعريفاً.
وكلها لا فائدة فيها؛ لأن توضيح الواضح من المشكلات، والمحبة أوضح من أن نُعرّفها الطفل الصغير جداً، فلو قلت له: تُحب كذا، فيقول لك: نعم، فهو يعرف معنى المحبة.
فلا داعي إِلَى القول أنه لا بد أن نعرف المحبة، ونضع لها حداً منطقياً، وهذا الحدّ يكون جامعاً مانعاً لا يدخل عليه اعتراض؛ لأن المحبة شيء واضح لا يحتاج إِلَى أن يُعرَّف، وهذه القضية من القضايا التي نُعرَفُ بها -نحنأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - بطلان ما يُسمى بعلم المنطق، وننقض بها هذا الذي يسمونه المنطق؛ لأن المناطقة يقولون: إن الأشياء لا تدرك حقائقها إلا بالحدود والتصور، كما يقولون: لا ينال التصور إلا بالحد، فلا بد أن نضع حداً عَلَى الطريقة المنطقية، وذلك بأن تضع التعريف، ثُمَّ بهذا التعريف تعرف الشيء وتميزه عن غيره، وبغير ذلك لا نعرف أي شيء.
فرد عليهم شيخ الاسلام ابْن تَيْمِيَّةَ؛ بل رد عليهم جميع العقلاء أن النَّاس يدركون حقائق الأشياء ويعرفونها من غير تعريف، والنحويون الأولون لما أرادوا أن يعرفوا ما هو الاسم؟ وما هو الفعل؟ كانوا يعرفون الأشياء تعريفاً بسيطاً، كقوله: الفعل مثل: ضرب، والاسم مثل: زيد، والحرف مثل: من، وفي، وعلى، فلما دخل علم المنطق النحو، عرَّفوا الاسم بأكثر من سبعين تعريفاً، وكذلك تكلم الفقهاء في تعريف الزكاة قبل أن يعرفوا علم المنطق، فلما دخل المنطق قالوا في تعريف الزكاة: إخراج مالٌ مخصوص في وقت مخصوص لطائفة مخصوصة.
فإذا قلنا لهم: إن الزكاة معروفة، قالوا: لا، هذا هو التعريف الجامع المانع، وهو ليس فيه فائدة، إنما هو كلام كله لا ينفع.
وهكذا المحبة ولذلك نقول: إن الأشياء الواضحة لا تحتاج إِلَى تحديد، كالماء والهواء والتراب والجوع ونحو ذلك، فتعريف الجوع عجز عنه الأطباء والفلاسفة، وقالوا عن الماء: إنه سائل شفاف
…
سُبْحانَ اللَّه!
إن الماء لا يجهله أي إنسان، وهذا مما نعرف به فساد ما يُسمى علم المنطق، والمناطقة إنما جاءوا بهذا العلم لمواجهة مجانين السفسطة الذين أنكروا حقائق الأشياء، فتثبت لهم الحقائق عن طريق التعريف العقلي المنطقي، حتى يؤمنوا بها ويثبتوها، هكذا كَانَ يريد علماء اليونان لمَّا وضعوا علم المنطق.
والمنطق قسمان:
القسم الأول: الحدود وهو هذا الذي تكلم عنه المُصنِّفُ هنا.
والقسم الثاني: في البراهين عَلَى صدق القضايا.
وخلاصة ما سبق أن المحبة أوضح وأجلى من أن تعرف أو يكون لها حد، فمحبته سبحانه وتعالى هي عَلَى المعنى الذي يليق بجلاله مثل سائر صفاته، ومحبة المخلوقين له سبحانه وتعالى معروفة ولا تحتاج إِلَى إيضاح ولا تحديد ولا تقييد.
قالأبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله:
[وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء، والأدوات، لاتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[أذكر بين يدي الكلام عَلَى عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي: أن للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها فهو ثابت، وما نُفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كَانَ النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتيها مالا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنىً باطلاً مخالفاً لقول السلف، ولما دل عليه الكتاب والميزان.
ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها، وليس لنا أن نصف الله تَعَالَى بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نَحْنُ متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني: باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني.
وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كَانَ معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، ونحو ذلك] اهـ.
الشرح:
المقصود من كلام المُصنِّفُ رحمه الله هو إيضاح وتبيين قاعدة من القواعد المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعرفها وهي: ما يتعلق باستخدام الألفاظ أو الإطلاقات التي تطلق في حق الله سبحانه وتعالى، ما الذي نستعمل؟ وما الذي لا نستعمل من الألفاظ في حق الله سبحانه وتعالى؟ فكل أحد من النَّاس يعبر عن المعني الذي يريده باللفظ الذي يريده، والنَّاس متفاوتون في المعاني، وقد يتفق الكثير من النَّاس عَلَى المعنى الواحد في أنفسهم، لكن يتفاوتون في التعبير عنه بالألفاظ فمثلاً: لو وقع أمر من الأمور أمام مجموعة من النَّاس وأخذتَ هَؤُلاءِ النَّاس واحداً واحداً وسألتهم لوجدت أن هذا عبر بتعبير يختلف عن هذا، وهذا أبلغ من ذاك وهكذا، والجميع يعبرون عن شيء واحد رأوه، فما بالك بالتعبير عن معانٍ غيبية لا تدرك بالحواس فإذاً لم يترك الأمر لاختيار البشر أو إِلَى الرأي الذي يرى الإِنسَان أنه ينزه به الله عز وجل أو يصفه به، إنما كَانَ الأمر كما هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أمراً توقيفياً.
والمقصود هنا هو هذه الألفاظ التي يستخدمها المتكلمون والفلاسفة والتي وقع فيها صاحب المتن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله فإنه استخدم هذه العبارات، كما قال في هذه الفقرة [وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] أو كسائر المبدعات، فاستخدم عبارات نفى فيها عن الله عز وجل أمراً لم يرده نفيه في الكتاب ولا في السنة فما هو موقف علماء السلف وغيرهم من أمثال هذه العبارات؟
موقف الناس من إطلاق الألفاظ المجملة:
يقول المُصْنِّف رحمه الله: [أن للناس في إطلاق هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: طائفة تنفيها بإطلاق] يعني: يقولون نَحْنُ لا نستخدم هذه العبارات، بل ننفيها نهائياً، أو ننفي ما دلت عليه هذه العبارات بإطلاق.
[وطائفة تثبتها] فيقولون: نَحْنُ نثبت هذه العبارات أو نثبت نفيها سواءً كانت سلباً أو إيجاباً، لأن المراد بها معنىً حسناً يقصد به تنزيه الله عز وجل، فلماذا ننفيها؟ والأولون قالوا: إنها تحمل معنى غير لائق بالله عز وجل، فلماذا نثبتها؟ فهما قولان متقابلان متناقضان.
[وطائفة تُفصِّل وهم المتبعون للسلف] تقول: هذه العبارات المستحدثة لا ننفيها بإطلاق ولا نثبتها بإطلاق، بل نُفصِّل في ذلك.
ومن عمدة هَؤُلاءِ الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فإنه لما وقعت فتنة والقول بخلق القرآن، أُتي بالإمام مقيداً بالأغلال، وأُتي بأئمة الاعتزال والبدع، الذين كانوا قد زينوا الأمر للخليفة وأن هذا عَلَى بدعة -يعنون الإمام أَحْمَد - فكانوا يسألون الإمام أَحْمَد، وكان الإمام أَحْمَد رضي الله عنه ورحمه يضع قاعدة عامة في كل مناظرة ثُمَّ بعد ذلك يناقش عَلَى هذه القاعدة يقول: [ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة، يقولون له: يا أَحْمَد قُل القُرْآن مخلوق، فَيَقُولُ: ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة، فجاءه رجل من هَؤُلاءِ يدعى برغوث وهو من المعتزلة ومن الجهلة، لا علم له في الكتاب ولا في سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو رجل تعلم من كلام اليونان ومن فلسفة المجوس والصابئين، فأصبح يرى ويظن أن هذه الأمور العقلية أعظم مما جَاءَ في الكتاب والسنة وما عرفه السلف، ولهذا تصدى لمناظرة الإمام أَحْمَد رحمه الله ليفحمه وليبين له أنه عَلَى خطأ.
فقال له برغوث يا أَحْمَد! يلزمك إن قلت: إن القُرْآن غير مخلوق أن تثبت أن الله جسماً؛ لأنه إذا كَانَ غير مخلوق يكون عرضاً، والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأدوات أو بالأجسام.
فقال الإمام أَحْمَد رحمه الله: أقول في ربي عز وجل أنه كما قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] وأما الجسم وأمثاله فلا نقول فيه لا نفياً ولا إثباتاً؛ لأن هذا شيء لم يأت لا في الكتاب ولا في السنة ولم يبلغنا عن السلف فلا يلزمني شيء، ولا يلزمني أنه جسم، وهكذا استمر الأمر في أكثر المناظرات.
فهذه قاعدة عظيمة أرساها الإمام أَحْمَد رحمه الله، وقد أخذها عمن قبله من العلماء ونقلوها لنا، وهي: أننا في كل المعاني المحدثة أو الألفاظ التي تحتها معاني محدثة، فإننا لا ننفي ولا نثبت إلا ما جَاءَ في الكتاب أو السنة أو أقوال السلف هذا هو الذي نستخدمه، وما عدا ذلك فإننا نستفصل: ماذا تريد أيها المثبت؟ وماذا تريد أيها النافي؟ فإن ذكر معنىً حقاً، وقَالَ: أنا أريد بنفي الحدود نفي الجهة، أنا أنزه الله تَعَالَى عن الحلول عن الحركة، وأقصد تنزيه الله سبحانه وتعالى عن أن يشبه المخلوقات، قلنا: المراد صحيح ولكن عبارتك خاطئة، فعليك أن تنزه الله بما نزه به نفسه أو نزهه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تتعدي ذلك ولا تخرج عنه.
وإن قَالَ: أنا أقصد بنفي الانتقال ونفي الحركة به أن الله لا ينزل إِلَى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة، قلنا له: أخطأت وهذا كلام أهل البدع: يردون الحديث الصحيح الثابت المتواتر بأمثال هذه الجدليات والعقليات التي لا أصل لها من الشرع، فلفظك مبتدع ومعناه مبتدع، فنرد اللفظ والمعنى معاً.
وإذا نظرت في أي كتاب من كتب الكلام وكتب العقائد البدعية كالأشعرية والاعتزالية فإنك لا بد أن تجد هذه العبارات عنده، ومن الممكن أن تسأل أيّ واحد منهم السؤال البسيط الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم الجارية التي كانت ترعى الغنم، فعدا الذئب عليها وأخذ منها غنمة فجاء معاوية بن الحكم فصكها، ثُمَّ ندم عَلَى ضربها واستشعر الظلم؛ فأراد أن يكفر عن هذه اللطمة بأن يعتقها، وكانت أمهُ قد نذرت أن تعتق أمة مؤمنة، فيكون بذلك قد أرضى أمه حيث أعتق عنها ووفَّى بنذرها، وأحسن إِلَى هذه الجارية، لكنه لا يدري أتجزئ هذه الرقبة أو لا تجزئ لأنها أعجمية، ولا يدري حقيقة إيمانها؟! فذهب بها إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وقَالَ:(يا رَسُول الله! إن أمي عليها عتق رقبة وإن هذه الجارية ترعى لي الغنم، وإن الذئب قد عدى عَلَى الغنم فأخذ منها شاة، وأنا بشر آسف كما يأسفون، فصككتها صكة فهل تجزئ في العتق) ؟!
والحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه ورواه الإمام أَحْمَد في أكثر من موضع من المسند ورواه كثير من العلماء ولا شك في صحة هذا الحديث، والمراد معرفة أن هذه الجارية مؤمنة أم غير مؤمنة؟ وليس المراد هنا أعلى درجات الإيمان، وإنما إثبات إسلامها، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن أوضح شيء في العقيدة (فَقَالَ لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، وأشارت بإصبعها إِلَى السماء) هذا هو السؤال الأول أجابت عليه بالإجابة الصحيحة.
والسؤال الثاني: (قَالَ: من أنا؟ قالت: أنت رَسُول الله، قَالَ: أعتقها فإنها مؤمنة) أي: مسلمة فعتقها يجزئ؛ لأنها من هذه الأمة ومن الْمُسْلِمِينَ.
ومن أعظم معرفة الله عز وجل أن يعرف أنه سبحانه وتعالى فوق المخلوقات، والقصد أنهم يقولون: وهو تَعَالَى يتنزه عن المكان والزمان والجهة بلا أين؟ ولا متى؟ ويذكرون في ذلك أثراً مكذوباً موضوعاً عَلَى أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سأله رجل أين الله؟ فقَالَ: لا يُقال لِمَن أيّن الأين: أين؟ كأن معناه لا يُقال لِمَن خلق المكان الذي هو "أين" وجعله "أيناً": أين؟ أي: لا يُسأل عن الله بالأين، وكثير من النَّاس يظن أن من تنزيه الله أنك لا تسأل عنه بأين، فإذا قلت: أين الله؟ يقول: استغفر الله أنت تقول: إن الله في جهة وإن الله محصور -مع أنك لم تقل: إن الله محصور أو إنه في جهة- والسؤال بـ"أين" قد فعله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
إذاً: نقول: إن الله فوق المخلوقات، في العلو، ولا نضيف من عند أنفسنا عبارات -بلا مماسة، ولا محاسبة- لم تأت لا في كتاب ولا في سنة فهو سبحانه في السماء أي: في العلو، كما أخبر تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] ، وهكذا في حديث الإسراء لمَّا عُرِج به صلى الله عليه وسلم إِلَى أن صار في المقام العظيم الذي سيأتي الكلام عنه إن شاء الله، والأدلة كثيرة ومتواترة تعد بالآلاف كما ذكر ذلك ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الصواعق المرسلة، من الآيات والأحاديث والبراهين العقلية والفطرية.
هذه الألفاظ في اصطلاح المتأخرين فيها إجمال وإيهام
يقول المُصْنِّف في تعليل الاستفصال من القائل بهذه العبارات البدعية: [لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي] هذا مع أن المعاني اللغوية تتفاوت، وهذه شبهة يجب أن نتنبه لها، وهي: أن بعض النَّاس يقول القُرْآن نزل بلسان عربي مبين ولغة العرب مفهومة، فلو أردنا أن نفهم معاني الصفات أو غيرها التي في القرآن، فلنرجع إِلَى لغة العرب، فنقول: هذا الكلام بإطلاق خطأ، لماذا؟
لأن مجرد الإحالة إِلَى اللغة، إحالة إِلَى أوجه واحتمالات لا ضابط لها، فلغة العرب أوسع اللغات، فإنه يقَالَ: إن للأسد خمسمائة اسم، وللشمس كذلك خمسمائة أو ثلاثمائة، وهكذا كثير من الأشياء، فاللغة واسعة. فإذا قلنا: نفهم القُرْآن كما يفهم من لغة العرب، فإننا سنجد أن الكلمة القرآنية أو النبوية لها عدة معانٍ في اللغة العربية.
فإذا أردنا أن نفهم القُرْآن فإننا نرجع إِلَى فهم النبي صلى الله عليه وسلم أو إِلَى تفسيره، وإلى فهم الصحابة وفهم السلف الصالح سواء كَانَ ذلك فهماً خاصاً تناقلوه من عند أنفسهم أو عن أثر مرفوع إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فالفهم الذي فهموه لا نتعداه لأن عندهم اللغة وزيادة، ولأنهم أفصح العرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أفصح العرب، وعندهم الوحي الذي علمهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إياه، فلا نعدل عن أي معنى فهموه إِلَى أي معنى آخر، وإن كَانَ ذلك المعنى وارداً صحيحاً في لغة العرب
يقول المصنف: [ولهذا كَانَ النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً] فنرد عَلَى الطائفة التي تنفي هذه الألفاظ بأنكم أيها النفاة تنفون بها حقاً وباطلاً، فعندما يقول أحدهم: أنفي عن الله الأعضاء والجهة، ثُمَّ يأتي أحدهم ويقول: نَحْنُ ننفي هذا النفي؛ فإن هذا النافي يكون قد نفى حقاً وباطلاً في نفس الوقت؛ لأنه يحتمل أنه نفى مراد ذلك، وهو حق وصحيح وهو نفي التشبيه والتمثيل، ونفى معه المعنى الباطل وهو إنكار صفة العلو مثلاً، فهو نفي حقاً وباطلاً معاً، ويذكرون عن مثبتها مالا يقول به.
يقولون: إن من يثبت العلو -مثلاً- لله سبحانه وتعالى فإنه يثبت له المكان أو الجهة، ويقولون: أنت تقول: إن الله تَعَالَى محصور -تعالى الله عن ذلك- مع أنك لم تقل ذلك، لكن بناءً عَلَى الإثبات قالوا: أنت تثبته، والطرف الآخر من المثبتين يقول: نثبت هذه العبارات بإطلاق؛ لأنها صحيحة؛ ولأن فيها تنزيه لله عز وجل، فأثبت مع المعنى الصحيح الذي يريده؛ المعنى الباطل الذي يحتمله هذا التعبير.
الموقف الصحيح من الألفاظ المستحدثة
والموقف الصحيح في الألفاظ المجملة أننا نفصل فيها كما قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [وليس لنا أن نصف الله تَعَالَى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نَحْنُ متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب أعني: باب الصفات فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني] .
فنقول في النفي كما قال الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103] ونثبت ما أثبت في كتابه كاليد والوجه والنفس، وفي السنة كالنزول والقَدم التي أولها أهل البدع.
قال المصنف: [وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها] مثل كلمة الجسم، أو الجهة، أو لا تحل فيه الحوادث، أو تنزه تَعَالَى عن الحوادث، أو نفي الحركة، أو نفي الانتقال، أو لا تتغير أحواله، وأمثال تلك العبارات التي يستعملها أهل البدع.
فيقول المصنف: [لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كَانَ معنىً صحيحاً قبل] فنقبل هذا المعنى، ولكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، وينبغي أن يعبر عنه بما ورد دون الالتجاء إِلَى الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد، قَالَ:[والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها] .
ومن أراد التفصيل في هذا فليرجع إِلَى منهاج السنة (1/258) فقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِم قصةَ الإمام أَحْمَد مع برغوث وذكر استخدام كلمة الجسم، وذكر القاعدة في مثل هذه الألفاظ، وكلام المُصْنِّف هذا قريب من كلام شَيْخ الإِسْلامِ.
ومن الحاجة أن يكون الرجل أعجمياً لا يفهم من لغة العرب شيئاً، فعندما تريد أن تعلمه ما يعرف به ربه عز وجل، فلا بد أن تعلمه بلغته لكي يفهم، فهذه هي الحاجة وبلا شك أن المعنى الذي في اللغة الأردية أو اليابانية أو الإنجليزية يستخدم في حق المخلوقين، وقد ينصرف ذهنه إِلَى أننا نصف الله بما يتصف به المخلوق، لكن نبين المعنى مع الإتيان بقرائن تبين المراد.
ونقول له: إن الأصل أن الإِنسَان يستخدم اللغة العربية، وحتى هو لو شرحها لغيره فعليه يشرحها لهم مع القرائن بأن أي لفظ نستخدمه نَحْنُ في حق المخلوق فإنه في حق الله سبحانه وتعالى غير ذلك لكن المعنى المقصود هو نفي أن يكون لله تَعَالَى مثيل وهكذا.
وقد يشكل عَلَى بعض النَّاس أن المُصْنِّف رحمه الله ذكر في مقدمة الكلام ما نصه [وليس لنا أن نصف تَعَالَى الله بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً وإنما تحن متبعون لا مبتدعون] .
فقوله: [ليس لنا أن نصف] أي: -نفياً ولا إثباتاً- فإذا نفى أحد -مثلاً- اللسان لله فإنه قد نفى ما لم ينفه الله عن نفسه، وخالف كلام المُصْنِّف في قوله:[ليس لنا] ثُمَّ قوله: [نفياً ولا إثباتاً] فيُقَالُ: ننفي ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يثبت ذلك لنفسه في القُرْآن ولم يصح بذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذه قضية.
وهناك قضية أخرى وهو إذا أتى أحد فقَالَ: أنا أنفي عن الله تَعَالَى الجهة، وهذا نقول له كما سبق فصَّل ماذا تريد بالجهة؟ يقول: أنا أريد بالجهة أن أنفي عن الله سبحانه وتعالى مشابهة مخلوقاته؛ لأن المخلوقات لا تكون إلا في جهة، فيقال هل تثبت علو الله؟ فإن قَالَ: نعم أنا أثبت علو الله لكن أنفي الجهة، نقول: المعنى صواب، ولكن الخطأ في اللفظة لأنها لم ترد، وإن قَالَ: أنا أقصد بنفي الجهة نفي العلو فنقول له: أخطأت في اللفظ وفي المعنى، فهناك فرق بين الألفاظ المحتملة التي تحتمل معنيين: أحدهما حق والآخر باطل.
والإمام الطّّحاويّ رحمه الله لا يقصد هنا معناً باطلاً؛ لأنه من أئمة أهل السنة ويتكلم في عقيدة لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، ولذلك هو يرى أن هذا زيادة في تنزيه الله: أن ينفي عنه ما نفاه هنا من الأركان والأعضاء والأدوات والجوارح.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[والشيخ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أراد الرد بهذا الكلام عَلَى المشبهة، كداود الجواربي وأمثاله القائلين: إن الله جسم، وإنه جثة، وأعضاء وغير ذلك! تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، ولكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إِلَى بيان ذلك. وهو أن السلف متفقون عَلَى أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته. قال أبو داود الطيالسي: كَانَ سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر.
وسيأتي في كلام الشيخ: وقد أعجز عن الإحاطة خلقه. فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحّده، لا أن المعنى أنه غير متميز عن خلقه، منفصل عنهم مباين لهم.
سُئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟
قَالَ: بأنه عَلَى العرش، بائن من خلقه.
قيل بحد؟
قَالَ: بحد، انتهى.
ومن المعلوم أن الحد يُقال عَلَى ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره والله تَعَالَى غير حالٍّ في خلقه، ولا قائم بهم؛ بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته. وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتفٍ بلا منازعة بين أهل السنة.
قال أبو القاسم القشيري في (رسالته) سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي سمعت أبا منصور بن عبد الله، سمعت أبا الحسن العنبري سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول، وقد سئل عن ذات الله فقَالَ: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى، ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار، من غير إحاطة ولا إدراك نهاية] اهـ.
الشرح:
أراد المُصنِّفُ رحمه الله أن يبين لنا مأخذ صاحب المتن الإمام أبي جعفر الطّّحاويّ في إطلاق هذه العبارات، أو أن يبرر له استخدام هذه العبارات مع أنها لم ترد، ومن المعلوم أن نفاة الصفات يتهمون أتباع السلف الصالح دائماً بأنهم مشبهة مجسمة حشوية، وكأن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ يريد أن يرد عليهم وأن يسد هذا الباب وأن يقول: نَحْنُ لسنا بمشبهة ولا مجسمة ولا يصدق علينا ما تتهمونا به.
ولتأكيد ذلك قَالَ: نَحْنُ نقول: إنه تَعَالَى عن الحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، والأدوات، والعلماء يقولون في مثل هذا المقام: لا نقصد نفي ما تدل عليه أو إثبات ما تدل عليه هذه المعاني -التي هي كما قلنا معاني محتملة للحق والباطل- إنما لهم مقصد آخر وهو بيان أننا لسنا مشبهة ولا مجسمة؛ لأن المشبهة والمجسمة يثبتون هذه كما هي عند المخلوق مع أننا نقول: إن هذا خطأ؛ لكن لماذا وقعوا في هذا الخطأ، وما المعنى الذي قصدوه حتى وقعوا في ذلك؟
ذكر المُصنِّفُ رحمه الله أنه أراد الرد بهذا الكلام عَلَى المشبهة؛ لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً يعني: جَاءَ نفر من الشرَّاح الذين شرحوا كلامه وهم من الماتريدية، فشرحوها عَلَى الاحتمال الخطأ.
أهل السنة ليسوا مشبهة
نحتاج هنا أن نقف عند المشبهة لنعرف مذهبهم وفرقهم بإيجاز مع معرفتنا أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد- ليسوا مشبهة ولا ممثلة بل يثبتون ما أثبته الله ورسوله مع نفي التمثيل قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فلا يقولون بكيفية ولا بمثلية والمشبهة أو الممثلة الحقيقيون هم الذين يُطلق عليهم هذا الوصف، وهذه المعرة، وهذا الذم بحق وحقيقة، كما سبق أن أشرنا إِلَى أن التشبيه غلو ومجاوزة للحد.
أول من أحدث التمثيل هم الروافض القدماء أما المتأخرون فهم معتزلة
أول من أحدث التمثيل الذي يسمونه التشبيه في هذه الأمة هم الروافض وذلك لأنهم أخذو دينهم عن اليهود، ولهذا نجد أن أكثر المشبهة هم الرافضة.
وكل من كتب عن الفرق الإسلامية مثل مقالات الإسلاميينن لأبي الحسن الأشعري، والفصل في الملل والنحل لابن حزم يذكرون في الممثلة قدماء الروافض، ونحن نأتي بكلمة قدماء الروافض؛ لأن المتأخرين منهم صاروا معتزلة.
أما من القرن الرابع وإلى اليوم فالإمامية الإثني عشرية والزيدية هم معتزلة في باب الأسماء والصفات، وفي باب القدر.
وقدماء الروافض كانوا عَلَى التمثيل والتشبيه ومتأخروهم عَلَى الاعتزال، فمن قدماء الروافض هشام بن الحكم الرافضي، إمام فرقة الهشامية من الرافضة وكان في القرن الثاني وهو مشهور بأنه يشبه الله تَعَالَى بخلقه تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهذا المذهب مشهور عند الهشامية والبيانية أصحاب بيان بن سمعان التميمي، وهناك فرقة تسمى المغيرية، نسبة إِلَى المغيرة بن سعيد العجلي من بني عجل، وكان هذا الرجل يقول: إن ربه أو معبوده مثل الإِنسَان له أعضاء وله جوارح يد وعين كالإِنسَان، وبعضهم يذكر طوله وعرضه وارتفاعه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإن كانوا هم يثبتون ذلك لمعبودهم لا لله سبحانه وتعالى وينسب التشبيه إِلَى مقاتل بن سليمان المفسر والله أعلم بصحة ذلك، لكن ينسب إليه أنه كَانَ يقول: اعفوني عن اللحية والفرج، وما عدا ذلك فأنا أثبته، ونحن لا نجزم بصحة ذلك عنه، فهو مفسر كبير مشهور له قدره وإن كانت روايته ضعيفة.
وأيضاً لم ترد هذه العبارات عنه من طريق إمام من أئمة السلف، وإنما أوردتها كتب المقالات ومن أقدمها مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، وهو ينقل غالباً عن المعتزلة وأمثالهم فيحتمل أن المعتزلة زيفوا عليه فلا بد من التأكد، لكنهشام بن الحكم، وبيان بن سمعان والمغيرة بن سعيد فهَؤُلاءِ ثبت ذلك عنهم؛ لأن الإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتابه عيون الأخبار يقول عن المغيرة بن سعيد إنه كَانَ سبئياً، والإمام ابن قتيبة عالم مشهور وهو ثقة من أئمةالسلف.
والسبئية -أتباععبد الله بن سبأ اليهودي - ممثلة أو مجسمة؛لأنهم هم الذين قالوا لأمير المومنينعلى بن أبي طالب أنت، فقَالَ: من أنا، قالوا: أنت الله.
فإذاً هم يعتقدون أن الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- يكون في صورة بشر، ولهذا لما قيل لعبد الله بن سبأ وهو منفي فيبلاد فارس إن علياً قد قتل، ضحك!
وقَالَ: والله لو جئتمونا بدماغه في صرة ما صدقنا، وإنما رفع كما رفع المسيح، وإنه في السحاب، وإن الرعد صوته إذا تكلم، والبرق سوطه هذا هو عقيدة الفرقة التي تسمى السحابية وهذا هو أصل مذهب التمثيل والتشبيه.
الكرامية مشبهة ومجسمة
الفرقة الثانية التي ينسب إليها المشبهة: الكرَّامية أتباع ابن كرّام، قيل: عبد الله وقيل محمد، وعبد الله هو الأشهر، وقد عاش في القرن الثالث وتوفي في 250 تقريباً وهو أول من أسس المذهب الذي يُقال لهم: الكرَّامية، وإذا صح ما نسب إليه فكلامه في الجملة قريب مما نسب إِلَى الروافض لأنه لم يكن رافضياً؛ بل كَانَ زاهداً متعبداً متنسكاً لكن وقع في هذا الخطأ، وهو التشبيه أو التمثيل والمشهور عنهم أنهم مجسمة فيقال الكرامية المجسمة.
ولهذا أعداء العقيدة السلفية كالكوثري -مثلاً- وتلاميذه يقولون: إن ابْن تَيْمِيَّةَ ومُحَمَّد بن عبد الوهاب عَلَى مذهب ابن كرام أو عَلَى مذهب الكرامية، فمن يثبت عقيدة السلف يجعلونه عَلَى مذهب الكرامية، قالوا: لأنهم يثبتون الجسم، فإنهم يقولون: إن لله يد وأن لله عين وأمثال ذلك.
ومذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الألفاظ المجملة كما نقلنا عن الإمام أَحْمَد قوله: هذا اللفظ لم يرد إثباته ولا نفيه، فنحن لا نستخدمه فمثلاً الجسم إن كَانَ قصدهم معنىً باطلاً رد هذا المعنى، وإن كَانَ المراد به معنىً حقاً قبل، لكن هذه اللفظة نَحْنُ لا نستخدمها لعدم ورودها في الشرع، فلهذا لا يرد عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أي تهمة بأنهم مجسمة لأن هذه العبارات نفسها لا يقُّروْنها ولا يستخدمونها، إذاً فالفرقة الثانية من طوائف المشبهة بعد الرافضة هم الكرامية.
غلاة قدماء الصوفية مشبهة مجسمة
والطائفة الثالثة: غلاة الصوفية القدماء، أما المتأخرون فبعضهم عَلَى هذا المذهب وعبارة الإمام أبي الحسن الأشعري يقول: قدماء النساك، ويقصد طائفة القدماء منهم؛ لأن هَؤُلاءِ كانوا يقولون: إن الله تَعَالَى يَحِلُّ في مخلوقاته -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- أو يتحد بهم وهذا تمثيل وتشبيه، ويزعم أحدهم أنه عانق ربه، أو أنه رآه، أو أنه صافحه إِلَى آخر ما يدل عَلَى أن هَؤُلاءِ ليسو عَلَى ملة الإسلام؛ لأن علماء الملة اتفقوا عَلَى أن من يقول بالحلول أو الإتحاد أو التمثيل أو التشبيه أو أن الله يشبه خلقه بأنه كافر لا شك فيه.
فكانت طائفة من الصوفية ولا تزال تطلق ذلك ولولا خشية الإطالة لفصلنا القول في هذه المسألة، كيف نشأت؟ ولماذا جاءتهم هذه الشبهة في الحلول؟ وكيف أن المتأخرين منهم أمثالعبد الغني النابلسي الذي توفي بعد الألف سنة (1143) وكذلك عبد الكريم الجيلي، وعبد االفتاح الجيلاني وهم متأخرون ولكنهم عَلَى هذه العقيدة الباطلة وذلك ظاهر في قصائدهم كعقيدة ابن الفارض التائية يقول:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته
وهذا يعدونه من الأئمة الأقطاب، وله كتاب اسمه: الإِنسَان الكامل ويوجد أعيان بأسمائهم اشتهر عنهم ذلك وهم مقاتل بن سليمان وهذا الله أعلم بنسبة ذلك إليه.
والثاني: هشام بن الحكم الرافضي وهذا تقدم الحديث عنه ضمن الرافضة، والثالث: داود الجواربي نسبة إِلَى الجوارب، وترجمته موجودة في لسان الميزان (2/ 427) والميزان (2/23) .
قال الذهبي في الميزان داود الجواربي رأس في الرفض والتجسيم.
ونقل الذهبي عن الإمام المحدث يزيد بن هارون رحمه الله أنه كَانَ يقول: الجواربي والمريسى كافران، ثُمَّ قال يزيد بن هارون إنما مثله -أي: داود - مثل طائفة كانوا في سفينة فعبروا جسر واسط فسقطوا في النهر، وكان معهم داود فخرج شيطان من النهر، فقَالَ: أنا داود الجواربي، فنشر هذا الضلال وهذه البدع.
ولما رأوه من بعد ما وقعت له هذه الواقعة -سقوطه في النهر- أصبح يهذي بهذه الأقوال الضالة فَيَقُولُ: إن ربه ومعبوده جسم وجثة وأعضاء إِلَى آخر ما ذكره عنه العلماء.
وممن ذكر عنه ذلكابن حزم في الملل والنحل، وكذلك البغدادي في الفرق بين الفرق وذكره في مقالات الإسلاميين وفي اللسان والميزان، ونقلوا عنه هذا المذهب الخبيث تَعَالَى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
يذكر المُصنِّفُ في قول الإمام الطّّحاويّ: [وتعالى عن الحدود والغايات، فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق؛ لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إِلَى بيان ذلك -فبين أولاً كلمة الحد- وهو أن السلف متفقون عَلَى أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته.
قال أبو داود الطيالسي: كَانَ سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر] .
والمصنف نسب هذا القول إلىأبي داود الطيالسي، ولم يشر أين ذكره، ولم أستطع أن أعرف في أي كتاب ذكره أبو داود الطيالسي، ولكن سفيان وشعبه وحماد، كل هَؤُلاءِ الأئمة لا يمثلون ولا يشبهون ولا يحدون وأمثال هذه العبارات موجودة ومنقولة بكثرة.
وأشمل مرجع في ذلك هو كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ المُسمى الحموية الكبرى لأن الفتوى الحموية المعروفة هذه تسمى صغرى، ثُمَّ سميت كبرى لأنه أضاف إليها كلاماً جديداً ونقولاً طويلة، فسميت الحموية الكبرى، وهي موجودة في أول المجلد الخامس من مجموع الفتاوى وذكر شَيْخ الإِسْلامِ نقولاً طويلة عن عدد من الأئمة الذين ينقلون عن السلف بالسند مثل الهروي وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي الشيخ الأصفهاني وابن عبد البر وابن أبي زمنين وغيرهم كثير.
وممن نقل وتوسع في ذلك أيضاً: الإمام اللالكائي فيشرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ نقل عن عدد كبير ما يدل عَلَى هذا
السلف كانوا لا يحدون
الشاهد لِمَا يريد الشيخ هي كلمة الحد "كانوا لا يحدون" ما معنى أن السلف كانوا لا يحدون أو لا يثبتون الحد؟ يروون الحديث ويقولون بلا كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر.
قال المصنف: [وسيأتي في كلام الشيخ: وقد أعجز عن الإحاطة خلقه، فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده] يعنى أن مراد المُصْنِّف في نفي الحد عن الله، أن الله سبحانه يتعالى أن يحيط أحد بحده، أي: أن يحيط أحد بصفته وبكيفيته، والمعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم.
ولهذا يقول السلف الصالح: وإنه تَعَالَى فوق عرشه بذاته بائن من خلقه، وهذه العبارة تدخل فيما قاله المصنف:[إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد] كما احتجنا أن نقول: هو عَلَى العرش بذاته، فزدنا كلمة (بذاته) كما قال ذلك الإمام ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة الرسالة: وهو عَلَى عرشه المجيد بذاته؛ لأن من النَّاس من يقول: وهو عَلَى عرشه في الأرض، والدليل قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام:3] .
فقال هو هنا وهنا، هو فوق العرش وفي الأرض والمعنى الصحيح للآية: هو الله الإله المعبود في السموات وفي الأرض ومثل هذه الإشكالات عند الحلولية وأمثالهم، فاحتاج السلف إلى إيضاح ذلك فقالوا وهو عَلَى عرشه بذاته، وهو مع مخلوقاته بعلمه، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] أي: بعلمه وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ [قّ:16] فالآيات في العلم ثُمَّ قَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [قّ:16]"إذ" ظرف، والظرف متعلق بالفعل إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [قّ:17] أي: الملكان اللذان يكونان لقبض الروح.
إذاً: الله مع المخلوق بعلمه وبملائكته، لكن بذاته هو عَلَى العرش، فأراد السلف أن يزيلوا اللبس عن العبارات التي هي حق ويستخدمها أعداء المذهب الصحيح والمخالفون له في معنىً باطل، فوضحوا الأمر أكثر بقولهم: بائن من خلقه.
معاني الحد
يقول المُصْنِّف رحمه الله:
[سئل عبد الله بن المبارك بم نعرف ربنا؟ قَالَ: بأنه عَلَى العرش، بائن من خلقه، قيل بحد؟ قَالَ: بحد] فكيف ينفي الحد؟ وهنا قول لبعض السلف بأنه يُحد.
يقول: [ومن المعلوم أن الحد يقال عَلَى ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره] وهذا المعنى الأول، وهو ما يتميز به الشيء وينفصل به عن غيره.
المعنى الذي لا يجوز أن يكون فيه منازعة
[والله تَعَالَى غير حال في خلقه، ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى] بالمعنى الأول [لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً] فهو تَعَالَى مباين للخلق منفصل عنهم ليس شيء من خلقه في ذاته وليس شيء منه أو ذاته في خلقه [فإنه ليس وراء نفيه] نفى الحد بهذا المعنى [إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته] إذا قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، فهذا معدوم وليس بموجود.
والمعنى للحد الثاني [وأما الحدَّ بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتفٍ بلا منازعة بين أهل السنة] .
التوفيق بين ماورد عن السلف من نفي الحد وإثباته
وقد ورد عن الإمام أَحْمَد وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وعن غيرهم من أئمة السلف عبارات فيها إثبات الحد وعبارات فيها نفي الحد، فكيف توفق بين النفي والإثبات للحد؟
الجواب: أننا نقول: الحد له معنيان، المعنى الأول بمعنى المباينة والانفصال، وهذا هو مراد من أثبته، فإذا قالوا: بحد، أي: نثبت أن الله عَلَى العرش يُحد، أي: بمباينة وانفصال عن المخلوقات، لأن المخلوقات محدودة بلا شك ولها نهاية، وهو سبحانه لا يحل فيها ولا تحل فيه، والمعنى الآخر هو: معنى القول أو العلم، وهو المعنى المنفي، هل يحده المخلوقون؟
فَيَقُولُ: ومرادهم بقولهم ليس له حد، أي أن المخلوقين لا يستطيعون أن يحدوا الله سبحانه وتعالى، أي أن يعلموا له حداً، بمعنى أن يعلموا أن له كيفية لأن عقولهم تتقاصر عن ذلك، فإذا لا تناقص في كلام السلف، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، فهم أعلم النَّاس وأثبتهم وأوثقهم، ولكن المسألة أن كلمة الحد لها معنيان.
قول أئمة التصوف: نحن على مذهب الإمام أحمد في العقيدة
قال أبو القاسم القشيري في رسالته، الرسالة وهي من أقدم الكتب المؤلفة في شرح أحوال أهل التصوف وأقدم منه كتاب اللمع للطوسي، قيل توفي في نهاية القرن الرابع.
ثُمَّ تلاه القشيري فألف كتاب الرسالة ينقل عن أئمة الصوفية أمثال الجنيد وسهل بن عبد الله ورويم، والمحاسبي وأمثالهم ما يقولونه وهَؤُلاءِ كانوا -بعضهم أو كثير منهم- يظهرون عباراتالسلف الصالح في الأسماء والصفات؛ لأنهم كانوا ينتسبون إِلَى أهل الحديث إما حقيقة وإما ادعاءً والله أعلم بالبواطن، أمثال هَؤُلاءِ يقولون: إنهم عَلَى مذهب الإمام أَحْمَد في العقيدة.
ولكننا نهتم بالتربية والتزكية وبالأذكار والأوراد، لكننا في باب الصفات عَلَى عقيدة الإمام أَحْمَد ومنهم القشيري وهو ينقل عن الشيخ أبى عبد الرحمن السلمي وهو أقدم طبقة من طبقة القشيري وقد ألف في التصوف، وهو من الناحية الحديثة رجل وضاع وكذاب، لكن عند الصوفية إمام جليل معتبر لا يداني رتبته عندهم إلا قليل.
وهو ينقل بالسند عن أئمة التصوف ونحن لا نأخذ منه الحديث، لكن نأخذ نقوله عن أئمة الصوفية على أنه رجل من الصوفية يكتب عنهم، وله من الكتب المطبوعة مثلاً الملامية أو الملامتيه [يقول: سمعت أبا منصور بن عبد الله بسنده إِلَى سهل بن عبد الله التستري وهو الإمام المتصوف المشهور، يقول وقد سئل عن ذات الله فقَالَ: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى، ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه ينظر إليه المؤمن بالأبصار، من غير إحاطة، ولا إدراك نهاية] اهـ.
وهذا الكلام يسوقه القشيري لغرض، ويسوقه المُصْنِّف هنا لغرض، أما القشيري فيسوق هذا الكلام ليدلل عَلَى أن أئمة التصوف هم في العقيدة عَلَى مذهب السلف وهذا هو مقصوده.
فَيَقُولُ: إن ذات الله تَعَالَى موصوفة بالعلم وليس مجرد إثبات لصفة العلم لله؟ لا. لكن توصف بالعلم، أي نَحْنُ نعتقد في الله عز وجل صفات من خلال العلم أي من خلال ما يرد إلينا من الكتاب أو السنة وليست بالرأي، وإنما يوصف الله بالعلم أي بالدليل والله أعلم، هذا ظاهر العبارة.
قوله: [غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا] كلام حسن مأخوذ من معاني القرآن، وقوله:[وهي موجودة بحقائق الإيمان] أي: وجودها ثابت بحقائق الإيمان في القلب، من غير حد ولا إحاطة ولا حلول.
فسهل يريد أن يقول: نَحْنُ معاشر الصوفية وأئمة الصوفية لسنا حلولية ولا اتحادية، يقصد نفسه ومشائخه وطبقتهم ومن قبلهم كالجنيد والمحاسبي وأمثاله.
فَيَقُولُ: نَحْنُ عَلَى مذهب أهل السنة ونحن نصف الله بهذا الشيء وينقل ذلك عنه القشيري لهذا الغرض، والمصنف ينقل هذا الكلام لغرض أن السلف ورد عنهم إثبات الحد وورد عنهم نفي الحد، هذا هو المقصود، ونحن -أهل السنة - لنا نقولات غير هذا النقل، فقد نقل الشيخ سليمان بن سحمان في حاشيته عَلَى كتاب لوامع الأنوار البهية (1/201) نقولاً كثيرة عن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وغيره أنه ورد عن السلف إثبات الحد ونفيه، وهذا يدلل عَلَى صحة ما ذهب إليه المصنف.
الخطأ الذي وقع فيه بعض شراح كلام الطحاوي
أطلق الإمام الطّّحاويّ رحمه الله النفي فقَالَ: [وتعالى عن الحدود] والعبارة تحتمل الحق وتحتمل الباطل، مما فتح الباب لأي رجل مبطل بأن يقول: إن الإمام الطّّحاويّ ينفي الحد بمعنى ينفي المباينة وهذا ما وقع لبعض الشراح فَقَالُوا: إن الإمام الطّّحاويّ ينفي الحد لأنه قَالَ: [تعالى عن الحدود] .
إذاً هو يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، أو أنه في كل مكان؛ لأنه نفى عنه الحدود، وهذا خطأ ولبس في فهم العبارة جَاءَ نتيجة استخدام لفظة محتملة، والألفاظ المحتملة لا تستخدم -كما قلنا- إلا ومعناها مبين أو مفصل، فإذا احتجنا أن نستخدم عبارة لم ترد في الكتاب والسنة فلا نستخدمها إلا مفصَلة أو موضَّحة، فلما أرادوا أن يوضحوا أن الله تَعَالَى فوق العرش وأن ينفوا الحلول والممازجة بينه وبين خلقه، قالوا كما قال ابن المبارك: هو فوق العرش، بائن من خلقه بحد، أي: مباينة بانفصال، والحد في اصطلاح المناطقة هو التعريف.
يقول لك ما حد الإِنسَان؟ أي: ما تعريفه؟ وما حقيقته؟ وتجد في كل علم حده أو تعريفه أو صفته أو ما أشبه ذلك، هذا تابع للمعنى الثاني أو مشتق منه، من غير حدٍ ولا إحاطة ولا حلول، أي: من غير كيفية، ومن غير معرفة يعرفها البشر أو يطلع عليها البشر، فيما تعلق بذاته سبحانه وتعالى، وإنما هي موصوفة بالعلم، أي: عن طريق الخبر الغيبي الذي جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله:[وتراه العيون في العقبى] أي في الآخرة.
يقول: [ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته] وهذه أيضاً معاني صحيحة وردت في الكتاب والسنة، فيريد أن يقول: نَحْنُ عَلَى هذا المذهب الصحيح، وهو أن الأدلة الشاهدة عليه سبحانه في ملكه وفي قدرته ظاهرة، أما ذاته تَعَالَى فقد حجبها وحجب الخلق عن معرفتها.
يقول: [وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودلهم عليه آياته -الليل والنهار وكافة المخلوقات- فالقلوب تعرفه سبحانه وتعالى، والعيون لا تدركه] ثُمَّ قَالَ: [ينظر إليه المؤمنون بالأبصار] أي: تراه العيون في العقبي. كما قَالَ: [من غير إحاطة ولا إدراك نهاية] .
كما قال عز وجل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فكأنه يشرح هذه المعاني القرآنية الصحيحة بألفاظ من عنده ويقول: إننا لم نخرج عن مذهب السلف. هذا هو المقصود.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات، فيستدل بها النفاة عَلَى نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه. قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس، كما ذكر تَعَالَى في القُرْآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يُقَالَ: إن يده قدرته ونعمته، لأن فيه إبطال الصفة انتهى.
وهذا الذي قالهالإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة قال تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي [صّ:75] وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وقال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] وقال تعالى: وَاصطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشَّفَاعَة لما يأتي الناسُ آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) الحديث.
ولا يصح تأويل من قَالَ: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ: 75]
لا يصح أن يكون معناه بقدرتي مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، فلا فضل له عليّ بذلك، فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية ولا دليل لهم في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71] لأنه تَعَالَى جمع الأيدي لما أضافها إِلَى ضمير الجمع، ليتناسب الجمعان اللفظيان، للدلالة عَلَى الملك والعظمة. ولم يقل "أيديَّ" مضاف إِلَى ضمير المفرد ولا "يدينا" بتثنية اليد مضافة إِلَى ضمير الجمع فلم يكن قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] نظير قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ
[صّ: 75] وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان، لأن الركن جزء الماهية، والله تَعَالَى هو الأحد الصمد، لا يتجزأ سبحانه وتعالى والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية، تَعَالَى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91] والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع.
وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة، ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله -تعالى- فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً، لئلا يثبت معنى فاسد، أو يُنفى معنى صحيحٌ. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل] اهـ.
الشرح:
الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة وهي ألفاظ مجملة تحتمل معنيين: أحد المعنيين حق، والآخر باطل، فإننا لا نطلقها ولا نستعملها في حق الله عز وجل لأننا إن استخدمناها وأردنا المعنى الصحيح، فإن غيرنا قد يفهم الاحتمال الآخر الباطل، وإن استخدمها أيضاً غيرنا في المعنى الباطل، ونفينا نَحْنُ ذلك المعنى، أو قلنا: له إن كلامك صحيح، فقد يفهم من ذلك إقرارنا معناه الباطل، ونحن إنما نقصد الإقرار للمعنى الذي في أذهاننا.
فنتيجة لهذا اللبس، فإن الإِنسَان لا يستعمل في حق الله تَعَالَى إلا الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعدل عنها إِلَى غيرها إلا لضرورة البيان، أو لما تقتضيه الحاجة، أو بأن نذكر اللفظ الشرعي، ثُمَّ نوضحه ونبين دلالته بأي معنىً آخر من المعاني التي يعبر عنها لغرض الإيضاح لمعنى اللفظ الشرعي لا بإحلال معنىً آخر محله.
بطلان ما فهمه الشراح من نفي الصفات عن الله والسبب في هذا الفهم
هذه العبارات التي اهتم المُصْنِّف هنا بشرحها، وبرد الجانب الآخر الباطل الذي فهمه منها بعض الشرّاح، لأن الإمام الطّّحاويّ رحمه الله عندما استخدم هذه العبارات فنفاها عن الله؛ قَالَ:[وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات] وذلك بغرض تنزيهه لله تعالى.
لكن جَاءَ الشُرَّاح المؤولون من الماتريدية وغيرهم فأولوا كلام الطّّحاويّ على أنه موافق للعقيدة التي يعتقدونها، وهي نفي صفات الله عز وجل، لذلك اهتم المُصْنِّف بأن يثبت هذه الصفات وأن يبين خطأ استخدام هذه الألفاظ التي قد تؤدي إِلَى نفي الصفات، ولهذا يقول:[وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات فيستدل بها -أي بنفيها- النفاة عَلَى نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية] .
فهم يقولون: نَحْنُ ننزه الله عز وجل عن الأعضاء والجوارح والأركان والجهات، فإذا أقررت لهم بذلك، استدلوا عليك بأنه لا يجوز أن تثبت أن لله يداً ولا وجهاً، ولا أنه فوق المخلوقات إِلَى آخر ما يثبت له من الصفات.
قالوا: لأن هذه أعضاء أو أدوات أو جوارح، وأنت قد سلمت أن الله عز وجل ينزه عن ذلك، إذاً فنحن ننفيها عن الله عز وجل، وينسبون ذلك إِلَى الإمام أبي حنيفة، وإلى عامة السلف ولاسيما أبي حنيفة لأن صاحب المتن حنفي وصاحب الشرح حنفي، والذين شرحوا المتن شرحاً ماتريدياً هم أيضا حنفية
فيريد المُصْنِّف أن يبين بطلان ما ذهبوا إليه، ولهذا بدأ بالاستدلال عَلَى ذلك بكلام الإمام أبي حنيفة نفسه في كتابالفقه الأكبر، الذي جمعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي الحنفي كما سبق بيانه وهو من حيث الرواية ضعيف بل نسب إِلَى الوضع، والحنفية كمذهب فقهي يقولون: إن هذا الكتاب صحيح فيصححون نسبته إِلَى أبي حنيفة ويعتقدون أن أبا مطيع البلخي لم ينقل شيئاً غير الحقيقة، فهم من الناحية المذهبية يثبتون هذا الكلام للإمام أبي حنيفة.
كما أننا نعلم جميعاً أن المغني لابن قدامة أو العمدة وما أشبهها من الكتب في الفقه الحنبلي لم يؤلفها الإمام أَحْمَد، وقد يكون فيها من الأقوال ما لا يصح نسبتها إِلَى الإمام أَحْمَد، لكن الحنابلة يقولون: هذا فقه الإمام أَحْمَد فمن الناحية المذهبية أي حنفي يسلم لك إذا استدللت عليه بما في كتاب الفقه الأكبر لأنه يعتقد أن نسبة هذا الكتاب إِلَى الإمام صحيحة.
فنحن الآن لسنا في مقام تقرير إثبات الكتاب أو عدم إثباته بقدر ما نَحْنُ في مقام إلزام الحنفية بما في هذا الكتاب، لأنهم يقرون به ويعتمدونه في المذهب، ويقولون: نأخذ فروع ديننا من كتب الفروع المعروفة ككتاب القدوري أو الهداية وفتح القدير، ويقولون: نأخذ أصول ديننا من كتاب الفقه الأكبر، فنقول: قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر: له -أي لله عزوجل- يد ووجه ونفس، فما ذكر الله في القُرْآن من ذكر اليد والوجه والنفس فهو له صفة بلا كيف "ولا يقَالَ: إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة" انتهى.
يقول المُصنِّفُ رحمه الله: [وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة، من الكتاب والسنة قال تعالى: [مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ: 75] .] هذا استدلال؟ عَلَى اليد أو اليدين.
[وقال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]] وهذا أيضاً فيه إثبات اليد.
[وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]] وهذا إثبات لصفة الوجه.
[وقال تَعَالَى - عَلَى لسان المسيح عليه السلام: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وقال تعالى: وَاصطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشَّفَاعَة لما يأتي النَّاس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) الحديث] .
هذه الآيات وكذلك الحديث صريحة في إثبات هذه الصفات لله عز وجل وهي الصفات التي ينكرها المبتدعة بدعوى أنها جوارح، أو أعضاء، أو أركان، أو ما أشبه ذلك، لكن الصفات التي في القُرْآن أثبتها الإمام أبو حنيفة لأنها ثابتة في القرآن، والمصنف جَاءَ بهذه الآيات ليستدل بها عَلَى ما ذكره الإمامأبو حنيفة.
فكل ما ثبت لله سبحانه وتعالى من الصفات في كتابه، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإننا نثبته، وهذا هو الواجب، وإن قال من قَالَ: إن هذا يقتضي الجسمية، أو يقتضي التحيز، أو يقتضي أنه عضو، أو أنه ذو أجزاء وأنه مركب! فأي اقتضاء يأتون به نَحْنُ لا نلتزم بما يلزموننا به ولا نبالي بهم، وإنما نثبت ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
تأويل الصفات بناءً على توهم التعارض بين العقل والنقل
ولهذا أخذ المُصْنِّف رحمه الله يرد عَلَى الذين يقولون بتأويل هذه الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، الذين يقولون: ننفي الأعضاء والجوارح والأركان عن الله عز وجل بزعمهم فيقول القائل: هل تريدون بذلك إنكار اليد والوجه والعين فيقولون: نعم، نَحْنُ ننكر ذلك، فيقول لهم: فما تقولون في آيات الله عز وجل قالوا: يجب أن تؤول، ولماذا يجب أن تؤول؟ قالوا: حسب القاعدة التي ذكرنها في معارضة ظواهر الأدلة للبراهين العقلية، وظواهر الأدلة عندنا هنا هي الآيات.
يقولون: هذه الآيات ظواهر نقلية، يعني: ظواهر من النقل، والمعارض العقلي لها هو: كونه تَعَالَى ليس له شبيه ولا مثيل، وليس له أعضاء ولا جوارح ولا أدوات هكذا يقولون، هذا معارض عقلي راجح وقوي وقاطع عندهم، فنعرض ظواهر النقل عَلَى العقل والبراهين العقلية، فما أثبته أثبتناه وما نفاه نفيناه، كلهم يقولون هذا!
ولذا وضع الفخر الرازي القانون الكلي في تعارض العقل والنقل، وقد ذكره مَنْ قبله؛ لكنه ذكره كقانون في كتاب أساس التقديس، الذي نقضه ورد عليه شَيْخ الإِسْلامِ في كتابه نقض التأسيس أو بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية.
وقد ألف شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كتاب درء تعارض العقل والنقل، وهو أعظم كتاب عقلي كتب في الإسلام، حتى قال بعض العلماء: إنه لم يكتب في تاريخ الفكر العالمي كتاب أدق وأعمق من هذا الكتاب؛ لأنه ما بقي من أنواع الفسلفات والآراء والنظريات التي يمكن أن تصعب أو يدق فهمها ولا يستطيع كل عقل أن يخوض فيها؛ إلا وتعرض لها شَيْخ الإِسْلامِ في هذا الكتاب بإسهاب عظيم، ويبقى هذا الكتاب حجة قائمة إِلَى قيام الساعة.
فأي نظرية تأتي بعدها نظريات لا تخلو عن أن يُقَالَ: إنها براهين أو قواطع عقلية، فهي من وضع عقول البشر فهو يبين كيف أنه لا يمكن أبداً أن يتعارض الوحي الصحيح الصريح مع العقل الصحيح الصريح، ويرد عَلَى كل الأقوال التي أوردها أُولَئِكَ النَّاس في هذا التعارض.
ابتدءشَيْخ الإِسْلامِ كتابه بذكر هَؤُلاءِ المؤولين الذين يقولون بهذا القانون الكلي؛ " قانون التعارض "، ثُمَّ أخذ في بسط الكلام في هذه المسائل بما يشفي ويكفي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فإذا نَحْنُ نقول: هذه التأويلات المبنية عَلَى هذا الزعم باطلة تردها النصوص الصريحة وتردها أيضاً العقول الصريحة.
تأويلات المبتدعة وتلبيساتهم في اليد
قولهم في اليد: ليس لله يد، وما ورد من إطلاق اليد فإنما المراد به القدرة، وقولهم مركب من جملتين قالوا أولاً: ليس لله يد، ثُمَّ قالوا: ما ورد في اليد فإنا نفسره بالقدرة.
وإنما قلنا من جملتين لأننا قد نجد أنه منسوب إِلَى بعض السلف أنهم فسروا اليد بالقدرة.
لكن لا يمكن أبداً أن ينقل عن أحد من السلف نفي اليد، ولا نفي صفة العين عن الله عز وجل لكن قد تجد من قال في تفسير قوله تعالى: بِأَعْيُنِنَا [هود:37] من قَالَ: بحفظنا أو برعايتنا أو بعنايتنا إِلَى آخر ذلك، وهنا قضية مهمة جداً يجب أن نعلمها أن أهل البدع يقولون: أنتم تقولون: إننا أهل بدعة، وأهل ضلال وخارجون عن السنة وعن الطريق القويم؛ لأننا ننفي صفة اليد أو نؤولها.
فانظروا إِلَى ما قاله مجاهد -مثلاً- وهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين - في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] قال قدرته فقالوا: إما أن تقولوا: إن مجاهداً ضال وخارج عن السنة والجماعة إِلَى آخره.
وإما أن نكون نَحْنُ مثله، ونفي اليد وتفسيرها بالقدرة صحيح ولا منازعة فيه، وهكذا في صفة العين والوجه وغيرها من الصفات، فلذلك قلنا يجب أن نفهم هذه القضية.
الفرق بين هؤلاء المؤولة وبين ما ورد عن السلف في تفسير بعض الآيات
المبتدعة ينفون اليد ثُمَّ يفسرون اليد الواردة في النصوص بالقدرة والنعمة والقوة والنصر، كما في قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] نصره وتأييده إِلَى آخره، أما مجاهد أو سفيان أو ابن عباس رضي الله عنهم وأمثالهم ممن ورد عنهم أمثال هذا الكلام الذين وردت عنهم ألفاظ قليلة في تفسير بعض الآيات، فإنهم لم ينفوا أي صفة من صفات الله عز وجل -فمجاهد لم يقل ليس لله يد، وأن المراد باليد: النعمة والقدرة، إنما فسر قوله سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] بالملك في قدرته، وهل أخطأ مجاهد في المعنى؟!
لو تأملنا كلامه لوجدنا أنه لم يخطئ ولم يؤول؛ لأن إثبات اليد قضية مفروغ منها، لكن معنى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] أن السماوات السبع تحت قدرته لا تخرج عن أمره، وأي معنى من هذه المعاني صحيح ولا غبار عليه، وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] معناها ينصرهم ويؤيدهم، ويجعل الغلبة لهم.
فالمعنى صحيح وحق وهذا هو المراد بهذه الآية، وهذا المعنى الذي يريد أن يقوله الله عز وجل للكفار، وهذا هو الذي فهمه الصحابة من هذه الآيات، ولا يعني هذا نفي صفة اليد عن الله تعالى، فالمعنى الإجمالي للعبارة وللاستعمال شيء، ونفي الصفة التي تدل عليها لفظة من الألفاظ في هذه العبارة شيء آخر، فإذا قلنا مثلاً: المملكة بيد الملك أو الجامعة بيد المدير، المقصود بذلك أنها تحت أمره وتحت قدرته، فنقول: نعم كلامكم هذا صحيح يفهمه أي عربي أن المقصود بـ"المملكة بيد الملك": أن المملكة في ملكه وفي قدرته وتحت أمره، لكن من فهم من هذه العبارة -من قولك: إن المملكة بيده أو الجامعة بيده- أنه أقطع ليس له يدان، نقول: هذا فهم خاطئ جداً، فهم المجانين لأن هذا لا يمكن أن يُفهم من هذه العبارة.
وهم يقولون: ليس لله يدان، لأن معنى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] وما أشبهها مثل قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] معناها القدرة أو النصرة أو الحفظ فهذا خطأ، فمع أن للملك يده، وللمدير يده، لكن أيضاً الجامعة بيده والمملكة بيده، بمعنى: أنها تحت أمره وتحت حكمه وتحت قدرته هذا معنى واضح ولا تختلف العقول فيه؛ فكذلك نفهم هذا عَلَى ضوء لغة العرب.
ويقولون: إن القُرْآن نزل بلسان عربي مبين، كما قال الله عز وجل، نقول: نعم، ونحن لا نتهم لغة العرب، ولا نخطئها، بل نتهم أفهامكم أنتم، فلغة العرب لا تقتضي نفي صفات الله عز وجل، ولكن أنتم فهمتم منها ما يقتضي نفي صفات الله عز وجل، وهكذا حتى في باب الكناية إذا قالوا -مثلاً-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يقولون: هذا كناية عن القهر والغلبة والتمكن إِلَى آخره، فنقول لهم: الكناية لا تنفي الحقيقة في لغة العرب، والبيت الذي يأتون به في البلاغة دائماً في الدلالة عَلَى الكناية بيت الخنساء، وهي ترثي أخاها صخراً تقول:
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
رفيع العماد، طويل النجاد، كثير الرماد، وما أشبه هذه الاصطلاحات كناية عن كرمه وعن شجاعته وعن قوته هذا الذي تريد أن تقوله عن أخيها، لكن لا يعني هذا أنه ليس عنده نجاد، أو بنية طويلة أو رمح طويل أو ليس كثير الرماد، فلا تنفي المعنى، فكثير الرماد تقصد أنه كريم، ولا ينفي أنه كثير الرماد فعلاً أنه يطبخ كثيراً ونتيجة الطبخ يكون الرماد، فالكناية لا تمنع الحقيقة.
إذاً هم يخطئون في فهم الأساليب العربية ويحملونها مالا تحتمل من أجل نفي صفات الله عز وجل.
الرد على نفاة صفة اليد
يقول المصنف: [ولا يصح تأويل من قَالَ: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] لا يصح أن يكون معناه: بقدرتي] والمصدر في لغة العرب لا يثنى فمثلاً كلمة الضرب تطلق عَلَى أي ضرب في أي زمان وفي أي مكان من أي إنسان صدر، فهي كلمة تستغرق كل الحدث الذي تدل عليه هذه الكلمة، والقدرة مثلاً: تستغرق كل ما يدل عَلَى ذلك المعنى؛ ولا يصح في لغة العرب بأي حال من الأحوال أن يثنى المصدر، وهذا شيء معلوم في لغة العرب.
ولو قال قائل: وكلمة " بيع " مصدر، فلماذا يقولون في كتب الفقه كتاب البيوع، وهذا جمع للمصدر فيجاب عنه: بأن هذا الاصطلاح حادث في اللغة العربية، فالأصل أن تقول: كتاب البيع، ثُمَّ تقول: والبيع أنواع، ولو كانت ألف نوع أو أكثر، فكلها تدخل تحت كلمة البيع، لأن البيع يشملها، وأيضاً فهذا الجمع باعتبار الأنواع، مثلاً -بيع النقد بالنقد هذا بيع، والبيع المحرم والجائز، وبيع الغرر، فيقول المصنفون: كتاب البيوع، كأنه يقول لك: هذا الباب أو هذا الكتاب يشمل بيع كذا وبيع كذا، فهذه ألفاظ اصطلاحية وهي ليست مما يحتج به في لغة العرب، وقيلت للدلالة عَلَى غرض معين وهو التنوع والتعدد، لأن كل بيع منها مصدر، ويستغرق كل ما يقع تحته لفظ ذلك المصدر.
فالمقصود: أنه لا يصح بأي حال من الأحوال أن تفسر قول الله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [صّ:75] بأنها لما خلقت بقدرتيّ لأنه إن كَانَ المقصود الحصر فهل ليس له إلا قدرتان، فلماذا لا تكون ثلاث أو أربع، أو أكثر؟
وإن أردنا أنها واحدة فلا يصح أن نقول: قدرَتَي بالتثنية وهي قدرة واحدة، ولو صح ذلك، وسلمنا جدلاً أنها قدرة، وأن المعنى ما منعك يا إبليس أن تسجد لما خلقت بقدرتي، لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، وكل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله، فإذاً ينتفي الاختصاص.
ولا يصح لغة ولا يصح معنىً وتفسيراً أن يُقَالَ: إن اليد بمعنى القدرة؛ لأن القدرة صفة أخرى من صفات الله عز وجل وهو عَلَى كل شيء قدير ومن أسمائه القدير، وكذلك فإن اليد من صفات الله سبحانه وتعالى، ولا تفسر هذه بهذه ولا نلغي تلك أبداً.
إبليس أعرف بربه من الجهمية
قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية]، يعني: هو يعرف أن لربه يدين، والجهمية لا يقولون بذلك إذاً هو أعرف بربه منهم.
والمقصود بالجهمية هنا: من ينفون هذه الصفات فليس الأمر خاصاً بالجهمية الذين هم أصحاب جهم.
حقيقة الجهمية في هذا الموضوع بالذات
الجهمية تطلق عَلَى جميع نفاة الصفات؛ لأن أصل نفي الصفات إنما هو من جهم، وقد سمى شَيْخ الإِسْلامِ رده عَلَى الرازي بـ"بيان تلبيس الجهمية ".
مع أن الرازي يقول: نَحْنُ لا ننتسب إِلَى جهم إنما نَحْنُ أشعرية ولسنا جهمية، لكنهم في الحقيقة جهمية لأنهم ينفون الصفات، والتجهم درجات كما سبق.
وتلخيص ذلك: أن نفاة صفات الله سبحانه وتعالى الذين يطلق عليهم الجهمية في كلامالسلف الصالح، فممن كتب من المؤلفين من السلف في الرد عَلَى الجهمية كالإمام البُخَارِيّ في صحيحه، كتب كتاب التوحيد والرد عَلَى الجهمية والإمام أبو داود ذكر في سننه كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام أَحْمَد شيخ البُخَارِيّ وأبو داود له كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي له كتاب الرد عَلَى الجهمية وغيرهم كثير.
المهم أنهم درجات المقصود أنه يطلق عَلَى نفاة الصفات جهمية لكنهم درجات.
درجات الجهمية
الدرجة الأولى: الذين ينفون جميع الأسماء وجميع الصفات، وهم الباطنية وغلاة الجهمية، وهَؤُلاءِ فرق كثيرة يقولون: لا نثبت له لا اسماً ولا صفة، حتى أنهم قالوا: لا نقول موجود ولا غير موجود، فالباطنية يقولون: ننفي الصفة وننفي ضدها، فالنفي عندهم شامل للسلب والإيجاب معاً، لا نقول موجود ولا غير موجود، فلا يوصف الله بشيء، وهذا أعلى درجات الكفر، وهم بلا شك خارجون من الملة.
الدرجة الثانية: المعتزلة: وهَؤُلاءِ يثبتون الأسماء وينفون جميع الصفات، يقولون -مثلاً-: عزيز بلا عزة، حكيم بلا حكمة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم.
الدرجة الثالثة: الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها، وهَؤُلاءِ هم الأشاعرة وهم مضطربون فالباقلاني -مثلاً- وهو من أقدم أئمتهم يثبت بعض الصفات كالوجه واليد والعين، لكن أتى من بعده الجويني إمام الحرمين فنفى ذلك.
ثُمَّ استمر من بعده يتدرجون في النفي والتجهم، إِلَى أن جَاءَ الرازي، الذي يكاد أن يكون معتزلياً، ثُمَّ بعد ذلك يأتي الإيجي صاحب المواقف فيصبح المذهب مذهباً فلسفياً وكذا الآمدي والأرموي وأمثالهم، فهم يتدرجون ويتفاوتون.
المقصود: أنهم كمجموعة يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون البعض الآخر أو يؤولونه، ومما يثبتونه من الصفات سبع وبعضهم يجعلها أحد عشرة وبعضهم ثلاثة عشر، وبعضهم عشرين، مع التفريعات والتشققات، والباقي يؤولونه.
والاستواء والوجه وأمثالهما مما يطلقون عليه أنه جوارح وأعضاء وأركان هذا من أعظم ما تنفيه الأشعرية وبالتالي ينفيه المعتزلة بطبيعة الحال؛ لأنهم ينفون جميع الصفات، وبطبيعة الحال تنفيه الجهمية لأنهم ينفون الكل وكذلك الباطنية، فكل النفاة وكل المؤولين يشتركون جميعاً في نفي الصفات.
قال المصنف: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية] ، هذا القول إذاً ينطبق عَلَى جميع هَؤُلاءِ، وإن كَانَ إبليس قد كفر به ولكن كفره من كفر الكبر والإباء إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] .
الكفرة ملة واحدة وأسبابه تختلف
فالكفر أنواع: كفر يتعلق بالطاعة، وكفر يتعلق بالمعرفة، وهَؤُلاءِ الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات كَفَرُوا بمايتعلق بالمعرفة، " أي: معرفة الله " لأنهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، والكفر يختلف في سببه ودافعه فإبليس أبى واستكبر أن يقر بالأمر في ذاته ونفاه ونفى حكمته.
واليهود كفرهم من باب الحسد وهو قريب من كفر إبليس، لأن إبليس حسد آدم عَلَى المنزلة من حيث الدافع، لكن اليهود لا ينكرون النبوة في ذاتها بل يقرون بالنبوة والأنبياء، لكنهم كانوا يريدون أن يكون النبي من بني إسرائيل، فكفروا بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كما قال أبو جهل: من بني هاشم إذاً كفرنا، فليست القضية قضية حق أو باطل، بل ما دام أنه من بني هاشم إذاً كفرنا، لأننا كنا وإياهم كفرسي رهان، ولأنهم قالوا: منا نبي ولا نستطيع أن نأتي بنبي وهكذا.
إذاً فأبواب الكفر مختلفة، والمقصود هنا: أن إبليس في باب المعرفة أعرف بربه من نفاة الصفات.
شبهة في إثبات صفة اليد وردها
يأتي هنا إشكال قال المصنف: [ولا دليل لنفاه الصفات فيه، وهو في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]] .
فيقولون: ليس لله يد عَلَى الحقيقة، ولا يتصف الله باليد كما تقولون؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أنه خلق الأنعام فقال: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] فَجَمَعَ اليد، وأنتم تقولون: إن لله يدين، وتقولون: إن المصدر لا يُثَنّى ولا يجمع.
المقصود هنا هو قوله: أَيْدِينَا فَقَالُوا: أنتم تقولون: إن لله يداً وتقولون: إن لله يدين وتقولون: إن لله أيدي، وهذا ما وردت به النصوص، فكيف تقولون: إن الله يدين كما ذكر، فنحن نقول لهم: ما ذكره الله في الآية: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] فنحن نقول لهم: هذا فيه إثبات أن لله تَعَالَى يدين، كما يقول في الآية الأخرى رداً عَلَى اليهود في قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة [المائدة:64] فلما كَانَ المقام مقام رد عليهم من جهة إثبات الصفة لله عز وجل قَالَ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فعلمنا بذلك قطعاً وصراحة أن لله تَعَالَى يدين، وأن الصفة بلفظ اليدين، ولم يَقُل أيديه مبسوطة.
وكما جَاءَ في الأحاديث الصحيحة (وكلتا يديه يمين) أي: هما يدان، ويأتي في لغة العرب إطلاق المفرد وهو في الحقيقة مثنى وهذا معروف، ولأن جميع النَّاس لكل واحد منهم يدان من حيث العدد، فإذا قال رجل: أخذت بيدي أو عملت بيدي؛ فإنه لا يعني بذلك أنه ليس له إلا يد واحدة، وهذا واضح جداً، ولله المثل الأعلى.
وإذا استخدم الجمع فما معناه وكيف نفهمه؟
نقول: بما أن القُرْآن جَاءَ بأرقى وأفصح الأساليب العربية بلا شك، ولا ينازع في ذلك أحد من هَؤُلاءِ المناظرين، فالإضافة لمَّا جاءت إِلَى ضمير الجمع جُمع المضاف، لأن أول الآية أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا [يّس:71] بلفظ الجمع. لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] لأن المضاف إليه ضمير الجمع "نا" فيجمع إذاً المضاف لمناسبة المضاف إليه، فليس في ذلك نفي لكون اليدين اثنتين وهذا باب معروف في اللغة العربية، كما قال الله عز وجل إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4] وهذا لا يناقشون فيه من جهة اللغة.
والمصنف هنا قَالَ: [لأنه تَعَالَى جمع الأيدي لما أضافها إِلَى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان، فاللفظان للدلالة عَلَى الملك والعظمة -كلاهما- ولم يقل "أيديَّ"] لأنه إذا أراد أن يجمع المضاف والمضاف إليه مفرد، كما لو كَانَ التعبير هكذا لقَالَ:"أيدي" فهذا المضاف جمع والمضاف إليه مفرد "أيديَّ" فليس هذا هو المراد بذلك، وإلا لو قال "أيدي" لفهمنا أنها أيدي، فلم يقل "أيديَّ" مضافاً إِلَى ضمير المفرد، ولم يقل يدينا بتثنية اليد مضافة إِلَى ضمير الجمع [فلم يكن قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] نظير قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75]] .
أي: ليست آية مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] مما ينفي دلالة لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] أو بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وأمثال ذلك مما ورد في إثبات اليدين، لأنها وردت بهذا اللفظ في المقام الذي لا يحتمل التأويل في الآيات، وكذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رحمه الله إِلَى إثبات صفة الوجه لله تعالى، وقد سبق أن ذكر الآيات الدالة عَلَى إثبات الوجه كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه [القصص:88] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وغير ذلك مما يدل عَلَى إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى، وأنه صفة له تعالى، ولا نقول: إنه ذاته، ولا نقول: إن ذلك يقتضي أن له أعضاء أو جوارح، أو أركاناً، وإنما هو صفة عَلَى الحقيقة بلا كيف، كما قال الإمام أبو حنيفة:"له وجه ويد ونفس، وقَالَ: كل ذلك فهو له صفة بلا كيف" يعني: أننا نجهل الكيفية.
ويستدل عَلَى ذلك بالحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد ومسلم وغيرهما (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وورد في رواية (حجابه النار) والمعنى واحد ولا منافاة بينهما، لأنه قَالَ:(لو كشفه لأحرقت سبحات) أي: لأحرقت أنوار وجهه (ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، لأن المخلوقات لا تصمد ولا تقف أمام نور الله عز وجل، فهو نار محرق بالنسبة لها فحجابه النور أو حجابه النار، لا منافاة بينهما
ولو كشف سبحانه هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا دليل عَلَى عظمة الله عز وجل، وعلى أنه لا يستطيع البشر أن يتخيلوا ولا أن يدركوا كنه ذاته سبحانه وتعالى، فهو كما قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] وهو أقوى في الدلالة عَلَى النفي منلا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103] ، لأن الإدراك العلمي أوسع من الإدراك الحسي البصري، فإن كثيراً من الأشياء نسلم بها علمياً وذهنياً، وإن كنا لا نستطيع أن نراها لأن هذا مجال أوسع.
فالله سبحانه وتعالى نفى الإحاطة به علماً في الدنيا وفي الآخرة، ولما كَانَ سيرى في الآخرة عَلَى الحقيقة نفى الإدراك مع إثبات النظر والرؤية فقال: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصار [الأنعام:103] مع أنه ثابت أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى.
لا يقال لصفات الوجه واليدين وغيرها أعضاء وتعليل ذلك
وبعد إثبات هذه الصفات قَالَ: [ولكن لا يُقال لهذه الصفات إنها أعضاء] فنحن نثبت الوجه واليد والعين وكل هذه صفات، ولا نقول: إنها أعضاء أو جوارح أوأركان أو أدوات، ثُمَّ أخذ يعلل لهذا، يقول:[لأن الركن جزء الماهية] يعني في حق الماهيات المعروفة، أي: في المخلوقات المعروفة الركن هو جزء الماهية الذي إذا ذهب ذهبت الماهية، وهو معروف، فمثلاً:
نحن نقول: الركوع ركن في الصلاة، فلوصلى أحد ولم يركع فليس له صلاة، وكذلك الفاتحة ونحوها من الأركان إذا لم يأتي بها فلا صلاة له، لأن الركن هو الجزء من الماهية، وكذلك لو قلنا بالتعريف المنطقي المجرد أن الإِنسَان حيوان ناطق، فيقولون: الركنان هما الحيوانية والناطقية، فإذا انتفت الحيوانية انتفى ركن الماهية، فلم يعد هناك شيء اسمه إنسان، فمثلاً النباتات ليست إنساناً لانتفاء أحد أركان الماهية، وإذا انتفى ركن منها انتفت الماهية، لكن المقصود أننا لا نقول عن الصفات الإلهية هذه أركان، ويكفينا أنه لم يرد في حق الله عز وجل إثبات كلمة الركن فلا نقولها، والله تَعَالَى هو الأحد الصمد سبحانه وتعالى.
يقول: [والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية] ونقول في كلمة العضو مثلما قلنا في كلمة الركن، لأن معنى العضية: التفريق [ومن هذا المعنى قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91]] يعني: أعضاء، ففرقوا القُرْآن آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، فجعلوه عضين أي: أعضاء، فالشيء العضوي هو الذي يتكون من عناصر أو عدة أشياء يمكن أن يوجد البعض منها وننفي البعض منها، فنحن لا نطلق ذلك في حق الله عز وجل. [والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع] وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60] ما جرحتم أي: اكتسبتم وعملتم، وفيها نوع من معنى الاكتساب، فنقول: اليد الجارحة فيها أيضاً معاني الاكتساب فنلاحظ أن هناك معاني لهذه الألفاظ ودلالات لا تليق بالله عز وجل، مثلاً معنى الاكتساب ومعنى الانتفاع.
ويكفينا أنها لم ترد لكن لا بد أنها لا تخلو من خطأ، وكذلك الأدوات، لماذا؟ لأن الأدوات بالنسبة للإنسان كما هو معلوم هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة أو دفع المضرة، فالسيف آلة والرمح آلة والمحراث آلة، فهل نقول: نثبت آلات لله عز وجل وننفي آلات عن الله عز وجل؟ نقول: هذه الألفاظ لم ترد ولهذا نَحْنُ نتجنبها.
يقول: [وكل هذه المعاني منتفية عن الله، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تَعَالَى] وهكذا العبرة عندنا بالورود [فالألفاظ الشرعية -التي جاءت في الكتاب والسنة- صحيحة المعنى، سالمة من الاحتمالات الفاسدة] دائماً [فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنى فاسد، أو ينفي معنى صحيح وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل] .
وهذا التلخيص من المُصْنِّف في الأخير هو الذي يردنا إِلَى أصل القضية، وهو أن كل لفظ مجمل في حق الله عز وجل لا نستخدمه ولا نستعمله، لأنه ما دام يحتمل معنيين أحدهما حق والآخر باطل، فإننا لابد أن نخطأ إذا أثبتناه بالكلية، أو نفيناه بالكلية، ولهذا لا نطلقه بالمرة، وإنما نقف عندما ورد، ونثبت ما ورد.
هذه هي القاعدة الأساسية، وقد استثنى من ذلك -كما سبق- أنه قد يُوضح المعنى الشرعي بكلام آخر، أو بعبارات أخرى، المراد منها إيضاح دلالته مثل ما قلنا: استوى بذاته، ثُمَّ وضحناه وقلنا مباين لخلقه، من غير اختلاط ولا ممازجة، وهذه العبارات يستخدمها بعض السلف بقصد إيضاح المعنى الأساسي لا بقصد استخدام معنى جديداً له دلالة مجملة، فنقف حيث وقف السلف الصالح وهو أن ما ورد به النص قلناه وما نفاه نفيناه.
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
[وأما لفظ الجهة، فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمرٌ موجودٌ غير الله تَعَالَى كَانَ مخلوقاً، والله تَعَالَى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، تَعَالَى الله عن ذلك.
وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار، فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم، حيثُ انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع، عال عليه، ونفاة لفظ "الجهة" الذين يريدون بذلك نفي العلوّ يذكرون من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كَانَ قبل الجهات، وأن من قَالَ: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كَانَ مستغنياً عن الجهة ثُمَّ صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل عَلَى أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سمي جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجوديَّاً؛ بل أمر اعتباريّ، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فليس بموجود] اهـ.
الشرح:
موضوع الجهة وما يتعلق به لا يخرج عما سبق؛ لكن لعلاقته بإثبات صفة العلو لله تَعَالَى -وهي ستأتي وقد سبقت أيضاً- فنحن نقدم للكلام فيها ببيان مذاهب النَّاس في إثبات هذه الصفة.
مذهب السلف وهو إثبات صفة العلو
المذهب الأول: إثبات صفة العلو لله سبحانة وتعالى، وصفة العلو دل عليها القُرْآن والسنة، ودل عليها إجماع السلف الصالح وتدل عليها العقول والفطر السليمة جميعاً، عند المؤمنين وعند الكفار، بل ذكر بعضهم أن ذلك حتى عند الحيوان لمن تأمل، وهو أن الله سبحانه وتعالى فوق المخلوقات.
وكل ما يمكن أن تتصور من الأدلة فإنه يدل بوضوح وجلاء عَلَى علو الله تَعَالَى فوق مخلوقاته، وأما استواؤه سبحانه وتعالى عَلَى العرش فهذا دل عليه الوحي، ولو لم يأتنا نص لما علمنا أنه استوى أو لم يستو؛ لكن نَحْنُ نعلم أنه فوق المخلوقات، لكن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بالوحي أن له عرشاً هو أعظم من جميع المخلوقات، وأنه سبحانه مستو عَلَى ذلك العرش بكيفية لا نعلمها والعرش فوق جميع المخلوقات والله فوق العرش الذي هو أكبر من جميع المخلوقات؛ هذا المذهب الجلي الواضح الذي لا ينكره عقل ولا فطرة إلا إذا تلوث العقل أو فسدت الفطرة.
مذهب بعض الخلف وهو إنكار العلو
المذهب الثاني: هو مذهب الذين أنكروا علو الله سبحانه وتعالى عَلَى خلقه، وقد انقسموا في هذه الصفة إِلَى قسمين أساسيين:-
(أ) أهلالحلول والاتحاد.
وهم الذين يقولون: إن الله في كل مكان -والعياذ بالله- وأنه يحل في كل شيء، وهو حقيقة كل شيء، وأن الكون ما هو إلا مظاهر له، وهذا كفر صريح باتفاق فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، وهذا مذهب الاتحادية والحلولية الذي أصله من المجوس والبوذيين في الهند ثُمَّ انتقل إِلَى بعض من ينتسبون إِلَى الإسلام كابن عربي وابن الفارض والتلمساني وابن سبعين وأمثالهم.
ويستدلون بما يُنسب إِلَى أبي حنيفة من مناظرة مكذوبة ومع الأسف أنها رائجة، حتى أن بعض النَّاس يطبعها ويتركها في برواز، وهي أن الإمام أبو حنيفة ناظره دهري زنديق لا يؤمن بالله واتفقوا أن يكون موعد المناظرة في مسجد معين ومكان معين، وتأخر الإمام أبو حنيفة ثُمَّ لما وصل إليه قالوا له: ما الذي أخرك يا أبو حنيفة؟ قَالَ: كنت واقفاً وجاء خشب وتجمع ثُمَّ تكونت منه سفينة، ثُمَّ كذا ثُمَّ قادتنا السفينة إليك فتأخرتُ، فَقَالَ له الرجل: كيف يتجمع بذاته؟ وكيف يمشي بذاته؟ قَالَ: فكيف بهذا الكون من يسيره ويدير شؤونه؟! ثُمَّ يقول الدهري الزنديق للإمام أبي حنيفة أين الله؟! قَالَ: الله في كل مكان، قال له: كيف يكون في كل مكان؟ قَالَ: مثل الزبدة في اللبن.
هذا الكلام لا يصح، ولا تصح القصة من أصلها.
وهل يمكن لأحد في زمن الإمام أبي حنيفة أن يأتي يناظر النَّاس وينكر وجود الله علناً؟! وإذا كنا الآن في زمن السوء الذي نعيش فيه لا يستطيع أحد أن يأتي ويقول: أنا أنكر وجود الله، فإن العوام يقتلونه قبل أن يصل إليه العلماء، فكيف بذلك الزمن؟ فلا يمكن حصول هذه القصة أصلاً، ثُمَّ كيف ينكر وجود الله، ثُمَّ يقول له: أين الله؟! فَيَقُولُ: هو كالزبدة في اللبن.
وكيف يقول الإمام أبو حنيفة هذا، وهو الذي يقول كما في الفقه الأكبر وفي طرق أخرى غير الفقه الأكبر: من أنكر أن الله سبحانه وتعالى عَلَى العرش فقد كفر، هذا ثابت عنه في عدة كتب من كتب المناقب، مثل مناقب أبي حنيفة.
فالمقصود أن الذين يقولون: إن الله في كل مكان بهذا المعنى، فإنه مخالف ومنافٍ لما عليه السلف الصالح، فإنهم أجمعوا عَلَى أن الله فوق العرش، كما أجمع عَلَى ذلك المفسرون، ونقل الإجماع ابن كثير وغيره؛ أنه سبحانه وتعالى فوق العرش وأنه وفي كل مكان بعلمه.
نعم علم الله تَعَالَى في كل مكان، فهو يعلم ما يدور في هذا الكون في أي مكان كان، ولو كَانَ في باطن الأرض، كما ذكر العبد الصالح لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16] وقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] وأمثال ذلك كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] أي: بعلمه، لكن ذاته سبحانه في السماء، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم الجارية عندما قالت في السماء.
ويستدلون أيضاً بما ذكرنا سابقاً يقولون مثلاً قال الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام:3] وما أشبه ذلك من الأدلة المجملة التي لا دليل لهم فيها، والمقصود هنا عرض المذهب إجمالاً لا تفصيل الرد عليها.
ب/ الفلاسفة والباطنية والأشاعرة ينفون عن الله جميع الجهات.
والفرقة الثانية من نفاة العلو: الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا قدامه ولا وراءه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، فينفون جميع الجهات، وهذا مذهب حكماء اليونان -كما يسمونهم - أو فلاسفة اليونان أو بعضهم.
ثُمَّ قال به الباطنية وأمثالهم من الذين غلو في النفي فيقولون: لا نقول داخل العالم ولا خارجه، وهذا هو مذهب الأشعرية الذي ذكر في كتاب المواقف، الكتاب المعروف الذي يُدرس الآن في الجامعات خارج المملكة عَلَى أنه كتاب العقيدة، فيقولون: قالت الحشوية أنه فوق المخلوقات، ونقول نحن: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ عبارة عظيمة، وهي:"عند العقلاء سواء أن تقول، فتشت عنه في كل مكان، وفي كل جهة فلم أجده، أو تقول: هو معدوم" أي: إذا قلت لك ما رأيك في كون هذا الشيء لا يوجد لا داخل العالم ولا خارجه؛ لفهمت كلامي هذا أنني أنفي وجوده نفياً مطلقاً.
إذاً: أنا قصدي ليس موجود عَلَى الإطلاق، فنقول لك: أي عاقل لا يفرق بين قولك: إن الشيء معدوم نهائياً، وبين أنك تقول: لا داخل العالم ولا خارجه، إذاً ليس له وجود، وحقيقة قولهم نفي وجوده، ولكنهم يريدون تنزيهه كما يزعمون أو كما يعتقدون.
إذا قال المؤمن السني الذي يتبع السلف الصالح: إن الله تَعَالَى فوق المخلوقات، أو قال في السماء، كما جَاءَ في القُرْآن والسنة، فسيأتيه المجادلون من أهل البدع، فيقولون له: يلزمك من هذا أن الله له مكان، أو أن الله له جهة، ونتيجة لذلك يقولون: نَحْنُ ننفي الجهة عن الله تبارك وتعالى.
المعنى الحق والمعنى الباطل لكلمة جهة
كلمة الجهة محتملة وفيها لبس، ولابد من التفصيل فيها لنعرف المعنى الصحيح والمعنى الباطل أو الخطأ لهذه الكلمة فإذا قال أحد: إن الله تبارك وتعالى له جهة، قلنا له: ماذا تريد بقولك: إن الله له جهة، فإن قَالَ: أريد العلو، أي: أن الله سبحانه وتعالى عال عَلَى المخلوقات.
وهذه الكلمة وردت في بعض كلام الأئمة من السلف فإنهم يقولون: نعم لله جهة، ويقصدون بها (جهة العلو)، أي: أنه فوق المخلوقات؛ فنقول لمن يقول ذلك إثباتك للعلو حق وصواب، لكن كلمة الجهة تحتمل معنى آخر يلزمك به أهل البدع فلا تستخدم هذه الكلمة وقل: هو فوق المخلوقات كما أخبر سبحانه وتعالى.
وإن جَاءَ أحد: وقَالَ: ليس لله جهة قلنا: ماذا تريد بذلك؟ فإن قَالَ: أريد أن الله سبحانه وتعالى لا يحصره شيء وأنه فوق كل شيء، وأعظم من كل شيء، ومحيط بكل شيء، قلنا: هذا المعنى حق لكن هذه الكلمة (ليس له جهة) يستخدمها نفاة العلو، فيقولون: ليس له جهة أي: أنه ليس فوق المخلوقات، فلا تستخدم هذه الكلمة التي قد تلتبس عَلَى بعض الناس، واستخدم الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها ولا لبس.
ونقول: هو فوق المخلوقات كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم [النحل:50] أو هو في السماء، كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) والأمثلة كثيرة، وموضوع العلو والاستواء سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق] والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد كل موجود فالموجودات خَلْقُ الله سبحانه وتعالى، وأما العدم فهذا لا وجود له [فإذا أريد بالجهة أمر موجود غيرُ الله تَعَالَى كَانَ مخلوقاً، والله تَعَالَى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تَعَالَى الله عن ذلك] أي: إذا أردنا بالجهة شيئاً موجوداً غير الله كَانَ هذا المكان أو الحيز مخلوقاً، فإذا قلنا: الله في جهة، ونقصد به الجزء الأعلى من الكون، أي: داخله، فيكون بهذا قد حصرنا الله سبحانه وجعلناه في شيء من مخلوقاته معين.
كيف يحد الله وهو أعظم من كل شيء؟
لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يصح في الأذهان أن الله سبحانه وتعالى يحصره شيء أو يحده شيء من مخلوقاته، كيف وهذه المخلوقات جميعاً ما هي في قبضته سبحانه وتعالى إلا كالخردلة في يد الإِنسَان، فعلى أي اعتبار نظرنا فهو فوقها وهو أعظم منها.
وإذا أردت إيضاح ذلك فتأمل معي هذا العالم الذي نعيش فيه الآن عَلَى هذه الأرض وفوقنا السماء الدنيا، وهي أقرب سماء إلينا، أو هي التي نراها ونرى العالم الذي داخلها، هذه السماء الدنيا وسائر السماوات السبع ما هي في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، والله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم من كل شيء، فكيف يكون حالنا في هذا الكوكب ونحن في هذه الأرض التي لا تكاد تكون بالنسبة إِلَى عالم السماء الدنيا إِلَى الكون المنظور إلا هباءة أو ذرة؟!
فلو نظرنا إِلَى ما يقول علماء الجغرافيا، الذين لا يؤمنون بأن السماوات سبعاً، ولا يؤمنون بوجود الله سبحانه وتعالى ولا يؤمنون أصلاً بأن هناك شيئاً اسمه السماء الدنيا، لأن النظرة عندهم نظرةٌ مادية فقط، فبالمنظار المقرب والمكبر الذي يمتد عبر المراصد إِلَى آفاق الكون ينظرون به إِلَى آفاق السماء ويتخيلون أن السماء فراغ، وليس هناك جرم محسوس مخلوق يُقال له: السماء!
هكذا أكثرهم، حتى بعض الْمُسْلِمِينَ مع الأسف -ممن كتب في هذا الموضوع- تجد من كلامه أن هذا الكون فضاء وفراغ يتمدد، وليس هناك جرم يسمى سماء.
السماء جرم حقيقي بدلالة الكتاب والسنة
ونحن بطبيعة الحال ما دمنا عند قضية وجود السماء، فإن نصوص الكتاب والسنة قطعية وواضحة في إثبات أن السماء جرم حقيقي موجود، وإلا فما معنى قوله تعالى: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً [الملك:3] ، وما معنى ما جَاءَ في حديث الإسراء والمعراج، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يصعد إِلَى السماء الدنيا ويستأذن ملائكتها هو وجبريل، ثُمَّ يصعدان إِلَى السماء التي تليها ثُمَّ إِلَى التي تليها
…
، بل هذا كله يدل عَلَى أن السماء أجرام حقيقية.
وفي القُرْآن ما يدل عَلَى هذا دلالة واضحة قال الله سبحانه وتعالى: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8] والمهل: هو الرصاص المذاب أو هو الزيت السائل المعروف عند العرب، فكونها تتحول إِلَى حالة سائلة فيه دلالة بينه عَلَى أنها جرم حقيقي، وأنها في حالة صلبة، وأن هذه السماء جسم، أو شيء موجود حقيقة وليس مجرد فراغ أو هواء ننظر إليه ونظن أنه لا نهاية له، وبهذا نعلم خطأ من يقول: هذا الكون اللانهائي، وهذه العبارة غير صحيحة، فالسماء الدنيا لها نهاية بل الكون كله له نهاية، وكل المخلوقات لها نهاية، فكيف بهذه الدنيا التي هي محوية بالسماء التي فوقها؟!
وأعظم من هذه السماء الكرسي، وأعظم من الكرسي العرش.
لا يلزم من إثبات علو الله انحصاره في مكان
الذين خاضوا في مسألة نفي علو الله سبحانه وتعالى بحجة أنه يلزم من ذلك أن الجهة تحصره، أو أن مكاناً يحويه من هذه الدنيا، هَؤُلاءِ قاصري النظر والإدراك بالنظرة إِلَى العلم الحديث، فما بالك بالنظرة إِلَى الكتاب والسنة؟!
ما أوسع هذا الكون!
يقول أصحاب العلم الحديث: هذا الكون فيه سعة وفيه امتداد لا يستطيع العقل أن يتخيله ولا يدري أين جهاته ولا يدري أين نهايته، وكما هو معلوم أن الأرض هي مثل الهباءة بالنسبة إِلَى هذا الكون الكبير جداً، فمن أي جهة من الأرض انطلقت المركبة الفضائية -مثلاً- فإنها تحتاج إِلَى أن تقطع في أعماق هذا الكون المسافات العظيمة، وما يزال الفضاء أوسع وأبعد مما يُتخيل، ونتيجةً للضخامة وكبر هذا الكون الهائل العظيم، فهم يعلنون أن هذا الكون أعظم من أن يكون نجماً أو كوكباً بل هو مجرة ومجرات ومجرات.
والمجرة تحوي ملايين من النجوم، والشمس -مثلاً- من أصغر النجوم في الكون، والشمس تتبعها المجموعة الشمسية، فإذا كانوا يكتشفون بعد الحين والحين مجرة، والمجرة فيها ملايين النجوم، والنجم أكبر من الشمس بأضعاف، والنجم له كواكب وتوابع كثيرة قد تبلغ أحياناً عشرات أو أكثر! فكيف سيكون حجم هذا الكون؟!
وإن مثل علماء الفلك، كما قال بعضهم: مثل أناس كانوا محصورين في سور معين فأخذوا يعالجون الباب حتى فتحوه، ولما فتحوا الباب وإذا بسور آخر وفيه باب، وَقَالُوا: متى فتحنا هذا الباب وصلنا إِلَى النهاية، فكلما فتحوا باباً يكتشفون باباً آخر وهكذا، كلما تقدم العلم يفتحون باباً جديداً ويكتشفون أنهم ضاعوا، وفي النهاية أصبحوا عاجزين، فوضعوا مراصيد ضخمة جداً لكنها تكل تماماً، وترجع إليهم وهي حاسرة كسيرة لا تعرف هذه السماء الدنيا ولا تدري أين نهايتها، فسُبْحانَ اللَّه! إذا كَانَ عجزهم هذا عن سماء الدنيا، وعجزوا عن تصورها وهم بهذا العلم وبهذه المراصيد.
فهل يصح بهذا ما يقوله علماء اليونان من أنه سبحانه: لا داخل العالم ولا خارجه؟! بحجة أنَّا لو قلنا: إنه فوق للزم أنه في جهة، وأخذ بهذا القول علماء الكلام ومنكرو العلو، فكانوا يعتقدون أن السماء هذه مشابهة للأرض؛ أو قريبة للأرض في حجمها، وأن النجوم والكواكب هي مثل القناديل المعلقة في هذا المسجد أو في أي مكان، هكذا كَانَ تصور الذين نفوا علو الله ونفوا صفات الله عز وجل.
والآن أصبح العلم الحديث يعجز ويحار في فقه ذلك ولا يستطيع أن ينفي أي شيء؛ لأنه لم يفقه هذه الحياة الدنيا، ولا هذه السماء الدنيا، فأصبحوا لا يستطيعون أن يوجدوا لغة يفهمونها للأطوال والأبعاد الكونية، ولذلك تجدون الأبعاد الفلكية تختلف جداً عن الأبعاد المعروفة لنا في الأرض، نَحْنُ نقيس المسافات -مثلاً- بالميل وبالكيلو، لكن علماء الفلك يقيسون المسافات بالسنة الضوئية، فالقمر -مثلاً- يستغرق نوره حتى يصل إِلَى الأرض ثانية واحدة تقريباً، لأن القمر يبعد ثلاثمائة ألف كيلو متر، فالقمر في ثانية واحد يصل نوره إِلَى الأرض، لكن الشمس يصل نورها إِلَى الأرض بعد ثمان دقائق، لأنها تبعد "93" مليون ميل من الأرض تقريباً، فإذا كَانَ نور الشمس يصل إلينا وهي عَلَى بعد "93" مليون ميل من أميالنا المعروفة في الأرض في ثمان دقائق.
فإذا قسناها بالسنة الضوئية فكم ستكون ملايين؟ لا نستطيع أن نُعبر عنها إلا عن طريق الأس أو القوة، يقول إنشتاين: إن حجم الكون تقريباً 10 أُس 82، يعني: عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة، وليس هناك اصطلاح رياضي نعبر عنه، وإنما بلغة الأرقام فقط نعبر عنها، عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة من السنين الضوئية، ومع هذا فما يزال هذا الكون في تمدد واتساعٍ ولا يعنون بذلك -أي: أهل العلم الحديث- إلا ما كَانَ دون السماء الدنيا، أي: الفراغ بين هذه الأرض التي نعيش عليها وبين السماء الدنيا هو فقط الذي لا يتمدد، ولذلك أوجدوا وحدات جديدة للقياس.
أهل الكلام لم يعرفوا حقيقة هذا الكون
إن عقولنا تعجز عن تصور عظمة الكون، ومع ذلك تجد من يخوض في عظمة الله ويقول يلزم أن يكون في جهة وأن تخلو منه باقي الجهات، سُبْحانَ اللَّه العظيم! ما أجهل الإِنسَان! إذا أنت لم تعرف هذا المخلوق ولم تقدره، فكيف تتكلم في الخالق وتقول: يلزم ويلزم؟! وهذا الكلام لو قاله إنسان في حق المجموعة الشمسية، أو في غيرها لسخر منه الناس، فضلاً عن الكون، فضلاً عن خالق الأكوان جميعاً.
فعلى المخلوق أن يعرف قدره، ويعرف عجزه وضعفه.
هذه النجوم يقدر أعمارها كما يقال بملايين من السنين، ومع ذلك كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] سبحانه وتعالى، فهذا النجم الذي يبقى ملايين ثُمَّ ينطفئ أو يتناثر في الفضاء، عبرة للإنسان المسكين لينظر كم سيعيش في هذه الدنيا؟ ستين سنة تقريباً، وستين سنة لا تساوي بالنسبة إِلَى هذه الأبعاد الكونية أي شيء حتى يُقال إن بعض النجوم كالشعرى مثلاً المذكور في قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم:49] يُقدر بُعده عنا بنسبة ستة ملايين سنة ضوئية، أي لو أن الشعرى انطفأت في هذه اللحظة فإننا نفقد نورها بعد ستة ملايين من السنين، لأن النور يستمر في المجيء ستة ملايين سنة ضوئية!
ثُمَّ نجد بعد هذا من يتكبر عَلَى الله تعالى، ويتطاول عَلَى أوامر الله وعلى نواهيه، ويتجرأ عَلَى حدوده، ويتكلم في ذات الله وفي صفاته، ينفي ما يريد ويثبت ما يريد، ومع الأسف فإن بعض العلماء كتب كتاباً اسمه هموم داعية يقول: ما دام أن الكون بهذه الأبعاد، والنَّاس اكتشفوا علو الفلك فلا داعي من أن نخوض ونتكلم في العلو ولا في الفوقية ولا في الاستواء! وينتقص مذهب السلف بناءً عَلَى أن الفلكيين توصلوا إِلَى آفاق جديدة في علم الفلك، فيا سُبْحانَ اللَّه! أليس ما وصلوا إليه هو دليل لمذهبالسلف أم أنه دليل عليه؟
ولا تقف ما ليس لك به علم
وترى من علماء الفلك وغيرهم من يقول: ثُمَّ ماذا وراء ذلك؟!
نقول لهم: نَحْنُ نعلم ما وراء ذلك، فإن كنتم لا تعلمون ما وراء ذلك فقفوا عند حدود ما تعلمون، ولا تتطاولوا عَلَى ما بعد ذلك، سواء في ذلك من غلط من فلاسفة اليونان ومن اتبعهم، أو من تكلم في هذا من فلاسفة العصر الحديث -الجغرافيين المتفلسفين- ومن يتبعهم في قولهم ممن خاض في هذه المسألة، كل أُولَئِكَ خالفوا قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ ِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الاسراء:36] فأولئك قفوا ما ليس لهم به علم فوقعوا في الضلال ووقعوا في التخبط.
والمقصود أنه إذا أريد بالجهة أمر وجودي، أو جهة من الجهات الموجودة، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى أعظم من كل هذه الموجودات، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، وإن أُريدَ بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عالٍ عليهم.
فلم نقصد بكلمة الجهة حيزاً معيناً، وإنما أردنا شيئاً اعتبارياً أي: بالنسبة للكون فإنه توجد جهة ينتهي إليها فنقول ما فوق الكون، فلو قلنا: الكرسي فوق السماوات السبع، وفوقه العرش والله سبحانه وتعالى فوق العرش، إذاً الجهة هنا ليست شيئاً وجودياً وإنما شيئاً اعتبارياً، وقد قلنا -ونعيد-: إن الجهة يمكن أن تكون أشياء اعتبارية فقط، فنحن -مثلاً- نقول للسقف: إنه عالٍ علينا وما ذلك إلا باعتبارنا نَحْنُ لأننا تحته.
ولو أن هنالك بيتاً للنمل في سقف، والنمل يمشي فيه، فبالنسبة للنملة يكون العلو ما نَحْنُ عليه ونعده أسفل، فالقصد أن هذا شيئاً اعتبارياً.
فباعتبار الكون وأنه كله ضئيل وحقير بالنسبة لله سبحانه وتعالى، هل هناك جهة لله سبحانه وتعالى؟ نعم، جهة الفوقية، أي: أن الله فوق هذا الكون، ولكن نفاة لفظ الجهة نفوا الاحتمال الصحيح ويريدون بذلك نفي العلو.
اللازم الباطل
يذكر نفاة العلو من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة -وهذا في جميع كتب الأشعرية والمعتزلة - فكيف نثبت له جهة وهو موجود قبل الجهات؟ وهو الذي خلق الجهات؟ ولو قلنا: إنه في جهة للزم أن يكون شيء من العالم محيطاً به!!
وهَؤُلاءِ يتكلمون عن الجهة باعتبارها حيزاً معيناً في طرف من أطراف الكون، وهذا من ضعف الخيال الإِنسَاني ومن قصور العقل البشري، نعم. الجهات كلها مخلوقة إذا قُصِدَ بالجهات الحيز، وأما إذا كنا نريد بها شيئاً اعتبارياً فليس بلازمٍ أن يكون في حيز، وإنما الجهة التي يمكن -على كلامهم- أن تمنع هي أن تكون من هذا الكون نفسه، بحيث لا يكون في جهة أخرى.
ثُمَّ يقولون: ومن قَالَ: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أي قدم الجهة التي هو فيها أو أنه كَانَ مستغنياً عن الجهة ثُمَّ صار فيها! فبين الشيخ: أن هذه الألفاظ ونحوها إنما تدل عَلَى أنه ليس في شيء من المخلوقات، فهم يريدون أن يقولوا: إن الله ليس حالاً في شيء من المخلوقات ولا يحويه شيء من المخلوقات -تعالى الله عن أن يكون حالاً أو محصوراً في شيء من مخلوقاته- وكل خلقه بالنسبة له كالخردلة في يد الإِنسَان، ولله المثل الأعلى.
وبناءً عَلَى قولهم السابق قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه وهذه عقيدة فلاسفة اليونان، أو بعضهم وهي التي عليها الأشاعرة كما في كتاب المواقف وغيره:
ثُمَّ يقول المصنف: [ما لا يوجد فيما لا نهاية له ليس بموجود]، فإذا قلنا: إن الجهة لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فهو معدوم، وبمعنى أوضح: نفي التعيين كَانَ نقول: هذا الشيء لا داخل ولا خارج، هو نفي للماهية، أي: نفي للوجود.
وكما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: "لو قال أحد: ما هو العدم لقال لك: العدم هو الشيء الذي لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته"، وهذا تعريف صحيح باعتبار التعريفات السلبية، فالذين يصفون الله سبحانه وتعالى بالعدم هروباً من إثبات العلو ما فعلوا ذلك إلا لأنهم ما فهموا معنى إثبات العلو، وما فهموا من إثبات الجهة -كما يسمونها- إلا حيزاً محصوراً موجوداً مخلوقاً.
ثُمَّ يأتي الحديث عن النزول والاستواء لما بينها من العلاقة، فإذا تكلموا في النزول قالوا: هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ نقول لهم: أثبتوا أولاً أنه عَلَى العرش، ثُمَّ اسألوا هذا السؤال، وهذا دليل التناقض الفكري الذي لا بد أن يقع فيه كل من أعرض عن الكتاب والسنة. وما مذهب أهل البدع إلا مجموعة أمور متناقضة.
هل الإمام أبو جعفر على مذهب الماتريدية؟
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
وقول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات]
[هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله لما يأتي في كلامه: أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه، فإذا جمع بين كلاميه، وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" عُلم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء، كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء، العالي عَلَى كل شيء.
لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال- كَانَ تركه أولى، وإلا تُسِلَطَ عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية، ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي!! وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي، فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره، كالسموات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات، كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل، كما تقدم، ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه:" السؤر " وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، إذ " السائر " عَلَى الغالب أدل منه عَلَى الجميع، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي -كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء- تَعَالَى الله عن ذلك.
ولا يُظن بالشيخ رحمه الله أنه ممن يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين، كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تَعَالَى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، أو أن يكون مفتقراً إِلَى شيء منها، العرش أو غيره] اهـ.
الشرح:
من منهج أهل البدع أنهم يأتون إِلَى المتشابه من الكلام ويؤولونه، فأولوا كلام الله، وأولوا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فما بالكم بكلام البشر فبعض الماتريدية الحنفية المتأخرين في شروحاتهم عَلَى هذه العقيدة أو في كتبهم الأخرى يقولون: إن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ رحمه الله كَانَ عَلَى العقيدة الماتريدية أي: عَلَى القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ويستدلون عَلَى ذلك بأنه قَالَ:"لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، يقولون: والمعنى واحد.
وعليه: فالإمامأبو جعفر عَلَى مذهبنا، وهذا الكلام الذي نقوله هو مذهب الإمام أبى جعفر الطّّحاويّ، وهو مذهب الإمام أبى حنيفة رحمه الله كما سيذكر المصنف، والسبب الذي أوقعهم في ذلك هو اللبس والإجمال في العبارة ولهذا ينتقد المُصْنِّف رحمه الله هذه العبارة لأنها تؤدي إِلَى هذا اللبس فأخذ في إبطال ذلك فقَالَ:[إن قول الشيخ: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله لما يأتي في كلامه أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه] .
وهذا الكلام مشابه لقوله في موضع آخر: [وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه] .
فتركوا هذا الكلام الصريح المحكم وأخذوا بقوله المتشابه: "لا تحويه الجهات الست" وبناءً عليه قالوا: لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا فوقه وتحته!
توجيه كلام الإمام الطحاوي
يقول المصنف: [فإذا جمع بين كلاميه وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" علم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء العالي عَلَى كل شيء، ولا يظن -نحن ولا كل منصف- بالشيخ رحمه الله أنه ممن يقول: إن الله تَعَالَى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين] لأن هذا الإطلاق نَفْيٌ للنقيضين، ويقول علماء المنطق، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً، فلا يمكن أن نقول: لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يكون داخل العالم وخارجه في نفس الوقت فالنقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً.
ثُمَّ يقول المُصْنِّف مستدركاً: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال -كان تركه أولى. وإلا تسلط عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" - يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي] لأنه يقول: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وما زال الإشكال قائماً في العبارات وبهذا نعلم أنه ينبغي للإنسان أن يزن كلماته وعباراته فلا يأتي بعبارات خاطئة أو محتملة، فالمصنف رحمه الله أراد أن يؤكد أن الله لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات (أي: المخلوقات) .
ثُمَّ بيَّن المُصْنِّف رحمه الله أنه إذا كَانَ قصد الطّّحاويّ رحمه الله بالجهات الست أشياء وجودية وأمكنة حقيقية، وإن المخلوقات تحويها أشياء مخلوقه وكل مخلوق يحويه مخلوق إِلَى ما لا نهاية، وهذا لا يصح أن يكون فلذلك يقول:[وفي هذا نظر! فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم]، وإذا كَانَ قصده المعنى العدمي لأن الجهة -كما قلنا- لها معنيان: معنى وجودي، ومعنى اعتباري أو عدمي- فنقول: ليس كل موجود في العالم هو في العدم، فمثلاً هذا المسجد في المدينة، والمدينة في الأرض، والأرض في السماء الدنيا وهكذا.
فبعض الموجودات هي داخل موجود آخر، إلا الكون فلا يحويه موجود آخر، وإنما ينتهي بذلك إِلَى نهاية الكون أو سطح العالم، فيكون بعد ذلك العرش، وبعد العرش يكون الله سبحانه وتعالى الذي استوى عَلَى العرش، وهو محيط به وبجميع المخلوقات عَلَى كيفية لا نعلمها يقول المصنف:[بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي] فإنها في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة-[ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم] .
ومما يمكن أن يكون جواباً للإشكال الحاصل في قوله: "كسائر المبتدعات"، بأن كلمة "سائر" بمعنى: البقية، أو بمعنى الغالب، وهذا الأصح في لغة العرب، أن تكون بمعنى البقية لا بمعنى الكل، ونحن نستخدمها في معنى الكل، ونقول: أنا مثل سائر النَّاس أي: مثل كل النَّاس.
فمن الناحية اللغوية كلمة "سائر" لا تطلق إلا عَلَى الباقي، لكن النَّاس استخدموها في معنى الكل، مثلاً في حديث الغسل من الجنابة "ثُمَّ أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: بعد أن غسل رأسه أو بعد أن توضأ "أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: عَلَى بقية جسده، وكان ذلك بعد وضوئه كما هو ثابت في الصحيحين.
وهذا هو التعبير الصحيح في اللغة العربية؛ فيقول المصنف: [ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه "السؤر" وهو ما يبقيه الشارب في الإناء] فسؤر القطة ما بقي في الإناء بعد أن تشرب منه [فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي] وأكثر المخلوقات محوية بمخلوق آخر إِلَى نهاية العالم.
وهذا الكلام الذي ذكره المُصْنِّف لعله منقول بالنص من كلام شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ الذي في التدمرية صـ 45، أو فيمنهاج السنة (1/250) ، وهذا يبين أن شارح العقيدة الطّّحاويّة يعتمد اعتماداً شبه كلي عَلَى كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم، وكذا الحافظابن كثير والذهبي، ولكن اعتماده الأكثر عَلَى كلام ابْن تَيْمِيَّةَ، وابن القيم رحم الله الجميع.
وكان يترك التصريح بالأسماء خشية أن ينسب إليهم ثُمَّ يرد الحق الذي معه.
ماذا قال أبو حنيفة في علو الله تعالى؟
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به.
وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى سماء الدنيا، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
فقوله مخالف لإجماع السلف، مخالف للكتاب والسنة، وقال شَيْخ الإِسْلامِأبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ بعد روايته حديث النزول يقول: سُئل أبو حنيفة؟ فقَالَ: ينزل بلا كيف. انتهى.
وإنما توقف من توقف في نفي ذلك، لِضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوالالسلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء عَلَى العرش.
ويقول بعضهم: بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تَعَالَى زيادة بيان، عند الكلام عَلَى قول الشيخ رحمه الله:"محيط بكل شيء وفوقه" إن شاء الله تعالى] اهـ.
الشرح:
قول المُصْنِّف رحمه الله: [وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر، فإن أضداده قد شنعو عليه بأشياء أهون منه؛ فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به] في هذا نقدٌ لمن ينسب إِلَى الإمام أبي حنيفة رحمه الله قوله بنفي الجهات، سواء كَانَ التعبير بنفي الجهات كما قال الطّّحاويّ:[لا تحويه الجهات الست] أو أنه قَالَ: لا داخل العالم ولا خارجه، فيقول رحمه الله: إن ذلك لا يصح عنه وفي نسبة ذلك إليه نظر.
لأن أضداد الإمام أبي حنيفة شنعوا عليه بأشياء أهون من هذا، ولو سمعوا عنه أو بلغهم عنه هذا لشنعوا عليه به؛ لأنه أشنع وأعظم وأخطر، فنجد مثلاً في كتاب السنة، للإمام عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل -رحم الله الجميع ورضي عنهم-كلاماً طويلاً عن الإمامأبي حنيفة، وأقوالاً كثيرةً جداً، منها الثابت، ومنها غير الثابت، ومنها ما أخذ عليه شيء في عقيدته.
وذكر ذلك أيضاً ابن حبان في كتاب المجروحين وغيرها من الكتب التي تعرضت له وجمعت ما له وما عليه، كما جمع الخطيب في تاريخ بغداد أشياء له وعليه، فلو بدر عن الإمام أبي حنيفة نفي العلو عَلَى أي تعبير جاء، لكان ذلك من أشنع ما ينسب إليه، كيف وقد نسب بعضهم إليه ما لم يقل؟
فلا يمكن ولا يصح أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أو أحداً من السلف أنكر العلو، بل أورد الشيخ وأورد يره ما يدل عَلَى أن الإمامأبا حنيفة يثبت العلو فذكر من ذلك:[وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى-] في كتاب الفقه الأكبر.
فكان مما قَالَ: "من أنكر أن الله فوق العرش فقد كفر"، هكذا قال الإمام أبو حنيفة، من نفى أو من أنكر أن الله تَعَالَى فوق العرش فقد كفر، لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .
ثُمَّ بيَّن المُصْنِّف أن العبارات المجملة الأولى أن لا تطلق، ويكتفى بما ورد عن الله ورسوله كالاستواء والنزول ونحو ذلك.
ثُمَّ استطرد يقول: [ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى السماء الدنيا] كما ورد بذلك الحديث الصحيح المتواتر الذي رواه جمع من الأئمة، ومن أكثر من أطال في نقل رواياته الإمام ابن عبد البر في كتاب التمهيد، وكذلك شرحه شرحاً مستفيضاً طويلاً شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه شرح حديث النزول، فمن ظن أنه عندما ينزل في الثلث الأخير من الليل، ويكون العرش فوقه، أو يكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
فإن مثل هذه التصورات الجاهلية السخيفة الساذجة، أساسها سذاجة العقل وضيق الأفق، والإِنسَان مسكين لا يستطيع أن يتخيل شيئاً إلا عَلَى الكيفيات التي يعرفها، كما يُقَالَ:"لو أنّ رجلاً ولد في السجن أو عاش في السجن وهو صغير ولا يرى إلا الصراصير، وأكبر حيوان يراه في السجن هو الفأر، وما خرج إِلَى الدنيا ولا رآها، ويسمع أباه والسجناء يقولون: الفيل، الثور، البقرة، فإنه سيسأل أباه: يا أبي! الفيل أكبر من الفأر أم مثل الصراصير؟!! " وهكذا الفكر والعقل البشري محصور مسجون، فإذا جاءنا نصٌ فيه "ينزل ربنا إِلَى السماء الدنيا " قيل: معناها أنه بين سمائين!! ثُمَّ يتبادر سؤالٌ هل خلا منه العرش أم لا؟!
وهذه تفكيرات ساذجة سطحية تدل عَلَى ضعف إدراك الإِنسَان.
ولهذا أول ما وصف الله به المؤمنين، وهو أعظم وصف لهم في جميع أبواب العقيدة قوله تَعَالَى:الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] فنؤمن بالغيب، ونؤمن بأن الله سبحانه وتعالى صادق فيما أخبر وأن رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك، وأن عقولنا عاجزة وكليلة عن إدراك أمور الغيب، وعلى هذه العقول أن تؤمن سواء فهمت حقيقة ذلك وكيفيته أو لم تفهمه، فإذا جادلت وما طلت وكيفت وحُرِفت، فإنها لا تكون مؤمنة بالغيب.
ثُمَّ ينقل المُصْنِّف كلام شَيْخ الإِسْلامِ أبي عثمان الصابوني، وله كتاب في إثبات الصفات حققه الشيخ علي ناصر فقيهي وفيه يقول:"سئل أبو حنيفة رضي الله عنه عن حديث النزول، فقَالَ: ينزل بلا كيف"، فأبو حنيفة رحمه الله يثبت علو الله عز وجل، ويثبت نزوله، كما ورد في الأحاديث، وينفي الكيفية، كما يقول ذلك سائرالسلف،
ثُمَّ يقول المُصْنِّف رحمه الله: [وإنما توقف من توقف في نفي ذلك -أي: من الشراح الذين توقفوا في نفي مثل هذه العبارات- لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش!] ينكر علو الله عَلَى عرشه! [بل يقول: لا مباين ولا محايث لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء عَلَى العرش ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيرا] ثُمَّ أشار المُصْنِّف إِلَى أنه سيأتي تفصيل ذلك.
إحالة إلى ما قاله الشنقيطي في العلو والاستواء
وبخصوص هذه القضية هناك مرجع سهل وميسر ومبسط جداً في مسألة العلو والاستواء، وهو كلام شيخنا الشيخ مُحَمَّد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في كتاب أضواء البيان، عند قوله تَعَالَى في سورة الأعراف: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش [لأعراف:54] فقد تكلم بكلام رائع وعظيم ومفهوم وواضح.
البدعة بريد الكفر
تقدم ذكر مذاهب النَّاس في مسألة العلو، لكن ينبغي أن نعرف خطر البدع وتسلسل بعضها من بعض، فإن أول ما يبدأ به الشخص أنه ينكر علو الله عز وجل، ويقول: لا داخل ولا خارج
…
، فإذا أقر بهذا ودرسه وفهمه واستوعبه، أتاه الحلولي فقَالَ: ما دام أنك قلت: لا داخل ولا خارج
…
، فليس هو إلا هذا الكون فينتهي به الأمر إِلَى أن يقول: إن الله هو هذا الكون، أو إن الله حالٌ في هذا الكون، أي: إما اتحادي يقول اتحد في هذا الكون، أو يقول بوحدة الوجود، وأن ما في الوجود إلا هو، كما يقول ابن عربي في تفسير قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يقول: عَلَى أي شيء استوى، وما في الوجود إلا هو؟! فهو المستوي وهو المستوى عليه، عياذاً بالله.
ونحن نقول ويقول معنا الأشعرية والمعتزلة وأمثالهم: إن من قال إن الله تَعَالَى هو عين الموجودات كافر خارج عن الملة.
لكن من الذي يمهد لهذا الإِنسَان هذه الطريق ليصل به إِلَى الكفر؟ إنه من يقول من أهل البدع: إن الله في كل مكان، أو إنه لا داخل العالم ولا خارجه، أما المؤمن الذي يقرأ كتاب الله ويقرأ سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تجده يعرف ربه حق المعرفة؛ لأنه يقرأ سبعة مواضع في كتاب الله عز وجل في إثبات الاستواء، فما بالك بالعلو الذي أدلته لا تحصى؟!
وكما سبق أن قلنا: إن العلو ثابت بالآيات والأحاديث، والعقل والفطرة والإجماع، لكن الاستواء بالذات ثابت بالنص أي بالآيات والأحاديث ونعلم أنه عال عَلَى المخلوقات حتى من غير النص ومن قبل أن يرد النص، يقول عنترة الشاعر المشهور:
يا عبل أين من المنية مهرب إن كَانَ ربي في السماء قضاها
فهو يثبت العلو ويثبت القدر، والذين ينفون العلو وينفون القدر خالفوا حتى المعاني الجاهلية، فالعلو ثابت بالعقول والفطر، والاستواء ثابت بالنص، وكل منهما يؤيد الآخر.