المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌النبوة فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي   من - شرح العقيدة الطحاوية - سفر الحوالي

[سفر الحوالي]

الفصل: شرح العقيدة الطحاوية ‌ ‌النبوة فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي   من

شرح العقيدة الطحاوية

‌النبوة

فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي

من أهم الموضوعات التي يجب عَلَى طالب العلم أن يلم ولو بقدر منها، حقيقة نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ونبوة غيره من الأنبياء، لأن من أركان الإيمان الإيمان بأنبياء الله تبارك وتعالى.

فلا بد من معرفة النبوة وما حقيقتها ومدى حاجة النَّاس إليها وأمثال ذلك مما يجب أن يعلمه المسلم ولو إِلَى حد ما.

ويتبين لنا عظمة النبوة وأهميتها إذا عرفنا أن كل شي من الدين يعتبر فرعاً عن إثبات النبوة، فالإيمان بالقرآن الذي هو كلام الله تبارك وتعالى متفرع عن الإيمان بنبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ولهذا كَانَ كفار قريش يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس بنبيٍ؛ ليتوصلوا بذلك إِلَى الطعن في القرآن، لأن من أنكر نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أو طعن فيها فقد طعن في القُرْآن وطعن في الإسلام.

أساس الدين إثبات النبوة

أساس الدين هو إثبات النبوة لنبيا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال كفار قريش إنما أنت مفتر، وَقَالُوا: ساحر، وشاعر، ومجنون وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون [الفرقان:4] وقالوا غير ذلك من السباب كقولهم: إنما يعلمه بعض الأعجميين، وقولوا: إنما يعلمه بشر، ويجب أن يُعلم أن كل أنواع الافتراءات التي تنكر القُرْآن تعتبر تكذيباً لدعوى النبوة، وإذا كذبوا النبي في دعوى نبوته صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك ينكروا ما شاءوا.

ص: 1565

لهذا كَانَ مبحث النبوة مبحثاً عظيماً ومهماً في أبواب العقائد، وقد ضل كثير من المتكلمين في هذا الموضوع، إما ضلالاً كلياً، وإما ضلالاً جزئياً، فلم يعرفوا حقيقة النبوة، ولم يدركوا معناها ولا غايتها؛ ولذلك فإنهم لما أرادوا أن يثبتوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بالطرق الكلامية العقلية أوهنوا دين الإسلام؛ لأن ما قرروه من الطرق والوسائل لإثبات النبوة ليست بالقوة التي يمكن أن يؤمن بها كل عقل؛ لأنها منحرفة عن منهج القُرْآن والسنة في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا إثباتها بطرق محصورة معدودة -كما سنبين إن شاء الله بالتفصيل- كَانَ ذلك مما أوهن بل سهل لأعداء الإسلام أن يطعنوا في دين الإسلام، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ عن هَؤُلاءِ الناس:"إنهم لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا" ومع دلائل النبوة التي لا تحصى، فقد أنكرها بعض من استهوتهم الشياطين.

الذين ينكرون النبوة

من الذين ينكرون النبوة الفلاسفة ومنهم كما يقال البرهمية -الذين هم في الهند عباد الأبقار- والفلاسفة ينكرون النبوات ويقولون: لا حاجة لوجود نبي، والعقول تغني عن الشرائع، والأنبياء ما هم إلا أناسٌ عباقرةٌ عظماء نابغون، تعلموا أنواعاً من الحيل مثل حيل السحر، وجاؤا إِلَى قومهم وَقَالُوا: نَحْنُ أنبياء واستخفوا بعقولهم بهذه الخوارق للعادة فتبعتهم أقوامهم.

ص: 1566

وليس لهم أي دليل من العقل، فلما جَاءَ أهل الكلام، وأرادوا أن يردوا عليهم، ولم يسلكوا منهج القُرْآن والسنة في إثبات نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والرد عَلَى منكريها، مع كثرة ما جَاءَ في القُرْآن من الحديث عنها، ومع أنها قضية كبرى، ومعركة كبرى دارت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، بل سلكوا منهجاً عقلانياً مجرداً يتوقف كله عَلَى إثبات ما أسموه "المعجزة" وأنه لا دليل لثبوت النبوة غير المعجزة، وحصروا الدلائل في المعجزة وحدها، وهذا فعل كثير منهم فلما فعل أهل الكلام ذلك، جَاءَ الفلاسفة وأبطلوا -أيضاً- تأثير المعجزة فكان ذلك مما هيئ لأن يطعن الطاعنون في دين الإسلام.

إلا أن الإِنسَان الذي ينتهج في عقيدته منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقرأ كتاب الله تبارك وتعالى ويأخذ ويستقي منه كل ما يعتقد يجد إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم أجلى من الشمس في رابعة النهار، ولسنا في حاجة إِلَى أن نتعلم من الطرق العقلية ما نرد به عَلَى منكري نبوته صلى الله عليه وسلم، والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هنا قد جَاءَ بأدلة كثيرة هي جزء قليل من الأدلة العامة التي -هي أدلة متواترة مستفيضة- تدل عَلَى إثبات النبوة في الجملة، وإثبات نبوته صلى الله عليه وسلم خاصة فلهذا نذكر كلامه -إن شاء الله- وبعد ذلك نتحدث عن أهمية دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الطّّحاويّ رحمه الله:

[وإن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى] .

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 1567

[الاصطفاء والاجتباء والارتضاء: متقارب المعنى. واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، وأن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26] إِلَى غير ذلك من الآيات.

وذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باسم العبد في أشرف المقامات، فَقَالَ في ذكر الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19] وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] وبذلك استحق التقديم عَلَى النَّاس في الدنيا والآخرة. ولذلك يقول المسيحُ عليه السلام يَوْمَ القِيَامَةِ، إذا طلبوا منه الشَّفَاعَةَ بعد الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام:"اذهبوا إِلَى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى. وقوله: "وإن محمداً" بكسر الهمزة عطفاً عَلَى قوله: "إن الله واحد لا شريك له" لأن الكل معمول القول، أعني: قوله: "نقول في توحيد الله"] اهـ.

الحديث عن إثبات نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وعن تقرير مبحث النبوة عامة، يقتضي منا أن نتحدث عن أهمية دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه؛ لأنه هو القدوة والأسوة قال تعالى:(َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا)[الأحزاب:21] .

ص: 1568

فكل مؤمن بالله منتسب إِلَى هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، فلابد -وهو حري ومشتاق بلا شك- أن يقرأ سيرته ويطالع شمائله ويستنير بهداه صلى الله عليه وسلم، إذ كل أمة من الأمم وكل مبدأ وكل مذهب لابد أن يكون له مثل أعلى، ونماذج حية يؤمن بها أصحاب هذا المبدأ ويتأسون ويقتدون بها، ويُشهرِونَ اسمها ويُخلدّوُنَ أعمالها، ويرفعون أمجادها، هذه سنة جعلها الله سبحانه وتعالى.

فكل المتبوعين من البشر الحقيقيين أو المتبوعين من المتوهمين -كل هَؤُلاءِ- يرفعهم أتباعهم، ويعظمونهم، ويختلقون لهم من وسائل التمجيد والتكريم والتبجيل ما يرفعونهم به عن مستوى سائر البشر، لأن هذا التعلق طبيعي وفطري في النفس البشرية تجاه كل من تتبع وتدين بما يقول، ولكن نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم أجمعين.

ص: 1569

وأفضل الأَنْبِيَاء والمرسلين وهو الذي زكاه وطهره وأثنى عليه ربه تبارك وتعالى وكل من رآه صلى الله عليه وسلم من مؤمن أو كافر، شهد له بالغاية العظمى في الحلم، والكرم، وحسن الخلق، والصدق، والأمانة، والوفاء، هذه الشخصية - شخصية النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحتاج لمن يختلق الأمجاد لها، أو يفتري عليها، وإن كَانَ يظن أنه يكذب لها، لأنه صلى الله عليه وسلم لما خصه الله تَعَالَى من الفضائل والخصائص؛ في غنى مطلق عمن يفتري ويختلق له ما ليس فيه. وما علينا إلا أن نقرأ الصحيح من سيرته صلى الله عليه وسلم فنتأسى ونقتدي به، فإنه يوجد فيها من دلائل النبوة والآيات والبراهين البينات ما تنبهر له جميع النفوس؛ ولهذا فإن كثيراً من النَّاس أسلموا لمَّا رأوا سيرته صلى الله عليه وسلم إما عياناً وإما قراءةً فبمجرد أن قرؤوها علموا أن هذا الإِنسَان ليس بكاذبٍ أو مفترٍ، وأنه لا يأتِ بشيءٍ من عنده، ولا يريد شيئاً لنفسه، وإنما هو من عند ربه تبارك وتعالى وأن دعوة النبوة حق ويقين وبرهان وليست مجرد دعوى.

كل مسلم بحاجة إلى معرفة سيرة وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقتدي به

فالحكّام والأمراء يحتاجون سيرته صلى الله عليه وسلم؛ ليتعلموا منه العدل والأمانة، ويتعلموا منه كل صفات الحاكم الناجح، والأمير الناجح. وكذلك العلماء يحتاجون سيرته صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منها دقائق العلم والفقه والأحكام التي لا توجد إلا في سيرته صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كلها حجة ونحن مأمورون أن نتبعها، وأن نتعبد بما صح منها.

ص: 1570

وكذلك طلاب المعرفة والأخلاق العالية والسامية، يقرؤون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيجدونه المثل الأعلى في الحلم، والعطف، والحنان عَلَى الفقراء والمساكين، والعفو والكرم، والشجاعة والمروءة.

والزوج الذي يريد أن يكون زوجاً حقيقياً، وأباً مثالياً في بيته، فليقرأ سيرة وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم، ليجد مثال الإِنسَانية العالية، والزوج الكامل الصفات في معاشرته لأهله ومعاملته لجيرانه ومن حوله، تجد تلك الصفات التي من تحلى بها بلغ الكمال ولم يحز أحدٌ منها مثلما حاز هو، فكل إنسان يحتاج إِلَى أن يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، لا قراءة المطلع عَلَى أحداث التاريخ، وإنما قراءة المتعظ المعتبر المتأسي الممتثل لما يجده في هذه السيرة العطرة الزكية النيرة.

ولهذا من حكمة الله تبارك وتعالى ورحمته أن حفظ لنا سيرته كاملةً حتى نعرف كيف كَانَ صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته وكيف كَانَ يأتيهن، وعندما تكون المرأة من أمهات المؤمنين حائضاً نعرف كيف كَانَ صلى الله عليه وسلم يباشرها وهي حائض، وكيفية اغتساله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وهل كَانَ يغتسل في إناء وحده أو مع إحدى زوجاته؟ فنعرف -ولله الحمد- حتى الأمور الدقيقة في حياته صلى الله عليه وسلم التي هي عند أكثر النَّاس مجهولة أو معمية أو مخفية.

وضوح سيرته صلى الله عليه وسلم ليسهل التأسي والاقتداء بها:

وقد جعل الله سيرة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم واضحةً نيرة ليس فيها شيء مما يخشى أن لو انكشف لكان طعناً فيه.

ص: 1571

أما غيره من البشر من الزعماء المتبوعين فإنك تجد أن جوانب كثيرة من حياتهم مخفيه مجهولة؛ لأنها لو انكشفت أو عرضت لاطلع عليها النَّاس ورأوا فيها من المعايب والمعاور ما قد يصرفهم عنه، ولذلك تجد أن سيرة كثير من هَؤُلاءِ الأدعياء الذين يدعون الكمال أو يتوهمه فيهم أتباعهم، متناقضة إذ أنها تُعدَّل دائماً ويُحذَف منها: فهذا شيء اكتشف مثلاً أنه باطل، وهذا اكتشف أنه يؤدي إِلَى عكس المعنى الذي أرادوه لما وضعوه، وهذا الشيء إن اطلع عليه كَانَ نقصاً في حقه، وهكذا إلا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فكل ما صح من سيرته صلى الله عليه وسلم، فإنه الغاية في الحق والكمال، وهو قدوة ومعيار؛ لأن نقيس به ما عداه، فما كَانَ عَلَى مثل ما هو عليه فهو الحق، وما كَانَ مخالفاً له فهو الباطل المرذول، والمخالف والمجانب للصواب.

ص: 1572

فلذلك نجد أن الإِنسَان إذا أراد التأسي فإنه يمكنه أن يتأسى بسيرته صلى الله عليه وسلم الواضحة، في مسجده وبيته، وقيادته للجيوش، أو في سياسته صلى الله عليه وسلم للأمة عامة، سواءً في معاملته مع أصحابه، أو في معاملته مع أعدائه، فكلها أمور واضحة حتى أدق الأمور في السياسة، وكذلك معاملة الإِنسَان للكفار من خلال معاهدات واضحة، واتفاقيات أو عقود ذمةٍ واضحةٍ جليةٍ، مالها وما عليها، حتى مع اليهود، كل ذلك في منتهى الوضوح؛ لكي يتأسى به النَّاس ولكي يعلموا أن هذا نبي من خلال سيرته صلى الله عليه وسلم، فليقرأها العالم ونتحداهم جميعاً أن يجدوا فيها مطعناً، وأي مطعن يمكن أن يجده الطاعنون في هذه السيرة الزكية العطرة، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى، ودلالة عَلَى أنه صادق وأن هذا القُرْآن من عند الله، وأنه صلى الله عليه وسلم كما أخبر عنه ربه، ما كَانَ يرجو أن يلقى إليه القرآن، ولكن رحمة الله تبارك وتعالى للعالمين هي التي اقتضت أن ينزل هذا الكتاب وأن يبعث هذا الرَّسُول.

واقع العرب بين ظلام الجاهلية ونور الإسلام:

إذا أردنا أن نعرف شيئاً من عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وأثره في واقع هذه الدنيا وفي حياة الإِنسَانية؛ فلننظر إِلَى واقع الأمم التي بُعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كَانَ العالم قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم، إن أي مؤرخ مُنصف يقرأ ويتتبع حال العالم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حال العالم بعد أن عمَّ عليه نور الإسلام، فسيجد أن هذا نبي حقاً من عند الله، وليس بمفتر؛ بل سيجد أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق منّهً عَلَى البشر، وعلى الإِنسَانية جمعاء، وعلى سائر الحضارات.

ص: 1573

فإن الأمة التي بعث منها النبي صلى الله عليه وسلم هي أمة العرب وما أدراك ما أمة العرب في الجاهلية؟! لما ذهب وفد الْمُسْلِمِينَ إِلَى رستم تقدموا هنالك، وأخذوا يتوغلون في بلاد فارس وأرسل إليهمسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الرسل، وكان منهم ربعي بن عامر والمغيرة بن شعبة، وكلهم كَانَ يواجههم رستم ويقول: أنتم العرب، كنتم تأكلون الميتة، والجعلان، وكان بعضكم يعتدي عَلَى بعض، ويذمهم بأنواع من الذم. ثُمَّ يقول لهم: فما الذي جَاءَ بكم؟

فكان يجيبه المغيرة وربعي بن عامر، ويقولان: أيها الأمير! كَانَ ما تقول وأعظم، أنت لا تدري بالعرب، فالفرس والروم وكل من أراد أن يطعن في العرب لا يدري عن المعايب الأخرى، والعرب هم أعلم النَّاس بما كانوا فيه من الضلال، والأخطاء، والظلم، والفحشاء، كما جَاءَ في الحديث الصحيح أن الزواني كن ينصبن الرايات في الأسواق، فيأتي عليهن الرجال الواحد بعد الآخر، فإذا ولدت ألحقته بمن شاءت، هذه إحدى صور النكاح في الجاهلية التي جاءت في الحديث عن عَائِِِشَةَ رضي الله عنها، فكان الإِنسَان يستلحق من ليس بابنه ويدعيه ويأخذه.

وكانت قطيعه الأرحام إِلَى حد كما قال شاعرهم:

وأحياناً عَلَى بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

يقول: نَحْنُ نغير عَلَى القبائل كلها، فنأخذ وننهب، وإذا لم نجد إلا أخانا أغرنا عَلَى أخينا وأخذنا ما عنده، ليس هنالك معيار ولا ضابط خلقي أبداً.

وكانت من عادتهم إهانة المرأة واحتقارها؛ حتى أنها توأد وهي حية في التراب، وهذا إهدار لإنسانيتها ولكرامتها، وكان العرب يعبدون الأصنام، وكان أحدهم يجمع العجوة من التمر، فيعبده فإذا جاع أكله، وكان العرب عندما يتحاكمون يضربون بالأزلام، فإذا انقلبت عَلَى هذه الجهة حكم لفلان، وإذا انقلبت عَلَى الجهة الأخرى حكم لفلان.

ص: 1574

وكانوا يذهبون إِلَى الكهان ويتحاكمون إليهم في أي أمر من الأمور، والكهان يحكمون بينهم، وكان السادة والكبراء يحكمون ويتسلطون، وأما الذين هم من بيوت وأسر دون ذلك من الطبقات فلا قيمة لهم ولا وزن، مهما كَانَ فيهم من الخير أو النبوغ وقد جَاءَ بعضها في الكتابِ والسنة وفي ديوان العرب -الذي هو شعر العرب -وجاء في حياتهم وسيرتهم الجاهلية ما يعطي الدلالة الواضحة عَلَى أن هذه الأمة لولا هذا الدين لما كانت شيئاً مذكوراً، بل لم تكن تسمى أمة، الميزة الوحيدة للعرب أنها كانت بعيدة عن الفلسفات والحضارات، هذه نقطة مهمة جداً فالإسفاف الذي كانت تعيشه كان إسفافاً مع وجود الفطرة التي تشعر أن هذا إسفاف، ولهذا لما كان أحدهم يعبد الصنم جاء إليه فوجد أن الثعلب قد رقى فوقه وبال عليه قال:

أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ضل من بالت عليه الثعالب

جاء صلى الله عليه وسلم رحمة بالمؤمن والكافر:

أحصى المؤرخون أن الذين قتلوا في غزوات ومعارك النبي صلى الله عليه وسلم من الْمُسْلِمِينَ ومن الكفار والْمُشْرِكِينَ: ألف وثمانية عشر رجلاً فقط، وهذا العدد من غير بني قريظة؛ لأن بني قريظة في العرف القانوني الحاضر يعتبرون مواطنين في الدولة.

إنما كمعارك في بدربدر وأحد وفي يوم الأحزاب كل من قتل من الْمُسْلِمِينَ، ومن الْمُشْرِكِينَ، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألفاً وثمانية عشر رجلاً فقط، وقتل هَؤُلاءِ لم يكن صداً عن الدين؛ بل ثمرته أن يعم وينشر هذا النور في العالمين بقتلى هم ألف وثمانية عشر رجلاً فقط، لكن انظروا إِلَى حروب العالم الذين لم يكونوا رحمة للعالمين.

ص: 1575

الحرب العالمية الأولى قتلت ما بين أربعة ملايين إِلَى ستة ملايين قتيل وما يزيد عن عشرة إِلَى خمسة عشر مليون جريح، أما الحرب العالمية الثانية فإن التقديرات تدل عَلَى أن ما بين أربعين إِلَى ستين مليون قتيل وجريح، وماذا حققت من الخير والعدل بعد قتل هذه الملايين؟

تأملوا لنعرف ما معنى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ولنعرف مَنْ هذا الرجل الذي يجب عَلَى كل إنسان عَلَى ظهر الأرض أن يطيعه وأن يتبعه كما قال صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) .

هذا الإِنسَان الذي بعثه الله عز وجل بالهدى، ودين الحق فنشر الرحمة ونشر العدالة بين الأمم.

من أثر رحمه الله للعالمين بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم.

إخراج جيل فريد هم النماذج العليا في كافة المجالات، والنماذج العليا من البشر: هم من اقتدوا بسيرته صلى الله عليه وسلم واهتدوا بهداه صلى الله عليه وسلم، ولهذا أفضل من عَلَى وجه المعمورة من الحكام؛ هم الخلفاء الراشدون، لأنهم أتباع مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وأفضل من شهدته المعمورة من العلماء؛ هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولنضرب مثلاً يوضح فضل علماء الإسلام علىغيرهم من علماء اليهود والنَّصَارَى.

ص: 1576

انظروا مثلاً قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه لما ذهب إِلَى الراهب في دمشق من علماء أهل الكتاب، وقد كَانَ خدمه سلمان أربعين سنة، وهو يتعبد فكان يجمع الزكوات والعطايا، عَلَى أن يعطيها الفقراء، وهو في الحقيقة يجعلها في قلال من الفخار ويكنزها، فلما مات وجاء النَّاس إِلَى سلمان قالوا: أنت الفارسي الذي جئت من بلاد الفرس تتعبد عند الحبر الأكبر؟ قالوا: نريد أن نعمل جنازة كبرى تليق بهذا الحبر العظيم، قال سلمان: قفوا!

وقَالَ: هذه هي القلال من الذهب والفضة التي كنتم تعطونه إياها ليتصدق بها عَلَى النَّاس فلما رأوها تركوا جنازته ولم يعملوا له شيئاً.

فهَؤُلاءِ هم علماء النَّصَارَىوما أدراك ما يفعل أحبار اليهود، ولكن أفضل العلماء همالعلماء الذين أنجبتهم هذه الأمة؛ لأن الذي رباهم هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، اقرأوا سيرة عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس أحبار هذه الأمة -إن صح التعبير- وانظروا كيف كانت حياتهم كيف كانت سمعتهم.

ص: 1577

وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ يظل علماء الإسلام هم النموذج العالي بين علماء أصحاب الديانات جميعاً، وأفضل قادة في التاريخ هم القادة الذين رباهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وتخرجوا من مدرسته صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم يعرف قادة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأنهم يمثلون بالناس، ولم يعرفوا أن يسبوا النساء ويستحلوهن لأنفسهم، ولم يعرفوا الغلول يضعونه وراء ظهورهم من الغنائم، لم يعرفوا شيئاً من هذا؛ بل كَانَ الرجل منهم يحارب لوجه الله وحده يريد الله والدار الآخرة والجنة فقط، إن كَانَ في الساقة كَانَ في الساقة، وإن كَانَ في الحراسة كَانَ في الحراسة، حتى سيف الله المسلول خالد بن الوليد يأتي الأمر بعزله فيمتثل الأمر ليحارب جندياً؛ لأنه كما قَالَ: إني لا أقاتل من أجلعُمَر إنما أحارب في سبيل الله، ولم ينتصر جيش الْمُسْلِمِينَ لأن قائده خالد أو أبو عبيدة، بل لأن قائده هو الإيمان بالله، ولأنهم يتبعون مُحَمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم الزوجات هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن تقارن أي زوجة لأي شخص من النَّاس من عالم، أو عظيم، أو كبير، أو صغير بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الطهارة والعفة والعلم والأمانة، وهذا أيضاً من الدلالة عَلَى صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.

الذين ينتقصون من قدره صلى الله عليه وسلم:

ص: 1578

ولا بد أن نُعِّرج عَلَى الذين يغضون من قدر نبوته صلى الله عليه وسلم؛ بل يطعنون في نبوته صلى الله عليه وسلم، شعروا بذلك أو لم يشعروا، وإن كَانَ زعماؤهم ومؤسسوهم يشعرون بلا شك: وهم الذين يتنقصون ويحطون من قدر أصحاب وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ويحطون من قدر علماء الإسلام الذين تعلموا العلم عن مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ورجال الإسلام وقادته الذين تلقوا عن مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فالذين يحطون من قدر هَؤُلاءِ: يطعنون في نبوته صلى الله عليه وسلم.

ولبيان ذلك أضرب لكم مثلاً بسيطاً: لو أن أحدنا يعرف في البلدة مائة وعشرين رجلاً، فجاء رجل وقَالَ: إن المائة والعشرين هَؤُلاءِ أنا أعرفهم ليس فيهم إلا أربعة أشخاص طيبين والبقية مجرمون، كاذبون غشاشون، فاجرون، ظالمون، أيكون هذا الإِنسَان ثقة؟ أيكون أميناً أو طاهراً، ثُمَّ هَؤُلاءِ الأربعة ليسوا من المقربين عنده، لكن المقربين الممكَّنين منه الذين صُحْبَتُهمْ معه ليلاً ونهاراً هم أكبر المجرمين، والغشاشين والفجرة فكيف سيكون هو إلا مجرماً وغشاشاً فاجراً كذاباً وهذا شيء معروف.

وأيضاً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عددهم 120 ألفاً، وليس 120 شخصاً، وكم الذين آمنوا منهم ولم يرتدوا عَلَى حسب زعم الرافضة؟ أربعة فقط؟ من الـ120 ألف لا يوجد إلا أربعة لم يرتدوا، والبقية مرتدون وخائنون وماكرون ومتآمرون، وعلى من تآمروا؟ عَلَى ابنته، وزوج بنته صلّى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم!

فهذا غاية الفجور والخيانة، إذاً فالرَّسُول صلى الله عليه وسلم لم يعمل شيئاً، ولم يغير من حياة هَؤُلاءِ البشر، ولم يحدث شيئاً من التربية.

ص: 1579

وإذا كَانَ أكبر هَؤُلاءِ الظلمة الغشاشين من الـ120 ألف هم: اللذان كانا معه ليلاً ونهاراً لا يفارقانه أبُو بَكْرٍ وعُمَر، فإذا كَانَ هذان أكبر السفاحين، والظلمة، في نظر هَؤُلاءِ النَّاس المجرمين، فماذا يكون هذا النبي؟ إذاً فالجاهلية كانت أحسن من هذا النبي -والعياذ بالله- هذا هو حقيقة ما تقوله الرافضة، وكل إنسان يفكر في هذا منهم أو من غيرهم يجد هذه الحقيقة، إذا كَانَ بهذا الشكل فالجاهلية أحسن، قريش كانت تعادي الإسلام عداوةً واضحة، أما اثنان يعيشان معه ويظهران أنهما متدينان بدينه ومتمسكان به ووزراء وأتباع له، وبقيه الـ120 ألف كلهم أتباع له، ويحاربون معه، ويمشون معه، ويعملون كل شيء معه، فلما مات انقضوا عَلَى دينه يحرفون الكتاب الذي جَاءَ به، ويقومون عَلَى أهل بيته، ويأخذون حقوقهم ويهدروها، وينقضون العهد الذي أخذه عليهم في غدير خُمّ، أن الخليفة من بعده هو ابن عمه وزوج بنته فلان!

هذا النبي لا يسمى نبياً وعبقرياً حتى عصابات المافيا لا تعمل هذا العمل والعياذ بالله، ثُمَّ لو كَانَ عدد المافيا 120 ألف مجرم، والذين عندهم إنسانية أربعة أشخاص، أي: نسبة واحد إِلَى ثلاثين ألف، ألا يوجد أحد عنده إنسانية يخاف الله يقول: هذا الرسول، كيف تضربون ابنته وتأخذون الخلافة من ابن عمه وقد عاهدكم وعاهدتموه؟! وهَؤُلاءِ الصحابة الأربعة لا يوجد فيهم أحد يتحرك قلبه فَيَقُولُ: يا أبا بكر يا عُمَر اتقوا الله!

ثُمَّ أنت يا صاحب الشأن أين الشجاعة التي ربَّاك عليها مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؟ إذا كَانَ رباك عَلَى الشجاعة، أما تقول: يا أبا بكر هذا حقي لِمَ أخذته؟ ثُمَّ زوجت عمر بن الخطاب من ابنتك، وهو الذي ظلمك وفعل وفعل، وزوجته ابنتك بنت فاطمة بنت مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وهو فاعل هذه الأفاعيل، وتسكت ولا تطالب بحقك قبل أن يموتوا؟!

ص: 1580

فأي إنسان عنده عقل يجد أن هَؤُلاءِ الرافضة على أفجر دين وأخبثه، وأن هَؤُلاءِ غاية كلامهم وغاية دينهم ليس مجرد أن الحق مع فلان أو فلان أو الإيثار والانتقام لزيد، لا. إنما أساس دينهم الحط من هذا الدين بهدم نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ليقول الناس: إن هذا ما ربى إلا هَؤُلاءِ الكذابين الخونة فيقيسوه عليهم -والعياذ بالله- هذا هو مقتضى كلامهم عند أي عاقل من العقلاء فلو أن رجلاً أراد أن يؤمن أو يدعو إِلَى دين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فأخذ يقرأ حياته فلم يقع في يده إلا كتاب من كتب أصحاب هذه الملة فبالله عليكم أي فكرة يأخذها عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بغض النظر عن الصحابة؟! هل تكون فكرة الإِنسَان النموذج العالي الكامل الذي ربى أصحابه عَلَى أن يعملوا لله، ويتجردوا من الدنيا وملذاتها وشهواتها؟! لا يكون هذا.

أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وعُمَر وعثمان والصحابة كلهم كيف كانت نظرتهم للدنيا؟ وكيف كانت نظرتهم للموت؟ انظر إِلَى التابعين، وأتباع التابعين، بل انظر إِلَى البقايا. الآن نَحْنُ في القرن الخامس عشر انظروا إِلَى علماء الإسلام الذين يتأسون بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يعيشون؟ هل يتهافتون عَلَى الدنيا ويتكالبون عَلَى الحطام؟ أو يغشون ويتكسبون بهذا الدين؟ هل يريدون لأبنائهم من بعدهم أن يكونوا فوق العالمين؟

أي عالم من علماء الإسلام يتأسى بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا رأيناه نرى فيه الأسوة والقدوة والورع والخلق، فبالله عليكم كيف بمن قبل خمسة عشر قرناً؟!

إذا كَانَ هَؤُلاءِ تربوا عَلَى الكتب، فكيف بالذين تربوا تربية مباشرة عَلَى يد مُحَمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كيف يظن فيهم هذه الظنون الكاذبة؟!

ص: 1581

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله هنا في وصف العبودية: [واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله] تعليقاً عَلَى قول الطّّحاويّ: [وإن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى] .

والمصنف رحمه الله اتبع في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما اطرت النَّصارَى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله) وقد سبق بيان أعظم المقامات، وهو مقام العبودية.

انظروا إِلَى عيسى عليه السلام لما أراد الله أن يفضح النَّصارَى وأن يخزيهم في قولهم: إنه ابن الله، وذلك عندما جاءت به مريم عليها السلام فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم:27] أي: ما هذا؟ بنت بكر عذراء تحمل طفلاً، من أين أتت به؟ من أين ولدته؟ واجتمعوا حوله ولم تتكلم بل أشارت إليه فقط، كل واحد يقول: تعالوا انظروا هذا الغلام كيف جاء؟! الأذهان مندهشة ومستفزعة ومستفظعة الأمر، وفي هذه الحالة وهذا الموقف الرهيب يتكلم وهو مولود والكلمة التي سيقولها ستنحفر في الأعماق؛ لأنها في موقف رهيب، والأمر عجيب فليس الإِنسَان كبيراً ماذا قال؟ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً [مريم:30] حتى تقوم عليهم الحجة، وينقلوها جيلاً بعد جيل أنه قَالَ: إني عبد الله، فقالت النَّصارَى ابن الله، مادام أنه من أم بلا أب، فهو ابن الله -والعياذ بالله تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالعبودية: هي أول المقامات وأعلاها وأشرفها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(لا تطروني كما اطرت النَّصارَى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله)

ص: 1582

والخضر عليه السلام مثلاً تمجده الصوفية وتفتري وتختلق الأكاذيب له، وتدعي أنه القطب الأعظم الذي يدير الكون والذي يفعل، ويفعل كل الأكاذيب التي يجل عنها الحقُ والعدلُ، ماذا قال الله عز وجل فيه؟ قَالَ: فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65] الميزة أن الله تَعَالَى آتاه رحمة، وهي النبوة وآتاه العلم الذي أوحاه إليه مما ليس عند موسى، فكان عنده علم ليس عند موسى، وكان عند موسى عليه السلام علم ليس عند الخضر، ولا شك أن موسى أرفع عند الله من الخضر، ولهذا قال المصنف:[ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، وأن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق وأضلهم] وهو كافر بالله العظيم مثل من يقول: إنه يسع أحداً من النَّاس أن يخرج عن دين الإسلام أو عن شريعة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، كما خرج الخضر عن شريعة موسى عليه السلام؛ لأن الولي يتلقى مباشرة من الله!

هذا الكلام من أبطل الباطل؛ لأن الخضر عليه السلام نبي، وموسى نبي، ولم يكن موسى مبعوثاً للعالمين، وإنما كَانَ مبعوثاً إِلَى قومه خاصة قال صلى الله عليه وسلم: فكان النبي يبعث إِلَى قومه خاصة وبعثت إِلَى النَّاس عامة) في حديث الخمس اللواتي أعطيهن ولم يعطهن أحد قبله.

ص: 1583

فهذا النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع التكريم نجد وصفه بالعبودية، مثل قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] هذا النبي صلى الله عليه وسلم وصل في ليلة الإسراء والمعراج إِلَى درجات عليا لم يصلها أي مخلوق قبله عَلَى الإطلاق، درجةً عليا عظيمة جداً فقد يتوهم متوهم أنه لا يفعل هذا إلا الإله، فَقَالَ الله -جل شأنه-:سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] فهو عبد لله تعالى؛ لأنه حقق العبودية الكاملة، فأعطاه الله هذه الدرجات العالية هذا أولاً.

وثانياً: مهما ارتفعت منزلته أو قيمته، فإنه ما يزال عبداً لله سبحانه وتعالى.

أعظم وصف هو وصف العبودية:

فوصف العبودية هو أعظم وصف، ولذلك كلما كَانَ الإِنسَان عبداً حقيقياً لله، في بيته وعمله ومسجده ومحكمته، وفي أي مكان حل فيه؛ يعد محققاً لعبودية الله في هذا الموضع، وما فرضه الله في هذا الوقت فهو أقرب إِلَى الكمال، الذي هو كمال التقوى، ودرجة الكمال التي لا يبلغها إلا القلة من النَّاس أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا بشأن تحقيق العبودية.

وإذا عرفنا حقيقة العبادة، فلا نستغرب أن تكون الهمة العالية لدى كل عباد الله الصالحين تتجه إِلَى تحقيق هذه العبودية لله سبحانه وتعالى، فإنه إذا كانت العبادة هي كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ:"اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".

فالأعمال الباطنة مثل: أعمال القلب من اليقين والصبر والتوكل والرجاء والخوف والمحبة والإنابة والإخبات.

والأعمال الظاهرة: كالصلاة والزكاة والجهاد والحج، وأمثال ذلك. فإذا كانت العبادة تشمل هذا كله، فكل من حقق شيئاً من هذه الأعمال الباطنة، فهو أكثر عبودية لله سبحانه وتعالى من غيره.

ص: 1584

فهذا تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وبيان أن الإِنسَان كلما حققها أكثر كلما ترقى أكثر، والنتيجة النهائية أن أعظم وصف وصف به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه عبد لله، ونحن نقول:أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب العبودية الكاملة -لله عز وجل التي لم تتحقق في أي مخلوق؛ ولهذا فإن كل الأَنْبِيَاء يَوْمَ القِيَامَةِ يتراجعون إِلَى أن يصل الأمر إليه صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: أنا لها! أنا لها! لأن العبودية الكاملة محققة فيه صلى الله عليه وسلم.

ضوابط حبه ومدحه عليه الصلاة السلام:

قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النَّصَارَى ابن مريم) والإطراء: هو المبالغة في الثناء، فبعض النَّاس يطري -وإن كَانَ هذا الثناء حق- وينسى الكلمة الفاضلة، فَيَقُولُ: إن سيدنا ومولانا وقائدنا وإمامنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مثلاً، بينما لو قَالَ: مُحَمَّد عبده ورسوله لكان أفضل؛ لأن العبودية: هي الأفضل وهي التي جاءت في القُرْآن في مقام التكريم، وهي التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ بعد ذلك قل ما شئت وكونه إمامنا وقائدنا ومولانا وسيدنا كل هذا حق، ولكن الأفضل أن تستخدم اللفظة الشرعية التي وردت هذا الأصل: لأن العبودية هي أعظم وَصفٍ وُصفَ بهِ النبي صلى الله عليه وسلم فمن بالغ فيه وظن أنه يمدحه، فهذا مثل شاعر من الشعراء أعرابي بدوي يسمونه علي بن الجهم من الشعراء المشهورين في الدولة العباسية، كَانَ لا يعرف شيئاً؛ لكن شعره شعرٌ عربي فصيح؛ لكن عَلَى ما في البادية، وما يفهمه النَّاس فيها، وما يمدح به النَّاس بعضهم بعضا، فلما جَاءَ إِلَى الخليفة في بغداد وأراد أن يمدحه بقصيدة قال له:

ص: 1585

أنت كالكلب في الحفاظ عَلَى العهد وكالتيس في قراع الخطوب

فقالوا هذا الخليفة -أمير المؤمنين- تشبهه بالكلب والتيس! فَقَالَ لهم الخليفة: دعوه، فهذا الشاعر لا يريد إلا المدح، ولا يقصد إلا الثناء، ولم يقصد إلا الجائزة من الخليفة، لكنه بدوي مسكين يعرف التيس ويرعى الغنم، ويعرف أن الكلب هو الذي يحميها من الذئب والوفاء عند هذا البدوي متمثل في الكلب، والقوة عنده في التيس الذي يناطح الصخور والحجارة فهذا الذي يعرفه.

لكن لما اختلط بالبيئة المتحضرة قَالَ:

عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

لما عاش في بيئة فيها نعيم بدأ بالشعر الراقي أو الشعر الحضاري، عَلَى أية حال وإن كَانَ قد لا يكون راقياً في ميزان الشرع! وأكثر الْمُسْلِمِينَ اليوم في جهل بمقام النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل هذا البدوي في جهله بمقام الخليفة فلا يدري أكثر الجهال أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي يمدح به أن تقول فيه: هو عبد الله ورسوله.

ما يعاب على بعض المادحين له عليه الصلاة والسلام:

أما غيره من المدح كَانَ يمدحه بشيء فيه ما يدعو إِلَى السخرية، كقولهم: كَانَ الذباب لا يقع عليه، وكان القمل لا يؤذيه، فهذا ليس المدح الذي مدحه الله به وأثنى به عليه، ومع ذلك تؤلف في ذلك الكتب ويقولون: إن من يدعو إِلَى التمسك بسنته، فإنه يكرهه.

ويقولون: هَؤُلاءِ يكرهون الرَّسُول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ينكرون علينا هذا المدح، ويقولون:"لا تطروا الرسول، لا تبالغوا في مدح الرسول" وبهذا الكلام يرون أن هذا هو غاية المدح، مثل ذاك الشاعر البدوي كما تقدم. فيجب أن نعلم أن الأمر ليس متروكاً لآرائنا وأهوائنا نمدح بما نشاء ونذم بما نشاء، وإنما نمدحه صلى الله عليه وسلم في حدود ما أمر الله، مع حبه صلى الله عليه وسلم.

ص: 1586

وهذه لها موضوع -وسيأتي بإذن الله- أهمية محبته صلى الله عليه وسلم، وأن محبته غير طاعته، نعم هي تستلزم وتقتضي طاعته لكن المحبة نفسها كعمل قلبي، هذا أمر واجب لا يجوز أن يخلوا منه قلب مسلم.

ولو أن أحداً كَانَ في قلبه أدنى بغض لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم أو لما جَاءَ به لم يكن مسلماً عَلَى الإطلاق في مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بل هو منافق، وإذا لم نحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فمن الذي نحب إذاً.

وقد ضرب الإمام أَحْمَد رحمه الله مثلاً أعلى في هذا، فقد أمر المعتصم -الخليفة العباسي- به أن يُمد عَلَى الأرض ويضرب، فيضرب حتى تنفتق خاصرته، وتخرج أمعاؤه رضي الله عنه ليقول البدعة والكفر، وهو يأبى إلا أن يقول الحق ويصبر عليه وذلك يضربه، ويعذبه، حتى أغمي عليه.

ومن المعلوم أن كل أئمة الإسلام وعلمائه لكثرة علاقتهم بالله عز وجل وثقتهم به وعبادتهم وتقواهم، لو رفعوا أيديهم عَلَى مخلوق لاستجاب الله عز وجل لهم؛ لأنهم يتحقق فيهم حديث الولي:(ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) وقد كَانَ الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من الطبقة العليا من رجال الإسلام في الولاية لله عز وجل، وفي طاعته لربه وقد روي ونقل عنه، أنه كَانَ مجاب الدعوة رضي الله عنه فلما قيل له: أدعُ اللهَ عَلَى المعتصم.

قَالَ: بل أغفر له لقرابته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، والمعتصم ابنٌ من أبناء العباس والعباس عم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فلذلك غفر له.

ص: 1587

فأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا ينكرون قرابة الرَّسُول مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ولاينكرون محبته صلى الله عليه وسلم؛ لكن الذي ننكره هو الغلو في أي بشر كائناً من كَانَ ورفعه عن مستواه، وننكر أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلته أيضاً فإن الله تَعَالَى بعثه بالهدى، والنور وبدين الحق، رحمةً للعالمين أجمعين.

فمن أراد أن يجعل من هذا الرَّسُول مجرد ذكرى موسمية تؤكل عليها الموائد، أو يحتفل بها، أو وسيلة للربح الشخصي، أو لأي غرض من أغراض الدنيا، فإن هذا يحقر ويهون من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وما هكذا عُني أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بنبيهم، الذين كانوا يعرفون قدره، ويعزرونه، ويوقرونه، ويعظمونه، كما شرع الله تبارك وتعالى وما علينا إلا أن نتأسى بهم وأن نقتدي بهم.

يقول أهل الكلام: إنه لا دليل عَلَى صحة النبوة إلا المعجزة.

والمعجزة عند أهل الكلام هي: الأمر الخارق للعادة الذي يجريه الله تبارك وتعالى عَلَى يد مدعي النبوة إثباتاً لصدقه لا غير.

وماذكره أهل الكلام فهو من تضييق الواسع، وهذا الدليل ليس هو كل الأدلة، بل هو جزء من كل، وقطرة من بحر، وفي دلائل النبوة ما يدل ويقطع لكل ذي لب أنه رَسُول الله، وإن لم يبلغه من ذلك إلا البعض.

دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لم تمت بموته

ص: 1588

فدلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ظاهرة، وأعلامها منشورة إِلَى قيام الساعة، لم تمت بموته صلى الله عليه وسلم ولا بموت أصحابه، وإنما هي باقية مخلدة، وكل إنسان مؤاخذ ومخاطب بما جَاءَ من عند الله تبارك وتعالى، وما من أحد يسمع به صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض ثُمَّ لم يؤمن به إلا كَانَ من أهل النار، وذلك لظهور الحجة واستبانة المحجة، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى، ورحمته بالعالمين.

دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم يعرفها العالم والجاهل

إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل هذا الرَّسُول للناس كافة جعل آياته عامة لهم إِلَى قيام الساعة، وعامة للعالم منهم والجاهل، فالجاهل الأمي البدوي أو الفلاح القروي يجد في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير ويفهمها ويستوعبها ويُقرُّ بِها.

دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أبهرت علماء الدنيا

والعالم المتبحر - في أي علم - يجد فيها ما يبهره؛ فالمؤرخ يجد فيما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار التاريخ ما يذهل العقول ويحير الألباب، دون أن يكون هناك أي مصدر آخر لهذا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] ، ومع ذلك يأتي بالآيات والأخبار عن الأمم الماضية التي لم يعرف المؤرخون كثيراً منها.

ص: 1589

وعالم الفلك يقرأ فيما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم من العجائب ما لم يكن الفلك ولا علماؤه يعرفونه في ذلك الزمن، وربما فيما يستقبل من الزمان. وعالم الطب يجد فيما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم من شفاء الأبدان، ومعالجة الأمراض ما تعجز عنه عقول البشر الذين تخصصوا في الطب وأفنوا أعمارهم فيه، وهكذا كل علم من العلوم حتى في علوم الرياضيات فإن ما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجال في ذلك العصر، يُعجب منه، وأعظم من ذلك ما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم من طرق ووسائل لإصلاح النفوس وتربيتها وتهذيبها.

نجاح تربية النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وفشل علماء الأخلاق في تربية الفرد

فإن علماء الأخلاق والحكماء والآباء والمربين يعجزون أن يربوا فرداً واحداً تربية متكاملة، وأما هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقد ربى أمة عظيمة، كانت أعظم الأمم جهلاً وأكثرها انحطاطاً في الحضارة، ثُمَّ أصبحت خير الأمم، وأصلحها، وأعدلها وأقومها بتمسكها بهديه صلى الله عليه وسلم، وما تزال إِلَى اليوم هي الأمة الوحيدة التي يمكن أن تحقق في العالم العدل والسلام والحق الذي ليس وراءه حق، فالمعجزات كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، والدلائل عَلَى نبوته عظيمة.

في كل صحابي آية تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم

في كل صحابي آية تدل عَلَى صدق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:

ص: 1590

ففي كل واحد ممن أسلم من الصحابة آية، وفي كل فتح فتحوه، وفي كل حق وخير وعدل وسلام نشروه في الأرض آية تدل عَلَى أنه نبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الدين ما كَانَ ليفترى من عنده صلى الله عليه وسلم ولا من عند أحد، وإنما هو تنزيل من عند الله العزيز الحكيم، الذي اصطفى هذا النبي وفضله عَلَى سائر العالمين، واختاره ليكون نذيراً وبشيراً للعالمين، وأنزل عليه هذا النور دون غيره من البشر.

قول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

[فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا عَلَى أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالها تعرب عنهما، وتعرَّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة، فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ماقال حسان رضي الله عنه:

لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر

] .

الشرح:

من أعظم الأدلة التي ينبغي أن يعيها كل إنسان منا، وأن يقيس بها بقية الأمور: أن النبوة ليست أمراً هيناً، وليست أمراً عادياً يمكن أن يدعيه كل أحد، وأن يكذبه فيه أي أحد.

إن مسألة النبوة شأنها عظيم جداً، فلن يدعيها إلا أحد اثنين: إما أصدق الصادقين، وإما أكذب الكاذبين، فلا واسطة بينهما بإطلاق.

وأي حرفة أو مهنة أو صنعة من الصناعات قد يدعيها من يتقن بعضها أو جزءً منها، وقد يصدقه البعض، وقد يكذبه البعض الآخر دون أن يؤثر ذلك كثيراً، إلا النبوة فإن مدعيها: إما أن يكون صادقاً حقاً، ويلزم من ذلك اتباعه في أوامر عظيمة، وأن الذي يأتي به هو الحق، وإما أن يكون كذاباً حقاً، فيلزم من ذلك أن يكون كل ما يأتي به ضلالاً ومحقاً واعوجاجاً وانحرافاً، ولا يخلو الأمر من أحد هذين التقديرين أبداً.

للنبوة قرائن وأحوال تعرف بها

ص: 1591

ثُمَّ ذكر المُصْنِّف أنه لا يلتبس أصدق الصادقين، من أكذب الكاذبين حتى عَلَى الجاهل الأمي، فإنه يستطيع أن يميز بقرائن الأحوال، وهنا مبحث يسمى مبحث حصول العلم، متى يكون العلم نظرياً؟ ومتى يكون قطعياً؟ وهو يبحث في علم الأصول، ويبحث في كتب العقائد. والعلم القطعي هو الذي تجد في نفسك قطعاً أنك مصدق به بأي دليل من الأدلة، أما العلم النظري فهو العلم الذي يحتاج إِلَى استدلال وتفكير..

النبوة علم ضروري وبيان خطأ المتكلمين في ذلك

والمتكلمون يقولون: إن النبوة علم ضروري، فالعلم بنبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من العلم الضروري، والخطأ الذي يقعون فيه أنهم يحصرون العلم الضروري بمصادر محدودة، وينسون أن له مصادر ومجالات أعظم مما يحدونه به، ومن ذلك مثلاً: ما يقال في علم الكلام أو في كتب العقائد: أن من أهم السبل لحصول العلم الضروري القطعي طريق التواتر، فإذا أصبحت المسألة متواترة، لم تعد تحتاج إِلَى عرضها عَلَى العقل، ولا إِلَى النظر والتفكير، أو أنها صحيحة موجودة أم لا؟ وأصبح يُتكلم عنها كأنها حقيقة ترى بأم العين، هذا هو العلم القطعي الذي كَانَ سببه التواتر، والتواتر: هو أن جماعة كثيرين من النَّاس يستحيل في العادة أن يتواطئوا ويتفقوا عَلَى الكذب، فينقلون هذا الشيء ويتحدثون عنه.

والناظر إِلَى دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى آياته يجد أن كل آية منها حصلت عن طريق التواتر إلا القليل، مثل القُرْآن المنقول إلينا عن طريق آلاف الأسانيد والأمة كلها مجمعة عليه.

العلم القطعي يحصل أيضاً بطريقة القرائن

هناك شيء أعظم من الطريق الذي قاله المتكلمون وهو حصول العلم القطعي عن طريق القرائن التي قد تأتي عن خبر الواحد، أو حتى بدون خبر فتدل عَلَى القطع وعلى الضرورة.

ص: 1592

ومثاله: لو أنك مشيت فرأيت بيت القاضي وحوله أناس مجتمعون عَلَى وجوههم الوجوم والحزن والأسف، ثُمَّ رأيت الحرس واقفين مصطفين باتجاه المقبرة مثلاً، ثُمَّ رأيت من يأتي بسيارة إسعاف، ورأيت أشياء تدل بواقع الحال عَلَى أن هناك موتاً، وفي هذا الوقت لو جاءك أحدٌ ولو كَانَ طفلاً صغيراً وقال أما تدري أن القاضي قد مات، لاستيقنت قطعاً أنه قد حصل الموت، بخلاف ما لو كنت مثلاً راكباً في الطائرة وقال لك أحد الناس: إن القاضي قد مات، لم يكن هذا قطعاً لك بصدق الخبر، فإذاً القرائن والملابسات تؤدي إِلَى العلم القطعي.

وعليه فليس من الشرط لحصول العلم القطعي التواتر؛ بل اليقين القطعي قد يحصل بقرائن الأحوال.

قرائن أحواله وسيرته صلى الله عليه وسلم أبهرت العقول

إن النبي صلى الله عليه وسلم قد احتفت بسيرته وبأحواله وبكلامه من قرائن الأحوال العجيبة ما يبهر العقول فأم معبد ينزل عندها النبي صلى الله عليه وسلم في الخيمة وهو عابر سبيل فتقطع بأنه نبي مرسل.

والرجل الأعرابي يسمع أن هناك نبي ظهر فيقول أين هو؟ فيرى النبي صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: والله ما هذا بوجه كذّاب، وإن قالت قريش إنه كذّاب، ما نطق النبي صلى الله عليه وسلم ولا قلب العصى حية، ولا أخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين؛ بل هي قرينة حاله صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن هناك أي آيات إلا أن بديهته تأتيك بالخبر لكفى بذلك برهاناً ساطعاً عَلَى صدق نبوته.

ص: 1593

ولذلك نجد السيرة كلها محفوفة بما يدل عَلَى نبوته صلى الله عليه وسلم كما هو في كتاب دلائل النبوة للبيهقي، وهو -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من المحدثين المهتمين بعلم الحديث، والنقاد الذين لهم خبرة ودراية بهذا الفن، ألف كتاباً بعنوان دلائل النبوة، فما هي دلائل النبوة التي جمعها وألفها البيهقي؟ هل تراه ألف في الأمور الحسية وخوارق العادات فقط؟! لا، إنما هو كتاب عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه منسيرة ابن هشام، فيذكر حياته صلى الله عليه وسلم وغزواته وأموره وأعماله، ففي كل غزوة وفي كل عمل من أعماله بينة تدل عَلَى صدقه.

كما في بدر وفي الهجرة، وفي معاملته مع أزواجه، وفي معاملته مع اليهود، وفي معاملته مع الْمُشْرِكِينَ، وفي كتبه التي كاتب بها الملوك، كل ذلك دال عَلَى نبوته.

وانظر التشريعات التي يأتي بها، فكلمة واحدة يقولها النبي صلى الله عليه وسلم تصبح قاعدة من أعظم القواعد التي ترجع إليها أصول عظيمة من أصول التشريع، مثل:(لا ضرر ولا ضرار) ومثل: (الضمان بالخراج) يعجز أن يأتي بمثل هذه العبارات والتشريعات القانونيون الوضعيون أو المفكرون المبدعون، أو أن يشبه أحد من هَؤُلاءِ النبي صلى الله عليه وسلم فهو أجل وأرفع من ذلك؛ لأنه يتكلم بكلام من عند الله وبنور الله سبحانه وتعالى، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم حفت بقرائن كثيرة تدل عَلَى صدقه صلى الله عليه وسلم، وكذلك كل أمر من أموره صلى الله عليه وسلم.

ص: 1594

ولذلك يقول المُصْنِّف رحمه الله: [وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرَّسُول لا بد أن يخبر النَّاس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً يبين بها صدقه. والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده بل كل شخصين ادعيا أمراً، أحدهما: صادق، والآخر كاذب. لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا] كما سيأتي شرحه.

هرقل يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في مناظرته لأبي سفيان

إن من أعظم المناظرات في التاريخ هذه المناظرة التي جرت بينأبي سفيان وبين هرقل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فزعيم أعظم أمة متحضرة في العالم في ذلك الحين -الأمة التي تحمل لواء الحضارة العالمية وتسيطر عَلَى نصف العالم الغربي- يناظر العدو اللدود للدعوة آنذاك والذي يرفع لواء محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو سفيان فذاك يسأل وهذا يجيب.

ومن المعلوم أن هرقل ليس بمتهم أن يمالئ النبي صلى الله عليه وسلم أو يجامل معه، وما الذي يدعوه إِلَى ذلك وهو لا يعرفه؟ وكذلك أبو سفيان ليس بمؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يداري في الجواب ليجامله، بل كَانَ يتحين الفرصة للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذلك لم يجد مطعناً يمكن أن ينفذ منه إلا لما قَالَ: "وبيننا وبينه عهد لا ندري ماذا يفعل؟ " ولم يستطع أن يتهمه أنه غادر أو كاذب، ثُمَّ تكون النتيجة بعد تلك المناظرة الاقتناع بصدق النبي صلى الله عليه وسلم.

فلا يمكن أن يلتبس أمر من يدعي النبوة وهو كاذب بأمر الرَّسُول حقاً، ولا سيما نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

ص: 1595

وقضية استلزام الصدق للبر والتقوى واستلزام الكذب للفجور، هذه حقيقة يعرفها كل واحد من الناس، حقيقة يتعامل بها النَّاس حتى بين الكفار بعضهم مع بعض: يعلمون أن من لوازم استقامة هذا الرجل أنه لا يكذب، وفي المقابل من عرف عنه أنه يكذب فمن غير المستبعد أن يسرق أو يختلس، وهكذا تلازم هذه الأمور هو كما ذكر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هنا.

وقَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

[وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين، إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرَّسُول لا بد أن يخبر النَّاس بأمور، ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً يبين بها صدقه، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به، ويخبر عنه، وما يفعله، ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة والصادق ضده. بل كل شخصين ادعيا أمراً: أحدهما صادق والآخر كاذب لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة، إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور.

كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إِلَى البر، وإن البر يهدي إِلَى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إِلَى الفجور، وإن الفجور يهدي إِلَى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) .

ولهذا قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:221-226] .

ص: 1596

فالكهان ونحوهم -وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من المغيبات، ويكون صدقاً- فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صيَّاد:(قد خبأت لك خبيئاً) فقَالَ: هو الدُّخ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت كاهن.

وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يأتيني صادق وكاذب) .

وقَالَ: (أرى عرشاً عَلَى الماء) ، وذلك هو عرش الشيطان، وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كَانَ ذلك مضراً له في العاقبة، فمن عرف الرَّسُول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن.

والنَّاس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك.

والنبوة مشتملة عَلَى علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرَّسُول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟!

ولا ريب أن المحققين عَلَى أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضى الرجل وحبه، وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر عَلَى وجهه قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30]، ثُمَّ قَالَ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] . وقد قيل: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله عَلَى صفحات وجهه وفلتات لسانه، فإذا كَانَ صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرآئن، فكيف بدعوى المدعي أنه رَسُول الله؟ كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟] اهـ

الشرح:

ص: 1597

قد يرد سؤال وهو: لماذا كذبت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! هل تكذيبها راجع إِلَى أنها غير مصدقة بأنه نبي ورَسُول وأنه يأتيه الوحي من السماء أم لأمر آخر؟!

سبب رد قريش لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم

الذي يتتبع أحوال القوم فيما صح من السيرة يُعلم يقيناً أنهم إنما كذبوه عناداً وكبراً، واقتداءً بالآباء والأجداد، وتمسكاً بالعادات وبالتقاليد، وحرصاً منهم عَلَى الجاه، وعلى المال، والدنيا، والمناصب، ونحو ذلك من الأسباب، وليس تكذيباً له في ذاته، ولذلك فرق بين ما تقوله قريش أمامه صلى الله عليه وسلم، أو تقوله للعرب، وبين ما يقولونه في أنفسهم.

سبب رد اليهود لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم

سبق أن قريشاً كفرت بالنبي صلى الله عليه وسلم عناداً واستكباراً وتقليداً، وأما اليهودفإنما كَفَرُوا وا بغياً وحسداً، وأمراض القلوب كلها متداخلة، لكن أكثر ما يظهر في تكذيب قريش الكبر والعناد، ولذلك لما ذهب مقتضى ذلك، وظهر دين الله بالقوة، ونصر الله نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، لم تجد قريش غضاضة في أن تدخل هذا الدين وتحمل لواءه، وأصبح كبار المقاتلين له صلى الله عليه وسلم يقودون جيوش الإسلام، ويفتحون بلاد العالم.

لكن اليهودعندما كَانَ كفرهم عن حسد، والحسد من أكبر أمراض القلوب تمكناً فيها، ولأنهم كانوا كذلك نجد أن أقل من أسلم من العالم هم اليهود، بخلاف النَّصَارَىوالفرس فكثير منهم أسلم، وأسلمت العرب قاطبة إلا الشواذ.

ولكن اليهودلم يُسلمْ منهم إلا القليل، حتى أنهم ليعدون عداً، ويقَالَ: إنهم عشرة أو بضعة عشر أو نحو ذلك، مع أنهم كانوا بنو قريظة، وبنو النضير والذين في خيبر وأمثالهم من القبائل، وهم عالمون بصدق نبوته صلى الله عليه وسلم لكن هَؤُلاءِ هم اليهود!.

موقف أبي جهل من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 1598

لقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض كفار قريش الويلات أمثال أبي جهل فقد كَانَ يتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر عَلَى العرب في الأسواق والمواسم يعرض عليهم دعوة ربه عز وجل،

فيقول لهمأبو جهل: أيها الناس! إن هذا الغلام منا، ونحن أعلم بكذبه، إنما هو كذاب صابئ فلا تصدقوه، وهكذا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ليكذبه في كل مكان، هذا أمام الناس، لكن أمام نفسه وأمام من يثق به فإنه كَانَ يقول: لما قيل له: لماذا لا تسلم؟

قَالَ: كنا وبني عبد مناف كفرسي رهان، لهم السقاية ولنا الرفادة، لهم كذا ولنا كذا، كلما عملوا عملاً عملنا مثله -منافسة بين بطنين من بطون قريش العظام- قَالَ: فلما نبغ هذا الرجل قالوا: منا نبي، فوالله لا نؤمن به أبداً!.

فإنهم لا يكذبونك

ولقد كَانَ كفار قريش ينهون النَّاس عن الاستماع للقرآن الكريم ويقولون: هذا أساطير الأولين، وإفك قديم من كلام الكهان، وإن هو إلا قول البشر، وإنْ هذا إلا سحر يؤثر

إِلَى آخر ما يقولون، ومع ذلك كانوا يجتمعون في الليل يستمعون القرآن، ويتعجبون من هذا الكلام الذي ليس له مثيل لا في كلام الشعراء، ولا في سجع الكهان أبداً، ففي أنفسهم يعلمون أنه الحق.

لكن أمام النَّاس في المنتديات يقولون: هذا كذب! هذا باطل! نعوذ بالله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33] أي لا يعتقدون في قلوبهم أنك كاذب، ولا يقولون: إنه كاذب وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] فالظلم والإجحاف، والأنفة، والعناد والاستكبار في الأرض، ومكر السيء.

ومثل هذه الأمور هي التي حالت بينهم وبين الإيمان، مثل ما حالت بينفرعونوبين الإيمان، وأما اليهودفما أعجب ما فعلت في هذا الشأن! يتناجون بينهم أنه صادق وإذا ذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم كذبوه.

حادثة زيد بن الصنعة مع النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 1599

ومن ذلك قصة اليهودي زيد بن سعنة - وكان من كبار أحبار اليهود- وذُكِرت في مجمع الزوائد، ورواها الطبراني وغيره وهي قصة حسنة السند، أنزيداً هذا قَالَ: لقد قرأت في التوراة وفي الأسفار من صفة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة، إلا صفة واحدة ما اختبرتها.

وهكذا هي النفسية اليهودية يقولون: كيف نسلم لهذا الرجل من الأميين، ونحن ورثة العلم والكتاب؟ وأن يخرج نبي من الأميين من غير نسل إسرائيل من ذرية إسماعيل هذا شيء يستثقله اليهودجداً.

فقَالَ: إلا خصلة واحدة بقيت وأردت أن أختبرها وأن أبلوها، وهي: أنه يسبق حلمه جهله، ولا يقابل الجهل بالجهل، وإنما يقابل الجهل بالحلم، قال فذهبت يوماً إليه صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه وهم حوله، وإذا برجل منهم يقول: يا رَسُول الله إني قد ذهبت إِلَى بني فلان، ووجدتهم في سنة وجدب وقحط وشدة، وإني قلت لهم: أسلموا يفتح الله لكم وتمطرون وترزقون وقد أسلموا، وإني أخشى يا رَسُول الله إن بقي بهم الجدب والقحط أن يرجعوا عن إسلامهم قَالَ: فماذا نصنع؟ ثُمَّ قَالَ: أرى أن نرسل لهم بطعام وغذاء.

هذا - كما هو واضح - من تأليف القلوب عَلَى الإيمان، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:(هل بقي من تمر بني فلان أو من حائط بني فلان شيئاً؟) قالوا: يا رَسُول الله ما بقي منه شيء. قال زيداً: فوجدتها فرصة، وجدت أن هذه هي بغيتي، قَالَ: قلت: يا مُحَمَّد أتعطيني كذا وكذا من حائط بني فلان يعني إذا أثمر، وأعطيك المؤونة؟ وهذا بيع السلم.

ص: 1600

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم أعطيك، قال فدفعت إليه ما أراد من المؤونة والطعام وأخذها، وأرسل بها إِلَى أولئك، قَالَ: ثُمَّ انتظرت بعد ذلك حتى قاربت الثمار أن تنضج، قَالَ: فجئت إليه، وهو واقف وحوله أصحابه، وهم خارجون من مكان ما، قَالَ: فأمسكت بتلابيبه وشددتها عليه وقلت له: يا محمد أما آن لك أن تعطيني حقي: فوالله إنا لنعرفكم يا بني عبد المطلب إنكم قوم مطل -أي: تؤخرون صاحب الدين- فَحَلِمَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد، ولكنعُمَر رضي الله عنه اغتاظ غيظاً شديداً، وقَالَ: يا زيد أتفعل هكذا، ارفع يدك عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلقت هامتك بالسيف.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو شيء غير ذلك يا عُمَر ! كَانَ عليك أن تأمره بحسن الطلب وتأمرني بحسن القضاء) .

قالزيد: فعلمت حينئذ أن حلمه يسبق جهله، وأنه لا يقابل الجهل بالجهل، وإنما يقابل الجهل بالحلم فقَالَ: اذهب يا عُمَر فأعطاه ما طلب وزده عشرين صاعاً.

قَالَ: فذهبت مع عُمَر رضي الله عنه، فكال له ما طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما اكتمل حقه، قَالَ: انتظر لك عشرون صاعاً، قال ما هي؟ قَالَ: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أزيدك إياها مقابل ما روعتك وما كانت زيادة النبي صلى الله عليه وسلم تلك إلا لما يعلمه من جشع وحرص اليهود على المادة.

فتعجبزيد من ذلك، فقَالَ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رَسُول الله، قَالَ: والله ما فعلت ذلك إلا أنني قد بلوت خبره من التوراة ومن الأسفار، فما بقي من أمره شيء إلا وقد عرفت صدقه، وعرفت أنه نبي، إلا هذه الكلمة: أنه يسبق حلمه جهله، ولا يقابل الجهل بالجهل، إنما يقابل الجهل بالحلم. فأسلم زيد، وحسن إسلامه فيما بعد، وقد كَانَ من أحبار اليهود الكبار.

اليهود قوم بهت

ص: 1601

إن اليهود قوم بهت حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعادوه فلقد كانوا يتناجون ويقول بعضهم لبعض: أوليس هذا هو نبي العرب؟ ويقول الآخر: بلى أليس النبي الذي يأتي بين يدي الساعة؟ والآخر يقول: أوليس عندنا أنه يبعث من بني إسماعيل؟

فإذا واجهوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: له لست بنبي، بل تآمروا عَلَى أن يقتلوه صلى الله عليه وسلم وأن يلقوا عليه الصخرة، وأعطوه الشاة المسمومة، وما تركوا وسيلة من وسائل الأذى إلا فعلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم، بينما في أنفسهم وفي مجالسهم يعلنون بصدقه.

وفي قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه ما يدل عَلَى حقيقة اليهودفإنه لما بلغه خبر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، كَانَ في نخلة يأخذ من تمرها، فسألت خالته -وكان عندها علم- وما شأنه مع موسى بن عمران؟ فَقَالَ عبد الله بن سلام وهو في النخلة: يا خالة! والله إنه لأخو موسى بن عمران دينهما واحد وربهما واحد لا خلاف بينه وبين موسى، فلما ذهب إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وأيقن بالإسلام قَالَ:(يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه)

فالشاهد أنه لم يكن أحد ممن بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من العرب أو من اليهود! ومِنْ أمم الأرض ليشكك في صدق النبي وفي رسالته، بل كانوا عَلَى يقين أنه صادق وأن ما يأتي به إنما هو حق من عند الله.

ص: 1602

ولقد اتُهم النبي صلى الله عليه وسلم باتهامات عدة فكان أكثر ما اتهم به أنه كاهن، فناقش المُصنِّفُ رحمه الله مسألة الكهان؛ ولأن الكاهن يأتيه خبر من السماء، ويخبر بأمور مغيبة لا يعلمها الناس، فَقَالَ الكفار: إن محمداً كاهن، أو قالوا: ساحر؛ لأن الساحر يعمل أعمالاً خفية، ويفرق بين المرء وزوجه ونحو ذلك وهو قد فرق بينهم، وكانوا يقولون أيضاً: شاعر؛ لأن نظم القُرْآن يتفق في بعض الأحيان مع الأوزان الشعرية، أو قريب من الأوزان الشعرية التي كَانَ العرب يتعارفون فيها والعرب أنفسهم يعلمون أن حال النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن حال هَؤُلاءِ.

فأما الكهان فإن حالهم واضح وجلي، فقد كانوا يجلسون ويتصدرون لإخبار النَّاس بالمغيبات ويأتي الرجل إِلَى الكاهن فيخبأ خبأً ويضمر شيئاً حتى يتأكد من صدق الكاهن، كما فعل بعض العرب أنه ربط حبة بر في إحليل الفرس، فأتى الكاهن، فَقَالَ له: ما الذي خبأت لك، فَقَالَ له: ثمرة في كمرة، فيُقَالُ: أين؟ قَالَ: حبة بر في إحليل مهر، فإذا أخبر ما الذي خبأ قالوا: هذه علامة عَلَى أن الكاهن سيقول صدقاً؛ لأنه عرف الشيء المخبأ، وبعد ذلك يقول له: إني أريد أن أفعل كذا.

أو يسأله عما وقع من الأمر فيجيبه الكاهن بالسجعات المعروفة، فهذا حال هَؤُلاءِ الكهان عند النَّاس فأي هدى جَاءَ به هَؤُلاءِ الكهان وهم يتوارثون الكهانة من عصور قديمة؟

وهل جاؤوا بصلة الرحم أو بإعانة المظلوم؟! لم يأتوا بشيء من ذلك، بل أخذوا أموال النَّاس بالباطل وارتكبوا الفجور والفواحش، أما ما يخبرون به من المغيبات فقد كَانَ ذلك بسبب ما يسرقونه من الشياطين.

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وجد الجن أن السماء قد ملئت حرساً شديداً وشهباً، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب.

ص: 1603

فلما حصل ذلك تعجب الكهان وذعروا، وأصبح كل واحد منهم يتكلم عَلَى لسان التابع أو الجني الذي يأتيه بالخبر ويقول: ما حالنا؟ ما بال الأخبار انقطعت؟ وأصبح الجني يأتي بالخبر. فيرجم بالشهاب! هناك أمر عظيم، فوجدوا الإفلاس التام بعد ذلك، ثُمَّ بعد هذا يلتبس أمر النبي الذي يأتيه الوحي من السماء بأمر الكاهن؟

ثُمَّ أين القُرْآن من سجع الكهان؟ ولقد كَانَ العرب يحفظون ويسمعون من سجع الكهان الشيء الكثير فلا يبالون به لكنهم عند القُرْآن بخلاف ذلك، فذاك أعرابي يسمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً [يوسف:80] فيقفز من فوق الناقة ويسجد، مع أن الكلمات كلها معروفة عند العرب فاليأس كلمة معروفة عند العرب، وفي أشعار العرب، وكذلك الخلوص، والنجوى لكن نظم قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً [يوسف:80] هذه لا يمكن أن يركبها عربي عَلَى الإطلاق، وأمثال ذلك كثير، أما الكاهن فإنه لو سجع ألف سجعة ما أثر ذلك في القلب، وما تحرك له ساكن؛ لأنه كلام ملفق مركب واضح الافتعال والتكلف.

الفرق بين الشعر والقرآن

وأما الشعر فإن العرب من أعلم النَّاس به ولذلك قَالَ: الوليد بن المغيرة: لقد عرفت الشعر ونظمه ورجزه وهزجه.. الخ والله ما هذا بشعر، فالناقد الذواق لا يستطيع أن يقول: إن القُرْآن شعر؛ لأنه بصير بالأوزان وبالقوافي. ولقد كانت العرب تعلق أشعارها في الكعبة وتفاخر به غيرها حتى قالوا:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

ويحفظون أبناءهم الفخر، فهل ترى أن هذه القصائد أحدثت أموراً عظاما؟!

وهل غيرت إنساناً ضالاً فهدته؟ أو فاجراً فأصلحته وبرته؟ وهل جاءت إِلَى إنسان ظالم مجحف فجعلته عدلاً براً تقياً؟ الجواب: لا.

لم يحدث من ذلك شيء.

الفرق بين السحر والقرآن

ص: 1604

وأما السحر فإن مجرد الاشتراك في التأثير لا يعني أنه سحر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن من البيان لسحراً) ، فكل ما كَانَ مؤثراً ففيه نوع من السحر، وكل ما كَانَ دقيقاً وخفياً فإنه يسمى في اللغة سحراً، والقرآن ليس بكلام ساحر، فإذا لم يكن كلام ساحر، ولا كاهن، ولا شاعر فكلام من؟ قالوا: مجنون! وهذه أعجب وأعجب، أمجنون يأتي بهذا الكلام؟ وأنتم العقلاء الذين في تمام العقل والفكر والوعي، وبيدكم أزمة البلاغة لا تستطيعون أن تأتوا بكلمة واحدة أو بآية واحدة فكيف بالمجنون؟ وإذا كَانَ المجنون يأتي بالخير ويهدي النَّاس ويخرجهم من الظلمات إِلَى النور، فأين العقلاء؟!

فقريش مهما حاولت بالطعن في النبي -وهي أكثر ما جَاءَ في القُرْآن التصريح بكذبها، وهي التي عاندته ووقفت في وجهه صلى الله عليه وسلم لم يكن في كلامها ولا في مواقفها ما يدل عَلَى الإطلاق بأن هناك ما يقدح في نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بل كَانَ الإِنسَان منهم يبهره خلقه وتبهره معاملته صلى الله عليه وسلم.

سراقة بن مالك وسواري كسرى

فهذا سراقة بن مالك الجعشمي يطارد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة؛ ليفوز بالنوق التي جعلتها قريش لمن يخبر بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما ساخت قوائم الفرس في الصخر - وهذه من الله عز وجل آية للنبي صلى الله عليه وسلم تعجب، وكان كلما مشى ساخت قوائم فرسه، ولا تستطيع أن ترفع يديها ليدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعود خائباً، فقَالَ:(سراقة لم تصنع هذا؟) قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ:(أوليس لك بخير منها؟ قَالَ: وما هما، قَالَ: سواريكسرى) .

ص: 1605

فكان هذا الكلام غريباً عليه، وكسرى ملك الدنيا ذو الأسوار الثمينة من الذهب، ومن أفخر اليواقيت والأحجار الكريمة تصبح أساوره لهذا الإِنسَان العربي، فضحك سراقة وقَالَ: أعرابي من بني جعشم يلبس سواري كسرى! ما حلم بها سادات قريش حتى يحلم بها أعرابي من بني جعشم!

وتمر الأيام وتنتصر جيوش الْمُسْلِمِينَ، ويدخلون المدائن فاتحين، ويأخذون كنوز البيت الأبيض، ويبعثون بها إلىعمر بن الخطاب رضي الله عنه ويأتي إِلَى سواري كسرى فَيَقُولُ: أين سراقة بن جعشم فقَالَ: ماذا تريد؟ قال له إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدك بسواري كسرى، وها أنا ذا ألبسك إياها، ويلبسه السوارين، أليس في هذا دليل عَلَى أن هذا النبي -حقاً وصدقاً- هو نبي من عند الله سبحانه وتعالى.

ولهذا تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال هذه الوقائع الكثيرة العظيمة البينة، فهل يصح مع هذا أن نقول: إنه لا دليل عَلَى صدق النبي إلا أن يأتي بخارقة أو معجزة؟ ! لا، فهذه الدلائل العظيمة كلها تدل عَلَى أنه نبي حقاً صادق من عند الله.

المعايير العقلية والفطرية تميز بين الصادق والكاذب

والمصنف رحمه الله يضرب لنا مثلاً واضحاً وهو: أن النَّاس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في الحرف الفلاحة والنساجة والكتابة، فلايلتبس الصادق في هذه الحرف بالكاذب المدعي لها زوراً.

ففي كل الأمور تجد أن النَّاس يستخدمون للتمييز بين الصادق والكاذب في الأمور الحياتية الدنيوية المعايير العقلية والفطرية التي وهبها الله عز وجل لهم، فكيف بدعوى النبوة؟ !

والنبي يأتي بأقوال وبأعمال، وبأوامر، ويفنى عمره كُلّه في جهاد، وفي صراع، ثُمَّ يتهم بأنه كاذب أو يلتبس هل هو صادق أم كاذب؟!

الأنبياء أبعد الناس عن طلب عرض من أعراض الدنيا من أتباع الدعوة

ص: 1606

وإن من الممكن أن يكذب الإِنسَان لأجل عرض من أعراض الدنيا مثل أن يحصل عَلَى الأموال أو النساء أو القصور، فيدعي أنه نبي، لكن الأَنْبِيَاء فإنهم كما أخبر الله: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] أي: أي شيء أطلبه منكم فهو لكم، قُل مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [صّ:86] ، وكل الأَنْبِيَاء قالوا: ما أسألكم عليه مالاً، مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] .

الأنبياء لم يورثوا مالاً

لم يورث الأَنْبِيَاء ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، كما قال صلى الله عليه وسلم:(نَحْنُ الأَنْبِيَاء لا نورث ما تركناه صدقة) ،

فهل بعد هذا يتهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يريد عرضاً من أعراض الدنيا، وإن كَانَ الأَنْبِيَاء يريدون الجاه، فلماذا قتلوا؟ ومنهم من عذب، ونبينا صلى الله عليه وسلم لقي من العنت والشدائد، ولقي من الأذى الشيء الكثير، إن من يحصل له هذا لا يريد الجاه وهكذا نجد أن الدلائل القطعية الثابتة عَلَى صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم هي أبين من الشمس في رابعة النهار، وأن الذين كذبوه إنما هم كما قال الله تبارك وتعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] .

إن الردود كثيرةٌ عَلَى قول المتكلمين وأمثالهم: أنه لا دليل عَلَى صدق النبي إلا المعجزة، أي: الأمر الخارق للعادة، وإن العلم واليقين يقع في النفس بأمور غير هذه الخارقة؛ فإن لليقين طرقاً ومصادر يحصل بها؛ فقد يكون من تواتر الخبر وكثرة ناقليه، وقد يكون من القرائن التي تحف بالخبر، وقد يكون من الآيات الباهرات التي يجريها الله تبارك وتعالى عَلَى يد النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 1607

فالأدلة كثيرة متظافرة، ولا وجه من الحق لدعوى من ادعى أنها محصورة في أمر واحد فقط، ليصحح بذلك النظر العقلي، والاستدلال العقلي الفلسفي الذي يقول: إن العقل وحده هو الذي يحكم، ويزن صدق أو كذب دعوى النبوة، وأن هذا العقل ما من شيء يحركه أو يلقي فيه اليقين إلا المعجزة الخارقة، التي يأتي بها الأَنْبِيَاء عادة.

وذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هنا ثلاثة أمثلة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تدل جميعاً عَلَى أنه صادق، وأن الذين استدلوا بهذه الأدلة علموا علم اليقين أنه صادق في نبوته وأنه لا يدَّعي الكذب، وهذه الثلاثة هي:

أولاً: خديجة رضي الله عنها في أول نزول الوحي، واستدلالها عَلَى ذلك.

وثانياً: ما وقع من النجاشي، وهو ملك نصراني بعيد من النبي صلى الله عليه وسلم لم يره ولم ير دلائل نبوته وإنما بلغه الحق فآمن واعتقد باليقين الذي سوف نتحدث عن طريقة حصوله لديه.

ثالثاً: خبر هرقل عظيم الروم الذي هو زعيم الأمة النصرانية الكبرى التي لديها من العلم والأخبار ما تعرف به حقيقة الكاذب من الصادق في مثل هذه الدعوى، هذه الوقائع الثلاثة -وهي جزء من وقائع كثيرة - تدل عَلَى صدق ما يذهب إليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في مقام تأييد النبوة وإثباتها.

موقف خديجة رضي الله عنها من الوحي

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

[ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي:{إني قد خشيت عَلَى نفسي فقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين عَلَى نوائب الحق} ، فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب.

ص: 1608

وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كَانَ مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله عَلَى الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة: فإنه لا يخزيه.

وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القُرْآن فقرؤوا عليه: "إن هذا والذي جَاءَ به موسى عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة: وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه، وكان ورقه قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، فقالت له خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك ما يقول، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى فقَالَ: هذا هو الناموس الذي كَانَ يأتي موسى] اهـ.

الشرح:

خديجة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها: امرأةٌ ذات عقل راجح، وحكمةٍ، ورويَّه، وتبصر بالأُمور. لما أتاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في تلك الحالة التي صورها حديث عَائِِِشَةَ في أول صحيح البُخَارِيّ في بدئ الوحي: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء، وفؤاده يرجف، وهو خائف وجل من هذا الحدث الهائل، الذي لم يكن يتوقعه، والذي خاف منه عَلَى نفسه، كَانَ يتعبد ويتحنث في ذلك الغار، وإذا هذا الملك يأتي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرفه، ولم يسمع عنه من قبل ولم يسمع أنه جَاءَ إِلَى أحد، فيأتيه، ويناديه من بين السماء والأرض ثُمَّ ينزل إليه، فيغطه الثلاث المرات، ثُمَّ يقول له: اقرأ كما هو معلوم في الحديث، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم، وفؤاده يرجف وهو خائف هلع في هذه الحادثة التي لا عهد له بها.

فأتى إِلَى خديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، وكانت نِعم الزوجة، وصارحها النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليها المشكلة.

ص: 1609

وقَالَ: {لقد خشيت عَلَى نفسي} ، فلا يدري صلى الله عليه وسلم ما هذا الأمر، ويخشى أمراً لا يدري ما نهايته وهل له من نهاية أم يقف عند هذا الحد؟ كل ذلك غيب بالنسبة له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما كَانَ يرجو أن يلقى الله إليه الكتاب، ولا كَانَ يتوقع ذلك، ولا علم له بأمثال هذه الأمور المغيبة.

الشاهد: أن خديجة رضي الله عنها لما أرادت أن تطمئن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية، وأن تفكر فيه وترى الحق والبصيرة من ناحية أخرى، لأنها هي أيضاً قد تخاف وتخشى عليه أن يكون ماحدث له صلى الله عليه وسلم من الجان والشيطان، لكنها فكرت في ذلك بهذا العقل الراجح، وبهذه البصيرة التي لديها.

فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لها {لقد خشيت عَلَى نفسي: كلا! والله لا يخزيك الله أبداً!} أقسمت عَلَى ذلك وهي البارة الصدوق أن الله لا يخزيك أبداً، وذكرت هذه الصفات النبيلة الحميدة، التي من تحلى بها فلن يَخزى ولن يَذل أبداً {إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتُعين عَلَى نوائبِ الحق هذه الصفات، صفات عجيبة، لا يمكن أن تجتمع في إنسان، ويخزيه الله سبحانه وتعالى.

فأهل الجاهلية عَلَى ما فيهم، كانوا إذا اجتمع في الرجل منهم حب العدل والعفاف والكرم، توقعوا له الخير، وحسن العاقبة والسمعة الحسنة والقبول، لأن كل النفوس مجبولة عَلَى أن الله سبحانه وتعالى عدل كريم يُجازي الإِنسَان من جنس ما يعمل، فهل يكون امرؤٌ يعمل هذه الأعمال الجليلة النبيلة التي تجمع العقول والفطر عَلَى نبلها وفضلها وشرفها، ويخزيه الله سبحانه وتعالى.

ص: 1610

بينما رجل فاجر يتقحم في الموبقات، وفي المهلكات، والطغيان، والبغي، والعدوان ويكون له لواء المحامد والمناقب منشوراً مرفوعاً؟ ! هذا لا يمكن وليس هذا من سنة الله سبحانه وتعالى حتى عند الجاهليين عَلَى ما لحق بفطرهم، وعقولهم من الضلال، والزيغ والانحراف.

وهذه الصفات النبيلة وَصَفَ بها ابن الدغنة أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهذا دليل عَلَى المرتبة العليا التي كانت للصديق.

وابن الدغنة لم يسمع كلام خديجة؛ لأنه كَانَ عَلَى كفره لما وصف الصديق، ومع ذلك وصفه بأنه: يصل الرحم، ويقرئ الضيف، ويحمل الكل بنفس العبارات -تقريباً- التي وصفت بها خديجة النبي صلى الله عليه وسلم، فانظروا كيف تطابق هذا الوصف مع هذا، ثُمَّ انظروا كيف كَانَ أول رجل يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يتردد قط، وإنما عَلَى الفطرة شهد أن الله واحد، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق بلا تردد منه، فتطابق الصفات تدل عَلَى أن هذه الصفات صفات الخير تأتي في النبي وهي أعلاها.

ثُمَّ تكون في الصديق وهو الدرجة الثانية بعد النبوة، فأفضل الخلق بعد الأَنْبِيَاء هم الصديقون قال تعالى: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] والواو هنا للترتيب، والترتيب في هذه الآية واضح أفضل النَّاس النبيين ثُمَّ الصديقين ثُمَّ الشهداء ثُمَّ الصالحين.

ص: 1611

فهذه الصفات دليل للعقل -إن صح التعبير- وللحكمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، ومع ذلك فإن خديجة رضي الله عنها قد سلكت أقوى أنواع الاستدلال في النبوة، وأقوى أنواع اليقين، وأقوى أنواع العلم الضروري، كما يسمى العلم الضروري أي اليقيني الذي يقع في النفس بالبداهة، وخديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- هي أكثر إنسان يهمها هذا الأمر، لأن هذا زوجها صلى الله عليه وسلم فالأمر يهمها أكثر من أي إنسان آخر، والخبر لا يزال إِلَى الآن محصوراً فيها وفيه صلى الله عليه وسلم، ولا تريد أن يظهر إلا وهي متأكدة، فماذا حصل منها؟ جمعت بين دليلين: العقلي والنقلي.

أما العقل فهو هذا الذي نظرته بنظرها الثاقب.

وأما النقل فإنها ذهبت، إِلَى أصحاب الكتب الذين لديهم العلم، ولديهم الآثار عن الأنبياء، فذهبت إِلَى ورقة بن نوفل وأخذت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت له: قُص عَلَى ورقة ماذا جرى لك، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قالورقة: {إن هذا لهو الناموس الذي نزل عَلَى موسى.

موقف ورقة بن نوفل من الوحي

ص: 1612

ثُمَّ آمن به ورقة وقَالَ: ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك -ولهذا استغرب النبي صلى الله عليه وسلم وقَالَ: (أَوَ مُخْرِجيَّ هم؟) ولايزال النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، وهذا نور وحق جَاءَ به الأَنْبِيَاء من قبل، وهو من الله عز وجل نعمةٌ وهبةٌ، فلماذا يخرجه قومه؟! لم يكن قد تصور بعد أنه سيخرج، فما سر العداوة؟ فَقَالَ لهورقة: ما جَاءَ رجل بمثل ما جئت به إلا عُودي هذا حق، والحق أينما وقع فلا بد أن يعادى من قبل أهل الشروَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] فورقة علم أن هذا وحي، وعلم سنة الله سبحانه وتعالى في الأنبياء، وهو أنهم لا بد أن يعادوا وأن يكذبوا، ولكن تعهد لو أدركه ذلك اليوم لينصرن النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحق هو الذي سينتصر وإن العاقبة للتقوى، وحتى لو لم يدرك انتصار الحق، فيكفيه أنه يجاهد في سبيل الحق حتى يموت.

هكذا أخذ ورقة على نفسه ولكنه لم يلبث أن توفي ولم يتحقق شيءٌ من ذلك، قبل أن يصدع النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة.

فخديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- جمعت في الاستدلال عَلَى نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه بين دليلي العقل -العقل السليم- والنقل، وورقة بن نوفل اعتمد عَلَى الدليل النقلي الواضح الجلي، ومثله كمثل رجل منا، يقرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة، فيؤمن به، ويصدقه؛ لأنه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم صادق.

ص: 1613

ومثل خديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- مثل رجل جرب تجربة، وعرف أمراً من الأمور أنه حق وصواب، ثُمَّ أراد أن يستوضح عن حقيقة هذا الأمر فقد تأكد لديه أنه صواب، لكنه يريد أن يتأكد أكثر، فذهب إِلَى أحد العلماء فَقَالَ له: ما رأيكم في كذا؟ قَالَ: هذا الشيء ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلا عليه الحديث، فاتفق لديه الدليل اليقيني الذي حصل له في فكره وفي نظره مع ما جَاءَ به الوحي، فحينئذٍ لا يشك في الوحي، ولا يشك فيما لديه من معلومة سابقة، وإنما يتفق هذا وهذا فيولد لديه اليقين؛ ولهذا كانت خديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- من أصحاب اليقين، وصدقت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت لتوِّها ثُمَّ اطمأنت طمأنينةً كاملة لمَّا حدثها ورقة وطمأنها بأن هذا هو النبي.

وأما ورقة فإنه طابق بين الأصل وبين الصورة، تجدونه مكتوباً عنده في التوراة والإنجيل، فطابق بين ما لديهم في الإنجيل، وما جَاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم وما هو مذكور وصريح في الإنجيل أن هذا النبي سيكون من أمة العرب، من ذرية إسماعيل وأنه سيخرج من جبل فاران كما في التوراة نفسها الموجودة، وفاران كَانَ معروفاً وإلى الآن أنها جبال مكة وكان من أوصافه صلى الله عليه وسلم في التوراة ما يجعلهم كما قال الله سبحانه وتعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] أي لا يضلون، ولا يخطئون في معرفته كما يعرفون أبناءهم، فطابق بين هذا وهذا وتأكد لديه صدقه صلى الله عليه وسلم، وهذه المطابقة فعلها أيضاً النجاشي وفعلها هرقل.

موقف النجاشي من الوحي

ص: 1614

أما النجاشي فإن إيمانه أيضاً عجيب! هذا الرجل البعيد عن أرض العرب، والذي لا يعرف هذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه، وإنما جاءه جماعه مهاجرة منمكة خرجت من اضطهاد القوم وأذاهم وتعذيبهم، وليس كل الذين هاجروا إِلَى الحبشة كَانَ سبب خروجهم وقوع الأذى عليهم؛ فعثمان -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وبعض الأشراف لم يخرجوا؛ لأن هناك أذىً مباشراً وقع عليهم؛ لكنهم خرجوا لأنهم لم تحتمل نفوسهم أن يرو الحق ويعتقدوه، ومع ذلك يكذبهم قومهم ويتهمونهم بالسفاهة، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى هنالك.

وكان في ذلك الخروج حكمة عظيمة غير مسألة أنهم يفرون بدينهم ليعبدوا الله، وهي: أن البيوت المكية تتضعضع وتتزعزع فيأتي الإِنسَان إِلَى بيت، فَيَقُولُ: لماذا خرج فلان؟ قَالَ: لأنكم عذبتموه، ولم تجعلوه يدين بالحق.

فهذا يخرج ابنه، وهذا يخرج عمه، وهذا يخرج أبوه، وهذا تخرج زوجته، شيءٌ لا تطيقه النفوس، فحينئذ الضمير الداخلي يهتز، ويقولون لأنفسهم: ولِمَ لا ندعهم يدينون بما شاؤا؟ لِمَ لا ندعهم أحراراً يتعبدون كما شاؤا ويبقون في بلادهم؟.

ص: 1615

فمن آثار الحكمة في ذلك أنه أثار هذا الضمير، ولذلك كَانَ أحد السفيرين اللذين بعثتهما قريش له ضمير حاضر حي كما سنرى في القصة، لقد رأت قريش أنه لا بد من إرجاعهم إِلَى مكة ولو لم يكن في ذلك الإرجاع أنهم سيعذبونهم ويذلونهم، لكن فيه القضاء عَلَى ما بدأت البيوت المكية تتفاعل معه؛ من مسألة فقد الآباء، والأقرباء والأرحام لأجل الدين، قالوا: إذاً نستردهم إليهم ويكون الموقف فيما بعد، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعه إِلَى النجاشي وأهدوا إليه هدايا، ومن أعظم الهدايا التي كَانَ يحبها النجاشي ويحبها قومه الجلود المدبوغة، وكانت توجد لدى العرب، ولا توجد عند غيرهم من الأمم بالشكل الذي عند العرب، فكانت تعجبهم هذه البضاعة وهذه الهدايا والتحف فأعطوهم التحف.

وقد كَانَ قال أشراف قريش: اذهبوا إليه، وأعطوا رؤساء القوم والأساقفة والمستشارين كلاً منهم هديته، وأقنعوهم عَلَى الأمر قبل أن تكلموا النجاشي، فإذا كلمتموه، فإنهم يوافقونكم عَلَى ذلك، فذهب عمرو وعبد الله وجلسوا إِلَى المستشارين والمكرمين والوزراء، وأعطوا كلاً منهم هديته وتقبلوها.

وقالوا لهم: الأمر كذا وكذا، ونريد إذا طرح الموضوع عند الملك أن تؤيدوه، ثُمَّ دخلوا عَلَى الملك فسلموا عليه وأهدوا إليه الهدية، وقالوا له: أيها الملك إننا جئنا إليك من أشراف قومنا، وإنه نبتت في قومنا صبية سفهاء تركوا دين قومهم وأشرافهم وكبارهم، وسفهوا أحلامهم، وخطئوا آراءهم، وقد جاءوا إليك مهاجرين وإن قومهم أعلم بهم منكم، فإن رأيتم أن تردوهم إِلَى أقوامهم، فإنهم أعلم بشأنهم وحالهم منكم؛ لكي لا تفسد المودة بينك وبينهم، هذا معنى كلامهم.

ص: 1616

فَقَالَ النجاشي: إئتوني بهم واستشار قومه، فأشار المستشارون وقالوا أيها الملك: هَؤُلاءِ سفهاء وقومهم أعلم بهم وبحالهم فردهم إليهم، ولم يكونوا يريدون لا هَؤُلاءِ ولا عمرو وعبد الله - أن يأتي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مجلس النجاشي لأنهم لو جاءوا، ودار الحوار فالنتيجة غير مضمونة، فكانوا يريدون أن يصدر أمر فوري وتنتهي المسألة.

ولكن النجاشي قَالَ: إئتوني بهم، لأرى ما عندهم، ولما بلغ الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- أن النجاشي يريدهم، وأن رسل قريش قد جاءت اجتمعوا، وَقَالُوا: ماذا نصنع؟ فَقَالُوا: لا نقول -إن شاء الله- إلا الحق والله سبحانه وتعالى سيظهر أمرنا، وسوف تكون العاقبة لنا.

ثُمَّ جاءوا إليه فَقَالَ لهم: ما شأنكم وما خبركم؟ فتكلم جعفر رضي الله عنه وقَالَ: أيها الملك إنّا كنا في قوم كفر وجاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونقطع الأرحام، ونأكل مال اليتيم ونفعل ونفعل؛ وذكر من الموبقات التي كانوا يرتكبونها في الجاهلية وكنا نفعل أشياء غير ذلك فبعث الله -تعالى- فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إِلَى عبادة الله وحده ونبذ ما نَحْنُ عليه من الأصنام، وأمرنا بالعفاف، والتقوى، وصلة الأرحام، وصيانة الأيتام، ونهانا عن الفجور، وعن كذا وكذا فآمنا به وصدقناه واتبعناه، فآذانا قومنا وأبوا علينا أن نتبعه، وأرغمونا عَلَى أن نعود فيما كانوا فيه من الكفر والضلالة والجاهلية.

ص: 1617

فلما رأينا الأمر كذلك جئنا إليك، وهاجرنا إِلَى بلادك؛ لعلمنا أنك ملك عادل لا يظلم أحد في جوارك، وهاهم قد أرسلوا إليك يطلبوننا فهذا هو شأننا معهم، فَقَالَ لهم النجاشي: هل عندكم مما جَاءَ به شيء؟

الخ الشاهد أن النجاشي الآن سمع الدعوى -دعوى النبوة- فيريد شيئاً يستدل به، وتأملوا كيف سيكون الدليل عَلَى صدق النبي صلى الله عليه وسلم، الدليل: جزء من الدعوى؛ لأنه نفس القُرْآن وهو مما كذب به الكفار، وَقَالُوا: إنه قول شاعر أو ساحر أو كاهن أو كذا أو كذا، مما قالوا، فما الدليل أن هذا القُرْآن من عند الله؟ العادة لمثل هذه القضايا أن المسألة تحتاج إِلَى دليل خارجي؛ لأن هذا القُرْآن جزء من المشكلة الدائرة بين الْمُشْرِكِينَ وبين النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يأتون بهذه الدعوة ويجعلونها دليلاً أو يقدمونها؟

الجواب: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدموها كدليل وإنما هي ذاتها دليل، هم قرءوا عليه جزءاً من أول سورة مريم، فلما سمع ذلك اخضلت عيناه بالدمع، وتلفت عمرو وعبد الله، وإذا بالقساوسة أيضاً تخضل لحاهم من الدمع، وإذا بهم يخشعون ويخضعون، سُبْحانَ اللَّه! وفيهم من لا يعرف اللغة العربية، وربما لا يترجم لهم شيئاً منها، وهذا القُرْآن هو نفسه القضية المختلف فيها كَانَ يمكن أن يقول: ما الدليل عَلَى أنه من عند الله لكن: اليقين أكبر من أنه يحتاج إِلَى دليل، فالدعوى نفسها تحمل دليلها في ذاتها، ومتى عرف العرب مثل هذا الكلام؟ وهذا الكلام لا يدخل للآذان، إنما يدخل إِلَى القلوب مباشرة، سواءً من يعرف لغة العرب أو من لا يعرفها، سُبْحانَ اللَّه!

ص: 1618

ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُول ولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ [المائدة:83] هذه الآية نزلت في النجاشي ومن سمع هذا القرآن، وأحق النَّاس بها هم أولئك فَقَالَ لهم: إن هذا والذي جَاءَ به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.

هذا الكلام يخرج من نفس ما جَاءَ به عيسى، وما جَاءَ به موسى، فكل من يؤمن برسالة عيسى وموسى وأي نبي؛ فعليه لزاماً أن يؤمن بهذا النبي، وأن هذا من عند الله تبارك وتعالى.

ثُمَّ قَالَ: لن أردهم إليكم وأخرجهم، وقَالَ: هاتوا الأدم فأخذ الأدم والتحفة والهدية، وقَالَ: خذوها فرجعوا عنه.

أما عبد الله بن أبي ربيعة فقد اقتنع ولم تكن ترضى نفسه أن يعود أُولَئِكَ إِلَى ما كانوا فيه من الاضطهاد، وأن يخرجوا أذلة من هذا البلد رغم العداوة ورغم أنه سفير قومهم إليهم.

وأما عمرو بن العاص فإنه كَانَ لا يريد أن يرجع إلا وهو منتصر، وأحياناً يكون اشتداد القضية واشتداد الموضوع ادعى لأن يكون الحسم أكثر، فكّر عمرو وقَالَ: والله لآتينهم بالقاصمة التي لا يستطيعون ردها.

فذهب إِلَى النجاشي في اليوم الثاني، وقَالَ: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً إنهم يقولون: إنه عبد وهنا المشكلة لأن عمرو بن العاص يعلم أن النَّصَارَىجميعاً يقولون: إنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وأنه إله ولاحظوا أنه لم يبين أنه عبد الله، المهم عبد ليكون نوع من الإثارة. والنجاشي أيضاً رجل عادل منصف، فاستدعاهم مرة أخرى ليسمع جواباً عَلَى هذه التهمة. فلما بلغ الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- ذلك، قالوا: ماذا نصنع؟ قالوا: والله لن نقول إلا الحق، وما قاله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وليكن ما يكون.

ص: 1619

انظر إِلَى المسألة إذا كَانَ أمر دين واعتقاد لأن المسألة مسألة كفر وإيمان فلابد أن يقول الإِنسَان كلمة الحق، والنتيجة معروفة لطلبهم كي يرجعوا إِلَى مكة وهم خرجوا منها، ولهم من يعذب هناك فرَسُول الله صلى الله عليه وسلم هناك وليس هناك الإكراه القاهر الملجئ الذي يضطرهم أن يقولوا كلمة الكفر لكن هناك صعاب ومتاعب؛ لكن لا تضر هذه الأمور في سبيل أن تقال كلمة الحق والله ما عدا عيسى هذا الوصف.

هذه هي حقيقة عيسى ولا أكثر من ذلك أبداً، فتناخرت بطارقته -رجال الدين- فقَالَ: وإن تناخرتم! وفرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وآمن النجاشي وأصبح بذلك مسلماً مؤمناً من المؤمنين، وقصته معروفة.

ولكن الشاهد هو أن النجاشي من وراء البحار والقفار، سمع دعوى النبوة، وصدق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم بناءاً عَلَى بديهة ونظر وحكمة، ولم يكن بناءً عَلَى معجزة، فلم ير عصى تنقلب حية، ولم ير يداً بيضاء، أو ميتاً ينشر كما كَانَ عيسى عليه السلام، المهم أن لليقين مصادر أخرى، ولإثبات دعوى النبوة مصادر أخرى غير ما يقوله هَؤُلاءِ المتكلمون.

موقف هرقل من الوحي

أما هرقل، فإن شأنه أعجب كَانَ -كما هو معلوم- يحكم النصف الغربي من العالم، وكانتبلاد الشام، ومصر، وإفريقيا، كلها من مستعمراته ويحكم الإمبراطورية الرومانية، في أوروبا، وكانت روما مقر البابوية إِلَى اليوم، مقر الدين النصراني الكاثوليكي.

وكان لديه من العلم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأحواله الشيء الكثير الذي تنطق به أناجيلهم وكتبهم، وتوراتهم، لأن النَّصَارَىيؤمنون بنفس توراة اليهود ويسمونها العهد القديم، ويضيفون إليه العهد الجديد، الذي هو الأناجيل، والرسائل التي كتبها من يسمونهم الرسل، وفي المجموع العهد القديم والعهد الجديد، يكون الكتاب المقدس عند النَّصَارَى.

ص: 1620

فهَؤُلاءِ جمعوا بين بشارات التوراة التي كَانَ يعلمها اليهودفي المدينة وأمثالهم، وبين بشارات الإنجيل، التي هي موجودة في الإنجيل أيضاً، فكانت لديهم هذه البشارات.

وكانوا والفرس في حرب والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا يتمنون أن يظهر الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب -الروم- عَلَى الفرس الْمُشْرِكِينَ، وكان المُشْرِكُونَ يتمنون أن يظهر الله الفرس؛ لأنهم مُشْرِكُونَ مثلهم عَلَى الروم، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4] .

وحصل أنه بعد صلح الحديبية أو قريباً منه، قدر الله سبحانه وتعالى وحصل ما أخبر به تعالى، وغلبت الرومُ الفرسَ وانتصروا عليهم انتصاراً عظيماً.

وهرقل كانت نفسيته متقبلة للحق، وقد كَانَ أقسم عَلَى نفسه بالله إن نصرني الله عَلَى الفرس أنني أمشي من حمص إِلَى إيليا أي القدس، ماشياً يحج إِلَى القدس ماشياً شكراً لله عَلَى أنه نصره عَلَى الفرس، فلما حصل الانتصار أراد أن يفي بذلك، كانت تفرش له البسط وتوضع عليه الرياحين ويمشي عليها ووزراؤه راكبون، وهو يمشي حتى يبر بهذا اليمين فنزل واستقر في حمص.

وكانت نفسيته مهيئة للحق ولشكر الله سبحانه وتعالى.

وإذا به في تلك الأيام يأتيه دحية الكلبي بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم وجاء به إليه، فلما رأى الكتاب وقرأه كتب إِلَى الأسقف البابا الكبير الذي في روما، كما في لفظ صحيح البُخَارِيّ فجاء الأسقف هذا، وكتب له هرقل بما جرى، وأنه كما يعتقد ويظن هرقل أن هذا هو نبي آخر الزمان الذي بشر به المسيح، وينتظر الجواب منالأسقف.

ص: 1621

والذي حصل أن هرقل قام يوماً من الأيام مهموماً مغموماً من رؤيا رآها، وكان له نظر في النجوم فقَالَ: هذا أوان ظهور ملك الختان أو أمة الختان، وجمع البطارقة، والأساقفة والقساوسة وقَالَ: هذا أوان ظهور ملك الختان أو أمة الختان، فَقَالَ له أصحابه: لا يهمك هذا الأمر يا ملك! قَالَ: لا.

هذا يقين هذا حق، فابحثوا لي عن أي أمة تختن.

قالوا: لا نعلم أمة تختتن إلا اليهود، وهم عبيدك وفي مملكتك، فلا يضرنك الأمر ولا تهولنك هذه الرؤيا.

قَالَ: لا، ألا من أمة غيرهم.

فكتب إِلَى ولاته قالوا نعم توجد أمة، وهي العرب أيضاً تختتن

فقال لهم: من عثرتم عليه من هَؤُلاءِ القوم فابعثوا به إلي.

وكان أبو سفيان زعيم قريش قد استغل الصلح الذي حصل في الحديبية وتاجر، كما فرحت قريش بالصلح والهدنة، لتتاجر، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحوا به ليتاجروا مع الله وليدعو النَّاس إِلَى دين الله عز وجل فكانت الكتب إِلَى ملوك الأرض بعده.

فوجدوا أبا سفيان في غزة وما شعر إلا وهم يقبضون عليه من؟ وإلى أين؟ قالوا: إِلَى هرقل وحملوه إِلَى هرقل، ودخل عَلَى هرقل، فأجلسه هرقل وكان معه قرابة عشرين أو ثلاثين رجلاً من قريش.

وقال له: إني سائلك عن أمر هذا الرجل وأنتم إن كذب فكذبوه -يعني- من معه وأبو سفيان -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- ذاك الوقت كَانَ كافراً، وكان يعلم أنه لو كذب لن يكذبه القوم لكن قَالَ:"والله ما منعني أن أكذب إلا الحياء" -الحياء لأن العرب لديهم الفطرة، ولما سأله قال من أقربكم إِلَى هذا الرجل؟ قال أبو سفيان: أنا، فهو زعيم القوم أولاً، وزعيم القوم لا يكذب، وإذا كذب الزعماء فكيف حال الأتباع، وخاصة أن العرب كانت تعد الكذب من الفجور.

ص: 1622

ثُمَّ إنه أقرب النَّاس إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم من أُولَئِكَ الركب، لأنه من بني أمية وهم أقرب البيوت إِلَى بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن جد الجميع الرابع عبد مناف، وهو يريد أن ينتقم منه لأنه عدوه لكن الحياء والقرابة تمنعه وهو قد قَالَ: أنا أقرب النَّاس إليه فإذاً لن يلتزم في إجابته إلا أن يقول الحق، والصدق ثُمَّ ابتدأ تلك المناظرة الفريدة.

أكبر ملوك الأرض وأكبر زعماء الدنيا صاحب الكتاب والرأي وصاحب الخبر الحسي والدليل النقلي الذي يملك بقايا الوحي من السماء، يسأل زعيم قريش، وعدو النبي صلى الله عليه وسلم، التي تحاربه ليلاً ونهاراً وتسعد لاستئصاله كافة، وليس هناك أحد موجود لا النبي صلى الله عليه وسلم موجود ولا أحد من أصحابه، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم سلطه لا عَلَى زعيم النصف الغربي من العالم، ولا عَلَى زعيم أعدائه حتى يجعلهم يحابونه أو يداهنونه، وإنما هي مناظرة تكون نتيجتها حقاً كم يظن هَؤُلاءِ النَّاس وكما يعتقدون من دون أي تأثير خارجي عَلَى الطرفين، ثُمَّ بدأت الأسئلة.

وقبل أن نبدأ بالأسئلة ننبه إِلَى أن أسقف روما هذا الذي هو البابا الأكبر جَاءَ بنفسه لما جاءه كتاب منهرقل، وتعجب فلما دخل عَلَى هرقل قال له هذا هو النبي الذي بشر به عيسى، هذا هو النبي وآمن به وصدقه وشهد شهادة الحق، وقتل هذا الرجل فيما بعد لمَّا أن رفض قوم هرقل الإسلام وتراجع هرقل نفسه لكنه شهد شهادة الحق.

ولهذا لم يكن هرقل في موقف المناظرة -كما سوف نرى في الأسئلة- ولم يكن موقفه موقف الإِنسَان الذي يجهل شيئاً؛ بل في موقف المستدل بصدق النبوة والمستدل بصحتها والمقرع والموبخ لأبي سفيان، إذا كنت أنت قريبه وأنت الذي تعرف آياته ورأيتها وتكذب به فأنا أدلك عَلَى أنه كذا وكذا.

ص: 1623

وكانت العرب تنظر إِلَى الروم نظرة عالية كما ينظر مثلاً الآن بما يسمى، العالم الثالث إِلَى أمم الحضارة أن نظرتها أصوب ورأيها أدق، وكذلك معروف عن هرقل هذا وعن أمثاله الحلم والحكمة والروَّية، فكانوا يزنون رأيهم وزناً ثُمَّ إنه لقوتهم وهيبتهم وبطشهم يعلمون أنه لن يؤثر فيهم أي قوة، فكيف يرون أمر النبي صلى الله عليه وسلم يصل إِلَى هذه القوه، لذلك قال أبو سفيان: لقد أَمِرَ أمر ابن أبي كبشة -يريد النبي صلى الله عليه وسلم أي أن أمره قد ظهر حتى ليخافه ملوك بني الأصفر ملوك الروم صاروا يهابون مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هذا الشيء عجيب ذهل أبو سفيان منه.

نأتي إِلَى أسئلة المناظرة التي هي أكثر من عشرة أسئلة كلها في صميم إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

[وكذلك هرقل ملك الروم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إِلَى الإسلام، طلب من كَانَ هناك من العرب وكان -أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إِلَى الشام فسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذَب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار.

سألهم: هل كَانَ في آبائه من ملك؟

فقالوا: لا.

قَالَ: هل قال هذا القول أحد قبله.

فقالوا: لا.

وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟

فقالوا: نعم.

وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

فقالوا: لا ما جربنا عليه كذباً.

وسألهم: هل اتبعه ضعفاء النَّاس أم أشرافهم؟

فذكروا أن الضعفاء اتبعوه.

وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟

فذكروا أنهم يزيدون.

وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سُخطةً له بعد أن يدخل فيه؟

فقالوا: لا.

وسألهم: هل قاتلتموه؟

قالوا: نعم.

وسألهم عن الحرب بينهم وبينه؟

فقالوا: يدال علينا مرة ونُدال عليه أخرى.

ص: 1624

وسألهم: هل يغدر؟

فذكروا أنه لا يغدِر.

وسألهم: بماذا يأمركم؟

فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كَانَ يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

وهذه أكثر من عشر مسائل، ثُمَّ بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة.

فقَالَ: سألتكم هل كَانَ في آبائه من ملك؟

فقلتم: لا.

قلت: لو كَانَ في آبائه من ملك؛ لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.

وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟

فقلتم: لا.

فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله؛ لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله.

وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟

فقلتم: لا.

فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب عَلَى الناس، ثُمَّ يذهب فيكذب عَلَى الله.

وسألتكم: أضعفاء النَّاس يتبعونه أم أشرافهم؟

فقلتم: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، (يعني في أول أمرهم)

ثُمَّ قَالَ: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟

فقلتم: بل يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم.

وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟

فقلتم: لا، وكذلك الإيمان، إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لابد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثُمَّ ينكشف.

وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها.

قَالَ: وسألتكم هل يغدر؟

فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر.

ص: 1625

وهو لما كَانَ عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون -علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأَنْبِيَاء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)

والله تَعَالَى قد بين في القُرْآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] .

وقال تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2،1] الآيات إِلَى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة عَلَى سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.

قَالَ: وسألتكم: عما يأمر به؟

فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كَانَ يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي.

وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلُصُ إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.

وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب وهو حينئذٍ كافر من أشد النَّاس بغضاً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليُعَظِّمه ملك بني الأصفر، وما زلت موقناً بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره] اهـ.

الشرح:

ص: 1626

هذه الأسئلة أو المناظرة بين زعيمين كافرين في شأن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، رتب هرقل الأمر وجعل أبا سفيان أمامه والقوم خلفه، وبإمكانهم أن يكذبوه، ولو بالإشارة ليتأكد من صدق أبي سفيان، وابتدأ الأسئلة أسئلة الإِنسَان البصير العالم الناقل الذي ينتقل خطوة خطوة حتى يصل إِلَى النتيجة الحاسمة المؤكدة.

فبدأ يقول: (هل كَانَ من آباءه من ملك؟)

لأنه عادة قد يقَالَ: إن هذا يريد الملك، ولهذا قالت قريش: وإن كَانَ إنما يريد ملكاً ملكناه، فالذي يريد أن يكون له أتباع قد يدعي النبوة، كما فعل مسيلمة وغيره.

فقَالَ: (هل كَانَ من آباءه من ملك) فيريد أن يمشي عَلَى سنة آبائه ويكون له شأن؟

(قالوا: لا) .

(قَالَ: فهل قال هذا القول فيكم أحدٌ قبله؟)

أي: هل كَانَ هناك أحد ادعى النبوة وفشل، وقال هذا: أنا سأرتبها وأدعي دعوة تنجح.

(قالوا: لا)

(فقَالَ: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت رجل أتى بقولٍ قيل قبله) سمع ناساً قالوا شيئاً فظهر أمرهم فقَالَ: أنا أيضا سأدعو وأظهر حتى يكون لي مثل ما لهم لكن لم يعهد هذا في أمة العرب قال تعالى: مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِك [القصص:46] .

(قَالَ: وسألتكم أهو ذو نسب فيكم؟)

(فَقَالُوا: نعم) وكما قلنا أبو سفيان عندما يزكي نسبه، فهو يزكي نسبه هو؛ لأن القرابة بينهما وهذا هو الحق، فأخبره هرقل أن الأَنْبِيَاء تبعث من أشراف القوم ولا تبعث من أراذلهم، قالهرقل: هذا أيضا دليل عَلَى أن هذا النبي صادق.

(وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟)

(قالوا: ما جربنا عليه كذباً قط) .

(فقَالَ: قلت قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب عَلَى النَّاس، ثُمَّ يذهب ويكذب عَلَى الله عز وجل هذا الذي ما كذب عَلَى النَّاس في شيء، لن يكذب عَلَى الله ويفتري عليه ويدعي عَلَى الله ما لم يقل، إذاً فهذا نبي صادق.

ص: 1627

(وسألهم: هل اتبعه ضعفاء القوم أم أشرافهم؟) يعني في أول الأمر.

(قالوا: بل اتبعه الضعفاء، قَالَ: وكذلك الأنبياء) لأنه يقرأ في قصص الأنبياء. كما تعلمون الملأ الذين استكبروا والملأ الذين استضعفوا، فريقان عادة أول ما يأتي أي نبي فإن الملأ الذين استكبروا يخافون عَلَى السلطان والمال والجاه والمكانة فلا يؤمنون، والملأ الذين استضعفوا لا يوجد معهم شيء من الدنيا، ويرون الحق واضحاً فيقدمون ويقبلون عَلَى الحق، لكن بعد ذلك يدخل الأشراف وغيرهم.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد دخل معه من أشراف القوم في أول الأمر أيضاً، لكن كَانَ في المقابل الزعماء والكبراء ضده صلى الله عليه وسلم، لكن من المؤمنين من هو شريف ومنهم من هو من الموالي والعبيد، فهذه هي أيضاً علامة دالة عَلَى صدق النبي صلى الله عليه وسلم.

واستدل بها هرقل.

(ثُمَّ سألهم هل يزيد أتباعه أم ينقصون؟) لأن الإِنسَان يمكن أن يدعو بأي دعوى فيتبعه كثير؛ لكن بعد ذلك يتناقصون؛ لأنهم يظنون فيه ظنوناً مثالية، فلما خبروه، تبين لبعضهم أنه كذاب أو أنه يريد مصلحةً لنفسه دائماً تتعارض الأقوال والرغبات فيتراجعون عنه وهكذا في كل دعوة يتراجع كثير من أصحابها.

) (فسألهم: هل يرتد أحد منهم سخطةً في هذا الدين؟ قالوا: لا) .

قال هرقل -انظروا كلامه وكأنه في أعلى درجات الإيمان واليقين-: (وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب) سُبْحانَ اللَّه! كأنه إنسان من الأولياء المقربين؛ لأنه يعرف هذا من الأَنْبِيَاء من قبل، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد ولا يرتد عنه أحد.

ص: 1628

(ثُمَّ سأل: هل قاتلتم هذا النبي؟ قالوا: نعم، قَالَ: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: دول مرة لنا ومرة له) قَالَ: هذه أيضاً علامة الأَنْبِيَاء يبتلون ويمتحنون بأن يهزموا مرة أو مرتين؛ ولكن ستكون العاقبة لهم، ينذر أبا سفيان لا يغرك الصلح، كأنه يقول له: العاقبة له عليكم.

وابتلاء الأَنْبِيَاء فيه حكمه: أن الأتباع ليسوا كلهم عَلَى درجة من الإيمان فبعضهم يتراجع ويتمحص صف الإيمان بهذه الهزائم والنكبات، ولا يبقى إلا المؤمن القوي الثابت، وهذا المؤمن المتمحص بالأحداث وبالفتن هو المؤهل لأن يقود الدعوة، ولأن يبلغ الدين، ولأن يورثه الله الأرض، فالعاقبة لهم قطعاً -العاقبة لهذا النبي واتباعه- لكن لو أن كل من دخل معه دخل وانتصر لدخل أصحاب الأهواء والمطامع والشهوات، لكن يقتل من يقتل ويعذب من يعذب فينهزمون مرة وينتصرون مرة، وهكذا فيتمحَّصون ويتربَّون فلا يستمر ولا يبقى لهذا الدين إلا من كَانَ حقاً قوي الإيمان وصادق الإيمان.

(ثُمَّ سألهم: هل يغدر؟ قالوا له: لا يغدر، فقَالَ: هكذا الأَنْبِيَاء) لا يغدر النبي لأنه واثق من نصر الله، ولأنه يأتمر بأمر الله سبحانه وتعالى.

(ثُمَّ سألهم ماذا يدعوكم إليه؟ فَقَالُوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والعفاف، وصله الأرحام، وبر الوالدين) وكلها محاسن وفضائل تطبق عليها الفطر والعقول، فقَالَ: هذه جَاءَ بها جميع الأنبياء، الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، جَاءَ بها جميع الأنبياء.

إذاً هذا نبي، فاستنتج هرقل من هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم نبي حقاً بلا ريب.

وقال هذه العبارة التي قالها في آخر مرة، قَالَ:(قد كنت أعلم أن نبياً يبعث ولم أكن أظنه منكم -أمة حقيرة تافهه- ولوددت أني أخلص إليه -أي أذهب إليه- ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه) نعوذ بالله من الدنيا. .

ص: 1629

(وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين) وفي رواية البُخَارِيّ ولم يذكرها المُصْنِّف هنا، قَالَ:(وددت لو أني أذهب إليه فأغسل قدميه) وهذه العبارة قالها المسيح عليه السلام لما جاءه رجل فسأله: أأنت الذي يأتي في آخر الزمان ويكون لك كذا وكذا مما هو في التوراة؟ قَالَ: لا لست أنا، ذلك نبي يأتي من بعدي ووددت أني أدركه فأحل سيور نعليه، وأغسل قدميه.

فعيسى عليه السلام يتمنى ذلك وهرقل يقول نفس الكلمة التي قالها عيسى يتمنى أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم فيغسل قدميه تشرفاً وتبركاً بغسل قدميه الشريفتين صلى الله عليه وسلم.

جمع هرقل أتباعه، وحاشيته، ومن يهمهم هذا الأمر من رؤساء الروم، ومن رجال السياسة، ورجال الدين، جمعهم جميعاً في مكان واحد وأوصد الأبواب، وقدم لهم وليمة، ثُمَّ فاتحهم في موضوع مهم وخطير، وعرفوا خطورته من خلال هذا الاجتماع الكبير الطارئ، وكان الإيمان قد وقر في قلب هرقل، وكانت دلائل الحق قد سطعت من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي جَاءَ بها ذلك الكتاب، والتي سمعها من فيِّ أبي سفيان.

ويستيقظ إيمان هرقل

ولم يكن أمام هرقل إلا أن تستيقظ وتصحو، لكن الأمر لم يصل إِلَى حد الإيمان الذي يدفع بصاحبه لأن يبيع كل عرض من أعراض الدنيا لهذا الدين، ولكن الله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء.

فهرقل لما جمعهم قَالَ: إن أمر هذا النبي قد ظهر، وإنه نبي حقاً، وإنه النبي الذي أخبرت عنه التوراة والإنجيل، وقد كتبت إِلَى صاحب روميا وصاحب روميا هو عادة يكون البابا الأكبر أي: أكبر رجل في الدين النصراني.

وخاصة في المذهب الكاثوليكي الذي يقطن حالياً في روما في الفاتيكان - وقد صدق بهذا النبي، وأرى أن ندخل في دينه وأن نسلم جميعاً ونتبعه.

ص: 1630

فلما قال ذلك وجدها الأتباع كلمة ثقيلة جداً عليهم، ورأوا أنهم بين أحد أمرين: إما أن يدخلوا في الإسلام، وهذا شيء لا يريدونه ولا يطيقونه، ولا سيما من كَانَ منهم في منصب وفي مرتبة دينية عظيمة، فإنهم يتوقعون أن يفقدوها إذا آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فاحتاروا بين ذلك وبين أن يعلنوا مخالفتهم لهرقل، فربما أسلم وأخذ بالقوة والعزيمة فيقتلهم، أو تكون فتنة بينه وبينهم، فحاصوا وخرجوا مندفعين إِلَى الأبواب؛ ليفروا من هذا الاجتماع، ولينفضوا من هذا اللقاء.

ولكن هرقل كان قد أوصد الأبواب فلم يجدوا منها منفذاً، ولما رأى أن الأكثرية قد هربت وذهبت إِلَى الأبواب لتخرج منها، وهو في القلة التي لو آمنت لما كَانَ لها دوراً وقيمةً.

آثر هرقل الدنيا عَلَى الآخرة، واختار الكفر عَلَى الإيمان، واختار المنصب والملك عَلَى الهداية والرشاد.

فَقَالَ لهم: عودوا عودوا، إنما قلت ذلك لأختبر إيمانكم، واختبر قوة عقيدتكم، فما دمتم بهذه القوة فلا نزاع، فرجعوا جميعاً، وترك الموضوع، وذهب في موضوع آخر.

ومع ذلك بقي في نفس هرقل أن هذا النبي عَلَى حق، وأنه سوف ينتصر؛ ولهذا لما جاءه جيش أبي عبيدة رضي الله عنه ودخلوا إِلَى دمشق، وتقدموا إِلَى حمص خرج هرقل، وقد كَانَ فيها وقَالَ: سلام عليك يا سوريا! سلام لا لقاء بعده.

لأنه كَانَ يعلم أن ما قال لأبي سفيان: "ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين" سوف يتحقق.

ثُمَّ رحل من سوريا وتركها - وهي بلاد الشام، وأما صاحب رومية الذي كَانَ يعتبر القسيس الأعظم فإنه دخل في الإسلام، وأعلن إسلامه أمامهم، فتناوشوه بالسيوف وقطعوه، فكانت شهادة له عند الله بإذن الله.

فهذا آخر ما آل إليه الخبر.

ص: 1631

والشاهد منه أننا نعلم أن هذا العدو -الإمبراطور عظيم الروم- أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من خلال ما يعرفه من صفات النبوة التي جاءت في الكتب المنزلة، والتي طابق وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفها.

مع أن هرقل لم يرَ آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرَ انشقاق القمر، ولم يرَ الماء وهو ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ولم يرَ الطعام وهو يفرغ من القدر فيكفي المئات بينما هي طُبخت لأفراد، ولم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعطي سهمه في الحديبية، ويوضع في البئر فإذا الماء يفور منها.

وغيرها من الآيات البينات التي أعطاها الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يرها هرقل.

وإنما جاءه هذا الكتاب فقط، وفيه دعوة موجزة إِلَى التوحيد، فطابق بين ذلك وبين ما وصفه به أبو سفيان عدوه في ذلك الحين، فرأى أن هذا هو النبي حقاً. فالشاهد من هذا أن العلم بالنبوة وثبوتها، أو العلم بأي قضية أو بأي مسألة من مسائل الاعتقاد لها في الإثبات طرق يحصل بها اليقين، غير الطرق التي يقولها المتكلمون.

والطرق التي يثبت بها المتكلمون النبوة إما أنها معجزة، أو آية مشاهدة خارقة، أو أنها تواتر ينقله جملة عن جملة عن جملة. وقد جَاءَ في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرسل إِلَى هرقل إلا رجلاً واحداً وهودحية الكلبي، وفي السير وفي كتب التاريخ اختلاف في إرسال دحية الكلبي، هل أرسله مرتين أو مرة واحدة؟ وهل جاءه إِلَى بصرى ثُمَّ ذهب إِلَى الشام؟ وهل هي واقعة أو واقعتين؟ المهم أنه رجل واحد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فرضنا أنه أرسل اثنين أو ثلاثة لما كَانَ ذلك يبلغ مبلغ التواتر الذي يشترطه المتكلمون.

ص: 1632

إن أول من جَاءَ بهذه الثلمة ووضعها في دين الإسلام، وأراد أن يفسد بها عقائد الْمُسْلِمِينَ، هم المعتزلة.

خاصة اثنان من علماء المعتزلة:

الأول منهما: أبو الهذيل العلاف.

والآخر هو: إبراهيم النظام.

النظام والعلاف أرادا هدم الدين

فالعلاف والنظام أرادا أن يهدما دين الإسلام، وقد كَانَ النظام برهمياً عَلَى دين الهنود فأراد أن يهدم ملة الإسلام، فأعلن الإسلام ودخل فيه وتفلسف، ثُمَّ مال إِلَى المذهب المسمى بالاعتزال الذي أسسهواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كما سبق شرح ذلك فيما مضى.

النظام والعلاف يركبان في مذهب الإعتزال مبادئ فلسفية

ورث العلاف والنظام الاعتزال من واصل ومن عمرو بن عبيد وركبا فيه مبادئ فلسفية، أخذوها من الصائبة ومن فلاسفة الهنود ونحو ذلك وكان من فلسفة الهند أن البشر لا يحتاجون إِلَى الأنبياء، فالبرهمية ينكرون النبوات.

حتى أنهم يقولون: إن بوذا الذي ينتسب إليه اليوم أكثر من خمسمائة مليون وهم عَلَى دينه البوذية ليس بنبي، وكذلك (تفنييوس) الذي يُنسب إليه أهل الصين إلى اليوم يقول أتباعه: إنه ليس بنبي، وإنما هو رجل مصلح، ورجل حكيم فقط.

فهم ينتمون إِلَى دين ينكر النبوات ولا يثبتها. ويقولون: إن الحكمة العقلية يستغنى بها عن ذلك.

والنظام كَانَ في الأصل من هَؤُلاءِ القوم فجاء إِلَى دين الإسلام، وأراد أن يهدم النبوة ويهدم دلائل النبوة ولكن بطريقة خفية، فقَالَ: لا يمكن إثبات نبوة النبي إلا بالمعجزة.

وآية خارقة يفعلها، وهذه المعجزة أو هذه الآية لا تثبت إلا بالتواتر، ثُمَّ بعد ذلك اختلفوا في تحديد التواتر، فَقَالُوا: سبعين عن سبعين عن سبعين شخص، واختلف المعتزلة بعد ذلك، فَقَالَ بعضهم: ثلاثين، وقال بعضهم: عشرين.

ص: 1633

ولو طبقنا هذا عَلَى ما جَاءَ في السنة من الآيات الحسية للنبي صلى الله عليه وسلم فإننا قد لا نجد هذه الأعداد؛ لكنهم يريدون بهذا أن يتوصلوا إِلَى هدم الدين ولكن من بعيد، وبستار خفي.

ولقد تنبه علماء الإسلام إِلَى ذلك، وكفروا هَؤُلاءِ.

وقد اخترع النظام والعلاف أموراً كثيرة تدل عَلَى أن كلاً منهما لم يكن يؤمن حقاً بدين الإسلام، وإنما كَانَ غرضه الهدم، فحصروا معرفة النبوة وحصول اليقين في التواتر فقط، وإلا فما عند الحكماء وما عند الفلاسفة يغني عن النبوة.

الرد على ما اشترطه المتكلمون في باب النبوة

لو أن عاقلاً فكر في كلامهم هذا لوجد أنه بالإمكان أن نرد عليهم ببساطه جداً، وذلك أن ما ورثه النظام والعلاف -ثُمَّ من تبعهم من المتكلمين من أشعرية وغيرهم- من طريق الفلاسفة، كيف ثبت لديهم؟ وكيف وصل إليهم؟

هذا هو السؤال الذي يوجه إليهم، فنسألهم ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في السنة العاشرة أي: أن بينه وبين عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء حوالي مائة سنة فقط، ومائة وخمسين أو مائة وستين سنة بينه وبين العلاف والنظام، لكن كم بين العلاف والنظام وبين أرسطو وأفلاطون؟! قرون طويلة، مئات من السنين.

وما كتبه أرسطو وأفلاطون كتبوه بلغتهم، وهذه اللغة ترجمت، ثُمَّ ترجم من الترجمة أحياناً ثلاث ترجمات أو أربع حتى وصل إِلَى اللغة العربية التي كَانَ العلاف والنظام يقرؤون بها، فلم تصلهم بالسند، ولم تصلهم بنفس اللغة التي كتبوها، ومع ذلك يقولون: هذه عقليات، وهذه قواطع، وهذه يقينيات!!

أما النصوص والأحاديث النبوية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعتبرونها من قبيل أخبار الآحاد فلا تثبت!!

فلو أن العاقل تدبر هذا لعلم أنهم مجرد هدامين هذا أمر.

ص: 1634

والأمر الآخر أن القرآن -ولله الحمد- قد ثبت بالتواتر الذي لم يقع لأي كتاب في الأرض على الإطلاق، فالآلاف ترويه عن الآلاف، فلو أن هَؤُلاءِ القوم تهمهم مسألة التواتر والآحاد لآمنوا بما جَاءَ في القُرْآن كله، ثُمَّ نناقشهم في السنة؛ لكنهم يقولون: القُرْآن يصرف عن معناه إِلَى معاني مجازية، إِلَى التأويل.

والسنة غير متواترة، والمتواتر منها في نظرهم إذا كَانَ موجوداً يعامل معاملة القُرْآن يصرف بالمجاز وبالتأويل، إذا عَلَى قولهم هذا لم يبقوا كتاباًً ولا سنة، المتواتر أولوه والآحاد ردوه، وعليه فليس هناك وسيلة للعلم الشرعي؛ بل إن وجود القُرْآن والسنة عَلَى هذا الحال حسب كلامهم يصبح عائقاً بين النَّاس وبين الحق والعياذ بالله؛ لأن النَّاس كَانَ في إمكانهم أن يأتوا إِلَى ما كتبه أرسطو وأفلاطون والعلاف والنظام، ويأخذوا الحق منه مباشرة.

فجاء القُرْآن وجاءت السنة فأشتغل النَّاس بتأويل هذا ورد هذا فكان مشغلة، وكان حاجزاً بين النَّاس وبين الحق عَلَى كلام هذين الخبيثين وأمثالهما.

فمن هنا تعلم القضية التي أشار إليها المؤلف أن العلم اليقيني والعلم الضروري يحصل بطرق أخرى كثيرة.

النبي يرسل إلى ملوك الأرض آحاداً من الناس

إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إِلَى ملوك الأرض آحاداً يبلغون النَّاس الدين، فلو أن كل أمة جاءت وقالت: لا نؤمن ولا نصدق بأن هذا الكتاب من عنده إلا إذا جاءنا من سبعين عن سبعين إِلَى آخره لكان هذا جنوناً في عقولهم، قبل أن يكون تكذيباً للرَسُول الذي أرسل هذا الرسول.

وهذا أمر معروف لدى سائر البشر حتى اليوم، فإن لديهم علامات، ولديهم قرائن للحق غير التواتر.

ص: 1635

فلو أن النَّاس أخذوا هذا المبدأ، وَقَالُوا: لا نتعامل إلا بما ينقله جمع عن جمع لكلف ذلك شططاً، ولكنت تحتاج إذا أردت أن تشهد عَلَى قضية أو تكتب عن مسألة أن تشهد عليها سبعين أو عشرين، كما اشترط هَؤُلاءِ المتكلمون، ثُمَّ بعد ذلك يكون اليقين.

وهكذا فالعاقل إذا تأمل ذلك يجد أنهم مجانبون للصواب بوضوح، وإنما كَانَ قصدهم زندقة وهدم لدين الإسلام، ولذلك ينبه المُصْنِّف رحمه الله عَلَى شيء من كيفية حصول العلم وكيفية حصول اليقين في القلوب.

بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشغل أذهان كفار زمانه وعقولهم

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

[ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها؛ لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر.

وكذلك العلم بخبر من الأخبار، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثُمَّ الآخر يقويه، إِلَى أن ينتهي إِلَى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة عَلَى الصدق والكذب ونحو ذلك] اهـ.

الشرح:

يذكر المصنف: أن هناك قرائن وأموراً تجتمع في أي قضية فتحولها إِلَى يقين، وضرب أمثلة بحال الإِنسَان في الأكل والشرب وغير ذلك.

فالإِنسَان إذا أكل شيئاً من الطعام حصل له شيء من الاكتفاء، فإذا أكل كثيراً حصل له الشبع التام هذا في المحسوسات.

وكذلك اليقين في الأخبار العادية، فإنه إذا حدثك رجلٌ أن أمراً ما قد حدث، فإنه سيحصل عندك نوع من العلم بأن هذا الأمر قد وقع فعلاً؛ لكن لو حدثك آخر ثُمَّ آخر، ثُمَّ قرأته في كتاب، ثُمَّ سمعت النَّاس يتحدثون عنه، لحصل لديك به علم يقيني.

بحيث لو جاءك إنسان آخر وقَالَ: هذا الكلام كله لم يحصل ولم يقع، فسيكون لك ردة فعل عَلَى هذا الكلام، ولا يمكن أن يدفع ما ثبت عندك يقيناً.

ص: 1636

وهكذا كَانَ حال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما بعث صلى الله عليه وسلم تناقلت الركبان أخبار بعثته كما في حديث أبي ذر الغفاري المعروف الذي رواه البُخَارِيّ ومسلم فإنه لما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، أرسل أخاه فَقَالَ له: ائتني بخبر هذا الرجل الذي قد خرجَ، والقصة معروفة.

وغيرها كثير ممن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحج، أو في أسواق العرب التي كَانَ يغشاها النبي صلى الله عليه وسلم، ويبلغ الدعوة فيها، ويتحدث عنها النَّاس وتأتيهم الأخبار من الذين يؤمنون من أقوامهم فيذهبون إليهم، ويقولون لهم: ذهبنا إِلَى هذا النبي، ورأيناه ووجدناه يدعو إِلَى كذا وكذا فيؤمن القوم أو بعضهم.

ثُمَّ بعد ذلك يأتي وفدهم إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم كما حصل للوفود التي وفدت إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وقد آمنوا بنبوته، ولكن وفدوا يريدون اليقين، فعندما يسألونه ويرونه صلى الله عليه وسلم يأتي اليقين الكامل بصدق نبوته، وقد يبقى أيضاً من الشكوك عند البعض الآخر فيرتدوا ثُمَّ تكون الحرب عليهم.

الشاهد من هذا أن الخبر - دائماً - يحصل ويأتي إِلَى النفس بطريقة انفرادية، ثُمَّ ما يزال يقوى وتجتمع منه أمور معينة تجعله يتأكد وهذا يدل عَلَى أنه ليس من الشرط لحصول اليقين أن تلزم طريقاً واحداً، كما يلزمنا به المتكلمون من المعتزلة أو غيرهم، وطبيعة الحياة، وطبيعة الاجتماع البشري تكون في الأخبار والأحداث العظيمة عَلَى الطريقة التي ذكرنا، وليس هناك حدث أعظم وأضخم من حدث النبوة أو دعوى النبوة.

ص: 1637

إنها قضية كبرى عند جميع الناس، فالذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانت النبوة عندهم حدث عظيم؛ لأنه لم يبعث فيهم نذير ولا بشير قبله، فكان لا بد أن يستغرق أذهانهم بالتفكير فيه، ولا سيما أن هذا المبعوث بعث في قلب مركز وثنيتهم وعبادتهم، وبجوار البيت الذي يعظمونه جميعاً، ومن نفس الأسرة التي هي أشرف الأسر، وهو من ذرية إسماعيل عليه السلام ولد إبراهيم عليه السلام، اللذين بنيا هذا البيت، وأما الروم واليهود وأمثالهم فإن لديهم الكتبَ التي فيها صفات هذا النبي، وكانوا ينتظرون زمانه، وقد أخبر كثير منهم بأن هذا الزمان هو زمان هذا النبي فعندما كانوا يتحسسون الأخبار كما حصل من بحيرا الراهب الذي كَانَ في بصرى، فقد كَانَ يخرج من الصومعة ويتحسس الأخبار، وينزل عَلَى طريق القوافل التجارية بين بلاد العرب وبين الروم، ويقول: هل ظهر نبي آخر الزمان؟ هل جاءكم أحد؟ هل أخبركم أحد؟ حتى وجد ركباً فأخبروه أنه قد ظهر نبي آخر الزمان.

وأيضاً الراهبان اللذان تعبد عندهما سلمان الفارسي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ما زال كل واحد منهم يسلمه إِلَى الآخر، إِلَى أن قال له:آخرهم: لا أعلم أحداً اليوم في الأرض عَلَى ما أنا عليه إلا أن نبي هذا الزمان قد ظهر فالتمسه في بلاد العرب، في أرض ذات نخل بين حرتين، ولهذا جَاءَ سلمان الفارسي يبحث عن الدين لذاً كَانَ اهتمام القوم بهذا الأمر عظيماً؛ لأنهم يترقبون هذا النبي ويتوقعونه فأخذت آياته تظهر.

ص: 1638

وكانت أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم التي رآها أُولَئِكَ النَّاس أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإِنسَان يرى هذه الأمة التي تحولت من عبادة الأوثان وشرب الخمور ووأد البنات والظلم والنهب والجور إِلَى أمة مؤمنة تقية عادلة بارة، لم يشهد التاريخ فاتحاً أرحم منها، ولا حاكماً أعدل منها، تتواصى بالحق وبالصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتبعث مكارم الأخلاق التي اندثرت في قلوب الأمم عَلَى مر القرون.

فكان الرجل من الأمم إذا رأى أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو استطلع أخبارهم وأحوال جيش الْمُسْلِمِينَ يتعجب أشد العجب من أخلاق هذه الأمة ومن تعاملها، وهذا هو الذي يغزو قلوب النَّاس أكثر مما تغزوهم المسائل النظرية والجدلية.

وما زال خبر النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بينهم، وآياته تظهر حتى صدقوا وآمنوا، ودخلوا في دين الله برغبة وصدق، مع أنهم لم يكونوا يفهمون اللغة العربية إلا من كَانَ عربياً بطبعه، ومن تعلمها فيما بعد، فآمنوا وحملوا السيوف للجهاد، وآمنت أمم في أصقاع الدنيا وجاهدت من أجل هذا الدين، بناء عَلَى هذه الآيات الواضحات في خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحق الذي جَاءَ به هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وبمقارنته بالفطرة وبمكارم الأخلاق التي تؤمن بها كل فطرة سليمة، ويهدي إليها كل عقل رشيد سليم، فهذا من أعظم الآيات الدالة عَلَى صدق النبي صلى الله عليه وسلم دون حاجة إِلَى ما ذكره أُولَئِكَ المتكلمون، وهناك أدلة أخرى سيذكرها المؤلف أيضاً.

ص: 1639

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله: [وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى أبقى في العالم الآثار الدالة عَلَى ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده. ولما ذكر سبحانه قصص الأَنْبِيَاء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ َ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:68،67] وبالجملة: فالعلم بأنه كَانَ في الأرض من يقول: إنه رَسُول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم: هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب: كبقراط وجالينوس وبطليموس وأفلاطون وسقراط وأرسطو وأتباعه، ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين عَلَى الحق من وجوه متعددة، منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أُولَئِكَ وبقاء العاقبة لهم. ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه: كغرق فرعون، وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم عرف صدق الرسل، ومنها: أن من عرف ما جَاءَ به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاؤوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق عَلَى ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برٍ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق. ولذكر دلائل نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها النَّاس بمصنفات كالبيهقي وغيره] اهـ. الشرح: وهنا دليل آخر من أدلة

ص: 1640

كثيرة عَلَى إثبات النبوة للأنبياء جميعاً، وإمكان العلم والمعرفة بها، وهذا الدليل هو ما أبقاه الله تبارك وتعالى من الآثار المكتوبة أو المحفوظة أو المحسوسة، للدلالة عَلَى صدق نبوة الأنبياء، فإن البشرية جمعاء والعالم أجمع يتناقلون هذه الآثار، فمثلاً الطوفان جَاءَ علماء الاجتماع أو المكتشفون الأوروبيون وذهبوا إِلَى أمريكا الجنوبية، وذهبوا إِلَى أفريقيا، وذهبوا إِلَى الهند، وإلى شرق آسيا، وإلى الأدغال والأحراش، ومناطق كثيرة لاكتشاف المجتمعات، كيف تعيش؟ وكيف تعتقد؟ وبماذا تدين؟

العالم أجمع يتناقل آثار الأمم الماضية

وجد هَؤُلاءِ المستكشفون أن جميع المجتمعات تعتقد أدياناً ولهم عباداتهم، ووجدوا أنهم يؤمنون بالطوفان، وبأنه قد عم الأرض، وسموها الخرافة المشتركة، أو الأسطورة المشتركة؛ لأن كل القبائل اشتركت واتفقت عليها، بينما لكل قبيلة أو مجتمع أساطير أخرى، فيقال لهم: كيف تكون أسطورة مشتركة، وأنتم تقرؤون ذلك في كتبكم، في التوراة، وفي الإنجيل، والْمُسْلِمُونَ يقرؤون ذلك في القرآن، وهو محفوظ معصوم، والنَّاس الذين كتبوا التاريخ المحفوظ المقروء يتناقلونه، وهذا تاريخ محفوظ متناقل في السطور مذكور فيه والآثار الحسية في الأرض تقول بذلك.

فإذا كانت كل الشواهد والدلائل تدل عَلَى أمر من الأمور فهل يكون هذا دليلاً عَلَى أنه خرافة مشتركة؟ إنما تدل عَلَى أن هذا الأمر حقيقة مشتركة.

فاشتراك النَّاس في ذلك دليل عَلَى إثبات هذه الحقيقة، وكل البشر في جميع المجتمعات يعتقدون أن أصل البشر من أم وأب واحد، ثُمَّ يقولون: إنه بعد الطوفان غرق من في الأرض إلا النبي ومن كَانَ معه، ثُمَّ تناسلت منهم البشرية، وهذا كلام لا يمكن أن يكون مجرد اختلاق.

أما دلالتكم أنتم عَلَى أن هذه الشعوب أو هَؤُلاءِ النَّاس خرافيون، وإنكاركم لآدم، وإنكاركم لنوح، هذا هو الظن والاختلاف الذي ليس عليه أي دليل عَلَى الإطلاق.

ص: 1641

كتب التاريخ وتغيبها لقصص الأنبياء مع أقوامهم

إن الله سبحانه وتعالى أبقى من الدلائل عَلَى الأَنْبِيَاء وما حصل لهم مع أممهم، ما يدل عَلَى صدقهم، ونحن نؤمن به، ونقرأه في التواريخ وفي الآثار، وهو أكثر ثبوتاً من إثبات أرسطو وأفلاطون في علم الاجتماع وغيرهم في غيرها من العلوم، ونحن نجد من يكتب في التاريخ أنهم عندما يبدأون بالكلام عن الطب فيبدؤون بالطب عند اليونان، ويتكلمون عن تاريخ الطب وعلماء الطب من اليونان وجالينوس وبقراط.

وفي علم الجغرافيا والفلك يبدؤون أيضاً من الجغرافيا عند اليونان فيحدثونك عن بطليموس وأمثاله، وهكذا كأن بداية العلم البشري ظهر من اليونان.

ولابأس عندنا بالتحديث عن تاريخ هذه العلوم، لكن لماذا يتحدثون عن هذا التاريخ، ثُمَّ ينتقلون منه إِلَى القرون الوسطى، ثُمَّ منه إِلَى العصر الحديث، ولا يأتي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر الإسلام، ولا التاريخ الإسلامي إلا عرضاً؟! حتى في الجامعات الإسلامية تأتي هذه الأمور عرضية فهم يبدؤون بالكلام عن اليونان والرومان.

ثُمَّ العصور الوسطى ويتحدثون قليلاً عن الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ العصر الحديث، ولا تجد ذكراً للأنبياء في علم التاريخ؛ بل تجد الحديث عن الفراعنة ويؤلف فيهم المجلدات الطويلة ولا يذكر كفرهم، وما بعث الله إليهم من الأنبياء، ويعتبرون ذلك خاصاً بكتب الدين، حتى ما حصل من إغراق الله تَعَالَى لفرعون، فإنهم يمرون عليه كأنه حدث من جملة الأحداث العادية، فيقولون: في عصر فلان الثاني من ملوك الفراعنة، حصل أنه أراد أن يقاتل بعض الناس، فاجتاحه الماء وغرق، وانتهى الأمر.

وماذاك -والله أعلم- إلا لأنهم لما نقدوا كتبهم وأناجيلهم وجدوها مزيفة لايصدقها التاريخ، ومع ذلك ليست كلها زائفة بل فيها حق وفيها باطل؛ لكن هَؤُلاءِ الحاقدين من الملاحدة الأوروبيين أنكروها بجملتها، وَقَالُوا: التاريخ هو الحقيقة.

ص: 1642

وأما الأديان فلا عبرة بها ولا يؤخذ بكلامها، ولا يؤخذ بالكتب الدينية في تسجيل الأحداث التاريخية.

وفي المسلمين من يأخذ عن الحاقدين لهذا الدين

فجاء بعض الْمُسْلِمِينَ وأخذ نفس الفكرة، وأخذ نفس الرأي فتراه يتحدث عن الفراعنة ولا يذكر موسى عليه السلام ولا ما حصل له، ويتحدث عن الأشوريين والكلدانيين، ولا يتحدثون عن رسالة إبراهيم عليه السلام ولا عن موقفه منهم، وهكذا. فكأن الأَنْبِيَاء ليسوا موجودين من التاريخ، لماذا؟

لأن كتب التاريخ التي كتبها المُشْرِكُونَ والكفار من الأمم الماضية لم يذكروا فيها الأنبياء، وعليه فهم لا يذكرونها، بينما ذكرها الله عز وجل في كتابه.

الشاهد مما سبق: أن خبر إغراق فرعون معلوم لدى الناس، والله سبحانه وتعالى قد ترك من آثار الفراعنة شواهد دالة عَلَى أنه سبحانه وتعالى قد عذبهم وأهلكهم، وكذلك كثير من الأنبياء.

كما نشاهد في مدائن صالح عليه السلام، فقد ترك الله عزوجل هذه الآيات الواضحة ليرى النَّاس أن نبياً قد بعث، وأن قومه قد كَفَرُوا به، فأهلكهم الله عزوجل، وهذه جبالهم التي كانوا ينحتونها ويتخذون منها القصور والبيوت لا تزال شاهدة فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:52] .

مواقع الأمم الماضية آثار أم دمار؟!

إن بقايا وآثار مساكن الكافرين متواترة ومشهورة عند الناس، لا يغفل عنها إلا أصحاب القلوب المعرضة، فالذين يذهبون في رحلة، وفي نزهة، ويصورون تلك الجبال، وبعضهم يضخمها صورة كبيرة، ويعلقها في البيت، سُبْحانَ اللَّه العظيم!

هذا عذاب أمة عظيمة، أهلكها الله بالمعاصي أتعلق صورها للزينة!! والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن نمر بها إلا مستعبرين، أي: باكين.

ص: 1643

ونهى عن الإقامة فيها كما هو ثابت في قصة غزوة تبوك، ولكن القلوب الغافلة أبت إلا أن تتخذها منتزهات وملاهي، ولذلك نبه المُصْنِّف رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى في سورة الشعراء بعد أن يذكر كل أمة من الأمم، وماذا جرى لها يقول:إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9] .

ويقول الله سبحانه وتعالى في آخر سورة يوسف لما قص قصة يوسف: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] وأولوا الألباب هم فقط الذين يعتبرون عندما يرون أمثال هذه الأحداث.

فترك الله عز وجل شواهد حسية مرئية، وشواهد منقولة بالتواتر تاريخياً، مكتوبة أو محفوظة تدل عَلَى أن له أنبياء، وأن هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاء قد بعثوا إِلَى أقوامهم فمن آمن منهم نجى، ومن كفر من أقوامهم فإنه يهلك بأنواع من الهلاك ما تزال بعضها شاهدة شاخصة يراها أولوا الألباب، ويقر بها أولوا الأبصار.

فهذه أيضاً من الدلائل التي يغفل المتكلمون والفلاسفة وأمثالهم عن الاستشهاد بها عَلَى صدق النبوة.

هوس فلاسفة اليونان

ومن الأمثلة العجيبة أنه لما جَاءَ فلاسفة اليونان وقد بلغهم أن بيتاً في بلاد العرب -وهو الكعبة- يؤمه النَّاس من جميع الأقطاب؛ لأن هذا البيت من أعظم الآثار الواضحة عَلَى النبوة -كما هو معلوم- من عهد آدم عليه السلام، ثُمَّ نوح عليه السلام، ثُمَّ إبراهيم عليه السلام الذي جدد بناءه، ثُمَّ بقي بناؤه من إبراهيم عليه السلام إِلَى اليوم.

ص: 1644

وهذا أيضاً مما يدل عَلَى النبوة، فتنجذب إليه قلوب البشر من أنحاء أفريقيا، ومن آسيا، ومن كل أقطار العالم، فأخذ الفلاسفة يفكرون عندما حاروا في أمر هذا البيت، فظلوا يفكرون لانجذاب القلوب نحو هذا البيت يتفق مع ما يقولون به من أنه لا نبوة، ولا دين، ولا شيء من هذا قالوا: إذاً حجر المغناطيس موضوع تحت الكعبة؛ فلذلك ينجذب إليه الناس!!

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15]

فيقال لهم: ومن وضع هذا الحجر؟! فإن كَانَ من عند الله فلماذا لم يضعه إلا في هذا المكان؟! وإن كَانَ الذي وضعه بشر فلماذا وضعه في بلاد العرب؟! ومن هذا البشر الذي وضعه؟! ولماذا لم يضعه في الأرض الخصبة، والأراضي المتحضرة؟! إن ما يقولونه لا يمكن أن يقبله العقل.

فالقصد أن الله سبحانه وتعالى ترك من الأدلة الواضحة الجلية عَلَى إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء جميعاً ما يقطع لكل ذي لب بأن النَّاس منذ عهد آدم ومنذ أن وقع الشرك، ثُمَّ صار النَّاس فريقين: مؤمنين وكافرين.

وإن أصل إيمان المؤمنين هو: الإيمان بالنبوات؛ لأن الله سبحانه وتعالى يبعث إليهم الرسل تتراً، أي: متتابعين، فيأتيهم النبي ويبلغهم رسالات ربهم، ويذكرهم بالله ويدعوهم إِلَى ما فيه صلاحهم.

ص: 1645

فلهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: نَحْنُ اليوم نعلم بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وكذلك من حال أعدائهم ما يدل قطعاً وصدقاً عَلَى نبوتهم، غير الأدلة التي يحصرنا فيها أُولَئِكَ الناس، فَيَقُولُ: ومن ذلك أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم، وبقاء العاقبة لهم وخذلان أعدائهم، فمنذ أن يُبعث النبي وهو موقن بالانتصار، كما هو حال نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كَانَ ورقة بن نوفل موقن بأنه نبي، ويقول: ليتني أكون فيها جذعاً، إذ يخرجك قومك، علم أن قومه سيخرجونه؛ لكنه هو الذي سينتصر في النهاية، وقد قالها هرقل: الأَنْبِيَاء يُغلبون ابتلاءً من الله، ولكن تكون العاقبة لهم، وهكذا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العاقبة كانت للأنبياء الذين من قبله، وأن الله سبحانه وتعالى أهلك الأمم التي كذبتهم وكفرت بهم جميعاً، كما في أحداث فرعون وقومه، ونوح وقومه وأمثالهم.

الشيء العظيم جداً الذي اختص الله سبحانه وتعالى بأعظمه وأشمله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع.

ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنما كَانَ الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يَوْمَ القِيَامَةِ " وماذاك إلا لأن الله سبحانه وتعالى جعل بينته وحياً نورياً يتلى ويتناقل ويتداول، ولم تكن خارقة حسية يراها بعض الناس، أو يتناقل أخبارها بعض الناس، وإنما كانت مع وجود هذه الخوارق والآيات الحسية وحياً يتلى.

ما من خير إلا وقد دل عليه الأنبياء

ص: 1646

إن ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع يدلُ كلَ ذي عقل ولبٍ سليم عَلَى أنهم صادقون، فهم يدعون إِلَى البرِّ، والعدلِ، ويدعون إِلَى الأخلاق الحسنة، ويدعون إِلَى إخلاص النيات والقلوب لله سبحانه وتعالى، ويدعون إِلَى المساواة بين النَّاس في الحقوق والواجبات، ويدعون إِلَى إصلاح الأسرة، ويدعون إِلَى إصلاح المجتمع، ويدعون إِلَى إصلاح الدولة، فلا خير إلا ويدل عليه الأنبياء، فلو تأمل العاقل ما يدعون إليه لوجد أنه الحق والخير والحكمة والهدى والرشاد.

أحوال مخالفي الأنبياء تنبئك عن فساد ما يدعون إليه

لو تأمل أحوال مخالفيهم والذين يناوئونهم لوجد العناد والكبر والاستخفاف.

فماذا قال فرعون؟: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] !!

وماذا قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد ماء بدر فتعزف القيان ونضرب العود ويسمع العرب أننا أعزهم!!

وإذا قورن كلام النبي بكلام أعداء النبي يظهر الفرق جلياً بين ما يريد هذا ويدعو إليه، وبين ما يريده أُولَئِكَ ويدعون إليه، فهم يريدون العلو والفساد في الأرض، والاستكبار عَلَى خلق الىله واستضعافهم، واستعبادهم.

وأما الأَنْبِيَاء فإنهم يريدون الإيمان والصلاح، والخير والفلاح، لهَؤُلاءِ البشر جميعاً في الدنيا والآخرة، ولهذا يتبعهم الضعفاء أول أمرهم، وهم الأشراف العقلاء، أما أصحاب المناصب، وأصحاب الشهوات، وأصحاب الكبر والعناد، فإنهم يعرضون عنهم.

فهذا الدليل -ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع- هو نفسه من الأدلة القطعية عَلَى أنهم إنما يوحى إليهم، وإنما يتلقون ذلك من عند الله تبارك وتعالى، فهذا أيضاً من ضمن الأدلة المعلومة بالتواتر وبالبراهين من واقع حال الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم.

ص: 1647

وهنا ينتقل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دليل آخر قوي جداً وهو الاستدلال عَلَى صدق الأَنْبِيَاء وعلى حقيقة دين الأَنْبِيَاء بصفات الله سبحانه وتعالى، وقد كنا تحدثنا في أول الكتاب عن الاستدلال بصفات الله سبحانه وتعالى عَلَى وجوده سبحانه وتعالى وعلى إلاهيته وعلى توحيده.

هنا نستدل بصفات الله سبحانه وتعالى عَلَى إثبات نبوة الأنبياء، وكثير ممن دخل في الإسلام -حتى في هذا العصر- لو بحثنا في سبب إسلامه لوجدنا أنه أسلم استدلالاً بصفات الله عز وجل أولاً،.

فتنظر إليه وهو يقول: لا بد لهذا الكون من إله، لا بد أن لهذا الكون خالق، وهذا الخالق: إما أن يكون عادلاً، أو ظالماً، فالذي ينظر ويتفكر في خلق السموات والأرض والكواكب والنجوم، ويرى أنه لا يمكن أن يحصل تصادم بين هذه المخلوقات، ولايرى في خلق الله تَعَالَى من تفاوت، ويرى الإبداع العجيب في ذلك كله يوقن أن هذا الإله عادل في كونه.

ثُمَّ يسائل نفسه هل يمكن أن هذا الإله العادل يترك الإِنسَان يموج في هذه الحياة، القوي يأكل الضعيف، والشعوب تقتل بعضها بعضا دون أن يعطي هذا الإِنسَان وصراطاً يمشي عليه؟ لا يمكن ذلك.

فلا بد أن يكون له دين، وأن يكون له منهج يضعه للبشر، من هنا يبدأ هذا الإِنسَان البحث عن هذا الدين، فيحدث نفسه فياترى أين يكون؟ أهو اليهودية فيقرأها فلا ينتفع بها، النصرانية فيقرأها ولا ينتفع بها، البوذية الكونفوشية فيقرأها فلا ينتفع.

فعندما يقرأ عن الإسلام يجد بغيته وكلما يقرأ شيئاً عن الإسلام يزداد يقيناً به، فيسلم ويستيقن بنبوة نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بناءً عَلَى هذا الدليل.

الطاعن في نبوة الأنبياء طاعن في صفات الله وربوبيته

ص: 1648

هذا الذي سيشير إليه الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أن من يطعن في نبوة الأنبياء، ونبوته صلى الله عليه وسلم خاصةً، فإنه يطعن في صفات الله عز وجل، ويطعن في ربوبية الله عز وجل.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

[بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إِلَى الظلم والسفه، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحدٌ للرب بالكلية وإنكار.

وبيان ذلك: أنه إذا كَانَ مُحَمَّد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري عَلَى الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إِلَى أمر الله له به ومحبته له، والرب تَعَالَى يشاهده، وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة.

وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره، ويُعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم، فإنه لا أظلم ممن كذب عَلَى الله، وأبطل شرائع أنبيائه وبدَّلها، وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تَعَالَى يقره عَلَى ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.

فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كَانَ له مدبر قدير حكيم لأخذ عَلَى يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟!

ص: 1649

ولا ريب أن الله تَعَالَى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته، والشهادة له بالنبوة عَلَى رؤوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، فقطعوا دابره واستأصلوه.

هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30-31] أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل؛ بل لابد أن يجعله عبرة لعباده.

كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى: 24] ، وهنا انتهى جواب الشرط، ثُمَّ أخبر خبراً جازماً غير معلق: أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء [الأنعام:91] فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره] اهـ.

الشرح:

استمرار دعوته صلى الله عليه وسلم دليل عظيم لمن تأمله وفطن إليه وفقهه الله سبحانه وتعالى، فتفكر في حقيقة أمر النبوة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، أياً كَانَ دينه، نقول هذا للمسلم ولغير المسلم.

ولنفترض أن هذا النبي -كما يقول الكاذبون والمرجفون- ليس موحاً إليه من عند الله، فكيف يأتي فيدعي النبوة وهي دعوى عظيمة، ثُمَّ يأتي فيستمر ثلاثاً وعشرين سنة وأمره مؤيد ظاهر؟

ص: 1650

فيحارب الأعداء وينتصر عليهم، ويرفع يديه إِلَى السماء فتستجاب دعوته فيهم، ويستبيح نسائهم وأموالهم، يقتل كل مخالفيه، ثُمَّ يذهب في الأرض فيأتي إِلَى أهل الكتاب: فإما الجزية، وإما الإسلام، وإما السيف، ويأتي إِلَى الْمُشْرِكِينَ: فإما أن يسلموا، وإما السيف، أمور يفعلها، وهو مؤيد ظاهر، وترتفع المآذن في شرق الأرض وفي غربها أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رَسُول الله، ويخلُد ذكره، ويعظم أمره.

من طعن في نبوته أو كذبه أو سبه أذله الله وأخزاه

ولا يعلم أن أحداً سبه أو طعن فيه أو كذبه إلا أذله الله وخذله، وهدم كبره، كل هذه الدلائل الواضحة البينة، ومع ذلك يكون هذا الرجل مفترياً عَلَى الله، ويقول هذا من عند الله وهو ليس من عند الله.

وقفة مع منكري نبوات الأنبياء

في الحقيقة الذي يطعن في نبوة النبي لا يطعن فيه بل يطعن في الله هذا ما يريد المُصْنِّف أن يقوله، ويلزم من قوله: إما أن هذا الكون ليس له إله!

وهذا لا يمكن؛ لأن أتباع الأَنْبِيَاء -على الأقل- جميعاً يؤمنون بأن الأَنْبِيَاء جاءوا من عند الله، وإما أن يكون هذا الرب لا حكمة له ولا تدبير، إنما هو ظالم، وهذا لا يليق بالله عز وجل، فكل من يعلم شيئاً عن الله عزوجل لا ينسب الله تَعَالَى إِلَى الظلم؛ بل إن الكون يشهد بأن هذا الإله حكيم عدل.

فكيف نقول: إنه ظالم؟ وإنه لا حكمة له ولا تدبير؟

ولا يليق بالله أن يرفع المفتري عليه فوق العالمين، ويظهر سلطانه، ويرفع شأنه ويؤيده، ويقال أيضاً لمنكري نبوات الأنبياء: ألا تؤمنون أن هذا الإله قدير؟ سيقولون: نعم هو قدير؛ لأنه خلق هذه النجوم والمجرات والكواكب العظيمة، فيقال لهم: هذا القدير ألا يقدر عَلَى بشر يفتري عليه؟!

ص: 1651

ولذلك قَالَ: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24] ولو أن هذا الإِنسَان يفتري عَلَى الله، فإن الله يختم عَلَى قلبه ويميته فينتهي الأمر، ولهذا قالت قريش: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [صّ: 6] وَقَالُوا: شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] .

قريش تتربص بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون

تظن قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات انتهى أمره، لكن الأمر لم يكن كما كانوا يتوقعون، فالنبي مازال ينتصر ويظهر أمره، بل إِلَى الآن لا يوجد أحد يستطيع أن يطعن في دينه، أو يطعن في نبوته إلا ويذله الله تعالى، ويظهر التناقض من فمه، وفي كلامه، وفي رأيه.

إذاً هذا لا يمكن إلا أن يكون حقاً نبياً من عند الله سبحانه وتعالى ومن طعن في نبوته صلى الله عليه وسلم فإنما هو طاعن في الله سبحانه وتعالى وفي صفاته سبحانه وتعالى، وفي حكمته، وفي عدله.

في مسيلمة والعنسي عبرة ودلالة

قد يقَالَ: إن بعض الكذابين ظهر لهم شأن، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي فإنه قد تبعهما بعض الناس، وظهر لهما شيء من الأمر، لكن الله عز وجل خذلهم وأذلهم، ونصر جنده عليهم، ومن عرفهم علم أنهم عَلَى غير هدى، وأن الله سبحانه وتعالى لم ينصرهم ولم يؤيدهم، وإنما فتنهم وفتن بهم ولكن هذا الرجل الذي جَاءَ من أمة أمية، ويأتي للعالمين بالنور وبالضياء المبين، وبالهدى والرشاد، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من عند الله سبحانه وتعالى.

فمن كَانَ مؤمناً بالله تبارك وتعالى من أي دين، ومن أي جنس فعليه أن يؤمن بأن هذا رسوله حقاً.

هنا نقطة البداية

ص: 1652

وهذا الكلام هو نقطة البداية التي يمكن أن نتحدث بها إذا أراد أحدنا أن يدعو أحداً إِلَى دين الإسلام، أو يخاطبه عن الإسلام، فلا بد أن ينظر: فإن كَانَ يؤمن بالله، وأن الله حكيم، وأن الله عدل سبحانه وتعالى، وأنه لديه عَلَى الأقل ما يسمونه "حسن التصرف أو التدبير" فيخاطبه بمثل هذا الكلام، ويخاطبه بصحة هذا القُرْآن الذي بين أيدينا، ويسألة: لِمَ لَمْ يتغير منه حرف؟

ولا يذهب أحد يطعن فيه ويغير فيه إلا فضحه الله سبحانه وتعالى عَلَى العالمين؟ هذا لا يمكن أن يكون إلا بتأييد من الله، وبهذا يصل معه إِلَى النتيجة المطلوبة.

لو كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم مدعياً مفترياً -كما يزعم المفترون قاتلهم الله أنى يؤفكون- لما أقره الله سبحانه وتعالى وهو يفتري عليه؛ أنه أوحى إليه، وأن يفتري باسمه هذا القُرْآن وهذه الأحكام من حلال وحرام، ويسلطه عَلَى أتباع الأديان فيقتلهم ويحصرهم ويسبيهم.

كل هذه الأمور لا يمكن أن تقع فمن قَالَ: إنها يمكن أن تقع من غير رَسُول يوحى إليه من الله، فهذا ليس طاعناً في هذا النبي فقط؛ بل هو طاعن في الله سبحانه وتعالى، وفي حكمة الله وعدله، وأنه يؤيد الكافرين المفترين عليه وينصرهم ويجعل الغلبة والعاقبة لهم في كل ميدان ومعركة وهم يكذبون عليه ليل نهار ويحاربون أولياءه ويستذلون عباده ويظلمون النَّاس بهذا الفعل، هذا لا يمكن أن يقول به إلا إنسان لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى حق الإيمان، ولا يصف سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، ولا يقدره تَعَالَى حق قدره.

ص: 1653

أما من كَانَ يعرف صفات الله عز وجل وحكمته وعدله ورحمته؛ فإنه يعلم أنه إنما فعل به ذلك لأنه نبي من عنده، وهو قادر سبحانه وتعالى عَلَى أن يقضي عَلَى كل مفتري: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46] فأي إنسان تقول عَلَى الله، فإن الله سبحانه وتعالى قادر عليه، وقال في آية أخرى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24] فإذا ختم عَلَى قلبه لم يعد يتكلم بأي كلام، ولا ينطق بأي نطق وانتهى الأمر.

أو يهلكه كما أهلك مسيلمة، والأسود العنسي في اليمن، وأهلك كثيراً من الكذابين والدجالين، وأظهر كذبهم ومخازيهم عَلَى العالمين.

إذاً: هذا دليل كبير نسميه دليل الواقع أو الدليل التاريخي وكل من أنكر ذلك من اليهود والنَّصارَى خاصة فإنه يلزمه أن ينكر نبوة موسى ونبوة عيسى عليهما السلام بأنه لم يمكن الله عز وجل لموسى ولا لعيسى عليهم السلام ولم يعطهما من الظفر والتأييد وبلوغ الرسالة ورفعة الذكر مثلما أعطى لمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

فمن طعن في نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فهو من باب أولى طاعن ومكذب بنبوة المسيح وموسى عليهما السلام، فمن كَانَ مؤمناً -وهكذا حال أهل الكتاب- بأن عيسى نبي، وأن موسى نبي فالأولى به والإلزام أن يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي.

ص: 1654

لأنه ما من آية آوتيها موسى وعيسى إلا وأوتي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أضعافها ولا سيما ما حصل له من الظهور والغلبة والتمكين ومحو الشرك والضلالات وإزالة الإلحاد، وقمع الظلم والفساد، وإقامة العدل وإعطاء الإِنسَان حريته وإنسانيته الحقيقية، عَلَى مستوى عام لم يشهد له التاريخ من قبل مثيلاً، ولم ولن يشهد له من بعد، إلا لمن يقتدي بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ويسير عَلَى منهاجه.

بعد ذلك انتقل المُصنِّفُ رحمه الله في آخر هذا المبحث إِلَى الفرق بين النبي والرسول.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

[وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها: أن من نبأه الله بخبر السماء، إن أمره أن يبلغ غيره، فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس رسول، فالرَّسُول أخص من النبي فكل رَسُول نبي، وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة، إذ الرسالةُ تتناول النبوةَ وغيرها، بخلاف الرسل، فإنهم لايتناولون الأَنْبِيَاء وغيرهم، بل الأمر بالعكس.

فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها] اهـ.

الشرح:

هذا الموضوع ليس ذا أهمية كبرى، بالنسبة لمن يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وكتبه، وملائكته، ورسله، ويؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يوحي إِلَى من يصطفي من عباده بهذا الوحي، فيكون نبياً، أو رسولاً، أو يسمى نبياً، أو رسولاً، ليست المسألة ذات أهمية؛ لكن ينبغي أن نعلمها، ولا سيما وقد تكلم فيها بعض العلماء أو كثير منهم.

فمن العلماء من قَالَ: لا فرق بين النبي والرسول؛ فالنبي رسول، والرَّسُول نبي بإطلاق، ومنهم من قَالَ: لا؛ بل هنالك فرق، ثُمَّ لما جاءوا عند التفريق اختلفوا.

ص: 1655

فالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر هذا الفرق بين النبي وبين الرسول، وهو: من أوحي إليه الله سبحانه وتعالى بشيء، فإن أمر بتبليغه إِلَى غيره فهو رسول، وإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي.

هذا كلام المُصنِّفُ رحمه الله، وهذا الكلام خلاف الصواب فهو كلام مرجوح، وفي هذا الشرح عَلَى عظمته ونفاسته مواضع للمصنف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أخذ فيها بالرأي المرجوح من أقوال العلماء وترك القول الراجح، وهذا الموضع منها؛ لأنه يمكن أن يُقال كيف يوحي الله سبحانه وتعالى إِلَى أحد بشيء، ولا يؤمر بتبليغه فما الفائدة إذاً؟! هذا من ناحية النظر.

ومن ناحية أخرى؛ وردت آيات وأحاديث تدل عَلَى أن النبي يبلغ، ومنها حديث السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه:(ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان ورأيت النبي وليس معه أحد) فهذا سماه نبياً مع وجود الأتباع، وهذا يعني أنه كَانَ يبلغ.

إذاً خلاصة القول: أن هذا ليس بالرأي الراجح.

الرأي الراجح في المسألة

الرأي الراجح في هذه المسالة:

أن الرسول: هو من أرسله الله سبحانه وتعالى بشرع جديد إِلَى قوم كافرين ومكذبين، ولهذا لم تأت كلمة التكذيب إلا في تكذيب الرسل، لأنهم يرسلون إِلَى قوم كافرين فيكذبونهم.

فمن هنا نعلم الفرق، وهو أن الرَّسُول والنبي يُبلغان لكن الرَّسُول يأتي بشرع جديد إِلَى قوم كافرين به ويكون بينهم وبينه التكذيب والرد، حتى ينصره الله سبحانه وتعالى عليهم، وأما النبي فإنه مجدد لشريعة الرَّسُول الذي قبله، ويصحح ما علق بها.

ص: 1656

ومثلهم في ذلك مثل العلماء المجددين في هذه الأمة فأنبياء بني إسرائيل -مثلاً- هم الذين بعثهم الله سبحانه وتعالى في بني إسرائيل يحكمون بالتوارة قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [لمائدة:44] فكان النبيون والأحبار والربانيون يحكمون بالتوراة، والتوراة أنزلت عَلَى موسى.

هارون عليه السلام رسول

فموسى وهارون عليهما السلام رسل؛ لكنَّ أنبياء بني إسرائيل يأتي الإِنسَان منهم إِلَى شريعة موسى عليه السلام فيجددها، ويدعو النَّاس إليها وإلى إقامتها، فهذا نبي يبلغ.

فمثلاً قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] الآيات.

هذا النبي من أنبياء بني إسرائيل اختلف في اسمه ولا يهمنا الاسم، المهم أن هذا النبي هو من بعد موسى وفي بني إسرائيل، طلب منه قومه ملكاً يقاتلون معه، فطلب ذلك من ربه فأوحى الله تَعَالَى إليه إني قد اخترت لهم طالوت ملكاً عليهم فإذاً هناك وحي وبلاغ لكن لا يسمى، هذا رسولاً.

والأنبياء من أقرب ما يشبههم بهذه الأمة، العلماء المجددون لكن شريعة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم نزلت كاملة خاتمة، فالعلماء يجددون ما كَانَ من أمر الدين، ولا يشرعون شيئاً من عندهم، أما الأَنْبِيَاء فقد يأتون بأشياء من أمور التفصيل في بعض الحلال والحرام، أو يقودون النَّاس ببلاغ ووحي من الله سبحانه وتعالى.

ص: 1657

فعلى هذا فالرَّسُول هو من جَاءَ بشرع جديد إِلَى قوم كافرين، والنبي هو من بعث بشريعة رَسُول قبله ليجددها، ويحيي معالمها، فهذا مأمور بالبلاغ الجديد المستأنف لقوم كفار، وهذا مأمور بالبلاغ للمؤمنين الذين ينتمون إِلَى شريعة سابقة، ولكنهم غيروا وبدلوا وضلوا وانحرفوا.

شرعية التفريق بين الأنبياء والرسل

والتفريق بين الأَنْبِيَاء وبين الرسل صحيح، ويدل عليه حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو حديث طويل، يسأل فيه أبو ذر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور كثيرة.

ومن آخرها: سأله عن آدم، هل كَانَ نبياً؟

فقال له الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: نعم نبي مكلَّم.

فقَالَ: يا رَسُول الله كم عدد الأنبياء؟

قال صلى الله عليه وسلم: مائة وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل ثلاثمائة وبضعة عشر.

وهذا الحديث ورد بعدة طرق، وصححه بعض العلماء.

يقول بعض العلماء: إن عدد الأَنْبِيَاء كعدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعدد الرسل كعدد أصحاب بدر.

فهنا مناسبة بين عدد الأَنْبِيَاء وبين عدد الرسل من جهة، وبين عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً وبين عدد أصحاب بدر خاصة.

فهَؤُلاءِ الرسل الذين هم من ضمن المائة والأربع وعشرين ألفاً هم الذين جاءوا وبعثوا إِلَى أمم كافرة، ولهذا الذين قص الله تبارك وتعالى في القُرْآن قصصهم مع أقوامهم هم من الرسل، ولهذا مع أن آدم عليه السلام نبي كما جَاءَ في الحديث، وفي غيره من الأدلة.

ففي حديث الشَّفَاعَة الصحيح يقول الناس: يا نوح إنك أول رسول، إذاً آدم عليه السلام نبي، ونوح أول الرسل، بمعنى: أنه جَاءَ إِلَى قوم كافرين.

ص: 1658

فبعثه الله بعد أن تخلى النَّاس عن التوحيد، وارتكبوا الشرك يوضحه قوله تَعَالَى في الحديث القدسي:(وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)

كما جَاءَ ذلك في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه، فلما اجتالتهم الشياطين بعد قرون، قيل: إنها عشرة.

كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: بعد عشرة قرون من آدم عليه السلام وقع الشرك في قوم نوح، فأشركوا، فجاء نوح عليه السلام، لكن الأَنْبِيَاء قبل نوح موجودون، ومنهم آدم وقيل إن منهم إدريس عليه السلام، وفي الرسل هود، وصالح، وموسى، هَؤُلاءِ الرسل سمُوا رسلاً؛ لأنهم واجهوا أقوامهم بدين جديد فكذبهم أقوامهم في ذلك.

فهذا هو أوضح وأجلى الفروق بين النبي وبين الرسول أما بقية كلام المُصْنِّف فصحيح، فإن الرسل أخص من الأنبياء، ولذلك عددهم أقل، وهذا هو الراجح، وهو ما اختاره شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ وغيره من المحققين.

فكل رَسُول نبي، وليس كل بني رسول؛ لأن من بعثه الله سبحانه وتعالى إِلَى قومه عَلَى شريعة من قبله وأوحى إليه أن يبلغهم فلا يسمى رسولاً عَلَى هذا الاصطلاح، وإنما هو نبي من الأَنْبِيَاء.

من نعم الله على الناس اصطفاء الرسل

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

[وإرسال الرسل من أعظم نعم الله عَلَى خلقه، وخصوصاً مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]] اهـ.

الشرح:

ص: 1659

هذه بقية من الكلام الذي سبق إيضاحه وهو أن من أعظم نعم الله تبارك وتعالى عَلَى بني الإِنسَان أنه اصطفى منهم رسلاً، وأنزل عليهم هذا النور المبين، والدين الذي لا تصلح حياة البشر في الدنيا والآخرة إلا به.

ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] فلو تصورنا كيف يكون حال الأمم بدون أنبياء؟ بل ما هو أبسط: كيف يكون حال الأمة المسلمة إذا لم يوجد فيها دعاة، ومجددون؟

كيف كانت حالة جزيرة العرب قبل دعوة الشيخ مُحَمَّد عبد الوهاب رحمه الله كمثال؟ فما بالكم بحال الإِنسَانية، وحال العرب قبل بعثة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أي مجتمع لا دعوة فيه، ولا أمراً بالمعروف، ولا نهياً عن المنكر، فسيكون محلاً للشقاء والضلال والضياع والحيرة والظلم والجور.

فكيف بالمجتمع الذي لا دين فيه ولم يبعث فيه رَسُول من عند الله سبحانه وتعالى، فلولا الأَنْبِيَاء لما عرف النَّاس الحق من الباطل، والخير من الشر، ولم يهتدوا إِلَى ربهم سبحانه وتعالى ولم يعرفوا طريق الجنة من طريق النار، فهذه نعمة كبرى نعمة عظيمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها عَلَى بني الإِنسَان قاطبة، ومن كَانَ عابداً لله حق العبادة معظماً له يقدره حق قدره، فعليه أن يعلم عظم هذه المنِّة وأنها منِّة عظيمة.

ص: 1660

وليؤمن بهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاء وليتبع النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين بلا شك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخرجهم الله به من الكفر إِلَى الإيمان.

الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين

فَبِعْثَته صلى الله عليه وسلم ليست رحمة للمؤمنين فقط، بل هي رحمة للعالمين أجمعين.

وذكرنا سابقاً أمثلة من كون دعوته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فقد بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم والدنيا تموج بالظلم موجاً في كل مكان، فلما انتصر هذا الدين، وهذا النور العظيم الذي يعطي الإِنسَان كرامته وحريته الحقيقية، ويرد له إنسانيته وتكوين الله سبحانه وتعالى له.

تأثرت الأمم جميعاً بهذا الدين، حتى الأمم التي لم تدخل في الإسلام شملتها رحمة الإسلام من اليهود والنَّصَارَى الذين أعطوا العهد والذمة أو دفعوا الجزية، أمنوا وارتاحوا فرحمهم الله عز وجل بهذا الدين.

وحتى الأمم الأخرى التي لم تسلم رحمها الله سبحانه وتعالى بهذا الدين فأصبحت تعلم قيمة الإسلام، وتعلم شناعة الظلم وبشاعة الاستعباد والطاغوتية التي كانوا يعيشون فيها، ولهذا فإن أوروبا كانت أشد العالم همجية.

ص: 1661

فلما جاءت الحروب الصليبية، وحاربوا الْمُسْلِمِينَ رأوا كيف يعيش الْمُسْلِمُونَ، مع أنهم تركوا كثيراً من الهدى الذي كَانَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالأوروبيون من فرنسيين وألمان وإنجليز تعجبوا كيف يعيش النَّاس في هذا النعيم وهذه الراحة ورأوا علماءهم يقولون: قال الله قال رَسُول الله وعلماء النَّصَارَى محتكرين للدين ويفسرونه كما يشاءون، ويحللون ويحرمون كما يشاءون، فالبابا مرة يحرم الطلاق ومرة يبيحه ومرة يحرم الربا ومرة يبيحه اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]

فلما رأوا ذلك قامت في أوروبا الحركة التي تسمى حركة الإصلاح الديني، مارتن لوثر وكالفن.

فقالوا: اطمسوا جميع الصور والتماثيل التي كانت في الكنائس، وَقَالُوا: لا نقول في الدين بالتثليث الأب، والابن، وروح القدس، أي: لا نقول: إنها آلهة؛ بل نقول: إله واحد، وهم لم يسلموا، ولكنهم يحاولون أن يقربوا إِلَى الإسلام، قالوا: ورجال الدين لا يحتكرون كل شيء، بل من حق كل إنسان أن يقرأ الكتاب المقدس ويعلم ما فيه مثلما رأوا حال الْمُسْلِمِينَ.

يقول علماء التاريخ الأوربيون: إن حركة الإصلاح الديني أحد أهم الأسباب والعوامل في نهضة أوروبا بخروجها من القرون الوسطى إِلَى القرون الحديثة -كما يسمونها- فبذت الخرافات والضلالات والشركيات، نعم وقعت في الإلحاد هذا صحيح، لكن ليس السبب أنها خرجت من حق إِلَى باطل. لا؛ بل خرجت من باطل ورفضت الحق وهو الإسلام، ووقعت في باطل شر منه وهو الإلحاد الذي تعيش فيه اليوم، وكان عليها أن تخرج من الباطل، وتقع في الحق الذي هو دين الإسلام الذي لا حق سواه.

ص: 1662

إن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته رحمةً للعالمين، وبإذن الله تَعَالَى كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار) وسوف (ينزل عيسى عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يبقى عَلَى الأرض مشرك) ، وفي آخر الزمان تقوم خلافة عَلَى منهاج النبوة ويدخل النَّاس جميعاً في دين الإسلام، ويتحقق أيضاً كمال الرحمة للعالمين بحيث لا يبقى عَلَى الأرض خارج عن هذا الدين.

أنه خاتم النبيين

قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[وأنه خاتم الأنبياء]

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

[قال تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] وقال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأَنْبِيَاء كمثل قصر أُحسن بنيانه، وتُرك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه، إلا موضع تلك اللبنة، لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل) خرجاه في الصحيحين.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، الذي يحشر النَّاس عَلَى قدمي وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي) .

وفي صحيحمسلم عنثوبان قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) الحديث.

ولمسلم: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فضلت عَلَى الأَنْبِيَاء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إِلَى الخلق كافة، وختم بي النبيون) ] اهـ.

الشرح:

بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 1663

هذا الموضوع، وهذه الجمل مهمة جداً عَلَى وضوحها ولله الحمد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي) هذه واضحة -ولله الحمد- عند الْمُسْلِمِينَ جميعاً إلا من كفر وخرج من الإسلام، ولكن إيضاح الفرق المخالفة فيها وأسباب ضلالها هو المهم.

هذه الأحاديث التي ذكرها المُصْنِّف رحمه الله وما علم من الدين بالضرورة علماً قطعياً مجمعاً عليه، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأَنْبِيَاء وهناك أحاديث أخرى غير الآية مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُول لَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] والأدلة كثيرة، كلها تدل عَلَى أصل قطعي مجمع عليه بين الْمُسْلِمِينَ وهو أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.

الحديث الأول: مثال يذكره النبي صلى الله عليه وسلم (أن مثلي ومثل الأَنْبِيَاء من قبلي) عَلَى رواية البُخَارِيّ يقول: (كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل النَّاس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قَالَ: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) .

فالمثال يوضح أن البناء قد اكتمل إلا موضع لبنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وكان هو هذه اللبنة، كما يقول ذلك الأحبار والرهبان الموحدون، فكانوا يقولون: متى يُبعث نبي آخر الزمان -كانوا يسمونه بنبي آخر الزمان أي: الذي ليس بعده نبي- فبعث صلى الله عليه وسلم، وكان هو نبي آخر الزمان.

ص: 1664

والحديث الثاني: في أسمائه صلى الله عليه وسلم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:(إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي -ووضحه فقال:- يمحو الله بي الكفر) وقد محي به الكفر ولله الحمد والمنة (وأنا الحاشر) ووضح ذلك قَالَ: (الذي يحشر النَّاس عَلَى قدمي) فهو صلى الله عليه وسلم الذي يشفع يَوْمَ القِيَامَةِ.

(وأنا العاقب) والعاقب: هو الذي ليس بعده نبي.

الحديث الثالث: يقول المصنف: في صحيحمسلم: عن ثوبان وهذه الرواية ليست في صحيح مسلم كما نبه إِلَى ذلك الشيخ الأرنؤوط، ولعل الشيخ الألباني نبه إِلَى ذلك، وفي صحيح مسلم نجد حديث ثوبان:(إن الله زوى لي الأرض وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) إِلَى آخر حديث ثوبان المعروف وليس فيه هذه الزيادة، وإنما هي زيادة في مسند الإمامأَحْمَد وفي بعض السنن يقول في آخره:(وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) .

وهذا الحديث، قد يستدل به عَلَى أن الذين يدعون النبوة عددهم ثلاثون، مع أن الذين ادعوا النبوة صاروا كثيراً، فكيف يكون الجمع؟

إما أن يكون الثلاثون هم من ظهر أمرهم وعظم خطرهم وكان لهم أتباعاً كُثر.

وإما أن يكون العدد للتكثير.

وإما أن يكون الثلاثون هم الذين يدعون في الفترة القريبة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

لكن بعضهم ادعاها وهو حي صلى الله عليه وسلم مثل: مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وفي جيل الصحابة رضي الله عنهم ادعى النبوة عدد فقد يكون هو هذا العدد والله أعلم.

المهم أنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي) .

أعطيت خمساً

ص: 1665

في الخصائص التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم ماجاء في حديث الخمس التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعطها أحد قبله، وفي رواية أنها ست، كهذه الرواية التي رواها مسلم يقول:(أعطيت جوامع الكلم) ومعنى (أعطيت جوامع الكلم) قد سبق معنا.

وقلنا: إن جوامع الكلم هي: العبارة القليلة الألفاظ، الجامعة لمعان كثيرة وقواعد عظيمة في أمور الدين، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(لا ضرر ولا ضرار) ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .

فهذه أقوال وألفاظ موجزة؛ لكنها تشمل أموراً عظيمة جداً يُستدلُ بها في أبواب كثيرة، وتُستخرجُ منها مسائلُ كثيرةٌ جداً، مع أنها ألفاظ موجزة.

وكما مرَّ معنا في حديث القدر {كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له} بهذه العبارة الموجزة، انحلت كل الإشكالات التي تتعلق بالقدر، من كَانَ من أهل النَّار فهو ميسر لعمل أهل النَّار والعياذ بالله، ومن كَانَ من أهل الجنة فهو ميسر لعمل أهل الجنة.

ص: 1666

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ونصرت بالرعب) وفي رواية أخرى (مسيرة شهر) ومعنى ذلك: أنه إذا عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواء جيش من الجيوش قذف الله تَعَالَى في قلوب أعدائه الرعب قبل أن يحاربهم، ولو كَانَ عَلَى مسيرة شهر منه صلى الله عليه وسلم.

قوله صلى الله عليه وسلم (وأحلت لي الغنائم) كان الأَنْبِيَاء قبل النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا عدواً لهم فغنموا منه، فإنهم يجمعون الغنائم فيضعونها في مكان فتنزل نار من السماء فتحرقها، ومن غل منها شيئاً، فإنه يعاقب.

فجاء الحكم بالتخفيف لهذه الأمة أن الغنائم حلال له صلى الله عليه وسلم ولأمته عَلَى القسمة المعروفة إن كانت فيئاً أو إن كانت غنائم، فأحلت له صلى الله عليه وسلم وأصبح كل مقاتل يأخذ ما كتب الله تَعَالَى له وشرع من الغنائم، هذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول:(بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي) فكان صلى الله عليه وسلم يسترزق مما يقبضه من الغنائم التي أحلها الله تبارك وتعالى له من قتال الكفار.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً) هذه نعمة عظيمة أيضاً، كانت الأمم قبلنا -وما يزالون إِلَى اليوم- لا يصلون إلا في الكنائس وفي المعابد، لكن هذا الدين رحمة للعالمين وهو دين عام للعالمين وعام لجميع الأزمان إِلَى أن تقوم الساعة.

ص: 1667

فالله سبحانه وتعالى خفَّف عن هذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم في رواية:(فحيث ما أدركت الصلاة أحداً من أمتي فعنده مسجده وطهوره) فإذا لم تجد الماء أو المسجد فتقول: بسم الله، وتتيمم، وتكبر، وتصلي، ليس هناك تخفيف مثل هذا، ولم يكن في أي ملة من الملل تخفيف من الله عز وجل مثله، وهذا دليل من الأدلة الكثيرة عَلَى أن هذا الدين دين رحمة للعالمين، وأنه دين العالم، وأنه دين الإِنسَانية جمعاء، فلا تتعطل أمور الحياة ولا تتوقف في أي مكان كنت، فحولك الأرض تتيمم وتصلي في أي مكان لا يشترط المسجد، ولا يشترط الماء إلا في حال كونهما موجودان فيجب أن تتوضأ وإذا كَانَ المسجد أيضاً موجوداً فيجب عليك صلاة الجماعة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأرسلت إِلَى الخلق كافة، وإنما كَانَ النبي يبعث إِلَى قومه خاصة) كما وضحت ذلك الروايات الأخرى فكان الأَنْبِيَاء يبعثون إِلَى أقوامهم، فموسى بعث إِلَى قومه، وزعيمهمفرعونوإلى بني إسرائيل خاصة ليخرجهم من طاغوتفرعون، ونوح، وهود، وصالح، وشعيب كذلك، ولكن مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأَنْبِيَاء والمرسلين أزكى الصلاة والتسليم بُعث إِلَى الخلق عامة، فدعوته للثقلين الإنس والجن.

ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) مجرد أنه سمع بهذا النبي صلى الله عليه وسلم لأن دعوته عامة لجميع العالمين.

قوله صلى الله عليه وسلم: (وختم بي النبيون) هذه الجملة السادسة التي زادت في هذه الرواية.

وهذه حقيقة قطعية لا يخالف فيها أحد من الْمُسْلِمِينَ وأعداء الله لم يخالفوا فيها من أول أمرهم بوضوح.

ص: 1668

وأول من قال ليس مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بآخر الأَنْبِيَاء هم الرافضة قبحهم الله، وقد سبق أن قلنا: إنهم ينتمون إِلَى عبد الله بن سبأ اليهودي، فإنهم أخذوا يتحايلون عَلَى الوحي.

فيقولون إن علياً رضي الله عنه كَانَ إلهاً، وأنه يُوحى إليه، وأنه في السحاب، وأن البرق سيفه، والرعد صوته، هكذا قالعبد الله بن سبأ وبعد ذلك كانوا يُسمون الخشبية وتطور الأمر بهم إِلَى أن قالوا: إن الأئمة يعلمون ما كَانَ وما سيكون، ويقرءون اللوح المحفوظ، إلا أنهم لا يقولون بصراحة أن الإمام فلانٌ رَسُول لكن كلامهم: يقرأ اللوح المحفوظ، ويعلم الغيب.

مثلاً الحسين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- تقول الرافضة إنه قد أوحي إليه أنك ستنزل في كربلاء، ولهذا مشى في الطريق يسأل عن قرية حتى قالوا له هذه كربلاء، فنزل فيها، وَقَالُوا: هذا وحي من الله، وهكذا يقولون في الأئمة.

فانتشر بين هَؤُلاءِ الرافضة الاعتقاد بأن الوحي يمكن أن يتم لكن دون أن يصرحوا أول الأمر أنه رَسُول وصرح بعضهم بذلك مثل الغرابية بعض الفرق التي هي كافرة حتى عند الشيعة.

ثُمَّ تطور الأمر إِلَى أن ظهرت الباطنية.

الباطنية

ظهرت الباطنية في أول القرن الثالث، سنة مائتين وخمسة أو مائتين وعشرة أو قريباً من ذلك.

ص: 1669

وهذه الحركة دخلت من مدخل الشيعة فكانوا يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض، كما قال العلماء: يأخذون الإِنسَان، ويقولون له أول مرة: إن جميع الصحابة ارتدوا عن الإسلام إلا الأربعة فقط عَلِيّ وعمار والمقداد وسلمان ويكفرون بقية الصحابة ويقولون: أي: رواية جاءت في القُرْآن أو في السنة لا تصدق بها عَلَى الإطلاق، فيدخل في دينهم، وبعد فترة يقولون له -على تدرج عندهم- حتى هَؤُلاءِ الأربعة مثلهم كمثل باقي الصحابة فيخرج من الإسلام بالكلية ويلقنونه الأصول الفلسفية التي كتبوها والتي أنشأوها، ويسمونها رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، وهي رسائل فلسفية لعقائد فلسفية -من كلام اليونان وأمثالهم- وإلحادية لا تؤمن بأي دين عَلَى الإطلاق، فلما دخلت الباطنية قالوا مجاهرين: بأن النبوة والوحي ليس كما يزعم الأنبياء، وجميع أتباع الأَنْبِيَاء في الدنيا: أن الله عز وجل يرسل رسولاً فيوحي إِلَى الرَّسُول الإنسي بواسطة الرَّسُول الملكي؛ لأن الله عز وجل عند الباطنية: مجرد عقل كلي أو العلة الأول -كما سبق معنا إيضاح شيءٌ من ذلك- ويقولون: العقل الكلي يفيض منه العلم عَلَى العقول الجزئية، وهذا هو الذي يسمى وحي عند الباطنية.

ويقولون: النبوة بالاكتساب وبالاجتهاد وبالنظر والعياذ بالله تعالى.

فهم خارجون عن دين الإسلام، وقد استطاعوا أن يخرجوا بعض الْمُسْلِمِينَ من دينهم لما فسروا الوحى بهذه الطريقة واستمر الأمر عَلَى ذلك؛ لكن لم يكن لهم شأن، لأن الأمة في قوة وإيمان.

ص: 1670

هَؤُلاءِ الباطنية كفّرَهم الْمُسْلِمُونَ بالاتفاق، ولم يكن هناك أحدٌ يدعي النبوة بإقناع وصدق إلا وهو زنديق أو منافق يطمع في أمور الدنيا، بل إن كثيراً ممن ادعى النبوة كَانَ مجرد هازل ساخر، وتنشر حكاياتهم في أبواب الهزل والسخرية وكتب الأدب ونحو ذلك، لكن في هذه الفترة بدأت الأمور تتعمق أكثر، ثُمَّ ظهر في بقايا الباطنية " الفرقة التي تسمى الأحمدية أو القاديانية ".

الأحمدية أو القاديانية

هذه الفرقة لابد أن نعرف شيئاً من أصولها ومبادئها، حتى إذا قيل لنا ما هي الفرقة التي تدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس خاتم النبيين، وألفت في ذلك كتباً وجاءت بنبي تدعيه نبياً؟

قلنا: هي الفرقة القاديانية، وتسمى أحياناً: الأحمدية، نسبة إِلَى أحمد غلام ميرزا القادياني الذي أسس هذه الفرقة، وهو من بلد يُقال لها: قاديان، بلدة في شمال باكستان في ولاية البنجاب

.أحمد القادياني: كَانَ أبوه عميلاً للإنجليز -في جيش الإنجليز- موالياً لهم، والإنجليز توسموا في هذا الغلام أنه يمكن أن يستخدموه لمآربهم ولأغراضهم.

ولو نظرنا إِلَى الفترة التي تنبأ فيها أحمد القادياني لوجدنا أنها بعد ظهور دعوة الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله وانتشار هذه الدعوة في أصقاع العالم الإسلامي ومنها الهند، فقامت دعوات جهادية في الهند متأثرة بدعوة الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب تحارب الإنجليز.

فتفطن الإنجليز لذلك وَقَالُوا: لا بد أن نشعل فتنة بين الْمُسْلِمِينَ مستغلين بذلك الجهل الموجود في القارة الهندية فجاءوا إِلَى هذا الفتى أحمد القادياني ورأوا فيه أنه يمكن أن يقوم بتحقيق هذا الهدف.

ص: 1671

فكان أول ما بدأ به الأمر أن كتب كتاباً أسماه البراهين الأحمدية يرد فيه عَلَى اليهود والنَّصَارَى فهو لم يدّعِ النبوة في البداية؛ لأنه لو قَالَ: أنا نبي لكذبه الناس؛ ولكنه لكي يتمكن بدأ بالرد عَلَى اليهود والنَّصَارَى وعلى أعداء الإسلام في كتاب براهين أحمدية وكأنه من المدافعين عن الدين.

ثُمَّ بعد فترة ادعى أنه مجدد القرن.

ثُمَّ بعد فترة ادعى أنه المهدي.

وبعد فترة ادعى أنه المسيح.

وبعد فترة ادعى النبوة بوضوح، وأنه رَسُول من عند الله، فلما مات أحمد القادياني عثر عَلَى آثاره وجمعت كتبه، فوجد فيها رسالة بعث بها أحمد القادياني إِلَى الحكومة الإنجليزية، وهي بخطه يقول فيها:

" إنني قد كتبت في مدح وتأييد الحكومة الإنجليزية وحث الْمُسْلِمِينَ في الهند على الولاء لها؛ ما يعادل لو جمع أكثر من خمسين خزانة، -هذه كتبه فقط في الموالاة للإنجليز- وإني قد دعوتهم في كل مكان إِلَى أن يتركوا الجهاد، وأن يخلصوا الولاء لهذه الدولة حفظها الله وحرسها " إِلَى غير ذلك.

إذاً فأحمد القادياني كَانَ يتلقى الوحي من لندن وكان يتلقاه من السياحة الإنجليزية، التي كانت تهدف إِلَى قمع آثار دعوة الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب وآثار الجهاد الذي كَانَ قائماً عند الْمُسْلِمِينَ.

وكان من أهم الشرائع التي جاءت إِلَى هذا المتنبئ الدجال أنه أبطل الجهاد عَلَى الإطلاق! وكان يتنقل من بلد إِلَى بلد ويقول: لا جهاد، والحرب عَلَى أشدها بين الْمُسْلِمِينَ وبين الإنجليز في الهند، ثُمَّ أبطل كثيراً من المحرمات، وأخذا يُشرّعُ من عند نفسه، ولم يزل القاديانيون إلى اليوم منتشرون في أوروبا وفي أمريكا، والآن يغوصون في القارة الأفريقية مستغلين الجوع والحاجة وتؤيدهم دول الاستعمار الغربية؛ بنشر هذه الضلالات ويسمون أنفسهم الأحمدية ويعتقدون أن أحمد القادياني نبي، ولهم مكان يسمى الربوة في باكستان.

ص: 1672

ويقولون: إن هذا هو الذي قال الله تَعَالَى فيه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50] مع أنها أرض جدباء لا يوجد فيها أنهارٌ ولا أشجار ولا خضرة مع ذلك يسمونها ربوة فأين القرار وأين المعين؟ فهم لا يبالون بالكذب ولا يبالون بالدجل؛ بل لقد أصبحت المسألة مسألة عمالة مع أعداء الله.

ولديهم من يسمونهم الخلفاء والآن الخليفة الثالث أو الرابع، كلما مات واحد منهم يأتي خليفة من بعده ويجدد الدين، ومن خطورتهم وخبثهم أنهم يترجمون معاني القُرْآن الكريم إِلَى اللغة الإنجليزية، ويترجمون بعض الكتب الإسلامية، ويوزعونها في أوروبا وأمريكا.

والنَّاس هناك يشتاقون إِلَى شيء يسمعونه عن الإسلام، ولا يجدون شيئاً إلا بلغتهم فيشترون الكتب القاديانية فيدخلون في القاديانية وكم من الْمُسْلِمِينَ الغربيين يسلم، ثُمَّ بعد فترة تجتاله القاديانية وتدخله في دينها، والشاهد أن هذه الفرقة هي أشهر من عُرفَ عنه إنكار ختم النبوة.

البهائية

ظهرت البهائية في إيران في وسط الشيعة وهي نابعة من نفس الفكر الشيعي الذي قلنا: إنه يرفع الأئمة ويعظمهم، ويدعي أنه يوحى إليهم، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس خاتم الأَنْبِيَاء.

ظهر البهاء يتلقى وحيه من اليهود، واليهود كما تعلمون مندسون في صفوف الشيعة منذ أن أسسوا دين التشيع إِلَى اليوم، وتأسست هذه الفرقة عَلَى يد رجل يُقال له: أحمد الأحسائي وأصله كَانَ يهودياً إنجليزياً سكن في إيران، وانتسب إِلَى الأحساء وأسس هذا الدين.

والبهائية أشدُّ كُفراً من القاديانية؛ لأنها تنكر الإسلام كله وتمحوه كله، وتدَّعي أنه كذب ودجل، وتترك الشرائع جميعاً، وتنفي الفروق بين الأديان جميعاً وهم يحجون لكن إِلَى عكا في فلسطين، ولم يزل مقرهم وقاعدتهم في عكا، حتى تكون عَلَى مقربة من اليهود ومن تأسيس دولة اليهود.

ص: 1673

ويجعلون القبلة إِلَى عكا إِلَى حيث يكون البهاء أو خليفتهم، وليست القبلة إِلَى الكعبة، وألغوا الصلوات، وارتكبوا جميع المحرمات، فكل شيء في الدين غيروه، وجاء هذا البهاء بكتاب سماه البيان فقَالَ: هذا كتاب ينسخ القُرْآن -والعياذ بالله- ويدعي أن هذا في القُرْآن قال تعالى: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4] فالبيان هو هذا الكتاب الذي جَاءَ به، وألف كتاباً آخر سماه كتاب الأطرش.

المهم أن لهم ضلالات كثيرة لا يهمنا أن نعرفها بالتفصيل لكن ينبغي لنا أن نعرف قدراً منها، وأن نعرف أن كونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأَنْبِيَاء هذه حقيقة لا يدخلها الشك، ومن شك فيها فقد كفر وخرج من دين الإسلام.

ولكن القاديانية والبهائية وأمثالها إنما نجحت وقامت أولاً: لأنها قامت في بلاد تتمكن فيها الإسماعيلية الباطنية والشيعة فأساس الضلال والخراب جَاءَ من هنا.

وثانياً: أنها قامت لتبرر وجود الاستعمار والاحتلال الكافر لبلاد الْمُسْلِمِينَ، فهي لا تقوم عَلَى برهان علمي، ولا يهمها أن يعرف الْمُسْلِمُونَ كذبها وكفرها، وإنما الذي يهمها أن تأخذ من الأطراف في أفريقيا وأندونيسيا، وعن الجدد الذين يدخلون في الإسلام، من الأوروبيين والأمريكان لتأخذ هَؤُلاءِ النَّاس وتجتالهم وتدخلهم في هذه الأديان الباطلة، وتلبس عليهم، ويهم أعداء الله -من اليهود والنَّصَارَى والشيوعيين- أن يثبتوا للمسلمين أن ما تدعونه من كون مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين غير صحيح؛ لأنه قد ظهر أنبياء بعده فظهر أحمد القادياني وظهر البهاء وظهر هَؤُلاءِ الكذابون والدجالون، هذه هي الأهداف التي يريد أعداء الإسلام أن يحققوها من هذه الدعاوي.

ص: 1674

وإلا فهي ولله الحمد لا ترقى أن تكون شبهات، وقد رد علماء الإسلام في جميع البلاد عليهم، حتى في باكستان حينما نشأت هذه الدعوات وفي إيران أيضاً، كَفَرُوا عقيدة الفرقتين، وأجمعوا عَلَى خروجهما من الملة، ولذلك ينبغي خاصة لمن يذهب إِلَى بلاد أوروبا وأمريكا أن يعرف شيئاً من حال هاتين الفرقتين ليُحذِّر منها هنالك، وأيضاً في بلادأفريقيا الغربية فإن لهما هناك وجوداً وخطراً، وتحاولان أن تستزلا الْمُسْلِمِينَ من الإسلام إِلَى هذين الكفرين اللذين جاءتا بهما.

قال الطّّحاويّ رحمه الله:

[وإمام الأتقياء] .

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

[الإمام الذي يؤتم به، أي: يقتدون به.

والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للاقتداء به؛ لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وكل من اتبعه واقتدى به، فهو من الأتقياء] اهـ.

الشرح:

نعم هو صلى الله عليه وسلم هو إمام الأتقياء، فالأتقياء هم الذين يتبعونه ويؤمنون به ويتمسكون بسنته، والتقوى كما تعلمون جميعاً، هي: من الوقاية أي: أن تجعل بينك وبين الله عز وجل وقاية، وفسرها بعض الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم بأنها: العمل بالتنزيل والخوف من الجليل سبحانه وتعالى والرضا بالقليل.

العمل بالتنزيل: أي العمل بالقرآن.

والخوف من الجليل: تخاف من الله عز وجل في كل أمر تفعله.

ص: 1675

والرضا بالقليل: وهو الزهد في هذا المتاع الفاني والحطام الزائل، متاع الحياة الدنيا، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم القدوة في التقوى. والنموذج العالي هو رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتقين، وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] هذه سماها السلف آية المحنه أو الامتحان قالوا: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تَعَالَى عليهم آية المحنه أو الأمتحان.

قال الطّّحاويّ رحمه الله:

[وسيد المرسلين] .

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

[قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) رواه مسلم.

وفي أول حديث الشَّفَاعَة (أنا سيد النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ) وروى مسلم والتِّرْمِذِيّ عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)

فإن قيل يشكل عَلَى هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني عَلَى موسى، فإن النَّاس يُصعقون يَوْمَ القِيَامَةِ، فأكون أولُ من يُفيق، فأجدُ موسى باطشاً بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كَانَ ممن استثنى الله؟) خرّجاه في الصحيحين، فكيف يُجمع بين هذا، وبين قولهِ صلى الله عليه وسلم:(أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر) .

ص: 1676

فالجواب: أن هذا كَانَ له سبب، فإنه كَانَ قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى عَلَى البشر فلطمه مسلم، وقَالَ: أتقول هذا ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كَانَ عَلَى وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كَانَ مذموماً.

بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كَانَ مذموماً، فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:55]، وقال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] ، فعُلمَ أن المذمومَ إنّما هو التفضيلُ عَلَى وجه الفخر أو عَلَى وجه الانتقاص بالمفضول.

وعلى هذا يُحمل أيضاً قولهُ صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كَانَ ثابتاً فإن هذا قد روى في نفس حديث موسى وهو في البُخَارِيّ وغيره.

لكن بعض النَّاس يقول: إن فيه علة؛ بخلاف حديث موسى، فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم.

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو: أن قوله صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني عَلَى موسى) ، وقوله (لا تفضلوا بين الأنبياء)، نهيٌ عن التفضيل الخاص أي: لا يُفضل بعض الرسل عَلَى بعض بعينه: بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد لا ينصب عَلَى أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك، ثُمَّ إني رأيت الطّّحاويّ رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار] اهـ.

الشرح:

ص: 1677

يقول الإمام الطّّحاويّ رحمه الله: [وسيدُ المرسلينَ] أي: ونقول: إنّهُ صلى الله عليه وسلم خاتمُ الأنبياءِ وإمامُ الأتقياءِ وسيدُ المرسلينَ، وعلى ذلك علّق المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بذكر هذه الأحاديث الصحيحة التي ورد فيها إثبات هذه الصفة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث الصحيح المعروف (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) .

الكلام على إضافة كلمة "سيدنا" للرسول صلى الله عليه وسلم

وكون النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم لا غبار عليه، ولا إشكال فيه، وإنما الشبهة التي تثار وخصوصاً عند المتأخرين حول إطلاق كلمة سيدنا عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فيرى بعضهم: أن هذه الكلمة تصلح لأن تكون شعاراً وتتخذ سنة في الخطب، والمقالات، والمواعظ، حتى أن بعضهم يذكرها في التشهد في الصلاة!

ويقول: لماذا لا نقول: وأشهد أن سيدنا، أو اللهم صلى عَلَى سيدنا مُحَمَّد وعلى آل سيدنا محمد؟ ويقولون: إن هذا اللفظ قد ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: هو سيد ولد آدم! وأن الذي يقول: اللهم صل عَلَى سيدنا مُحَمَّد في صلاته، أو في خطبة الجمعة، أو غير ذلك أفضل من الذي لا يذكر لفظ سيدنا!

بل ليت الأمر وقف عند حدود الأفضلية، وإنما يقولون: عن الذي يقول: أشهد أن محمداً عبده ورسوله ولا يضيف سيدنا، هذا جافٍ يكره النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله.

ص: 1678

وقد سبق أن قلنا: إن مما أجمع عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن من كره شيئاً مما جَاءَ به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أو كَانَ في قلبه أدنى كراهية للرَسُول صلى الله عليه وسلم فإنه كافراً قطعاً، وإن أظهر الإسلام، وأظهر الشعائر، فهو من المنافقين الذين لا يقبل منهم عمل بل هم في الدرك الأسفل من النار، فمن الخطورة بمكان أن يُقَالَ: إن فلاناً يكره الرَّسُول صلى الله عليه وسلم؛ لإنه لا يقول: أشهد أن سيدنا محمداً رَسُول الله، وإنما يقول: أشهد أن محمداً رَسُول الله!

والقول الصواب في هذه المسألة أننا نقول: أولاً: لا بد أن نعلم أننا متبعون ولسنا مبتدعين، وأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين اتباعاً قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وكذلك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول له الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] ، فهو صلى الله عليه وسلم لا ينذرنا بالعقل ولا بالهوى، ولا بالرأي، وإنما هو وحي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] .

وهو صلى الله عليه وسلم لو قال قولاً أو فعل فعلاً عَلَى خلاف ما يريد الله سبحانه وتعالى، لنزل عليه العتاب، وينزل تصحيح ذلك الخطأ من عند الله سبحانه وتعالى، فهو لا يأتي بشيء من عند نفسه صلى الله عليه وسلم، بل هو متبع لما يوحى إليه وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأحزاب:2] فالله تبارك وتعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما يوحى إليه من ربه، وأن يقول للناس إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] .

ص: 1679

وكذلك يأمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتبعه، لأنه لا ينطق عن الهوى، فالمسألة إذاً اتباع، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أصحابه قالوا يا رَسُول الله: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ علمهم، ولا يوجد في أي حديث صحيح أنه علمهم إضافة كلمة "سيدنا"، فضلاً عن أن تكون شعاراً، بحيث لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتوضع قبله هذه الكلمة، ونحن نؤمن بثبوت هذه الصفة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ننكرها، بل هو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم.

لكن يجب أن نفهم أن هذا لا يقال في أمر تعبدي، فلا يقال في الصلاة، ولا يقال في الأذان كما تفعله بعض الدول، وإذا قيلت اللفظة فلا تقال عَلَى سبيل اللقب، ولا بأس أن يقال خارج الصلاة والأذان، كما لو كَانَ في موعظة أو في درس أو في مقالة، فلا مانع أن يقَالَ: سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، لكن لا عَلَى سبيل الالتزام المطلق الذي يجعل شعاراً.

إذاً فهذه الصفة ثبتت للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنها لا تدخل في أي أمر تُعبدنا به جاءت صفته الشرعية التعبدية منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة بدون هذه الصفة.

الأمر الثاني: أننا إذا قلنا: نشهد أن محمداً عبده ورسوله، أو إذا قلنا: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قلتم: لا؛ بل قولوا: سيدنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، هذه أبلغ!

فنقول:

أولاً: تعظيمه صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بما ورد، عند البُخَارِيّ ومسلم وغيرهما كالإمام أَحْمَد.

فلم يرد مثلاً عند أَحْمَد في مسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن سيدنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم!

ص: 1680

وهمُ السلف الصالح الذين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ويحبونه ويقدّرونه أعظم منا، مع أنهم لم ينكروا أنه سيد ولد آدم، كما جَاءَ في الحديث، ولكنهم لم يستخدموه شعاراً ولقباً، فنقف حيث وقف القوم.

والأمر الآخر: الذي يظهر أن هذا اللفظ ليس فيه زيادة توقير، ولا زيادة تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العرب وجميع الأمم تسمي كل من يتزعمها سيداً لها، كَانَ يُقَالَ: أبو سفيان سيد قريش، والأقرع بن حابس سيد بني تميم، وفلان سيد بنى حنيفة، وفلان سيد بنى كذا من قبائل العرب، فليس هناك غرابة أن يقَالَ: فلان سيد قبيلة، أو أمة من الأمم، بل لما جَاءَ الرسل من الفرس إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحلقون اللحية ويطيلون الشارب، فَقَالَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم من أمركم بهذا، قالوا: أمرنا ربنا أي: ملكهم كسرى، ومعنى ربنا أي: سيدنا، كما جَاءَ في القرآن: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25] .

أي: زوجها وصاحبها، فالمقصود أن هذه الكلمة تطلق عَلَى من يملك عبداً مملوكاً رقيقاً، فيقال له: هذا سيد فلان المملوك، وتقول للزعيم أو للأمير الذي تنتمي إليه هذا سيدنا، ويقول إنسان لأي إنسان آخر ينتمي، إِلَى أمة من الأمم: فلان سيد بني فلان، أو فلان سيد الدولة الفلانية أو الطائفة الفلانية، فليس في هذه العبارة ميزة اختصاص أو تفضيل، اللهم إلا أن هذا الرجل مفضل عَلَى قومه.

وعلى هذا يفهم من قولنا: فلان سيد بني تميم أنه سيد في حدود قرية بني تميم، وأن هذا أفضل رجل فيهم، فإذا قال بنو تميم: سيدنا الأقرع أو سيدنا فلان، وقال أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا مُحَمَّد استويا! وليس الأمر كذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك، فلقبه أو اسمه أو صفته أعظم من كونه سيداً التي يفهم منها الزعامة الدنيوية العادية.

ص: 1681

فلهذا كَانَ الصحابة عَلَى وعي وفهم وسنة واتباع، عندما كانوا يقولون: أمرنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورَسُول الله هو رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى، وهذه ميزته التي لا يشاركه فيها أحد من العالمين في عصره عَلَى الإطلاق، وهذه هي التي بموجبها يلزم جميع العالمين أن يخضعوا لأمره ونهيه، ويتبعوه، لأنه يتكلم بكلام من عند رَبِّ الْعَالَمِينَ، وبوحي من الله تعالى، فإذا قيل: قال رَسُول الله كَانَ هذا الكلام من عند الله عز وجل بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نتبعه، ولذا لما رد النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى صاحبي كسرىكسرى قَالَ: ولكن ربي أمرني، وما قَالَ: أنا سيد قومي، فأمرتهم بإعفاء اللحى، وسيدكم أمركم بإعفاء الشوارب، فهذان سيدان: هذا يأمر قومه، وهذا يأمر قومه، لكن هذا يقول: إن ربي الذي هو الله عز وجل أمرني بكذا، أما ذاك فهو ربكم أي سيدكم بشر مثلكم، فالذي يختص به النبي صلى الله عليه وسلم ويمتاز به، ويرتفع به عن سائر العالمين هو تمام العبودية لله سبحانه وتعالى، وكمال الرسالة التي اختصه الله سبحانه وتعالى بها دون العالمين أجمعين.

ص: 1682

لكننا لو قلنا: إنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ كما جَاءَ في الحديث: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) فيكون النبي صلى الله عليه وسلم هنا حدد أنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وحال يَوْمَ القِيَامَةِ يختلف عن حال الدنيا تماماً، فيَوْمَ القِيَامَةِ ينادي الرب تبارك وتعالى: أين الجبارون أين المتكبرون، فلا يجيب أحد فيأتوه مهطعين، مخبتين، شاخصة أبصارهم، ويأتيه جميع النَّاس في غاية الانكسار والخضوع، وتشخص أبصارهم فلا تسمع إلا همساً، بل المتكبرون الذين كانوا يتكبرون في الدنيا، يحشرون -كما جَاءَ في الحديث- عَلَى هيئة الذر يطؤهم النَّاس بأقدامهم، فيحشر خلق الله تَعَالَى عَلَى خلقة واحدة إلا المتكبرون، فإنهم يحشرون عَلَى هيئة الذر جزاءً ونكالاً لتعاليهم، وتفاخرهم في الحياة الدنيا، ففي ذلك الموقف الذي لا يتكلم فيه أحد، والذي يخرس فيه جميع المتكبرين، يقف جميع الأنبياء، ومنهم أولو العزم يعتذرون عن الشَّفَاعَة، وحينئذ يقوم صلى الله عليه وسلم فيشفع، وهي السيادة الحقيقية عَلَى العالمين، فلذلك يقول:(أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع) .

فلهذا جَاءَ الحديث بهذا القيد مع أننا نقول: لا يمنع من استعماله أو من إطلاقه في غير يَوْمَ القِيَامَةِ، لكننا لا ننسى أن هذا اللفظ إنما جَاءَ في معرض يَوْمَ القِيَامَةِ، فإن ليَوْمَ القِيَامَةِ تلك الحالة المخصوصة التي تختلف عن حال الدنيا، ولهذا فَهِمَ الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم لا يتخذون هذا اللقب دائماً، وكذلك العلماء من بعدهم.

ص: 1683

وأيضاً إذا قيل: إنه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، فهو يختلف عن قولنا: إنه سيدنا، لأن المرسلين هم أفضل البشر وأعلاهم درجة ورتبة وشرفاً، فتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى المرسلين بأنه سيد المرسلين، تفضيل واضح، بخلاف ما إذا قال العامي من الناس: سيدنا، فقد يفهم منها ما يستخدم عادة للعظماء أو للأمراء، أو للملوك، ولهذا إذا قال فلان: سيد العلماء الشَّافِعِيّ، وسيد المحدثين الإمام أَحْمَد، ففيه ميزة.

لكننا لو قلنا سيدنا الإمام أَحْمَد، فإن هناك فرقاً بين هذا وهذا، وإذا قلنا فلان سيدهم أو أمير المؤمنين في الحديث، فهذا تفضيل، فلو فكرنا في هذه الأمور بعقل صائب سليم متزن، لوجدنا أن ما ورد في حقه صلى الله عليه وسلم هو: أولاً: أنه المتبع الذي يجب أن يطاع. وثانياً: أن الأليق والذي فيه توقير وتعظيم له صلى الله عليه وسلم أكثر، أن نقول: إنه عبد الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ولما قال الإمام الطّّحاويّ: (وسيد المرسلين) ثار هنا إشكال!

وهو كيف يُقَالَ: إنه سيد المرسلين مع أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تفضلوني عَلَى موسى) و (لا تفضلوني عَلَى يونس)، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تفضلوني عَلَى موسى) ، أو (لا تفضلوني على الأنبياء) ، أو (لا تخيروا بين أنبياء الله) ، فإنه يتعارض مع حديث (أنا سيد النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ) ، و (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) .

المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين موسى عليه السلام

ذكر المُصْنِّف رحمه الله أن لهذا النهي سبباً، وهذا السبب ذكره الإمام البُخَارِيّ رحمه الله في الصحيح في أكثر من موضع.

ص: 1684

والقصة التي ذكرها المُصْنِّف هنا، وهي أنه لما تخاصم اليهودي والمسلم، فأقسم اليهودي قائلاً: والذي فضل موسى عَلَى البشر، فلطمه المسلم، وقال له: أتقول هذا ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تفضلوني عَلَى موسى، فإن النَّاس يصعقون يَوْمَ القِيَامَةِ، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أو كَانَ ممن استثنى الله) .

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله: إنه إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا لأنه قيل هذا عَلَى سبيل الحمية والعصبية، فالمسلم لما رأى أن الذي دفع اليهودي هي الحمية والفخر في قوله: والذي فضل موسى عَلَى سائر البشر أخذته الحمية، فقَالَ: والذي فضَّل محمداً، فلطمه وقَالَ: أتقول هذا ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا) .

وقد جَاءَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قاتل الإِنسَان وجاهد يريد الدنيا أو حمية وعصبية، فإنه لا يقبل منه، فكذلك هذا القول وإن كَانَ حقاً، لكن إذا كَانَ في مقام العصبية فإنه لا يقبل من صاحبه ويرد عليه، فالذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، هو أن يكون التفضيل عَلَى سبيل الحمية والعصبية.

لكن هل تفضيل الأَنْبِيَاء بعضهم عَلَى بعض، وتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم حق أم لا؟

فالجواب نعم هو حق بنص كتاب الله سبحانه وتعالى حيث يقول الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] ويقول: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض [الإسراء:55] .

ص: 1685

فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي ببعض الأنبياء، ويقتدي بهداهم، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] وقال أيضاً: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]

فيقول له: لا تفعل مثل هذا الفعل المغضوب عليه، وهذا تفضيل لمن أمره الله سبحانه وتعالى بأن يقتدي به، وأن يكون مثله، واختص الله سبحانه وتعالى بعض أنبيائه بخصائص كما هو معلوم من اختصاص إبراهيم عليه السلام بأن جعله إماماً للناس، قَالَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124] .

واختص موسى عليه السلام بكلامه، واختص محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص سبقت معنا، وفي نفس الحديث الذي سبق يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية مسلم:(فضلت عَلَى الأَنْبِيَاء بست) ثُمَّ ذكرها فبهذا يتضح أن تفضيله صلى الله عليه وسلم عَلَى الأنبياء، وتفضيل بعض الأَنْبِيَاء عَلَى بعض، صحيح وثابت لا شك فيه،.

ص: 1686

أما هذه الرواية فإنها تحتمل كما قَالَ المُصْنِّفُ وتخرج عَلَى أحد التخريجات، إما الهوى أو العصبية، وهي مذمومة، ولذلك لا يجوز التفضيل عَلَى هذا السبيل كما ذكر هو رحمه الله، وإما أن يكون النهي عن التفضيل المعين، أي: لا تقل: نوح أفضل من موسى أو موسى أفضل من عيسى، فالتفضيل المعين يشعر بانتقاص هذا المفضل عليه، كما لو قلت: فلان أفضل من فلان، فإنك تشعر بأنه أنقص، لكنك لو قلت فلان أفضل أهل البلد لكان أولى -كما ذكر مثالاً هنا- فأنت لما عممت لم يكن في هذا التعميم ما يسيء لأحد بعينه، فهو معقول ولا بأس أن تقوله، وبناءً عَلَى هذا نقول: إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، لكن لا نعين واحداً منهم فنقول النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من النبي فلان، وهذا الوجه ذكره المُصْنِّف رحمه الله، وذكر قبله الوجه الآخر.

ثُمَّ ذكر أيضاً مخرجاً ثالثاً وهو: أن زيادة لا تفضلوني عَلَى موسى غير ثابتة، وأنا في الحقيقة لم أجد في هذه الرواية ما يقدح فيها، وهذه الزيادة موجودة في صحيح البُخَارِيّ، مع أنها لم ترد في بعض الروايات، لكنها وردت في البعض الآخر، ومع هذا لم أجد فيها أي مطعن، إذاً هذا الحديث كله في صحيح البُخَارِيّ وفي بعض رواياته، هذه الزيادة وفي بعضه (لا تخيروا بين أولياء الله) وفي بعضها (لا تفضلوني عَلَى موسى) ولم أجد أن الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذكر فيها أي مطعن.

وكلام المُصْنِّف موهمٌ حيث قَالَ: وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني بين الأَنْبِيَاء) إن كَانَ ثابتاً، مع أن هذا ثابت، في كتاب الأَنْبِيَاء من صحيح البُخَارِيّ، لكن الذي يظهر لي أن المُصْنِّف لم يذكر لهذه الرواية علة إلا الشذوذ، حيث إنها لم ترد في جميع الروايات، وأنا لا أذهب إِلَى ماذهب إليه، إلا إذا تيقنا الشذوذ ولم يمكن الجمع.

ص: 1687

وخلاصة ما سبق أن الذي ينبغي لنا أن نعلمه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وأن التفضيل بين الأَنْبِيَاء حق، كما هو صريح القرآن، وأننا نخرج هذه الزيادة عَلَى أحد هذه المخارج:

إما لأنها لهوى وحمية وعصبية.

وإما لأن فيها تفضيل معين عَلَى معين.

وإما عَلَى كلام المُصْنِّف أن الرواية متكلم فيها.

والذي يبدو والله أعلم أن الرواية لا قدح فيها، وأن قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تفضلوا بين الأنبياء) ليس تخصيص، ولا معارض لما جَاءَ في القُرْآن من تفضيل بعض الأَنْبِيَاء عَلَى بعض، وإنما هو من باب التعليم والتأدب مع الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، فإذا جاءنا التفضيل عن الله تَعَالَى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه حق وبه نقول، ولا نَنَصِبَ أنفسنا مفضلين فنقول: فلان أفضل من فلان بدون علم من كتاب الله، ولا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس من التأدب مع الأنبياء، فمن باب الأدب، أننا لا نفضل نبياً عَلَى نبي، لكن إذا وجدنا علماً كما جَاءَ أن نوحاً وموسى وعيسى من أولى العزم، وأولوا العزم أفضل من غيرهم، فهذا لا بأس به وهذا حق، أو أن نقول: إن موسى عليه السلام هو أفضل أنبياء بنى إسرائيل، هذا أيضا حق، وهكذا....

وقد يقول البعض لم لا يكون ذلك في أول الإسلام؟ وقد خطر لي هذا القول وهو: لم لاتكون الخصومة وقعت بين اليهودي والمسلم في أول الإسلام؟ بدليل أن هذا اليهودي كَانَ يعيش في المدينة، ومعلوم أن اليهودأجلوا من المدينة على فترات، كما حصل لبنى قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، وأن الآية نزلت متأخرة؛ لكننا لا نستطيع أن نقول بهذا القول إلا إذا تأكدنا تماماً من تاريخ نزول الآية، والله تبارك وتعالى أعلم.

والآن ننتقل إِلَى موضوع المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم ويونس بن متى.

ص: 1688

المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يونس بن متى عليه السلام

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تفضلوني عَلَى يونس) وأن بعض الشيوخ قَالَ: لا يفسر لهم هذا الحديث، حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله، وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً، وهذا يدل عَلَى جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح (لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) وفي رواية (من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب)

وهذا اللفظ يدل عَلَى العموم أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه عَلَى يونس بن متى، ليس فيه نهي الْمُسْلِمِينَ أن يفضلوا محمداً عَلَى يونس، وذلك لأن الله تَعَالَى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي فاعل ما يلام عليه، وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] .

فقد يقع في نفس بعض النَّاس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إِلَى هذا المقام، إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] كما قال أول الأَنْبِيَاء وآخرهم، فأولهم آدم قد قَالَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] .

ص: 1689

وآخرهم وأفضلهم وسيدهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية على بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي) إِلَى آخره، (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت) إِلَى آخر الحديث، وكذا قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] وأيضاً فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] فنُهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم، حيث قيل له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فقد يقول من يقول: (أنا خير منه) وليس للأفضل أن يفخر عَلَى من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل فإن الله لا يحب كل مختال فخور.

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد، ولا يبغي أحد عَلَى أحد) ، فالله تَعَالَى نهى أن يفخر عَلَى عموم المؤمنين، فكيف عَلَى نبي كريم، فلهذا قَالَ:(لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر عَلَى يونس.

وقوله: (من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصير أنقص، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم بل هو تقدير مطلق، أي من قال هذا فهو كاذب وإن كَانَ لا يقوله نبي كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وإن كَانَ صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال] اهـ.

الشرح:

ص: 1690

ذكر المُصْنِّف رحمه الله بعض التفاسير لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى) وذكر أن بعض أصحاب الطرق أو بعض أدعياء العلم الباطن من مشايخ الصوفية الذين يدعون العلم الباطن -ولم أستطع أن أعثر عَلَى ترجمته- يقول في معنى هذا الحديث: أنا أفسر لكم معنى هذا الحديث، لكن بشرط أن تعطوني مالاً جزيلاً -وسوف أشرحه لكم بالشرح الإشاري الصوفي- ويسمون تفسيرهم للقرآن تفسيراً إشارياً باطنياً.

فيفسرون الآية عَلَى خلاف ما جاءت به، كما في كثير من تفاسيرهم، مثل تفسير روح المعاني وغيره، فوافقوا عَلَى ذلك فأعطوه مالاً جزيلاً، وقالوا له: اشرح لنا الحديث.

فقَالَ: معناه "إن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج".

فَقَالُوا: يستحق الشيخ أن نعطيه كل المال من أجل هذا المعنى العظيم، وهذا دليل عَلَى جهلهم بكتاب الله سبحانه وتعالى، وبمعاني حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وجهلهم بالسنة أيضاً.

وقد قال بعض العلماء: إن هذه اللفظة هي: (لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى) لم تصح وإنما ورد ما يدل عَلَى معناها عند بعض العلماء، كما في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:(من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، وقد اختلف العلماء في فهم هذا الحديث، فبعض العلماء فهم من هذا أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا أحد يقول: إنه صلى الله عليه وسلم خير من يونس.

والبعض الآخر قالوا: إن المقصود من قوله: إني -أي المتكلم- خير من يونس بن متى، فقد كذب، ويقول الحافظ ابن حجر: الرواية الأخرى (من قَالَ: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) هي في صحيح البُخَارِيّ وتدل عَلَى أن المقصود من قوله "إني" أي المتكلم، لأنه يقول: من قال "أنا"، فأي أحد من النَّاس يقول: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب، لكن يُقال له:

ص: 1691

أولاً: لم تصح هذه الرواية.

وثانياً: عَلَى فرض أنها ثبتت، فإن هذا المعنى الذي فهمه بعض العلماء، ليس عَلَى إطلاقه، لكن عَلَى فرض ذلك فلا يكون تفسيره بأن قرب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من ربه ليلة الإسراء والمعراج مثل قرب يونس، وهو في بطن الحوت، هذا المعنى باطل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما اختص الملائكة قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19] وقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب [فاطر:10] .

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إِلَى السماء كَانَ في موضع التكريم، وهناك ما يدل عَلَى أن العلو كلما كَانَ أكثر، كلما كَانَ فيه تكريم، وقرب من الله تبارك وتعالى عنده، ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى الملأ الأعلى بهذا الإسم، لأنهم أعلى من أهل الدنيا لقربهم منه سبحانه وتعالى، وكما جَاءَ في الحديث الآخر (وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) .

فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إِلَى ذلك المقام الأعلى الذي لم يصل ولن يصل إليه مخلوق قط، كَانَ هذا تكريماً له صلى الله عليه وسلم، فهو في هذه الحالة وبهذا العمل أفضل من كل النَّاس الذين لم يصلوا إليه وكذلك الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لم يحظوا بأن يصلوا إِلَى هذه الدرجة وإلى هذه المكانة، فهذا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل من يونس بن متى عليهما الصلاة والسلام.

ص: 1692

فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحد: إني خير من يونس بن متى) ليس فيه منع تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى يونس عليه السلام، وإنما الذي فيه النهي بأن أحداً لايجوز له أن يفضل نفسه عَلَى يونس عليه السلام، بأن يقول: إن يونس فعل ما يلام عليه، وأنا لم أفعل ما ألام عليه، ومع ذلك فإن يونس عليه السلام قد استغفر وتاب، وقَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] . وفي قوله هذا دليل عَلَى أنه فعل ما يلام عليه، كما خاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] .

وكان سبب لوم الله سبحانه وتعالى ليونس: أنه لما أمره أن ينذر قومه لم يصبر عَلَى أذاهم ولم يكن له العزم عَلَى مواجهتهم، وكذبوه إذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:140-142] ، فكان هذا الفعل سبباً للوم الله سبحانه وتعالى له، وهذا دليل عَلَى أنه لم يكن من أولي العزم الذين قال الله تَعَالَى فيهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فأولوا العزم أفضل من يونس عليه السلام، وأفضل من آدم عليه السلام، من هذه الناحية؛ لأن الله تَعَالَى قال في حقه وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115] فآدم عليه السلام أيضاً لم يكن لديه عزم، ولذلك وقع في معصية الأكل من الشجرة، لكن هل معنى هذا أنه يجوز لأحدٍ من النَّاس أن يقول: إنه فعل ما يلام عليه، وأنا أفضل منه، لأني لم أفعل ما ألام عليه؟ لا يجوز لأحد ذلك.

ص: 1693

أما قوله: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] يذكر المُصْنِّف أن هذه العبارة يقولها كل عباد الله، قالها آدم عليه السلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] معنى قوله ربنا ظلمنا أنفسنا، أي: إقرار منهما بالظلم، وأيضاً قد قالها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الاستفتاح (أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي) .

وقالها موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] ، ويقول المُصْنِّف رحمه الله إن الفخر محرم ومنهي عنه، ولا ينبغي للفاضل أن يفتخر عَلَى المفضول، فإذا كَانَ كذلك فمن باب أولى أن لا يفتخر المفضول عَلَى الفاضل!

وكيف يكون لأحدٍ من النَّاس كائناً من كَانَ في عبادته أو في ولايته أن يقول: إنه أفضل من يونس بن متى؟!

وقد تستغربون وتقولون: وهل يوجد أحد يقول: إنه أفضل من نبي من الأَنْبِيَاء؟!

نقول: نعم، هناك كثير من فرق وطوائف الصوفية يرون أن الولي أفضل من النبي فما بالكم بنبي الله يونس عليه السلام الذي ليس من أولي العزم! والذي ذكر الله سبحانه وتعالى عنه هذا الفعل ولامه عليه وقَالَ: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] يكون عندهم أقل بكثير جداً.

والخلاصة: أن الأرجح في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب) أنه ليس معناه من قَالَ: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس بن متى فقد كذب، لكن من قَالَ: أنا، أي: من قال عن نفسه ذلك: ويأتي هنا إشكال كما ذكر المُصْنِّف أخيراً وهو لو أن نبياً قال ذلك!!

ص: 1694

فنقول: لا يمكن أن يقول أي نبي إنه أفضل من يونس بن متى عَلَى سبيل الفخر والانتقاص ليونس بن متى عليه السلام، فإن القول الذي قاله يونس قاله كل الأَنْبِيَاء حتى نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الأَنْبِيَاء جميعاً.

قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

[وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأَنْبِيَاء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله "ولا فخر" كما جَاءَ في رواية (وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إِلَى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقى في بطن الحوت وهو مُليم؟!

وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب، فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إِلَى هذا الإستدلال لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل عَلَى نفي علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية عَلَى علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه التي تزيد عَلَى ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله (محيط بكل شيء وفوقه) ، إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.

الشرح:

يقول المُصْنِّف رحمه الله: يأتي إشكال وهو قوله صلى الله علهي وسلم: وقوله: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) مع القول بأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الفخر، وعن التفضيل، وأمر بالتواضع، والتفضيل حق وكونه صلى الله عليه وسلم أفضل الأَنْبِيَاء حق، وقوله صلى الله عليه وسلم:(أنا سيد ولد آدم) حق، فكيف نجمع بين هذا وهذا؟

ص: 1695

يقول: يكون الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم لا يُعلم فضله، ولا يُعلم تفضيله عَلَى الأَنْبِيَاء إلا بالوحي، والوحي يأتينا عن طريقه صلى الله عليه وسلم، فهو يُخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك، فهذا من قبيل الإخبار، وعليه توضحه رواية (ولا فخر) وإن كَانَ فيها ضعفاً.

فقوله: (ولا فخر) أي لم أقل إني سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى سبيل الفخر، فإن الفخر منهي عنه، والأمر والحال والشأن كما قال صلى الله عليه وسلم:(يا عباد الله تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد) فليس قوله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم) من الفخر، وإنما هو من قبيل الإخبار بالواقع وبالحقيقة الذي لا يمكن أن نعلمها إلا عن طريقه صلى الله عليه وسلم، فكما أخبر عن يَوْمَ القِيَامَةِ وما يكون فيها، ولا يعلم ذلك إلا بالخبر، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أنه سيد الناس، أي: أفضل النَّاس في ذلك الموقف.

وهذا يربط الكلام بما قلنا: في أول الحديث: إن يَوْمَ القِيَامَةِ أمر خاص وتفضيله صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاس فيه له خصوصية، ولهذا قَالَ:(أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) ، بينما لم يقل ذلك مطلقاً ولم يرد هذا اللفظ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه مطلقاً، وإن كَانَ هو حق في ذاته.

ويقول راداً عَلَى الشيخ الضال: كيف لا يكون هناك فرق بين النبي الذي أسري به مكرماً معززاً مقرباً، وبين الممتحن المؤدب الذي التقمه الحوت تأديباً وعقوبة من الله سبحانه وتعالى؟

فهذه من حذلقة الصوفية ومن إشارتهم التي يفسرون بها كتاب الله سبحانه وتعالى عَلَى ما يقتضيه الهوى لا عَلَى ما يقتضيه الدليل والنص الشرعي.

ص: 1696

تنبيه: قَالَ المُصْنِّفُ [قوله صلى الله عليه وسلم: (من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصبح نقصاً، فيكون كاذباً!!

وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، وكما مر بنا أنا نفضل النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى جميع الأَنْبِيَاء كما ثبت ذلك، لكنه هو صلى الله عليه وسلم لم يقل أو غيره من الأنبياء: إني أفضل من فلان من الأنبياء، لأنهم متأدبون صلوات الله وسلامه عليهم، ومثلما نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يفخر بعضنا عَلَى بعض، فإن الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم لا يفخر بعضهم عَلَى بعض، مع أن التفضيل بين المؤمنين حاصل، والتفضيل بين الأَنْبِيَاء حاصل، وهذا هو المراد بهذه العبارة، والله أعلم.

قال الإمام الطّّحاويّ رحمه الله:

[وكُلُّ دعوى النبوة بعده فغيٌّ وهوى] .

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

[لَمّا ثَبَتَ أنه خاتمُ النبيين، عُلِمَ أن مَنِ ادَّعَى بعدَه النبوةَ فهو كاذبٌ، ولا يُقَالَ: فلو جَاءَ المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة، كيف يُقال بتكذيبه؟ لأنا نقولُ: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأنَّ الله تَعَالَى لمَّا أخبرَ أنهُ خاتمُ النبيين، فَمِنَ المُحال؛ أن يأتي مُدّعٍ يدَّعي النبوة ولا تَظْهَرُ أمارةُ كذبه في دعواه.

والغيُّ: ضدُّ الرشاد، والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي: أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس، لا عن دليلٍ، فتكون باطلة] اهـ.

الشرح:

هذه الفقرة تكميل لما تقدم من فقرات تتعلق بإثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين، وقد تقدم شيء من ذلك، وتحدثنا عن بعض الفرق المخالفة في ذلك كالقاديانية والبهائية، كما أشرنا إِلَى غيرها من الفرق الضالة، وهذه الفقرة تكميل لما سبق.

كل من ادعى النبوة فهو غيِّ وهوى

ص: 1697

يقول الإمامالطّّحاويّ رحمه الله: [وكُلُّ دعوى النبوة بعده فغيٌّ وهوى] أي: كل من ادعى النبوة بعد مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فهو صاحب غيّ وهوى، ومعنى الغي: الضلالة، وصاحب الهوى: هو صاحب شهوة أو مطمع من مطامع الدنيا يريد أن يحققه بهذه الدعوة، وهذا ينطبق عَلَى الذين ادعوا النبوة بعده صلى الله عليه وسلم، أو شككوا في ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم كأمثال الصوفية والشيعة.

الولاية عند الصوفية

الصوفية يرون أن الولاية لا تنقطع، وهذا صحيح، ولكن للولاية عندهم مفهوم مخالف لما اجتمع عليه الْمُسْلِمُونَ وما يُعَرِّفه به أهل السنة، فمفهوم الولاية عندهم هو كما عبر عنه شاعرهم في قوله:

مقام النبوة في برزخ فويق الرَّسُولِ ودونَ الولي

فالنبي عندهم في برزخ، والولاية أعلى منه، فالولي أعلى من الرَّسُولِ عَلَى هذا القول، وخاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، حتى أنه يفهم من كلام ابن عربي في الفصوص والفتوحات أن خاتم الأولياء يكون لبنة من الذهب، كما جَاءَ في الحديث الذي تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(مثلي ومثل الأَنْبِيَاء قبلي كمثل: رجل بنى بناءً فأحسنه وكمله، ولم يبق منه إلا موضع لبنة، فكان النَّاس يمرون فيقولون: ما أجمل هذا البناء وما أكمله إلا هذا الموضع فكنت أنا تلك اللبنة) فـ ابن عربي يقول: إن هذه اللبنة، إن كانت لبنة ذهب فهي الولي، وإن كانت لبنة فضة فهي النبي!!

وحتى لو قلنا: إن مدلول كلامه أن النبي لبنة الذهب وأن الولي لبنة الفضة فهو أيضاً لم يخرج من دعوى أن النبوة لم تختم وأن الوحي لم ينقطع فَيَقُولُ: ابن عربي في كتابه فصوص الحكم إن النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء، بمعنى أن شريعته هي آخر الشرائع؛ فلا يأتي بعد مُحَمَّد نبي مشرع.

الفرق بين الولي والنبي عند الصوفية

ص: 1698

جعلت الصوفية الفارق الدقيق بين نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وبين ادعائهم نبوة أوليائهم أن الوحي لا ينقطع، فيقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أنزلت عليه شريعة، فهو نبي مشرع، وأما الأولياء فيأتيهم الوحي لأنفسهم فقط، فليس لديهم شرائع يدعون النَّاس إليها ويبلغونها للناس، والواقع أن هذا القول كذب؛ لأن أولياءهم يشرعون عبادات، وأذكار، وصلوات لم يشرعها الله تبارك وتعالى.

حكم من ادعى نزول الوحي على أحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم

إن دعوى نزول الوحي عَلَى أحد بعد مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كفر وردة، وتكذيب لما هو معلوم من الدين بالضرورة، يعلمه كل مسلم إلا من فتنه الله من هَؤُلاءِ الزنادقة الذين جمعوا بين الغيّ والهوى، فقد جمعوا بين الضلال في أنفسهم وبين الهوى الذي يريدون أنه يتمكنوا به، وأن تكون لهم السلطة عند الناس، وأن يحققوا المقام والمنزلة التي يزعمها النَّاس لهم.

فالصوفية، تقول: إن نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم نبوة تشريعية، وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأَنْبِيَاء أي أن: شريعته آخر الشرائع، ولا يعني هذا أن الوحي لا ينزل عَلَى أحد من بعده!!

ولهذا فإن ابن سبعين -وهو من طواغيتهم الكبار- ذهب وجاور بمكة فترات طويلة: وكان لا يصلي ولا يتنسك بما يتعبد به الْمُسْلِمُونَ في المناسك وإنما كَانَ يطوف بالكعبة.

ويذهب إِلَى غار حراء ويبيت فيه منتظراً نزول الوحي عليه نسأل الله السلامة والعافية، وابن عربي وابن سبعين من كبار الملاحدة الذين يتبعهم عامة الصوفية، ويبجلونهم، ويقدسونهم ويعتقدون أن الفتوحات المكية والفصوص وأمثالهما في درجة لا تقل في التقدير عن كلام الأَنْبِيَاء حقاً.

الفرق بين الرسول والنبي والإمام عند الشيعة

ص: 1699

أما بالنسبة للشيعة فمفهوم انقطاع الوحي عندهم يختلف عما هو عليه عند باقي الْمُسْلِمِينَ، تقول الشيعة كما جَاءَ ذلك في كتابهم الكافي: أن أحدهم سأل علياً الرضا عن الفرق بين النبي والرَّسُول والإمام، فقَالَ:

"إن الرَّسُول يأتيه الملك ويراه ويخاطبه ويسمع كلامه؛ ولكنه لا يرى حقيقته، وهذه الدرجة الأولى هي درجة الرسالة.

وأما النبي: فهو إما أن يسمع الكلام فلا يرى المتكلم، وإما أن يرى الملك ولكنه لا يسمع الكلام، وهذه هي الدرجة الثانية.

وأما الدرجة الثالثة فهي درجة الإمام، فهو يسمع الكلام ولكنه لا يرى الملك" هذا هو الفرق فقط.

ولهذا نقلوا عن جعفر الصادق ونسبوا إليه أن أحدهم قال له: "يا أبا عبد الله أليس الله أبرُّ وأرحمُ وأرأفُ من أن يأمر النَّاس بطاعة عبد من عبيده ولا يأتيه الخبر من السماء؟

فقال أبو عبد الله -كما يزعمون-: بل الله أرأفُ وأبرُّ وأرحمُ من أن يأمر عباده بطاعة عبد من عبيده ولا يأتيه الخبر من السماء صباحاً ومساءً"، فهم يعتقدون أن الإمام ما دام أنه واجب الطاعة، وأنه معصوم، فإذاً لا بد أن يأتيه الخبر من السماء، ولذلك فهم يعللون عصمة الإمام بأن الوحي يأتيه، ولا يمكن أن يتصرف أي تصرف إلا وهو موحى به من عند الله حقاً، فلا اعتراض عليه في أية حال من الأحوال، فهذه هي منزلة الوحي عند الشيعة، وهذه عقيدتهم في ذلك قديماً.

وكل هذا كذب، ولهذا نجد أن الأئمة الذين كتبوا عنهم نسبوا ذلك إليهم، فالإمام خُشيش بن أصرم الذي نقل الإمام الملطي كتابه في كتاب الفرق وكذلك الإمامأبو الحسن الأشعري في المقالات ذكروا ذلك عن طوائف من الشيعة، فهذه هي نظرتهم للوحي، ويرون أن أئمتهم معصومون يوحى إليهم.

ص: 1700

بل في الحقيقة أعظم من ذلك ففي كتاب الكافي للكليني وفي غيره ما يدل عَلَى أن الأئمة (آلهة) عند الشيعة، وكتابالكافي عندهم بمنزلة صحيح البُخَارِيّ عندنا، إلا أنهم يقدسون كلام الكافي وما فيه عن الأئمة تقديساً عظيماً، بحيث يرجعون إليه وكأنه القرآن، بل لا يفهمون القُرْآن إلا من خلال ما يجدون من كلام أئمتهم، وإن كانوا يقرؤون نفس القُرْآن هذا؛ لكنهم لا يفهمونه إلا من خلال ما يفسر به في الكافي، فهو عندهم بهذه القداسة والمنزلة فهم يجعلونه أبوباً في نفسالكافي مثل باب:" أن الأئمة يعلمون ما كَانَ وما سيكون" -والعياذ بالله- وغير ذلك من الأبواب أو المباحث، التي فيها من الغلو ما يرفع الأئمة إِلَى مستوى ومنزلة الإله، فهذا موجز ملخص لكلام الشيعة في الوحي.

ص: 1701

وبناءً عَلَى ذلك، فإن الصوفية والشيعة لا تريان انقطاع الوحي من السماء، وإن كَانَ كل منهما لا يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس خاتم الأنبياء، لكن مؤدى كلامهم، وصريح عبارتهم، أن الوحي لم ينقطع، وهذا ما يحدث فعلاً، فإن الجو الذي تسيطر عليه الصوفية والشيعة تهيء لأن يتنبأ فيها أي متنبئ، وأن يدعي أن جبريل ينزل عليه من السماء، ويأتي له بشرع جديد وهذا ما حصل عندما خرج أحمد القادياني فيالهند، وعندما خرج البهاء فيإيران والبهائية -كما هو معلوم- خرجت في وسط الشيعة وكان من الطبيعي أن يجد له أتباعاً كثيرين، وما تزال البهائية إلى الآن لها شأن كبير، وكذلك القاديانية؛ لأنها وجدت لها بيئات يدعي الأولياء فيها أن الوحي لم ينقطع ووضعوا لذلك الحجج والشبهات، وأن الله سبحانه وتعالى يرسل الملائكة فتخاطب من يشاء ومع هذا كله فإن الشيعة عندما قالوا هذا القول في الكافي ونسبوه إِلَى علي الرضا وهو أن الإمام يسمع كلام الملك ولا يراه، لم يكتفوا بذلك بل جَاءَ في كتبهم وعند متأخريهم -من الشيعة والصوفية أن بعضهم يرى الله عزوجل، وبعضهم يرى جبريل، وبعضهم يخاطبه الله وتخاطبه الملائكة.

ص: 1702

حتى إن واحداً منهم يسمى عبد الجبار النسري ألف كتاباً كبيراً اسمه المواقف والمخاطبات ومع الأسف أنه طبع الطبعة الأولى، ثُمَّ طبع وحقق عَلَى يد جماعة ممن يسمون بالعلماء، ويقول في كتابه: وقفت بين يدي الرب فَقَالَ لي! وقال لي!.. الخ، كذباً وافتراءً عَلَى الله تَعَالَى نسأل الله العافية، والله تبارك وتعالى يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثُمَّ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فجعل الله تبارك وتعالى القول عَلَى الله بغير علم في منزلة أعظم من الشرك به.

فالشرك أعظم من الفواحش والافتراء عَلَى الله أعظم من الشرك، ولا شك أن الذي يشرك بالله ويدعو غير الله، أو يعبده بأي شكل من أشكال العبادة، لكنه أقل شراً وضرراً عَلَى الإسلام والدين من الذي يزعم أن الوحي يأتيه من السماء، ويشرع للناس ويقول هذا من عند الله، وما هو من عند الله، فهذا هو حال هاتين الطائفتين ومن اتبعهما ممن يدعون الإسلام، أو من المخدوعين، أو الجاهلين.

قال الإمام الطّّحاويّ رحمه الله:

[وهو المبعوث إِلَى عامَّة الجِنِّ، وكافَّةِ الوَرَى، بالحقِّ والهُدَى، وبالنُّورِ والضِّياءِ]

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:

ص: 1703

[أما كونُه مبعوثاً إِلَى عامة الجن، فقد قال تَعَالَى حكايةً عن قَوْلِ الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] وكذا سُورَةُ الجن تَدُّلُ عَلَى أنه أُرسِل إليهم أيضاً، قال مُقَاِتل: لم يبعث الله رسولاً إِلَى الإنس والجن قبله، وهذا قولٌ بعيد، فقد قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم [الأنعام:130] الآية والرسلُ من الإنس فقط، وليس مِن الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيرُه من السلف والخلف.

وقالابنُ عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نُذُرٌ، وظاهرُ قوله تَعَالَى حكايةً عن الجن إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] الآية يدل عَلَى أن موسى مرسل إليهم أيضاً. والله أعلم.

وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زَعَمَ أن في الجن رسلاً، واحْتَجَّ بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها عَلَى ذلك نظر لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] والمراد: من أحدهما] اهـ.

الشرح:

انتقل المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إِلَى قضية أخرى وهي عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إِلَى الجن والإنس، فَيَقُولُ:[وهو المبعوث إِلَى عامة الجن، وكافة الورى بالحق، والهدى، وبالنور والضياء] ، ابتدأ الإمام ابن أبي العز الشرح بالكلام عن إرسال الرسل إِلَى الجن.

تقرير بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الجن

ص: 1704

وهذه حقيقة ثابتة كما جَاءَ في هذه الآية التي استدل بها قال الله تَعَالَى عن الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] وذلك حينما صرف الله سبحانه وتعالى النفر من الجن إِلَى النبي صلىالله عليه وسلم فسمعوه، كما تَحَدثت بذلك الآيات التي في آخر سورة الأحقاف، وذكر الإمامابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في تفسيره أحاديث كثيرة منها ما رواه البُخَارِيّ.

ومنها ما رواه مسلم.

ومنها ما رواه الإمام أَحْمَد من طرق عديدة تدل بمجموعها عَلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إِلَى الجن، وأنه أتاه صلى الله عليه وسلم داعي الجن، وأنه ذهب إليهم ليلة كما جَاءَ في إحدى الروايات عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ:(افتقدنا رَسُول الله صلىالله عليه وسلم ليلة وبحثنا عنه فلم نجده، فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة، فلما جَاءَ الصباح جَاءَ رَسُول الله صلىالله عليه وسلم فقلنا: يا رَسُول الله! إنا افتقدناك البارحة، فقلنا: استطير أو اغتيل، وإنا بتنا بشر ليلة فقَالَ: أتاني داعي الجن فذهبت إليهم فعلمتهم) ، وفيه أن النبي صلىالله عليه وسلم علمهم في هذه الليلة ما أراد الله تَعَالَى أن يعلمهم من الأحكام، ومرة قبل ذلك، وهي التي رواها الإمام أَحْمَد عن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وهي المرة الأولى، كما يترجح ذلك بمجموع الروايات كَانَ النبي صلىالله عليه وسلم بعد فراغه من الطائف لا يعلم عن الجن شيئاً بل كَانَ يقرأ القُرْآن والجن يستمعون إليه.

ص: 1705

وأما الرواية التي رواها عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فهي أكثر من ليلة، ويذهب النبي صلىالله عليه وسلم إليهم أو يأتيه داعيهم، وفي ليلة أخرى يصطحب النبي معه عبد الله بن مسعود ولا يستجيب من الصحابة إلا هو، فيضع له خطاً ثُمَّ يتقدم النبي صلىالله عليه وسلم فيقول عبد الله بن مسعود وهو يصف لنا -حسب اختلاف الروايات- وصفاً عجيباً أنه رأى الجن تتهافت مثل النسور، ثُمَّ لما انتهى النبي صلىالله عليه وسلم مما أراد الله أن يبلغهم إياه تفرقوا مثل السحب إذا تطايرت، وعاد كل منهم إِلَى بلاده، ثُمَّ أتى النبي صلىالله عليه وسلم وعاد إِلَى أصحابه، هذه الروايات بعضها رواها البُخَارِيّ وبعضها رواها مسلم.

بعض خصائص الجن

ومما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية عند البُخَارِيّ أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأعطاهم العظم، قَالَ:(إن لكم بكل عظم أن يكون كما لو كَانَ قبل أن يؤكل)، أي: أن أي عظم يجده الجن فإن لهم كحاله قبل أن يؤكل، (ولهم بكل روث أو بعرة كحالها قبل أن تؤكل) ولهذا نهينا أن نستنجي بالعظام وبالروث؛ لأنه طعام إخواننا من الجن الذي أعطاهم إياه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، ومن خصائصهم ما في قول الله تبارك وتعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] .

ص: 1706

فالجن أعطاهم الله تبارك وتعالى القدرة عَلَى التشكّل، ويرونا من حيث لا نراهم، فمن الممكن أن يكون من الجن من يجلس في مجالس الذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أو عند الصحابة، أو من بعدهم من العلماء، ثُمَّ يبلغ إخوانه الهدى والحق والذكر، إذاً فالبلاغ يصل الجن، والنبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم، لأنه صلى الله عليه وسلم رحمة الله للعالمين، وهم من ضمن العالمين الذين رحمهم الله تبارك وتعالى ببعثته هذه هي القضية الأولى، ولزيادة الفائدة ففي هذا الموضوع رسالة خاصة لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ولم يخالف في هذا أحد من الْمُسْلِمِينَ ولله الحمد.

هل رسل الجن من الإنس أو من الجن

القضية الثانية: ذكر المُصْنِّف هنا قول مُقاتِل وهو: أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث رسولاً إِلَى الإنس والجن قبله صلى الله عليه وسلم.

ص: 1707

والمراد من هذا ليس معناه أن الله لم يبعث إِلَى الإنس والجن رسولاً؛ ولكن المقصود عامة الجن والإنس قبله صلى الله عليه وسلم وهذا الكلام حق، فالله لم يبعث أحداً إِلَى الإنس عامة والجن عامة إلا محمداً صلى الله عليه وسلم ومقصود مقاتل رحمه الله الذي انتقد عليه: أن الله تبارك وتعالى لم يبعث رسولاً من الإنس إِلَى الإنس والجن معاً، وإن كَانَ قد بعث إِلَى قومه من الإنس، فيدعو قومه من الإنس، ويدعو معهم طائفة من الجن أو قوماً من الجن، وهذا مردود بقصة الجن الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في سورة الأحقاف: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:30] فهذا دليل عَلَى أن أُولَئِكَ النفر من الجن كانوا عَلَى دين موسى عليه السلام، أو كانوا يسمعون عَلَى الأقل وكذلك كَانَ أجدادهم من قبل عَلَى دين موسى عليه السلام.

ثُمَّ جَاءَ بعده هذا النبي فَقَالُوا: إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى قد يقول قائل لماذا قالوا: من بعد موسى مع أن الله سبحانه وتعالى قد بعث من بعد موسى أنبياء، كداود وسليمان وكذلك عيسى عليه السلام؟ الجواب -كما هو معلوم- أن شريعة داود وسليمان وعيسى عليهم السلام وكل أنبياء بني إسرائيل هي التوراة التي أنزلت عَلَى موسى، وأما الزبور والإنجيل فإنها مواعظ وحكم وعبر وفيها بعض تقييدات في أحكام الحلال والحرام، كما قال الله عز وجل عَلَى لسان عيسى بن مريم وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] .

ص: 1708

فأحل عيسى عليه السلام بوحي من الله عز وجل بعض ما كَانَ محرماً عَلَى بني إسرائيل في أحكام التوراة لكنه مكمل ومتمم ومصدق لما بين يديه من التوراة، ثُمَّ يأتي سؤال وهو هل رسل الجن من الجن أم من الإنس، اختلف العلماء في ذلك وقد نقل الإمام ابن أبي العز هنا كلام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأحقاف وكذلك هو منقول من تفسير الإمام مُحَمَّد بن جرير الطبري في آية الأنعام، وهي قول الله تبارك وتعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] .

1) مذهب ابن عباس ومجاهد وابن جريج رضي الله عنهم في هذه المسألة:

ذهب ابن عباس ومجاهد وابن جريج رضي الله عنهم إِلَى أن الله سبحانه وتعالى بعث من الإنس الرسل، ومن الجن النُذُر ومعنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يبعث رسله من الإنس فيسمعهم الجن كمثل الجن الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم فولوا إِلَى قومهم منذرين، فيكون النذر من الجن، والرسل من الإنس: وهذا الذي قال به ابن عباس ومجاهد وابن جريج وهو قول أكثر السلف، وقال بعضهم: -ولم أجده -ذكر ابن جرير عن الضحاك، فقد ورد أن الضحاك بن مزاحم سأله رجل: هل بعث الله تبارك وتعالى من الجن رسلاً؟ فتلا عليه الضحاك هذه الآية نفسها من سورة الأنعام: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] فاستدل بذلك الضحاك على أن الله سبحانه وتعالى يقول يَوْمَ القِيَامَةِ إذا سأل الجن والإنس: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] ففهم من ذلك أن الإنس تأتيهم الرسل من الإنس، وأن الجن تأتيهم الرسل من الجن.

ص: 1709

أما الحافظ ابن كثير - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فإنه أطلق القول، وقَالَ:"ولا شك أن الرسل من الإنس "، ومما استدل به وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء:7] ومن أقوى ما استدل به قول الله - تَعَالَى - في حق إبراهيم عليه السلام وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب [العنكبوت:27] فالله سبحانه وتعالى خص إبراهيم عليه السلام بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب، فالقول بأن بعد إبراهيم نبي من الجن ينافي هذا التكريم وهذا الاختصاص الذي اختص الله تبارك وتعالى به إبراهيم عليه السلام.

2) القول الراجح في هذه المسألة:

الذي يظهر أن الأمر ليس قوياً وقاطعاً بأن الله تبارك وتعالى لم يبعث من الجن رسلاً، وإنما هي وجهة نظر أقوى؛ لأن الذين قالوا بها منالسلف أكثر ونحن يسعنا ما وسعهم.

فلا يعني ذلك أنه ينفى عن الجن هذا الشيء، بل يحتاج نفيه أو إثباته إِلَى دليل خارج فهذا الذي يبدو، والله تَعَالَى أعلم.

لكن نظل نَحْنُ مع ما قاله ابن عباس ومجاهد وابن جريج كما هو ظاهر سورة الأحقاف أن الله يبعث الرسل من الإنس، وأن من الجن من يستمع ذلك الوحي فينذرون أقوامهم بذلك، وأما بقية الأحكام فليس هناك فرق ولا خلاف عَلَى الصحيح بين الإنس والجن، فهم يحاسبون يَوْمَ القِيَامَةِ، ويوقفون بين يدي الله تبارك وتعالى، كما في هذه الآية وغيرها.

الجن مثل الإنس في الثواب والعقاب

ص: 1710

إن الصالح من الإنس والجن يدخل الجنة، والطالح من الإنس والجن يدخل النار، هذا هو القول الراجح والصحيح، ومن قال بخلافه فإنه يعوزه الدليل عَلَى ذلك، وأما الآية الكريمة التي استدل بها ابن كثير وتبعه الإمامابن أبي العز رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في رد استدلال الضحاك لمَّا استدل بقوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] فقَالَ: إن الله سبحانه وتعالى يرسل الرسل من الإنس والجن، فقد رد عليه ابن كثير وتبعه الإمام ابن أبي العز: بأن هذا مثل قوله تبارك وتعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح لا من الماء العذب.

مسألة تتعلق بلغة العرب في التفسير

والعرب تستعمل في كلامها ما يدل عَلَى أنها إذا أرادت أن تخاطب المفرد تأتي بالكلام عَلَى صورة جمع وهي تريد الفرد، حتى يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: إن الإِنسَان إذا قَالَ: أكلت تمراً ولبناً، فإن ذلك صحيح في لغة العرب، لكن لو أفرده لا يصح أن يقول: أكلتُ لبناً، وإنما يقول: شربتُ لبناً، فهذا دليل عَلَى أن الأمر في حالة الاجتماع غيره في حالة الانفراد، وعليه فيكون المبعوثون من الإنس والجن، بينما يكون في الحقيقة والواقع لم يأت الرسل إلا من الإنس وحدهم، نقول: قد يترجح هذا القول، إلا أن هذه الآية يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] وإن كَانَ قد قال من قال من العلماء بأنه يخرج من أحدهما، إلا أن هذا القول غير صحيح من وجوه:

أولاً: أنه خلاف ظاهر اللفظ؛ لأن اللفظ يخرج منهما، فلا يعدل عن الظاهر إلا بدليل، وليس هناك من دليل إلا أن النَّاس لم يكونوا يستخرجون الزينة واللؤلؤ والمرجان من الأنهار والبحار العذبة، وإنما كانوا يستخرجونها من المالح.

ص: 1711

ثانياً: إن التنوين الموجود في قوله تعالى: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12] في كلٍّ يسمى تنوين العوض، أي: عوض عن كلمة، أي: ومن كل واحد من البحرين تأكلون لحماً طرياً، وتستخرجون حلية تلبسونها، إذا: ليس هناك احتمال!

فلماذا نقول: يخرج منهما، أي: من أحدهما؟ والله يقول: ومن كلٍ أي: من كل واحد من البحرين يخرج اللؤلؤ والمرجان، ولذلك أصبح النَّاس في العصر الحديث يستخرجون اللآلئ والحلي والزينة من المياةِ العذبة ومن الأنهار، كما أنها تستخرج من البحار، فمن قال بذلك من العلماء السابقين فإنما قال عَلَى اعتبار أنه في عصره لم يكن معروف لديهم هذا الاستخراج، فَقَالُوا: إذاً يستخرج من أحدهما فقط، لكن نعمة الله عز وجل وامتنانه سبحانه وتعالى لا تقتصر عَلَى عصر من العصور.

فالله تبارك وتعالى يمتن منة عامة قد يتحقق لبعض النَّاس منها شيء في وقت، ولا يتحقق لغيرهم شيء إلا في وقت آخر، وقد تتحقق بعض النعم لبعض النَّاس في بلد ولا تتحقق لهم في بلد آخر وهكذا..

وهذا هو الذي يترجح في هذه الآية، والله تبارك وتعالى أعلم.

قَالَ الإمامُ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ص: 1712

[وأما كونُه مبعوثاً إِلَى كافة الورى، فقد قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28] وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُُ إِنِّي رَسُول لُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158] وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] أي: وأُنْذِرُ مَنْ بِلَغَه، وقال تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:79] وقال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2]، وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] وقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20]، وقال صلى الله عليه وسلم:(أُعطِيتُ خَمْساً لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ مِنَ الأنبياءِ قَبْلي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الأرضُ مَسْجِداً وطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَدْركَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصلِّ. وأُحِلَّتْ ليَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تُحِلَّ لأحَدٍ قَبْلي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكانَ النبيُّ يُبعث إِلَى قَوْمِهِ خاصَة وَبُعثتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّة) أخرجاه في الصحيحين.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يَسْمَعُ بي رَجُلٌ من هذه الأمَّةِ يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) رواه مسلم، وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إِلَى النَّاس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة.

ص: 1713

وأما قول بعض النَّصارَى: إنه رَسُول إِلَى العرب خاصة، فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قَالَ: إنه رَسُول الله إِلَى النَّاس عامة، والرَّسُول لا يكذب، فلزم تصديقه حتماً، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إِلَى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس، وسائر ملوك الأطراف، يدعو إِلَى الإسلام] اهـ.

الشرح:

قد دلت الآيات الصريحة من كتاب الله تَعَالَى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مبعوث إِلَى النَّاس كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28]، ويقول تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُُ إِنِّي رَسُول لُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158] ويقول تبارك وتعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] وهذا يؤيده ويوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يَسْمَعُ بي رَجُلٌ من هذه الأمَّةِ يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) .

فالأمر يعود إِلَى شيء واحد وهو البلاغ، فمن سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دعوته، فلا عذر له عَلَى الإطلاق؛ لأنه لم يتبعه ولم يؤمن برسالته ويهتدي بهديه ويدخل في دينه، ولكن الذي لم تبلغه لدعوة، فله حكم أهل الفترة، وأمره إِلَى الله سبحانه وتعالى.

بعثته إلى الناس كافة معلوم من الدين بالضرورة

ص: 1714

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث إِلَى قومه خاصة وبعثت إِلَى الخلق عامة) فبعثه الله سبحانه وتعالى إِلَى الخلق عامة، وفي هذه القضية يقول الإمامابن أبي العز: وهذا معلوم من الدين بالضرورة، أي أن: عموم بعثته إِلَى جميع العالمين مسألة مجمع عليها بين الْمُسْلِمِينَ وهي معلومة من الدين بالضرورة، أي أن فيها المعرفة البديهية التي يجدها الإِنسَان في نفسه ضرورة دون حاجة إِلَى استدلال ولا بحث ولا نظر، فكل مسلم يعلم ضرورة من نفسه أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رَسُول الله إِلَى العالمين أجمعين، ولم يخالف فيها إلا طائفتان من غير الْمُسْلِمِينَ.

الطائفتان من غير المسلمين اللتان تخالفان في أن نبينا صلى الله علي وسلم بعث إلى العالمين

الطائفة الأولى: فرقة من اليهود يقال لهم العيسوية، ظهرت في أيام أبي جعفر المنصور وكانوا من يهود إيران أي (من يهود الفرس العجم) واليهود في هذه البلاد كثيرون، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(يتبع الدجال سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة) ، وما يزال اليهودفي هذه المدينة -مدينة أصبهان - ولهم فيها أكبر تجمع يهودي، وأصل وجود اليهودهناك، وهو أنه لما سلط الله سبحانه وتعالى عليهم بختنصر كما قال الله سبحانه وتعالى: عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَار [الإسراء:5] فهو الذي جاس خلال الديار، وأخذ بني إسرائيل وسباهم إِلَى أرض فارس، فتناسلوا هنالك، الشاهد أن هذه العيسوية قامت بثورة في أيام أبي جعفر المنصور، وَقَالُوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث إِلَى العالمين، وَقَالُوا: حتى لا نكذبه: هو مبعوث إِلَى العرب خاصة.

ص: 1715

وقال بهذا القول أيضاً بعض طوائف من النَّصَارَىقالوا: بعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم إِلَى العرب خاصة، وأما نَحْنُ فإننا عَلَى دين عيسى الذي بعث به إلينا، وهذا الكلام من أبطل الباطل، ومن أجلى الكذب وأوضحه، وهذا الكلام يدل عَلَى كذب قائله؛ لأنكم إن صدقتم أنه رَسُول يوحى إليه من عند الله، فهذا الرَّسُول لا يكذب، وهذا الرَّسُول قد قَالَ: إن الله أوحى إليه وحياً عاماً للعالمين، جَاءَ ذلك في القُرْآن الذي أنزله الله عليه، وفي سنته صلى الله عليه وسلم وسيرته حينما كتب إلى: ملوك الروم والفرس وكتب إِلَى جميع أطراف الأرض يبلغهم دعوته، فهذا دليل واضح عَلَى عموم رسالته، وأنتم قد أقررتم بنبوته، فكيف تدعون أنه كاذب؟ هذا كلام يناقض بعضه بعضا، وإما ألا تؤمنوا بنبوته صلى الله عليه وسلم أصلاً فيكون لنا معكم شأن آخر.

من أعجب ما يقوله النصارى أن محمداً مبعوث إلى العرب خاصة

من أعجب ما يقوله النَّصَارَى: إن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إِلَى العرب خاصة، مع أن في الأناجيل التي بين أيديهم الآن ويقرؤونها ويعتبرونها الكتاب المقدس أن عيسى عليه السلام جاءته امرأة وقالت: يا فلان! أريد أن تعلمني الدين الذي تدعو إليه فقَالَ: من أين أنتِ أيتها المرأة؟ قالت: فينيقية، -ليست من بني إسرائيل- فَقَالَ المسيح -كما يقولون: إنما بُعثتُ إِلَى خراف بني إسرائيل الضالة.

وهذا ما نص عليه القُرْآن وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيل [آل عمران:49] ، فالله سبحانه وتعالى قد حدد رسالة عيسى عليه السلام بأنها إِلَى بني إسرائيل.

ص: 1716

كما جَاءَ في هذا الحديث: (وكان النبي يبعث إِلَى قومه خاصة) ، فعيسى عليه السلام هو الذي بعث فعلاً إِلَى بني إسرائيل فقط، ولم يبعث إِلَى الروم، ولا إِلَى الفرس، ولا إِلَى العرب، إنما بعث إِلَى بنى إسرائيل، إذاً إذا أتانا نصارى من العرب، أومن الروم، أومن الفرس أومن نحوهم ويقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إِلَى العرب خاصة ونحن ندين بدين عيسى فإن هذا هو العجب، وهذه هي المغالطة، وهذا هو قلب الحقائق، بل يقال لهم: أنتم الذين تدينون بدين لم يبعث إليكم رسوله، وإنما بعثه الله إِلَى بني إسرائيل.

أما الذي بعث إليكم وإلى العالمين جميعاً فهذا هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، الذي أخذ الله تبارك وتعالى العهد عَلَى الأَنْبِيَاء وليس عليكم فقط أن يؤمنوا به قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81] ، فأخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق عَلَى الأَنْبِيَاء أن يؤمنوا بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه، فكيف تدعون أنتم أنكم من أتباع موسى أو عيسى وتكذبون بنبوته صلى الله عليه وسلم وتكفرون بها؟! أو تقولون كما قالت هذه الطائفة أو هذه الشرذمة: إن نبوته خاصة بالعرب؟! هذا كلام من المحال ومن الباطل والكذب.

ذكر الخلاف في إعراب كافة

قَالَ المُصْنِّفُ رحمه الله:

[وقوله: وكافَّةِ الورى. في جر (كَافَّة) نظر، فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالا، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] عَلَى ثلاثة أقوال:

ص: 1717

أحدُها: أنها حالٌ مِن (الكاف) في (أرسلناك) وهي اسمُ فاعل، والتاءُ فيها للمبالغة، أي: إلا كافَّاً للناسِ عنِ الباطل، وقيل: هي مصدر (كَفَّ)، فهي بمعنى (كفّاً) أي: إلا أن تَكُفَ النَّاس كفّاً، ووقوع المصدر حالاً كثيرٌ.

الثاني: أنها حالٌ من النَّاس واعْتُرِضَ بأن حال المجرور لا يَتَقدَّمُ عليه عند الجمهور، وأُجِيبَ بأنه قد جَاءَ عن العرب كثيراً فوجب قَبُولُه، وهو اختيارُ ابنِ مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة.

الثالث: أنها صفةٌ لمصدر محذوف، أي: رسالةً كافَّة، واعْتُرِض بما تَقَدَّم أنها لم تُسْتَعمَلْ إلا حالاً.

وقوله: [بالحق والهدى، وبالنور والضياء] هذه أوصافُ ما جَاءَ به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم من الدِّينِ والشرع المؤيَّدِ بالبراهين الباهرة من القُرْآن وسائر الأدلة. والضياءُ: أكمل من النور، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس:5]] اهـ.

الشرح:

قال الإمام الطّّحاويّ رحمه الله: [وهو المبعوث إِلَى عامة الجن، وكافة الورى] ينقده المُصْنِّف رحمه الله من حيث اللغة، فنحن لا نقول: إِلَى كافِةِ الورى، والصحيح أن لم نقل الواجب أن نقول: إِلَى الورى كافةً، فكلمة كافَّة لا تستعمل إلا حالاً، ومعناها: الكل والجمع، فلا تأتِ إلا حالاً دائماً، فلا تُجر ولا تُرفع ولا تُنصب أو نحو ذلك، وأما قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس [سبأ:28] فقد اختلف في إعرابها، فقيل إنها حال من الكاف في "أرسلناك" لأن الحال لابد أن يكون حالاً من الفاعل، أو من المفعول به، أو حال من متعلق في الفاعل أو المفعول به.

وذهب بعضهم إِلَى أن كلمة كافة تتعلق بالكاف أي: وما أرسلناك إلا كافة للناس، فأنت الكافة للناس، أي: الكاف لهم والتاء للمبالغة، كما يقال في (علامَّة)، و (فهَّامة) أي: رجل كثير العلم والفهم، وهذا قول ضعيف.

ص: 1718

والثاني: أنها حال من النَّاس في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس [سبأ:28] واعترض عليه بأنها تقدمت، وأن الحال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، والصواب: أن ذلك جائز وهو الذي رجحه الإمام ابن مالك وهذه الآية دليل له، فيقول إن معنى قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس [سبأ:28] أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة، فهي حال من النَّاس المجرور والله تبارك وتعالى أعلم.

القول الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف وهذا قول مرجوح وضعيف؛ لأنها -كما قلنا سابقاً- ولا تكون إلا حالاً.

ص: 1719