المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثاني المرجئة المرجئة واحدة من الفرق الإسلامية التي اشتهرت بقولها في - الإيمان بين السلف والمتكلمين

[أحمد بن عطية الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: مذهب السلف في الإيمان

- ‌الفصل الأول: في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌الفصل الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الرابعمذهب السلف في مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الخامسالاستثناء في الإيمان

- ‌الباب الثاني: مذاهب المتكلمين في الإيمان

- ‌الفصل الأول: الخوارج

- ‌الفصل الثانيالمرجئة

- ‌الفصل الرابعالجهمية

- ‌الفصل الخامسالكرامية

-

- ‌الفصل السادس: المعتزلة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند المعتزلة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعحكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة

-

- ‌الفصل السابع:الأشاعرة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثمذهب الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعرأي الأشاعرة في مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث الخامسالاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌الباب الثالث: موقف السلف من أراء مذاهب المتكلمين

- ‌الفصل الأول: موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثاني: موقف السلف من آراء المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الثالثموقف السلف من المتكلمين في حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الرابعموقف السلفمن المتكلمين في مسألة الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌ ‌الفصل الثاني المرجئة المرجئة واحدة من الفرق الإسلامية التي اشتهرت بقولها في

‌الفصل الثاني

المرجئة

المرجئة واحدة من الفرق الإسلامية التي اشتهرت بقولها في الإيمان ومخالفتها لما عليه السلف في هذا الموضوع. وقبل البدء في بيان مقالاتهم أرى من المناسب أن أذكر معنى الإرجاء، وسبب تسمية هذه الفرقة بالمرجئة فأقول وبالله التوفيق:

جاء في القاموس: أرجأ الأمر: أخَّره، وترك الهمز لغة. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} 1. أي مؤخرون حتى يُنزِل الله فيهم ما يريد ومنه سُمِّيت المرجئة2.

وقال الشهرستاني: الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير، كما في قوله تعالى:{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} 3 أي أمهله وأخِّره. والثاني: إعطاء الرجاء.

أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد.

وأما بالمعنى الثاني فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضرّ مع الإيمان

1 التوبة: 106.

2 الفيروز أبادي، مجد الدين، القاموس المحيط، ج1 ص16، مصر، مطبعة السعادة، بدون تاريخ.

3 الأعراف: 111.

ص: 85

معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقضى عليه بحكم ((ما)) في الدنيا، من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار، فعلى هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان1.

فالشهرستاني يرى أن المرجئة إنما لزمهم هذا اللقب لأمرين:

أحدهما: تأخيرهم العمل عن النية والقصد.

وثانيهما: إعطاؤهم المؤمن العاصي الرجاء في عفو الله، بإرجائهم العمل عن الاعتبار في مجال الإيمان، لأن المهم عندهم هو العقد القلبي.

وذكر إرجاءً آخر لا ضير فيه، وهو تأخير حكم العاصي إلى يوم القيامة ليكون تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له دون جزم بأحد الأمرين.

هذا وقد درج أهل السنة على تسمية كل من أخَّر العمل عن الركنية في الإيمان مرجئاً وكذلك فعل بعض مؤرخي الفرق. فقد حصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أصناف المرجئة ـ في نظره ـ بقوله: " والمرجئة ثلاثة أصناف، الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة. كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه 2، وقد ذكر فرقاً كثيرة يطول ذكرها، لكن ذكرنا جمل أقوالهم ومنهم من لا يدخلها كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا هو الذي نصره هو وأكثر أصحابه. والقول الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يُعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب، وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم3 يعني أبا حنيفة وأصحابه.

1 الشهرستاني، محمد عبد الكريم، الملل والنحل بتحقيق محمد سيد كيلاني، ج1 ص139، مصر، مطبعة الحلبي سنة 1387هـ ـ 1967م.

2 مقالات الإسلاميين، ج1 ص213-223.

3 ابن تيمية، المصدر المذكور آنفاً ص163.

ص: 86

وهنا نجد ابن تيمية يعدُّ الكرامية، والجهمية، والأحناف، من المرجئة موافقاً بذلك أبا الحسن الأشعري، الذي عدهم مرجئة، كما أشار ابن تيمية إلى ذلك. غير أن ابن تيمية يجعل الأشعري وأصحابه مرجئة أيضاً مناصرة لمذهب جهم في الإيمان الذي يعتبره السلف من أفسد الآراء، وأكثرها شذوذاً.

على أن ابن حزم الأندلسي قد سبق ابن تيمية في عده الأشاعرة من المرجئة وشنَّع عليهم ولذلك موضعه، وإنما ذكرته هنا استيفاءً لكل من وُصِف بالإرجاء من الفرق الإسلامية، وسأفرد لكلٍّ من هذه الفرق فصلاً مستقلاً أستعرض فيه آراءها في الإيمان، أما هذا الفصل فسأقتصر فيه على بحث مقالات المرجئة الخالصة وبالله التوفيق.

مقالات المرجئة في الإيمان

ذكر الشهرستاني مقالات ست طوائف من المرجئة الخالصة، ناسباً كل طائفة منها إلى مؤسسها الأول، ونحن نوردها نقلاً عنه على سبيل الاختصار.

الأولى: اليونسية، أصحاب يونس بن عون النميري، وقد زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله، والخضوع له، وترك الاستكبار عليه، والمحبة بالقلب. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن، وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان.

الثانية: العبيدية، أصحاب عبيد المكتئب، حكي عنه أنه قال: ما دون الشرك مغفور لا محالة، وأن العبد إذا مات على توحيده لا يضرّه ما اقترف من الآثام، واجترح من السيئات.

ص: 87

الثالثة: الغسّانية، أصحاب غسّان الكوفي، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى، وبرسوله، والإقرار بما أنزل الله، وبما جاء به الرسول في الجملة دون التفصيل، وقال: الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

الرابعة: الثوبانية، أصحاب أبي ثوبان المرجئ، الذين زعموا أن الإيمان هو المعرفة، والإقرار بالله تعالى، وبرسله عليهم الصلاة والسلام، وأخَّروا العمل كله عن الإيمان.

الخامسة: التومنية، أصحاب أبي معاذ التومني، زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر، وهو اسم لخصال، إذا تركها العبد، أو ترك خصلة منها كفر، وهي: المعرفة، والتصديق، والمحبة، والإخلاص، والإقرار بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: وكل معصية لم يُجمع عليها المسلمون بأنه كفر، لا يقال لصاحبها فاسق، ولكن يقال فسق وعصى.

السادسة: الصالحية، أصحاب صالح بن عمر. قال: إن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق وهو أن للعالم صانعاً فقط، والكفر هو الجهل به على الإطلاق، ومعرفة الله هي المحبة والخضوع له، ولا عبادة لله إلا الإيمان به، وهو معرفته 1.

وأما الإمام أبو الحسن الأشعري، فيبلغ بالمرجئة في كتابه مقالات الإسلاميين إلى اثنتي عشرة فرقة فيعدُّ منهم:

1 ـ الجهمية، أتباع الجهم بن صفوان الترمذي، الذين يزعمون أن الإيمان هو معرفة القلب، وأنه لا يتبعض، ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكون إلا في القلب دون الجوارح.

2 ـ النجارية، أتباع الحسين بن محمد النجار، وهؤلاء برون أن الناس يتفاضلون في إيمانهم، ويكون بعضهم أكثر تصديقاً من بعض، وأن الإيمان يزيد ولا ينقص.

1 الشهرستاني، المصدر المذكور آنفاً ص141-145.

ص: 88

3 ـ الغيلانية، أصحاب غيلان، يزعمون أن الإيمان المعرفة الثانية بالله، والمحبة، والخضوع، والإقرار بما جاء به الرسول، وبما جاء به من عند الله، وأما المعرفة الأولى فهي اضطرار، فلذلك لم يجعلها من الإيمان.

4 ـ أصحاب محمد بن شبيب، ويذهبون إلى أن الإيمان هو الإقرار بالله والمعرفة بأنبيائه ورسله، وبجميع ما جاءت به من عند الله، مما نص عليه المسلمون، ونقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله فيه.

5 ـ أبو حنفية وأصحابه، يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله، وبالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفصيل.

6 ـ الكرامية، أتباع محمد بن كرام، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار، والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن تكون معرفة القلب أو شيئ غير التصديق باللسان إيماناً.

ومما تقدم نتبين أن أبا الحسن الأشعري خالف الشهرستاني في تعداد الفرق التي توصف بالمرجئة حيث عد أبا حنيفة وأصحابه من جملتهم وسنرى ما إذا كان هذا القول له وجه من الصحة عند كلامنا عن أبي حنيفة فيما بعد إن شاء الله.

كما أن الأشعري ذكر هنا فرقتين عدَّهما من المرجئة وهما النجارية أتباع الحسين بن محمد النجار، وأصحاب محمد بن شبيب. وفي عدِّهم من المرجئة الخالصة نظر، حيث ذكر عنهم قولهم بتفاضل الناس في الإيمان، وهذا ما لم يقله المرجئة الخالصة. وقد تقدم أن المرجئة الخالصة مبدؤها الذي تتميز به قولهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، كما أنهم يقولون بأنه لا تفاضل في الإيمان بين أهله كما سيأتي فيما بعد.

ومما يدل على أن هاتين الفرقتين ليستا من المرجئة الخالصة أن الشهرستاني لم يتعرَّض لذكرهما عند كلامه عن المرجئة الخالصة.كما أن

ص: 89

البغدادي جزم بإخراج النجارية عن فرق المرجئة الخالصة وعقد لها فصلاً خاصاً ذكر رأيها الذي تجتمع عليه في الإيمان وهو عين ما ذكره الأشعري1. وما ذكره الشهرستاني وذكر بعضه الأشعري من مقالات المرجئة قد يظن الشخص لتعددها أنها مختلفة، فيتساءل كيف يمكن أن يُجمَعوا تحت اسم واحد مع اختلاف أقوالهم؟ ونحن نقول أنه مهما يكن من تعدد طوائف المرجئة، فإن أقوالهم متقاربة ويكادون يُجمِعون على أن العمل ليس ركناً في الإيمان ولا داخلاً في مفهومه، كما أن المبدأ العام الذي يجمعهم هو ما اشتهر عنهم من قولهم: " إنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة " 2. فهؤلاء هم المرجئة الخالصة، وهذه هي مقالتهم المشتهرة عنهم، كما يقول التفتازاني أيضاً في ((شرح المقاصد)) :" وإنما المرجئة الخالصة الباطلة، هم الذين يحكمون بأن صاحب الكبيرة لا يُعذَّب أصلاً، وإنما العذاب والنار للكفار، وهذا تفريط، كما أن قول الوعيدية إفراط، والتفويض إلى الله تعالى وسط بينهما "3.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هؤلاء المرجئة يتفقون مع الخوارج والمعتزلة والجهمية في مذهبهم القائل بأنه لا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى. وبناء على هذا الأصل قال غلاة المرجئة: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار، مقابلة للخوارج والمعتزلة القائلين بأنهم يدخلون النار، ولا يخرجون منها، لأن من دخلها عندهم يخلد فيها 4.

1 البغدادي، عبد القاهر بن طاهر التميمي، الفَرق بين الفِرق، بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ص202، القاهرة، مطبعة المدني.

2 السفاريني، محمد بن أحمد الأثري الحنبلي، لوامع الأنوار البهية، ج1 ص42 طبع حكومة قطر، وانظر: الرفع والتكميل للكنوي، بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص30، 31،149،164، وتأنيب الخطيب للكوثري، ص31، ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني، ص471.

3 التفتازاني، سعد بن مسعود بن عمر، شرح المقاصد، ج2 ص175، طبع سنة 1277هـ.

4 انظر: ابن تيمية، المصدر المذكرو آنفاً ص301.

ص: 90

ويحكي الشهرستاني عن بعضهم أنه كان يقول: لو قال قائل: أعلم أن الله عز وجل، قد حرم أكل الخنزير، ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه الله هذه الشاة أم غيرها، كان مؤمناً. ولو قال: أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند، كان مؤمناً 1.

وقد ذكر الآجري في كتاب الشريعة عن المرجئة قولهم: " إن من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وإن البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً، والفاجر يكونان سواء"2. وقال الآجري أيضاً (ص146) : " احذروا رحمكم الله قول من يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل ومن يقول: أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن مستكمل الإيمان، هذا كله مذهب أهل الأرجاء ".

وقال سفيان الثوري: " خالفنا المرجئة في ثلاث، نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل. ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص. ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله "3.

هذا عرض لما ذكره مؤرخو الفرق من آراء المرجئة ويتلخص لنا منه أن المرجئة قالت:

1 ـ إن العمل ليس ركناً في الإيمان.

2 ـ إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، إلا ما ذكرنا من خلاف فرقتي النجارية، وأصحاب محمد بن شبيب في هذا الأصل والذي بناءً عليه أخرجناهم من جملة المرجئة الخالصة.

1 الشهرستاني، المصدر السابق ص141.

2 الآجري، محمد بن الحسين، كتاب الشريعة، بتحقيق محمد حامد الفقي ص147، ط1، مطبعة السنة المحمدية سنة1369هـ.

3 البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود، شرح السنة، بتحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش،ج1 ص41.

ص: 91

3 ـ إن مرتكب الكبيرة في الجنة دون سابقة عذاب، لأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

4 ـ إن الاستثناء في الإيمان غير جائز.

هذه هي خلاصة مقالات المرجئة في الإيمان كما ذكرها مؤرخو الفرق ومحررو العقيدة من العلماء.

لكننا نقول: هل المرجئة أخذت هذه الأقوال مذهباً دون أن تسندها بدليل. طبعاً لا. فالمرجئة كغيرها من الفرق الإسلامية استدلَّت بالوحي الإلهي الذي هو مصدر العقيدة، وفسرته على حسب هواها.

وكل يدَّعي وصلاً لِليلى

وليلى لا تُقِرُّ لهم بِذاكا

1 ـ أما قولهم بعدم ركنية العلم في الإيمان فاستدلوا عليه بمثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 1، ففرقوا بين الإيمان والعمل، ورأوا أن الله تبارك تعالى خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} 3.

وقالوا: لو أن رجلاً آمن بالله ورسوله ضحوة، ومات قبل أن يجب عليه شيئ من الأعمال مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة. فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان4.

هذه هي أدلة المرجئة على قولهم بعدم ركنية العمل، وعدم اعتباره في مجال الإيمان.

1 البقرة: 25.

2 المائدة:6.

3 الجمعة: 9.

4 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص162.

ص: 92

2 ـ أما دعواهم عدم زيادة الإيمان ونقصه فقد استدلوا لذلك بأن الإيمان شيئ واحد لا تعدد فيه، فلا يتعدد إلى اثنين أو ثلاثة فإنه إذا كان ذا عدد أمكن ذهاب بعضه، وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئاً واحداً، ولذلك لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه.

3 ـ وأما قولهم بأن المعاصي غير ضارة مع الإيمان، وأن العاصي مصيره إلى الجنة قطعاً وابتداءً، فقد استدلوا عليه بظاهر حديث " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ". فهذا الحديث هو مناط استدلالهم على هذه الدعوى، وبه يتشبثون لإسناد رأيهم هذا.

4 ـ أما قولهم بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، فهم يقولون: إن الإيمان لا يكون إلا عن جزم لا يعتوره الشك، ولا الشبهة، والاستثناء دليل على أن المستثنى شاك في إيمانه لم يُعدّ مؤمناً فلا بد من الجزم في الإيمان.

تلك هي مقالات المرجئة في الإيمان، وهذه هي أدلتهم، وسنرى موقف السلف منهم ومن مذاهبهم وأدلتهم فيما بعد إن شاء الله.

ص: 93

الفصل الثالث

أبو حنيفة والإرجاء

عرفنا فيما تقدم المرجئة وما ذهبوا إليه في الإيمان، وفي هذا الفصل نناقش مسألة خطيرة، برزت على مسرح البحث والمناقشة بين العلماء، بين مؤيد ومعارض. وهذه المسألة هي ما ذكر من اتهام أبي حنيفة بالإرجاء، وأن مذهبه في الإيمان هو عين مذهبهم. وأبو حنيفة رحمه الله أحد الأئمة الأربعة وصاحب أتباع كثيرين، يتشبثون بمذهبه، وينتصرون له. وكما أنه قدوة لهم، فهو قدوة لنا أيضاً، وله مكانته في قلوب المسلمين جميعاً، لأنه إمام عظيم، خدم الدين بإخلاص، وبذل جهداً جباراً ـ كغيره من الأئمة الأعلام ـ في سبيل إبراز تشريعاته العملية والعقدية، والذَّب عن حياضها، وإيصالها إلينا نقية صافية من شوائب البدع والخرافات التي حاول مروجوها إدخالها في الدين، وإضافة ما ليس منه إليه.

لذلك كان لزاماً علينا أن ندفع عنه كل تهمة توجه إليه، ما دامت ليس لها أساس من الصحة، آخذين بعين الاعتبار بشريته، وأنه كغيره من العلماء، عرضة للخطأ، والعصمة إنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى. وأبو حنيفة رضي الله عنه، يسرّه أن يُصحح خطؤه إذا أخطأ، وفق ما هو موجود في كتاب الله وسنة رسوله اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها "، وقال عليه الصلام:" تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله، وسنتي "، إذ إنه رحمه الله إمام ملتزم بهما ويدعو إلى ذلك.

ص: 94

وأبو حنيفة رضي الله عنه سلفي العقيدة ولا ريب، إلا أن هناك مسألة عقدية تعرَّض للنقد فيها من جانب أئمة السلف، وعلمائهم، وهي قوله في الإيمان، الذي لأجله رُميَ بالإرجاء.

رأي أبي حنيفة في حقيقة الإيمان:

وقبل أن أذكر وجهة نظر الناقدين له يحسن بي أن أبين رأي الإمام أبي حنيفة في الإيمان أولاً، فأقول وبالله التوفيق:

إن أبا حنيفة رضي الله عنه قد اشتهر عنه قوله بأن الإيمان عبارة عن أمرين لا ثالث لهما، تصديق بالقلب، وإقرار باللسان.

قال رحمه الله في ((الوصية)) 1: الإيمان إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، والإقرار لا يكون وحده إيماناً، لأنه لو كان إيماناً لكان المنافقون كلهم مؤمنين. وكذلك المعرفة وحدها لا تكون إيماناً، لأنها لو كانت إيماناً لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين. قال تعالى في حق المنافقين:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2، وقال تعالى في حق أهل الكتاب:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} 3.

قال شارح الفقه الأكبر ـ بعد سَوْقِه لما تقدم ـ ضمن شرحه: والمعنى أن مجرد معرفة أهل الكتاب بالله ورسوله لا ينفعهم4، حيث ما أقروا بنبوة

1 وصية الإمام أبي حنيفة، ص1، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي، ضمن المكتبة السليمانية باستانبول، رقم 1296. وانظر: الفقه الأكبر مع شرحه لعلي القاري، ص85، ط مطبعة الحلبي، مصر سنة 1375هـ.

2 المنافقون:1.

3 الأنعام:20.

4 هناك فارق بين التصور الإسلامي للألوهية، وبين تصور أهل الكتاب للألوهية، الذي ينطوي على الشرك أحياناً، وعلى التجسيد، ومشابهة المخلوقات أحياناً أخرى، ثم القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، هو رأي قلة من منصفيهم، مع أنه رأي باطل أيضاً.

ص: 95

محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورسالته إليهم وإلى الخلق كافة، فإنهم كانوا يزعمون أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، فإقرارهم بهذا الطريق لا يكون خالصاً. ثم التصديق ركن حسن لِعَينِه، لا يحتمل السقوط في حال من الأحوال بخلاف الإقرار فإنه شرط أو شطر، وركن حسن لغيره، ولهذا يسقط في حال الإكراه وحصول العذر، وهذا لأن اللسان ترجمان الجنان، فيكون دليل التصديق وجوداً وعدماً، فإذا بدله بغيره في وقت يكون متمكناً من إظهاره كان كافراً، وأما إذا زال تمكنه من الإظهار بالإكراه، لم يصِرْ كافراً، لأن سبب الخوف على نفسه دليل ظاهر، على بقاء التصديق في قلبه، وأن الحامل على هذا التبديل، حاجته إلى دفع المهلكة عن نفسه، لا تبديل الاعتقاد في حقه، كما أشار إليه قوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} 1. فأما تبديله في وقت تمكنه، فإنه دليل على تبديل اعتقاده، فكان ركن الإيمان وجوداً وعدماً 2.

فإذاً أبو حنيفة رحمه الله يجعل الإيمان مركَّباً من جزئين، أحدهما: أصلي ثابت، لا يحتمل السقوط أبداً، وهو التصديق، وثانهما: يمكن سقوطه، والتجاوز عنه لوجود ملابسات تمنع من الوفاء به، وهو الإقرار.

ويزيدنا إيضاحاً وتأكيداً لما تقدم، ما ذكره رحمه الله في كتاب ((العالم والمتعلم)) ، حيث قال: والناس في التصديق على (ثلاثة) 3 منازل: فمنهم من يصدق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه. ومنهم من يصدق بلسانه، ويكذب بقلبه. ومنهم من يصدق بقلبه، ويكذب بلسانه4.

1 النحل: 106.

2 ملا علي بن سلطان القاري، شرح الفقه الأكبر، ص85، 86، ط طبعة الحلبي، مصر سنة 1375هـ.

3 هكذا في الأصل المطبوع، والصحيح: ثلاث منازل.

4 أبو حنيفة، العالم والمتعلم، تحقيق محمد رواس، وعبد الوهاب الندوي، ص52، ط1 مطبعة البلاغة، حلب سنة 1392هـ،

ص: 96

فهذه ثلاث مراتب للناس في مسألة التصديق، ذكرها وأصدر حكمه على كل طائفة منها بعد ذلك فقال:" من صدق بالله، وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه، فهو عند الله وعند الناس مؤمن. ومن صدق بلسانه وكذب بقلبه كان عند الله كافراً وعند الناس مؤمناً، لأن الناس لا يعلمون ما في قلبه، وعليهم أن يُسمُّوه مؤمناً بما ظهر لهم من الإقرار بهذه الشهادة، وليس لهم أن يتكلَّفوا علم ما في القلوب. ومنهم من يكون عند الله مؤمناً، وعند الناس كافراً،وذلك بأن الرجل يكون مؤمنا بالله، وبما جاء من عنده، ويُظهر الكفر بلسانه في حال التُّقية، أي في حال الإكراه، فيسمِّيه من لا يعرف أنه يتقي كافراً، وهو عند الله مؤمن "1.

ومن مجموع ما تقدم ذكره من النصوص يتبين لنا أن مذهب أبي حنيفة في الإيمان عبارة عن أمرين: إقرار، وتصديق، كما صرح هو بذلك، فيما قدمنا، وكما ذكر عنه أصحابه في كتبهم. إلا أن التصديق عنده، له مكانة ليست للإقرار، إذ التصديق أرسخ، لا يمكن زواله بحال، فلا يزول إلا بالكفر. أما الركن الآخر فيمكن سقوطه وزواله، مع بقاء الإنسان مؤمناً بذلك التصديق القلبي، وكما في حال العذر والإكراه على إظهار ضده، فيمتثل تقية من عدوٍّ أو نحوه. وقد استدل على ما ذهب إليه من أن الإيمان عبارة عن التصديق والإقرار بما يأتي:

أما على أنه تصديق فاستدل بعين أدلة الأشاعرة على ذلك من الآيات التي أضافت الإيمان إلى القلب من مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} 2، وقوله سبحانه:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم} 3، وغيرها مما سنذكره عند بيان مذهبهم إن شاء الله.

أما جعل الإقرار ركناً آخر في الإيمان فاستدل له بدليل عقلي وهو أن اللسان ترجمان الجنان، فيكون دليل التصديق وجوداً وعدماً، بمعنى أن

1 المصدر السابق.

2 المجادلة:22.

3 الحجرات:14.

ص: 97

التصديق أمر خفي يوجد في قرارة قلب المؤمن، ولا يمكننا اكتشاف وجوده، والإطلاع عليه إلا إذا وُجد الإقرار اللساني، الذي يدلنا على وجوده، كما أن عدم وجود الإقرار اللساني يدل بدوره على انتفاء التصديق، وعدم وجوده في القلب، فهما ركنان متلازمان في الوجود. هذا ما ذهب إليه أبو حنفية نفسه.

أما أصحابه:

فقد ذهب جماعة منهم أبو منصور الماتريدي إلى أن الإيمان هو التصديق فقط، وأن الإقرار إنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية عليه، وليس هو داخلاً في الإيمان، كما ذكر ذلك عنه أبو المعين النسفي في ((بحر الكلام)) 1.

وقد وجدت في رسالة في العقائد على مذهبه ما يوافق أبا حنيفة فيما ذهب إليه من ركنية الإقرار2.

وقد ذكر شارح الفقه الأكبر أيضاً أن جمهوراً من المحققين ذهبوا إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، لما كان تصديق القلب أمراً باطناً، لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه، ولم يُقرّ بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى، وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا، ومن أقرَّ بلسانه، ولم يصدق بقلبه كالمنافق فهو بالعكس. 3

كما ذكر ذلك الشيخ كمال الدين محمد بن محمد القدسي في كتابه

1 انظر: بحر الكلام لأبي المعين النسفي، ص20، مخطوط بمكتبة علي باشا ضمن المكتبة السليمانية، استانبول رقم 1571.

2 رسالة في العقائد على مذهب أبي منصور الماتريدي، مجهولة المؤلف، ص5، مخطوطة بمكتبة ((لا له لي)) ضمن المكتبة السليمانية، استانبول رقم 2240.

3 انظر: شرح الفقه الأكبر لعلي القاري، ص86-87، ط مطبعة الحلبي، مصر سنة 1375هـ.

ص: 98

((المسايرة بشرح المسامرة)) وعزاه إلى أبي البركات عبد الله بن محمد بن محمود النسفي من الأحناف كما ذكر أن هذا القول هو بعينه المختار عند الأشاعرة 1.

فإذاً يوجد من أصحاب أبي حنيفة من خالفه في ركنية الإقرار واختار رأي الأشاعرة من أن التصديق كافٍ في الإيمان، وإنما الإقرار شرط لإجراء أحكام الدنيا عليه، من الصلاة خلفه وعليه ودفنه في مقابر المسلمين، وعصمة الدم والمال، ونكاح المسلمة ونحو ذلك من الأحكام.

أما أبو حنيفة فهو ـ كما تقدم ـ قد أخذ الأمرين جميعاً، أعني التصديق والإقرار وجعلهما ركني الإيمان.

والفرق بين الرأيين:

إن أبا حنيفة ومن ذهب مذهبه يرون أن الإقرار ركن أصلي في الإيمان إذا كان الإنسان قادراً على الوفاء به فلا عذر، ولا اعتبار لتصديقه أبداً إذا لم يُقرّ بلسانه، وإنما يُعتبر تصديقه القلبي كافياً إذا لم يستطع الإقرار لعذر كما تقدم بيانه.

أما الرأي الآخر الذي قال به بعض أصحابه من أن الإقرار شرط لا شطر، فإنه يعتبر التصديق كافياً في اعتبار الإيمان عند الله تعالى، إذا أخلَّ المؤمن بشرط الإقرار، وإنما الإقرار يُعتبر بياناً ودليلاً على ما وَقَرَ في قلبه من إيمان يحملنا، بل ويحتم علينا معاملته كما يعامل بقية المسلمين، فيجب الإتيان بالإقرار لهذا الغرض فحسب.

أما العمل:

فلم يجعله أبو حنيفة من أركان الإيمان، وجعله مغايراً له، كما قال رحمه الله في ((الوصية)) : " والإيمان غير العمل، والعمل غير الإيمان.

1 المسايرة بشرح المسامرة، ص333-334، ط مطبعة السعادة، مصر، بدون تاريخ.

ص: 99

بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن، ولا يصح أن يقال ارتفع الإيمان عنه، فإن الخائض والنفساء يرفع الله تعالى عنهما الصلاة والصوم، ولا يصح أن يقال: يَرفع عنهما الإيمان، أو أمَرهما بترك الإيمان، وقد قال عليه السلام:" دعي الصوم في أيام أقرائك ثم اقضيه ". ولا يصح أن يقال: دعي الإيمان ثم اقضيه. ويجوز أن يقال: ليس على الفقير الزكاة، ولا يجوز أن يقال: ليس على الفقير الإيمان " 1.

كما استدل رحمه الله على المغايرة بين الإيمان والعمل، بالآيات التي تعطف العمل على الإيمان، من مثل قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2ونحوها3 مما استدل به من قال بالمغايرة بين الأمرين.

والإسلام عنده: هو الأعمال التي هي غير الإيمان، لكنه وإن جعل الإسلام غير الإيمان في المعنى، إلا أنه جعل بينهما تلازماً قوياً، بحيث لا يمكن وجود أحدهما دون وجود الآخر، وفي ذلك قوله:" والإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى، ففي طريق اللغة فرق بين الإيمان والإسلام، ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام، ولا إسلام بلا إيمان، فهما كالظهر مع البطن، والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها"4.

فهو رحمه الله وإن فرَّق بين الإيمان والإسلام، وجعل هذا غير ذلك من الناحية اللغوية، وكذلك الحقيقة الشرعية.

ـ كما يدل على ذلك حديث جبريل المشهور ـ إلا أنه جعل بينهما

1 وصية الإمام أبي حنيفة، ص2، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي ضمن المكتبة السليمانية، استانبول، رقم 1296.

2 الرعد: 29.

3 انظر: كتاب العالم والمتعلم، بتحقيق محمد رواس، وعبد الوهاب الندوي، ص49، ط مطبعة البلاغة، حلب، سنة 1392هـ.

4 الفقه الأكبر مع شرح لعلي القاري، ص89-90، ط مطبعة الحلبي، مصر، سنة 1375هـ.

ص: 100

تلازماً في الوجود، إذ لا يمكن أن يوجد إيمان صحيح إلا ومعه إسلام، كنتيجة حتمية، كما أن الإسلام المعتبر لا بد له من إيمان يصححه. وهذا الرأي ـ كما عرفنا ـ هو الرأي الثالث من آراء السلف في هذه المسألة، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لاجتماع الأدلة عليه، كما بينا ذلك في موضعه.

رأي أبي حنيفة في زيادة الإيمان ونقصه:

أما عن رأيه رحمه الله في زيادة الإيمان ونقصه، فقد أجمعت المصادر التي تحكي رأيه في هذه المسألة على أنه قد ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقد صرَّح هو بذلك فيما وصلنا من كتبه، وفيما يلي نورد بعض النصوص من كتبه لإيضاح مذهبه هذا.

فقد قال رحمه الله في كتاب ((الوصية)) : " والإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر، ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حال واحدة مؤمناً وكافراً، والمؤمن مؤمن حقاً، والكافر كافر حقاً، وليس في الإيمان شك، كما أنه ليس في الكفر شك "1.

ومن النص المتقدم نرى أن أبا حنيفة استدل على عدم زيادة الإيمان ونقصانه، بأن زيادة الإيمان لا يتصور إلا بنقصان الكفر، ونقصانه لا يتصور إلا بزيادة الكفر، واجتماعهما في ذات واحدة في حال واحدة محال، وهذا لأن الكفر ضد الإيمان، وهو تكذيب وجحود، فالإنسان إما مؤمن أو كافر.

ويقول رحمه الله في ((الفقه الأكبر)) : "

وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص، والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، متفاضلون في الأعمال " 2.

1 وصية أبي حنيفة، ص1، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي ضمن المكتبة السليمانية، استانبول، رقم 1296.

2 الفقه الأكبر مع شرح علي القاري له، ص87.

ص: 101

ويقول رحمه الله عن إيمان الملائكة: " وقد علمت أنهم كانوا أطوع منا، وقد حدّثتك أن الإيمان غير العمل، فإيماننا مثل إيمانهم، لأننا صدَّقنا من وحدانية الله، وربوبيته، وقدرته، وبما جاء من عنده، بمثل ما أقرَّت به الملائكة، لأننا آمنا بكل شيئ آمنت به الملائكة، مما عاينته الملائكة من عجائب آيات الله، ولم نعاينه نحن "1.

فمما تقدم يتجلَّى لنا مذهب أبي حنيفة القائل بأن الإيمان الذي هو التصديق لا يزيد ولا ينقص، والكل متساوون فيه، غير أن التفاضل بين الناس والملائكة والأنبياء حاصل من جهة الأعمال، وتقدم لنا بيان دليله، الذي هو من الغموض بمكان.

وبما أن هذا المذهب غير ملائم لما ورد في النصوص من تصريح بزيادة الإيمان ونقصه، وبما هو معروف في العقل وسليم المنطق من أن الناس لا يمكن أن يتساووا مع أنبيائهم في الإيمان سواء كان تصديقاً فحسب على رأي أبي حنيفة، أو تصديقاً وعملاً كما يراه السلف. كما أنهم لا يمكن أن يكونوا في الإيمان مع الملائكة الذين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} سواء، بل لا يمكن أن يتصور استواء إيمان العالم والجاهل {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فقد حاول أصحابه، ومؤيدوه توجيه رأيه على نمط لا يتعارض في نظرهم مع النصوص المعارضة له، ومع العقل والمنطق.

ومن ذلك ما قاله شارح الفقه الأكبر: من أن مراد أبي حنيفة لا يزيد ولا ينقص أي من جهة المؤمن به نفسه، لأن التصديق إذا لم يكن على وجه التحقيق يكون في مرتبة الظن والتردد، والظن غير مفيد في مقام الاعتقاد، قال تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا} 2. فالتحقيق أن الإيمان ـ كما قال الإمام الرازي ـ لا يقبل الزيادة والنقصان من حيثية أصل التصديق، لا من جهة اليقين، فإن مراتب أهلها مختلفة في كمال الدين، كما أشار إليه سبحانه

1 العالم والمتعلم لأبي حنيفة، ص58.

2 يونس: 36.

ص: 102

بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 1 فإن مرتبة عين اليقين، فوق مرتبة علم اليقين، وكذا ورد " ليس الخبر كالمعاينة " وإن قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت إلا يقيناً، يعني أصل اليقين، لمطابقة علم اليقين في ذلك الحين، وهو لا ينافي زيادة اليقين عند الرؤية، كما هو مُشاهَد لمن له علم بالكعبة في الغيبة، ثم حصل له المشاهدة في عالم الحضرة، وعلى هذا فالمراد بالزيادة والنقصان القوة والضعف، فإن التصديق بطلوع الشمس أقوى من التصديق بدحوث العالم، وإن كانا متساويين في أصل تصديق المؤمن به.

ونحن نعلم قطعاً أن إيمان آحاد الأمة، ليس كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، باعتبار هذا التحقيق وهذا معنى ما ورد: لو وُزن إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإيمان جميع المؤمنين لرجح إيمانه، يعني لرجحان إيقانه، ووقار جنانه، وثبات اتقانه، وتحقيق عرفانه، لا من جهة ثمرات الإيمان، من زيادات الإحسان، لتفاوت أفراد الإنسان من أهل الإيمان في كثرة الطاعات وقلة العصيان، وعكسه في مرتبة النقصان مع بقاء أصل وصف الإيمان في حق كلٍّ منهما بنعت الإيقان، فالخلاف لفظي بين أرباب العرفان2 اهـ.

ويتلخص توجيهه لكلام أبي حنيفة في أن المراد بالإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص هو أقصى درجات اليقين، الذي ليس بعده إلا الشك، فهو الذي يتساوى فيه الناس وهو الذي لا يزيد ولا ينقص، أو أن المراد لا يزيد ولا ينقص باعتبار الشيئ المؤمَن به. وقد أجابوا عن الآيات المصرِّحة بالزيادة مثل قوله تعالى:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا} أن معناها زادتهم إيقاناً، لأن اليقين درجات، أو أن ذلك مؤول بأن المراد زيادة الإيمان بزيادة نزول المؤمَن به أي القرآن 3.

1 البقرة: 260.

2 علي القاري، شرح الفقه الأكبر، ص87، ط مطبعة الحلبي، مصر، سنة 1375هـ ـ 1955م.

3 المصدر نفسه.

ص: 103

كما ذكر شارح وصية ابي حنيفة أن ذلك إنما هو في حق الصحابة رضي الله عنهم، لأن القرآن كان ينزل في كل وقت فيؤمنون به، فيكون زيادة على الأول، وأما في حقنا فلا، لانقطاع الوحي 1.

وقد ذهب بعضهم في الجمع بين رأي أبي حنيفة هذا وبين الآيات المصرحة بزيادة الإيمان إلى القول بأن الزيادة محمولة على الزيادة في ثمرات الإيمان بالأعمال الصالحة فتكون الزيادة في كمال الإيمان لا في أصله 2. ولا يخفى أن هذا الرأي الأخير لا يتفق مع رأي أبي حنيفة الذي يجعل العمل مغايراً للإيمان، وثمرة الشيئ تحمل اسمه، ولم يقلْ أبو حنيفة أن الأعمال إيمان. وعلى كل حال، فهذه التأويلات، والمحاولة للتوفيق لرأي أبي حنيفة مع ما خالفه من صريح النصوص القرآنية، والحديثية التي تنطق صراحة وبدون أدنى شبهة بالزيادة في الإيمان فيها تكلُّف وعنت، لا ينبغي للعلماء أن يطرقوه، وهم يعلمون عدم ملاءمته، من أجل تبرير خطأ أحد الأئمة وقد عُرِف عنه الالتزام بالنص والحثِّ على الالتزام به، واتباع تعاليمه، والضرب برأيه عرض الحائط إذا خالفه.

رأيه في مرتكب الكبيرة:

أما عن مرتكب الكبيرة فمذهب أبي حنيفة فيه، هو عين مذهب السلف، إذ جعله تحت المشيئة بين الخوف والرجاء، مما حدا بشارح العقيدة الطحاوية أن يعتبر الخلاف بينه وبين السلف، فيما سبق تقريره في حقيقة الإيمان خلافاً لفظياً، حيث قال: " والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوَريّ، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب

1 الجوهرة المنيفة شرح وصية أبي حنيفة لحسين السكندري، ص5، مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم288.

2 انظر: شرح عقائد الطحاوي لأكمل الدين الباباراني، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي، استانبول، غير مرقمة الصفحات. وشرح المقاصد للتفتازاني، ج2 ص262.

ص: 104

الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد " 1.

وبهذا القدر نكتفي في بيان مذهب الإمام أبي حنيفة في الإيمان، الذي نلخصه في النقاط التالية:

1 ـ أن الإيمان تصديق وإقرار، والعمل خارج عنه ومغاير له.

2 ـ ملازمة الإسلام للإيمان مع افتراق مفهوميهما.

3 ـ أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأهله متساوون فيه.

4 ـ أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، مع بقاء إيمانه. وإن عذبه فإنه لا يخلده في النار.

أبو حنيفة ومذهب الإرجاء:

وبعد، فقد رمى جماعة من العلماء أبا حنيفة بالإرجاء، وعدوه من جملة المرجئة. ومن هؤلاء العلماء الذين وجّهوا هذا الاتهام إلى الإمام أبي حنيفة، شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب ((الإيمان)) 2، والإمام أبو الحسن الأشعري في ((المقالات)) 3. وقد برّروا موقفهم هذا من أبي حنيفة بأنه جعل الإيمان تصديقاً وإقراراً فقط، وأخّر العمل عن الركنية فيه. وأبو الحسن الأشعري يقول بأنه جعله معرفة وإقراراً. فإذا كان أبو حنيفة قد أخر العمل عن الركنية في الإيمان، ولم يجعله جزءاً منه، وقال: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والناس فيه سواء، وهذا بعينه ما ذهبت إليه المرجئة فأبو حنيفة لهذا مرجئ، هذا ما قاله من اتهم أبا حنيفة بالإرجاء.

1 شرح العقيدة الطحاوية، ص312، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.

2 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص163، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.

3 انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري، ج1 ص219، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط2 سنة 1389هـ.

ص: 105

ولكني أقول: إن تأخير العمل عن الركنية في الإيمان، قد قال به أبو حنيفة ولا ريب وهو أحد أنواع الإرجاء وأبو حنيفة بهذا المعنى، وهو ما يُسمِّيه أصحابه، ومن ذهب مذهبه إرجاء السنة، أي أن السنة تدل عليه، فلا ضير فيه على رأيهم.

لكن الإرجاء الذي عُرف بالذم بين جميع الطوائف الإسلامية هوما تقدم تقريره من أنه إعطاء العاصي الرجاء، وإطماعه في عفو الله، بجعله في حل مما يقول وما يفعل، وذلك لقول أصحابه:" لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ". وأبو حنيفة وإن خالف السلف بتأخيره العمل عن الركنية في الإيمان فإنه لم يدْعُ برأيه هذا أرباب الشهوات، لإشباع شهواتهم، وتحقيق رغباتهم، باللعب بالمحظورات، وانتهاك أستار الشريعة الإسلامية الغرّاء. كما فعل المرجئة الذين رفعوا اللوم عن العصاة وفتحوا لهم الطريق إلى هتك محارم الله، دون خشية من عقاب الله تعالى، إذ أن الإنسان في حل مما يفعل، فلا تثريب عليه أبداً إذا هو اتصف بالإيمان، الذي هو عبارة عن التصديق عندهم فحسب. وأبو حنيفة، حاشاه أن يقول بهذا القول، أو يقف ذلك الموقف. فلا يجوز لنا أن نَصِفه بالإرجاء المطلق، لأن الإرجاء الذي يتبادر إلى الذهن، هو ذلك القول الذي لا يقول به مسلم أبداً.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن أبا حنيفة قال بخلاف ما قال به السلف حيث جعلوا العمل ركناً في الإيمان، أما أبو حنيفة فأخره عن الركنية، لكنه لم يهمله كما أهمله المرجئة. فنحن نعلم جميعاً أنه رحمه الله إمام جليل برع وبرز في مجال تقرير التشريعات العملية، ومذهبه في الفقه الإسلامي يُعتبر أوسع المذاهب فقد أفنى عمره في سبيل بيان الواجب والمحرم، والمستحب والمباح. وفي هذا المجال يقول الشهرستاني مدافعاً عن أبي حنيفة: "

كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه مرجئة السنة، وعدَّه كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة ولعلَّ السبب فيه أنه لما كان يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان والرجل مع تخريجه في العمل، كيف يفتي بترك

ص: 106

العمل ". فوصفه بالإرجاء مطلقاً غير لائق ـ إذ أن قوله يختلف عن قول المرجئة ومنهجه مغاير لمنهجهم الإباحي، كما أسلفنا بيان ذلك.

وأما قوله بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فهذا مخالف لما عليه السلف أيضاً من زيادة الإيمان ونقصه، وما ذكر من تأويلات لهذا القول فيها تكلف لا يطاق، فلا يسعنا إلا أن نقول: رحم الله أبا حنيفة وغفر له، فقد قال هنا بما يخالف كتاب الله وسنة رسوله مع جزمنا بأن ذلك كان من غير قصد منه للمخالفة، بل اجتهاده في فهم مدلولات النص أداه إلى هذا. ومعلوم من منهجه رحمه الله كما علمنا من منهج أمثاله من الأئمة، أنه لا يتعصب لرأيه في حال اكتشاف خطئه، فالجميع كما قال الإمام مالك رحمه الله:" ما منا إلا رادّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ـ مشيراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

على أن هناك خبراً ذكره شارح العقيدة الطحاوية فيه ما يدل على رجوع أبي حنيفة عن رأيه في الإيمان إلى رأي السلف رحمهم الله حيث قال: وقد حكى الطحاوي حكاية عن أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: أيّ الإسلام أفضل

الخ. قال له: " ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل "، قال:" الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ " فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه:" ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ " قال: " بما أجيبه وهو يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ص: 107