الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
موقف السلف
من المتكلمين في مسألة الاستثناء
تقدم لنا أن المتكلمين في الاستثناء على رأيين، فرأي يحرم الاستثناء كلية وهم المرجئة والأحناف.
ورأي آخر يحرمه باعتبار، ويجيزه باعتبار آخر، وهم الأشاعرة. فيحرمونه باعتبار الحال، ويجيزونه باعتبار المآل.
أما المرجئة فإن السلف أنكروا صحة مذهبهم، لأنهم بنوا تحريم الاستثناء على أساس أن الإيمان هو التصديق القلبي فقط، والاستثناء فيه لا يكون إلا عن شك فلا يجوز. وقد أثبتوا أنه تصديق وعمل، والاستثناء إذا كان عن شك، وأحس الإنسان ذلك من نفسه فإن السلف يوافقونهم على تحريمه، أما أن يحرم كلية بالاستناد إلى دعوى لم تصح وهي أن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي فحسب فإن ذلك غير صحيح. والإيمان وإن كان مقطوعاً به فإن السلف يرون جواز الاستثناء فيما هو مقطوع به لورود الاستثناء في أمور مقطوع بها كما تقدم بيانه عند مذهب السلف من مثل قوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} .
أما عن الأشاعرة فقد حرموا الاستثناء في الحال لأنه أمر مقطوع به، والسلف أجابوهم بجواز الاستثناء في ما هو مقطوع به كما تقدم. أما جواز الاستثناء باعتبار الموافاة، فإن السلف في تجويزهم الاستثاء لم يجوزوه بهذا
الاعتبار، بل جوزوه باعتبار أن الأعمال جزء منه كما تقدم أيضاً، والأعمال لا يستطيع الإنسان أن يجزم باستكمالها فيعلق الإيمان بهذا الاعتبار. وفي بيان مخالفة مأخذ الأشاعرة في جواز الاستثناء في الإيمان لما عليه السلف يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم أكثر المتأخرين الذين نصروا قول جهم يقولون بالاستثناء في الإيمان، ويقولون: الإيمان في الشرع: ما يوافي به العبد ربه وإن كان في اللغة أعم من ذلك، فجعلوا في مسألة الاستثناء مسمى الإيمان ما ادعوا أنه مسماه في الشرع وعدلوا عن اللغة، فهلا فعلوا هذا في الأعمال، ودلالة الشرع على أن الأعمال الواجبة من تمام الإيمان لا تحصى كثرة، بخلاف دلالته على أنه لا يسمى إيماناً، إلا ما مات الرجل عليه، فإنه ليس في الشرع ما يدل على هذا، وهو قول محدث، لم يقله أحد من السلف، لكن هؤلاء ظنوا أن الذين استثنوا في الإيمان من السلف كان هذا مأخذهم.
وعلى كل حال، فالسلف لا يجوزون الاستثناء في الإيمان عن شك فيه، فالإنسان يستثني في إيمانه إذا سئل عنه قاصداً تجنب تزكية نفسه بادعاء استكمال الإيمان، لأنه عبارة عن تصديق قلبي وأعمال، والأعمال لا يستطيع الإنسان ادعاء استكماله لها، وإلا فإن الإنسان قاطع بتصديقه القلبي. غير أن الاستثناء ورد في النصوص فيما هو مقطوع به أيضاً، وتحريم الاستثناء كلية بدعوى أنه شك لا يصح، لأن ذلك إذا صح فإن معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شاكاً حين قال في تسليمه على الموتى: "
…
إنا إن شاء الله بكم لاحقون "، وهذا ما لا يقوله مسلم. فالاستثناء جائز باعتبار الأعمال، لا في الاعتقاد القلبي، ولا في القول اللساني. وكما تقدم فإن السلف يكرهون الجواب عن سؤال أمؤمن أنت بالإطلاق لأن فيه ادعاء استكمال الإيمان وتزكية للنفس، وهذا ادعاء غير لائق وتزكية لا تجوز لقوله تعالى:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} كما أن السلف كرهوا إيراد مثل هذا السؤال أصلاً.
ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص120-121.
خاتمة البحث:
أما بعد، فقد تبين لنا من خلال دراستنا لمذهب السلف ومذاهب المتكلمين أن منهج السلف في إثبات العقيدة هو المنهج السليم، الذي يجب أن يتبع، لذلك فإن آراءهم في الإيمان هي التي تتماشى مع واقع هذا الدين، وغرضه الذي أتى من أجله، من تحقيق للعبودية الكاملة لله تبارك وتعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . فآراؤهم التي عرضناها في مواضعها، بمقارنتها مع آراء المتكلمين تقريراً واستدلالاً، مطابقة لما قرره الوحي الإلهي، وأرشد إليه.
فالصحيح الذي يجب أن يقال هو أن الإيمان تصديق بالقلب،وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، فحقيقة الإيمان مركبة من هذه الأمور الثلاثة، والوحي الإلهي الذي نزل ببيان العقيدة الصافية دل على ذلك. ثم أن هذا القول هو الذي يحقق الهدف المنشود من وراء التشريعات العملية والعقدية، التي حث الله تبارك وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على التمسك بها وتطبيقها في حياة هذه الأمة، لتكون بحق خير أمة أخرجت للناس والدين الإسلامي الحنيف كما سبق أن قلت دين عمل وجد ومثابرة وطموح، يطلب من أتباعه أن يكونوا رهباناً بالليل وأسوداً بالنهار لتتحقق بذلك العزة والرفعة والغلبة لهذا الدين وأهله. هذا الدين الذي كان خاتمة الأديان، فكان خير دين ارتضاه الله تبارك وتعالى لخير أمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} . وكيف نكون جديرين بهذه المكانة السامقة بين الأمم إذا نحن تقاعسنا عن الأخذ بالأسباب التي تصل بنا إليها، واكتفينا من صفة الإيمان بما احتواه القلب فقط، جاعلين العمل أمراً ثانوياُ خارجاً عن نطاق الإيمان.
أما عن الصلة بين الإيمان والإسلام فقد توصلنا إلى أنهما يفترقان من حيث الحقيقة الشرعية لكل منهما متلازمان في الوجود، لدلالة حديث جبريل، وحديث وفد عبد القيس على هذا المعنى، وأن القول بالتلازم في الوجود حتى لكأنهما شيئ واحد هو الذي تجتمع عليه النصوص الدالة على
الافتراق والاتحاد، مع ملاحظة أن كليهما مراد من أجل كمال الإيمان لأن الإنسان المسلم إذا قصر في الأعمال التي هي الإسلام فإن هذا التقصير يؤدي إلى نقصان إيمانه لأن الأعمال من الإيمان، فلا يخلو المسلم من إيمان به يصبح إسلامه، ولا إسلام به يصبح إيمانه، فهما متلازمان كتلازم الروح والجسد.
وتوصلنا أيضاً إلى أن المذهب الحق الذي لا يدل الوحي إلا عليه دون سواه هو أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وهذا المذهب أيضاً كما عرفنا هو الذي يجب أن يعتقد لانسجامه مع النصوص القرآنية والحديثية الواردة في هذا الشأن. ثم إن الغرض المنشود من هذا الدين لا يتحقق إلا بهذا الرأي، لأن فيه مجالاً للتسابق من أجل الوصول إلى الكمال الذي يحقق للمسلم درجة أسمى في الدنيا والآخرة، فإذا عرف الإنسان المسلم أن إيمانه فيه نقص مالم يعمل بجميع ما طلب منه العمل به، ويكف عن جميع ما طلب منه الكف عنه، فإنه يتحرك بالعمل الجاد ويتحرى الابتعاد عن المعاصي، ليحقق بذلك أكبر قدر ممكن من الكمال الديني الذي يكون سبباً في نجاته من النار، ودخوله الجنة.
وتوصلنا أيضاً إلى أن الحق الذي يجب أن يتبع هو القول بأن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، وهو يوم القيامة تحت المشيئة بين الخوف والرجاء، فإن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه ابتداءً، ثم إن عُذب فإن لا يخلد في النار، بل يخرج منها بعد أن يجازى فيها بقدر ذنوبه، ويدخل الجنة. وهذا الرأي أيضاً هو الذي يتماشى مع الوحي الإلهي، أما ما سواه فإن فيه إجحافاً وتطرفاً ما أنزل الله به من سلطان، وفيه من المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة.
أما عن مسألة الاستثناء فقد توصلنا إلى جواز الاستثناء وجواز تركه والاستثناء أولى، لأن فيه بعداً عن ادعاء ما لا نستطيع الجزم بتحققه وهو كمال الإيمان، وفيه موافقة للنصوص الواردة بالاستثناء في الأمور المقطوع