الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: موقف السلف من آراء المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه
…
الفصل الثاني
موقف السلف من مذهب المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه
تقدم لنا أن أغلب المتكلمين ذهبوا إلى القول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص سواء منهم من جعله شيئاً واحداً أو جعله مركباً من شيئين فأكثر، ما عدا المعتزلة كما مر بيان ذلك في موضعه، إذ أنهم ذهبوا إلى أن الإيمان يزيد وينقص من جهة التكاليف فقط، أما الزيادة والنقصان التي قصدها السلف فلم يذهب إليها المعتزلة. لذلك فإنهم يدخلون في جملة المتكلمين الذين قالوا بعدم زيادة الإيمان ونقصه، وكذلك من الأشاعرة كما تقدم من قال إن الإيمان هو التصديق فقط، ومع ذلك قال بزيادة الإيمان ولم يقولوا كما قال السلف أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية لأن الاعمال عندهم ليست إيماناً وهؤلاء يكفي في نقاشهم ما تقدم من أدلة على دخول العمل في الإيمان فيكون الإيمان يزيد وينقص من جهة العمل، وتأتي زيادة التصديق انعكاساً للمحافظة على الأعمال، ونقصانه نتيجة للتقصير فيها.
وعلى كل حال فجميع من قال من المتكلمين بعدم زيادة الإيمان ونقصه، فإن السلف رحمهم الله تعالى، وقفوا موقف المنكر لهذا المذهب، والمشنع عليه، لأن فيه مخالفة صريحة وواضحة لنصوص الكتاب والسنة.
وإذ قد ثبت فيما تقدم فساد رأيهم في إخراج العمل عن الإيمان، فإن ذلك أيضاً يلزم منه فساد رأيهم في قولهم بعدم زيادة الإيمان ونقصه، لأن
الإيمان إذا كان عبارة عن التصديق والأعمال، والأعمال يتفاوت الناس في الإتيان بها، فيلزم من ذلك تفاضلهم في الإيمان وعدم تساويهم فيه.
كما أن النصوص المصرحة بالزيادة في الإيمان، لا يسع أحداً إنكارها أو تأويلها بما لا يتفق مع مقاصد التشريع.
فقد استهلَّ الإمام البخاري رحمه الله كتاب الإيمان من صحيحه بإيراد النصوص القرآنية المصحرة بلفظ الزيادة في الإيمان، حيث قال رحمه الله: وهو قول وفعل ويزيد وينقص، قال الله تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ثم ذكر ثماني آيات تنطق صراحة بزيادة الإيمان، فأي دليل بعد هذا الدليل وهل من اللائق أن نسلك طريقاً غير طريق القرآن، وأن نؤول هذه النصوص بما لا تحتمل، كما فعل أصحاب أبي حنيفة، إذ أوَّلوها بزيادة المؤمن به، وأن ذلك انتهى بانتهاء نزول الوحي. وأنه إنما كان في حق الصحابة، فأي دليل على هذا التخصيص، ثم إن النقصان لازم لما يقبل الزيادة دون جدال.
وقد تقدم ذكر الأوجه التي بها يزيد الإيمان، والنص هو المآل أولاً وآخراً فما دام القرآن نطق بزيادة الإيمان فليس مع القرآن رأي، وما دام العقل لا يستسيغ التسوية بين المجرم والولي، فضلاً عن أن الشرع لا يقر ذلك، فكيف لنا أن نحكم بالتسوية بينهما.
وعلى كل حال، فقد ثبت أن الأعمال من الإيمان والأعمال مما يتفاوت الناس في الإتيان به على الوجه المطلوب، فذلك يؤدي بدوره إلى تفاوتهم في الإيمان.
ثم إن التصديق نفسه الذي اعتبره المرجئة، والأشاعرة هو الإيمان: يزيد وينقص. ومنهم من ذهب إلى زيادة الإيمان الذي هو التصديق ونقصانه، كما عرفنا ذلك عند بيان مذهب الأشاعرة فقد قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فالتصديق موجود، لدى إبراهيم عليه السلام، ولكن طلب زيادة فيه باطمئنان القلب.
وقد عرفنا من مذهب السلف أن الإيمان بشقيه التصديق والعمل كلاهما يزيد وينقص، يزيد إلى درجة الكمال، وينقص حتى أضعف درجاته. وقد تقدم قول مالك بن دينار:" إن الإيمان يبدو في القلب ضعيفاً ضئيلاً كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فساقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة وأماط عنه الدغل، وما يضعفه ويوهنه، أوشك أن ينمو ويزداد ويصير له أصل، وفرع، وثمرة وظل ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال. وإن صاحبه أهمله ولم يتعاهده، جاءه عنز فنتفتها أو صبي فذهب بها أو كثر عليها الدغل فأضعفها، أو أهلكها، أو أيبسها كذلك الإيمان "1.
وبهذا كله يبطل قول المتكلمين أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن أهله فيه سواء. فما دام النص يصرح بزيادة الإيمان، تصريحاً لا يقبل التأويل، أو العدول عن الظاهر وما دمنا متبعين لا مبتدعين فليس أمامنا إلا طريق واحد هو مسايرة النصوص فيما تدل عليه ودلالة النصوص، لا سيما في أمور العقيدة واضحة لا تعقيد فيها. وإنه لمن الخطأ الشنيع، أن نتكلف تأويلات وفلسفات، ما أنزل الله بها من سلطان، حتى نعدل بالنص عن ظاهر دلالته، إلى معانٍ بعيدةٍ عن روحه، تؤدي إلى الانحراف بالنصوص عن خط سيرها الذي رُسم لها وهدفها الذي وردت من أجله.
وزيادة الإيمان وردت بصراحة في نصوص كثبرة، والإنسان إذا عرف أن إيمانه يزيد بزيادة العلم الذي هو جزء منه وينقص بنقصانه، فإن يتحرى الزيادة دائماً، ويتجنب ما يؤدي به إلى النقصان، فيكون دائم الحذر من العواقب الوخيمة التي تؤثر في إيمانه بمخالفة أوامر الله ورسوله. وبالعكس إذا عرف أن إيمانه تام لا يعتوره نقصان بحال، فإنه قد يتجرأ على انتهاك الحرمات بحجة أنها غير مؤثرة في إيمانه، وغير مطلوبة من أجل تقوية الإيمان، وهذا هو موضع الخطر في ذلك المذهب الذي يخالف النص مخالفة ظاهرة. فإذاً هنا موقفان متشابهان للمتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه:
1 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص188.
أحدهما: القول بأن الإيمان إذا ذهب بعضه، ذهب كله.
وقد منع السلف صحة هذا الرأي، وقالوا بأن هذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإن أصحابه ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله ولم يبق منه شيئ. وهذا هو ما ذهب إليه المعتزلة والخوارج القائلون بأن الإيمان هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث، قالوا: فإذا ذهب شيئ منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيئ فيخلد في النار.
ثانيهما: قول المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تُذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة منه شيئ، إذ لو ذهب شيئ منه لم يبق منه شيئ، فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر.
وقد ذكر هذين الموقفين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ1 ثم ذكر بعد ذلك أن النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله صلى الله عليه وسلم:" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " ولهذا كان أهل السنة والحديث على أنه يتفاضل 2.
وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة، ولم يعرف فيه مخالف منهم، فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر، عن جده عمير بن حبيب الخطمي، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحانه، فتلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا فتلك نقصانه 3. وغير ذلك من الآثار الواردة عن الصحابة فإذا كان هذا هو فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجد بينهم مخالف في ذلك إذ لو وجد لَوصلنا وعرفناه، وما داموا عاصروا نزول الوحي، فهم ولا شك أعرف منا
1 انظر: كتاب الإيمان، ص186.
2 المصدر نفسه.
3 المصدر نفسه.
بدلائله، لا سيما والنص ماثل أمامنا. ونحن نلاحظ مطابقة فهمهم واستنتاجهم لما نجد من النصوص وقصارى القول: إن المسلك الوحيد الذي لا يسعنا إلا نهجه هو طريق الوحي الإلهي وفهمه على غرار ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون تكلف معانٍ جديدة بعيدة عن روح النص ودلائله.