المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعمذهب السلف في مرتكب الكبيرة - الإيمان بين السلف والمتكلمين

[أحمد بن عطية الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: مذهب السلف في الإيمان

- ‌الفصل الأول: في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌الفصل الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الرابعمذهب السلف في مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الخامسالاستثناء في الإيمان

- ‌الباب الثاني: مذاهب المتكلمين في الإيمان

- ‌الفصل الأول: الخوارج

- ‌الفصل الثانيالمرجئة

- ‌الفصل الرابعالجهمية

- ‌الفصل الخامسالكرامية

-

- ‌الفصل السادس: المعتزلة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند المعتزلة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعحكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة

-

- ‌الفصل السابع:الأشاعرة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثمذهب الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعرأي الأشاعرة في مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث الخامسالاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌الباب الثالث: موقف السلف من أراء مذاهب المتكلمين

- ‌الفصل الأول: موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثاني: موقف السلف من آراء المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الثالثموقف السلف من المتكلمين في حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الرابعموقف السلفمن المتكلمين في مسألة الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الرابعمذهب السلف في مرتكب الكبيرة

‌الفصل الرابع

مذهب السلف في مرتكب الكبيرة

قبل البدء في بيان مذهب السلف في هذا الموضوع، أرى من الضرورة بيان الفرق بين الصغائر والكبائر، فأقول وبالله التوفيق:

إن جماهير الأمة من السلف والخلف، من جميع الطوائف قد ذهبوا إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر. وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة، واستعمال سلف الأمة وخلفها. ولا شك أن هذين الصنفين من المعاصي بينهما فارق لا يمكن إنكاره، ولا شك أيضاً أن المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه، قبيحة جداً، بالنسبة إلى عظمة الباري جل جلاله، ولكن بعضها أعظم قبحاً من البعض الآخر، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما وردت به الأحاديث الصحيحة المذكورة في مصادرها، وإلى ما لا يكفره شيئ من ذلك. فما يمكن تكفيره بمثل هذه الأعمال فهو من الصغائر وما لا يمكن تكفيره من الكبائر.

ولكن هذا لا يُخرج الصغائر عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنه صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقلّ قبحاً، ولكون تكفيرها سهلاً ميسوراً.

وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلف العلماء في

ص: 52

ضبطها اختلافاً كثيراً، ذكره الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، وإليك عرضاً لهذه الآراء:

1 ـ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. ونحو هذا عن الحسن البصري.

2 ـ وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار، أو حدّ في الدنيا.

3 ـ وقال أبو حامد الغزالي في ضبط الكبيرة: إن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم، كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليه اعتياداً، فما أشعرَ بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة.

4ـ وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عِظَماً يصح معه أن يُطلق عليه اسم الكبيرة، ووصف بكونه عظيماً على الإطلاق قال: فهذا حد الكبيرة، ثم لها إمارات منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصاً، ومنها اللعن، كَلعن الله سبحانه وتعالى من غَيَّر منار الأرض.

5ـ وقال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربَتْ عليه فهي من الكبائر

وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب قُرِن به وعيد، أو حد، أو لعن. فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قُرِن به الوعيد أو الحد أو اللعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة. ثم قال: والأَوْلى أن تُضبط الكبيرة بما

ص: 53

يُشعِر بتهاون مرتكبها في دينه، إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها.

6ـ وقال الإمام أبو الحسن الواحدي المفسر، وغيره: الصحيح أن حدّ الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم تُوصف، وهي مشتملة على صغائر وكبائر، والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعاً من جميعها مخافة أن تكون من الكبائر. قالوا: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء من الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك مما أخفى1، والله أعلم.

وهذه الآراء التي عرضها الإمام النووي ذكر بعضاً منها شارح العقيدة الطحاوية، ومال إلى القول برجحان الأول منها2. كما ذكرها ـ وعليها مزيد ـ ابن القيم في مدارج السالكين 3. ومهما يكن من تعدد الآراء حول التفريق بين الصغائر والكبائر فإن جميعها متقاربة، ومتداخلة، ولكنني أرى أن المبدأ الذي يجب أن يُقَرر ويُتّخَذ مقياساً ما ورد عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. ومعناه أن الكبيرة تُمحى بالاستغفار والصغيرة تكون كبيرة بالإصرار. قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الإصرار: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكراراً يُشعر بقلة مبالاته بدينه، إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك، قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يُشعر مجموعها بما يُشعر به أصغر الكبائر4.

فالصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف،

1 النووي، شرح صحيح مسلم، ج2ص85-86، ط المطبعة المصرية بدون تاريخ.

2 شرح العقيدة الطحاوية ص355-356.

3 النظر: مدارج السالكين لابن القيم، ج1 ص320-327، ط المطبعة السنة المحمدية سنة 1375هـ ـ 1956م.

4 النووي، شرح صحيح مسلم، ج2ص86-87.

ص: 54

ما يُلحفها بالكبائر، وقد يقترن بالكبيرة من الحياء، والخوف، والوجل، ما يُلحقها بالصغائر وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وعلى هذا فليس للكبائر عدد محدود، وما رود عن الرسول صلى الله عليه وسلم من مثل قول: " اجتنبوا السبع الموبقات

" 1، وحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس وعقوق الوالدين " 2. أما الشرك فلا نزاع في أنه كفر يُخرج عن الملة وهو أكبر المعاصي على الإطلاق، وإنما قُرنت به بقية المعاصي المذكورة في الأحاديث على سبيل التشنيع، زجراً عن ارتكابها، وإشعاراً بأنه أكبر الكبائر، وإلا فيوجد في غيرها من الذنوب التي لم تُذكر في الأحاديث على أنها كبائر، يوجد فيها ما هو كبيرة. وما ذُكر مقروناً بوصف الكبيرة، أو أكبر الكبائر، فإنما وردت كذلك لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيها كانت عليه الجاهلية.

وبعد أن اتضح لنا الفرق بين هذين الصنفين من المعاصي، إليك مذهب السلف الذي قالوا به في حكم مرتكب الكبيرة:

فقد ذهب السلف ـ عليهم رحمة الله ـ إلى أن مرتكب الكبيرة فاسق، وأنه لا يخرج من الإيمان بمجرد فسقه، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه بفضله وكرمه، وأدخله الجنة، من أول وهلة. وإن شاء عذَّبه بقدر ذنوب ثم أدخله الجنة، فلا بد من دخول الجنة. فالعاصي معرَّض لعقوبة الله تعالى، وعذابه. وتقريراً لمذهب السلف في هذا الأمر، قال الإمام الصابوني في رسالته ((عقيدة السلف)) : " ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة، صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مُبتلى بالنار، ولا مُعاقَب على ما ارتكبه، واكتسبه، ثم استصحبه

1 صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ج2 ص83.

2 المصدر السابق.

ص: 55

إلى يوم القيامة من الآثام، والأوزار، وإن شاء (عفا عنه) 1 وعذَّبه مدة بعذاب النار، وإذا عذَّبه لم يخلده فيها، بل أَعتقه، وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار " 2.

وروى اللالكائي بسنده إلى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، أنه قال:" ولا يشهد على أهل القبلة بعمل (يعمله) 3 بجنة ولا نار، يرجو للصالح ويخاف على المسيئ المذنب، ويرجو له رحمة الله. ومَن لقي الله بذنب يجب له به النار (تايب) 4 غير مصرّ عليه، فإن الله عز وجل يتوب عليه ويقبل التوبة من عباده وعفو عن السيئات. ومن لقيه وقد أُقيم عليه حد ذلك الذنب في الدنيا فهو كفارته، كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن لقيه مصراً، غير تايب من الذنوب، التي استوجب بها العقوبة، فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له. ومن لقيه كافراً عذَّبه ولم يغفر له "5.

وفي تقرير هذه العقيدة أيضاً يقول الإمام الطحاوي: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم 6 في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم

1 هكذا في الأصل المطبوع، ولعل الصواب إسقاط جملة عفا عنه.

2 الصابوني، أبو عثمان إسماعيل. عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل النبوية، ج1 ص124-125، بيروت، ط محمد أمين دمج سنة 1970م.

3 هكذا في الأصل المصور عن النسخة الخطية، ولعل الصواب يعملونه.

4 هكذا في الأصل، ولعله يوجد نقص في الكلام فيكون وهو تايب، أو أن الصحيح تائباً بالنصب على الحال.

5 اللالكائي، هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، شرح السنن ص42-43، مخطوط مصور بالمكتبة المركزية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة تحت رقم 446.

6 قوله: " من أمة محمد " تخصيصه أمة محمد صلى الله عليه وسلم يُفهم منه أن أهل الكبائر من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد، وفي ذاك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه:" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " متفق عليه. ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله، وليس في بعض النسخ ذكر الأمة. انظر: شرح الطحاوية، ص355.

ص: 56

يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين 1. وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم، وعفا عنهم بفضله كما ذكر الله عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2. وإن شاء عذبهم في النار بِعدلِه، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم الله إلى جنته " 3.

هكذا يتقرر مذهب السلف، فالمذنب إن تاب فتوبته مقبولة، وإن مات ولم بتبْ فأمره مفوَّض إلى الله، إن شاء عذبه بعدله، وإن شاء عفا عنه بفضله. لكن حتى إن عُذِّب فإن تعذيبه يختلف تماماً عن تعذيب الكافر فهو إنما يُعذَّب لِيطهر من الآثام التي ارتكبها. وقد ذكر الصابوني الفرق بين العذابين عن شيخه سهل بن محمد حيث قال:" وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول: المؤمن المذنب، وإن عُذب بالنار فإنه لا يُلقى فيها إلقاء الكفار، ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار.

ومعنى ذلك أن الكافر يُسحَب على وجهه إلى النار، ويلقى فيها منكوساً في السلاسل والإغلال، والأنكال الثقال. والمؤمن المذنب، إذا ابتُلِي بالنار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن، على الرِّجل من غير إلقاء وتنكيس. معنى قوله:" لا يبقى في النار بقاء الكافر "، أن الكافر يُحرَق بدنه كله كلما نضج جلده، بدّل جلداً غيره، ليذوق العذاب، كما بينه الله في كتابه في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} 4. وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم، إذ حرَّم الله أعضاء (سجوده) 5. ومعنى قوله:

1 لو قال مؤمنين بدل قوله عارفين، كان أَوْلى، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة الجهم، وقوله مردود باطل. انظر: المصدر نفسه ص 357.

2 النساء: 48-116.

3 الطحاوي، أحمد بن محمد بن سلامة، العقيدة الطحاوية مع الشرح، ص354-355، ط3، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.

4 النساء: 56.

5 هكذا في الأصل المطبوع، ولعل الصواب ((أعضاء سجودهم)) .

ص: 57

" لا يبقى في النار بقاء الكفار "، أن الكافر يخلد فيها، ولا يخرج منها أبداً ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين في النار أحداً.

ومعنى قوله: " لا يشقى بالنار شقاء الكفار "، أن الكفار ييأسون فيها من رحمة الله، ولا يرجون راحة بحال، وأما المؤمنون فلا ينقطع طمعهم من رحمة الله في كل حال وعاقبة المؤمنين كلهم الجنة، لأنهم خُلِقوا لها، وخُلِقت لهم، فضلاً من الله ومنّة " 1اهـ.

هذا هو حكم مرتكب الكبيرة فيما يتعلق بمصيره في الآخرة، بقي أن نعرف ما له وما عليه، بالنسبة لأحكام الدنيا، فلا يجوز لنا أن نسلبه اسم الإيمان بالكلية بل نقول: إنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ويستحق من المعاملة باسم الإسلام، ما يستحقه سائر المسلمين. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يُعطى الاسم المطلق، واسم الإيمان بتناوله فيما أمر الله به ورسوله، لأن ذلك إيجاب عليه، وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره. وعلى هذا، فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف، يدخل فيه المؤمن حقاً، ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كان في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن يُنفى عنه الإسلام، والإيمان، وفي الظاهر يُثبَت له الإسلام، والإيمان الظاهر، ويدخل فيه الذين أسلموا، ولم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان، وإسلام يُثابون عليه، ثم قد يكونون مفرِّطين فيما فُرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يُعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يُعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا آمنا من غير قيام منهم بما أُمروا به باطناً وظاهراً "2.

هكذا قال السلف رحمهم الله في مرتكب الكبيرة، إذ أنه إنسان

1 الصابوني، المصدر المذكور آنفاً ص125.

2 ابن تيمية، المصدر المذكور آنفاً ص202.

ص: 58

معرَّض لوساوس الشيطان، ومائل إلى الهوى والشهوات بطبيعته فإن هو أخطأ بارتكاب كبيرة، فتكفيره ليس أمراً سهلاً، يمكن الحكم به لأول بادرة من الجرائم، أو حتى إن أصبح ارتكاب المحرمات الكبيرة سجية له، فإن ما في قلبه من إصرار واستحلال أو عدمهما أمر خاف علينا، وقد يؤنبه ضميره بعد ارتكابها ويتحرك الإيمان في قلبه فيندم، ولكن لِضعف إيمانه ذاك يتغلَّب عليه الشيطان مرة أخرى، فيوقعه في حبائله، وهكذا دواليك، حتى أن من رآه يظنه انسلخ من إيمانه كلية ورضي بعبادة الشيطان، والأمر غير ذلك.

والسلف رحمهم الله إنما أجمعوا على القول بتكفير من ارتكب محرماً، معلوماً تحريمه من الدين بالضرورة، مستحلاً له، لأن ذلك مكابرة وتكذيباً صريحاً لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك ولا شك كفر بواح.

وبعد عرضنا لمذهب السلف في مرتكب الكبيرة إليك أبرز أدلتهم لما ذهبوا إليه:

أما من القرآن الكريم: فقد استدلوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليها، ما لم تكن كبيرة شركاً بالله 2.

وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا

} 3 وقد أورد الإمام البخاري رحمه الله هذه الآية في صحيحه، مستدلاً بها على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر، ولا يُسلب منه اسم الإيمان، لأن الله تبارك وتعالى سماهم مؤمنين مع اقتتالهم 4.

1 النساء: 48، 116.

2 الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج5 ص126، ط2 بمطبعة مصطفى الحلبي بمصر، سنة 1373هـ ـ 1954م.

3 الحجرات: 9.

4 انظر: صحيح البخاري مع شرح فتح الباري، ج1 ص84، ط المطبعة السلفية.

ص: 59

وما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إذ حاول إخبار قريش بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال الله تبارك وتعالى في شأته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ

} 1. ولا شك أنه ارتكب كبيرة بفعلته هذه، ومع ذلك أبقى الله عليه اسم الإيمان فخاطبه به، ولا شك في فضل هذا الصحابي الجليل، وإنما وقع منه ما وقع عن حسن نية، ولم يكن يعلم أنه ارتكب خطأً شنيعاً، ولذلك لما أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالدوافع التي لأجلها كتب الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد صدقكم "، فقال عمر: " يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق "، فقال: " إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " 2.

إلى غير ذلك من الآيات التي تخاطب أهل الذنوب الكبيرة باسم الإيمان.

أما من السنة المطهرة: فاستدلوا بحديث أبي بكرة الذي رواه البخاري،وهو قوله عليه الصلاة والسلام:" إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار "، فقلت:" يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ " قال:" إنه كان حريصاً على قتل صاحبه "3. قال البخاري رحمه الله: " سمَّاهما مسلمَين مع التوعد بالنار " 4.

وتحت عنوان: المعاصي من أمر الجاهلية عقد الإمام الجليل البخاري باباً فقال: " باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها، إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنك امرؤ فيك جاهلية " 5.

ثم ساق حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: إني ساببت رجلاً فعيَّرته

1 الممتحنة: 1.

2 انظر: هذه القصة في سبب نزول الآية، ج28 ص58 من جامع البيان للطبري.

3 البخاري، محمد بن إسماعيل، المصدر المذكور آنفاً ج1ص84.

4 المصدر نفسه.

5 المصدر نفسه.

ص: 60

بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر، أعيَّرته بأُمِّه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية

" 1. قال ابن حجر: " قصة أبي ذر، إنما ذُكرت لِيُستدلّ بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك، لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أم الكبائر " 2. ومن هذه الأدلة أيضاً حديث أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه فقال:" ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة "، قلت:" وإن زنى وإن سرق "، قال:" وإن زنى وإن سرق "، ثلاثاً، ثم قال في الرابعة:" على رغم أنف أبي ذر "3.

وحديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه ـ: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم، وأرجلكم ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه "، فبايعناه 4.

قال الإمام النووي ـ مشيراً إلى حديث عبادة بن الصامت هذا، وحديث أبي ذر السابق ـ قال: " فهذان الحديثان مع نظائرها في الصحيح،

1 المصدر السابق، حديث رقم 30. قال الشارح: قيل إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، مولى أبي بكر

ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده. فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب: قلت: " على ساعتي هذه من كبر السن؟ " قال: " نعم ". كأنه تعجَّب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنِّه فيبيِّن له كون هذه الخصلة مذمومة شرعاً ـ وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط. انظر: فتح الباري، ج1 ص86-87.

2 ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج1 ص85.

3 رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ج2 ص94، ط المطبعة المصرية.

4 البخاري، محمد بن إسماعيل، المصدر المذكور آنفاً ج1 ص64.

ص: 61

مع قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل، وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون، ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرِّين على كبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم، وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة " 1.

ومما يسند ذلك أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا مَن كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. فيخرجون منها، قد اسودُّوا فيُلقَون في نهر الحيا ـ أو (الحياة) شكَّ مالك ـ فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم ترَ أنها تخرج صفراء ملتوية "2.

والأحاديث من النوع كثيرة ويطول بنا الحديث إن أردنا سرد جميع ما استدل به السلف لمذهبهم في هذه المسألة. فهي كثيرة جداً ـ وكلها تدل على أن مرتكب الكبيرة مؤمن، وأنه معرَّض لعقاب الله، وإن عوقب فإنه لا يخلد في النار بل يخرج منها. ولكثرتها يصعب حصرها واستقصاؤها لذلك أرى فيما ذكرت غنية عما سواه وقد وردت أحديث مشكلة في الظاهر على ما تقدم.

منها حديث أبي هريرة وقد تقدم ذكره: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.. ". وقد أزال إشكاله الإمام النووي بقوله: " هذا الحديث مما اختُلِف في معناه فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيئ ويراد نفي كماله

وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلاً له مع علمه بورود الشرع بتحريمه. وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري: معناه ينزع منه اسم المدح الذي يُسمَّى به أولياء لله

1 النووي، محي الدين يحيى بن شرف، المصدر المذكور آنفاً ج2 ص41.

2 رواه البخاري في صحيحه. انظر: المصدر السابق ص72.

ص: 62

المؤمنين. ويستحق اسم الذم فيقال: سارق، وفاجر،وفاسق. وحكى عن ابن عباس رضي الله عهنما أن معناه ينزع منه نور الإيمان "1.

وفي الجمع بين هذا الحديث، حديث أبي ذر السابق: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق

".

ذكر الإمام ابن قتيبة أن المقصود بنفي الإيمان في حديث أبي هريرة، هو نفي الكمال على ما اختاره النووي وعلى هذه القاعدة، يجري تفسير كل حديث ورد فيه نفي الإيمان عن مرتكب الذنب كحديث:" لم يؤمن من لم يأمن جارُه بوائقه " وأمثاله 2.

أما حديث أبي ذر فقال في معناه: إنه لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون قاله على العاقبة، ـ يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة، وإن عُذب بالزنا والسرقة.

والآخر: أن تلحقه رحمة الله تعالى، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة، بشهادة أن لا إله إلا الله 3.

أما قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كِبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " 4، فقد ذكر ابن قتيبة أيضاً في الجمع بين هذين الحديثين مع حديث أبي ذر السابق، أن هذا خرج مخرج الحكم. إذ المراد أنه ليس حكم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، أن يدخل النار، ولا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أن يدخل الجنة، والله تعالى يفعل بعد ذلك ما يشاء. ومثل هذا من الكلام، قولك ـ في دار رأيتها صغيرة ـ لا

1 النووي، المصدر المذكور آنفاً ص42.

2 انظر: تأويل مختلف الحديث لا بن قتيبة، ص171، ط دار الجيل، بيروت سنة 1393هـ ـ 1973م.

3 المصدر السابق نفسه ص172.

4 هذا الحديث رواه مسلم، انظر: صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ج2 ص89.

ص: 63

ينزل في هذه الدار أمير. تريد حكمها، وحكم أمثالها أن لا ينزلها الأمراء، وقد يجوز أن ينزلوها 1.

ومن الأحاديث المشكلة على ما تقدم أيضاً، حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلَّة منهن، كانت فيه خلَّة من نفاق حتى يدعها، إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر "، وفي رواية عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان "2. قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم: هذا الحديث مما عدَّه جماعة من العلماء مشكلاً، من حيث أن هذه الخصال توجد في المسلم المصدِّق، الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدِّقاً بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال، لا يُحكَم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وُجد لِبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله.

وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون، ـ وهو الصحيح المختار ـ أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلافهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه. وهذا المعنى موجود في هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدَّثه، ووعده، وائتمنه، وخاصمه، وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام، فيظهره، وهو يبطن الكفر، ولم يُرِد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار. وقوله صلى الله عليه وسلم:" كان منافقاً خالصاً " معناه شديد الشبه بالمنافقين، بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه. فهذا هو

1 ابن قتيبة، المصدر السابق ص117-118.

2 رواه مسلم، انظر: صحيح مسلم مع الشرح، ج2 ص46، ط المطبعة المصرية.

ص: 64

المختار في معنى الحديث 1، وذكر أقوالاً أخرى غير هذا، فمنها أنه نفاق عمل، ومنها ان المراد المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا، وفجروا في خصوماتهم. وذكر أن هذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح. إلى غير ذلك من الأقوال التي ذكرها 2.

وروى اللالكائي عن الإمام أحمد قوله في هذا الحديث وأمثاله: والنفاق هو الكفران، يكفر بالله ويعبد غيره، ويظهر الإسلام في العلانية، مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ثلاث من كنَّ فيه فهو منافق " هذا على التغليظ ـ نرويها كما جاءت ولا نفسرها، وقوله:" لا ترجعوا بعدي كفاراً، ضلالاً ـ يضرب بعضكم رقاب بعض "، ومثل:" إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمفتول في النار "3.

هذه أقوال ذُكرت فيما يتعلق بهذا الحديث وأمثاله، وفي نظري أنها جمعياً لها محل ووجه من النظر الصائب، ويمكن القول به دون تعارض مع الرآي الآخر. إذ أن من وُجدت فيه هذه الخصال، يمكن تفسير ما ورد بحقه أنه خالص النفاق بحق من خاصمه وحدثه وخاه. ويمكن إطلاق ذلك والتوقف فيه دون بيان للمراد، وإمراره على ظاهره الذي يشعر بإدخال من تخلَّق بهذه الخصال في زمرة المنافقين، ليكون ذلك أدعى للزجر عن التخلُّق بها. فالتوقف عن التفسير يريد به من قاله أن يكون عندما يكون مجدياً ـ لا سيما في مجال الوعظ ـ للتنفير عن التخلُّق بهذه الخصال، وما شابهها ولكن هذا لا يمنع تفسيرها على الوجه السابق، إذا اقتضى الحال

1 النووي، المصدر المذكور آنفاً ج2 ص46-47.

2 انظر: المصدر نفسه.

3 اللالكائي، هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، شرح السنن ـ مخطوط مصور بمكتبة جامعة الملك عبد العزيز بمكة تحت رقم 446.

ص: 65