الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
مذهب الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه
هذه المسألة اختلفت آراء الأشاعرة فيها، فلم يثبتوا على رأي واحد، بل منهم من منع القول بزيادة الإيمان ونقصه، ومنهم من أثبتها، وبعض آخر أثبت الزيادة ومنع النقصان ولكلٍّ وجهة تختلف عن وجهة الآخر ودليل غير دليله. فقد ذكر البغدادي أن من ذهب من الأشاعرة إلى القول بأن الإيمان تصديق بالقلب فقط منع القول بالنقصان، واختلفوا في الزيادة وقد اختار هو القول بالزيادة والنقصان وساق الأدلة على ذلك 1.
وقد ذكر صاحب ((المواقف)) عن الإمام الرازي وكثير من المتكلمين رأيهم بأنه بحث لفظي، لأنه فرع تفسير الإيمان، فمن قال هو التصديق فليس هو قابلاً للزيادة والنقصان، وعللوه بأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لا بحسب ذاته، لأن التفاوت إنما هو لاحتمال النقيض وهو ـ أي احتماله ـ ولو بأبعد وجه ينافي اليقين فلا يجامعه، ولا بحسب متعلقه، لأنه جميع ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، والجميع من حيث هو جميع لا يتصور فيه تعدد، وإلا لم يكن جميعاً، وإن قلنا هو الأعمال، إما وحدها أو مع التصديق فيقبلهما وهو ظاهر 2. وهذا القول ـ أي أن الخلاف
1 انظر: أصول الدين للبغدادي، ص252، ط مطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ ـ 1928م.
2 انظر: المواقف بشرح الجرجاني، ج8 ص330، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ ـ 1907م.
في مسألة زيادة الإيمان ونقصه لفظي ـ في نظري غير صحيح، لأن ثمة من قال بأن الإيمان هو التصديق، ومع ذلك قال إن الإيمان يزيد وينقص بحسب ذاته أي التصديق نفسه يزيد وينقص، وبحسب متعلقه وهي أفراد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجب التصديق به.
وممن قال بأن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصه لفظي الإمام أبو حامد الغزالي 1. على أنني أحب أن أنبه هنا إلى أنهم لا يقصدون بقولهم: إن الخلاف لفظي أن الآراء ترجع إلى رأي واحد إما القول بالزيادة والنقصان أو عدمهما على تعددها، بل المقصود أن الرأي في ذلك فرع عن الرأي في حقيقة الإيمان.
ثم إن عضد الدين الإيجي صاحب ((المواقف)) ، رجح القول بأن الإيمان يزيد وينقص حتى وإن كان التصديق وحده حيث قال: والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان لوجهين: أي بحسب الذات وبحسب التعلق.
الأول: القوة والضعف من التصديق من الكيفيات النفسانية المتفاوتة قوة وضعفاً.
الثاني: من وجهَي التفاوت ـ أعني ما هو بحسب المتعلق ـ أن يقال: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، يعني أن أفراد ما جاء به متعددة وداخلة في التصديق الإجمالي. فإذا علم واحداً منها بخصوصه وصدق به، كان هذا تصديقاً مغايراً لذلك التصديق المجمل، وجزءاً من الإيمان. ولا شك أن التصديقات التفصيلية تقبل الزيادة فكذلك الإيمان، والنصوص كنحو قوله تعالى:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} دالة على قبوله لهما ـ أي قبول الإيمان للزيادة والنقصان ـ بالوجه الثاني، كما أن نص قوله
1 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، تحقيق الدكتور عادل العوا، ص208، ط1 بدار الأمانة، بيروت، سنة 1388هـ ـ1969م.
تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} دل على قبوله لهما بالوجه الأول 1.
هذا ما ارتضاه صاحب ((المواقف)) ، وقد رد على من قال من أصحابه بأن الإيمان ـ الذي هو التصديق عندهم لا يزيد ولا ينقص بقوله: قولكم الواجب اليقين والتفاوت لا يكون إلا لاحتمال النقيض ـ قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك الاحتمال فقط، إذ يجوز أن يكون بالقوة والضعف بلا احتمال للنقيض ـ ثم ذلك الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وآحاد الأمة سواء، وأنه باطل إجماعاً. ولقول إبراهيم عليه السلام:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فإنه يدل على قبول التصديق اليقيني للزيادة كما سلف تقريره والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكم حكم اليقين، في كونه إيماناً حقيقياً، فإن إيمان أكثر العوام من هذا القيبل، وعلى هذا فكون التصديق الإيماني قابلاً للزيادة واضح وضوحاً تاماً 2.
وقد ذكر تاج الدين السبكي أن هناك جماعة قالوا بأن الإيمان هو التصديق، ومع ذلك قالوا أيضاً بأنه يزيد وينقص، وأنهم إنما ذهبوا هذا المذهب ليجمعوا بين كلام السلف القائلين بأن الإيمان يتجزأ وما أنكروا أن يكون تصديقاً، وبين قول أبي الحسن الأشعري القائل بأنه التصديق فقط، وما أنكر أن يصح تجزؤه فجمعوا بين الأمرين بأن قالوا: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، وقالوا: إن في هذا توفيقاً بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وممن قال بهذا الرأي من متكلمي الأشاعرة الآمدي في كتابه ((أبكار الأفكار)) 3.
1 المواقف بشرح الجرجاني،ج8 ص331، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ ـ 1907م.
2 المصدر السابق نفسه.
3 انظر: طبقات الشافعية لتاج الدين السبكي، بتحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو، ج1 ص131-132، ط1 مطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ ـ 1964م، وشرح صحيح مسلم للإمام النووي، ج1 ص148، ط المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ.
وقد استحسن الإمام النووي من محدثي الأشاعرة هذا الرأي إلا أنه مال إلى القول بأن نفس التصديق يزيد وينقص حيث قال: " وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهراً حسناً فالأظهر ـ والله أعلم ـ أن نفس التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة، ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك. فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أردكت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل " 1 اهـ.
ويتبين لنا مما تتقدم أن الأشاعرة اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصه على النحو التالي:
1 ـ أن الإيمان هو التصديق، وهو لا يزيد ولا ينقص، ولهم في ذلك حجة عقلية بحتة وهي أن الإيمان عبارة عن التصديق الجازم البالغ حد اليقين. واليقين لا يقبل التفاوت، لأن التفاوت فيه إنما هو لاحتمال النقيض، واحتمال النقيض الذي هو الشك ينافي اليقين. وهذا قول جماعة قليلة من الأشاعرة ويُنسب إلى أبي الحسن الأشعري نفسه، وهو غير صحيح، لأن ما صرح به في كتاب ((الإبانة)) الذي هو آخر ما صنف يثبت أنه يقول بزيادة الإيمان ونقصه 2 كما أسلفنا.
1 النووي، المصدر نفسه ص149.
2 انظر: كتاب الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، ص10، ط إدارة الطباعة المنيرية بالأزهر، بدون تاريخ.
2 ـ أن الإيمان الذي هو التصديق أيضاً يزيد وينقص، ولأصحاب هذا القول مسلكان:
أـ القول بأن التصديق نفسه يزيد وينقص، فيصح إطلاق القول بالزيادة والنقصان على الإيمان بحسب الذات الذي هو التصديق، وبحسب المتعلق، وهو أفراد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجب الإيمان به، وقد استدل هؤلاء على كلا الأمرين. فاستدلوا على زيادة التصديق ونقصانه بحسب ذاته بدليل عقلي وآخر نقلي، فدليلهم العقلي هو " أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها "1.
أما ما استدلوا به من النقل فقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فاطمئنان القلب الذي هو أقصى درجات التصديق هو ما قصده إبراهيم عليه السلام وإلا فهو مصدق دون شك.
كما استدلوا على أن الإيمان يزيد وينقص بحسب متعلقة بأن التصديق التفصيلي في أفراد ما وجب عليه الإيمان به جزء من الإيمان يثاب عليه، كما يثاب على تصديقه بالكل. وأضافوا الى ذلك الآيات المصرحة بزيادة الإيمان. ولا شك أن القابل للزيادة قابل للنقصان.
ب ـ المسلك الثاني: القول بأن الإيمان يزيد وينقص بحسب متعلقه فقط، أما التصديق نفسه فلا يزيد ولا ينقص، وقد ذهبوا هذا المذهب ليكون جمعاً بين رأي السلف القائل بأن الإيمان يتجزأ والتصديق
1 اللقاني، عبد السلام بن إبراهيم المالكي، اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، ص43، تحقيق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ط1 سنة 1379هـ ـ 1960م.
داخل فيه، وقول القائلين بأنه التصديق فقط ولم ينكروا أنه يتجزأ. ووجه الجمع: أن الكل اتفقوا على أن الإيمان يتجزأ سواء هو التصديق وحده أو التصديق والعلم فتقول: إن التصديق الذي هو أصل الإيمان لا يزد ولا ينقص، والزيادة والنقصان إنما تكون في الأعمال التي هي ثمرات الإيمان والإيمان يُطلق عليها حقيقة عند قوم، ومجازاً عند آخرين.
ويكون في هذا جمع بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون من أنه التصديق فقط.
3 ـ أما الرأي الثالث وهو القول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص ـ فهذا رأي قليل الأنصار واضح البطلان ولولا الوفاء بتعداد الآراء لما استحق الذكر، إذ أنه لا يتصور شيئ قابل للزيادة، غير قابل للنقصان.
والراجح من هذه الآراء الذي عليه جمهور الأشاعرة هو الرأي القائل بأن الإيمان يزيد وينقص وإن كان هو التصديق وحده. " لأن التفاوت لا يكون باحتمال النقيض بل بالقوة والضعف، ولليقين مراتب، من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات، فما يُعلَم بداهة أقوى يقيناً مما يُعلَم نظراً، وما يُعلَم بأدلة أوضح وأكثر وأشد يقيناً من غيره " هكذا قال المعلِّق على شرح ((جوهرة التوحيد)) . هذا هو رأي الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه واختلافهم كما رأيت يدور حول هل التصديق نفسه يزيد وينقص، أم أن الزيادة والنقصان تكون من قِبَل ثمراته التي هي الأعمال، فالمسألة خلافية بينهم، ولكن ما عليه جمهورهم هو ما تقدم ذكره، والله أعلم.
انظر: اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ط سنة 1379هـ.