المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام - الإيمان بين السلف والمتكلمين

[أحمد بن عطية الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: مذهب السلف في الإيمان

- ‌الفصل الأول: في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌الفصل الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الرابعمذهب السلف في مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الخامسالاستثناء في الإيمان

- ‌الباب الثاني: مذاهب المتكلمين في الإيمان

- ‌الفصل الأول: الخوارج

- ‌الفصل الثانيالمرجئة

- ‌الفصل الرابعالجهمية

- ‌الفصل الخامسالكرامية

-

- ‌الفصل السادس: المعتزلة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند المعتزلة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعحكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة

-

- ‌الفصل السابع:الأشاعرة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثمذهب الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعرأي الأشاعرة في مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث الخامسالاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌الباب الثالث: موقف السلف من أراء مذاهب المتكلمين

- ‌الفصل الأول: موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثاني: موقف السلف من آراء المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الثالثموقف السلف من المتكلمين في حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الرابعموقف السلفمن المتكلمين في مسألة الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

‌الفصل الثاني

الصلة بين الإيمان والإسلام

هذه المسألة مما اختلف فيها السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ نظراً لاختلاف فهمهم لبعض النصوص التي وردت في هذا الموضوع. واختلافهم يدور حول آراء ثلاثة:

(1)

القول الأول:

القول بالترادف بينهما، وأنهما اسمان لِمسمَّى واحد. وهذا الرأي قال به جماعة من السلف منهم الإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله فقد قال في صحيحه: باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، وبيان النبي، ثم قال صلى الله عليه وسلم:" جاء جبريل يعلِّمكم دينكم "، فجعل ذلك كله ديناً.

وما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لِوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 1 ثم ساق حديث جبريل عليه السلام 2.

ومحصّل كلامه على ما ذكره الإمام ابن حجر في فتح الباري: أن المصنِّف يرى أن الإيمان والإسلام عبارة عن معنى واحد، فلما كان ظاهر

1 آل عمران: 85.

2 البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح مع شرحه لابن حجر، ج1 ص114 ط المطبعة السلفية.

ص: 29

سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، وأراد أن يرد ذلك بالتأويل إلى طريقته، قوله " وبيان " أي مع بيان أن الاعتقاد والعمل دِين، وقوله " وما بيَّن " أي مع ما بيَّن للوفد أن الإيمان هو الإسلام، حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام هنا، وقول الله أي مع ما دلَّت عليه الآية أن الإسلام هو الدين، ودل عليه خير أبي سفيان1 أن الإيمان هو الدين، فاقتضى ذلك أن الإسلام والإيمان أمر واحد 2 أهـ. ومن هذا الكلام يتبيَّن لنا جزم الإمام البخاري بالترادف. وممن قال بهذا الرأي أيضاً، الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده حيث قال في كتابه ((الإيمان)) :" ذكر الأخبار الدالة، والبيان الواضح من الكتاب، أن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى، وأن الإيمان الذي دعا الله العباد إليه، هو الإسلام الذي جعله الله ديناً، وارتضاه لعباده، ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه ولم يرضَه لعباده "3.

ثم بدأ في سرد أدلته من القرآن الكريم على هذا المعتقد، ومن أدلته ـ وهي طبعاً أدلة كل مَن وافقه في هذا الرأي ـ: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 4. وقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} 5. فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان وجعله اسم ثناء وتزكية، وأخبر أن مَن أسلم فهو على نور من ربه وهدىً، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه لعباده، كما في قوله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 6. ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه، وسألوه إياه، فقال إبراهيم

1 انظر: حديث رقم 51 من صحيح البخاري ـ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.

2 ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج1 ص114، ط المطبعة السلفية.

3 ابن منده، المصدر المذكور آنفاً ورقة رقم 22.

4 الأنعام: 125.

5 الزمر: 22.

6 المائدة: 3.

ص: 30

وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 1، وقال يوسف عليه السلام:{تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 2، وقال سبحانه:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3، وقال تعالى:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} 4، وقال في موضع آخر:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ} إلى قوله سبحانه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} 5فحكم الله بأن مَن أسلم فقد اهتدى، فسوَّى بينهما6. وهذا هو رأي محمد بن نصر المروزي الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 7.

وأصحاب هذا الرأي فسروا قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 8 بأن المراد بالإسلام في هذه الآية، الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين قالوا: وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل قلوبهم ومَن لم يدخل الإيمان في قبله فهو كافر. وقد ترجم الإمام البخاري لهذه الآية بقوله: باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل كقوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 9 يعني أن المقصود بالإسلام هنا الحقيقة اللغوية لا الشرعية، يقولون: إن كل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، فإثبات أحدهما، هو بعينه إثبات الآخر، ونفي أحدهما هو نفي الآخر.

1 البقرة: 128.

2 يوسف: 101.

3 البقرة: 132.

4 آل عمران: 30.

5 البقرة: 137.

6 ابن منده، المصدر السابق ورقة رقم 22.

7 ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص 310، دمشق، ط المكتب الإسلامي.

8 الحجرات: 14.

9 البخاري، محمد بن إسماعيل، المصدر المذكور آنفاً جذ ص79.

ص: 31

(1)

القول الثاني:

التفريق بين مسمَّى الإسلام والإيمان، وأن الإسلام هو الكلمة والإيمان هو العمل. وهذا قول جماعة من السلف، منهم الزهري وحماد بن زيد، ورواية عن أحمد، كما ذكر ابن منده عن عبد الملك الميموني قال: سألت أحمد بن حنبل: " أتفرِّق بين الإيمان والإسلام؟ " قال: " تعم

" وقال بهذا القول جماعة من الصحابة والتابعين، منهم عبد الله بن عباس، والحسن، ومحمد بن سيرين1.

واستدل هؤلاء بآية الحجرات: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 2. وقالوا: إن التفسير الصحيح للآية ليس كما ذكره البخاري ومَن حذا حذوه، لأن القول الراجح في تفسير هذه الآية أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفي الإيمان عن القاتل، والزاني، والسارق، ومَن لا أمانة له. ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أوَّلها إلى هنا، في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة، ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} 2 ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة. ثم قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 3، يعني ـ والله أعلم ـ أن المؤمنين الكاملي الإيمان، هم هؤلاء لا أنتم، بل أنتم منتفٍ عنكم الإيمان الكامل. يؤيد هذا أنه أمرهم، أو أذن لهم أن يقولوا أسلمنا والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لَنُفيَ عنهم الإسلام، كما نُفيَ عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنّوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلامهم، ونهاهم أن يمنّوا به على رسوله، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا بل أنتم كاذبون، كما كذَّبهم في قولهم:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 4. ومن

1 ابن منده، محمد بن إسحاق، المصدر المذكور آنفاً ورقة رقم 21.

2 الحجرات: 14.

3 الحجرات: 15.

4 المنافقون: 1. انظر هذا الرأي في تفسير آية الحجرات في شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني ص231، ط3.

ص: 32

أدلة أصحاب هذا الرأي أيضاً، حديث سعد بن أبي وقاص: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً، ولم يعطِ رجلاً منهم شيئاً، فقلت:" يارسول الله، أعطيت فلاناً وفلاناً،ولم تعطِ فلاناً وهو مؤمن "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أو مسلم. أعادها ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلم، ثم قال: إني لأعطي رجالاً وأمنع آخرين، وهم أحب إليَّ منهم، مخافة أن يُكَبوا على وجوههم في النار "1.

وقالوا: إن الإيمان خاص، يثبت الاسم به بالعمل مع التوحيد، والإسلام عام، يثبت الاسم بالتوحيد، والخروج من ملل الكفر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر هذا القول وأشار إلى استدلال أصحابه بحديث سعد السابق، قال:" وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام، الذي بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " 2. وقد يراد به الكلمة فقط، من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم. لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال: الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أُلزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. ولم يكن أحد يُترك بمجرد الكلمة، بل كان مَن أظهر المعصية يُعاقب عليها. وأحمد إن كان أراد من هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل مَن قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه. والرواية الأخرى: لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصلِّ كان كافراً. والثالثة: إنه كافر بترك الزكاة أيضاً. والرابعة: إنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها، دون ما إذا لم يقاتل، وعنه أنه لو قال: أنا

1 رواه البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، حديث رقم 27، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. انظر: صحيح البخاري مع الشرح، ج1 ص79، ط المكتبة السلفية.

2 هذا هو تفسير الإسلام الوارد في حديث جبريل المشهور، المتفق عليه.

ص: 33

أؤديها، ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله. وكذلك عنه رواية: إنه يكفر بترك الصيام والحج، إذا عزم أنه لا يحج أبداً. ومعلوم أنه على القول يكفر تارك المباني، يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يُشهد له بالإسلام، ولا يُشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يُستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام الذي هو أداء الخمس، كما أُمر به يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يُستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد، ولاتنقص، فلا استثناء فيه " 1.

كما أشار ابن تيمية رحمه الله إلى ضعف القولين السالفين، ووصفهما بالتطرف ومخالفتهما لحديث جبريل، وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم 2. وصحة ما قاله ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حول ما ذكر من الأقوال ظاهرة، ويزيدها وضوحاً ما سيأتي عند ذكر القول الثالث، الذي هو تحقيق مذهب السلف في هذه المسألة.

(1)

القول الثالث:

وهو تحقيق مذهب السلف، الذي تجتمع عليه النصوص الواردة في هذا الموضوع، أن بين الإسلام والإيمان تلازماً مع افتراق اسميهما، وأنَّ حال اقتران الإسلام بالإيمان، غير حال إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم، كشيئ واحد. كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لِمَن لا إسلام له، ولا إسلام لِمَن لا إيمان له، إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصحُّ إسلامه.

1 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، كتاب الإيمان، ص216-217، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر بدمشق.

2 المصدر نفسه ص 320.

ص: 34

وهذا المعنى صحيح وسليم في نظري، لأن لكلٍّ من الإيمان والإسلام حقيقة شرعية مستقلة، كما أن لكلٍّ منهما حقيقة لغوية مستقلة، وغاية ما يقال أنهما متلازمان في الوجود، لا مترادفان في الحقيقة والمعنى. ولقوة ارتباط كل منهما بالآخر، فإنه إذا وُجد أحدهما منفرداً في نص من النصوص، لا يمكننا أن نتصوره وحده، فيكون الآخر داخلاً فيه على سبيل التلازم والارتباط وتحقيق الهدف المراد من كلٍّ منهما مجتمعين.

وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الوجهة بقوله: " إذا قيل إن الإسلام والإيمان التام متلازما، لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر، كالروح والبدن، لا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حيّ إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر، فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح، ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حيّاً إلا مع الروح بمعى أنهما متلازمان، لا أن مسمَّى أحدهما هو الآخر. وإسلام المنافقين كبدن الميت، جسد بلا روح، فما من بدنٍ حيٍّ إلا وفيه روح، ولكن الأوراح متنوعة

" 1.

وهذا الرأي في نظري أسلم، وأوْجَه، لأن النصوص تدل على ذلك دلالة واضحة والقول به يُعتبر جمعاً بين الآراء التي تَقدَّم ذكرها، لأن غاية ما يقال للتقريب بين الأراء المختلفة: إن مَن قال بالترادف، إنما قاله مبالغة منه في قوة ارتباط الإسلام والإيمان كل منهما بالآخر، حتى لكأنَّهما شيئ واحد. ومَن قال بأن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، فإنه لم يُرِد الكلمة مجردة عن توابعها المذكورة في حديث جبريل، وإنما أرادها مع توابعها، وأنه حقيقة شرعية للإسلام، تختلف عن الحقيقة الشرعية للإيمان الواردة في حديث جبريل وهي أعمال القلب، ولم يُرِد أنهما متغايران، بحيث يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر في الاعتبار الشرعي. وعليه فإن هذا الرأي أجمع للنظرتين، وأبعد عن التعبيرات التي قد تُوهم اعتقاداً لم يقصده السلف، وهو إنكار الحقيقة الشرعية المستقلة على الرأي الأول، وتُوهم التغاير بينهما

1 ابن تيمية، المصدر السابق ص 313.

ص: 35

على الرأي الثاني مما يؤدي إلى إنكار النصوص الشرعية الواردة في بيان المذهب السليم الذي نحن بصدد سياقه.

أما آية الحجرات السالفة الذكر وهي قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فإن تفسير أصحاب الرأي الأول لها أصح، لأنه نفى أن يكون الإيمان قد دخل قلوبهم نفياً قاطعاً، فيكون الإسلام الوارد في الآية المقصود منه الحقيقة اللغوية لا الشرعية.

أما النصوص التي هي مناط الاستدلال لهذا الرأي الأخير ـ وهو القول بالتلازم بين الإسلام والإيمان مع افتراق اسميهما ـ فحديث جبريل المشهور، وحديث وفد عبد القيس.

أما حديث جبريل، فقد رواه عبد الله بن عمر عن أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتَيه إلى ركبتَيه، ووضع كفَّيه على فخذَيه، وقال:" ما محمد، أخبرني عن الإسلام "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلاً "، قال:" صدقت ". قال: فعجِبنا له يسأله ويصدِّقه.

قال:" فأخبرني عن الإيمان "، قال:" أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "، قال:" صدقت ". قال: " فأخبرني عن الإحسان "

1.

وأما حديث وفد عبد القيس، فرواه مسلم في صحيحه، عن ابن

1 متفق عليه. وهذا لفظ مسلم. انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي له، ج1 ص157، وصحيج البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص 114، ط المطبعة السلفية.

ص: 36

عباس رضي الله عنهما قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا هذا الحيّ من ربيعة، بيننا وبينك كفار مضر، فلا نخلص إليك إلا في شهر حرام، فمُرْنا بأمر نعمل به، وندعوا إليه من رواءنا، قال: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله، ثم فسرها لهم فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن أربع

" 1.

ووجه الاستدلال بهذين الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل، فجعل الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الاعتقاد الباطن وهذا يدل على اختلافهما من حيث الحقيقة الشرعية، ودفعاً لِتوهّم التباين بينهما فقد فسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل لنكون على علم بالتلازم في الوجود، مع افتراق الاسم وقد تقدَّم تشبيههما بالشهادتين.

ودفعاً لِتوهّم التعارض بين الحديثين، فقد جمع السلف بينهما ـ على أن الإيمان والإسلام إذا ذُكرا مجتمعَين، كما في حديث جبريل، فإنه يراد من كل منهما غير ما يراد من الآخر، فيراد من الإيمان ما في القلب،من الإيمان بالله وملائكته

إلى آخر ما ذُكر في الحديث. ويراد بالإسلام الشهادتان بتوابعهما من الأعمال الظاهرة. وإذا ذُكر أحدهما مجرداً عن الآخر دخل الآخر فيه، كما في حديث وفد عبد القيس.

قال أبو عمرو بن الصلاح في كلامه على حديث جبريل: قوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. والإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال: هذا بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن،

1 صحيح مسلم، مع شرحه للنووي، ج1 ص183.

ص: 37

وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتمُّ استسلامه ـ وتركه لها يُشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث، وسائر الطاعات، لكونها ثمرات للتصديق الباطن، الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له. ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخُمس من المغنم. ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على مَن ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة، لأن اسم الشيئ مطلقاً يُطلق على الكامل منه، ولا يُستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ". واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام، قال: فخرج مما ذكرنا وحققنا أن الإيمان والإسلام يجتمعان، ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، قال: وهذا تحقيق وافر بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام، والتي طالما غلط فيه الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم 1أهـ.

وكلام ابن الصلاح هذا كافٍ في بيان ما يمكن أن تجتمع عليه نصوص الكتاب والسنة، التي استدل بها كل فريق. أما ما ذكره من أن الجمهور من أهل السنة يقولون: إن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، فلقائل أن يقول: كيف تثبت هذا القول على سبيل الإقرار، وأنت ذكرت في التحقيق السابق أنه لا يمكن أن يوجد إسلام بدون إيمان، إذ لا بد للمسلم من إيمان به يصح إسلامه؟ قلت: هذا صحيح، ولكنه لا يتنافى مع

1 نقلاً عن: النووي محي الدين يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، ج1 ص147ـ 148.

ص: 38

ما ذكره ابن الصلاح هنا. إذ أننا نظرنا إليه بنظرتين، فإذا نظرنا إليه من الناحية الشرعية المعتبرة، ارتسم أمامنا القول الأول، إذ من الناحية الشرعية لا يمكن أن يوجد إسلام بدون إيمان، فالأسلام المعتبر لا بد معه من إيمان يصححه.

أما هذا المعنى الذي ذكره ابن الصلاح فيمكن أنه يقصد أن كل مؤمن كامل الإيمان فهو مسلم.أما المؤمن العاصي، فإنه ناقص الإيمان، فلا يُعطى الاسم الكامل إلا بقيدٍ، أو يقال أنه مسلم ولا يقال مؤمن، لأن الإطلاق لا يكون إلا للكامل منه فحينئذٍ يكون مسلماً وليس مؤمناً بمعنى أنه ليس كامل الإيمان، لا أنه لا إيمان معه البتة.

وقد يراد به المعنى اللغوي للإسلام، والمعاملة الظاهرة من قبَلنا لِمَن ادعى ذلك، ففي اللغة اسم المسلم يُطلق على المنافق الذي يدَّعي الإسلام، ولنا أن نعامله في الظاهر بأنه مسلم، فمَن أسلم بظاهره دون باطنه فهو منافق يُقبل منه ما أظهر من إسلام، لأننا لم نؤمَر بالشقِّ عن قلوب الناس، والنفاذ إلى ما وَقَرَ فيها لِتَبيُّنه، ثم اعتبار ما أخفاه في قلبه نَكِلَه إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولا المعنيين صحيح. لكن الظاهر أن ابن الصلاح قصد الأول منهما.

أما قوله: إن الطاعات ثمرات التصديق الباطن، فإنه يقصد الإيمان في القلب، فإنه يُوجب ويقتضي القيام بالأعمال الظاهرة، التي هي لوازم له، إذ لا يُعقل وجود الملزوم بدون اللازم، فانتفاء اللازم دليل على عدم الملزوم أو ضعفه، وحينئذٍ فكل نقص يقع في الأعمال الظاهرة إنما هو انعكاس لنقص الإيمان الباطن، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار، والحب والانقياد باطناً، ولا يحصل أثر ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، لا أن الإيمان الباطن قد يكون سبباً، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم توجد، كما قالت المرجئة. ومن أدلة هذا الرأي أيضاً، أن الله قد جعل ضد الإسلام والإيمان واحداً، فلولا أنهما كشيئ واحد في الحكم والمعنى،

ص: 39

ما كان ضدهما واحداً فقال سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} 1 وقال: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وعلى مثل هذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام من صنف واحد، كما في حديث وقد عبد القيس المتقدم، مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بُنيَ الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة،وحج البيت، وصوم رمضان " وفي رواية " وصيام رمضان، وحج البيت ".

فدل ذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر إلا بإيمان باطن، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه.

وهكذا يتبيَّن لنا أن هذا الرأي هو الصحيح الذي ينبغي أن يقال: والذي عليه تجتمع آراء السلف، لأن الخلاف بينهم في هذه المسألة لفظيّ في نظري إذ أن الجميع متفقون على أن العمل لا بد منه، وأن الإيمان لا قيمة له إذا لم يُشفع بالعمل. وكلهم يقول بنفصان الإيمان إذا قصر في العمل وزيادته حتى درجة الكمال، إذا حافظ الإنسان على جميع المأمورات واجتنب كافة المنهيات وتوخى الإحسان والدقة في ذلك.

1 آل عمران: 76.

2 آل عمران: 70.

ص: 40