الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: موقف السلف من أراء مذاهب المتكلمين
الفصل الأول: موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان
…
الفصل الأول
موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان
جمعاً لشتات آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان، أوجزها فيما يأتي فأقول:
إن حاصل ما تقدم من الآراء في حقيقة الإيمان يمكن إجمالها في نوعين: مفرد ومركب. فالبسيط منها ثلاثة: 1 ـ التصديق الذي هو رأي المرجئة والمختار عند الأشاعرة وبعض الأحناف. 2 ـ المعرفة وهذا رأي جهم بن صفوان الترمذي. 3 ـ الإقرار فقط وهو ما ذهبت إليه الكرامية.
أما المركب فاثنان: واحد منهما للمتكلمين من الأحناف وبعض الأشاعرة وهو التصديق والإقرار. وثانيهما: ما ذهب إليه السلف، والمعتزلة والخوارج من المتكلمين من أنه تصديق، وإقرار، وعمل.
ويلاحظ من آراء المتكلمين السالفة الذكر أنهم يجمعون على تأخير العمل عن الركنية في الإيمان وعدم دخوله فيه ما عدا الخوارج والمعتزلة طبعاً. وإليك موقف السلف من هذا الرأي.
1 ـ موقف السلف من المتكلمين في تأخيرهم العمل عن الإيمان:
لقد وقف السلف من هذا الرأي موقفاً ينكرون فيه صحته ويقررون ضده، فقد تقدم أن السلف قالوا بدخول الأعمال في الإيمان، وأنها ركن
ثالث من أركانه، واعتبروا ما عدا هذا الرأي رأياً خاطئاً، معارضاً لما ورد من نصوص تطلق على الأعمال إيماناً، فنصوص الكتاب والسنة، مليئة بما يصعب حصره مما يدل على هذا الرأي. وكمثال لهذا الاستدلال الذي يتضمن الرد على الرأي المخالف، ما ذكره الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله من نصوص صريحة ورتَّبها ترتيباً قصد به الرد على من أخر العمل عن الإيمان. وإليك بعضاً من النصوص التي أوردها والمنهج الذي سلكه، فقد وضع رحمه الله تراجم، وأدرج تحتها ما يدل عليه من آية أو حديث حيث قال:" باب أمور الإيمان " 1 ثم ساق قول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} 2.
وساق بعد هذه الآية حديث شعب الإيمان. ثم بدأ بعد ذلك يعقد باباً لكل خصلة من خصال الإيمان فقال: " باب المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده "3. ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". وقال أيضاً: " باب قيام ليلة القدر من الإيمان " 4ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ".
و" باب الجهاد من الإيمان " 5و " باب تطوع قيام رمضان من الإيمان " 6
1 انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص50.
2 البقرة: 177.
3 صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص53.
4 المصدر نفسه ص91.
5 المصدر نفسه ص 92.
6 المصدر نفسه ص 92.
و " باب الصلاة من الإيمان " 1 ثم ساق قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 2، إلى غير ذلك مما ذكره رحمه الله. وقد عُرف هذا المنهج واشتهر بين العلماء. وهو منهج قصد به الرد على المرجئة، ومن وافقهم في إخراج العمل عن الركنية في الإيمان. ووجه الاستدلال بما تقدم ذكره: أن كتاب الله رسنة رسوله أطلقت على الأعمال اسم الإيمان، فالجهاد من الإيمان والصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة وجميع أعمال البر، فكيف يصح القول بأن الأعمال ليست من الإيمان مع أن الشارع الحكيم أطلق عليها إيماناً. وزعم خلاف ذلك باطل يشتمل على مخالفة واضحة، وصريحة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فواجبنا الاتباع فيما قرره الوحي.
وما قاله البخاري وقرره، هو بعينه رأي السلف جميعاً، وقد بدَّعوا من خالفه وأنكروا عليهم رأيهم. وقد قرر هذا المعتقد، وبين هذا الموقف من جانب السلف (الإمام أحمد) في كتاب السنة، حيث بين أن المذهب الصحيح هو القائل بتركب الإيمان من أمور ثلاثة وأن الأعمال أحد هذه الأركان، وقرر الأدلة التي قال بها البخاري ومن نحا نحوه 3. فإذاً السلف تمسكوا بالوحي الذي يؤمن به الجميع وردوا على مخالفيهم بالنصوص الصحيحة الصريحة. وبالإضافة إلى هذه الطريقة المثلى في إثبات المعتقد والرد على الخصوم ـ سلكوا طريقاً آخراً لإفساد رأي من أخَّر العمل عن الإيمان وهو طريق الإلزام حيث ذكر ابن تيمية عن أبي ثور قوله في الرد على أصحاب هذا الرأي:
…
فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان، فيقال لهم: ماذا أراد الله من العباد إذ قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 4 الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل، فقد كفرت.
1 المصدر نفسه ص95.
2 البقرة: 143.
3 انظر: كتاب السنة للإمام أحمد، ص72-106، ط المطبعة السلفية، سنة 1349هـ.
4 البقرة: 43.
…
وإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل ـ قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعاً، لِمَ زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر، وقد أرادهما جميعاً؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقرّ به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقرُّ بجميع ما أمر الله به، ولا أعمل به يكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل: ما الفرق. فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر، جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقر مؤمناً، ولا فرق بين ذلك.
فإن احتجّ فقال: لو أن رجلاً أسلم فأقرَّ بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أيكون مؤمناً بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل. قيل له: إنما يطلق له الاسم بتصديق أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمناً، ولو قال: أقر ولا أعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان ـ يعني أنه لا يكون مؤمناً إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار، وإلا فلو أقر ولم يلتزم بالعمل لم يكن مؤمناً 1.
فإذاً العمل ركن في الإيمان على رأي السلف والقول بأخراجه غير صحيح والسلف جميعاً ضد هذا الرأي الأخير لما له من نتائج خطيرة على الإسلام الذي هو دين عملٍ وكدٍّ وكفاحٍ، لا يعرف الكلل، ولا يركن إلى السلبيات، بل يبحث عن الإيجابيات التي تحرك المسلم، وتدفع به إلى الإنتاج النافع، الذي يرتفع بمستوى هذا الدين إلى المكانة اللائقة، التي يجب أن نحاول الوصول بديننا الحنيف إليها. فالمسلمون كانوا في الصدر الأول مدركين لهذه الحقيقة، إذ ورد في وصفهم بأنهم كانوا رهباناً بالليل، أسوداً بالنهار، فينبغي أن يسلك المسلمون في هذا العصر، وفي كل زمان بعده، مسلك أولئك الرجال الذين كانوا خير مثل في تطبيق تعاليم هذا الدين الحنيف. وهذا المسلك لا يتناسب معه إلا رأي السلف الصالح، الذي
1 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص332.
يجعل العمل جزءاً من الإيمان الذي هو بعينه الإسلام عندهم، وعند بعضهم ملازم له ملازمة الروح للجسد، أما تلك الآراء التي تبعد العمل عن الإيمان ففيها تثبيط للهمم، وتقاعس عن العمل الجاد المثمر، الذي يطلبه الإسلام، مع أنه ينبغي هنا ـ من باب الإنصاف ـ أن نفرق بين الرأيين اللذين تضمنا تأخير العمل عن الإيمان. فأحد الرأيين كما اتضح لنا في موضعه، إباحي بالمرة، ينادي صراحة بما يخالف تعاليم الإسلام أمراً ونهياً، فيقول للإنسان صدق بقلبك وكفى، ثم اسلك ما شئت من طرق الشر والضلال، وهو ما تضمنه قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وهؤلاء هم غلاة المرجئة، ولا أحد يشك في تفاهة هذا الرأي وخطره على الإسلام.
أما الرأي الآخر الذي تضمن تأخير العمل عن الإيمان، فإنه وقف إلى جانب السلف في إنكار الرأي السالف للمرجئة، إذ قال أصحابه بوجوب الإتيان بالعمل، ومن قصَّر فيه فليعرف أنه في خطر كبير، إذ أنه معرض لعقاب الله تعالى. ولا شك أن هذا الأخير أخف من ذاك، بل هو في نظري مقارب لمذهب السلف في اعتبار الأعمال. وإنما الخلاف في كون السلف يجعلونه ركناً داخلاً في الإيمان، وأطلقوا عليه اسم الإيمان أما هؤلاء فقالوا ليس ركناً ولا يطلق عليه إيمان، وهو موضع النقد والمخالفة التي تقدم بيانها. فالخلاف بين هؤلاء وبين السلف لفظي، ولكن لا ينبغي أن يفهم من قولي بلفظية الخلاف أنني أوافقهم، وأقرهم على إخراج العمل عن الإيمان، لأن اللفظ الذي يجب أن يقال ويقرر ما دل الوحي عليه، وهو أن الأعمال جزء من الإيمان، وتسمى إيماناً.
أما ما استدلوا به على رأيهم من النصوص التي عطفت الأعمال على الإيمان ـ كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إذ قالوا: إن العطف دليل على المغايرة، فإن هذا غير صحيح أيضاً، فدلالة العطف على المغايرة، ليست في كل حال من أحوال العطف والعطف هنا لا دليل لهم فيه، إذ أنه من باب عطف الخاص على العام، وأمثلته في القرآن كثيرة. منها قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} 1 فلا أحد ينكر أن جبريل وميكال من الملائكة، ولو كان العطف يقتضي المغايرة في جميع أحواله، لدلَّت هذه الآية على أن جبريل وميكال من جنس آخر غير الملائكة، وذلك ما لا يقول به أحد. ومنها قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 2 إلى غير ذلك من الأمثلة التي أجاب بها السلف 3. وقد تقدم قول السلف أن الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة كما هو مفسر في حديث جبريل إذا ذكر مقروناً بالإيمان فإنه يراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر في الحقيقة الشرعية ولكنه لا يدل على التغاير بينهما تغايراً لا التقاء معه، لأن أحدهما إذا ذكر منفرداً دخل الآخر فيه كما في حديث وفد عبد القيس وكذلك يقال في كل نص شرعي من آية أو حديث ورد فيه الإسلام مقروناً بالإيمان أو مفصلاً عنه.
وقد وجد المتكلمون أن النصوص المستفيضة تطلق على العمل اسم الإيمان، فلم يجدوا مخرجاً منها إلا بأن قالوا: دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز، وعلى تصديق القلب كما في حديث جبريل حقيقة. وقد رد هذا القول بأنه ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ: اصطلاح حادث بعد انفضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم، كمالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي. بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو، كالخليل، وسيبويه، وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم. وأول من عُرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية
…
وإنما هذا الاصطلاح حاديث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين، فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه، والأصول، والتفسير، والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول
1 البقرة: 98.
2 البقرة: 238.
3 انظر: كتاب الإيمان لا بن تيمية، ص166.
من جرد الكلام في أصول الفقه، لم يقسم هذ االتقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز
…
وكذلك سائر الأئمة، لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم، إلا في كلام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله (أنا ونحن) ونحو ذلك في القرآن، هذا من مجاز اللغة.
…
وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال أن في القرآن مجازاً
…
والذين أنكروا أن يكون أحمد أو غيره نطقوا بهذا التقسيم، قالوا: ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له
…
ثم يقال ثانياً: هذا التقسيم لا حقيقة له، وليس لمن فرق بينهما حد صحيح، يميز بين هذا وهذا، فعلم أن هذا التقسيم باطل،وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول، بل يتكلم بلا علم، فهم مبتدعة في الشرع، مخالفون للعقل وذلك أنهم قالوا: الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز: هو المستعمل في غير ما وضع له، فاحتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال، وهذا يتعذر 1.
فمما تقدم نفهم أن السلف ينكرون أن يكون في القرآن مجاز، ولا حتى في اللغة، وعلى فرض وجوده فالقرآن يخلو منه. غير أني أقول: إن القرآن قد يشتمل على مجاز في بعض سوره، غير أن كل آية فيه تقرر عقيدة فإنها تدل عليها دلالة حقيقية، ودعوى المجاز في هذا النوع من نصوص القرآن دعوى باطلة، وإنما خطر الاختلاف في العقائد، كان منبعه حكاية المجاز، إذ جنى على العقيدة الإسلامية جناية كبيرة، وأحدث بين أهلها الفرقة في كثير من أفكارهم وتصوراتهم. ثم على فرض اشتمال القرآن ككل على مجاز ـ وهذا ما لا يقرّه السلف ولا كل ناشد للحقيقة فإنه لا بد من قرينة تصرفه عن ظاهر معناه الأصلي، ولا قرينة هنا يمكن أن نصرف بها النصوص السالفة الذكر عن ظاهر معناها الدال على أن الأعمال من الإيمان. ثم على فرض وجوده
1 انظر: كتاب الإيمان لا بن تيمية، ص72-80.
أيضاً، فإنه لا يمكن أن يستعمل على هذا النطاق الواسع، فكثرة النصوص الواردة في هذا الموضوع تدفعنا إلى القول بأن المجاز لو كان وارداً هنا لكانت نصوصه قليلة، ولكن كثرة التكرار فيه تأكيد لا يقبل الجدل على أن العمل من الإيمان حقيقة لا مجازاً، وكل رأي غير هذا الرأي فلا اعتبار له.
2 ـ موقف السلف من المتكلمين في تصورهم لحقيقة الإيمان:
أما آراؤهم في حقيقة الإيمان من الاقتصار على شيئ واحد هو التصديق وحده، أو المعرفة وحدها، أو الإقرار، أو أنه إقرار وتصديق فقط فهذا خطأ أيضاً والسلف رحمهم الله جمعوا هذه الآراء بأن قالوا الإيمان تصديق وإقرار وعمل وكل رأي غير هذا فهو باطل ينتج عنه إهمال جوانب أخرى دلَّ الوحي عليها. إذ ورد في كتاب الله تعالى ما يدل على أن تصديق القلب إيمان كقوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1 وغيرها مما تقدم ذكره، فهذه الآية وأمثالها دالة على وجوب الإيمان بالقلب تصديقاً واعتقاداً وهي ما ركن إليه أصحاب القول بالتصديق فقط. إلا أنهم أهملوا ما سواها من النصوص الآتية التي تدل على الإقرار وما تقدم ذكره مما يدل على العمل.
فمما يدل على وجوب الإيمان باللسان نطقاً قوله تعالى في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} 2.
وقال عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
…
" وغير ذلك مما تقدم ذكره. قالوا: هذه أدلة على وجوب
1 النحل: 106.
2 البقرة: 136-137.
الإيمان باللسان نطقاً. أما الأعمال فقد تقدم بعض النصوص التي تدل أيضاً على أنها إيمان. وكلها أدلة شرعية يؤمن بها الجميع، فلا مجال لإنكارها أو تأويلها بغير ما تحتمل من معنى. أما أدلة المتكلمين على مذاهبهم فإن أكثر ما فيها أنها تدل على ذلك الجانب الذي أخذوا به، ولكنها لا تدل على إبعاد الجوانب الأخرى. أما ما ادعوه من الحصر، وظنوا أن أدلتهم ترشد إليه، فإن ذلك غير صحيح، ونبدأ أولاً بنقاش من قال بأن الإيمان هو التصديق فقط. وقد سبق بسط أدلتهم في مواضعها فلا داعي لإعادتها 1 وقد ذكر أدلتهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقال بعدها: وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة. ثم ذكر أجوبة السلف التي نوجزها فيما يأتي:
1 ـ دعوى إجماع أهل اللغة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، يقال: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟.
2 ـ أن يقال: أتعني بأهل اللغة نقلتها كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه. وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل إلاسلام فهؤلاء لم نشهدهم ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك.
3 ـ أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق بل ولا عن بعضهم، وإن قُدِّر أنه قاله واحد أو اثنان، فليس هذا إجماعاً.
4 ـ أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وحينئذٍ فلو قدّر أنهم نقلوا كلاماً عن العرب يفهم منه أن
1 انظر ما ساقه الباقلاني في ذلك عند بيان مذهب الأشاعرة، ص155،156 من هذا البحث.
الإيمان هو التصديق لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يرده، فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى.
5 ـ أنه لو قدر أنهم قالوا هذا، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن؟ إنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق، فإن قيل: هذا يقدح في العلم باللغة قبل نزول القرآن، قيل فليكن، ونحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن. والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عرباً، وقد فهموا ما أريد به وهم الصحابة ثم الصحابة بلَّغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين حتى انتهى إلينا، فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن، لكن لما تواتر القرآن لفظاً ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم لفظ السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر. ونحو ذلك على ما هو معناها في القرآن. وإلا فلو كلفنا نقلاً متواتراً لآحاد هذه الألفاظ من غير القرآن لتعذر علينا ذلك في جميع الألفاظ، لا سيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد باللفظ هذا المعنى، فإن هذا يتعذر العلم به.
والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفاً على شيئ من ذلك، بل الصحابة بلَّغوا معاني القرآن كما بلَّغوا لفظه.
6 ـ أنه لم يذكر شاهداً من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر، وفلان لا يؤمن بذلك، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر. ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان مؤمن يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك.
القائل لذلك وإن كان تصديق القلب داخلاً في مراده، فليس مراده ذلك وحده بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه.
7 ـ أن يقال: من قال ذلك، فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف، بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها، وإلا فلو صدق بأنه يعذب في قبره، ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلاً لم يسموه مؤمناً به. كما أنهم لا يسمون مؤمناً بالجنة والنار إلا من رجا الجنة وخاف النار، دون المعرض عن ذلك بالكلية مع علمه بأنه حق. كما لا يسمون إبليس مؤمناً بالله، وإن كان مصدقاً بوجوده وربوبيته ولا يسمون فرعون مؤمناً، وإن كان عالماً بأن الله بعث موسى، وأنه هو الذي أنزل الآيات، وقد استيقنت بها أنفسهم مع جحدهم لها بألسنتهم ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول، وإن كانوا يعرفون أنه حق، كما يعرفون أبناءهم. فلا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيئ مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه ولا يعظمه ولا يخافه ولا يرجوه بل يجحد به ويكذب بلسانه، أنهم يقولون: هو مؤمن به، بل ولو عرفه بقلبه، وكذب به بلسانه، لم يقولوا: هو مصدق به. ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه، لم يقولوا: هو مؤمن به. فلا يوجد في كلام العرب شاهد واحد يدل على ما ادعوه. وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} فإن هذا استدلال بالقرآن، وليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر.
8 ـ قوله: لا يعرفون في اللغة إيماناً غير ذلك. من أين له هذا النفي الذي لا تمكن الإحاطة به؟ بل هو قول بلا علم.
9 ـ أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان
الشرعي ليس هو التصديق بكل شيئ، بل بشيئ مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود لا توجد في جميع العام، كالحيوان إذا أخذ بعض أنواعه وهو الإنسان كان فيه المعنى العام، ومعنى اختص به، وذلك المجموع ليس هو المعنى العام فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص من غير تغيير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان، وأنه ناطق.
10 ـ أن القرآن ليس فيه ذكر إيمان مطلق غير مفسر، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد وإما مطلق مفسر. فالمقيد كقوله:{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 1 وقوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} 2. والمطلق المفسر كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
…
} 3 وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4 ونحو ذلك. وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 5 وأمثال هذه الآيات وكل إيمان مطلق في القرآن فقد يبين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمناً إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لا بد فيه من عمل مع التصديق. كما ذكر مثل ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج
…
1 البقرة: 3.
2 يونس: 83.
3 الأنفال: 2.
4 الحجرات: 15.
5 النساء:65.
11 ـ أنه إذا قيل: إن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فإنما خاطبهم بلغتهم المعروفة وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقاً وعاماً، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه كما يقولون: ذهب إلى القاضي والوالي والأمير، يريدون شخصاً معيناً يعرفونه دلت عليه اللام مع معرفتهم به. وهذا الاسم في اللغة اسم جنس لا يدل على خصوص شخص، وأمثال ذلك. فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة، إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، أو الدعاء الذي صفته كذا وكذا. فبتقدير أن يكون بلغتهم التصديق فإنه قد يبين أني لا أكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلاً عن تصديق القلب وحده، بل لا بد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 2
…
ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة كقوله عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " وأمثال ذلك. فقد بين لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمناً إلا به، هو أن يكون تصديقاً على هذا الوجه. وهذا بيِّنٌ في القرآن والسنة من غير تغيير للغة ولا نقل لها.
12 ـ أن يقال: بل نقل وغير. قوله: لو نقل لتواتر، قيل: نعلم. وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفة. وأراد بالإيمان ما بينه بكتابه وسنة رسوله من أن العبد لا يكون مؤمناً إلا به، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
…
} وهذا متواتر في القرآن والسنة، ومتواتر أيضاً أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض.
1 الحجرات: 15.
2 الأنفال: 2.
13ـ قوله: ولا وجه للعدول بالأيات التي تدل على أنه عربي عن ظاهرها، فيقال له: الآيات التي فسرت المؤمن، وسلبت الإيمان عمن لم يعمل، أَصْرَحُ وأكثر من هذه الآيات. ثم إذا دلت على أنه عربي، فما ذكر لا يخرجه عن كونه عربياً. ولهذا لما خاطبهم بلفظ الصلاة والحج وغير ذلك، لم يقولوا: هذا ليس بعربي. بل خاطبهم باسم المنافق، وقد ذكر أهل اللغة أن هذا الاسم لم يكن يعرف في الجاهلية، ولم يقولوا: إنه ليس بعربي، لأن المنافق مشتق من نفق إذا خرج فإذا كان اللفظ من لغتهم، وقد تصرف فيه المتكلم به كما جرت عادتهم في لغتهم لم يخرج ذلك عن كونه عربياً 1
…
فهذه المناقشات من جانب السلف تؤدي إلى أن الصحيح هو أن الإيمان تصديق وعمل وليس تصديقاً فقط.
أما ما ذهب إليه الجهمية من أن الإيمان هو المعرفة المجردة. فهذا أيضاً رأي فاسد إلى أبعد الحدود، وقد وقف السلف منه موقف الرفض والإنكار، ورأوا فيه خطراً يهدد الإسلام، وهو وإن كان يشارك المرجئة الرأي في مذهبهم، فإنه أشد خطراً وأكثر فساداً، إذاً المعرفة أمر فطري في جميع البشر، فلا أحد ينكر أن الله هو الرب الخالف لكل شيئ، سوى الدهريين والملاحدة. وبناءاً على هذا فقد قال جهم بتساوي الناس في هذه المعرفة، وذلك بدوره يؤدي إلى تساويهم في الإيمان إذ المعرفة لا تتبعض، وإنما هي شيئ واحد لا تعدد فيه.
وهذا مذهب واضح البطلان عقلاً وشرعاً. ووجه بطلان هذا المذهب أنه يدخل في الإيمان ماليس منه ويقتصر على المعرفة وحدها، ويجعل الناس في الإيمان سواسي سواء في ذلك النبي والولي والمجرم والمشرك واليهودي، وكل كافر بأي نوع من أنواع الكفر، ولا يوجد ثمة عقل سليم يسوي بين هذه العناصر وبين أنبياء الله وأوليائه وفي إيضاح فساد هذا
1 انظر هذه المناقشات في كتاب الإيمان لابن تيمية، ص102ـ109، ط المكتب الإسلامي، دمشق.
المذهب يقول شارح ((العقيدة الطحاوية)) : "
…
لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} 1 وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2 وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً فإنه قال:
ولقد علمت بأن دين محمد
…
لولا الملامة أو حذار مسبَّة
من خير أديان البرية دينا
…
لوجدتني سمحاً بذاك أمينا
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3،:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 4،:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 5، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ولا أحد أجهل منه بربه فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه " 6.
فهذه إلزامات أوردها شارح ((العقيدة الطحاوية)) على مذهب الجهم، وهي إلزامات تؤدي إلى فساد مذهبه بوضوح لأن القول الذي يؤدي إليها وهي فسادة لا يسعه إلا الالتزام بها فيكون كافراً لا ريب، أو ينكرها، ولا يمكن انفصال مذهبه عنها فيكون مذهبه فاسداً بالضرورة.
1 الإسراء:102.
2 النمل:14.
3 الحجر: 36.
4 الحجر: 39.
5 ص: 82.
6 شرح العقيدة الطحاوية، ص373-374، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت.
وإذا اتضح فساد مذهب الجهم هذا الذي يجعل الإيمان مجرد المعرفة، ننتقل إلى بيان موقف السلف من مذهب الكرامية القائل بأن الإيمان هو شيئ واحد فقط وهو الإقرار باللسان حذراً من تبعضه، وهذا رأي يراه السلف فاسداً أيضاً، لأنه يؤدي إلى القول بإيمان المنافقين وهذا مالا يقول به مسلم، وليس هذا إلزاماً لهم بل قالوا به حقيقة لكن تقدم أن ابن تيمية يرى أن خلافهم للسلف إنما هو في الاسم فقط. أما الحكم فيرون أنهم في الآخرة يلقون ما أوعدهم الله به من النار، وإيمانهم بألسنتهم غير نافع لهم في الآخرة، لأن الحكم الآخروي يستلزم مطابقة الباطن للظاهر، ولكن الكرامية أخطؤوا في تسمية المنافق مؤمناً وإن كانت تجري عليه أحكام الدنيا لكونه اتقى بادعاء الإيمان بلسانه فليس لنا إلا الظاهر. ولكننا إذا عرفنا المنافق فليس له منا إلا ما سماه الله به.
ورأي الكرامية هذا وإن كان فاسداً أيضاً، غير أن رأي الجهمية أفسد وأكثر خطورة منه. أما مذهبهم في العصاة فهو عين مذهب المرجئة إذ أن من أقرَّ بلسانه فهو مؤمن مهما عمل بشرط أن يطابق ظاهره باطنه. وسيأتي النقاش في مسألة العصاة إن شاء الله. ومذهب الكرامية هذا وما استدلوا به عليه إنما يؤدي إلى القول بأن الإقرار أحد أركان الإيمان التي قال بها السلف. أما الحصر فيه فلا دليل عليه أبداً مثله كمثل غيره من المذاهب المفردة في الإيمان فالتصديق والعمل تقدمت الأدلة على ضرورته وكذلك الإقرار باللسان.