المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: في حقيقة الإيمان - الإيمان بين السلف والمتكلمين

[أحمد بن عطية الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: مذهب السلف في الإيمان

- ‌الفصل الأول: في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌الفصل الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الرابعمذهب السلف في مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الخامسالاستثناء في الإيمان

- ‌الباب الثاني: مذاهب المتكلمين في الإيمان

- ‌الفصل الأول: الخوارج

- ‌الفصل الثانيالمرجئة

- ‌الفصل الرابعالجهمية

- ‌الفصل الخامسالكرامية

-

- ‌الفصل السادس: المعتزلة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند المعتزلة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثزيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعحكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة

-

- ‌الفصل السابع:الأشاعرة

- ‌المبحث الأولحقيقة الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثانيالصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالثمذهب الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابعرأي الأشاعرة في مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث الخامسالاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌الباب الثالث: موقف السلف من أراء مذاهب المتكلمين

- ‌الفصل الأول: موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان

- ‌الفصل الثاني: موقف السلف من آراء المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه

- ‌الفصل الثالثموقف السلف من المتكلمين في حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الفصل الرابعموقف السلفمن المتكلمين في مسألة الاستثناء

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الأول: في حقيقة الإيمان

‌الباب الأول: مذهب السلف في الإيمان

‌الفصل الأول: في حقيقة الإيمان

الفصل الأول

مذهب السلف في حقيقة الإيمان

إذا استعرضنا رأي السلف حول حقيقة الإيمان فإننا نجد عباراتهم قد اختلفت في التعبير عنهما، فمالك، وأبوبكر بن عياش، وعبد العزيز بن أبي سلمة 1، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد يقولون: الإيمان: المعرفة والإقرار والعمل 2.

وسُئل فضيل بن عياض عن الإيمان فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان والقبول بالقلب والعمل به 3.

وقال عبيد بن عمير الليثي4: ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن الإيمان قول يُعقل وعمل يُعمل 5. وقد حصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

1 هو عبد العزيز بن أبي سلمة، الماجشون، بكسر الجيم، بعدها معجمة، مضمومة المدني، نزيل بغداد، مولى آل الهدير، ثقة فقيه، مصنف. مات سنة أربع وستين، أخرج له الجماعة، انظر:((تقريب التهذيب)) لابن حجر، ج1 ص 510.

2 ابن حنبل، أحمد بن محمد، كتاب السنة، ص74 ط المطبعة السلفية سنة 1349هـ.

3 المصدر نفسه ص 75.

4 هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قاله مسلم، وعدَّه غيره في كبار التابعين، وكان قاصَّ أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر، خرَّج له الجماعة، ابن حجر، المصدر السابق ص 544.

5 ابن حنبل، المصدر السابق ص76.

ص: 17

عباراتهم المستعملة في أربع: قول وعمل، وقول وعمل ونية، وقول وعمل واتباع السنة، وقول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح 1.

وقد بيَّن شيخ الإسلام رحمه الله مقصود السلف في عباراتهم هذه بقوله: " والمقصود هنا، أن مَن قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يُفهَم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب.

ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يُفهَم منه النية، فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال، والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل. والذين جعلوه أربعة، بينوا مرادهم، كما سُئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل، فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذاك كان قولاً وعملاً ونية لا سنة فهو بدعة " 2. وبهذا البيان الشافي من شيخ الإسلام، يندفع ما قد يتوهم من خلاف بين عبارات السلف، لأنها جميعها تلتقي عند مفهوم واحد، فجميعهم يقولون لا بدَّ من تصديق القلب وإظهار هذا التصديق بالقول باللسان، ثم التصديق العملي لذلك، بالقيام بعمل ما أوجبه الله ورسوله من الأعمال الظاهرة، والباطنة، واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه منها، وفق الكتاب والسنة، كما قال محمد بن الحسين الآجري: " ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب، والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان، حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمناً " 3.

1 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، كتاب الإيمان ص 142 ط المكتب الإسلامي بدمشق.

2 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المصدر السابق ص 143.

3 الآجري، أبو بكر محمد بن الحسين،كتاب الشريعة، بتحقيق محمد حامد الفقي، ص119 ط1 بمطبعة السنة المحمدية سنة 1369هـ ـ 1950م.

ص: 18

ويقول ابن تيمية رحمه الله: " كان مَن مضى من سلفنا، لا يفرِّقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل

فمَن آمن بلسانه، وعرف بقلبه، وصدَّق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها. ومَن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدِّق بعمله، كان في الآخرة من الخاسرين. وهذا معروف عن غير واحد من السلف، والخلف، أنهم يجعلون العمل مصدِّقاً للقول " 1.

ومن القائلين بأن الإيمان قول وعمل: الأئمة الثلاثة، أحمد بن حنبل، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس، وغيرهم من الأئمة، كسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن جريج، ومعمر بن راشد، وغيرهم2.

وقد ذكر هذا القول أيضاً عن هؤلاء الأئمة وغيرهم، أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة حيث بسط عقيدة كل إمام في باب مستقل، وكلهم يقول بأن الإيمان قول وعمل.

كما أن الإمامين الجليلين، صاحبي أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى، اللذين اتفقت الأمة بأسرها على جلالتهما، وعلوِّ قدرهما، قد قالا بهذا القول أيضاً، وعوَّلا عليه في كتابيهما واستدلا له استدلالاً واضحاً جلياً. فقد رتب الإمام البخاري كتاب الإيمان من صحيحه ترتيباً ينمُّ عن عقيدته في القول بركنية العمل في الإيمان، وفضلاً عن ذلك فقد استهل كتاب الإيمان بقوله: وهو قول وفعل، ويزيد وينقص. ثم سرد أدلته على ذلك من الكتاب والسنة.

ويتضح لنا مما تقدم أن السلف ـ عليهم رحمة الله ـ لم يكتفوا في الإيمان بجانب واحد بل يرون أنه لا بد من الاعتقاد بأنه مكوَّن من أمور ثلاثة، لا غنى عن أحدها، فهو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، وكلهم مجمعون على ذلك، لأنهم رأوا أن

1 ابن تيمية، المصدر السابق ص 250.

2 ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري، ج1 ص47 ط المطبعة السلفية.

ص: 19

الكتاب والسنة يؤيدان هذا المعتقد، بل يشتملان على ما يوجب الأخذ به دون سواه.

وقبل البدء في إيضاح أدلتهم على معتقدهم هذا، أرى من الضروري أن أشير إلى أن قول شيخ الإسلام الهروي1: الإيمان تصديق كله. والذي ذكره عنه ابن تيمية 2، لا يتنافى مع الأقوال المتقدمة، والتي اتضح لنا أن المراد منها واحد في المعنى، وكذلك تعبير الشيخ الهروي هنا عن الإيمان، يلتقي معها في المفهوم المعنوي، لأن مراده أن كل ركن من أركان الإيمان، يصدق عليه اسم التصديق، كما أن اعتقاد القلب يعتبر تصديقاً، فكذلك القول باللسان، يصدِّق هذا الاعتقاد، ويبرز وجوده. والعمل يدلُّ على صدق الإنسان فيما اعتقده بقلبه، وأبرزه بلسانه، فإن الإنسان إذا عمل بالواجبات، وتفانى في عمله، فإن ذلك أكبر برهان على صدق ما ادعاه بلسانه، واعتقده بقلبه.

وبعد أن اتضح لنا رأي السلف في حقيقة الإيمان القائل بتركُّبه من أمور ثلاثة، تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، واتفاقهم جميعاً على هذا الاعتقاد، إليك عرضاً لأدلتهم التي استندوا إليها.

أدلة السلف على مذهبهم في حقيقة الإيمان:

إن طريق أهل السنة، كما هو معروف من استقرائنا لِما قدَّموه لنا من تراث عظيم في مجال العقيدة الإسلامية، ومن مواقفهم البطولية في الدفاع عنها، وتثبيت مبدئهم ومنهجهم الذي يسيرون عليه في بيانها وإيضاحها،

1 هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مت الأنصاري الهروي، ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وتوفي في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وقد جاوز أربعاً وثمانين. وله مؤلفات كثيرة، منها كتاب الفاروق في الصفات وكتاب ذم الكلام وأهله، ومنازل السائرين. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي، ج3 ص 1183 إلى ص1191، طبع دائرة المعارف العثمانية.

2 ابن تيمية، المصدر السابق ص 251.

ص: 20

ومن ثم تقديمها لنا واضحة جلية لا تعقيد فيها: أنهم لا يعدلون عن النص الصحيح، ولا يعارضونه بمعقول، ولا بقول فلان وفلان، كما قال الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ " كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال:" قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا "، فقال رجل للشافعي:" ما تقول أنت؟ " فقال: " سبحان الله! أتراني في كنيسة؟ تراني على وسطي زنّار؟! أقول لك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟! "1. ونظائر هذا في كلام السلف كثير، فجميعهم يعلم أن الوحي الإلهي هو الذي يرسم للبشرية معتقدها الصحيح، ويرشدها إلى سبل الخير، ومناهج التطبيق، وأما العقل البشري فقاصر عن تصور العقيدة الصحيحة بمفرده، ووظيفته تنحصر في التفكر في آيات الله في الكون، من خلال توجيهات الوحي الإلهي، وتدبُّر ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله من إيضاح للعقيدة السليمة، إذ ليس لأحد رأي مع التوجيهات النبوية السديدة، ولا قول مع قول الرب تبارك وتعالى، لأنه سبحانه قد أوقف البشر عند حدود رسمها لهم، وقيَّدهم بقضائه، وقضاء رسوله عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} حيث يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2.

وتماشياً مع هذا المبدأ، وسيراً على ذلك الطريق السوي، والمنهج القويم، فإن السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ لم يقولوا رأيهم السابق في حقيقة الإيمان، إلا بعد استقراءٍ لنصوص الكتاب والسنة، وسبرٍ لأغوارهما، حيث انتهوا إلى القول به، واعتقاده، وإبطال ما سواه، لأنه هو الرأي الذي يسنده الدليل، ويرشد إليه الوحي الإلهي دون ما سواه. فمن أدلتهم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ

1 شرح العقيدة الطحاوية ص 237 ط3.

2 الأحزاب: 36.

ص: 21

أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1.

وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.

وقال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ

} 3. وغير ذلك من الآيات التي تضيف الإيمان إلى القلب. قالوا: وهذه الآيات دالة على ما لزم القلب من فرض الإيمان، وهو التصديق الجازم، ولا ينفع القول به إذا لم يكن القلب مصدقاً بما ينطق به اللسان مع العمل 4.

وأما فرض الإيمان باللسان فدليله قوله سبحانه في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ

} 5.

وقال سبحانه في سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} 6.

وقال عليه الصلاة والسلام: " أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

" 7.

1 المائدة: 41.

2 النحل: 106.

3 الحجرات ت: 14.

4 انظر: كتاب الشريعة للآجري، ص 119 ط مطبعة السنة المحمدية سنة 1369هـ ـ 1950م.

5 البقرة: 136-137.

6 آل عمران: 136-137.

7 صحيح مسلم مع شرح النووي له، ج1 ص206 ط بدون تاريخ.

ص: 22

فهذه أدلة على وجوب الإيمان باللسان نطقاً 1.

ومن أبرز الأدلة على أن الأعمال من الإيمان: تسميته سبحانه للصلاة إيماناً في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على الصلاة إلى بيت المقدس، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فنزلت هذه الآية 3. ثم أنزل الله تبارك وتعالى فرض الزكاة، حيث قال سبحانه:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 4، فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوه ذلك بالألسنة وأقاموا الصلاة، غير أنهم ممتنعون من الزكاة، كان ذلك مزيلاً لما قبله، وناقضاً للإقرار والصلاة، كما أن إباء الصلاة قبل ذلك ناقض لما تقدم من الإقرار5.

وقد أورد أبو عبيد القاسم بن سلام قوله تعلى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } 6، وقوله سبحانه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} 7. أوردها كدليل على أن العمل من الإيمان، وقال بعد ذلك: أفلست تراه تبارك وتعالى، قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يكتفِ منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخرة؟ فأي شيئ يتَّبع بعد كتاب الله

1 الآجري، محمد بن الحسين، المصدر المذكور آنفاً ص 120.

2 البقرة: 143.

3 أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص95 ط المطبعة السلفية.

4 التوبة: 103.

5 أبو عبيد القاسم بن سلام، كتاب الإيمان، رسالة رقم ((2)) من رسائل كنوز السنة تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ص56 ط المطبعة العمومية بدمشق بدون تاريخ.

6 العنكبوت: 1-3.

7 العنكبوت: 10.

ص: 23

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده، الذين هم موضع القدوة والإمامة؟! 1.

والحاصل، أن أدلة السلف على أن الأعمال ركن في الإيمان، من القرآن الكريم، كثيرة جداً، وقد حصرها الآجري رحمه الله في ستة وخمسين موضعاً، حيث قال: " واعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم، يا أهل القرآن، ويا أهل العلم، ويا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقَّههم الله عز وجل في الدين، بعلم الحلال والحرام، أنكم إن تدبرتم القرآن، كما أمركم الله عز وجل، وعلمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله العمل، وأنه عز وجل، لم يثنِ على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم، وأنهم قد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة، والنجاة من النار، إلا بالإيمان والعمل الصالح. وقرن بالإيمان العمل الصالح، ولم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده، حتى ضمَّ إليه العمل الصالح، الذي قد وفَّقهم إليه فصار الإيمان لا يتمُّ لأحد حتى يكون مصدِّقاً بقلبه، وناطقاً بلسانه، وعاملاً بجوارحه. لا يخفى، مَن تدبَّر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت. واعلموا ـ رحمنا الله وإياكم ـ أني قد تصفحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في ستة وخمسين موضعاً من كتاب الله عز وجل

" 2 ثم سرد الستة والخمسين موضعاً التي ذكر3. ويطول بنا الحديث إن ذكرناها، ولكن مَن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى كتابه المشهور ((الشريعة)) الذي انتصر فيه لمذهب السلف.

أما السنة المطهرة، فأدلة السلف منها كثيرة جداً، يصعب حصرها كذلك ولكني هنا أكتفي بذكر بعض منها فأقول:

إن من أبرزها، واظهرها دلالة حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما المتفق عليه: " بُنيَ الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله،

1 أبو عبيد القاسم بن سلام، المصدر السابق ص66.

2 الآجري، محمد بن الحسين، المصدر المذكور آنفاً ص122.

3 انظر: المصدر نفسه من ص122ـ132.

ص: 24

وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " 1.

ووجه الدلالة في هذا الحديث: أنه جعل الإسلام الذي هو الإيمان كما يشهد له حديث وفد عبد القيس الآتي ـ هو مجموع هذه الأمور الخمسة، وهي أعمال، فدل ذلك على أن الأعمال من الإيمان.

وهنا يَرِدُ شبهة على هذا الحديث، فقد يقول قائل: الأركان الأربعة المذكورة بعد الشهادة مبنية عليها، إذ لا يصح شيئ منها إلا بعد وجود الشهادة، فكيف يضمّ مبني إلى مبني عليه في مسمى واحد؟ وقد أجاب ابن حجر عن هذه الشبهة بقوله: أجيب بجواز ابتناء أمر على أمر، ينبني على الأمرين أمر آخر، فإن قيل المبني لا بدَّ أن يكون غير المبني عليه، أجيب بأن المجموع غير من حيث الانفراد، عين من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشعر، يُجعل على خمسة أعمدة، أحدها أوسط والبقية أركان، فما دام الأوسط قائماً، فيسمَّى البيت موجود، لو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمَّى البيت. فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيئ واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضاً فالنظر إلى أسِّه وأركانه، الأسُّ أصلٌ، والأركان تبعٌ وتكملةٌ 2.

ومن أدلة السلف أيضاً على دخول الأعمال في الإيمان، حديث وفد عبد القيس الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:" آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ " قالوا: " الله ورسوله أعلم "، قال:" شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم "3.

قال شارح العقيدة الطحاوية، بعد سَوْقه لهذا الحديث: " ومعلوم أنه لم

1 متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص49، وصحيح مسلم مع شرح النووي له ج1 ص176.

2 انظر: فتح الباري، ج1 ص49 ط المطبعة السلفية.

3 مسلم، صحيح مسلم مع شرح النووي له، ج1 ص188.

ص: 25

يردْ أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لِما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعُلِم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود " 1.

وهناك حديث جبريل المشهور2 الذي فسر فيه الإسلام والإيمان، تفسيرَين مختلفَين. وهنا في حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل وحيث بُنيَ الإسلام على خمس الآنف الذكر. وقد يُتوهم الاختلاف بينها، ولكن توهم الخلاف يزول، إذا علمنا أن الإسلام والإيمان، إن وردا مجتمعَين ـ كما في حديث جبريل فإنه يراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر. أما إن ورد أحدهما منفصلاً عن الآخر، فإن الآخر يدخل فيه، كما في حديث وفد عبد القيس هنا وحديث بني الإسلام على خمس السابق.

ومن أدلة السلف أيضاً حديث شُعب الإيمان المتفق عليه، كما ذكر ابن منده في كتاب الإيمان، حيث قال: قال محمد بن نصر: وقد جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وسبعون، أو ستون شعبة، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "3. فجعل الإيمان شُعباً بعضها باللسان والشفتَين، وبعضها بالقلب، وبعضها بسائر الجوارح. فشهادة أن لا إله إلا الله فعل اللسان، تقول: شهدتُ أشهدُ شهادة، والشهادة فعلها بالقلب واللسان، لا اختلاف بين المسلمين في ذلك، والحياء في القلب، وإماطة الأذى عن الطريق فعل سائر الجوارح" 4اهـ. وقصارى القول، أن أدلة السلف من السنة النبوية

1 شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ص327 ط3.

2 انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص114، ط المطبعة السلفية.

3 صحيح البخاري مع شرحه، ح1.

4 كتاب الإيمان لابن منده.

ص: 26

على أن الأعمال ركن في الإيمان أكثر من أن تُحصر، ولا داعي للاستطراد في ذكرها، فليس غرضنا الاستقصاء، بل التمثيل ـ وبيان طريقتهم في الاستدلال إذ أن حديثاً واحداً صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواية الرجال الأثبات أو آية واحدة من كتاب الله تعالى، واضحة الدلالة، كافية للاستدلال. ومَن أراد المزيد، فليرجع إلى كتب السنة، فسيجد عشرات الأحاديث التي تدل على ما ذهب إليه السلف في هذا الموضوع.

ولكن الذي يهمني هنا، هو بيان مذهب السلف، الذي يتمثل في اعتقادهم أن الإيمان عبارة عن أمور ثلاثة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان. والاعتقاد القلبيّ هو الأصل الذي لا شيئ قبله، والأعمال بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب. فمَن لم يصدِّق الإيمان بعمل جوارحه، كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والجهاد، وأشباه ذلك، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكر تصديقاً منه لإيمانه. إذ أن الدين الإسلامي يتَّسم بالإيجاب، ولا مجال للسلبية فيه، وترك العمل، سلب لروح هذا الدين الحنيف، الذي أتى لِيحثَّ على العمل والتسابق فيه، بعد تطهير النفوس من شوائب الشرك وأدران الجاهلية.

إلا أن السلف رحمهم الله في قولهم بأن العمل جزء من الإيمان، وأن التصديق القلبيّ والإقرار اللساني أجزاء أخرى، يقفون من رأي الخوارج والمعتزلة موقف المضاد. إذ أن هؤلاء الأخيرين يعتبرون الإيمان كلاًّ لا يتجزأ، وإن تركَّب من الأمور السالفة الذكر، لذلك قالوا بتخليد مرتكب الكبيرة في النار، وسلبه اسم الإيمان، وإطلاق الكفر عليه عند الخوارج، وجعله في منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة. أمّا السلف فقالوا بتجزّء الإيمان فيمكن ذهاب بعضه، وبقاء بعضه الآخر، فيذهب بعض الإيمان بترك بعض الأعمال الواجبة، مالم يكن مستحلاً لتركها بالطبع. وقد بيّن ابن منده ذلك بقوله: " وقال أهل الجماعة: الإيمان (هي) 1 الطاعات كلها بالقلب واللسان

1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب ((هو)) .

ص: 27

وسائر الجوارح، غير أن له أصلاً وفرعاً، فأصله المعرفة بالله، والتصديق له، وبه وبما جاء من عنده بالقلب، واللسان مع الخضوع له، والحب له، والخوف منه، والتعظيم له مع ترك التكبّر والاستخفاف والمعاندة، فإذا أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان، ولزمه اسمه وأحكامه ولا يكون مستكملاً له حتى يأتي بفرعه، وفرعه المفترض عليه أداء الفرائض، واجتناب المحارم " 1 وساق حديث شعب الإيمان، وكلام محمد بن نصر. وبهذا يندفع ما قيل ويقال بأن رأي السلف هذا يؤدي إلى قول الخوارج والمعتزلة.

1 ابن منده، محمد بن إسحاق بن محمد، كتاب الإيمان، ورقة رقم 23، مصور بمكتبة جامعة الملك

عبد العزيز بمكة رقم 996.

ص: 28