المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالثالعمل إذا اختلف الصحابة - الانتصار في حجية قول الصحابة الأخيار

[عبد العزيز الريس]

الفصل: ‌المبحث الثالثالعمل إذا اختلف الصحابة

‌المبحث الثالث

العمل إذا اختلف الصحابة

يكون الكلام في هذا المبحث عن القسم الثالث من مذهب الصحابي وهو: ماذا لو اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة ما؟

ويحسن التنبيه إلى أن الأصل أنه لا خلاف بين الصحابة؛ فلذا لابد أن يُحاول التوفيق بين أقوالهم، بحيث تكون أقوالهم قولا واحدًا، وقد فعل ذلك جمعٌ من أهل العلم، منهم ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ في «المغني» في مسألة تتعلق بسجود التلاوة

(1)

، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في «شرح العمدة»

(2)

لما أورد مسألة وأطال الكلام فيها، بيَّن رحمه الله أن الأصل أن أقوال الصحابة واحدةٌ، فوفَّق بين الأقوال، ورفع الخلاف في ذلك، وهذا حق، لأن الأصل في أقوال الصحابة أنها قولٌ واحدٌ، وأن الخلاف بينهم قليلٌ، وقُربهم من الوحي ومشاهدتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقلِّل الخلاف بينهم.

لكن بشرط إذا جُمع بين أقوال الصحابة فلا يُخرَج بقول مُحدَث جديد. فلو أن العلماء مختلفون في مسألة على أقوال ثلاثة، وحصل بين الصحابة خلاف، وجمع بين أقوالهم، فصارت النتيجة قولا رابعا محدثا فهذا خطأ.

وهذا القسم ـ وهو ما اختلف فيه الصحابة ـ على حالين:

الحال الأولى: أن يكون في المسألة دليلٌ: فإذا ظهر في المسألة دليل، فيجب العمل

(1)

انظر: «المغني» لابن قدامة (1/ 447) حيث قال فيها: «

ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه إلا قول ابن عمر: إنما السجدة على من سمعها. فيحتمل أنه أراد من سمع عن قصد، فيحمل عليه كلامه جمعا بين أقوالهم».

(2)

انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 105)

ص: 35

بالدليل بالإجماع، فقد تقدَّم قول الشافعي: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنا من كان

(1)

.

فلو أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا في كفة، وابن عباس في كفة، والدليل المنصوص مع ابن عباس، فالقول قول ابن عباس لوجوب العمل بالدليل.

الحال الثانية: ألا يكون في المسألة دليل: وهذه الحال قسمان:

القسم الأول: أن يكون في المسألة قول للخلفاء الراشدين، أو فيه قول أحدهم، لكن لم يخالَف، كأن يكون قول علي، لكن لم يخالفه أحدٌ من الخلفاء الراشدين، فإنه في مثل هذا يرجح قول الأربعة المجمعين، أو قول أحدهم الذي لم يخالف منهم؛ لما تقدَّم من حديث العرباض بن سارية:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين»

(2)

، وحديث أبي قتادة:«إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا»

(3)

، وثبت عن ابن عباس فيما رواه ابن عبد البر

(4)

وغيره، أنه كان يحتج بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وأرضاهم ـ.

وإلى هذا ذهب الإمام الشافعي

(5)

وأحمد في رواية

(6)

، وقرَّره بقوة الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه «إعلام الوقعين»

(7)

.

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (2/ 11).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1600)، وهو عند ابن أبي شيبة (23448)، والحاكم (1/ 127) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وفيه توقيف ولم يخرجاه.

(5)

انظر: البحر المحيط» للزركشي (8/ 55)، و (8/ 58).

(6)

انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (5/ 546 - 547).

(7)

انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 556)، و (5/ 546 - 547)، و (6/ 5 - 6).

ص: 36

ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:

المثال الأول: تنازع العلماء في قراءة الجنب للقرآن على قولين: قال ابن عباس فيما علَّقه البخاري: لا بأس للجنب أن يقرأ القرآن

(1)

.

والقول الثاني: ثبت عن عمر وعلي، قال علي فيما رواه ابن أبي شيبة: لا يقرأ، ولا حرفا، يعني: الجنب

(2)

، وثبت النهي للجنب عن قراءة القرآن عن عمر عند البيهقي في «الخلافيات»

(3)

، فإذن يرجَّح القول بعدم جواز قراءة الجنب للقرآن؛ لأنه قولٌ عليه بعض الخلفاء الراشدين، وإلى هذا ذهب أئمة المذاهب الأربعة

(4)

.

المثال الثاني: تنازع العلماء في المبيت بمنى للحاج، فذهب ابن عباس إلى أن المبيت بمنى ليس واجبا

(5)

، وخالف عمر فيما روى مالك في «الموطأ»

(6)

، وكان يرد الناس حتى يبيتوا في منى، فدل هذا على وجوب المبيت بمنى، وهذا هو الصواب، وإلى هذا القول ذهب مالك

(7)

، والشافعي

(8)

، وأحمد في رواية

(9)

.

تنبيه: بيَّن ابن القيم أن الأربعة إذا اختلفوا فقول أبي بكر مقدَّمٌ على عمر، وقول أبي بكر وعمر مقدَّمٌ على عثمان، قال: من درس أغوار المسائل ظهرت له هذه المسألة أو شيئا من ذلك

(10)

.

(1)

أخرجه البخاري تعليقًا في (1/ 68) قبل حديث (305).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (1092)، وهو عند عبد الرزاق (1306) وغيره.

(3)

انظر: «الخلافيات» للبيهقي (2/ 38) رقم (325).

(4)

انظر: «بدائع الصنائع» للكاساني (1/ 37 - 38)، و «الذخيرة» للقرافي (1/ 316)، و «المهذب مع المجموع» للشيرازي (1/ 64)، «مختصر الخرقي مع المغني» (1/ 96).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (14614)، وله رأيا آخر مثل رأي عمر رضي الله عنهما كما عند ابن أبي شيبة (14602) أيضًا.

(6)

انظر: «الموطأ - رواية يحيى الليثي» (910)، ومثله عند ابن أبي شيبة (14603) وغيره.

(7)

انظر: «المغني» لابن قدامة (2/ 231).

(8)

انظر: «المغني» لابن قدامة (2/ 231).

(9)

انظر: «المغني» لابن قدامة (2/ 231).

(10)

انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (5/ 546 - 547).

ص: 37

القسم الثاني: ألا يكون في المسألة قول لأحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وإنما الخلاف بين بقية الصحابة، -وأؤكد المسألة مطروحة إذا لم يوجد فيها نصٌّ-: فإذا اختلف الصحابة من غير الخلفاء الراشدين بعضهم مع بعض، فيرجَّح أشبه القولين بالكتاب والسنة، نصَّ على هذا الإمام الشافعي

(1)

وأحمد

(2)

ـ رحمهم الله تعالى رحمة واسعة ـ.

وعلى هذا أمثلة:

المثال الأول: تنازع العلماء في استقبال القبلة واستدبارها لمن أراد أن يقضي الحاجة، وللصحابة في هذه المسألة قولان:

القول الأول: حرمة الاستقبال والاستدبار، حتى في البنيان، وهذا قول أبي أيوب الأنصاري في «الصحيحين»

(3)

.

والقول الثاني: جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء، وهو قول ابن عمر رضي الله عنه، رواه الدارقطني وغيره، أنه لما أراد أن يقضي حاجته جعل أمامه دابته، وقضى حاجته، لما قيل له قال: إنما ذلك في الفضاء

(4)

.

(1)

انظر: «الإحكام» للآمدي (4/ 149)، و «البحر المحيط» للزركشي (8/ 57).

(2)

انظر: «الإحكام» للآمدي (4/ 149)، و «البحر المحيط» للزركشي (8/ 57)، و «إعلام الموقعين» لابن القيم (2/ 55).

(3)

أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264).

وانظر رأيه في: «المصنف» لابن أبي شيبة (1/ 150)، و «المحلى» لابن حزم (1/ 189)، و «المجموع» للنووي (2/ 81).

وهو أيضًا قول ابن مسعود، أبي هريرة كما في:«المحلى» لابن حزم (1/ 189).

(4)

أخرجه الدارقطني (1/ 92) رقم (161)، وقال: هذا صحيح كلهم ثقات.

وانظر رأيه في: «المحلى» لابن حزم (1/ 190)، «المجموع» للنووي (2/ 81).

وهو أيضًا مروي عن العباس بن عبد المطلب كما في: «المجموع» (2/ 81)، و «شرح مسلم» (3/ 154) و «شرح أبي داود» (ص: 106) ثلاثتهم للنووي.

ص: 38

فالمقصود أن ابن عمر فرق بينهما، بخلاف أبي أيوب الأنصاري.

أردنا أن نتفقه وأن ننظر أي القولين أشبه بالكتاب والسنة، فوجدنا أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في «الصحيحين»

(1)

أنه بال مستدبرا للقبلة في البنيان، وهذا القول أشبه بقول المفرِّق بين البنيان والصحراء، فلذلك رجح قول ابن عمر.

فإن قيل: لم لا يقال بجواز الاستدبار دون الاستقبال؟

يقال: لأن هذا القول ليس عند الصحابة، وإنما الصحابة اختلفوا على قولين، ولا يجوز أن نخرج عن قوليهم، وهذه قاعدةٌ مهمةٌ؛ سئل الإمام أحمد عن رجل يقول: إذا اختلف الصحابة على قولين فنخرج عن قوليهم، قال: هذا قولٌ خبيثٌ، هذا قول أهل البدع

(2)

؛ لأننا مأمورون أن نتبع سبيل المؤمنين، فسبيل المؤمنين في هذه المسألة قولان، فلا نخرج عنهما.

المثال الثاني: تنازع العلماء في صلاة سنن الرواتب للمسافر: هل تصلى أو لا تصلى؟

في المسألة قولان:

القول الأول: قول ابن عمر: أنها لا تصلى

(3)

.

والقول الثاني: أنها تصلى، وهو قول جمهور الصحابة، نقله الحسن البصري عن الصحابة، وهو قول جابر، وابن عباس، وجماعة من الصحابة

(4)

.

وأشبه القولين بالكتاب والسنة يتضح بالنظر في الأدلة:

فقد ثبت في «صحيح مسلم» من حديث أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسافرا،

(1)

أخرجه البخاري (145)، و (148)، ومسلم (266).

(2)

انظر: المسودة ص 315 و العدة لأبي يعلى (4/ 1059).

(3)

أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2763).

وانظر: مسلم (689).

(4)

انظر: «الأوسط» لابن المنذر (5/ 248).

ص: 39

ففاتته صلاة الفجر، فقام وصلى راتبة الفجر، ثم صلى الفجر كما كان يصلي

(1)

.

إذن صلى الراتبة، وهذا يوافق قول جمهور الصحابة فهو أشبه بالكتاب والسنة.

ولو قال قائل: لا تصلى من الرواتب إلا راتبة الفجر، يقال: هذا قول محدثٌ من جهة أقوال الصحابة، ولم يثبت هذا فيما أعلم لا عن ابن عمر ولا عن غيره: أي الاستثناء، وإنما الذي ثبت عن ابن عمر أنه لا يُصلِّى مطلقا، أو يُفرِّق بين الليل والنهار: أي يجوز صلاة الراتبة في الليل دون النهار

(2)

.

وعلى كلا الاحتمالين: فمقتضى مذهبه أن راتبة الفجر لا تصلى، وقد ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى راتبة الفجر في السفر، فدل هذا على أن المسافر يصلي الراتبة، وهذا هو القول المشهور عند المذاهب الأربعة، بل على هذا المذاهب الأربعة

(3)

.

المثال الثالث: علّق البخاري عن بُريدة بن الحُصيب رضي الله عنه، أنه أوصى أن يجعل على قبره جريدان

(4)

؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس في «الصحيحين» ، أنه وضع على القبر جريدا رطبا، ثم قال:«لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا»

(5)

، ففعل ذلك بُريدة بن الحُصيب رضي الله عنه وخالفه ابن عمر، ذكر البخاري أن ابن عمر لما رأى رجلا يظلل القبر، قال: لا تظله، وإنما يظله عمله

(6)

، فالميت

(1)

أخرجه مسلم (681).

(2)

أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2764) عن ابن عمر.

(3)

انظر: «الدر المختار مع حاشية ابن عابدين» (2/ 131)، و «الاستذكار» لابن عبد البر (2/ 254)، و «المجموع» للنووي (4/ 400 - 401)، «الإنصاف» للمرداوي (2/ 322).

(4)

أخرجه البخاري تعليقًا في (2/ 95) قبل حديث (1361).

(5)

أخرجه البخاري (1361)، ومسلم (292).

(6)

أخرجه البخاري تعليقًا في (2/ 95) قبل حديث (1361).

ص: 40

لا ينفعه أن يظل قبره ولا أن يفعل شيء عليه، فابن عمر خالف بُريدة.

وأشبه القولين بالكتاب والسنة يُعرَف بأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّل وضع الجريد على القبرين بما يقتضي كشف الغيب؛ لأنه قال: «إنهما ليعذبان» ، وهذا لا يكون لغيره، ولم يفعله لغيرهما صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن الصواب مذهب ابن عمر رضي الله عنهما.

المثال الرابع: ثبت أن ابن عمر كان يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب مع الطريق الذي ذهب معه

إلخ

(1)

، وثبت عن عمر عند ابن أبي شيبة أنه رأى أناسا يتتبعون أماكن النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر عليهم: أي لما عادوا وقفلوا من الحج رأى أقواما يصلون في مكان، فسألهم، قالوا: صلى في هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر عليهم، قال: إنما أهلك من كان قبلكم بتتبعهم مساجد وبيع أنبيائهم، فمن أدركت الصلاة فليصل، وإلا فليترك

(2)

، فقول عمر مقدَّمٌ على قول ابن عمر؛ لأنه خليفة راشد، ولمُرجِّحات أخرى.

والأمثلة على هذا كثيرة، وإنما أردت بهذه الأمثلة ذكر المثال؛ لِيُعرَف غيره، وليسهل تنزيل ذلك على غيرها من المسائل الكثيرة.

* * *

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (35793)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 249) وغيرهما.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (7632)، وهو عند عبد الرزاق (2734)، وابن وضاح في «البدع» (101) وغيرهما.

ص: 41