الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
الأدلة على حجية قول الصحابي
بعد هاتين المقدمتين السابقتين فالأدلة على حجية قول الصحابي ما يلي:
الدليل الأول: كل دليل على حجية دليل الإجماع، فهو دليل على أن مذهب الصحابي حجة؛ وذلك أن الصحابي أو الصحابيين أو الثلاثة أو الأربعة
…
إذا قالوا قولا، ولم يخالفوا، فإن هذا إجماعٌ، ولا يصح لأحد أن يقول: إن مثل هذا الإجماع لا يقبل، أو يقول ما شاع عند المتكلمين إن هذا إجماع سكوتي ثم يرده؛ وذلك أن مقتضى رد الإجماع السكوتي أنه لا إجماع؛ لأنه لا يوجد إجماع منطوق، بمعنى: أن كل عالم نطق بقول في هذه المسألة
(1)
.
بل لو أردت أن تثبت عن أهل بدر أنهم قالوا بوجوب الصلوات الخمس لما استطعت أن تثبت ذلك، فإذا لم تستطع ذلك في الصلوات الخمس، وفي مثل أهل بدر، فغيرها من المسائل من باب أولى، فالقول بأنه لا بد أن ينطق كل عالم، مقتضى هذا إسقاط دليل الإجماع، وقد ذكر هذا بمعناه ابن قدامة رحمه الله في كتابه «روضة الناظر»
(2)
.
إذن الدليل الأول: كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على حجية قول الصحابي، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .
إذا سئلت في مسألة يوجد فيها قولٌ للصحابة أو قولان أو ثلاثة أو أربعة: ما أعلى
(1)
راجع في ذلك رسالتنا «حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات» .
(2)
انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (1/ 437).
قول في هذه المسألة؟
الجواب: هو قول الصحابي، إذن هو سبيل المؤمنين في هذه المسألة فيما تعلم، ومن خالفهم بعد فهو محجوجٌ بهم، إلى غير ذلك من الأدلة على حجية الإجماع
(1)
.
الدليل الثاني: أدلةٌ خاصةٌ بالصحابة، وسأذكر دليلين: دليل نصي أثري، ودليل من جهة المعنى.
أما الأول النصي الأثري: قد أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»
(2)
.
شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالنجم، والنجم يهتدى به، وشبَّه الصحابة بذلك، فدَلَّ على أنهم حجةٌ، فمن اهتدى بهم سلك الصراط المستقيم، ومن سار على منهاجهم نجا، هذا دليلٌ واضحٌ على حجية قول الصحابي.
ومثل ذلك ما جاء في بعض الصحابة، كما أخرج الخمسة إلا النسائي، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»
(3)
.
هذا صريحٌ في حجية قول بعض الصحابة، كالخلفاء الراشدين، ومن ذلك ما أخرج مسلم من حديث أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنْ يطع الناس أَبَا بَكْرٍ،
(1)
راجعها في رسالتي «حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات» .
(2)
أخرجه مسلم (2531).
(3)
أخرجه أحمد (4/ 126)، وابن ماجه (42)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4607) طبعة المعارف.
وَعُمَرَ يَرْشُدُوا»
(1)
، وهذا في بعض الصحابة أيضًا.
أما الدليل الثاني الذي يرجع إلى المعنى: فهو ما ذكره ابن القيم رحمه الله، قال: «إننا والصحابة نشترك في مدارك، وينفصلون عنا بمدارك، والمدارك التي ينفصلون عنها كالتالي، وذلك أن الصحابي إذا قال قولا، يحتمل أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه سمعه ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه ينقل إجماعا في زمانهم، ويحتمل أنه فهمٌ ظهر له لم يظهر لنا، ويحتمل ـ هذا احتمال خامس ـ أنه أمْرٌ دلت عليه اللغة، وهم أئمة في باب اللغة، وعرفوه بالسياق واللغة وغير ذلك، وهذه الاحتمالات الخمسة تدل على أن قوله حجة.
قالوا: هناك احتمالٌ سادسٌ: أن يكون اجتهد الصحابي فأخطأ، لكن هذه الأمور الستة ـ وهي المدارك التي انفصلوا بها عنا ـ تدل على أن قولهم حجة من باب الظن الغالب، والظن الغالب حجةٌ في الشريعة. هذه مدارك انفصلوا بها عنا
(2)
.
وهناك مدارك اشتركنا نحن وإياهم فيها، لكن الفرق بينا وبينهم فيها كالفرق بين السماء والأرض، وذلك يُعرف بما ذكره ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ،: أن الواحد منا إذا أراد أن يدرس اللغة، أخذ من ذهنه شعبة، أما الصحابي فهي سليقته التي نشأ عليها، والحديث أخذ من ذهنه شعبة، أما الصحابي يقول: رأيت محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقال محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وعلم الأصول أخذ من ذهنه شعبة، أما الصحابي لا يحتاج إلى ذلك، إلى أن قال بعد ذلك: ثم إذا انتهينا من هذا كله، وصلنا بأذهان قد كلَّت وتعبت، ومنا من يجدّ المسير، ومنا من لا يجدّ المسير، فهذا كله ليس عند الصحابي
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (681).
(2)
انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (6/ 19 - 21).
(3)
انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (6/ 21 - 22).
إذن، هذا أمْرٌ اشتركنا نحن وإياهم فيه، إلا أن الفرق بيننا وبينهم عظيمٌ للغاية رضي الله عنهم أرضاهم ـ.
وخلاصة ما تقدم في شيئين:
الشيء الأول: أن كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على حجية قول الصحابي، فهذا ليس خاصًّا بهم.
والشيء الثاني: أن هناك أدلة خاصة بهم أو ببعضهم، ومنها ما سبق ذكره في المدارك المشتركة والمدارك المنفصلة.
* * *