الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الذين ضيَّعوا الاحتجاج بمذهب الصحابي
ضيَّع الاحتجاج بمذهب الصحابي طائفتان:
الطائفة الأولى: الظاهرية: إن للظاهرية أصولا محدثة، وهي خمسة أصول، ذكر ابن القيم في «إعلام الموقعين»
(1)
أربعة، وذكر ابن رجب في شرحه على البخاري
(2)
ورسالته «فضل علم السلف على علم الخلف»
(3)
أمرا خامسا، فالظاهرية ضلت بأصول خمسة، يهمني الأصل الخامس، وهو الذي ذكره ابن رجب في رسالته «فضل علم السلف على علم الخلف» وفي شرحه على البخاري، وأشار إليه ابن تيمية رحمه الله في المجلد الخامس من كتابه «منهاج السنة»
(4)
.
وذلك أن الظاهرية يرون إحداث قول جديد في الفقه، فلو اختلف الصحابة على قولين، بل لو أجمع الصحابة على قول، فلا يبالي به الظاهرية ويرون جواز إحداث قول جديد؛ لذلك مذهبهم ضال، ومن الخطأ أن يُنسب إلى أهل الحديث.
وقد بيَّن هذا الخطأ ابن رجب رحمه الله في رسالته «فضل علم السلف على علم الخلف»
(5)
.
وللأسف، كثيرون ينسبون مذهب داود ومذهب ابن حزم لأهل الحديث، وقد
(1)
انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 98 - 107).
(2)
انظر: «فتح الباري» لابن رجب (4/ 242)، و (6/ 105).
(3)
انظر: «مجموع رسائل ابن رجب - رسالة فضل علم السلف على الخلف» (2/ 24).
(4)
انظر: «منهاج السنة» لابن تيمية (5/ 178).
(5)
انظر: «مجموع رسائل ابن رجب - رسالة فضل علم السلف على الخلف» (2/ 24).
ذكر الشاطبي رحمه الله في موضعين من كتابه «الاعتصام»
(1)
وذكر قبله ابن العربي
(2)
أن الظاهرية مبتدعةٌ؛ لأنهم ضلوا في أصول عظيمة، وقد سبق بحث هذا في رسالة «حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات»
(3)
.
فالمقصود أن قول الظاهرية بجواز إحداث قول جديد هو الذي شاع اليوم عند بعض طلاب العلم، وصاروا يسمون ذلك «مذهب أهل الحديث» ، ويقولون: نحن مُحدِّثون، ومعتنون بالحديث، ولا يبالون بأقوال الصحابة، لا في تفسير النص، ولا في ابتداء الحكم، أو يعملون به في تفسير النص، لكن لا يعملون به في ابتداء الحكم، وهذا من التأثر بمذهب الظاهرية.
أما الطائفة الثانية التي ضلَّت في هذا الباب: فهم متعصبة المذاهب الأربعة؛ وذلك أن متعصبة المذاهب الأربعة لم يضلوا في باب الإعراض عن حجية قول الصحابي فحسب، بل حتى عن القرآن والسنة، وعن الإجماع والقياس، وكل أدلة الشريعة، فالمهم عندهم التمسك بالمذهب، وقد كان التعصب للمذاهب الأربعة ميِّتا ودُفن في عصور الأئمة المجددين الثلاثة ابن باز والألباني وابن عثيمين-رحمهم الله.
وقد انطلقت بداية محاربة التعصب بقوة في عصر الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ، حيث حارب التعصب محاربةً شديدةً، كما ذكر ذلك في مواضع مختلفة، منها «الأصول الستة»
(4)
، و «كتاب التوحيد»
(5)
، وفي رسالته إلى عبد الله بن محمد بن
(1)
انظر: «الاعتصام» للشاطبي (2/ 457)، و (3/ 198).
(2)
انظر: «سير أعلام النبلاء» للذهبي (18/ 188 - 190) حيث اشتد ابن العربي على الظاهرية وابن حزم، وتعقبه الذهبي في ذلك.
(3)
انظر: «حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات» (ص:).
(4)
انظر: «الأصول الستة مع كشف الشبهات- الأصل السادس» لابن عبد الوهاب (ص: 148).
(5)
انظر: «كتاب التوحيد مع القول المفيد - باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا» لابن عبد الوهاب (2/ 149).
عبد اللطيف الموجودة في «الدرر السنية»
(1)
، وشدَّد، وبيَّن له حرمة التعصب وأنه لا يصح، وذكر له المناظرة العظيمة التي نقلها ابن عبد البر عن المزني في كتابه «جامع بيان العلم وفضله»
(2)
، وأن كل ما يتحجج به المتعصبة، فهو حجةٌ عليهم لا لهم.
وهذا الجمود المذهبي أضر كثيرًا، لكن كان للإمام محمد بن عبد الوهاب دور كبير في القضاء عليه، واشتهرت الدعوة النجدية السلفية بمحاربة التعصب المذهبي؛ لذلك إذا شرحوا المتون الحنبلية يشرحونها ويصوِّرون المسائل، لكن يبيِّنون ما ظهر لهم بالدليل.
وقد يشرحون على المذهب، لكن يبيِّنون اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وما جاء في المذهب من البدع ينكرونها، كالتبرك والقول بالتوسل البدعي وهكذا
…
، ثم يفتون بالدليل الشرعي. وإنما يدرسون المذهب ويتفقهون عليه من باب الوسيلة للتفقه، ولا يبالون بهذه الوسيلة إلى أن جاء الإمام ابن باز والإمام الألباني، والإمام ابن عثيمين، فقضوا على ما بقي من تراث التعصب، وأذكر أن جمعا من الحنابلة الموجودين عندنا في نجد، من المتعصبين للمذهب، في أول أمرهم ما كانوا هكذا، بل كانوا يدرسون من باب الوسيلة، ثم بعد ذلك تعصَّبوا
…
؛وذلك لأنه ما بقي عندهم إلا هذا العلم - وهو التفقه على المذهب من باب الوسيلة-، فذهبت عليهم أعمارهم في هذا الطريق، فاستحيوا أن يقولوا للناس: لا نعلم، ففزعوا إلى التعصب لأنه أسهل لهم، وكثيرٌ من مشايخهم لا يحقق المسائل، ولا يستطيع تحقيقها، فإنْ حقق جملة من المسائل لم يحقق أكثرها؛ فلذلك فزعوا إلى التعصب المذهبي؛ لأنه أسرع طريق ليوصف الرجل بأنه فقيه، فاشتهر هذا إلى أن قضى عليها هؤلاء العلماء الثلاثة، حتى أذكر أنني- قبل أكثر من عشرين سنة - التقيت أحد متعصبة
(1)
انظر: «الدرر السنية في الكتب النجدية» (1/ 35 وما بعدها).
(2)
انظر: «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2/ 992).
المذهب الحنبلي، فلما فعل أمْرًا، قلت له: إن الذي تفعله مخالفٌ للدليل، قال سبحان الله!، آخذ قولك، وأترك قول الإمام أحمد الذي يحفظ ألف ألف حديث؟
هذا هو التعصب بعينه؛ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} .
وحقيقة هذا الاعتراض نقض للتعصب المذهبي - لو عقل - وذلك أن يقال له: آخذ قول أحمد، وأترك قول عمر وعثمان وعلي؛ وهم الصحابة الكرام؟ ثم يأتي شافعي ويقول: آخذ قول أحمد، وأترك قول شيخه الشافعي؟ حتى سمعت أحد الشافعية قبل فترة ابتدأ أول درسه قائلًا: إن المؤلف الذي نريد شرح كتابه على المذهب الشافعي، ثم قال: بهذه المناسبة أدعو من كان حاضرًا عندنا من الحنابلة أن يرجعوا إلى المذهب الشافعي؛ لأن الشافعي شيخ أحمد، وهو ثمرة من ثمرات الشافعي، فارجعوا إلى مذهب الشافعي
…
هذا دَرْسٌ في التوحيد واستهله بالتعصب والتقليد؟!.
وعودًا على خبر الرجل الذي قال: آخذ قولك، وأدع قول الإمام أحمد الذي يحفظ ألف ألف حديث؟ فإنه مع المباحثة قال: أنا درست المذاهب الأربعة، وأفقهها جيدًا، لكن لا أترك مذهب أحمد، وقال: وحضرت عند الشيخ السعدي، وكل قول قاله الشيخ السعدي مخالف لقول أحمد، أضرب به عرض الحائط، ثم حضرت سنيات عند الشيخ ابن عثيمين، فكل قول قال ابن عثيمين يخالف مذهب أحمد، أضرب به عرض الحائط.
أرأيتم كيف التعصب؟
إن هذا الرجل لم يصل إلى ما وصل إليه مباشرةً وإنما أولا: تفقه على المذهب، ثم ثانيا: عاب اتباع الدليل؛ إما لأنه صعب عليه أو لأن أحد مشايخه رباه على التعصب باسم التأصيل في الفقه
…
الخ.
وقد زرت أحد الناس قبل سنوات، بعد أن ولي ولاية شرعية، فجرت المباحثة في مسائل العلم، فإذا اشتد الخلاف يفتح «الروض» ، ويقرأ المسألة، ثم يقول: صاحب «الروض» يقول كذا، ما عنده قال صلى الله عليه وسلم
…
!!
ومن كلمات شيخنا ابن باز ـ رحمه الله تعالى ـ الكثيرة، وقد سمعتها منه مرارًا، وسمعها غيري أكثر وأكثر، أنه إذا قيل له في مسألة: قال ابن تيمية كذا، كيف تخالف ابن تيمية؟ قال: هو نبي؟ العبرة بالدليل، ويكرر هذا كثيرا رحمه الله.
وقد أجريت معه مقابلة فأخبر عن نفسه أنه تفقه على المذهب الحنبلي، -ثم قال-: لكن لا أعرف عن نفسي يوما ما، أني أفتيت بغير الدليل، سواء وافق مذهب أحمد، أو خالفه
(1)
.
إنه ينبغي أن نكون وسطا؛ فنتفقه على المذاهب، لكن لا نترك الاعتماد على الدليل، ولا نعيب هذا، بل نجمع بين الأمرين؛ لأن الوقت لا يتسع، فممكن تسير بطريقة تتفقه فيها على مذهب من المذاهب الأربعة في الفقه، وتتصور المسائل، وفي الوقت نفسه تدرسه بالدليل على موثوق؛ لأنه ليس هناك وقت، لم يعد الناس كما كانوا قبل يختمون «الزاد» في سنة يدرسونه في درس يومي يدرسونه رويدًا رويدًا، فلو وجد من يختم «الزاد» في سنة رويدًا رويدًا، ويصوِّر مسائله، كان من المفيد أن يدرس عليه «الزاد» ، ثم بعد ذلك ينطلق في الاجتهاد ومعرفة الدليل لا أن يتوقف عند هذا الحد.
وواقع كثيرين أنهم يبدؤون بالمتن المختصر، ثم بالمتوسط، ثم بالمطول، وهم على المذهب، فيدرسون هذا عشر سنين أو خمس عشرة سنة، ثم يفترون عن النظر
(1)
انظر قريبًا منه في: «مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن باز - لقاء مع صحيفة الراية السودانية» بعناية الشويعر (4/ 166).
في الدليل ولم يريدوا أن يوصفوا بالجهل، فقالوا: نحن الحنابلة فعابوا على غيرهم ممن يدرس بالدليل، ثم ازدادوا تعصُّبا، ويبررون لتعصبهم بأمور منها:
الأمر الأول: قوله: «أأنت أعلم من أحمد؟» ، على أن هذا القول المذهبي ممكن لم يقل به أحمد، لذا قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: وأكثر ما في «الإقناع» و «المنتهى» مخالفٌ لنصوص أحمد
(1)
، بل ممكن قال بخلافه، أو نسب إليه تخريجا، وليس منصوصا، والتخريج مختلف في نسبته إلى الإمام ومع ذلك يقال: قال به أحمد، ولو دققت لعلك لا تجد أحمد قال به، بل تجد أحمد قال بخلافه.
الأمر الثاني: قوله: لم تبلغ درجة الاجتهاد حتى تقول: قال الله كذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، وبقوله هذا رجعنا إلى إغلاق باب الاجتهاد، وقد لا يقولون بإغلاق باب الاجتهاد صراحة لكن يمنعون الاجتهاد بحجة أنك لم تبلغه ويَدعُون للتقليد والتعصب.
وجواب هذا أن يقال: إن الاجتهاد يتجزَّأ، وقد درسنا آلة الاستدلال والاستنباط، وهذه المسألة درستها، وظهر لي كذا وكذا، والآلة الاجتهادية تقول كذا وكذا، فبأيِّ حجة عند الله أخالف ذلك؟
وأخيرًا:
فكما يحارب التعصب للظاهرية باسم أهل الحديث، الذي بدأ يقل - ولله الحمد -، وإن كان لا يزال فكذلك يحارب التعصب للمذاهب.
وقد أصبح هؤلاء المتعصبون أصنافا وأحزابا يحارب بعضهم بعضا؛ حتى إني رأيت أحدهم في بلد ما يعيب على الذين يشرحون المذهب الحنبلي على طريقة فلان
…
(1)
انظر: «حاشية الروض المربع» لابن قاسم (1/ 17 - 18).
يقول هذا الرجل: كيف يشرح المذهب الحنبلي على طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هؤلاء أفسدوا المذهب، نريد المذهب كما هو: أي على طريقة أهل الشام القديمة التي اشتهرت عند أهل الشام، ومن أصحاب المذهب مَن يَردُّ على ذاك الرجل، ويقول: إن دعوتك هذه تفتح باب البدع؛ لأن الإمام محمد بن عبد الوهاب نقَّى المذهب من الأقوال البدعية مستندا في ذلك إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والسلف، وهكذا .. .
* * *