المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدفاع عن السلف الصالحوبيان أن الإحصاء لا يتوقفعلى استخدام الحاسب الآلي - الانتصار للسلف الأخيار

[محمد محب الدين أبو زيد]

الفصل: ‌الدفاع عن السلف الصالحوبيان أن الإحصاء لا يتوقفعلى استخدام الحاسب الآلي

‌الدفاع عن السلف الصالح

وبيان أن الإحصاء لا يتوقف

على استخدام الحاسب الآلي

ذكر الدكتور (ص: 14) أن ابن الوزير اليماني قال: «تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته أو توفيق رباني، وقد عدم النص المتفق على صحته في تعيينها فينبغي في تعيين ما تعين منها الرجوع إلى ما ورد في كتاب الله بنصه، أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث» اهـ.

ثم علق الدكتور قائلًا: «والرجوع إلى ما أشار إليه ابن الوزير مسألة أكبر من طاقة فرد وأوسع من دائرة مُجِدٍّ؛ لأن الشرط الأول والأساسي في إحصاء الأسماء الحسنى هو فحص جميع النصوص القرآنية وجميع ما ورد في السنة النبوية مما وصل إلينا في المكتبة الإسلامية، وهذا الأمر يتطلب استقصاءً شاملًا لكل اسم ورد في القرآن، وكذلك كل نص ثبت في السنة، ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية وقراءتها كلمة كلمة للوصول إلى اسم واحد، وهذا في العادة خارج عن قدرة البشر المحدودة وأيامهم المعدودة؛ ولذلك لم يقم أحد من أهل العلم سلفًا وخلفًا بتتبع الأسماء حصرًا منذ أكثر من ألف عام، وإنما كان كل منهم يجمع ما استطاع باجتهاده أو ما تيسر له من جمع غيره واجتهاده .... لكن الله عز وجل لَمَّا يسر الأسباب في هذا العصر أصبح

ص: 9

من الممكن إنجاز مثل هذا البحث في وقت قصير نسبيًّا، وذلك باستخدام الكمبيوتر والموسوعات الإلكترونية التي قامت على خدمة القرآن وحوت آلاف الكتب العلمية واشتملت على المراجع الأصلية للسنة النبوية وكتب التفسير والفقه

ولم تكن هذه التقنية قد ظهرت منذ عشر سنوات تقريبًا، أو بصورة أدق لم يكن ما صدر منها كافيًا لإنجاز مثل هذا البحث

» اهـ.

أقول:

هذا الكلام يحتوي على عدة أخطاء وبيانها كالتالي:

أولًا: زعم الدكتور أن فحص جميع النصوص القرآنية والنبوية شرط أساسي في إحصاء الأسماء الحسنى التسعة والتسعين.

وهذا كلام لا دليل عليه، ولم يشترط أحد من العلماء هذا الشرط، وكلام الإمام ابن الوزير اليماني رحمه الله لا يدل عليه كما هو ظاهر. ودليل بطلان هذا الشرط: هو أنه لا يوجد أحد يستطيع فحص جميع النصوص النبوية، مهما أوتي من علم وحفظ، وتوفرت له سبل البحث بواسطة الكمبيوتر أو غيره، كما سيأتي بيانه قريبًا (1). فإذا اشترطنا هذا الشرط أدى إلى إلغاء العمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:«إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة» (2). فتبين من ذلك أن هذا الشرط غير صحيح، «وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» .

(1) انظر (ص: 29).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 259)(8/ 108 - 109)(9/ 145)، ومسلم (8/ 63)، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 10

وقد أدى اشتراط الدكتور لهذا الشرط إلى أن يدعي أن مسألة الإحصاء أكبر من طاقة البشر وخارجة عن قدرتهم المحدودة وأيامهم المعدودة! !

وجوابًا على ذلك أقول:

بل إن إحصاء الأسماء الحسنى التسعة والتسعين في وسع كل مؤمن، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رغّب المؤمنين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى قيام الساعة على إحصائها، مما يدل على أن هذا الإحصاء في طاقتهم وداخل قدرتهم، وهل يرغّب النبي صلى الله عليه وسلم في أمر خارج عن قدرة البشر؟ ! !

ولو كان هذا الإحصاء أكبر من طاقة فرد وأوسع من دائرة مُجد، ولا يستطيع أحد القيام به إلا بفرز عشرات الآلاف من الأحاديث واستخدام الحاسب الآلي كما يزعم الدكتور، لم يكن لهذا الحديث فائدة بدون الحاسب الآلي، ولقصرت فائدة هذا الحديث على هذا العصر، أو على الدكتور خاصة، وهذا ظاهر البطلان.

ثم إن أحكام الشريعة لا تتوقف على شيء من العلوم الكونية والاكتشافات العلمية، كالحاسب الآلي وغيره. فأحكام الشريعة يستوي في إمكانية معرفتها والقيام بها جمهور الناس، وهذا مقتضى شمولية دعوة الإسلام لجميع البشر.

ولا ننكر أن بعض الاكتشافات العلمية الحديثة قد تُيسِّر على بعض الناس القيام ببعض أمور الشريعة، ولكن أن نقول: إن شيئا من أمور الشريعة تتوقف معرفته على بعض الاكتشافات العلمية أو العلوم الكونية. فهذا الذي لا نقبله أبدًا.

ص: 11

قال الإمام الشاطبي في «الموافقات» (2/ 58):

«هذه الشريعة المباركة أمية (1)؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجرى (2) على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور:

أحدها: النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158]، وفي الحديث:«بعثت إلى أمة أمية» (3) لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم

(1) علق فضيلة الشيخ عبدالله دراز رحمه الله على هذا الموضع بقوله: «أي لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك. والحكمة في ذلك:

أولًا: أن مَن باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أُمِّيون على الفطرة.

ثانيًا: فإنها لو لم تكن كذلك لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم؛ فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولًا، ثم تطبيقها ثانيًا، وكِلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسَل إليهم من عرب وغيرهم. وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف؛ لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال. أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر: فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعضُ الخواص منه شيئًا فشيئًا بحسب ما يسره الله لهم وما يلهمهم به

» اهـ.

قلت: ولا يخفى عليك أيها القارئ أن إحصاء الأسماء التسعة والتسعين مندوب، والمندوب قسم من أقسام الأحكام التكليفية، فلا يتوقف القيام به على الوسائل العلمية والاكتشافات الحديثة. والله أعلم.

(2)

علق هنا الشيخ دراز رحمه الله بقوله: «أي: فإن تنزيل الشريعة على مقتضى حال المنزَّل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم» اهـ ..

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 132)، والترمذي (2944)، وابن حبان (739)، والطيالسي (545)، من حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أُبي بن كعب» اهـ.

ص: 12

الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابًا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها، وفي الحديث:«نحن أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا» (1). وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب. ونحوه قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]. وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية؛ لأن أهلها كذلك

) اهـ.

وقال الإمام الشاطبي رحمه الله أيضًا في «الموافقات» (2/ 66، 74 - 76): «ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها - وهم العرب - ينبني عليه قواعد:

ومنها: أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها.

أما الاعتقادية: بأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدًا؛ فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلابد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها

(1) أخرجه: البخاري (3/ 35)، ومسلم (3/ 123 - 124)، وغيرهما من حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما.

ص: 13

سهلة المأخذ.

وأيضًا فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول

وأما العمليات: فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات (1) في الأمور، بحيث يدركها الجمهور، كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم، كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر، والشمس وغروبها، وغروب الشفق، وكذلك الصوم

ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر بالمنازل؛ لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها، ولدقة الأمر فيه، وصعوبة الطريق إليه. وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية؛ فإنها مظنة الضلال، ومزلة الأقدام» اهـ.

قلت: وكلام هذا الإمام يدل دلالة واضحة على أن الشريعة لا تتوقف معرفتها على شيء من العلوم الطبيعية والاكتشافات العِلميَّة الحديثة، فما ذهب إليه الدكتور من تعذر إحصاء الأسماء التسعة والتسعين بدون وجود الحاسب الآلي باطل، اعتمادًا على الأدلة التي ساقها الإمام الشاطبي رحمه الله.

ص: 14

ثانيًا: زعم الدكتور أنه لم يقم أحد من أهل العلم سلفًا وخلفًا بتتبع الأسماء حصرًا منذ أكثر من ألف عام لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم! !

أقول:

هل تظن يا فضيلة الدكتور أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من أهل القرون الثلاثة الأولى المفضلة لم يستطيعوا إحصاء الأسماء التسعة والتسعين لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم؟ !

وهل نفهم من ذلك أن الله عز وجل قد حرم السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم من هذه الفضيلة وخصك بها يا فضيلة الدكتور؟ !

يجب علينا أن نعلم أن السلف الصالح رضي الله عنهم قد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1). فهم خير الناس علمًا وعملًا. وكل فضيلة في علم أو عمل، وكل جزء من الدين صغير أو كبير فإنهم قد سبقونا إلى معرفته والعمل به.

فلا شك أنهم قد قاموا بإحصاء الأسماء التسعة والتسعين؛ لأنه جزء من الدين وفضيلة في العلم والعمل، وليس عدم نقل ذلك إلينا دليلًا على عدم وقوعه. والله أعلم.

(1) أخرجه: البخاري (3/ 224)(5/ 3)(8/ 113، 167)، ومسلم (7/ 184، 185)، وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 15

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في «أعلام الموقعين» (4/ 77 - 78): «ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في «الصحيح» من وجوه متعددة أنه قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقًا، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيرًا من بعض الوجوه، فلا يكونون خير القرون مطلقًا، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطئوا هم - لزم أن يكون ذلك القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن

ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان الله! أي وصمة أعظم من أن يكون الصِّدِّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم رضي الله عنهم قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في ذلك، ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى نبغ من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم» اهـ.

قلت: رحم الله الإمام ابن القيم فكأنه يتكلم في مسألتنا هذه، ولا أظن الدكتور يدعي أن قرنه الذي استطاع فيه إحصاء الأسماء التسعة والتسعين بواسطة الحاسب الآلي أفضل من القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية! !

ص: 16

ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله في «الموافقات» (1/ 74 - 76) في معرض بيانه لطرق أخذ العلم عن أهله:

«

أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر:

أما التجربة: فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم. وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سِيَرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى.

وأما الخبر: ففي الحديث: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1). وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض» (2). ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئًا بعد شيء، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق. وعن ابن مسعود أنه قال: «ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب

(1) متفق عليه. وقد سبق تخريجه قريبًا، ولكن بلفظ:«خير الناس قرني» .

(2)

أخرجه: أحمد (4/ 273)، والطيالسي (439) بمعناه من حديث حذيفة رضي الله عنه.

انظر ((الصحيحة)) (رقم: 5).

ص: 17

خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم». ومعناه موجود في «الصحيح» في قوله:«ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يُستفتَون فيُفتُون برأيهم، فيضلون ويضلون» (1) ....

والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم، فهو إذا فى نقص بلا شك. فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصًا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوَزَر (2) الأحمى. وبالله تعالى التوفيق» اهـ.

أقول: فالسلف الصالح هم سادات هذه الأمة علمًا وعملًا، فمن ادعى أنه علم شيئًا من الدين لم يعلموه فهو كاذب؛ إذ الدين هو ما جاء عنهم رضي الله عنهم، فما لم يعلموه فليس هو من الدين قولًا واحدًا. وإذا انفرد أحد المتأخرين بقول ولم يسبقه إليه أحد من السلف الصالح فلا بد أن يكون خطأ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (21/ 291): «وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ، كمال قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام» اهـ.

(1) أخرجه: البخاري (1/ 36)(9/ 123)، ومسلم (8/ 60)، وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

الوَزَر: الملجأ أو الجبل. كما في «لسان العرب (6/ 4823).

ص: 18

وقال الإمام الشاطبي في «الموافقات» (3/ 56):

«فالحذر الحذر من مخالفة الأولين. فلو كان ثَمَّ فضل ما، لكان الأولون أحق به. والله المستعان» اهـ.

فيجب علينا - وعلى الدكتور كذلك - أن نتواضع لعلم السلف الصالح وأن نقر لهم بالسبق في كل باب من أبواب الدين.

كان الإمام أبو عمرو بن العلاء يقول: «ما نحن فيمن مضى إلا كبَقْل (1) في أصول نخلٍ طُوال» (2).

وأبو عمرو هذا تابعي ثقة جليل أحد الأئمة القراء السبعة، وهو يقول هذا في مشايخه من الصحابة والتابعين، فماذا نقول نحن؟ ! هل نقول: إنهم رجال ونحن رجال؟ ! أم نقول: إنهم لم يستطيعوا إحصاء الأسماء التسعة والتسعين لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم؟ !

كلا والله، بل نقول كما قال الإمام أبو عمرو بن العلاء نقول:«ما نحن فيمن مضى إلا كقطرة في بحر خضم» .

قال الإمام الشافعي في «الرسالة البغدادية» (3):

«وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل

(1) البقل: نبات عشبي يغتذي الإنسان منه مثل الفجل والجرجير.

(2)

كما في ترجمته من «تاريخ دمشق» (67/ 113).

(3)

كما في «أعلام الموقعين» (1/ 79)، وانظر كلام الإمام ابن القيم بعده فإنه مهم.

ص: 19

ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامًّا وخاصًّا وعَزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا

» اهـ.

وقد رد الإمام ابن رجب الحنلبي في «فضل علم السلف على الخلف» (ضمن مجموع رسائل ابن رجب: 3/ 22 - 24) على من ظن في شخص من المتأخرين أنه أعلم من السلف الصالح بكلام قوي رأيت نقله هنا لنفاسته، قال رحمه الله:

«وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، وهذا يلزم منه ما قبله؛ لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولًا ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله، كان أعلم ممن كان أقل منهم قولًا بطريق الأولى كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وطبقتهم، وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضًا؛ فإن هؤلاء كلهم أقل كلامًا ممن جاء بعدهم.

وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبة لهم إلى

ص: 20

الجهل وقصور العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة:«إنهم أبر الأمة قلوبًا، وأعمقها علومًا، وأقلها تكلفًا» . وروي نحوه عن ابن عمر أيضًا. وفيه إشارة إلى أن من بعدهم أقل علومًا وأكثر تكلفًا. وقال ابن مسعود أيضًا: «إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه، كثير خطباؤه» . فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم» اهـ.

وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه. وأهل اليمن أقل الناس كلامًا وتوسعًا في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك. وهذا هو الفقه والعلم النافع، فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثورًا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى زمن أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق.

فضبط ما رُوي عنهم في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه، إلا أن يكون شرحًا لكلام يتعلق من كلامهم. وأما ما كان مخالفًا لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعه فيه، وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة، فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة

ص: 21

ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم به. فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله، مع ما يقع في كثيرٍ من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم

» اهـ.

وقال أيضًا رحمه الله (3/ 31 - 32):

«

وأما مِن علمه غير نافع؛ فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم، ونسبتهم إلى الجهل، وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم، وهذا من أقبح الخصال وأردئها.

وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه، وحب ظهورها، وإحسان ظنه بها، وإساءة ظنه بمن سلف من العلماء.

وأهل العلم النافع على ضد هذا: يسيئون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء، ويقرون بقلوبهم بفضل مَن سلف عليهم، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها.

وما أحسن قول أبي حنيفة! وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل؟ فقال: «والله ما نحن بأهل أن نذكرهم، فكيف نفضل بينهم؟ ! » .

وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:

لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم

ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

ومَن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلًا على مَن تقدمه في المقال وتشقق الكلام، ظن لنفسه عليهم فضلًا في العلوم أو الدرجة عند الله

ص: 22

لفضل خص به عمن سبق، فاحتقر من تقدمه، وأزرى عليه بقلة العلم، ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعًا وخشية لله، ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك

» اهـ.

قلت: فكلام هؤلاء الأئمة يدل على أن السلف الصالح قد تفوقوا علينا في العلوم الشرعية، وقد سبقونا إلى كل باب من أبواب الخير، فلا سبيل لنا أن نصل إلى درجة علمهم وفقههم ومعرفتهم بأسرار الشريعة فضلًا عن أن نفوقهم، ولو يسر لإنسان في هذا العصر كل وسائل التقنية الحديثة، وحصل على مئات الموسوعات الإلكترونية وآلاف الكتب المجلدات فلن يصل أبدًا إلى ما وصل إليه السلف الصالح من العلوم الدينية والمعارف الشرعية، ولن يتمكن من معرفة شيء من أمور الدين لم يعرفه السلف الصالح. والله أعلم.

فيتبين من ذلك أن ما ادعاه الدكتور من عدم قيام السلف الصالح بمسألة إحصاء التسعة والتسعين اسمًا ادعاءٌ باطل. والله الموفق.

* * *

* ثالثًا: قوله: «ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية وقراءتها كلمة كلمة للوصول إلى اسم واحد

».

أقول هذا القول حجة عليه؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك، فكثير من السلف الصالح والعلماء المتقدمين كانو يحفظون أضعاف أضعاف هذا العدد من الأحاديث، فإحصاء الأسماء الحسنى أيسر عليهم بكثير.

ص: 23

فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان يحفظ «مليون» حديث، فقد روى الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (6/ 100) عن أبي زرعة الرازي أنه قال: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث. فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.

وهذا الإمام يحيى بن معين قد كتب بيده «مليون» حديث (1).

وكان الإمام أبو زرعة الرازي يحفظ ستمائة ألف حديث. وكان يقول: «أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان: قل هو الله أحد» اهـ (2).

وقد أخرج الإمام البخاري أحاديث «صحيحه» من ستمائة ألف حديث. وكان يقول: «أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح» اهـ (3).

وقال الإمام مسلم: «صنفت هذا «المسند الصحيح» من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة» اهـ (4).

ولو ذهبت أسرد علماء السلف الذين كانو يحفظون مئات الآلاف من الأحاديث لطال المقام جدًّا، وفيما ذكرته كفاية (5).

(1)«تاريخ دمشق» (65/ 13).

(2)

«تاريخ بغداد» (12/ 41، 44)، و «تاريخ دمشق» (38/ 19، 20).

(3)

«تاريخ بغداد» (2/ 327، 346).

(4)

«تاريخ بغداد» (15/ 122).

(5)

ومَن أراد المزيد فلينظر إلى تراجم هؤلاء الأعلام في كتب الرجال: أبي داود السجستاني، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبي مسعود الرزاي، وعبدالله بن وهب، وابن الجعابي، وابن عقدة، وسليمان بن عبدالرحمن الدمشقي، وعُبيدالله بن عمر القواريري، وعلي بن عاصم، وأحمد بن صالح المصري، ومحمد بن العلاء بن كريب، وغيرهم كثير.

ص: 24

• فإذا تبين أن الأئمة المتقدمين كانوا يحفظون مئات الآلاف من الأحاديث النبوية والآثار السلفية تقرر أنهم كانوا أوسع إحاطة للسنة من هذه الموسوعات الإلكترونية؛ لأن هذه الموسوعات التي اعتمد عليها الدكتور في إحصاء الأسماء التسعة والتسعين لا يبلغ ما تحتويه عشر ما حفظه هؤلاء الأئمة وذلك بشهادة الدكتور نفسه (1)، وهذا يدل دلالة واضحة أنهم كانوا أقدر على إحصاء الأسماء الحسنى التسعة والتسعين منا. والله أعلم.

* * *

(1) ثم نقول: مَن الذين أوصلوا إلينا هذه الأحاديث الموجودة على الموسوعات الإلكترونية؟ أليس هم السلف الصالح رضي الله عنهم؟ ! !

هذا، مع العلم بأن هذه الموسوعات الإلكتورنية -التي اعتمد عليها الدكتور- تحتوي على كمِّ هائل من الأخطاء والتصحيفات والتحريفات، مما يجعلنا لا نثق ثقة كاملة بما تحتويه من معلومات، وستأتي زيادة توضيح لهذا الأمر (ص: 86).

ص: 25