المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موقف الدكتور من الحديث الحسن - الانتصار للسلف الأخيار

[محمد محب الدين أبو زيد]

الفصل: ‌موقف الدكتور من الحديث الحسن

‌موقف الدكتور من الحديث الحسن

قال الدكتور (ص: 52): «إن مِن أعظم الأسس في الاعتماد على السنة الالتزام بقواعد المحدثين في معرفة المقبول من المردود والصحيح من الضعيف. وقد التزمت في منهجية العمل بالشرط الأول أنه إذا لم يرد الاسم نصًا في القرآن فيلزم لأخذه من السنة أن يكون الحديث ثابتًا صحيحًا، فلا يعتد في النص على ذكر الأسماء الحسنى بالضعيف، ولا يعتمد اعتمادًا كاملًا على ما ثبت وخف ضبطه كالحسن؛ لأن الحسن على ما ترجح عند المحدثين من رواية الصدوق، أو هو ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خفَّ ضبطه قليلًا عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، وربما يثير ذلك إنكارَ البعض، لكنهم لا يختلفون معنا في تطرق الاحتمال إلى ضبط النص والتيقن منه في ثبوت لفظ الاسم دون الوصف، اللهم إلا إذا كان الحديث صحيحًا بمجموع طرقه وكثرتها، ومن ثم لم أعتمد على الحديث الحسن في إحصاء الأسماء الحسنى، وإن اعتمدته حجة في إثبات الأوصاف وشرح معاني الأسماء

» اهـ.

أقول:

هذا كلام ينقض أولُه آخرَه! فكيف يكون الدكتور ملتزمًا بقواعد المحدثين ثم لا يأخذ بالحديث الحسن في إثبات الأسماء الحسنى؟ ! فهل عدم الأخذ بالحديث الحسن في هذا الأمر من قواعد المحدثين؟ ! فليأتنا الدكتور بمن قال بهذه القاعدة من المحدثين! !

ص: 60

بل إن صنيع المحدثين يدل على خلاف ذلك؛ فإن المحدثين يقبلون خبر الآحاد في العقيدة والأحكام، والحسن من جملة أخبار الآحاد، وإثبات الأسماء الحسنى من العقيدة، فعلى ذلك فالمحدثون يقبلون الحديث الحسن في إثبات الأسماء الحسنى.

• فهذا الإمام المنذري رحمه الله في «مختصر سنن أبي داود» (2/ 167 - دعاس) نقل عن شيخه الحافظ أبي الحسن المقدسي رحمه الله أنه قال في حديث بُريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا احد. فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب» . قال الحافظ المقدسي في هذا الحديث: «وهو إسناد لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه رُوِي في هذا الباب حديث أجود إسنادًا منه، وهو يدل على بطلان مذهب من ذهب إلى نفي القول بأن لله تعالى اسمًا هو الاسم الأعظم، وهو حديث حسن» اهـ.

قلت: فقد أثبت هذا الإمام أن لله اسمًا هو الاسم الأعظم بهذا الحديث الحسن عنده.

• وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (22/ 484) قد أثبت اسم الله «النظيف» معتمدًا على حديث «إن الله نظيف يحب النظافة» (1). وهو حديث حسَّنه العلامة الألباني في «المشكاة»

(1) وكذلك الإمام الإقليشي في «الإنباء في شرح الصفات والأسماء» (ق: 7/ أ- مخطوط) قد عدَّ «النظيف» من الأسماء الحسنى معتمدًا على هذا الحديث.

ص: 61

(4487)

، كما ذكر ذلك الدكتور (ص: 678)، ومع ذلك فقد صرح الدكتور بتنحية اسم «النظيف» من الأسماء الحسنى لأنه لم يثبت إلا في حديث حسن!

فإن قال قائل: لعل هذا الحديث صحيح عند شيخ الإسلام وليس حسنًا؛ فلذلك اعتمد عليه في إثبات «النظيف» اسمًا من أسمائه تعالى.

قلت: لو كان هذا الحديث صحيحا عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما الذي جعل الدكتور يقلد الألباني في تحسينه لهذا الحديث ولا يقلد شيخ الإسلام في تصحيحه؟ ! بل لو قال قائل: إن تقليد شيخ الإسلام أولى من تقليد العلامة الألباني في هذا الأمر. لم يكن بعيدًا عن الصواب؛ لما علم من سعة اطلاع شيخ الإسلام على السنة النبوية، حتى قال فيه الإمام الذهبي رحمه الله:«كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث» (1). فقد يكون اطلع على طريق يصحح به الحديث وخفي هذا الطريق على العلامة الألباني. فعلى ذلك يلزم الدكتور قبول هذا الاسم في جملة الأسماء الحسنى. والله أعلم.

• ومن اطَّلع على كتب علماء المسلمين التي صنفوها في بيان الاعتقاد، مثل: كتاب «السنة» لعبد الله بن أحمد، و «خلق أفعال العباد» للبخاري، و «التوحيد» لابن خزيمة، و «السنة» لابن أبي عاصم، و «الشريعة» للآجري، و «شرح أصول الاعتقاد» للالكائي، و «الإبانة» لابن بطة، و «الحجة في بيان المحجة» لقوام السنة الأصبهاني وغير ذلك، وجد أنهم يحتجون بالأحاديث الحسنة.

(1) كما في «ذيل طبقات الحنابلة» للإمام ابن رجب الحنبلي (2/ 391).

ص: 62

ولا أعلم أحدًا من السلف الصالح ولا من العلماء المجتهدين رحمهم الله أجمعين- قد ردَّ اسمًا من أسمائه سبحانه لمجرد أنه ثبت في حديث حسن.

• ومما يدل دلالة واضحة على حجية الحديث الحسن في جميع أمور العقيدة والأحكام: أن عددًا من الأئمة والحفاظ يدخلون الحسن في قسم الصحيح ولا يفرقون بينهما.

قال الإمام ابن الصلاح في «معرفة علوم الحديث» (ص: 186): «مِن أهل الحديث مَن لا يُفرِد نوع الحسن ويجعله مندرجًا في أنواع الصحيح؛ لاندراجه في أنواع ما يحتج به

» اهـ.

وقال الإمام السيوطي في «تدريب الراوي» (1/ 198):

«الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في القوة؛ ولهذا أدرجَتْه طائفة في نوع الصحيح، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة، مع قولهم بأنه دون الصحيح» اهـ.

وقال شيخنا طارق بن عوض الله في «لغة المحدث» (ص: 137): «واعلم أن تخصيص اسم «الحسن» بالرواية المتفرد بها من هو موصوف بخفة الضبط، اصطلاح حادث، درج عليه جماعة من المتأخرين، حتى صار هو السائد بينهم، أما المتقدمون فيدرجون هذا في اسم «الصحيح» ؛ لأن الحديث عندهم إما صحيح وإما ضعيف، وإذا تبين لهم خطأ ذلك الراوي في روايته بمخالفته أو تفرده بما لا يُحتمَل، فإنهم يحكمون على روايته حينئذ بالشذوذ أو النكارة. والله أعلم» اهـ.

ص: 63

• بل إن بعض العلماء قد ذهب إلى أن في «الصحيحين» أحاديث حسنة، وهذا يدل على أن الحسن محتج به؛ لاندراجه داخل «الصحيح» المتلقى بالقبول.

قال الإمام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (7/ 339):

«

وبهذا يظهر لك أن «الصحيحين» فيهما الصحيح، وما هو أصح منه، وإن شئت قلت: فيهما الصحيح الذي لا نزاع فيه، والصحيح الذي هو حسن، وبهذا يظهر لك أن الحسن قسم داخل في الصحيح، وأن الحديث النبوي قسمان ليس إلا: صحيح، وهو على مراتب، وضعيف وهو على مراتب. والله أعلم» اهـ.

وبهذا يتضح أن الحديث الحسن كالصحيح تمامًا يحتج به في جميع أمور العقيدة والأحكام، وتفريق الدكتور بين الحسن والصحيح في باب إثبات الأسماء الحسنى، تفريق باطل لا دليل عليه، ولم يقل به أحد من علماء المسلمين. والله الموفق.

* * *

• وقال الدكتور: «وربما يثير ذلك إنكار البعض، لكنهم لا يختلفون معنا في تطرق الاحتمال إلى ضبط النص والتيقن منه في ثبوت الاسم دون الوصف

» (1).

قلت:

جزى الله الدكتور خيرًا في حرصه على الاحتياط في إثبات الأسماء

(1) انظر تمام كلامه (ص: 60) من هذه الرسالة.

ص: 64

الحسنى، ولكن ليعلم الدكتور أن السلف الصالح وأئمة المسلمين كانوا أشد منه احتياطًا وغَيرَة على عقيدتهم أن يدخل في أسماء الله ما ليس منها، كما أنهم كانوا أورع وأتقى وأكثر علمًا وفهمًا. فلو كان الاحتياط يقتضي رد الحديث الحسن في هذا الأمر لبينوا لنا ذلك في مصنفاتهم التي صنفوها في بيان العقيدة، وهي تعد بالمئات، وإذا لم يأتنا نقل واحد منهم في ذلك دل على خطأ الدكتور فيما ذهب إليه، وأُذكِّره بقول شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (21/ 291):

«وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام» اهـ.

كما أن هذه الحجة التي أبداها الدكتور ضعيفة في نفسها، وبيان ذلك كالآتي:

أولًا: من كان من الرواة غير تام الضبط، وحَسَّن له العلماء حديثًا، فهو في هذا الحديث بعينه تام الضبط، إنما تظهر خفة ضبطه إذا عارضه غيره، أو أنكر عليه العلماء حديثًا بعينه (1).

ثانيًا: إن الأئمة النقاد الذين حفظ الله بهم السنة وأوصلوها إلينا صافية من الأكدار، هؤلاء الأئمة قد بينوا في كتبهم -التي وضعوها في علل الأحاديث- أوهام الرواة وأخطاءهم، فلو افترضنا أن هذا الراوي الذي خف ضبطه قد أخطأ في اسم من أسماء الله عز وجل ورواه بالمعنى -مع

(1) أفادني بهذه النكتة شيخنا العلامة الدكتور أحمد معبد عبد الكريم -حفظه الله-.

ص: 65

أن هذا الاحتمال بعيد- لبيَّن ذلك الحفاظ في كتب العلل، ولم يتركوا هذا الحديث يمر هكذا -إن شاء الله-. وإليك مثالًا واحدًا يوضح ذلك:

قال الإمام ابن أبي حاتم في «العلل» (107):

«سمعت أبي وذكر حديث شعبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» .

قال أبي: هذا وهم، اختصر شعبة متن هذا الحديث، فقال:«لا وضوء إلا من صوت أو ريح» .

ورواه أصحاب سهيل عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحًا من نفسه، فلا يخرجن حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» اهـ.

قلت: فهذا الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله قد بين أن شعبة -وهو أحد الحفاظ الثقات الأكابر- قد وهم واختصر متن هذا الحديث ورواه بالمعنى، ولم يمنعه حفظ شعبة وثقته وإتقانُه مِن أن يُدَقِّق في الحديث ويكتشف هذا الخطأ. وهذا الحديث في أمر من أمور الفقه كما هو ظاهر، فلو كان مكان شعبة راوٍ آخر غير تام الضبط وروى حديثًا في أمر من أمور العقيدة خاصة في باب إثبات الأسماء الحسنى ولم يضبطه تمام الضبط، أما كان الإمام أبو حاتم الرازي وغيرُه مِن نُقَّاد الحديث مثل: أبي زُرعة الرازي وأحمد بن حنبل والبخاري وابن المديني وأبي داود والنسائي والدارقطني وغيرهم - يبينون خطأ هذا الراوي ويردون الحديث عليه؟ !

ص: 66

أقول: بلى والله -إن شاء الله- لو حدث ذلك لبينوه، ولم يتوانوا في ذلك؛ فهم أحرص على الدين وعلى السنة النبوية منا رحمهم الله ورضي عنهم.

ويتضح من هذا: أن هذه القاعدة التي أتى بها الدكتور لا أساس لها من الصحة، ولم يقل بها أحد من السلف الصالح ولا من علماء المسلمين فهي باطلة مردودة. والله أعلم.

• وهنا أمر يجب التنبيه عليه: وهو أن الدكتور قد صرح في كتابه (ص: 53) أنه يقلد المحدثين وخاصة العلامة الألباني رحمه الله في تصحيح وتضعيف الأحاديث، ثم إذا به يجتهد في قواعد علم الحديث الشريف؛ فلا يحتج بالحديث الحسن، ولا بالحديث الموقوف الذي له حكم الرفع في إثبات الأسماء الحسنى، ويزعم أنه أحاط علمًا بالسنة النبوية

فليت شعري؛ كيف يجتهد في الأصول ويقلد في الفروع؟ ! والمعروف أن الإنسان يقلد -أو بمعنى أصح: يتبع- قواعد وأصول العلم ثم يجتهد في تطبيق هذه القواعد والأصول على الفروع، أما أن يعكس القضية؛ فهذا لم أره إلا من الدكتور، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب. والله المستعان.

* * *

ص: 67