الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: (1) من الوقف
كتاب الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال رحمه الله:
كتاب الوقف.
الوقف: مصدر وقف. ومعناه في اللغة: التحبيس.
وهو مشروع: بالسنة. ودل عليه أحاديث منها:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).
فقوله: (صدقة جارية) يشير به إلى الوقف.
- وأيضاً دل عليه حديث عمر رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني ملكت أرضاً لم أملك قط أرضاً أنفس منها في خيبر فما تأمرني فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. غير أنه لا تباع ولا توهب ولا تورث.
وهذا الحديث حديث عمر رضي الله عنه أصلٌ عظيم في هذا الباب. سيأتينا أنا نحتاج إليه في كثير من المسائل فهو أصل عظيم نحمد الله أن وفق عمر أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال حتى تأتينا هذه الفتوى المفصلة.
قال رحمه الله:
وهو تحبيس.
ذكرت التعريف والمشروعية بقي مسألة علينا:
= ذهب الجماهير إلى أنه مشرو، واستدلوا بهذه النصوص الصريحة الصحيحة الواضحة.
= وذهب شريح وبعض الفقهاء إلى أنه لا يشرع.
وهو قول لا يتلفت إليه. بل اعتبروه من الأقوال التي خالفت الإجما،. وجه ذلك: أن جابر رضي الله عنه قال: ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجد خيراً إلا أوقف واعتبر الحنابلة هذا الأثر الموقوف عن جابر حكاية للإجماع وهو صحيح وهو كذلك: هو حكاية للإجماع.
فمخالفة شريح أو غيره لا عبرة بها مطلقاً مع توارد وتتابع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الإيقاف بالإضافة إلى السنة المرفوعة الصحيحة.
قال رحمه الله:
وهو تحبيس الأصل.
التحبيس: هو قطع المال عن التملكات والتصرفات.
وقوله: (تحبيس الأصل)، الأصل يقصد به عند الحنابلة: كل ما ينتفع به مع بقاء عينه.
وسيذكر المؤلف رحمه الله هذه المسألة ونذكر ما يتعلق بها من أحكام لكن الذي يعنينا الآن أن الحنابلة يقصدون بالأصل هو هذا كل ما ينتفع به مع بقاء أصله.
قال رحمه الله:
وتسبيل المنفعة.
يقصد بتسبيل المنفعة أي: صرفها في مستحقيه، إذاً هذا هو مفهوم الوقف في الإسلام. (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة).
قال رحمه الله:
ويصح بالقول.
الوقف يصح بصيغتين:
ـ القول.
…
ـ والفعل.
بدأ رحمه الله بالقول: والسبب في ذلك: أن القول صحة الوقف فيه محل إجماع، يعني: إذا قلنا محل إجماع يعني: من القائلين بمشروعية الوقف وهم جماهير أهل العلم.
واستدلوا على هذا:
- بأن الوقف عقد من العقود يصح باللفظ أو بالقول.
وقوله: (يصح) يعني من جائز التصر، الوقف لا يصح ممن لا يجوز أن يتصرف إما لصغر أو جنون أو سفه أو حجر أو لأي سبب.
قال رحمه الله:
بالقول وبالفعل الدال عليه.
ـ القول له ستة ألفاظ: ثلاثة صريحة وثلاثة كناية وسينص المؤلف عليها.
ـ قال: (وبالفعل الدال عليه) يعني: أن الوقف يصح بالفعل الدال على إرادة الوقف وهذا هو مذهب الحنابلة. وهو تصحيح الوقف بالفعل بلا قول.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول: أن الوقف بالفعل مع ما يدل عليه هو في قوة القول في الدلالة على إرادة الوقف.
- الثاني: أن العرف دل على تصحيح الوقف وإرادته بالفعل دون القول.
- الثالث: أن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ فإذا علمنا من دلائل الأحوال والقرائن أنه أراد الوقف عملنا به.
قوله رحمه الله: (وبالفعل الدال عليه) يعني: وينبني على هذا إذا صححنا الوقف بالفعل أنه إذا وقف بالفعل فإنه لا يجوز له أن يرجع وخرجت العين عن ملكه، فهذه هي الثمرة من تصحيح الوقف بالفعل.
إذاً: يجب أن تعلم أنه إذا صححت الوقف بالفعل ثم وقفه بالفعل كما سيأتينا فإنه خرجت العين وليس له أن يرجع.
ثم ذكر رحمه الله أمثلة على الوقف بالفعل:
قال رحمه الله:
كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه.
إذا جعل أرضه مسجداً وأذن للناس أن يصلوا في هذا المسجد فقد خرجت الأرض عن ملكه وأصبحت وقفاً لله.
لكن يشترط في الإذن أن يكون إذناً عاماً، أما الإذن الخاص أو المقيد فإنه لا يدل على التوقيف لكن الذي يدل هو الإذن العام.
فإذا وضعه وأذن للناس جميعاً أن يصلوا في هذه الأرض فقد أصبحت مسجداً وخرجت عن ملكه.
المثال الثاني:
قال رحمه الله:
أو مقبرة وأذن في الدفن فيها.
كذلك إذا أذن للناس أن يدفنوا في هذه الأرض فمن المعلوم أنه إذا كان الإذن عاماً فقد أخرج الأرض عن ملكه ووقفها في سبيل الله.
وجعل الأرض مقبرة في التوقيف أظهر منه في المسجد وإن كان في الكل هو توقيف لكن في المقبرة أظهر لأن الرجوع في المقبرة أصبح أشبه ما يكون بالمتعذر لأنها أصبحت مقابر لا يستطيع أن ينتفع منها بأي شيء فخرجت من ملكه وأصبحت وقفاً لله وفي سبيله.
فإذاً هذان مثالان بهذا الشرط وهو أن يأذن إذناً عاماً، ولعل مقصود الحنابلة بقولهم:(إذناً عاماً) يعني: أن تدل القرائن حقيقة على أنه أراد الوقف.
ففي يومنا هذا ربما يأذن إذناً عاماً ونعلم أنه لم يرد التوقيف، كما لو أذن في المصليات التي في العماير في الدور الأول أو في الدور الثاني هو لا يريد أن تخرج عن ملكه وإن كان أذن فيها إذناً عاماً.
فإذاً: الضابط ليس هو الإذن أو عدم الإذن وإنما الإذن مثال الضابط هو أن نعلم من خلال القرائن والأحوال أنه أراد إخراج هذه الأرض وتوقيفها في سبيل الله، فإذا علمنا من خلال القرائن هذا العلم فقد صارت وقفاً وخرجت عن ملكه.
قال رحمه الله:
وصريحه: وقفت وحبست وسبلت.
رجع رحمه الله إلى الكلام عن التوقيف بالقول، ولو أنه جعل الكلام عن الوقف بالقول مجموعاً مع قوله في أوله:(ويصح بالقول)، لكان أنسب وأسهل في الترتيب.
يقول رحمه الله: (وصريحه: وقفت وحبست وسبلت) هذه الألفاظ الثلاث: (وقفت وحبست وسبلت) ألفاظ صريحة.
والألفاظ الصريحة هي التي لا تقبل إلا معنى الوقف.
والدليل على أنها ألفاظ صريحة:
- أن هذه الألفاظ اعتبرت ألفاظاً صريحة في الشرع وفي العرف.
ولهذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شئت حبست أصلها).
فاعتبر التحبيس لفظاً صريحاً، هذه الألفاظ الثلاثة صريحة لا تحتاج إلى أي أمر إضافي في إثبات الحكم.
وأنت يجب أن تعلم أن الألفاظ الصريحة هنا وفي طلاق تدل على معنيين أو يؤخذ منها معنيان:
ـ الأول: أنها تدل على الحكم بلا احتياج لأمر زائد خارج عن اللفظ.
ـ الثاني: أنها يجب أن لا تدل إلا على المعنى الذي هي صريحة فيه.
وهذا التقرير في صرائح الألفاظ وفي كل الأبواب في الطلاق وفي الوقف.
قال رحمه الله:
وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت.
والكناية هي الألفاظ التي تشترك بين الوقف وغيره.
يعني: تطلق على الوقف وعلى غيره.
فقول الإنسان: (تصدقت) يحتمل أنه أراد الصدقة المعروفة وهي إخراج العين من ملكه إلى ملك المتصدق عليه فقط.
ويحتمل أنه أراد الوقف. فلا تصير وقفاً إلا بأمر زائد وهو ما سيذكره المؤلف رحمه الله في عباراته القادمة وهي أحد ثلاثة أشياء.
قال رحمه الله:
فتشترط النية: مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف.
كما قلنا في الصريح أنه لا يحتاج إلى أمر زائد ولا يحتمل إلا المعنى الذي هو صريح فيه كذلك نقول في الكناية. أنها لا تكون حكماً في الوقف إلا إذا انضاف إليها أمر زائد ويجب أن تشترك في معناها بين الوقف وبين أمر آخر.
فالكناية عكس الصريح تماماً.
يقول رحمه الله:
(فتشترط النية: مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف).
يعني: يشترط لاعتبار الكناية لفظاً دالاً على التوقيف أن تقترن بأحد ثلاثة أمور:
ـ الأمر الأول: النية، فإذا صار مع الكناية نية أصبحت دالة على الوقف.
والدليل على هذا:
- أن الكناية مع النية يساوي الصريح، يعني: في الدلالة على المقصود.
ولذلك إذا احتف أو اقترن اللفظ بالنية صار صالحاً للتوقيف.
ـ الثاني: يقول: (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة)، إذا اقترن بالكناية أحد الألفاظ الخمسة صارت صريحة.
والألفاظ الخمسة يقصد بها: الثلاثة الصريحة، واللفظان الباقيان من الكناية.
- فإذا قال: تصدقت وقفاً بهذا البيت. - أو تصدقت ووقفت هذا البيت.
صار وقفاً.
- أو قال: تصدقت وحرمت هذا البيت، صار وقفاً.
- أو قال: تصدقت وحبست هذا البيت، صار وقفاً.
يعني: إذا اقترن هذا اللفظ بأحد الألفاظ الخمسة الباقية لأنه أصبح يدل على الوقف وانتفى من معناه الاشتراك.
ما الذي نفى الاشتراك؟ هو الاقتران بأحد الألفاظ الخمسة.
ـ يقول رحمه الله:
(أو حكم الوقف).
يعني: إذا قرن الكناية بأحد أحكام الوقف.
- كأن يقول: تصدقت بهذا البيت لا يباع.
- أو تصدقت بهذا البيت لا يوهب.
- أو تصدقت بهذا البيت لا يورث.
صار البيت وقفاً.
لأنه باقترانه بهذا اللفظ تحدد معناه ولم يعد مشتركاً.
وهذا صحيح في الأمور الثلاثة.
لكني أقول: ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يوقف أن لا يشغل الناس بتتبع نيته واقتران لفظه وأن يوقف بلفظ صريح حتى يخرج هو وذريته والناظر وكل من له شأن بالوقف من الإشكال.
ولذلك نقول وقف وقفاً صريحاً.
ولذلك استخدم النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً صريحاً في التوقيف.
لكن في بعض الأماكن وفي الأوقات تكون الكنايات عند بعض الناس صرائح باعتبار العرف.
فإذا كانت صريحة باعتبار العرف فلا نحتاج إلى أن ينضاف إليها شيء من الأمور الثلاثة.
((الأذان))
بدأ المؤلف رحمه الله بالشروط التي لا يصح الوقف إلا بها وذكر رحمه الله ثلاثة شروط.
قال رحمه الله:
ويشترط فيه:
1 -
المنفعة دائماً من معين ينتفع به مع بقاء عينه، كعقار وحيوان.
(ويشترط فيه: المنفعة دائماً من معين) يشترط في الوقف أن يكون له نفعاً وأن يكون هذا النفع له نفع دائم.
ومقصود الحنابلة بالنفع هنا هو نفس مقصودهم في البيع.
فيشترط أن تكون المنفعة: مباحة. ومعلومة. ومحددة
…
إلى آخره.
بناء عليه لا يجوز للإنسان أن يوقف ما لا يجوز أن يباع.
فلا يجوز أن يوقف كلباً ولا خنزيراً ولا خمراً ولا آلات اللهو ولا يجوز أن يوقف كل ما لا يجوز أن يباع.
واستثنى الحنابلة من هذا: الماء، والمصحف، فإن الماء لا يجوز أن يباع ويجوز أن يوقف، والمصحف لا يجوز أن يباع ويجوز أن يوقف.
= القول الثاني - في هذه المسألة -: أنه يجوز أن يوقف الإنسان كل عين يجوز أن تعار.
فالأعيان التي يجوز أن تعار يجوز أن توقف.
على هذا القول: يجوز أن يوقف الإنسان الكلب المعلم، لأن الكلب المعلم يجوز أن يعيره الإنسان لغيره لأن فيه نفعاً مباحاً.
وهذا القول الثاني وهو جواز وقف كل ما تجوز إعارته هو قول للحنابلة واختيار شيخ الإسلام رحمه الله -
قال: (المنفعة دائماً من معين) يشترط في العين الموقوفة أن تكون معينة، فلا يجوز أن يوقف المجهول ولا المبهم ولا ما في الذمة.
لأن هذه الأعيان ليست معينة.
واستثنى الحنابلة من هذا الحكم: جواز وقف المشاع، لأن المشاع غير معين، ومع ذلك يرون جواز وقفه.
= والقول الثاني: جواز وقف المبهم فإذا قال أوقفت أحد هذين البيتين جاز وصح وعين المبهم بالقرعة.
وذلك: لأن في هذا الإجراء تحقيقاً لمقصد الواقف بلا مضرة، فالواقف أراد أن يوقف أحد هذين البيتين فلماذا نبطل العقد من أصله بل الأحسن أن نصحح العقد ونحدد العين الموقوفة بالقرعة.
وهذا القول صحيح.
يقول: (ينتفع به مع بقاء عينه) يشترط الحنابلة أن تكون العين مما يمكن أن ينتفع بها مع بقائها.
والدليل على هذا:
- أن موضوع الوقف هو التحبيس والتحبيس يتنافى مع الإتلاف.
= والقول الثاني: جواز وقف ما يتلف، أو بعبارة أدق: جواز وقف ما لا يمكن أن ينتفع به إلا بإتلافه.
كالدراهم والدنانير والرياحين والطعام والأدهان وغيرها.
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله
واستدل على ذلك:
- بأنه لا محظور شرعي في هذا.
- كما أن فيه نفعاً، ووجه النفع: أنه إذا أوقف هذا الدهن على هذا المسجد استفدنا من الوقف أن لا يصرف هذا الدهن إلا في هذا المسجد.
فانتفعنا من أحكام الوقف ولو كانت العين تتلف بالانتفاع بها.
وفي الحقيقة لكل من القولين وجهة نظر قوية وإذا نظرت إلى الصحابة تجد أنهم لم يوقفوا إلا ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه.
يعني: لا يعرف أن الصحابة أوقفوا إلا مثل هذه الأشياء.
وبالمقابل ما ذكره شيخ الإسلام أيضاً وجيه ويحقق المصلحة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
((انتهى الدرس)).
الدرس: (2) من الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم في درس الأمس الكلام عن الشرط الأول من شروط الوقف، ويحسن أن نشير الآن إلى أنّ هذا الشرط في الحقيقة يشتمل على عدة شروط، هو يسمى الشرط الأول، وإن كان فيه أكثر من شرط.
قال المؤلف رحمه الله:
(كعقار وحيوان ونحوهما)
يشير الشيخ المؤلف رحمه الله بهذه العبارة إلى أنه يجوز أن يوقف الإنسان العقار والمنقول، وإلى هذا يشير بالتمثيل، فإنه يقول كعقار وحيوان، فالمثال الأول للعقار والمثال الثاني للمنقول.
نبدأ بالقسم الأول: وهو وقف العقار، صحيح بإجماع القائلين بمشروعية الوقف لأنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقفوا عقاراً كثيراً، ولأنّ له منفعة دائمة مع بقاء العين.
القسم الثاني: وقف المنقول، ووقف المنقول فيه خلاف، فالمذهب كما ترى هنا بل هو قول الجماهير والجم الغفير أنّ وقف المنقول جائز وصحيح، وأنه مشروع يتوافق مع الأصول الدالة على مشروعية الوقف.
والقول الثاني: للأحناف أنه لا يشرع وقف المنقول.
والراجح إن شاء الله صحة وقف المنقول لأدلة كثيرة منها:
وهو الدليل الأول: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه (جعل فرساً في سبيل الله) يعني للجهاد، والفرس من المعلوم أنه من المنقولات.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله، حسنات في ميزانه يوم القيامة) ومن المعلوم أنّ الفرس أيضاً من المنقولات.
الدليل الثالث: أنّ خالد بن الوليد رضي الله عنه (احتبس أدرعه، وأعتاده، في سبيل الله) والدرع منقولة وبهذا علمنا أنّ مذهب الأحناف ضعيف جداً، لأنه يخالف النصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم
قال المؤلف رحمه الله:
(وأن يكون على بِرّ)
الشرط الثاني أن يكون على بِرّ، يعني أن يكون مصرف الوقف جهة بِرّ، وسواء كان الواقف مسلماً أو ذمياً، وأيضاً سواء كان الوقف على جهة عامة كالمساجد، أو على معين كقريب من أقربائه، في جميع هذه الأحوال يجب أن يكون على جهة بِرّ.
وهذا مذهب الجمهور، واستدلوا على هذا بأنّ الوقف إنما شرع للتقرب إلى الله بتحصيل الأجر، وهذا لا يحصل إلى إذا كان على جهة بِرّ، بناء على هذا القول لا يجوز أن نقف على الأغنياء من غير الأقارب، لأنهم ليسوا جهة بِرّ، فلا هو قريب ولا فقير، ولا يجوز أن نقف على تعليم الشعر المباح، لأنه ليس من جهات البِرّ.
والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يكون على جهة بِرّ، بل يشترط أن لا يكون على معصية، فظهور الِبِرّ والقربة فيه لا يشترط.
واستدل هؤلاء: بأنّ الوقف من حيث هو عبادة، فلا ننظر إلى جهة صرفه، وعلى هذا القول يجوز أن نقف على الأغنياء وعلى من يعلمون الشعر المباح، والصحيح مذهب الجمهور، ذلك لأنّ الوقف لم يشرع إلا ليتعبد الإنسان ربهُ بِهِ ابتغاء الثواب وهذا لا يكون إلا إذا كان المصرف جهة بِرّ، ولما قرّر الشيخ رحمه الله الحكم ذكر أمثلته:
قال المؤلف رحمه الله:
(كالمساجد والقناطر والمساكين)
بدأ المؤلف بالتمثيل بالوقف على جهة عامة، كالمساجد والقناطر والمساكين، جهات عامة وليست جهة معينة، المساجد معروفة، والمساكين تقدم معناهم في كتاب الزكاة، والقناطر جمع قنطرة، والقنطرة هي الجسر الممدود على الماء، واشترط بعضهم أن يكون مقوساً، وإلاّ لا يعتبر قنطرة، ومن خلال هذا التعريف عرفنا الفرق بين القنطرة والجسر، لأنه مادام يقول أنّ القنطرة هو جسر ممدود على الماء، فإنّ الجسر أعم، فالجسر لا يشترط أن يضرب على الماء، ولا أن يكون مقوساً ولا أن يبنى، بينما القنطرة لا تسمى قنطرة، إلاّ إذا كانت مبنية، ولابد ومقوسة ومضروبة على الماء.
فإذاً عرفنا الآن الفرق بين القنطرة والجسر، ولاشك أنّ الوقف على الطرق والقناطر من أعظم القربات، لما فيه من تسهيل على المسلمين، وقضاء حاجتهم.
قال المؤلف رحمه الله:
(والأقارب من مسلم وذميّ)
هذا من باب التمثيل على الوقف على جهة خاصة، وهم الأقارب، ويجوز أن يقف على الأقارب سواء كانوا من المسلمين أو الذميّين، والسبب في ذلك أنّ الوقف على الأقارب عبادة، لأنه يعتبر من باب صلة الرحم، وصلة الرحم عبادة سواء كانت مع مسلم أو مع ذميّ، وفهم من كلام المؤلف أنّ الذميّ لا يجوز أن يوقف عليه، إذا كان من الأقارب، فإن لم يكن من الأقارب، بأن كان أجنبياً، فإنه لا يجوز أن يوقف عليه، ولو من ذميّ، وإلى هذا مال الشيخ الزركشي، وقال إنّ هذا ليس من التقرب، لأنّ القربة تكون بصلة الرحم، وهذا ليس من الأرحام.
والقول الثاني: أنه يجوز أن نقف على الذميّ، ولو لم يكن من الأقارب كأن يكن صديقاً أومن المعارف، واستدل هؤلاء بأنّ الصدقة والبِرّ والإحسان للذميّ جائز، فالوقف من هذا الباب.
وهذا القول الثاني هو الراجح إلاّ أنه لا ينبغي أن يقف الإنسان على ذميّ، إلاّ في حالتين: إما أن يكون من الأقارب، وقد وقف الصحابة رضي الله عنهم على أقاربهم من غير المسلمين ولا إشكال ولا حرج فيه.
الثاني: أن يرجى إسلامه، أقول ينبغي ألاّ يوقف إلاّ على أحد هذين النوعين.
قال المؤلف رحمه الله:
(غير حربيّ)
يعني فلا يجوز أن نقف على حربيّ، ومثله المرتد، والوقف عليهما باطل، والسبب في ذلك أنّ الحربيّ والمرتد، المقصود شرعاً إعدامهما، والتضييق عليهما، والوقف عليهما بعكس هذا الغرض، فإنّ في الوقف عليهما توسيع، والمطلوب شرعاً التضييق والإعدام، وهذا صحيح.
والدليل الثاني: أنّ الوقف يراد للتأبيد، والحربيّ والمرتد مآله إلى القتل شرعاً، وهذا يؤول إلى انقطاع مصرف الوقف، إذاً لا يجوز أن نقف لا على الحربيّ ولا على المرتد.
قال المؤلف رحمه الله:
(وكنيسة)
يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان وقفاً على كنيسة، سواء كان الواقف من المسلمين أومن الذميّين، وإلى هذا ذهب الجماهير، بل لكثرة الذاهبين إليه، أُعتبر إجماعاً عند بعض الفقهاء، والسبب في ذلك أنّ في الوقف على الكنيسة إعانة على الكفر والإلحاد والشرك، وهذا مناقض تماماً لمقصود الوقف، فإنّ مقصود الوقف القربة، وهذا كفر وشرك.
والقول الثاني: أنّ الوقف على الكنيسة جائز، لكنه يعتبر من الوقف الجائز، وليس من الوقف اللازم، فله أن يرجع في أيّ وقت شاء.
والقول الثالث: أنّ الوقف على الكنيسة جائز مطلقاً، وهذا القول والذي قبله ضعيف جداً، إذ كيف يسوغ للإنسان أن يوقف على الكنيسة، فيها من الشرك والإلحاد ما لا يعلم به إلاّ الله، وفيها من تحريف كلام الله والتعبد لله بما لا يرضاه أنواع شتى، فلا شك أنّ القول بجوازه مطلقاً، أو بجوازه مع اعتباره جائزاً، أنها أقوال ضعيفة جداً.
قال المؤلف رحمه الله:
(ونسخ التوراة والإنجيل)
يعني ولا يجوز للإنسان أن يوقف الأوقاف على نسخ التوراة والإنجيل، وذلك لأنّ التوراة والإنجيل وإن كانا من الكتب التي نزلت من السماء من الله، من الكتب السماوية، إلاّ أنه لحقها التحريف والتبديل والتغيير، فالوقف على نسخ هذه الكتب هو في الحقيقة إعانة على نشر كتب محرفة، لا يجوز أن تنشر ولا أن تقرأ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ هذه الكتب وهي التوراة والإنجيل منسوخة، وجاء القرآن حاكماً عليها، ولهذا لما أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيئاً من التوراة غضب النبي صلى الله عليه وسلم وغضبه فيه دليل على أنّ أخذ التوراة نوع من المعصية، فكيف نوقف الأوقاف على التوراة والإنجيل بعد هذه النصوص والمعاني التي ذكرها الفقهاء.
قال المؤلف رحمه الله:
(وكتب زندقة)
يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان الأوقاف على كتب الزندقة، وإنما مثل الشيخ بكتب الزندقة، لكثرة وجودها في عصر المؤلف وما قبله وما بعده، ولكن هذا الحكم لا يختص بكتب الزندقة، بل يشمل كل الكتب التي فيها معاصي، سواء كانت المعاصي فكرية أو معاصي أخلاقية، فإنّ الوقف عليها لا يجوز، كذلك الوقف على كتب السحر والتنجيم والكهانة، سواء كانت للتعليم أو للإطلاع، كل هذه الأوقاف محرمة، وواقفها آثم، وهي باطلة، لأنّ كل عمل ليس عليه أمر الله ورسوله فهو ردّ، فإذاً تمثيل الشيخ بالزندقة من باب التمثيل، فكتب الغناء، وكتب القصص الماجنة، اليوم أعظم شراً من كتب الزندقة في وقتهم لأنّ كتب الزندقة انحسرت الآن إلى حد كبير، وظهر الحق وصار مكانها الكتب التي تعتني بالقصص المخلة بالآداب أو بالقصص الداعية للموسيقى والمعازف والأغاني، وهذه شرها اليوم مستطاب، فالتمثيل بها في مثل هذا المقام أولى، على كل حال القاعدة أنه لا يجوز أن يوقف اّلأوقاف على أيّ كتب تدعوا إلى معصية الله.
قال المؤلف رحمه الله:
(وكذا الوصية)
وكذا الوصية يعني أنّ الوصية حكمها حكم الوقف، فيما يجوز أن يوقف عليه وفيما لا يجوز أن يوقف عليه، فلا يجوز أن يوصي بما لا يجوز أن يوقف عليه، ويجوز أن يوصي فيما يجوز أن يوقف عليه، وهذا من باب يعني كأنه الشيخ أراد تكميل الحكم، وإلاّ الوصية لها باب مستقل.
قال المؤلف رحمه الله:
(والوقف على نفسه)
يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان على نفسه، وإلى هذا ذهب الحنابلة، واستدلوا على هذا الحكم بأنّ الوقف هو عبارة عن تمليك للرقبة أو تمليك للمنفعة، لا يخرج عند جميع أهل العلم عن هذين النوعين، إما أن يكون تمليك للرقبة أو تمليك للمنفعة، ولا يجوز للإنسان أن يملك نفسه، كما لا يجوز للإنسان أن يبيع وأن يشتري مع نفسه فإنّ هذا العقد باطل، كذلك الوقف على النفس.
والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله أنّ الوقف على النفس صحيح، ولا محظور فيه، واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
الدليل الأول: أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أوقف نصيبه في خيبر بقي هذا النصيب في يده إلى أن مات، وهذا في معنى أن يكون الوقف على النفس، لأنه انتفع به إلى أن توفي رضي الله عنه هذا أولاً.
ثانياً: أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه لما أوقف البئر جعل له دلواً معه إلى المسلمين، فملك منفعة شيء من البئر، وهذا في معنى الوقف على النفس.
الدليل الثالث: أنه لا مانع شرعاً ولا محذور من أن يقف الإنسان على نفسه، والوقف ليس كالبيع من كل جهة، وإن كان الوقف والبيع كل منهما عقد من العقود، لكن بينهما فروق تمنع الإلحاق في كل المسائل، بدليل هذه الآثار المروية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك الراجح هو جواز الوقف على النفس.
قال المؤلف رحمه الله:
(ويشترط في غير المسجد ونحوه، أن يكون على معينٍ يملك)
يشترط في غير الوقف ونحوه أن يكون على معين يملك، تقدم معنا أنّ الوقف ينقسم على قسمين: وقف على جهة عامة، ووقف على جهة خاصة.
فإن كان الوقف على جهة عامة فإنه لا يشترط أن تكون هذه الجهة مما يملك، كأن يقف على المسجد، ومن المعلوم أنّ المسجد ليس له ذمة يملك بها، ومع ذلك يجوز أن يوقف الإنسان عليه، إذا الوقف على المسجد على الجهات العامة كالمسجد جائز ولا يشترط فيه أن يكون الموقوف عليه مما يملك أو ممن يملك.
القسم الثاني: الوقف على جهة خاصة، بل القسم الثاني الوقف على معين، وهو أدق من قولهم الجهة الخاصة، فالوقف على معين يشترط فيه أن يكون الموقوف عليه ممن يملك، والدليل على هذا أنّ الوقف هو عبارة عن تمليك للرقبة أو للمنفعة، والتمليك لابد أن يكون لمن يصلح أن يملك، وأما من لا يصلح أن يملك فلا يجوز أن نقف عليه، بناء عليه لا يجوز التمليك أو لا يجوز الوقف على المجهول لأنه لا يملك، ولا يجوز الوقف على مبهم، كأن يقول أوقفت الدار على أحد هذين، والمجهول كأن يقول أوقفت الدار على رجل، هكذا المجهول كل هذه العقود لا تجوز.
والقول الثاني: أنه يجوز الوقف على المبهم، فإذا قال أوقفت الدار على أحد هذين، علمنا أنّ مراده أن يوقف على أحد هذين، ويعين بالقرعة، لأنّ تعيين الموقوف عليه بالقرعة أقرب إلى مقصود الواقف من إبطال الوقف برمته، وهذا القول الثاني هو الأقرب للصواب إن شاء الله لأنه أقرب إلى مقصود الشارع وهو كثرة الوقوف وإلى مقصود الواقف وهو أنه عيّن أحد هذين الشخصين، أما المجهول فالحقيقة أنّ كلام الحنابلة صحيح، وهو أنه لا يجوز أن نقف على المجهول، لأنّ هذا يؤدي إلى الاضطراب، ولأنّ فيه نوع من التلاعب والتهاون من الموقف، إذ كيف يقول أوقفت هذه الدار على رجل، هكذا مطلق بلا تعيين ولا تحديد ويندر أن تقع مثل هذه المسالة لكن لو وقعت فالوقف باطل.
قال المؤلف رحمه الله:
(لا ملك وحيوان وقبر وحمل)
لما ذكر قاعدة ذكر الأمثلة يقول الشيخ كالملك، الملك هو واحد الملائكة، فلا يجوز أن نقف على الملك، والعلة هو أن الملك ليس ممن تجرى معه العقود فيملك، فلا يجوز للإنسان أو فلا يصح أن يبيع الإنسان داره على ملك على جبريل أو ميكائيل أو إسرافيل، العقد باطل وليس له أيّ واقع ولا حقيقة، كذلك لا يجوز أن يوقف على الملائكة - صلى الله عليهم وسلم - لأنهم ليس من شأنهم الملك، فإذاً هذا تمثيل للقاعدة السابقة.
قال المؤلف رحمه الله:
(وحيوان)
يعني ولا يجوز أن يقف الإنسان على حيوان، لما تقدم من أنّ الحيوان لا يملك.
والقول الثاني: أنه يجوز أن يقف الإنسان على الحيوان ونصرف على هذا الحيوان من هذا الوقف، لأنه لا مانع من أن نقف عليه لتحقق الغرض، وهو أن يوقف على حيوان فينتفع الحيوان من الوقف بنفقته، ولا يخفى عليك أنك إذا رجحت جواز الوقف على الحيوان ستجمع بين هذا القول وبين الشرط الثاني: أن يكون على جهة بِرّ، فيجب أن يكون هذا الحيوان معّد لجهة بِرّ، إما جهاد، أو القيام على مساكين وأرامل وأطفال أو أيتام، المهم أن يكون معّد لجهة بِرّ، وهذا مقصود أصحاب القول الثاني وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله، يفهم من عبارات الفقهاء وإن لم يصرحوا بذلك أنّ الوقف على الحيوان ينبغي أن تصرف غلته على الحيوان، وليس لصاحب الحيوان أن يتملك من الغلة أيّ شيء، وإنما تكون الغلة جميعاً تصرف على الحيوان وليس لصاحب الحيوان أيّ علاقة بالغلة، وهو كذلك لأنّ الوقف ليس على صاحب الحيوان، وإنما على الحيوان.
قال المؤلف رحمه الله:
(وقبر)
لا يجوز أن يوقف الإنسان على القبر لا أصالة ولا تبعاً، لأمرين الأمر الأول: أنّ أصحاب القبور لا يملكون وهذه العلة الأولى.
العلة الثانية: وهي المعتمدة والأقوى، أن الوقف على القبور، مضادة لمقصود الشارع، لأنّ الشارع الحكيم نهى أن يبنى على القبور وأن يجصص عليها، وأن يجعل فيها أيّ نوع من أنواع التمييز، لما في ذلك من أن يكون مدعاة للغلو ومجاوزة الحد مع القبر، ولذلك الوقف على القبور باطل، وترجع الأوقاف ملك إلى أصحابها لأنّ العقد باطل من أصله، بل إنّ الوقف على القبور إثم، فضلاً عن أن يكون باطل، لأنّ فيه إعانة على المعصية بل على الشرك أو وسائل الشرك.
قال المؤلف رحمه الله:
(وحمل)
يعني لا يجوز أن نقف الأوقاف على الحمل، والسبب في ذلك أنّ الحمل لا يملك في الشرع إلا بأحد سببين: الإرث أو الوصية، وإذا كان لا يملك إلا بأحد سببين فإنه لا يجوز أن نقف عليه، لأنه يشترط في الوقف أن يكون على من يملك.
القول الثاني: أنّ الوقف على الحمل صحيح، فإذا ولد استحقه، لأنه لا مانع من هذا، ولأنّ المقصود من الوقف يتحقق في مثل الوقف على الحمل، ولأنه ليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من هذا، ولأنّ الوقف ليس كالبيع من كل وجه، فإذاً الوقف على الحمل صحيح ولا حرج فيه.
قال المؤلف رحمه الله:
(لا قبوله)
يعني لا يشترط في الوقف أن يقبل الموقوف عليه، وهنا يأتي معنا المسألة السابقة، وهي أنّ الوقف ينقسم على قسمين، على معين وعلى جهة عامة، فإن كان الوقف على جهة عامة فلا يشترط القبول بلا إشكال، وإن كان الوقف على معين فإنه لا يشترط أيضاً القبول عند الحنابلة.
واستدلوا على هذا بأنّ الوقف لا يتعلق بالموقوف عليه فقط، بل يتعلق به وبمن يستحق الوقف من بعده كذريّته، وإذا كان الوقف لا يتعلق به وحده، فإنه لا يتوقف على رضاه ولا على قبوله.
القول الثاني: أنّ الوقف يشترط فيه إذا كان على معين أن يقبل، واستدلوا على هذا بأنّ الوقف نوع تبرع وتمليك في الحياة، فهو كالهبة والوصية، والهبة والوصية لابد فيها من القبول، والراجح مذهب الحنابلة وذلك لأنّ بين الوقف والهبة والوصية فرق ظاهر جداً وواضح، وهذا الفرق هو ما أشار إليه أصحاب القول الأول في دليلهم، وهو أنّ الوقف لا يتعلق بالموقوف عليه فقط، بينما الهبة والوصية تتعلق بالموقوف عليهم فقط، وهذا الفرق يمنع الإلحاق فمذهب الحنابلة أجود وأقوى إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله:
(ولا إخراجه عن يده)
يعني ولا يشترط لصحة الوقف أن يخرجه الإنسان عن يده، بل يصح ويصبح لازماً لا يجوز الرجوع عنه ولو بقي في يد الموقف، واستدل الحنابلة على هذا بما تقدم من أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقي الوقف في يده إلى أن مات، ولم يمنع هذا من صحة ولزوم الوقف.
والقول الثاني: أنّ الوقف لا يصبح لازم إلا بإخراجه عن يده إقباضه الجهة الموقوف عليها، قياساً على الهبة ولاشك أنكم تعرفون الآن أنّ هذا القول الثاني ضعيف، لأنه تقدم معنا وجود الفرق بين الهبة وعقد الوقف.
فصل
قال المؤلف رحمه الله:
(ويجب العمل بشرط الواقف)
يجب أن يعمل الإنسان بشرط الواقف وجوباً، لأمرين:
الأمر الأول: أنّ عمر بن الخطاب لما أوقف وقفاً شرط شروطاً، وجه الاستدلال بشروط عمر من وجهين:
الأول: أنّ هذه الشروط بلغت النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب، ولم يعترض عليها.
الوجه الثاني: أنها إن لم تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتشرت بين الصحابة ولم ينكروها.
والوجه الثالث: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو لم تكن هذه الشروط ملزمة لما اشترطها، لأنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو في نفسه له سنة متبعة، فإذاً هذا الأثر صارت أوجه الدلالة منه ثلاثة، ولاشك إن شاء الله أنّ في شروط عمر ما يدل على أنه يجب على الإنسان أن يتبع شروط الواقف على تفصيل سيأتينا، لكن في الجملة والقاعدة الأصلية أنه يجب إتباع شروط الواقف.
قال المؤلف رحمه الله:
(في جمع وتقديم)
لماّ قعّد القاعدة أراد أن يذكر أمثلة، لكنه انتقى الأمثلة التي يكثر وقوعها في الأوقاف، يقول في جمع، الجمع كأن يقول أوقفت هذه الدار على أبناء أخي وأبناء أختي، فإذا قال ذلك استحق الجميع الذكر والأنثى، الصغير والكبير، استحقوا غلة الوقف على درجة المساواة، لماذا؟ قالوا، لأنّ في الجمع تشريك، والتشريك يقتضي المساواة، فإذا أوقف على هذه الجهة بهذا اللفظ فإنه يعتبر جمع.
مثاله الثاني: الذي قد تكون الحاجة إليه أكثر أن يقول هذا البيت على أولادي وعلى أولاد أولادي، هكذا فهذا الوقف تصرف غلته على الأولاد وعلى أولاد الأولاد بالتساوي، فلا ننتظر انتهاء البطن الأول ولا نفرق بينهم في العطية بل نعطيهم على وجه التساوي، فهذا هو الجمع.
قال المؤلف رحمه الله:
(وتقديم)
يعني ويجب أن نلتزم شرط الواقف في التقديم، فإذا قال أوقفت هذا البيت على أولادي يقدم الأفقه، أو الأورع، أو الأحوج، أو الأكثر أولاداً، أو قال:(أوقفت هذا البيت على زيد وعمرو، يقدم عمرو) فالحكم أناّ نبدأ بسدّ حاجة المقدَّم فإن فضل شيء أعطيناه للمؤخر، فالحكم إذا استخدم الموقف طريقة التقديم أن نبدأ بالمقدّم فنعطيه حاجته، فإذا انتهى إن فضل من الغلة شيء أعطيناه من؟ المؤخر وإن لم يفضل شيء فليس له شيء ويسقط! إذاً عرفنا الآن ما معنى التقديم.
قال المؤلف رحمه الله:
(وضد ذلك)
ضد الجمع الإفراد، وصورته: أن يقول وقفت هذا البيت على زيد، ثم على المساكين، فالآن جمع أو أفرد؟ أفرد فالمستحق للغلة جميعاً إلى أن يموت زيد، وهذا فيه إفراد وهو ضد الجمع.
وضد التقديم التأخير كأن يقول: (أوقفت على زيد وعمرو، يؤخر عمرو) فهذا فيه تأخير، فإذا أخّر الموقف أحداً أُخّر، وحكمه عكس حكم التقديم فلا نعطي المؤخّر إلا إذا أخذ المقدّم كامل حاجته.
قال المؤلف رحمه الله:
(واعتبار وصف وعدمه)
يعني ويجب أن نلتزم باعتبار الوصف الذي ذكره الواقف، فلو قال أوقفت هذه الدار على الفقراء طلاب العلم، فالآن وصف المُوقِف الموقَف عليهم بوصف معين وهو طلب العلم، فلا يجوز أن نصرف غلة الوقف على جميع الفقراء، بل يجب أن نتقيد بوصف الواقف ونصرف الغلة لطلاب العلم فقط، أو لو قال أوقفت على الفقراء الأكثر أولاداً، كذلك يجب أن نعطي الفقراء الأكثر أولاداً فقط، أو كما لو قال وهو وصف جيّد أوقفت على الفقراء المرضى، فنصرف من غلة هذا الوقف على من اتصف بصفتين: الأولى أن يكون فقيراً، والثاني أن يكون مريضاً.
قال المؤلف رحمه الله:
(والترتيب)
وهو من أكثر ما يستخدمه أصحاب الأوقاف، والترتيب أن يقول أوقفت داري على زيد ثم على عمرو، أو أوقفت داري على أولادي ثم على أولادهم، فإذا رتّب فالحكم أنّ صاحب المرتبة الثانية لا يستحق من غلة الوقف شيئاً ولو فضل منها فضلة إلى بعد انتهاء الطبقة الأولى بكاملها، وبهذا عرفنا الفرق بين الترتيب والتقديم، ففي التقديم يستحق المؤخر من الغلة ما فضل، فإن لم يفضل لم يستحق شيئاً، وفي الترتيب لا يستحق أصحاب الطبقة الثانية أيّ شيء من غلة الوقف، ولو فضل منها فضلة إلا بعد انتهاء جميع الطبقة الأولى.
مسألة مهمة: وهي إذا قال أوقفت هذا الدار على أولادي ثم على أولادهم، فهل إذا مات أحد الأولاد من الطبقة الأولى استحق أولاده نصيبه من الوقف، أو يقّسم نصيبه على باقي الأولاد، ولا يستحق الطبقة الثانية من الأولاد إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى جميعا، ً المذهب أنهم لا يستحقون، إلاّ بانتهاء جميع الطبقة الأولى.
وذهب شيخ الإسلام إلى أنه يستحق أصحاب الطبقة الثانية نصيب والدهم، في الحقيقة لم أجد لا في قول الحنابلة ولا في قول شيخ الإسلام علة مقنعة، لا للقول هذا ولا للقول هذا، لم أجد من التعليلات وإلاّ المسألة ليس فيها أدلة ولا آثار حتى ليس فيها فتاوى للصحابة فيما أعلم، لا يوجد ما يبرر الأخذ بأيّ من القولين، فالحنابلة يستدلون بأنّ ظاهر لفظ الموقف باستخدامه حرف ثم، أنّ الطبقة الثانية لا تستحق إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى، وأصحاب القول الثاني، يستدلون بأنه يبعد أن يكون قصد الموقف حجب أولاد ابنه المتوفى مع أنّ حاجتهم ستكون أكثر من حاجة غيرهم بسبب موت والدهم، كل هذه ليس فيها مقنع في الحقيقة، وإذا لم يكن في هذه الأدلة كلها مقنع فالأصل أنّ ثم للترتيب، فالطبقة الثانية لا يستحقون إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى، ولهذا مسألة الأوقاف حساسة، وينبغي على الإنسان ويتأكد إذا أراد أن يوقف أن يبين الوقف بالتفصيل، فيقول هذا وقف على أولادي ثم على أولادهم، فإن مات أحدهم أيّ أحد الطبقة الأولى استحق أولاده نصيبه، بهذا ينتهي النزاع.
قال المؤلف رحمه الله:
(ونظر، وغير ذلك)
يعني للواقف أن يشرط شخصاً يكون هو الناظر على الوقف، سواء كان من المستحقين لغلة الوقف أومن خارج المستحقين لغلة الوقف، يعني سواء كان أجنبي أو من الموقوف عليهم، وذلك لأنّ صاحب أصل الوقف أحق بتعيين الناظر عليه هذا أولاً.
ثانياً: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل الناظر على وقفه حفصة رضي الله عنها ثم أكابر آل عمر بعدها، فعيّن رضي الله عنه الناظر في الوقف، فدّل ذلك على أنّ شرط الناظر من حقوق الواقف.
ثم يقول (وغير ذلك) من الشروط: يعني أنه يجب أن نتبع جميع شروط الواقف ما لم تكن إثماً، فإذا أشترط ألاّ يدخل الوقف فاسق، يجب ألاّ يدخل الوقف فاسق، وإذا أشترط كما يصنعه بعض من يوقفون ألاّ يؤجّر خشية عليه من التلف، فيجب ألاّ يؤجّر، ولا يجوز أن يؤجر مع وجود الشرط بالمنع من التأجير.
وبالجملة يجب أن نتبع شروط الواقف مهما كانت متنوعة إلاّ أن تكون معصية، ولا يشترط في إتباع شروط الواقف قناعة الناظر ولا قناعة الموقوف عليهم، بل يجب أن نتبع شروطه مطلقاً ،إلاّ أن تكون معصية.
قال المؤلف رحمه الله:
(فإن أطلق ولم يشترط استوى الغني والذكر وضدهما)
إذا أطلق ولم يشترط شيئاً لا جمع ولا تقديم ولا ترتيب ولا وصف، وإنما أطلق فالحكم أنّ الجميع يستوون على درجة واحدة، فالكبير والصغير والذكر والأنثى كلهم يأخذون أنصبة متساوية، لأنّ الواقف أطلق ومع الإطلاق لا يجوز التفضيل.
قال المؤلف رحمه الله:
(والنظر للموقوف عليه)
مقصود المؤلف بطبيعة الحال، هذا المقصود يفهم من كلامه المتقدم، مقصود المؤلف فيما إذا لم يشترط الواقف ناظراً معيناً، فإنّ النظر يكون للموقوف عليه، وهذا هو مذهب الحنابلة، واستدل الحنابلة على هذا أنّ الموقوف عليه هو صاحب الغلة، وهو المالك لرقبة الوقف، فهو لذلك أحق الناس بأن يكون ناظر على الوقف.
والقول الثاني: أنّ الناظر على الوقف إذا لم يشترط الواقف أحداً هو الحاكم، وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى لم يتطرق لها المؤلف رحمه الله وهي هل الموقوف عليه يملك الوقف؟ أو يملك غلة الوقف؟ فإن قلنا يملك الوقف صار هو الأحق بالنظر، وإن قلنا يملك غلة الوقف فقط صار الحاكم هو الناظر في كل وقف ليس له ناظر، وهذه المسألة محل خلاف، فالحنابلة يرون أنّ الموقوف عليه يملك رقبة الوقف بلا بيع ولا هبة، وهذا من مفردات الحنابلة خالفوا فيه المذاهب الثلاثة.
القول الثاني: أنّ الموقوف عليه يملك غلة الوقف دون رقبة الوقف، بل رقبة الوقف تنتقل من ملك الواقف إلى ملك الله، والمقصود بملك الله يعني أنها عين ليس لها مالك، وإلاّ من المعلوم أنّ لله ملك السموات والأرض، والراجح القول الثاني أنه لا يملك الموقوف عليه رقبة الوقف، وإنما يملك الغلة فقط، أما الرقبة فقد انتقلت في سبيل الله، قربة إلى الله، ولم تعد مملوكة لأحد.
قال المؤلف رحمه الله:
(وإن وقف على ولده ....... ثم على المساكين فهو لولده الذكور)
إذا وقف على ولده ثم على المساكين فهو لولده الذكور، لأنّ الذكور يدخلون دخولاً أولياً في الأولاد، ولأنّ الذكور يدخلون في قوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم} [النساء/11] فدخول الذكور في الوصية بهذا اللفظ لا إشكال فيه بل لا خلاف فيه.
قال المؤلف رحمه الله:
(لولده الذكور)
ظاهر عبارة المؤلف أنه لولده الذكور الموجودين حال الوقف، وأما الذي يحدث بعد ذلك فليس له حق في غلة الوقف، فإذا أوقف هذا البيت على أولاده ثم بعد ذلك حملت الزوجة وولدت ولداً له، فلا يدخل في الوقف، لأنه حال الوقف لم يكن موجوداً.
القول الثاني: أنّ الوقف يصرف لجميع الأولاد، لجميع الذكور نحن نتكلم عن الذكور الموجودين حال الوقف والذين يحدثون بالولادة بعد ذلك، لأنّ اللفظ عام يشمل الموجود والذي سيوجد، ولا يوجد ما يدل على التخصيص.
قال المؤلف رحمه الله:
(والإناث بالسوّية)
تدخل الإناث في ولده ،إذا قال هذا وقف على ولدي، لأنّ إطلاق الولد يشمل الأنثى، ولأنّ عبارة الواقف ليس فيها ما يخصص الإناث ويخرجهن من غلة الوقف.
والقول الثاني: أنّ هذا اللفظ خاص بالذكور، فلا تدخل الإناث في غلة الوقف، والراجح أنّ الإناث يدخلن بلا إشكال، والقول بعدم دخولهن ضعيف جداً في هذا اللفظ.
قال المؤلف رحمه الله:
(ثم ولد بنيه دون بناته)
ولد بنيه وإن سفلوا يدخلون في هذا الوقف، لأنّ ابن الابن ابن شرعاً، ولأنه يدخل في الآية {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء/11] ولا إشكال في دخول ابن الابن.
قال المؤلف رحمه الله:
(بالسوّية)
في المسألة الأولى لولده الذكور والإناث بالسوية، لأنه كما تقدم معنا أوقف على الإطلاق، والإطلاق يقتضي التشريك والتشريك يقتضي التسوية، فغلة الوقف لا تقسم حسب الميراث وإنما تقسم بالتسوية.
قال المؤلف رحمه الله:
(دون بناته)
ولد بنيه تحدّثنا عنها أولاد البنات لا يدخلن في هذا اللفظ، لأنهن لم يدخلن في الآية، فإنّ أولاد البنات لا يرثون بالإجماع، ولأنّ أولاد البنات ليسو من بنيه وإنما من بني الأجانب.
والقول الثاني: أنّ أولاد البنات لهم نصيب في غلة الوقف، والراجح القول الأول، فإذا قال هذا وقف على أولادي فأولاد البنات لاحق لهم في الغلة، لأنه لاحق لهم في الميراث، ولأنهم كما قلت لم يدخلوا في الآية.
قال المؤلف رحمه الله:
(كما لو قال على ولد ولده وذريّته لصلبه)
يعني كما لو أضاف كلمة لصلبه في الوقف، وإنما نظّر الشيخ بهذه المسألة لأنّ حكم هذه المسألة بالإجماع، فإنه إذا قال أوقف هذا على أولاده وأولاد أولاده لصلبه، لم يدخل أولاد البنات، ولهذا نظّر بها لأنها محل إجماع.
قال المؤلف رحمه الله:
(ولو قال على بنيه، أوبني فلان اختص بذكورهم)
((الآذان))
إذا صرّح الواقف بقوله هذا وقف على بنيه فقط، فإنّ الوقف تختص غلته بالذكور فقط، دون الإناث، لأنّ كلمة الابن تطلق حقيقة الذكر فقط، دون الأنثى، كما قال تعالى:{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران/14] فقال من النساء والبنين فخص الذكور بأنه يسمى ابن فإذاً يختص هذا اللفظ بالابن بلا إشكال ولا تشاركه الأنثى في الحكم.
قال المؤلف رحمه الله:
(إلاّ أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء)
إلاّ أن تكون قبيلة، فإذا قال هذا وقف على بني هاشم أو على بني زهرة، فإنه يدخل بالإناث والذكور، لأنّ اسم القبيلة يشمل الذكر والأنثى، فإذا قال بنو هاشم شمل ذكورهم وإناثهم، بخلاف ما إذا قال وقف على بنيّ وسكت فهنا يختص بالذكور، إذا أضاف اللفظ إلى القبيلة عّم الذكور والإناث.
قال المؤلف رحمه الله:
(دون أولادهن من غيرهم)
لأنّ أولاد النساء من غير القبيلة ليسوا من القبيلة بل من القبيلة الأخرى، وعلم من هذا أنّ أولاد النساء من القبيلة يدخلون تبعاً في القبيلة، فإذا تزوجت المرأة من خارج القبيلة، فلا حق لأولادها في الوقف، وإذا تزوجت من القبيلة فلأولادها نصيبهم من الوقف.
قال المؤلف رحمه الله:
(والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل
…
)
ذكر الشيخ ثلاثة ألفاظ اللفظ الأول القرابة والثاني أهل بيته والثالث قومه.
نبدأ بالقرابة يقول الشيخ والقرابة يشمل الذكر والأنثى من أولاده، وأولاد أبيه، وجده وجد أبيه، يعني أنه إذا استخدم هذا اللفظ في الوقف فقال هذا وقف على قرابتي، فإنّ هذا اللفظ يشمل من ذكر المؤلف، فيشمل الذكور والإناث والصغير والكبير، ولكن المؤلف حدّه، أيّ حدّ الاستحقاق بمن يشترك معهم في الجد الثالث، فيقول أولاد أبيه هم ماذا؟ إخوته وأولاد جدّه هم؟ أعمامه وأولاد جد أبيه هم؟ أعمام أبيه، هؤلاء إلى الجد الثالث يدخلون في كلمة القرابة، وما عداهم لا يدخل في استحقاق غلة الوقف ولا يعتبر من القرابة، واستدل الحنابلة على هذا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجاوز بني هاشم في سهم ذوي القربة، ومن المعلوم أنّ هاشم هو الجد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم ومن هنا أخذ الفقهاء أنّ حدّ القرابة إلى الجد الثالث فقط، ومن عداهم لا يستحقون هذه الغلة من الوقف الذي صدر من الواقف بلفظ القرابة.
قال المؤلف رحمه الله:
(وأهل بيته)
أهل بيته كذلك، يأخذون الحكم نفسه، فمن ذكر المؤلف استحق ومن لم يذكر لم يستحق، عرفنا من كلام المؤلف أنّ أقارب الأم لا يستحقون، لأنهم لا يلتقون مع الواقف في الجد الثالث، وعرفنا من كلام المؤلف أنّ الزوجات لا يستحقن شيئاً في كلمة القرابة.
والقول الثاني: أنّ الزوجات يدخلن في استحقاق الوقف إذا كان بلفظ أهل بيته، ولم أر خلافاً في استحقاقهن إذا كان بلفظ القرابة، فهم ذكروا خلاف عند قول الفقهاء أهل بيته، فإن قال على أقربائي لا يدخلن الزوجات، وإن قال على أهل بيتي فعند الحنابلة لا يدخلن.
والقول الثاني: أنهن يدخلن وهذا هو الصواب، وهو دخولهن في لفظ أهل بيته.
((انتهى الدرس)).
الدرس: (3) من الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وقفنا بالأمس عند الألفاظ الثلاث اللاتي جعل المؤلف رحمه الله لها حكماً واحداً:
قال المؤلف رحمه الله:
والقرابة وأهل بيته وقومه.
وأخذنا ما يتعلق بالقرابة وما يتعلق بأهل بيته وتوقفنا عند: (قومه).
قال المؤلف رحمه الله:
وقومه: يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه.
فاعتبر المؤلف أن لفظ الواقف بالقوم يشمل نفس ما يشمله القرابة وما يشمل أهل البيت على التفصيل الذي تقدم معنا بالدرس السابق.
إلا أن القوم: قومه: وقع فيه خلاف بين أهل العلم:
= فالقول الأول هو ما تقدم معنا بالأمس: أنه يشمل إلى الجد الثالث من أجداد الموقف.
= والقول الثاني: أن لفظ: (قومه) عام أوسع من أهل البيت والقرابة، ولذلك لا يتقيد بالجد الثالث بل يكون أوسع.
وهذا القول الثاني في الحقيقة أقرب للعرف الشرعي وأيضاً أقرب لعرف الناس، فإن استخدام كلمة القوم أوسع من استخدام كلمة القرابة وأهل البين بلا شك.
فإذاً: لا نقتصر على الجد الرابع، وإنما نتجاوزه إلى الجد الذي يلتقون في مسماه سواء كان الجد الرابع أو الخامس أو السادس.
وهذا قول للحنابلة أي: تقييده بالجد الذي يلتقون في مسماه وهو قول حسن وصحيح.
قال المؤلف رحمه الله:
وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن: عمل بها.
تقدم معنا أن الواقف أوقف على أولاده فقد اختلفوا: هل يدخل في هذا اللفظ أولاد البنات؟.
واختلفوا أيضاً إذا أوقف على أولاده هل تدخل البنات؟ تقدم معنا هذا في الدرس السابق وأن الراجح دخولهن وأن القول بخروجهن عن هذا اللفظ ضعيف جداً.
الآن: يريد المؤلف أن يبين أنه متى دلت القرينة على دخول الإناث أو على خروجهن عمل بالقرينة ولا نلفت (يعني: ومعنى كلامه) أنا لا نلتفت إلى صريح عبارة المؤلف رحمه الله مع وجود القرينة الدالة على صرفه إلى إرادة الإناث أو إلى عدم إرادة الإناث.
مثال وجود القرينة/ أن يقول الواقف: هذا وقف على أولادي وأولاد أولادي فلما نظرنا وجدنا أن ليس له إلا بنات فعلمنا أن الواقف أراد أن هذا وقف على بناته وعلى أولاد بناته.
لأنه لا يمكن تصحيح لفظ الواقف إلا بحمله على هذا إذ ليس له أبناء حتى نقول أراد بالأولاد ما يشمل الذكر والأنثى وندخل في الخلاف السابق هل تراد الأنثى أو لا تراد.
إذاً: هذه القرينة دلت على إرادة الواقف وتقدم معنا قاعدة: (أن الألفاظ مع القرائن تعتبر كالصرائح).
فما دام يوجد لفظ يحتمل لكن احتف بقرائن فإنا نحمله على حكم الصريح.
قال المؤلف رحمه الله:
وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم: وجب تعميمهم والتساوي.
يقول: إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم فإنه: يجب في هذه الحالة أمران:
ـ الأول: التسوية.
ـ والثاني: التعميم.
فيجب أن نعم هذه المجموعة التي يمكن أن تحصر ويجب في نفس الوقت أن نسوي بينهم في الإعطاء.
مثال ذلك/ أن يقول هذا وقف على الفقراء من قرابتي، فهذا لاشك على مجموعة متساوية.
فيجب أن نعطي جميع الفقراء ويجب في نفس الوقت أن يعطيهم إعطاء متساوياً.
الدليل:
- قالوا: أن لفظ الواقف دلَّ على هذا ومتى أمكن العمل بمقتضى لفظ الواقف وجب وهنا يمكن العمل به.
فإذا وقف على مجموعة محصورة معروفة فيجب أن نسويهم وأن نعطيهم جميعاً.
* * مسألة/ فإن احتف بلفظ الواقف في الوقف على جماعة محصورة ما يدل على التمييز فهل يجوز بناء على هذا التفضيل؟ (إذا اقترن بلفظ الواقف على مجموعة محصورة ما يدل على التمييز فهل يجوز بناء على هذا الوصف التفضيل بينهم أولا؟).
قبل الخلاف المثال: المثال/ أن يقول هذا وقف على فقهاء المدرسة الفلانية.
الفقهاء: جماعة محصورة في المثال أو غير محصورة؟ محصورة.
والواقف علق الوقف على وصف وهو الفقهاء فهل يجوز أن نفضل فنعطي الأفقه أكثر ممن دونه؟ أو لا يجوز؟
فيه خلاف: = الصحيح أنه يجوز أن نفضل بينهم بمقتضى الوصف الذي ميز به الواقف المجموعة المحصورة فنعطي الأفقه أكثر ممن دونه.
كذلك لو قال: (هذا وقف على الفقراء من قرابتي هل يجوز أن نعطي الأشد فقراً أكثر ممن هو أحسن حالاً منه؟
نعم يجوز.
ولو قال: هذا وقف على طلبة العلم في هذا المكان: فيجوز أن نفضل بينهم بناء على الوصف في حال طلبة العلم. سنفضل بناء على الاجتهاد لا بناء على الأفقه أو الأذكى لأنه علقه على طلب العلم فكلما كان الإنسان أكثر اجتهاداً في طلب العلم بغض النظر عن مستواه العلمي فهو يستحق من الوقف أكثر ممن هو أقل منه اجتهاداً ولو كان أكثر منه مقدرة.
إذاً الراجح: جواز التفضيل بهذه الصورة الثالثة.
قال المؤلف رحمه الله:
وإلاّ جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم.
يعني: وإلا يمكن حصرهم فالحكم: كذا وكذا.
ـ أولاً: أفادنا المؤلف رحمه الله بهذه العبارة أنه يجوز الوقف على جماعة لا يمكن حصرهم.
لأنه بين الحكم وهذا فرع عن الصحة.
وإلى هذا ذهب الجماهير وهو جواز الوقف على جماع لا يمكن حصرهم: كأن يقول: هذا وقف على الفقراء. هل يمكن حصر الفقهاء؟ لا يمكن.
أو يقول هذا وقف على المساكين؟ لا يمكن حصرهم.
…
إلى آخره.
والجمهور استدلوا:
- بأن هذا الوقف وقف صحيح استوفى شروطه الشرعية ولا يوجد دليل على إبطاله.
= وذهب الشافعية إلى أنه لا يصح أن يوقف على جامعة لا يمكن حصرهم.
- لأنه لا يمكن إعطاء الجميع من الوقف.
والراجح مذهب الجمهور ومذهب الشافعية ضعيف وما زال المسلمون يوقفون على جهة لا يمكن حصرها.
بل قد نقول: الوقف على جهة لا يمكن أن تحصر أولى من الوقف على مجموعة معينة محصورة.
لأن الوقف على جهة لا يمكن حصرها يستمر ومصرفه يستمر لأنه معلق بالوصف لا بالعين.
بينما على مجموعة معينة إذا انقرضت هذه المجموعة صرنا نقول كيف نتصرف بغلة الوقف بعد انقراض المجموعة التي وقف عليها الوقف.
قال المؤلف رحمه الله:
(وإلاّ جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم) إذا وقف على مجموعة لا يمكن حصرهم فإنه لا يجب تعميم غلة الوقف بالإجماع عند القائلين بجواز الوقف على مجموعة لا تحصر.
دليل الإجماع:
- أن هذا لا يمكن ولا يمكن القيام به - (أن هذا غير مقدور عليه ولا يمكن القيام به لأن المجموعة غير المحصورة كيف يمكن أن تعمهم بغلة الوقف وهم ألوف أحياناً.
إذاً: الحكم الأول: أنه لا يجب التعميم.
الحكم الثاني: أنه يجوز التفضيل ويجوز الحرمان لبعضهم ويجوز أن نعطيها أحدهم، فيجوز أن نصرف الغلة الموقوفة على جماعة غير محصورة على واحد فقط.
ويجوز أن ننقص من نصيب أحدهم وأن نفاضل وأن نعطي كيف نشاء.
لكن يجب أن يراعي الأحق فالأحق.
الدليل على جواز التفضيل والمنع وإعطاء الواحد:
- القياس على الزكاة فإن الله تعالى جعل مصرف الزكاة ثمانية أصناف ومع هذا لا يجب تعميم الأصناف الثمانية بل يجوز أن نعطي صنف بل يجوز أن نعطي رجلاً واحداً من صنف واحد فقاسوها على الزكاة.
= القول الثاني: أنه إذا وقف على مجموعة لا تحصر لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة.
- لأن الثلاثة أقل الجماع وقد وقف على جمع لا يمكن حصرهم فلا أقل من ثلاثة.
والراجح المذهب: ويرجع في كيفية الصرف إلى الناظر، الراجح المذهب وله أن يعطي واحداً فقط ويركع فيه إلى الناظر لاسيما وقد اشترطنا في الناظر أن يكون ثقة وأمين - أن يكون من الثقات الأمناء.
(فصل)
قال المؤلف رحمه الله:
(فصل)
والوقف: عقد لازم لا يجوز فسخه، ولا يباع.
الوقف عقد لازم عند الجماهير. لا يجوز أن يباع ولا يوهب وأيضاً في نفس الوقت لا يجوز أن يفسخ.
استدل الجماهير على هذا بأمرين:
- الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) والتحبيس يعني اللزوم كما أنه صلى الله عليه وسلم أكد هذا اللفظ بقوله: (لا يباع ولا يوهب).
- الدليل الثاني: أن المقصود والغرض من الوقف التأبيد والتأبيد يتنافى مع جواز العقد.
= والقول الثاني: أن الوقف عقد جائز متى شاء صاحبه فسخه.
واستدل هؤلاء:
- بأن عبد الله بن زيد أوقف وقفاً فاشتكى أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحاجة والفاقة فرد النبي صلى الله عليه وسلم الوقف.
- الدليل الثاني: القياس على الصدقة فإن الصدقة للإنسان أن يرجع عنها ما لم يقبضها.
والراجح مذهب الجماهير والقول الثاني ضعيف جداً لأمرين:
ـ الأمر الأول: أن الحديث ضعيف.
ـ الثاني: أن قياس الوقف على الصدقة قياس مع الفارق إذ بينهما فروق كثيرة.
ـ الأمر الثالث: أن هذه الأقيسة والتعليلات في مقابل النصوص والقياس إذا قوبل به النص صار فاسداً.
ومقصود المؤلف رحمه الله والجماهير بقولهم: (الوقف عقد لازم) يعني: بمجرد القول.
وهذا أمر مهم، أن الوقف لازم بمجرد القول.
قال المؤلف رحمه الله:
إلاّ أن تتعطل منافعه.
إذا تعطلت منافع الوقف فإنه يباع.
ولم يبين المؤلف رحمه الله حكم بيع الوقف إذا تعطلت منافعه بعد أن قرر الجواز لا أنه لم يبين الحكم.
الحكم فيه خلاف:
= من الفقهاء من قال أنه جائز.
= ومن الفقهاء من قال: أنه واجب.
والصحيح أن بيع الوقف إذا تعطلت منافعه واجب والناظر آثم إذا لم يبع الوقف الذي تعطلت منافعه.
والمقصود بالوقف الذي تعطلت منافعه أي الذي لا يمكن أن يرمم بغلته ولا ببيع بعضه فهذا الوقف يجب وجوباً عند المحققين أن يباع لأن بقاء الوقف مع تعطل منافعه فيه إهدار لفائدة الوقف وتضييع لمصلحة الواقف.
فهم من كلام المؤلف رحمه الله أن الوقف لا يجوز أن يباع أبداً إلا في حال واحدة وهي إذا تعطلت منافعه فدل مفهوم كلام المؤلف رحمه الله على أن بيع الوقف إذا كان لمصلحة ولو كانت راجحة فإنه لا يجوز أن يباع، وإلى هذا ذهب الجماهير.
واستدلوا:
- بعموم النصوص بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يباع) وما دام الوقف ينتفع به فإنه لا يباع وقوفاً مع ظاهر النص.
= والقول الثاني: أن الوقف إذا كان في بيعه مصلحة راجحه ولو مع بقاء فإنه يجوز أن يباع.
وإلى هذا ذهب بعض الفقهاء ونصره شيخ الإسلام بن تيمية.
واستدلوا بأدلة:
- الدليل الأول: أن رجلاً نذر أن يصلي في بيت المقدس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صل هاهنا - يعني في الحرم -، وفي هذا نقل للنذر بسبب المصلحة والمصلحة هي أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في الأقصى.
والنذر من باب الوقف، فبينهما تشابه في اللزوم.
- واستدلوا أيضاً: بأن عائشة رضي الله عنها أمرت عثمان بن شيبة أن يقوم ببيع أستار الكعبة القديمة وصرف ثمنها في المساكين.
وفي هذا نقل للوقف فإن الأستار وقفت على الكعبة وهي الآن ستصرف في المساكين.
واستدلوا بأدلة أخرى تعليقي عليها أن الدلالة فيها ضعيفة وليست واضحة، وهذه الأدلة التي ذكرت من أقوى الأدلة.
واستدلوا أيضاً:
- بأن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما نقب بيت المال بالكوفة أن انقل بيت المال إلى قبلة المسجد الذي في التمارين فإنه لن يزال في المسجد مصلي.
وفي هذا أيضاً نقل للوقف.
وإن كان الحنابلة يستدلون بهذا الحديث على جواز البيع في حال تعطل المنافع.
وجه ذلك: أن بيت المال إذا نقب نقصت منافعه لبقاء البنيان أو تعطلت؟ تعطلت تماماً لماذا؟ لأن بيت المال المقصود الأساسي منه حفظ المال فإذا نقب انتهى الغرض الأساسي الموضوع له المبنى وباقي البنيان لا فائدة منها مطلقاً.
وقول الحنابلة إن في هذا دليل على جواز نقل الوقف في حال تعطل المنافع لا في حال نقصان المنافع صحيح فهذا لا دليل فيه لأصحاب القول الثاني.
لكن أوضح دليل حديث النذر مع فتوى عائشة.
ولذلك نقول الأقرب إن شاء الله جواز بيع الوقف وصرفه في غيره إذا وجدت مصلحة راجحة.
لكن ينبغي التنبه إلى أن القيام ببيع الوقف لمجرد وجود مصلحة راجحة ينبغي أن يتحرز فيه الناظر والحاكم أشد التحرز وأن لا يقدم عليه إلا بعد وضوح الأمر واستشارة أهل الخبرة واستكتاب الشهود ويكون الأمر واضحاً حتى لا يكون هناك تلاعب في الأوقاف وتباع باسم المصالح.
قال المؤلف رحمه الله:
ويصرف ثمنه في مثله.
يعني: إذا بيع صرف في مثله.
وذلك:
- لأن في هذا تحصيل لمقصد الواقف والشارع حرص على تحصيل مقصد الواقف تماماً متى أمكن ولم يتعارض مقصده مع الشرع فإن لم يمكن تحصيل مثله فلا أقل من تحصيل البعض من مثله.
فإما أن نحصل مثله تماماً أو أن نحصل بعض مثله.
مثاله/ إذا كان المهدوم مسجد فينبغي أن نأخذ قيمة الأرض والبناء ونضعها في مسجد كامل، فإن لم نستطع أن نضعها في مسجد كامل وضعناها في بعض مسجد.
قال المؤلف رحمه الله:
ولو أنه مسجد.
يعني: ولو كان الوقف الذي تعطلت منافعه: مسجد فأيضاً يباع ويشترى بثمنه مسجداً آخر.
من أمثلة تعطل منافع المسجد أن لا يصبح فيه مصل بأن يكون على طريق عام وهذا الطريق العام وجد طريق بديل له خير منه وأصبح الناس لا يسيرون مع الأول مطلقاً ولا توجد حول المسجد قرى ولا مزارع فهجر تماماً فالواجب حينئذ أن يباع، لأنه تعطلت منافعه تماماً.
قال المؤلف رحمه الله:
وآلته.
وآلته أيضاً تباع وتوضع في مسجد أو في مسجد آخر.
والدليل على ذلك:
- أنه إذا جاز أن نبيع المسجد كله فبيع بعضه من باب أولى.
فإذا تعطلت منافع الآلة كالخشب ومواد البناء فإنها تباع وتوضع في المسجد إن احتاج أو في مسجد آخر.
ثم قال رحمه الله:
وما فضل عن حاجته: جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين.
ما فضل عن حاجة المسجد فإنه يباع ثم يوضع إما في مسجد آخر أو في المساكين.
ـ ما فضل عن حاجته: كأن يكون فيه بسط زائدة أو فيه مصاحف زائدة أو فيه آلات للتبريد مكيفات زائدة أو أبواب زائدة أو في القديم زيت للإنارة زائد أي شيء يكون في المسجد زائد عن الحاجة فإنه يباع ويصرف
قال المؤلف رحمه الله:
(إما جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين).
يعني: يباع هذا الشيء الزائد ويوضع في مسجد آخر أو يوضع في فقراء المسلمين.
أما إذا بيع ووضع في مسجد آخر أو وضع مباشرة في مسجد آخر بلا بيع فلا شك في مشروعيته لأنه وضع في جنس ما أوقفه الواقف عليه فنقل من مسجد إلى مسجد.
وأما إذا بيع ووضع في مسجد آخر ففيه خلاف:
= فالحنابلة يرون الجواز، يقولون: يجوز أن يباع ويصرف للمساكين.
- لأنه من مصارف القربات.
- ولأن عائشة أمرت ببيع أستار الكعبة ووضع الثمن في المساكين.
وهذا دليل قوي للحنابلة التخلص منه صعب.
= القول الثاني: أنه لا يجوز إذا بيعت الأشياء الزائدة في المسجد أن يصرف ثمنها إلا في مسجد آخر فقط ولا يجوز في المساكين.
لأمرين:
- الأمر الأول: بين وضع المال في مسجد ووضعه عند المساكين فرق كبير جداً لأن وضع المال عند المساكين ينقطع مباشرة ووضع المال في المسجد يستمر وهذا فارق أساسي كبير جداً.
- الثاني: أن الواقف إنما وضع هذا الأمر الزائد في مسجد ومراعاة غرض الواقف مقصود شرعاً، وإذا أردنا أن نراعي غرض الواقف فنضعه في مسجد.
وهذا القول كما ترى قوي جداً لكن يشكل عليه أثر عائشة فكيف نجيب عليه؟
- أنه لا يمكن أن ينتفع بأستار الكعبة في كعبة أخرى لأنه لا يوجد إلا كعبة واحدة. [وهذا جواب ممتاز لكن ترد عليه مناقشة].
- قد يقال: بلى يمكن بأن تباع الأستار ويؤخذ الثمن ويوضع في المسجد الحرام. عثمان بن شيبة ماذا صنع؟ أرسل بالأستار القديمة إلى اليمن وبيعت فيها وأخذ القيمة ووضعها في مساكين الحرم، كان بإمكانه أن يضع القيمة في المسجد.
إذاً هذا الجواب قد لا يستقيم وإن كان له وجه من النظر.