الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- ممكن أن نجيب بجواب آخر: وهو أن المسجد الحرام لم يكن بحاجة في ذلك الوقت إلى شيء يصرف عليه ففيه أستار جديدة باعتبار أن هذه قديمة وفيه المصالح الأخرى التي يحتاج إليها المسجد لاسيما وأن المساجد في القديم لا تحتاج إلى نفقات كثيرة كمساجدنا اليوم لأنها مساجد بسيطة حصر وقناديل توقد بالزيت فإذا وجد الزيت للسنة كاملة ربما لا يحتاج أهل المجد إلى مصاريف أخرى ولا نفقات فلعل هذا هو الجواب وإن كان دليلاً قوياً في الحقيقة للحنابلة لكن نقول ما دام أمكن الجواب عنه فلعل الراجح وهو من مصلحة الواقف أن لا نصرف الوقف إلا في المسجد.
وينبغي أن نتقيد بهذا لأنه يوجد في الحقيقة فرق كبير بين الصدقة المجردة وبين الوقف بدليل: أن الأوقاف تستمر مدد طويلة بل رصد بعضهم استمرار أوقاف الصحابة إلى قرون قريبة من وقتنا هذا.
والأوقاف الموجودة الآن في البلدان الإسلامية القديمة ما زالت موجودة ومعروفة إلى الآن مثلاً: أوقاف المدارس الموجودة في دمشق كثير منها موجود إلى الآن باسمها - الظاهرية - الصالحية - دار الحديث .. والسبب أنه صدقة أو أنه وقف؟ أنه وقف وهذه الأوقاف خرجت عددا كبير من العلماء جداً بسبب هذا الاستمرار والمدارس الموجودة مثلاً في دمشق خرجت أعلام الأمة كالنووي مثلاً.
[ذكر شيخنا شيئاً من سيرة النووي رحمه الله]
وكان من أعظم أسباب استمرارية الشيخ وطلبه العلم هو هذا الوقف.
فالأوقاف عظيمة في الإسلام وهي من محاسن الدين وهي التي تستمر ولهذا نجد أنه كما قلت لكم في أول الباب أن جابر يقول: ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجد القدرة إلا أوقف.
إذاً هذا كله يؤيد ما تقدم من أنه يجب أن نخرج المال من الوقف إلى الوقف ولا نخرجه إلى جنس آخر كالصدقة.
وبهذا انتهى ولله الحمد ما يتعلق بالوقف وننتقل إلى الباب الذي بعده.
باب الهبة والعطية
قال المؤلف رحمه الله:
باب الهبة والعطية.
الهبة والعطية والصدقة والهدية ألفاظ متقاربة إلا أنه بين الهبة والعطية والصدقة والهدية فرق.
والفرق هو: أن الهبة والعطية أوسع مدلولاً من الصدقة والهدية.
هذا من جهة.
من جهة أخرى: بين الصدقة والهدية فرق والدليل على وجود الفرق بينهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يقبل الهدية ولو كان أصلها صدقة كما قال في بريرة: هو عليها صدقة ولنا هدية.
والفرق بين الصدقة والهدية:
ـ أن الصدقة هو ما أخرجه الإنسان لآخر محتاج تقرباً إلى الله.
ـ وأما الهدية فهي ما أخرجه الإنسان لآخر تقرباً إليه، فلا نحتاج أن نشترط التقرب إلى الله ولا أن يكون محتاجاً.
ولكن هذا التعريف للهدية لا يعني أن الهدية ليست مشروعة أو مستحبة بل هي مستحبة مع ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا).
ولأنها من جملة حسن الخلق: أي التهادي فهو مطلوب شرعاً ومستحب.
ولو كان مقصوده تألف أخيه والتقرب إليه فإن هذه النية لا تتعارض مع الإخلاص لأن تقرب الإنسان إلى أخيه هو أيضاً عبادة.
إذاً: عرفنا الفرق الآن بين هذه المصطلحات الأربع.
بقينا في أن العطية في الواقع من حيث اللغة والمدلول حتى الشرعي العام تعتبر شاملة لجميع الألفاظ الأربع إلا أن الفقهاء خصوها لاسيما الحنابلة بالعطية في مرض الموت، أو بالهبة في مرض الموت ((حتى لا نعرف العطية بالعطية.
فنقول: العطية هي الهبة في مرض الموت. فهي مخصوصة بهذا الحال.
ومناسبة ذكر هذه المصطلحات: الهدية والهبة والصدقة والعطية في كتاب الوقف لا في كتاب البيوع: هو أنه لا يوجد معاوضة فهي أشبه بالوقف منها بالمعاوصات المذكورة في كتاب البيوع.
فذكرها هنا أنسب من ذكرها في كتاب البيوع وإن كان فيها تمليك وإعطاء للمال إلا أنها مع ذلك لما خليت من معنى المعاوضة صارت تناسب كتاب الوقف.
قال المؤلف رحمه الله:
وهي: التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره.
(وهي التبرع بتمليك) هذا التعريف مليء بالمحترزات.
يقول: (وهي التبرع) فيجب لكي تعتبر العطية هبة أو عطية أو صدقة أن تكون خالية من العوض هذا معنى قوله: (وهي التبرع).
فإن وجدت فبها المعاوضة خرجت عن هذا الباب.
وقوله (بتمليك ماله) المال المقصود هنا: هو المقصود في كتاب البيوع، إلا أنهم في باب الهبة أجازوا أن يهب الإنسان ما لا يجوز بيعه إذا كان فيه منفعة مباحة.
إذاً المقصود بالمال هنا هو نفس المقصود بالمال في كتاب البيوع إلا أنهم هنا أجازوا أن يهب الإنسان ما لا يجوز أن يباع مما فيه نفعاً مباحاً.
فلا يجوز أن نبيع الكلب المعلم لكن يجوز أن نهدي وأن نهب الكلب المعلم.
والسبب في التفريق: أنه لا يوجد معاوضة ولا بيع والمنع في الكلب المعلم إنما هو من البيع والمعاوضة لا من الهبة والإعطاء.
يقول: (المعلوم الموجود) أخرج به: المجهول المعدوم. فإن الإنسان لا يصلح أن يهب المجهول ولا يصلح أن يهب المعدوم.
وسيأتينا حكم هبة المجهول.
أما المعدوم فصحيح، ما الفائدة من هبة المعدوم؟ لا يوجد أي فائدة. ولا يوجد هبة في الحقيقة مادام أنه يهب معدوماً.
فلو قال الإنسان: أنا أهديك السيارات التي تصنع في عام 1450هـ معدوم أو موجود؟
لا فائدة من هذه الهبة المعدومة.
أو أن يهبه شيئاً احترق. المحترق معدوم فإذاً لا يجوز أن يوهب.
قال المؤلف رحمه الله:
(في حياته) أخرج الوصية لأن الوصية تمليك لكن بعد الموت وليست في الحياة.
هذا التعريف الطويل اختاره المؤلف أما ابن قدامة فيقول: الهبة: تمليك في الحياة بغير عوض.
وفي الحقيقة تعريف الشيخ ابن قدامة ممتاز وسهل وبسيط وخالي من الشروط الإضافية التي تعتبر إلى التفصيل أقرب منها إلى التعريف.
فقوله: (تمليك في الحياة بغير عوض) جميل جداً وهذا تعريف الشيخ في المقنع، معناه أن الشيخ موسى عدل عن هذا التعريف واختار التعريف الذي ذكره عندنا هنا كأنه يرى أنه أوفى وأضبط في تحديد الهبة.
قال المؤلف رحمه الله:
وإن شرط فيها عوضاً معلوماً: فبيع.
يعني: فحكمها حكم البيع.
والسبب في ذلك:
- أنه تمليك بعوض وهذه هي حقيقة البيع.
علم من كلام المؤلف رحمه الله أنه يصحح الهبة التي شرط فيها العوض وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا على هذا:
- بأن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ فحقيقة هذا اللفظ أنه بيع وليس هبة وما دام نستطيع تصحيح عقود المكلفين فهو أولى من إبطالها.
هذا كله مذهب الجمهور وهذا دليلهم.
= القول الثاني: وهو مذهب الشافعي أن الهبة التي شرط فيها عوض باطلة.
- لأنه اشترط فيها ما ينافي مقصودها، فإنه من المعلوم أن الركن الأساسي في الهبة هو خلوها من العوض.
فهذا الشرط ينافي المقصود الأساسي من الهبة.
والشرط المنافي للعقد يبطل العقد.
وهذا القول يتناسب مع مبدأ عام ذكرته للشافعي وهو: أنه يأخذ بالظواهر، فظاهر هذا العقد أنه هبة فيها عوض والهبة لا يمكن أن يكون فيها عوض.
نحن نقول: هذا الظاهر غير مقصود والمقصود هو أن يكون عقد معاوضة.
والراجح: مذهب الجماهير.
فهم من كلام المؤلف رحمه الله أيضاً أن الهبة التي يقصد منها الثواب بلا شرط لا يستحق صاحبها الثواب - عوضاً.
يعني: واحد وهب آخر وهو يريد بهذه الهبة ثواباً يعني: عوضاً لكنه لم يشترط في العقد فعند الحنابلة الواهب لا يستحق ثواباً وإنما الذي يستحق هو المشترط، ولهذا المؤلف رحمه الله يقول: فإن شرط فيها عوضاً.
= والقول الثاني: أنه إذا أهدى إلى من هو أعلى منه رتبة وقصد الثواب فهو على قصده ويلزم الموهوب إما أن يعطيه ما يرضيه أو أن يرد الهبة.
واستدلوا على هذا:
- بالأثر الصحيح الذي أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من وهب هبة يريد ثوابها فهو على هبته إن أرضي وإلا رجع فيها).
وبقوله رضي الله عنه: (أراد) التصريح بالحكم
…
((الأذان)).
والراجح إن شاء الله القول الثاني لوجود هذا الأثر عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
قال المؤلف رحمه الله:
ولا يصح: مجهولاً إلاّ ما تعذر علمه.
(ولا يصح مجهولاً) في الحقيقة يحتمل أن المؤلف رحمه الله يقصد بقوله: (ولا يصح مجهولاً) يعني: الثواب في هبة الثواب ........... (نقص يسير)) ..... أن مقصوده ولا يصح مجهولاً عني: ولا تصح الهبة المجهولة.
يرجح الاحتمال الأول: أن المؤلف رحمه الله إذا أراد أن يتكلم عن الهبة استخدم الضمير المؤنث ولاحظ بعد ذلك يقول: (وهي)(وتنعقد)(وتلزم) وهنا استخدم الضمير المذكر.
ويرجح الاحتمال الثاني وهو أنه يتكلم عن الهبة المجهولة أنه قال: (إلا ما تعذر علمه) وهذا القيد يتعلق بالهبة المجهولة لا بالثواب في هبة المعاوضة.
ولذلك لعل الأقرب أنه أراد الهبة المجهولة.
كما أنه يؤيد هذا الاحتمال أنه يبعد جداً أن يخلي الشيخ الباب من الكلام عن هبة المجهول لأنها مسألة مهمة.
ولو حملنا هذا على الجهالة في ثواب هبة الثواب لخلي الباب من حكم الهبة المجهولة.
إذاً: إذا حملناه على هذا المحمل نقول: (ولا يصح مجهولاً) يعني: لا يصح ....... كأن يهب الحمل الذي في البطن واللبن الذي في الضرع.
وتعليل المنع:
- أن المجهول لا يمكن تسليمه ........ لا يمكن تسليمه لا فائدة في هبته.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن نهب أحداً شيئاً مجهولاً.
- لأن لا الجهالة هنا لا تضر فإن الموهوب يدور بين السلامة والغنيمة. فالغرر لا يؤثر هنا.
وإلى هذا ذهب .............
قال شيخ الإسلام: فإذا قال: خذ من مالي ما شئت: صح. أو قال: ما أخذت من مالي فهو لك: صح .....
وبعد التأمل في هذه المسألة مراراً وتكراراً تبين لي أن اختيار الشيخ رحمه الله .... ضعيف أو ضعيف جداً
…
والسبب في ذلك: أن وقوع النزاع أشبه ما يكون بالمقطوع به لاسيما المثال الذي ذكره المؤلف رحمه الله: (ما أخذت من مالي فهو لك) ................ فيقول: إنما أردت الشيء الذي عادة يتواهبه الناس ما أردا هذا ....... فيقول أنت قلت ما أخذت من مالي فهو لك وما هذه من ألفاظ العموم فأنا أتعجب من تصحيح هبة المجهول يعني قول من وجهة نظري بعيد جداً ولابد أن يؤدي إلى النزاع لتفاوت الأموال ....
قال المؤلف رحمه الله:
إلا ما تعذر علمه.
فإنه يجوز
…
تعذر العلم أن يختلط اختلاطاً غير متميز حينئذ له أن يهبه وإن كان مجهولاً ........... لا حرج فيها
…
(((في التسجيل الصوتي تقطيع كثير لما بعد الأذان فأرجو ممن لديه التسجيل أن يعيننا على إكماله ليتم تنزيله فيما بعد كاملاً في المذكرة))).
((انتهى الدرس)).
الدرس: (4) من الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله:
(وتنعقد بالإيجاب والقبول والمعاطاة الدالة عليها)
الأمر الأول: أنّ الهبة تنعقد بصيغتين قولية وفعلية، أما القولية فبالإجماع تنعقد بها الهبة ولا إشكال فيها، وأما القولية تنعقد بها أيضاً الهبة عند جمهور أهل العلم، واستدلوا على هذا بأنّ صلى الله عليه وسلم كان يهدي ويهدى، وكان يرسل السعاة فيأخذوا الصدقات ويقبضوها وكل ذلك يتم بلا قول، فهذا دليل على أنّ الهبة تنعقد بالصيغة العملية بلا قول.
قال المؤلف رحمه الله:
(وتنعقد)
هذه الجملة أفادت الفائدة الثانية، وهي أنّ الهبة تملك بمجرد العقد ولو قبل القبض، ولا تحتاج إلى قبض، ولكنها كما سيأتينا لا تلزم إلاّ بالقبض.
والقول الثاني: أنّ الهبة لا تملك إلاّ بالقبض.
والقول الثالث: أنّ الهبة تملك بالعقد قبل القبض، ولكنه ملكاً مراعى، فإن قبض تبيّن أنه ملكه وإلاّ فلا، وينبني على هذه المسألة فروع كثيرة جداً، ذكرها الشيخ ابن رجب في القواعد، من أهم هذه الفروع فرعان:
الفرع الأول: ينبني على الخلاف في هذه المسألة جواز التصرف أو عدمه، فإن قلنا أنها تملك بالعقد قبل القبض جاز التصرف قبل القبض، لأنها من أملاكه وللإنسان أن يتصرف في ملكه كيف يشاء.
الفرع الثاني: الذي ينبني على هذه المسألة، هو أنها تكون مملوكة من حين العقد، ويترتب على هذا أنّ له النماء المتصل والمنفصل وهذه ثمرة مهمة للخلاف في هذه المسألة، الحنابلة يرون أنها تملك بمجرد العقد كما تقدم معنا.
في الحقيقة ليس في المسألة أدلة واضحة، يمكن أن يرجح الإنسان بناء عليها، ولهذا نقول نبقى مع مذهب الحنابلة وهو مذهب الإمام أحمد أنها تملك بالعقد، ويكون التفريع على هذا القول.
قال المؤلف رحمه الله:
(وتلزم بالقبض بإذن واهب)
أي أنّ الهبة وإن كانت تملك بالعقد إلا أنها لا تلزم إلا بالقبض، وإلى هذا ذهب الحنابلة، أنّ الهبة لا تملك إلا بالقبض واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول: ما روي عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين - أنهم كانوا يرون أنّ الهبة لا تلزم إلاّ بالقبض، وهذا الأثر واستخدامه كلمة لا تلزم إلا بالقبض يرجح في المسألة السابقة مذهب الحنابلة، إذا كانت لا تلزم إلا بالقبض فاللزوم أمر زائد عن الملك، فكأنها تملك بالقول ولكن لا تلزم إلا بماذا؟ إلا بالقبض، فهذا الأثر من الأشياء التي تقوي مذهب الحنابلة، نرجع إلى مسألة اللزوم إذاً هذا هو الدليل الأول في مسألة اللزوم أنّ الهبة لا تلزم إلا بالقبض.
الدليل الثاني: أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أعطى عائشة جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالغابة، فلما أشرف وقرب موته رضي الله عنه قال لها إني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ولو كنت حزتيه لكان لك، وأما الآن فهو مال الورثة، فدّل الحديث على أنها لماّ تقبضه لم يلزم في حق أبي بكر وصار من جملة مال الورثة.
والقول الثاني: أنّ الهبة تلزم بمجرد القول، بشرط أن تتميز، يعني أن تكون متميزة عن غيرها، وهذا قول الحنابلة واختيار الظاهرية، واستدلوا على هذا بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة/1] فعقد الهبة من العقود التي تدخل في الآية.
والقول الثالث: أنّ الهبة تلزم مطلقاً، ولو لم تكن متميزة، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، والراجح في مسألة اللزوم بلا إشكال مذهب الحنابلة، لصراحة الآثار عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، يعني عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم فالأدلة التي ذكروها عامة، وهذه الأدلة التي استدّل بها الحنابلة خاصة.
قال المؤلف رحمه الله:
(وتلزم بالقبض بإذن واهب)
معنى أنها تلزم يعني لا يجوز الرجوع فيها، ودخلت بشكل نهائي في ملك الموهوب، وأشترط الشيخ رحمه الله الماتن للقبض أن يكون القبض بإذن الواهب، واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الإقباض ليس أمراً مستحقاً على الواهب، فلا يصح إلا بإذنه، وجه ذلك أنّ له أن يقبض وله أن يمتنع، فلما صار الإقباض ليس أمراً مستحقاً عليه، اشترطنا إذنه ورضاه.
والقول الثاني: أنّ القبض يصح مطلقاً ولو بغير إذنه ولا علمه، مادام وهب، وهذا القول الثاني من وجهة نظري ضعيف جداً، لأنّ الإقباض في الهبة حق من حقوق الواهب، ففي القبض بغير إذنه نوع إفتيات عليه، كما أنّ تملك المال لابد أن يكون برضى نفس ومادام لم يعطه هو المال ينبغي أن ينتظر إلى يعطه المال أو يأذن في القبض.
قال المؤلف رحمه الله:
(إلاّ ما كان في يد متهب)
يعني إذا كانت العين الموهوبة في يد الموهوب ثم وهبها إياه المالك، فحينئذ لسنا بحاجة إلى القبض، وعللوا هذا بأنّ استدامة القبض تغني عن ابتدائه، فالعين الآن في يده، فلسنا بحاجة إلى قبض جديد، بل تصبح المسألة مسألة استدامة للقبض، والاستدامة لا تحتاج إلى إذن، وهذا صحيح بالنسبة لما إذا كانت العين في يد الموهوب.
قال المؤلف رحمه الله:
(ووارث الواهب يقوم مقامه)
يعني فالإذن بالقبض أو الرجوع عن الهبة، وأفادنا المؤلف بهذه العبارة أنّ الهبة لا تنفسخ بالموت، بل للوارث أن يأذن ويمضي الهبة وله أن يرجع ويقبض الهبة، وذلك لأنّ الهبة ،أو لأنّ كونه يهب هذا حق من حقوقه، فيبقى للورثة إن شاءوا أمضوا وإن شاءوا ردّوا.
قال المؤلف رحمه الله:
(ومن أبرأ غريمه من دينه بلفظ الإحلال ،أو الصدقة ،أو الهبة
…
)
برئت ذمته ولو لم يقبل، هذا الإبراء يتعلق بالديون ولا يتعلق بالعين، فإذا أبرأه من الدين فإنّ الإبراء صحيح ولو لم يقبل المبرأ واستدّل الحنابلة على هذا بأنّ الإبراء مما في الذمة لا يعدوا أن يكون إسقاط، والإسقاط لا يحتاج إلى رضى المسقط عنه، كما في الشفعة وكما في القصاص، ففي الشفعة مثلاً لو أسقط المشفع حقه لا نحتاج إلى إذن المشتري، بل يسقط حقه أذن أو لم يأذن، وفي القصاص لو أسقط ولي الدم حقه في القصاص وأختار الدية لا نحتاج إلى رضى الجاني، إذن الإسقاطات لا تحتاج إلى إذن.
والقول الثاني: أنه في مثل هذه الصورة لابد من الإذن، لأنّ هذا الإسقاط في معنى الهبة، والهبة تحتاج إلى قبول، إذن لابد من القبول لأنّ هذا الإسقاط في معنى الهبة، والهبة تحتاج إلى قبول، كما أنّ الإسقاط من الدين فيه مِنّة، ويحتاج إلى قبول.
أجاب الحنابلة عن دليل أصحاب القول الثاني بأنّ هناك فرقاً بين الهبة والإبراء، لأنّ الهبة تمليك للأعيان، بينما الإبراء إسقاط، وبين التمليك والإسقاط فرق ظاهر، والصواب مع أصحاب القول الثاني، والمذهب من وجهة نظري في هذه المسألة مرجوح، والسبب في ذلك أنّ التمليك وإن كان يختلف عن الإسقاط إلا أنه مع ذلك في هذا الإبراء شبه عظيم بالهبة، بدليل أنها تستخدم فيه، فيقول الإنسان وهبت لك ما في ذمتك لي، فاستخدام الهبة في الإسقاط دليل على أنّ معناهما متقارب جداً، كما أنّ قول أصحاب القول الثاني أنّ فيه مِنّة صحيح، أنّ فيه مِنّة ظاهرة، إذ قد يصبح المبرِأ كل ما رأى المُبرأ، قال قد أبرأتك عن كذا من الدين، وكل مارآه ذكّره بأنه أبرأه من هذا الدين، وفي هذا مِنّة ظاهرة واضحة، على كل حال الراجح إن شاء القول الثاني.
ظاهر كلام المؤلف، أنه يجوز الإبراء من المجهول، فإذا كان الدائن نسي الدين، لا يعرف كم مقدار الدين، فقال أبرأتك من الدين الذي في ذمتك لي، فإنّ الإبراء عند الحنابلة صحيح، لأنه إسقاط فجاز في المجهول.
والقول الثاني: أنّ الإبراء من المجهول يجوز، بشرط أن يضع له حداً أعلى، فيقول إن كان الدين ألف فأقل فقد أبرأتك منه، يعني في المسألة إشكال، لكن الأقرب مذهب الحنابلة، لأنّ الإبراء وإن كان فيه شبه من الهبة، إلاّ أنه يبقى مع ذلك أخف منها، كما أنّ فيه إبراء لذمة مشغولة، والشارع الكريم يتشوف إلى إبراء الذمم المشغولة، ولهذا نقول إذا أبرأه من الدين وإن كان مجهولاً فلا بأس به، وإن كان القول الثاني في الحقيقة جميل جداً وينهي النزاع، فلو تبّين فيما بعد أنّ الدين مبلغه كبير جداً ربما ندم المبرأ، لكن لو قال إذا كان الدين ألف فأقلّ فقد أبرأتك، فينتهي الإشكال، فيكون الألف فأقلّ مبرأ وما هو زيادة على هذا باقي في ذمتّه لكن على كل حال نقول إن شاء الله، مذهب الحنابلة أحسن لمسألة رغبة الشارع في إبراء الذمم، والمقصود بالدين هنا يشمل أن يكون دين بسبب القرض أو دين بسبب ثمن المبيع الذي لم يؤديه، أو أن يكون دين بسبب جناية، أو أن يكون دين بأيّ سبب من الأسباب التي يترتب عليها انشغال الذمم، وتقدم معنا في كتاب القرض أنّ بين الدين والقرض فرق، وأنّ الدين أعّم من القرض وأنّ القرض أحد أسباب الدين، فالمؤلف يستخدم كلمة الدين ليشمل انشغال الذمة بأيّ سبب من الأسباب.
قال المؤلف رحمه الله:
(ويجوز هبة كل عين تباع ، وكلب يقتنى)
عند الحنابلة الأصل العام أنه يجوز هبة كل عين تباع، فما جاز بيعه جازت هبته، والدليل على هذا أنّ الهبة تمليك للأعيان في الحياة فهي تشبه البيع، تقدم معنا أنّ هذا الشبه شبه جزئي وليس شبهاً كلياً، وأنّ بين البيع والهبة فارق أساسي وهو؟ العِوض لكن مع ذلك مادام في كل من البيع والهبة تمليك في الحياة، فهما من هذه الجهة يتشابهان فكل ما جاز بيعه جاز هبته، أضف إلى هذا أنّ البيع أضيق من الهبة، فإذا كانت هذه العين تباع فمن باب أولى أنها توهب.