الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[خَبَرُ عَدْنَانَ جَدِّ عَرَبِ الْحِجَازِ]
لَا خِلَافَ أَنَّ عَدْنَانَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ ابْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليهما السلام، وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْآبَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَأَكْثَرُ مَا قِيلَ: أَرْبَعُونَ أَبًا وَهُوَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخَذُوهُ مِنْ كِتَابِ رِخْيَا كَاتِبِ أَرَمِيَا بْنِ حَلْقِيَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ وَقِيلَ: عِشْرُونَ وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ وَقِيلَ: عَشَرَةٌ وَقِيلَ: تِسْعَةٌ وَقِيلَ: سَبْعَةٌ وَقِيلَ: إِنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ; لِمَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ الزَّمْعِيِّ عَنْ عَمَّتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَنْدِ بْنِ يَرَى بْنِ أَعْرَاقِ الثَّرَى» قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَزَنْدٌ هُوَ الْهَمَيْسَعُ وَالْيَرَى هُوَ نَبْتٌ، وَأَعْرَاقُ الثَّرَى هُوَ إِسْمَاعِيلُ; لِأَنَّهُ ابْنُ ابْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ تَأْكُلْهُ النَّارُ كَمَا أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ الثَّرَى قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا نَعْرِفُ زَنْدًا إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَزَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ وَهُوَ أَبُو دُلَامَةَ الشَّاعِرُ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ: مُدَّةُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ إِلَى زَمَنِ إِسْمَاعِيلَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَبَاءٍ أَوْ عَشَرَةٌ أَوْ عِشْرُونَ; وَذَلِكَ أَنَّ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ عُمْرُهُ زَمَنَ بُخْتُنَصَّرَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى أَرْمِيَاءَ بْنِ حَلْقِيَا: أَنِ اذْهَبْ إِلَى بُخْتُنَصَّرَ فَأَعْلِمْهُ أَنِّي قَدْ سَلَّطْتُهُ عَلَى الْعَرَبِ، وَأَمَرَ اللَّهُ أَرْمِيَا أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ عَلَى الْبُرَاقِ كَيْ لَا تُصِيبَهُ النِّقْمَةُ فِيهِمْ فَإِنِّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ صُلْبِهِ نَبِيًّا كَرِيمًا أَخْتِمُ بِهِ الرُّسُلَ فَفَعَلَ أَرْمِيَا ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ مَعَدًّا عَلَى الْبُرَاقِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ فَنَشَأَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً اسْمُهَا مُعَانَةُ بِنْتُ جَوْشَنَ مِنْ بَنِي دُبِّ بْنِ جُرْهُمٍ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ أَنْ هَدَأَتِ الْفِتَنُ، وَتَمَحَّضَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَكَانَ رِخْيَا كَاتِبُ أَرْمِيَاءَ قَدْ كَتَبَ نَسَبَهُ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ لِيَكُونَ فِي خِزَانَةِ أَرْمِيَاءَ فَيَحْفَظُ نَسَبَ مَعَدٍّ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ رحمه الله رَفْعَ النِّسَبِ إِلَى مَا بَعْدَ عَدْنَانَ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي رَفْعِ هَذِهِ الْأَنْسَابِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ كَابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَالطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَالِكٌ رحمه الله فَقَدْ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَرْفَعُ نَسَبَهُ إِلَى آدَمَ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ لَهُ: فَإِلَى
إِسْمَاعِيلَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: وَمَنْ يُخْبِرُهُ بِهِ؟ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يُرْفَعَ فِي نَسَبِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: ابْرَاهِيمُ بْنُ فَلَانِ بْنِ فُلَانٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُعَيْطِيُّ فِي كِتَابِهِ.
قَالَ: وَقَوْلُ مَالِكٍ هَذَا نَحْوٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبَا لَا يُعْرَفُونَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ عَدْنَانَ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. وَالْأَصَحُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّمَا نَنْتَسِبُ إِلَى عَدْنَانَ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " الْإِنْبَاهِ فِي مَعْرِفَةِ قَبَائِلِ الرُّوَاةِ " رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ وَلَا مَا وَرَاءَ قَحْطَانَ إِلَّا تَخَرُّصًا. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ قُرَيْشٍ بِأَشْعَارِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ - يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ مَعَدِّ بْنِ
عَدْنَانَ فِي شِعْرِ شَاعِرٍ وَلَا عِلْمِ عَالِمٍ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ إِذَا تَلَوْا {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] قَالُوا كَذَبَ النَّسَّابُونَ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ رحمه الله: وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا فِي هَذَا غَيْرُ مَا ذَهَبُوا وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى إِحْصَاءَ بَنِي آدَمَ; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَأَمَّا أَنْسَابُ الْعَرَبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَيَّامِهَا وَأَنْسَابِهَا قَدْ وَعَوْا وَحَفِظُوا جَمَاهِيرَهَا، وَأُمَّهَاتِ قَبَائِلِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ فِي نَسَبِ عَدْنَانَ قَالُوا: عَدْنَانُ بْنُ أُدَدَ بْنِ مُقَوَّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليهما السلام، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارَ فِي السِّيرَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَدْنَانُ بْنُ أُدٍّ يَعْنِي: عَدْنَانَ بْنِ أُدِّ بْنِ أُدَدَ، ثُمَّ سَاقَ أَبُو عُمَرَ بَقِيَّةَ النَّسَبِ إِلَى آدَمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَأَمَّا الْأَنْسَابُ إِلَى عَدْنَانَ مِنْ سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَمَحْفُوظَةٌ شَهِيرَةٌ جِدًّا لَا يَتَمَارَى فِيهَا اثْنَانِ وَالنَّسَبُ النَّبَوِيُّ إِلَيْهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَمَا سَنُورِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَذِكْرِ أَنْسَابِهَا وَانْتِظَامِهَا فِي سِلْكِ النَّسَبِ الشَّرِيفِ وَالْأَصْلِ الْمُنِيفِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا نَظَمَ النَّسَبَ النَّبَوِيَّ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ وَهِيَ قَوْلُهُ
مَدَحْتُ رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِي بِمَدْحِهِ
…
وُفُورَ حُظُوظِي مِنْ كَرِيمِ الْمَآرِبِ
مَدَحْتُ امْرَأً فَاقَ الْمَدِيحَ
…
مُوَحَّدًا بِأَوْصَافِهِ عَنْ مُبْعِدٍ وَمُقَارِبِ
نِبِيًّا تَسَامَى فِي الْمَشَارِقِ نُورُهُ
…
فَلَاحَتْ هَوَادِيهِ لِأَهْلِ الْمَغَارِبِ
أَتَتْنَا بِهِ الْأَنْبَاءُ قَبْلَ مَجِيئِهِ
…
وَشَاعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ فِي كُلِّ جَانِبِ
وَأَصْبَحَتِ الْكُهَّانُ تَهْتِفُ بِاسْمِهِ
…
وَتَنْفِي بِهِ رَجْمَ الظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ
وَأُنْطِقَتِ الْأَصْنَامُ نُطْقًا تَبَرَّأَتْ
إِلَى
اللَّهِ فِيهِ مِنْ مَقَالِ الْأَكَاذِبِ
…
وَقَالَتْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ قَوْلًا مُبَيَّنًا
أَتَاكُمْ نَبِيٌّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ
…
وَرَامَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ جِنٌّ فَزَيَّلَتْ
مَقَاعِدَهُمْ مِنْهَا رُجُومُ الْكَوَاكِبِ
هَدَانَا إِلَى مَا لَمْ نَكُنْ نَهْتَدِي
…
لَهُ لِطُولِ الْعَمَى مِنْ وَاضِحَاتِ الْمَذَاهِبِ
وَجَاءَ بِآيَاتٍ تُبَيِّنُ أَنَّهَا
…
دَلَائِلُ جَبَّارٍ مُثِيبٍ مُعَاقِبِ
فَمِنْهَا انْشِقَاقُ الْبَدْرِ حِينَ تَعَمَّمَتْ
…
شُعُوبُ الضِّيَا مِنْهُ رُءُوسَ الْأَخَاشِبِ
وَمِنْهَا نُبُوعُ الْمَاءِ بَيْنَ بَنَانِهِ
…
وَقَدْ عَدِمَ الْوُرَّادُ قُرْبَ الْمَشَارِبِ
فَرَّوَى بِهِ جَمًّا غَفِيرًا وَأَسْهَلَتْ
…
بِأَعْنَاقِهِ طَوْعًا أَكُفُّ الْمَذَانِبِ
وَبِئْرٌ طَغَتْ بِالْمَاءِ مِنْ مَسِّ سَهْمِهِ
…
وَمِنْ قَبْلُ لَمْ تَسْمَحْ بِمَذْقَةِ شَارِبِ
وَضَرْعٌ مَرَاهُ فَاسْتَدَرَّ وَلَمْ يَكُنْ
…
بِهِ دَرَّةٌ تُصْغِي إِلَى كَفِّ حَالِبِ
وَنُطْقٌ فَصِيحٌ مِنْ ذِرَاعٍ مُبِينَةٍ
…
لِكَيْدِ عَدُوٍّ لِلْعَدَاوَةِ نَاصِبِ
وَأَخْبَارُهُ بِالْأَمْرِ مِنْ قَبْلِ كَوْنِهِ
…
وَعِنْدَ بَوَادِيهِ بِمَا فِي الْعَوَاقِبِ
وَمِنْ تِلْكُمُ الْآيَاتِ وَحْيٌّ أَتَى
…
بِهِ قَرِيبُ الْمَآتِي مُسْتَجِمُّ الْعَجَائِبِ
تَقَاصَرَتِ الْأَفْكَارُ عَنْهُ فَلَمْ. يُطِعْ
…
بَلِيغًا وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ خَاطِبِ
حَوَى كُلَّ عِلْمٍ وَاحْتَوَى كُلَّ حِكْمَةٍ
…
وَفَاتَ مَرَامَ الْمُسْتَمِرِّ الْمُوَارِبِ
أَتَانَا بِهِ لَا عَنْ رَوِيَّةِ مُرْتَئٍ
…
وَلَا صُحْفِ مُسْتَمْلٍ وَلَا وَصْفِ كَاتِبِ
يُوَاتِيهِ طَوْرًا فِي إِجَابَةِ سَائِلٍ
…
وَإِفْتَاءِ مُسْتَفْتٍ وَوَعْظِ مُخَاطِبِ
وَإِتْيَانِ بُرْهَانٍ وَفَرْضِ شَرَائِعٍ
…
وَقَصِّ أَحَادِيثَ وَنَصِّ مَآرِبِ
وَتَصْرِيفِ أَمْثَالٍ وَتَثْبِيتِ حُجَّةٍ
…
وَتَعْرِيفِ ذِي جَحْدٍ وَتَوْقِيفِ كَاذِبِ
وَفِي مَجْمَعِ النَّادِي وَفِي حَوْمَةِ الْوَغَى
…
وَعِنْدَ حُدُوثِ الْمُعْضِلَاتِ الْغَرَائِبِ
فَيَأْتِي عَلَى مَا شِئْتَ مِنْ طُرُقَاتِهِ
…
قَوِيمَ الْمَعَانِي مُسْتَدِرَّ الضَّرَائِبِ
يُصَدِّقُ مِنْهُ الْبَعْضُ بَعْضًا كَأَنَّمَا
…
يُلَاحَظُ مَعْنَاهُ بِعَيْنِ الْمُرَاقِبِ
وَعَجْزُ الْوَرَى عَنْ أَنْ يَجِيئُوا بِمِثْلِ مَا
…
وَصَفْنَاهُ مَعْلُومٌ بِطُولِ التَّجَارِبِ
تَأَبَّى بِعَبْدِ اللَّهِ أَكْرَمِ وَالِدٍ
…
تَبَلَّجَ مِنْهُ عَنْ كَرِيمِ الْمَنَاسِبِ
وَشَيْبَةَ ذِي الْحَمْدِ الَّذِي فَخِرَتْ
…
بِهِ قُرَيْشٌ عَلَى أَهْلِ الْعُلَا وَالْمَنَاصِبِ
وَمَنْ كَانَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
وَيَصْدُرُ عَنْ آرَائِهِ فِي النَّوَائِبِ
وَهَاشِمٍ الْبَانِي مَشِيدَ افْتِخَارِهِ
…
بِغُرِّ الْمَسَاعِي وَامْتِنَانِ الْمَوَاهِبِ
وَعَبْدِ مَنَافٍ وَهُوَ عَلَّمَ قَوْمَهُ
…
اشْتِطَاطَ الْأَمَانِي وَاحْتِكَامَ الرَّغَائِبِ
وَإِنَّ قُصَيًّا مِنْ كَرِيمٍ غِرَاسُهُ
…
لَفِي مَنْهَلٍ لَمْ يَدْنُ مِنْ كَفِّ قَاضِبِ
بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ بَعْدَ مَا
…
تَقَسَّمَهَا نَهْبُ الْأَكُفِّ السَّوَالِبِ
وَحَلَّ كِلَابٌ مِنْ ذُرَى الْمَجْدِ مَعْقِلًا
…
تَقَاصَرَ عَنْهُ كُلُّ دَانٍ وَغَائِبِ
وَمُرَّةُ لَمْ يَحْلُلْ مَرِيرَةَ عَزْمِهِ
…
سِفَاهُ سَفِيهٍ أَوْ مَحُوبَةُ حَائِبِ
وَكَعْبٌ عَلَا عَنْ طَالِبِ الْمَجْدِ كَعْبُهُ
…
فَنَالَ بِأَدْنَى السَّعْيِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ.
وَأَلْوَى لُؤَيٌّ بِالْعَدَاةِ فَطُوِّعَتْ لَهُ
…
هِمَمُ الشُّمِّ الْأُنُوفِ الْأَغَالِبِ
وَفِي غَالِبٍ بَأْسُ أَبِي الْبَأْسِ دُونَهُمْ
…
يُدَافِعُ عَنْهُمْ كُلَّ قِرْنٍ مُغَالِبِ
وَكَانَتْ لِفِهْرٍ فِي قُرَيْشٍ خَطَابَةٌ
…
يَعُوذُ بِهَا عِنْدَ اشْتِجَارِ الْمَخَاطِبِ
وَمَا زَالَ مِنْهُمْ مَالِكٌ خَيْرَ مَالِكٍ
…
وَأَكْرَمَ مَصْحُوبٍ وَأَكْرَمَ صَاحِبِ
وَلِلنَّضْرِ طَوْلٌ يَقْصُرُ الطَّرْفُ دُونَهُ
…
بِحَيْثُ الْتَقَى ضَوْءُ النُّجُومِ الثَّوَاقِبِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْدَى كِنَانَةَ قَبْلَهُ
…
مَحَاسِنَ تَأْبَى أَنْ تَطُوعَ لِغَالِبِ
وَمِنْ قَبْلِهِ أَبْقَى خُزَيْمَةُ حَمْدَهُ
…
تَلِيدَ تُرَاثٍ عَنْ حَمِيدِ الْأَقَارِبِ
وَمُدْرِكَةٌ لَمْ يُدْرِكِ النَّاسُ مِثْلَهُ
…
أَعَفَّ وَأَعْلَى عَنْ دَنِيِّ الْمَكَاسِبِ
وَإِلْيَاسُ كَانَ الْيَأْسُ مِنْهُ
…
مُقَارِنًا لِأَعْدَائِهِ قَبْلَ اعْتِدَادِ الْكَتَائِبِ
وَفِي مُضَرَ يَسْتَجْمِعُ الْفَخْرَ كُلَّهُ
…
إِذَا اعْتَرَكَتْ يَوْمًا زُحُوفُ الْمَقَانِبِ
وَحَلَّ نِزَارٌ مِنْ رِيَاسَةِ أَهْلِهِ
…
مَحَلًّا تَسَامَى عَنْ عُيُونٍ الرَّوَاقِبِ
وَكَانَ مَعَدٌّ عُدَّةً لِوَلِيِّهِ إِذَا
…
خَافَ مِنْ كَيْدِ الْعَدُوِّ الْمُحَارِبِ
وَمَازَالَ عَدْنَانُ إِذَا عُدَّ فَضْلُهُ
…
تَوَحَّدَ فِيهِ عَنْ قَرِينٍ وَصَاحِبِ
وَأُدٌّ تَأَدَّى الْفَضْلُ مِنْهُ بِغَايَةٍ
…
وَارْثٌ حَوَاهُ عَنْ قُرُومٍ أَشَايِبِ
وَفِي أُدَدٍ حِلْمٌ تَزَيَّنَ بِالْحِجَا
…
إِذَا الْحِلْمُ أَزْهَاهُ قُطُوبُ الْحَوَاجِبِ
وَمَازَالَ يَسْتَعْلِي هَمَيْسَعُ بِالْعُلَى
…
وَيَتْبَعُ آمَالَ الْبَعِيدِ الْمُرَاغِبِ
وَنَبْتٌ بَنَتْهُ دَوْحَةُ الْعِزِّ وَابْتَنَى
…
مَعَاقِلَهُ فِي مُشْمَخِرِّ الْأَهَاضِبِ
وَحِيزَتْ لِقَيْدَارٍ سَمَاحَةُ حَاتِمٍ
…
وَحِكْمَةُ لُقْمَانٍ وَهِمَّةُ حَاجِبِ
هُمُو نَسْلُ إِسْمَاعِيلَ صَادِقِ وَعْدِهِ
…
فَمَا بَعْدَهُ فِي الْفَخْرِ مَسْعًى لِذَاهِبِ
وَكَانَ خَلِيلُ اللَّهِ أَكْرَمَ مَنْ عَنَتْ
…
لَهُ الْأَرْضُ مِنْ مَاشٍ عَلَيْهَا وَرَاكِبِ
وَتَارَحُ مَازَالَتْ لَهُ أَرْيَحِيَّةٌ
…
تُبَيِّنُ مِنْهُ عَنْ حَمِيدِ الْمَضَارِبِ
وَنَاحُورُ نَحَّارُ الْعِدَى حُفِظَتْ لَهُ
…
مَآثِرُ لَمَّا يُحْصِهَا عَدُّ حَاسِبِ
وَأَشْرَعُ فِي الْهَيْجَاءِ ضَيْغَمُ غَابَةٍ
…
يَقُدُّ الطُّلَى بِالْمُرْهَفَاتِ الْقَوَاضِبِ
وَأَرْغَوُ نَابٌ فِي الْحُرُوبِ مُحَكَّمٌ
…
ضَنِينٌ عَلَى نَفْسِ الْمُشِحِّ الْمُغَالِبِ
وَمَا فَالِغٌ فِي فَضْلِهِ تِلْوَ قَوْمِهِ
…
وَلَا عَابِرٌ مِنْ دُونِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ
وَشَالِخْ وَأَرْفَخْشَذْ وَسَامٌ سَمَتْ
…
بِهِمْ سَجَايَا حَمَتْهُمْ كُلَّ زَارٍ وَعَائِبِ
وَمَا زَالَ نُوحٌ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ فَاضِلًا
…
يُعَدِّدُهُ فِي الْمُصْطَفَيْنِ الْأَطَايِبِ
وَلَمْكٌ أَبُوهُ كَانَ فِي الرَّوْعِ رَائِعًا
…
جَرِيئًا عَلَى نَفْسِ الْكَمِيِّ الْمُضَارِبِ
وَمِنْ قَبْلِ لَمْكٍ لَمْ يَزَلْ مُتَوَشْلِخٌ
…
يَذُودُ الْعِدَى بِالْذَائِدَاتِ الشَّوَارِبِ
وَكَانَتْ لِإِدْرِيسَ النَّبِيِّ مَنَازِلٌ
…
مِنَ اللَّهِ لَمْ تُقْرَنْ بِهِمَّةِ رَاغِبِ
وَيَارَدُ بَحْرٌ عِنْدَ آلِ سَرَاتِهِ
…
أَبِيُّ الْخَزَايَا مُسْتَدِقُّ الْمَآرِبِ
وَكَانَتْ لِمِهْلَايِيلَ فَهْمُ فَضَائِلٍ
…
مُهَذَّبَةٍ مِنْ فَاحِشَاتِ الْمَثَالِبِ
وَقَيْنَانُ مِنْ قَبْلُ اقْتَنَى مَجْدَ قَوْمِهِ
…
وَفَاتَ بِشَأْوِ الْفَضْلِ وَخْدَ الرَّكَائِبِ
وَكَانَ أَنُوشٌ نَاشَ لِلْمَجْدِ نَفْسَهُ
…
وَنَزَّهَهَا عَنْ مُرْدِيَاتِ الْمَطَالِبِ
وَمَازَالَ شِيثٌ بِالْفَضَائِلِ فَاضِلًا
…
شَرِيفًا بَرِيئًا مِنْ ذَمِيمِ الْمَعَائِبِ
وَكُلُّهُمُ مِنْ نُورِ آدَمَ أَقْبَسُوا
…
وَعَنْ عُودِهِ أَجْنَوْا ثِمَارَ الْمَنَاقِبِ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَكْرَمَ مُنْجَبٍ
…
جَرَى فِي ظُهُورِ الطَّيِّبِينَ الْمَنَاجِبِ.
مُقَابَلَةً آبَاؤُهُ أُمَّهَاتِهِ
…
مُبَرَّأَةٌ مِنْ فَاضِحَاتِ الْمَثَالِبِ
عَلَيْهِ سَلَامُ اللَّهِ فِي كُلِّ شَارِقٍ
…
أَلَاحَ لَنَا ضَوْءًا وَفِي كُلِّ غَارِبِ
هَكَذَا أَوْرَدَ الْقَصِيدَةَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ
أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ شِعْرِ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاشِئِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ شِرْشِيرٍ، أَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ وَرَدَ بَغْدَادَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَ مُتَكَلِّمًا مُعْتَزِلِيًّا يَحْكِي عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَقَالَاتِ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا حَتَّى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ اقْتِدَارِهِ عَلَى الشِّعْرِ كَانَ يُعَاكِسُ الشُّعَرَاءَ فِي الْمَعَانِي فَيَنْظِمُ فِي مُخَالَفَتِهِمْ، وَيَبْتَكِرُ مَا لَا يُطِيقُونَهُ مِنَ الْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْبَلِيغَةِ حَتَّى نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّهَوُّسِ وَالِاخْتِلَاطِ. وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ لَهُ قَصِيدَةً عَلَى قَافِيَةٍ وَاحِدَةٍ قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ بَيْتٍ ذَكَرَهَا النَّاجِمُ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ كَمَا ذَكَرْنَا.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَحِفْظِهِ وَحُسْنِ لَفْظِهِ وَاطِّلَاعِهِ وَاضْطِلَاعِهِ وَاقْتِدَارِهِ عَلَى نَظْمِ هَذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ فِي سِلْكِ شِعْرِهِ، وَغَوْصِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ مِنْ قَامُوسِ بَحْرِهِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ وَأَحْسَنَ مَصِيرَهُ وَإِيَابَهُ.