الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يكن معهم فقال: ما تنظرون ههنا؟ قَالُوا مُحَمَّدًا، فَقَالَ خَيَّبَكُمُ اللَّهُ، قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ! أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ قَالَ فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ علياً على الفراش مستجيا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا، عَلَيْهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا (1) فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الَّذِي كَانَ حَدَّثَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فيَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)
[الأنفال: 30] وَقَوْلُهُ: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)[الطُّورِ: 30] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ.
بَابُ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَذَلِكَ أَوَّلُ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي سِيرَةِ عُمَرَ رضي الله عنه وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا هِشَامٌ (2) ، ثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عبَّاس.
قَالَ: بُعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث فيها (3) ثَلَاثَ عَشْرَةَ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَدْ
(1) قال في الروض الآنف 1 / 292 روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذكر فضل يس، أنها: إن قرأها خائف أمن، أو جائع شبع، أو عار كسي أو عاطش سقي..وعلل امتناعهم من الدخول إليه صلى الله عليه وسلم قال: وذكر بعض أهل التفسير السبب المانع لهم من التقحم عليه في الدار، إنهم هموا بالولوج عليه - وأنهم إنما جاءوا لقتله - فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا..فأصبحوا ينتظرون خروجه - على باب الدار -.
(2)
روح بن عبادة، وهشام بن حسان.
(3)
في البخاري ورواية البيهقي: بمكة بدلا من فيها.
والحديث أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ح 3902 فتح الباري 7 / 227 والبيهقي في الدلائل 2 / 131.
(*)
كَانَتْ هِجْرَتُهُ عليه السلام فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ بِعْثَتِهِ عليه السلام وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ كَمَّا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ، ونبِّئ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ (1) .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَعْجَلْ لعلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ صَاحِبًا، قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يعني نفسه، فابتاع راحلتين (2) فاحتبسهما في دار يَعْلِفُهُمَا إِعْدَادًا لِذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، إِمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ اليوم الذي أذن الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا، قَالَتْ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ! قَالَتْ فَلَمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (3) أَحَدٌ إِلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ (4)، وَمَا ذَاكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ " قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الصُّحْبَةَ " قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يومئذٍ يَبْكِي.
ثُمَّ قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا، فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَطَ (5) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ بن أريقط.
رجلاً من بني الدئل بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَعْلَمْ - فِيمَا بَلَغَنِي - بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ حِينَ خَرَجَ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، أَمَّا عَلِيًّ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء فليراجع.
(2)
قال البيهقي: 2 / 472: وعلف راحلتين، كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
وفي ابن سعد: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم - عن محمد بن عمر - من نعم بني قشير.
(3)
في ابن هشام: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي.
(4)
في البخاري: إنما هما أهلك.
وقد كان أبو بكر قد أنكح عائشة مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك.
(5)
من ابن هشام، وفي الاصل أرقد.
وقال الزرقاني في شرح المواهب 1 / 339: رقيط، وهو من بني الديل وقيل الدئل كما في فتح الباري.
وكان على دين الكفار ولم يعرف له إسلام فيما بعد كما جزم المقدسي وتبعه النووي، وقال في الاصابة: لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد وعند السهيلي 1 / 8: لم يكن مسلما إذ ذاك ولا وجدنا من طريق صحيحة أنه أسلم بعد ذلك.
(*)
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ بمكة أحد عنده شئ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [الخروج](1) أتى بأبكر بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَلَمْ أَكُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَى هَوْلِ الدُّنْيَا، وَبَوَائِقِ الدَّهْرِ، وَمَصَائِبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ.
اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي فِي سَفَرِي.
وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي وَلَكَ فذلِّلني.
وَعَلَى صَالِحِ خُلُقِي فَقَوِّمِنِي، وَإِلَيْكَ رَبِّ فَحَبِّبْنِي، وَإِلَى النَّاسِ فَلَا تَكِلْنِي، رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ الذي أشرقت له السموات وَالْأَرْضُ، وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَنْ تُحِلَّ عليَّ غَضَبَكَ، وَتُنْزِلَ بِي سَخَطَكَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
لَكَ العقبى (2) عِنْدِي خَيْرَ مَا اسْتَطَعْتُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرٍ - جَبَلٍ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ - فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يَتَسَمَّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَبَرِ.
وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ (3) مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نهاره، ثم يريحها عليهما [يأتيهما] إِذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ.
فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ يَسْمَعُ مَا
يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ.
وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا.
فَإِذَا غَدَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ يُعْفِّي عَلَيْهِ.
وَسَيَأْتِي فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَقَ الصِّدِّيقَ فِي الذَّهَابِ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَسِيرِهِ لِيَلْحَقَهُ، فَلَحِقَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُمَا خَرَجَا مَعًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها تَأْتِيهِمَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا، قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي.
قَالَتْ فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ - وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا - فلطم خدي لطمة طرح منها
(1) من ابن هشام.
(2)
من أبي نعيم، وفي الاصل العقبى.
(3)
عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وكان مولداً من مولدي الازد.
أسلم وهو مملوك، فاشتراه أبو بكر واعتقه، شهد بدراً وأُحداً وقتل يوم بئر معونة.
قتله عامر بن الطفيل (*)
قُرْطِي ثُمَّ انْصَرَفُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ - وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: كلا يا أبة إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَتْ وَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ يا أبة ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ.
قَالَتْ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدَ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا
تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ.
قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ لَيْلًا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَسَ الْغَارَ لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أو حية، بقي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ.
وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاعٌ مِنْ طَرَفَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَكُونُ أَمَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً، وَخَلْفَهُ مَرَّةً.
فَسَأَلَهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا كُنْتُ خَلْفَكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ أَمَامِكَ، وَإِذَا كُنْتُ أَمَامِكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ.
حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أُدْخِلَ يَدِي فَأُحِسَّهُ وَأَقُصَّهُ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ دَابَّةٌ أَصَابَتْنِي قَبْلَكَ.
قَالَ نَافِعٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ ذَلِكَ الْجُحْرَ تخوفاً أن يخرج منه دابة أو شئ يُؤْذِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ شَوَاهِدَ أُخَرَ فِي سِيرَةِ الصِّديق رضي الله عنه.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أنَّا مُوسَى بن الحسن ثنا عَبَّادٍ، ثَنَا عفَّان بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ.
قَالَ: ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ عُمْرَ فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ انْطَلَقَ إِلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ، فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ، فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
فقال: " يا أبا بكر لو كان شئ لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟ " قَالَ: نَعَمْ، والذي بعثك بالحق [ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك](1) .
فلما انتهيا إِلَى الْغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رسول الله حتى استبرئ لك الغار،
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل واستدركت من دلائل البيهقي ج 2 / 477.
(*)
فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ [فِي أَعْلَاهُ] (1) ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْجِحَرَةَ فَقَالَ: مَكَانَكَ يا رسول الله حتى أستبرئ [الجحرة] .
فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ.
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (2) عَنْ عُمَرَ وَفِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَارَةً، وَخَلْفَهُ أُخْرَى، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ.
وَفِيهِ أنَّه لَمَّا حَفِيَتْ رِجْلَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمَلَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى كَاهِلِهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ سَدَّدَ تلك الأجحرة كُلَّهَا.
وَبَقِيَ مِنْهَا جُحْرٌ وَاحِدٌ، فَأَلْقَمَهُ كَعْبَهُ فَجَعَلَتِ الْأَفَاعِي تَنْهَشُهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " وَفِي هَذَا السِّيَاقِ غرابة ونكارة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو.
قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ: شَاذَانُ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ، فَأَصَابَ يَدَهُ حَجَرٌ فَقَالَ: إِنْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبَعٌ دَمِيتِ * وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ (3) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عبَّاس أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ)(4) قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ اقْتُلُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَخْرِجُوهُ.
فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا عليه، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا ردَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكْرَهُمْ.
فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي.
فاقتفوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ العنكبوت، فقالوا لو دخل ها هنا أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ.
فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَذَلِكَ مِنْ حِمَايَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي فِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ: حدثنا بشار الخفاف
(1) من دلائل البيهقي.
(2)
رواه من طريق فرات بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ضبة بن محصن الفزاري.
عن عمر.. (3) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 480 ورواه ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي.
(4)
الانفال 30، قال القرطبي في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى:(وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) : المكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم مِنْ حَيْثُ لَا يشعرون وقال الزمخشري في الكشاف: أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا لانه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.
وفي النهاية 4 / 103: مكر الله: إيقاع بلائه بأعدائه.
وقال العسكري في الفروق اللغوية: إن الكيد والمكر متغايران والشاهد أن الكيد يتعدى بنفسه والمكر يتعدي بحرف.
فيقال كاده يكيده ومكر به ولا يقال مكره والذي يتعدى بنفسه اقوى.
(*)
ثنا جعفر وسليمان (1) ثنا أبوعمران الْجَوْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
قَالَ: انْطَلَقَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ.
وَجَاءَتْ قُرَيْشٌ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْا عَلَى بَابِ الْغَارِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ قَالُوا: لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ، وَكَانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يَرْتَقِبُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَطْلُبُونَكَ، أَمَا وَاللَّهِ ما على نفسي أئل (2) وَلَكِنْ مَخَافَةَ أَنْ أَرَى فِيكَ مَا أَكْرَهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَخَفْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " وَهَذَا مُرْسَلٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ حَسَنٌ بِحَالِهِ مِنَ الشَّاهِدِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ.
وَقَدْ كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى وروى هذا الرجل - أعني أبو بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ الْقَاضِيَ -[عَنْ] عَمْرٍو النَّاقِدِ عَنْ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ مُوسَى بن مطر عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ.
قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِذَا حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي اخْتَبَأَتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكُنْ فِيهِ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ رِزْقُكَ فِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ: نسجُ داودَ مَا حَمَى صَاحِبَ الْغَا * رِ وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَمَامَتَيْنِ عَشَّشَتَا عَلَى بَابِهِ أَيْضًا، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
فَغَمَّى عَلَيْهِ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ * وَظَلَّ عَلَى الْبَابِ الْحَمَامُ يَبِيضُ وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ: حدَّثنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا عَوْنُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ - وَيُلَقَّبُ بعوين (3) - حَدَّثَنِي أَبُو مُصْعَبٍ الْمَكِّيُّ.
قَالَ: أَدْرَكْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْغَارِ أَمَرَ اللَّهُ شَجَرَةً فَخَرَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تَسْتُرُهُ (4) ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ مَا بَيْنَهُمَا فَسَتَرَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَأَقْبَلَتَا يدفان حَتَّى وَقَعَتَا بَيْنَ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْنَ الشَّجَرَةِ وَأَقْبَلَتْ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ، مَعَهُمْ عِصِيُّهُمْ وَقِسِيُّهُمْ وَهِرَاوَاتُهُمْ، حتَّى إِذَا كَانُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْرَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ قَالَ الدَّلِيلُ - وَهُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ - هَذَا الْحَجَرُ ثُمَّ لَا أَدْرِي أَيْنَ وَضَعَ رِجْلَهُ.
فَقَالَ الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
(1) لعله جعفر بن سليمان الضبعي.
(2)
آل المريض: حن ورفع صوته عند ابتلائه بالمصيبة.
(3)
الاصل: عوين.
(4)
في رواية قاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي، حيث ألف كتابا في شرح الحديث سماه الدلائل وجاء فيه: هذا على ما ذكره السهيلي في الروض الآنف 2 / 4: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار، وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة، وهي شجرة معروفة، فحجبت عن النار أعين الكفار.
والراءة شجرة مثل قامة الانسان ولها خيطان وزهر أبيض كالريش.
(*)
حتى إذا أصبحوا (1) قال: انظروا في الغار، فاستبقه الْقَوْمَ حتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَدْرَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَإِذَا الْحَمَامَتَانِ، فَرَجَعَ (2) فَقَالُوا مَا رَدَّكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الْغَارِ؟ قَالَ رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَعَرَفَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ.
فَسَمِعَهَا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُمَا بِهِمَا، فَسَمَّتَ عَلَيْهِمَا - أَيْ بَرَّكَ عَلَيْهِمَا وَأَحْدَرَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْحَرَمِ فَأَفْرَخَا كَمَا تَرَى (3) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قد رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَمْرٍو - وَهُوَ
الْمُلَقَّبُ بِعُوَيْنٍ - بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ.
وَفِيهِ أَنَّ جميع حمام مكة من نسل تيك الْحَمَامَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَائِفَ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا اقْتَفَيَا الْأَثَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (4) وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40] يَقُولُ تَعَالَى مُؤَنِّبًا لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الرسول: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أَنْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَمُظْفِرُهُ كَمَا نَصَرَهُ (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَارِبًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ صاحبه وصديقه أبي بكر ليس غَيْرُهُ وَلِهَذَا قَالَ: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغار) أَيْ وَقَدْ لَجَأَ إِلَى الْغَارِ فَأَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَسْكُنَ الطَّلَبُ عَنْهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَقَدُوهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَجَعَلُوا لِمَنْ رَدَّهُمَا - أَوْ أَحَدَهُمَا - مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَاقْتَصُّوا آثَارَهُمَا حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الَّذِي يَقْتَصُّ الْأَثَرَ لِقُرَيْشٍ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ الَّذِي هُمَا فِيهِ وَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ الْغَارِ، فَتُحَاذِي أَرْجُلُهُمْ لِبَابِ الْغَارِ وَلَا يَرَوْنَهُمَا، حِفْظًا مِنَ اللَّهِ لَهُمَا.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ أَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ.
قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الْغَارِ.
لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ؟ فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظنَّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا " وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ بِهِ (5) .
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ أبا
(1) في الاصل: أصبحن وهو تحريف.
(2)
في الاصل: ترجع، وهو تحريف.
(3)
رواه أبو نعيم في دلائل النبوة والبيهقي في الدلائل 2 / 482 وابن سعد 1 / 229 وكلهم عن أبي مصعب المكي.
(4)
قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عليه) أي على أبي بكر بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم له فسكن جأشة (جأشه) وذهب روعه 8 / 148.
(5)
أخرجه البخاري في 62 كتاب فضائل الصحابة (2) باب مناقب المهاجرين ح 3653 وأعاده في 63 كتاب الانصار باب (45) .
وأخرجه التِّرمذي في كتاب التفسير.
تفسير سورة التوبة ح 3096 والامام أحمد في مسنده 1 / 4.
بَكْرٍ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَوِ جاؤنا من ههنا لَذَهَبْنَا مِنْ هُنَا " فَنَظَرَ الصِّدِّيقُ إِلَى الْغَارِ قَدِ انْفَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِذَا الْبَحْرُ قَدِ اتَّصَلَ بِهِ، وَسَفِينَةٌ مَشْدُودَةٌ إِلَى جَانِبِهِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ، وَلَسْنَا نُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا، وَلَكِنْ مَا صَحَّ أَوْ حَسُنَ سَنَدُهُ قُلْنَا بِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ ثَنَا مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنْ حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي رَأَيْتَنِي اخْتَبَأْتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكُنْ فِيهِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ فِيهِ رِزْقُكَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً.
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يَرْوِيهِ غَيْرُ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ.
قُلْتُ: وَمُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ هَذَا ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه.
وَقَدْ ذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي دُخُولِهِمَا الْغَارَ، وَسَيْرِهِمَا بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ سُرَاقَةَ كَمَا سَيَأْتِي شِعْرًا.
فَمِنْهُ قَوْلُهُ: قَالَ النَّبِيُّ - وَلَمْ أَجْزَعْ - يُوَقِّرُنِي * وَنَحْنُ فِي سُدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا * وَقَدْ تَوَكَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَذَكَرَهَا مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَذَكَرَ مَعَهَا قَصِيدَةً أُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَالَ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْحَجِّ - يَعْنِي الَّذِي بَايَعَ فِيهِ الْأَنْصَارَ - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ يَحْبِسُوهُ.
أَوْ يُخْرِجُوهُ فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الْآيَةَ.
فَأَمَرَ عَلَيًّا فَنَامَ عَلَى
فِرَاشِهِ، وَذَهَبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَهُمَا.
وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ، وَأَنَّ خُرُوجَهُ هو وأبو بكر إلى الغار وكان لَيْلًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيمَا ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضاً.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ: بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ (1) لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ (2) وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَذَكَرَتْ مَا كَانَ مِنْ ردِّه لِأَبِي بكر إلى مكة وجواره له
(1) برك الغماد: موضع بناحية اليمن مما يلي ساحل البحر، وقال ابن فارس: بضم الغين، وقيل: موضع بأقاضي هجر وقيل وراء مكة بخمس ليال.
(2)
ابن الدغنة: ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة السلمي، سمي باسم امه - الدغنة - شهد حنينا ثم قدم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بني تميم.
(*)
كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، إِلَى قَوْلِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ.
قَالَتْ والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بِمَكَّةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ: " إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ: وَهُمَا الْحَرَّتَانِ.
فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ قِبَلَ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ - وَهُوَ الْخَبَطُ - (1) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَفَهُمَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي حَرِّ (2) الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [مقبلاً](3) مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ.
قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَخْرِجْ
مَنْ عِنْدَكَ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: فإنَّه قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ.
فَقَالَ أبو بكر: الصحبة بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:" نَعَمْ "! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالثَّمَنِ (4) .
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجَهَازِ فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ (5) .
قَالَتْ ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَمَكَثَا (6) فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيَدْلِجُ (7) مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، لَا يَسْمَعُ أمراً يكادان بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فهيرة مولى أبي بكر
(1) كذا في الاصل، وفي النهاية لابن الأثير: السمر بضم الميم ضرب من شجر الطلح، وأما الخبط فهو ضرب الشجرة لتناثر ورقها.
(2)
في دلائل البيهقي: نحر الظهيرة: أي في أول وقت الحرارة، وهي المهاجرة، ويقال أول الزوال، وهو أشد ما يكون من حر النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها.
(3)
من البيهقي.
(4)
بالثمن: أي لا آخذها إلا بالثمن، وفي رواية ابن إسحاق: لا أركب بعيراً ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعته، قال: أخذته بكذا وكذا، قال: هو لك.
وفي رواية الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر: قال بثمنها.
وقد تقدم عن الواقدي ان ثمنها ثمانمائة اشتراها من نعم بني قشير.
فأخذ إحداهما وهي القصواء.
وأخرج ابن حبان: أنها الجذعاء.
(5)
النطاق: كل شئ شددت به الوسط، وسميت ذات النطاقين: لانها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان، تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر الزاد لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الغار.
(6)
في البخاري والبيهقي: فكمنا.
(7)
يدلج: يخرج بالسحر، يقال أدلج: إذا سار في أول الليل، وادلج: إذا سار في آخره.
(*)
مِنْحَةً (1) مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ يَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعَشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ - وَهُوَ لبن منحتهما ورضيعهما - حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ.
وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدئل وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا (2) - وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثِ لَيَالٍ.
وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ (3) .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ.
يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلَجٍ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ.
فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ.
قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً (4) ثُمَّ قمت فدخلت [بيتي](5) فَأَمَرَتْ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسُهَا عليَّ، وَأَخَذَتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَخَطَطْتُ بِزُجِّهِ (6) الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بِي (7) حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدَيَّ إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الأزلام فجعل فرسي يقرب بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا فأهويت، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا غُبَارٌ (8) سَاطِعٌ فِي السَّماء مِثْلُ الدُّخان، فَاسْتَقْسَمَتُ الْأَزْلَامَ فخرج الذي أكره،
(1) منحة من غنم، أي غنم فيها لبن، وقد تقع المنحة على الهبة مطلقا لا قرضا ولا عارية.
(2)
قال الخطابي: الخريت مأخوذ من خرت الابرة كأنه يهتدي لمثل خرتها من الطريق، وخرت الابرة بالضم ثقبها، قال الكسائي: خرتنا الارض إذا عرفناها ولم تخف علينا طرقها.
وقال ابن الأثير في النهاية: الخريت الماهر الذي
يهتدي لآخرات المفازة، وهي طرقها الخفية.
(3)
أخرجه البخاري بطوله في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرج جزءا منه في كتاب الصلاة، وفي كتاب الاجارة وفي كتاب الكفالة..وفي مواضع أخر مقاطع مختصرة.
(4)
وفي رواية البيهقيّ: ثم قل ما لبث في المجلس.
(5)
من البيهقي.
(6)
الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(7)
في البيهقي: فركبتها فرفعتها تقرب.
والتقريب: السير دون العدو، وفوق العادة، وقيل: إن ترفع الفرس بديها (بيديها) معا، وتضعهما معا.
(8)
في البيهقي: عثان، وهو الدخان.
(*)
فناديتهم الامان فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نفسي حين لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ (1) أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاس بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ.
فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إلا أن قالا: أَخْفِ عَنَّا.
فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رُقْعَةٍ مَنْ أَدَمٍ.
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (2) .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ سُرَاقَةَ فَذَكَرَ هَذِهِ القصَّة، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي يَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ وَيَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ لَا يَضُرُّهُ.
حَتَّى نَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ.
وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَكُونُ أَمَارَةَ (3) مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ - أَوْ رُقْعَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ - وَذَكَرَ أنَّه جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ (4) مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ:" يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ " فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
جَيِّدٌ.
وَلَمَّا رَجَعَ سُرَاقَةُ جَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا مِنَ الطَّلَبِ إِلَّا ردَّه وَقَالَ: كُفِيتُمْ هَذَا الْوَجْهَ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
جَعَلَ سُرَاقَةُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَا رَأَى وَمَا شَاهَدَ مِنْ أَمْرِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وَمَا كَانَ مِنْ قَضِيَّةِ جَوَادِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا عَنْهُ.
فَخَافَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مَعَرَّتَهُ، وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ سُرَاقَةُ أَمِيرَ بني مدلج ورئيسهم، فكتب أو جَهْلٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَيْهِمْ: بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ * سُرَاقَةَ مستغوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ عَلَيْكُمْ بِهِ أَلَّا يُفَرِّقَ جَمْعَكُمْ * فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عزٍ وَسُؤْدُدِ قَالَ: فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ أَبَا جَهْلٍ فِي قَوْلِهِ هَذَا: أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا * لِأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ عَجِبْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ محمداً * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه (5)
(1) في البيهقي: عنهما، والرواية بالمثنى.
(2)
أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ ح 3906.
ورواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 486 - 487.
(3)
في ابن هشام: آية.
(4)
الجعرانة: بكسر أوله: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب.
(5)
في السهيلي: علمت بدل عجبت، ببرهان: بدلا من وبرهان.
(*)
عليك فكف الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي * إِخَالُ لَنَا يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ (1) بِأَمْرٍ تودَّ النَّصْرَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ * وَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا مُسَالِمُهْ (2) وَذَكَرَ هَذَا الشِّعْرَ الأموي في مغازيه بسنده عن أبي إِسْحَاقَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَادَ فِي شعر أبي جهل أَبْيَاتًا تَتَضَمَّنُ كُفْرًا بَلِيغًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تجاراً قافلين من الشام [إلى مكة](3) ، فكسى الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى (4) رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ (5) بِهِمُ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أن قال بأعلا صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ (6) هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ (7) مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ.
فَعَرَفَ النَّاس رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ (8) عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يومئذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ (9) غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
فقال
(1) في الروض الانف: أرى أمره يوماً ستبدو معالمه.
(2)
في الروض: صدره بأمر يود الناس فيه بأسرهم.
(3)
من دلائل البيهقي.
(4)
أوفى: صعد إلى مكان عال وأشرف منه على ما تحته.
(5)
قال ابن حجر، يزول بسبب عروضهم له، وفي رواية: يلوح بهم.
(6)
وفي رواية: يا بني قبلة، وهي جدة الانصار: والدة الاوس والخزرج.
(أنظر شرح المواهب 1 / 350) .
(7)
منهم من يقول لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول، والحديث المعروف لاثنتي عشرة خلت منه، وقيل لثمان خلون وقال أبو سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم: لثلاث عشرة من ربيع الأول، وهذا يجمع
بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.
وعن عبد الرحمن بن عويم قَالَ: وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لبث فيهم ثمان عشرة ليلة (البيهقي 2 / 512) .
(8)
في رواية البيهقيّ: ثلاث ليال.
وفي ابن سعد: أربع عشرة ليلة.
وفي البيهقي عن ابن إسحاق: أقام يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.
(9)
وهما ابنا رافع بن أبي عمرو بن عباد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النجار، وفي البيهقي أنهما كانا في حجر معاذ = (*)
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: " هَذَا إِنْ شَاءَ الله المنزل "، ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا (1) .
ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا.
فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: لا هم إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجره (2) فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ دُونَ مُسْلِمٍ (3) ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ وَلَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَلْنَذْكُرْ هُنَا مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مُرَتَّبًا أَوَّلًا فَأَوَّلًا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو سَعِيدٍ الْعَنْقَزِيُّ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ.
قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ سَرْجًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى مَنْزِلِي.
فَقَالَ: لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتَ مَعَهُ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَرَجْنَا فَأَدْلَجْنَا فَأَحْثَثْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ
الظَّهِيرَةِ، فَضَرَبْتُ بَصَرِي هَلْ أَرَى ظِلًّا نَأْوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ فأهويت إليها فإذا بقية
= ابن عفراء وقد شهد سهيل بدرا والمشاهد كلها ومات في خلافة عمر، ولم يشهد سهل بدرا وشهد غيرها ومات قبل أخيه سهيل.
وقال الواقدي: عن الزهري: كانا في حجر أسعد بن زرارة.
وفي سيرة ابن هشام: قال معاذ: هما يتيمان لي.
وفي رواية أخرى عنده: وهما في حجر معاذ بن عفراء.
(1)
في رواية البيهقيّ: قال معاذ بن عفراء: سأرضيهما منه فاتخذه مسجداً، وقال قائلون: اشتراه.
وقال الواقدي: ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك.
(2)
وفي السيرة لابن هشام: وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ: لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ * اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ قال ابن هشام: هذا كلام وليس برجز.
ويقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار.
(3)
أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فتح الباري 7 / 239 وانظر في بناء هذا المسجد: طبقات ابن سعد 1 / 239 سيرة ابن هشام: 2 / 141 صحيح البخاري الجزء الاول.
الطبري تاريخه 2 / 395 وابن عبد البر في الدرر (88) وسبل الهدى 3 / 485 ونهاية الارب للنويري 16 / 344 وغيرها كثير.
(*)
ظِلِّهَا، فَسَوَّيْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَرَشْتُ لَهُ فَرْوَةً وَقُلْتُ اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ خَرَجْتُ أَنْظُرُ هَلْ أَرَى أَحَدًا مِنَ الطَّلَبِ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ - فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ نَعَمْ! قُلْتُ هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ نَعَمْ! فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْهَا ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ كَفَّيْهِ مِنَ الْغُبَارِ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَحَلَبَ لي كثبة (1) من اللبن فصببت عَلَى الْقَدَحِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَافَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ هَلْ آنَ الرَّحِيلُ؟ فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ
مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا؟ قَالَ:" لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله معنا " حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ - أَوْ رُمْحَيْنِ أَوْ قَالَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا؟ وَبَكَيْتُ، قَالَ لِمَ تَبْكِي؟ [قُلْتُ] أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ.
فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بما شئت " فسلخت قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ وَوَثَبَ عَنْهَا وَقَالَ: يَا محمَّد قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ فادعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي بِمَوْضِعِ كَذَا وكذا فخذ منها حاجتك.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا حاجة لي فيها " وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُطْلِقَ وَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ حتى قدمنا المدينة [ليلا] (2) وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الأناجير (3) وَاشْتَدَّ الْخَدَمَ وَالصِّبْيَانَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ: اللَّهُ أكبر جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَ مُحَمَّدٌ، قَالَ وَتَنَازَعَ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنْزِلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِأُكْرِمَهُمْ بِذَلِكَ " فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا حَيْثُ أُمِرَ.
قَالَ الْبَرَاءُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى أَحَدُ بَنِي فِهْرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، فَقُلْنَا مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ هُوَ عَلَى أَثَرِي، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ.
قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَمْ يَقْدَمْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَرَأَتُ سُوَرًا من المفصل (4) أخرجاه في الصحيحين
(1) الكثبة: كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك، والجمع كتب (أنظر النهاية) .
(2)
من دلائل البيهقي.
(3)
الاناجير: في النهاية الاناجير والاجاجير: يعني السطوح.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده 1 / 2 - 3 ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ 1 / 239 والبيهقي 2 / 483 و 503 و 504 وعنهم الصالحي في السيرة الشامية 3 / 345 والبخاري في 63 كتاب 45 باب ح 24 - 39 وفي 66 كتاب 6 باب فتح الباري 7 / 7 و 7 / 259 ومسلم في 53 كتاب الزهد 19 باب 4 / 2310 ح 75.
وأشار المزي في تحفة الاشراف 2 / 55 أن النسائي أخرجه في سننه عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد.
(*)
مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِدُونِ قَوْلِ الْبَرَاءِ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا إِلَخْ.
فَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ وَسَكَنَ عَنْهُمَا النَّاسُ، أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا (1) فَلَمَّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عِصَامًا ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِهِ.
فَكَانَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إني لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي " قَالَ: فَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي.
قَالَ: " لَا وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتَهَا بِهِ " قَالَ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: " أَخَذْتُهَا بِذَلِكَ " قَالَ هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ الْقَصْوَاءَ، قَالَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَهِيَ الْجَدْعَاءُ وَهَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا الْجَدْعَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إسحق: فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا، وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خَلْفَهُ، لِيَخْدِمَهُمَا فِي الطَّرِيقِ فَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ أتانا نفر من قريش منهم أَبُو جَهْلٍ فَذَكَرَ ضَرْبَهُ لَهَا عَلَى خَدِّهَا لَطْمَةً طَرَحَ مِنْهَا قُرْطَهَا مِنْ أُذُنِهَا كَمَا تقدم.
قال: فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ مَا نَدْرِي أَيْنَ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ، وَإِنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى خرج من أعلا مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ ربُّ النَّاسِ خيرَ جزائِهِ * رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أمَّ معْبدِ هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ ثُمَّ تروَّحا * فأفلحَ منْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ * وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا أَرْبَعَةً، رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وعامر بن فهيرة مولى أبي
(1) العصام: ما تعلق بن السفرة وغيرها.
(*)
بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ (1) كَذَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْمَشْهُورُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ الدئلي.
وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ (2) ، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا (3) ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرَّارَ (4) ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا لَقْفًا (5) ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مُدْلَجَةَ لَقْفٍ، ثُمَّ استبطن بهما مدلجة محاج (6) ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِجَاجٍ، ثُمَّ تَبَطَّنَ بهما مرجح من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد (7) ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجُدَاجِدِ (8) ، ثُمَّ عَلَى الْأَجْرَدِ (9) ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا سَلَمٍ، مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلَجَةِ تِعْهِنَ (10) ، ثُمَّ عَلَى الْعَبَابِيدِ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا الْقَاحَةَ.
ثُمَّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّداء - إِلَى المدينة وبعث معه غلاماً يقال له مسعود بن هنيدة، خرج بهما [دليلهما من العرج فسلك بها ثَنِيَّةَ الْعَائِرِ عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ - وَيُقَالُ ثَنِيَّةُ الْغَائِرِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِيمٍ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا](11) قُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ نَحْوًا مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ، وَخَالَفَهُ فِي بعضها والله
علم قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بْنِ مُوسَى الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنِي أَخِي مُوسَى بْنُ عبادة حدثني عبد الله بن سيار، حدثني
(1) في ابن هشام: أرقط.
وقد تقدم التعليق عليه.
(2)
أمج: بلد من أعراض المدينة، وقيل واد يأخذ من حرة بني سليم.
(معجم البلدان) .
(3)
قديد: اسم موضع قرب مكة، وفي معجم ما استعجم: أن هذه القرية سميت قديدا لتقدد السيول بها، وهي لخزاعة.
(4)
الخرار: موضع بالحجاز، وقيل واد أو ماء في المدينة (معجم البلدان) .
(5)
لقف: ماء وآبار كثيرة، وقيل واد من ناحية السوارقية على فرسخ.
(6)
مجاج: قال ياقوت والصحيح عندنا غير ذلك - قال الزبير بن بكار: وهو مجاح بفتح الميم.
(7)
كشد: كذا بالاصل، وفي ياقوت كشر.
بين مكة والمدينة.
(8)
جدا جد: يجوز أن يكون جمع جدجد، وهي البئر القديمة، وهي هنا الارض المستوية الصلبة.
(معجم البلدان) .
(9)
الاجرد: اسم جبل من جبال القبلية، قال نصر: بين المدينة والشام (معجم البلدان) .
(10)
تعهن: اسم عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة.
(11)
ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من سيرة ابن هشام.
(*)
إِيَاسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَرُّوا بِإِبِلٍ لَنَا بِالْجُحْفَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لِمَنْ هَذِهِ الْإِبِلُ؟ " فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ:" سَلِمْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ مَسْعُودٌ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ:" سَعِدْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
قَالَ فَأَتَاهُ أَبِي فَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الرِّدَاءِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خرج مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنْ بَيْنَ خُرُوجِهِ عليه السلام مِنْ مَكَّةَ وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
لِأَنَّهُ أَقَامَ بِغَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّام، ثمَّ سَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ وَاجْتَازَ فِي مُرُورِهِ عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ بِنْتِ كَعْبٍ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ خُزَاعَةَ، قال ابْنُ هِشَامٍ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: هِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ تَبِيعٍ حَلِيفِ بَنِي مُنْقِذِ بْنِ ربيعة بن أصرم بن صنبيس (2) بن حرام بن خيسة بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، وَلِهَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْوَلَدِ مَعْبَدٌ وَنَضْرَةٌ وَحُنَيْدَةُ بَنُو أَبِي مَعْبَدٍ، واسمه أكتم (3) بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس، وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرْقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَهَذِهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ: قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ واسمها عاتكة بنت خلف (4) بن معبد بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ فَأَرَادُوا الْقِرَى فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ وَلَا لَنَا مِنْحَةٌ وَلَا لَنَا شَاةٌ إِلَّا حَائِلٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ غَنَمِهَا فَمَسَحَ ضَرْعَهَا بِيَدِهِ وَدَعَا اللَّهَ، وَحَلَبَ فِي الْعُسِّ حَتَّى أَرْغَى وَقَالَ:" اشْرَبِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ " فَقَالَتْ: اشْرَبْ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ فَرَدَّهُ عَلَيْهَا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِهَا فَشَرِبَهُ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى دَلِيلَهُ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى عَامِرًا، ثُمَّ تَرَّوَحَ.
وَطَلَبَتْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغُوا أُمَّ مَعْبَدٍ فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالُوا: أَرَأَيْتِ محمداً من حليته كذا كذا؟ فَوَصَفُوهُ لَهَا.
فَقَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ، قدمنا فتى حَالِبُ الْحَائِلِ.
قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَذَاكَ الَّذِي نُرِيدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ، بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَبِي عن أبيه عن جابر.
قال: لما
(1) في ابن سعد ضبيس وفي الاصابة خبيس.
قال السهيلي: اسمها عاتكة بنت خلد إحدى بني كعب من خزاعة وهي أخت حبيش بن خلد، وخلد الاشعر أبوهما هو بن خنيف بن منقد بن ربيعة بن أصرم بن ضمبيس بن عرم بن حبشية بن كعب بن عمرو.
وذكرها ابن سعد قال: عاتكة بنت خالد بن خليف بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضبيس بن حرام..من خزاعة: (2) في ابن سعد: اسمه تميم، وهو ابن عمها عبد العزى وذكر تمام نسبهما وكان منزلهما بقديد.
(3)
في البيهقي: خالد بن منقذ بن ربيعة.
(*)
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرَيْنِ فَدَخَلَا الْغَارَ، إِذَا فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَهُ أَبُو بَكْرٍ عَقِبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منه شئ.
فَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى نَزَلَا بِخَيْمَاتِ أُمِّ مَعْبَدٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ مَعْبَدٍ إِنِّي أَرَى وُجُوهًا حِسَانًا، وَإِنَّ الْحَيَّ أَقْوَى عَلَى كَرَامَتِكُمْ مِنِّي، فَلَمَّا أَمْسَوْا عِنْدَهَا بَعَثَتْ مَعَ ابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ بِشَفْرَةٍ وَشَاةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أردد الشفرة وهات لنا فَرَقًا " يَعْنِي الْقَدَحَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ لَا لبن فيها ولا ولد.
قال هات لنا فَرَقًا فَجَاءَتْ بِفَرَقٍ فَضَرَبَ ظَهْرَهَا فَاجْتَرَّتْ وَدَرَّتْ فَحَلَبَ فَمَلَأَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثم حلب فبعث فيه إِلَى أُمِّ مَعْبَدٍ.
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ عَنْهُ إِلَّا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي النَّسَبِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ثنا عبد الرحمن بن الْأَصْبَهَانِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بكر الصديق [رضي الله عنه] .
قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ فَانْتَهَيْنَا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتٍ مُنْتَحِيًا فَقَصَدَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! إنَّما أَنَا امْرَأَةٌ وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ، فَعَلَيْكُمَا بِعَظِيمِ الْحَيِّ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقِرَى، قَالَ فَلَمْ يُجِبْهَا وَذَلِكَ عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز [لها] يَسُوقُهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْعَنْزِ وَالشَّفْرَةِ إِلَى هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَقُلْ لَهُمَا تَقُولُ لَكُمَا أُمِّي: اذْبَحَا هَذِهِ وَكُلَا وَأَطْعِمَانَا، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:" انْطَلِقْ بِالشَّفْرَةِ وَجِئْنِي بِالْقَدَحِ " قَالَ إِنَّهَا قَدْ عَزَبَتْ وَلَيْسَ بِهَا لَبَنٌ، قَالَ انْطَلَقْ، [فانطلق] فَجَاءَ بِقَدَحٍ فَمَسَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَرْعَهَا، ثُمَّ حَلَبَ حَتَّى مَلَأَ الْقَدَحَ، ثمَّ قَالَ: انْطَلَقَ بِهِ إِلَى أُمِّكَ، فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَقَالَ: انْطَلِقْ بِهَذِهِ وَجِئْنِي بِأُخْرَى.
فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ ثُمَّ سَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ بِأُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم [قال] فَبِتْنَا لَيْلَتَنَا، ثُمَّ انْطَلَقْنَا.
فَكَانَتْ تُسَمِّيهِ الْمُبَارَكَ.
وَكَثُرَتْ غَنَمُهَا حَتَّى جَلَبَتْ جَلْبًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فمر أبو بكر فرأى
ابْنُهَا فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: يَا أمَّه هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُبَارَكِ.
فَقَامَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ؟ قَالَ أَوْ مَا تَدْرِينَ مَنْ هُوَ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ.
قَالَتْ: فَأَدْخِلْنِي عَلَيْهِ.
قَالَ: فَأَدْخَلَهَا فَأَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَاهَا - زَادَ ابْنُ عَبْدَانِ (1) فِي رِوَايَتِهِ - قَالَتْ فَدُلَّنِي عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَتْ مَعِي وَأَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَمَتَاعِ الْأَعْرَابِ.
قَالَ فَكَسَاهَا وَأَعْطَاهَا.
قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ وَأَسْلَمَتْ (2) .
إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ والله أعلم (3) .
وقال
(1) أحد إسناد رواية البيهقي.
واسمه أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ.
(2)
قال الواقدي وغيره أنها تأخرت في إسلامها وبيعتها إلى أيام عمر بن الخطاب، وكان ذلك بعد سنة ثماني عشرة (الطبقات 8 / 289) .
(3)
دلائل البيهقي 2 / 491 - 492 وقال: وقد ذكر ابن إسحاق من قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه واحدة.
= (*)
الْبَيْهَقِيُّ (1) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي.
قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ بِشْرُ (2) بْنُ مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيُّ ثَنَا أبجر بن الصباح (3) عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةَ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ، فَمَرُّوا بِخَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ امْرَأَةً بَرْزَةً (4) جَلْدَةً تَحْتَبِي وَتَجْلِسُ بِفَنَاءِ الْخَيْمَةِ (5) فَتُطْعِمُ وتسقي، فسألوها هل عندها لحم أو لين (لَبَنٌ) يَشْتَرُونَهُ مِنْهَا؟ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا من ذلك.
وقالت: لو كان عندنا شئ ما أعوذكم الْقِرَى، وَإِذَا الْقَوْمُ مُرْمِلُونَ مُسْنِتُونَ (6) .
فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا شَاةٌ فِي كَسْرِ خَيْمَتِهَا، فَقَالَ:" مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ " فَقَالَتْ شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ.
قَالَ: فَهَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ " قَالَتْ هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ تَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا؟ قَالَتْ إِنْ كَانَ بِهَا حَلْبٌ فَاحْلُبْهَا.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالشَّاة فَمَسَحَهَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَمَسَحَ ضَرْعَهَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا يُرْبِضُ الرَّهْطَ فَتَفَاجَّتْ وَاجْتَرَّتْ فَحَلَبَ فِيهَا ثجا حتى
ملأه (7) فَسَقَاهَا وَسَقَى أَصْحَابَهُ فَشَرِبُوا عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ، حَتَّى إِذَا رَوُوْا شَرِبَ آخِرَهُمْ وَقَالَ " سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ " ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فَغَادَرَهُ عِنْدَهَا ثُمَّ ارْتَحَلُوا قَالَ فقلما لَبِثَ أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعَنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ (8) هَزْلَى لَا نِقَي بِهِنَّ، مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ عَجِبَ وَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ وَلَا حَلُوبَةَ فِي الْبَيْتِ والشاء عازب (9) ؟ فقالت: لا والله
= وانظر الروض الآنف 2 / 8 وشرح السيرة لابي ذر 1 / 126 والسيرة الشامية 3 / 350.
(1)
في دلائل البيهقي - باب حديث أم معبد - روى البيهقي حديثا طويلا من طرق ثلاث كلها عن حبيش بن خالد أخو عاتكة - أم معبد ج 1 / 277 - 278 ولم يرد في روايته من طريق أبي معبد، ولعل ابن كثير وهم في إسناد هذه الرواية إلى البيهقي، والرواية التالية - والتي رواها ابن سعد في الطبقات 1 / 230 عن أبي معبد قريبة جدا من رواية البيهقي.
(2)
في ابن سعد: محمد بن بشر بن محمد السكري.
(3)
في ابن سعد: الحر بن الصياح.
(4)
امرأة برزة: يريد أنها خلا لها سن فهي تبرز، ليست بمنزلة الصغيرة المحجوبة، والبرزة إذا كانت كهلة لا تحجب احتجاب الشواب وهي مع ذلك عاقلة تجلس للناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور.
(5)
كذا في الاصل وابن سعد وفي رواية البيهقيّ: القبة.
(6)
مرملون: أصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل، يريد قد نفد زادهم.
مسنتون، وتروى مشتون أي دخلوا في الشتاء.
ومسنتون: أي داخلون في السنة وهي الجدب والمجاعة.
(7)
هكذا في الاصل حتى ملاه، وفي الكلام نقص، وفي ابن سعد: حتى عليه الثمال.
وفي البيهقي: حتى علاه البهاء: أي بهاء اللبن، وهو وبيص رغوته، يريد أنه ملاها.
(8)
في ابن سعد: ما تساوق.
والتساوك: السير الضعيف، وقيل رداءة المشي قال الازهري: تقول العرب: جاءت الغنم تساوك: أي تتمايل من الهزال والضعف في مشيها.
(9)
الشاء العازب: أي بعيدة عن المرعى لا تأوي المنزل في الليل.
إنَّه مرَّ بنا رجل ملوك كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ.
فَقَالَ صِفِيهِ لي فوالله إني لا راه صَاحِبَ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ.
فَقَالَتْ رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ.
حَسَنَ الْخُلُقِ مَلِيحَ (1) الْوَجْهِ لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ (2) وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ قَسِيمٌ وَسِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ (3) ، وفي صوته صحل (4) .
أحول أَكْحَلُ أَزَجُّ أَقْرَنُ فِي عُنُقِهِ سَطَعٌ وَفِي لحيته كثاثة.
إِذَا صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِذَا تكلَّم سَمَا وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ، فَصْلٌ، لَا نَزْرٌ ولا هذر (5) كأن منطقه خرزات نظم ينحدرون، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب.
ربعة لا تنساه (6) عَيْنٌ مِنْ طُولٍ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ (7) عَيْنٌ مَنْ قصر، غصن بين غصنين، فهو أنصر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قداً (8) له رفقاء يجفون بِهِ إِنْ قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا لِأَمْرِهِ.
مَحْفُودٌ (9) مَحْشُودٌ، لَا عَابِسٌ وَلَا معتد (10) فَقَالَ يَعْنِي بَعْلَهَا: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ، وَلَوْ صَادَفْتُهُ لَالْتَمَسْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، ولا جهدن إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، قَالَ وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَقُولُ وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ ربُّ النَّاسِ خيرَ جزائِهِ * رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أمَّ معْبدِ (11) هُمَا نَزَلَا بالبرِّ وَارْتَحَلَا بهِ (12) * فأفلحَ منْ أَمْسَى رفيق محمد
(1) في ابن سعد: متبلج الوجه، وفي البيهقي: أبلج الوجه.
(2)
وفي البيهقي: نحلة.
والثجلة: أي ضخم البطن.
والنحلة والنجلة: بمعنى: الدقة والضمر والنحول.
وصعلة: صغر الرأس.
(3)
في البيهقي عطف، قال القتيبي: سألت عنه الرياشي فقال: لا أعرف العطف.
وأحسبه قال غطف: وهو أن تطول الاشغار ثم تنعطف، وقال: وتروى وطف: وهو الطول.
(4)
صهل، كما في ابن سعد وفي البيهقي صهل.
هما واحد: أي كالبحة وهو أن لا يكون حادا.
(5)
فصل لانزر ولا هذر: أي وسط ليس بقليل ولا كثير.
(6)
في ابن سعد: ربعة لا تنشؤه من طول.
وفي البيهقي: ربعة لا بأس من طول: يحتمل أن يكون معناه: إنه
ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه عند مطاولته، ويحتمل أن يكون تصحيفا، قال البيهقي: وأحسبه: لا بائن من طول.
(7)
لا تقتحمه عين من قصر: لا تحتقره ولا تزدريه.
(8)
في ابن سعد والبيهقي: قدرا.
(9)
محفود: مخدوم، محشود: من حشد: أي إذا أردت أنك أعددت له وجمعت.
وقيل: حشده أصحابه: أطافوا به.
(10)
في ابن سعد: لا عابث ولا مفند، وفي البيهقي: لا عابس ولا مفند.
(11)
في البيهقي: قالا مكان حلا: من القيلولة.
(12)
في البيهقي: هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز.
فيالِ قصيٍ مَا زَوَى اللهُ عَنْكُمُ * بهِ مِنْ فعالٍ لَا تجُارى وسؤْدُدِ (1) سلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا * فَإِنَّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشَّاة تشهدِ دَعَاهَا بشاةٍ حائلٍ فتحلَّبتْ * لهُ بصريحٍ ضرَّة الشَّاة مربد فَغَادَرَهُ رَهْنًا لَدَيْهَا لحالبٍ * يدرَّ لَهَا فِي مصدرٍ ثمَّ مَوْرِدِ (2) قَالَ وَأَصْبَحَ النَّاسُ - يَعْنِي بِمَكَّةَ - وَقَدْ فَقَدُوا نبيَّهم، فَأَخَذُوا عَلَى خَيْمَتَيْ أمَّ معْبدِ حَتَّى لَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ (3) * وقد سر (4) مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَزَالَتْ عُقُولُهُمْ * وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ [هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد](5) وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا * عَمًى وَهُدَاةٌ يَهْتَدُونَ بِمُهْتَدِ؟ نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ * وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ (6) وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ * فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ (7)
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جَدِّهِ * بِصُحْبَتِهِ، مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ وَيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ * وَمَقْعَدُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَرْصَدِ (8) قَالَ - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ وَهْبٍ - فَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا (9) مَعْبَدٍ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيِّ فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ مَعْبَدٍ هَاجَرَتْ وَأَسْلَمَتْ وَلَحِقَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَوَاهُ أبو نعيم (10) من
= وفي ابن هشام: هما نزلا بالبرِّ ثم تروحا.. (13) في ابن سعد: لا يجازى بدلا من لا تجارى.
(1)
في البيهقي: فغادرها بدلا من فغادره.
ويرددها بدلا من يدر لها وفي ابن سعد: تدر بها.
(2)
في ابن سعد والسهيلي: غاب بدل زال.
(3)
في ابن سعد والبيهقي وأبي ذر: وقدس: بمعنى طهر.
(4)
سقط من الاصل واستدرك من البيهقي.
(5)
في البيهقي: مسجد بدل مشهد.
وقبله: وقد نزلت منه على أهل يثرب * ركاب هدى حلت عليهم بأسعد (6) عجزه في ابن سعد: فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد.
(7)
في البيهقي: مقام بدل مكان.
وللمؤمنين بدل للمسلمين.
(8)
في ابن سعد: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ مَعْبَدٍ هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأسلمت.
(9)
ورواه البيهقي من نفس طرق أبي نعيم: وأسانيده: مكرم بن محرز وليس بكر بن محرز.
وحزام بن هشام بدلا من حرام.
(*)
طرق عن بكر بن محرز الكلبي الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ مُحْرِزِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ حرام بن هشام عن (2) حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ
أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَدَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ فَمَرُّوا بِخَيْمَةِ (2) أُمِّ مَعْبَدٍ وَكَانَتِ امْرَأَةً بَرْزَةً جَلْدَةً تَحْتَبِي بِفِنَاءِ الْقُبَّةِ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءً.
قَالَ وَحَدَّثْنَاهُ - فِيمَا أَظُنُّ - مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى - يَعْنِي الْكُدَيْمِيَّ - ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَوْلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَلِيطٍ الْأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ سَلِيطٍ الْبَدْرِيِّ.
قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَابْنُ أُرَيْقِطٍ يَدُلُّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، مَرَّ بِأُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ فَقَالَ لَهَا:" يَا أُمَّ مَعْبَدٍ هَلْ عِنْدَكِ مِنْ لَبَنٍ؟ " قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِنَّ الْغَنَمَ لَعَازِبَةٌ قَالَ فَمَا هَذِهِ الشَّاةُ؟ قَالَتْ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ كُلَّهَا وَاحِدَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً شَبِيهَةً بِقِصَّةِ شَاةِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ فَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ - إِمْلَاءً - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، ثَنَا أَبُو الوليد، ثنا عبد اللَّهِ (3) بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، ثَنَا إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ.
قَالَ لَمَّا انْطَلَقَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مُسْتَخْفِينَ، مَرُّوا بِعَبْدٍ يَرْعَى غَنَمًا، فَاسْتَسْقَيَاهُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَاةٌ تُحْلَبُ، غير أن ههنا عَنَاقًا حَمَلَتْ أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وَقَدْ أَخْدَجَتْ (4) وَمَا بقي لها من لَبَنٌ، فَقَالَ ادْعُ بِهَا، فَدَعَا بِهَا فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ ضَرْعَهَا وَدَعَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمِجَنٍّ فَحَلَبَ فَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَسَقَى الراعي، ثم جلس فَشَرِبَ.
فَقَالَ الرَّاعِي: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَاللَّهِ ما أريت مِثْلَكَ قَطُّ.
قَالَ: أَوَ تُرَاكَ تَكْتُمُ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ صَابِئٌ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ ذَلِكَ.
قَالَ: فإني أشهد أنَّك نَبِيٌّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ إِلَّا نَبِيٌّ وَأَنَا مُتَّبِعُكَ.
قَالَ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنَا.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ جعفر بن حميد الكوفي عن عبد اللَّهِ بْنِ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ بِهِ.
وَقَدْ ذكر أبو نعيم ههنا قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى
غَنَمًا لِعُقْبَةَ (5) بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ - وَقَدْ فرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - فَقَالَ: " يا
(1) من البيهقي: وفي الاصل بن وهو تحريف.
(2)
في البيهقي: على خيمتي أمَّ معْبدِ.
(3)
في دلائل البيهقي ج 2 / 497: عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ.
(4)
في البيهقي أخرجت.
وخدجت: ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجت: ولدته ناقص الخلق وإن كان لتمام الحمل.
(5)
من البيهقي وابن سعد.
وفي الاصل عتبة وهو تحريف.
(*)
غُلَامُ عِنْدَكَ لَبَنٌ تَسْقِينَا؟ " فَقُلْتُ إِنِّي مُؤْتَمَنٌ وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا، فَقَالَا هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ بَعْدُ؟ قُلْتُ نَعَمْ! فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الضَّرْعَ فَدَعَا فحفل الضرع، وجاء أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُتَقَعِّرَةٍ فَحَلَبَ فِيهَا.
ثُمَّ شَرِبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَسَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ للضرع: أقلص أقلص.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، أَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: علِّمني مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ - يَعْنِي الْقُرْآنَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّك غُلَامٌ معلَّم " فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ (1) .
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَقَدْ فرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّتُهُ هَذِهِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بمن مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ الزَّبِيرِيُّ - حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فَائِدٍ مَوْلَى عَبَادِلَ قَالَ خَرَجْتُ مع [إِبْرَاهِيمَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ربيعة فأرسل] إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ أَتَى ابْنُ سَعْدٍ - وَسَعْدٌ هُوَ الَّذِي دلَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ رَكُوبَةَ (2) - فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ] أَخْبِرْنِي] مَا حدَّثك أَبُوكَ؟ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُمْ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ عِنْدَنَا بِنْتٌ مُسْتَرْضَعَةٌ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الِاخْتِصَارَ في الطريق إلى المدينة، فقال لها سَعْدٌ: هَذَا الْغَائِرُ (3) مِنْ رَكُوبَةَ وَبِهِ
لِصَّانِ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُمَا الْمُهَانَانِ.
فَإِنْ شِئْتَ أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " خُذْ بِنَا عَلَيْهِمَا " قَالَ سَعْدٌ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا إِذَا أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هَذَا الْيَمَانِيُّ.
فَدَعَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَا، ثُمَّ سَأَلَهُمَا عَنْ أَسْمَائِهِمَا فَقَالَا: نَحْنُ الْمُهَانَانِ.
فَقَالَ: " بَلْ أَنْتُمَا الْمُكْرَمَانِ " وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقْدَمَا عَلَيْهِ المدينة فخرج [نا] حتَّى إِذَا أَتَيْنَا ظَاهِرَ قُبَاءَ فَتَلَقَّاهُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيْنَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ.
إِنَّهُ أَصَابَ قِبْلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُهُ ذَلِكَ؟ ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا طَلَعَ عَلَى النَّخْلِ فَإِذَا الشَّرْبُ مَمْلُوءٌ، فالتفتَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا الْمَنْزِلُ.
رَأَيْتُنِي أَنْزِلُ إِلَى حِيَاضٍ كَحِيَاضِ بَنِي مدلج " انفرد به أحمد (4)
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 171، والامام أحمد في مسنده 1 / 379 والفسوي في المعرفة والتاريخ 2 / 537.
(2)
من مسند أحمد ج 4 / 74 وفي الاصل ركونة، وركوبة: ثنية بنى مكة والمدينة عند العرج قرب جبل ورقان.
(3)
من مسند أحمد، وفي الاصل: الغامر.
(4)
أخرجه أحمد في مسند ج 4 / 74.
وما بين معكوفين في الخبر زيادة من المسند (*)