الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَلْطَنَةُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ صَلَاحِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ الملك المظفر حاجي بن الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيِّ وَزَوَالُ دَوْلَةِ عَمِّهِ الملك الناصر حسن بن الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ.
لَمَّا كَثُرَ طَمَعُهُ وَتَزَايَدَ شَرَهُهُ، وَسَاءَتْ سِيرَتُهُ إِلَى رَعِيَّتِهِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَكْسَابِهِمْ، وَبَنَى الْبِنَايَاتِ الْجَبَّارَةَ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَمْلَاكِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَمْوَالِهِ، وَاشْتَرَى مِنْهُ قَرَايَا كَثِيرَةً وَمُدُنَا أَيْضًا وَرَسَاتِيقَ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ جِدًّا، وَلَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَلَا الْوُلَاةِ وَلَا الْعُلَمَاءِ وَلَا الصُّلَحَاءِ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَلَا الْهُجُومِ عَلَيْهِ، وَلَا النَّصِيحَةِ لَهُ بما هو المصلحة لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ فَسَلَّطَ عَلَيْهِ جُنْدَهُ وَقَلَّبَ قُلُوبَ رَعِيَّتِهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَيْهِ، لِمَا قَطَعَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَمَعَالِيمِهِمْ وَجَوَامِكِهِمْ وَأَخْبَازِهِمْ، وَأَضَافَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ إِلَى خَاصَّتِهِ، فَقَلَّتِ الأمراء والاجناء وَالْمُقَدَّمُونَ وَالْكُتَّابُ وَالْمُوَقِّعُونَ، وَمَسَّ النَّاسَ الضَّرَرُ وَتَعَدَّى عَلَى جَوَامِكِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَلَاكَهُ عَلَى يَدِ أَحَدِ خَوَاصِّهِ وَهُوَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيُّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ السُّلْطَانُ مَسْكَهُ فَاعْتَدَّ لِذَلِكَ، وَرَكِبَ السُّلْطَانُ لِمَسْكِهِ فَرَكِبَ هُوَ فِي جَيْشٍ، وَتَلَاقَيَا فِي ظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ حَيْثُ كَانُوا نُزُولًا فِي الْوِطَاقَاتِ، فَهُزِمَ السُّلْطَانُ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ، ولجأ السلطان إلى قلعة الجبل، كلا ولا وزر، وَلَنْ يُنْجِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدْرٍ، فَبَاتَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ مُحْدِقًا بِالْقَلْعَةِ، فَهَمَّ بِالْهَرَبِ فِي اللَّيْلِ عَلَى هُجُنٍ كَانَ قَدِ اعْتَدَّهَا لِيَهْرُبَ إِلَى الْكَرَكِ، فَلَمَّا بَرَزَ مُسِكَ وَاعْتُقِلَ وَدُخِلَ بِهِ إِلَى دَارِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ وَالْمَشُورَةُ مُتَنَاهِيَةً إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ، فَاتَّفَقَتِ الْآرَاءُ وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ وَانْعَقَدَتِ الْبَيْعَةُ للملك المنصور صلاح الدين محمد بن الْمُظَفَّرِ حَاجِّي، وَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ وَضُرِبَتِ السَّكَّةُ، وَسَارَتِ الْبَرِيدِيَّةُ لِلْبَيْعَةِ بِاسْمِهِ الشَّرِيفِ، هَذَا وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، وَقِيلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَمِنَ النَّاسِ من قال ست عشرة، ورسم في عود الْأُمُورِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ وَالِدِهِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَأَنْ يُبْطَلَ جَمِيعُ مَا كَانَ أَخَذَهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ، وَأَنْ تُعَادَ الْمُرَتَّبَاتُ وَالْجَوَامِكُ الَّتِي كَانَ قَطَعَهَا، وأمر بإحضار طار وطاشتمر الْقَاسِمِيِّ مِنْ سِجْنِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ لِيَكُونَا أَتَابَكًا، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ صُحْبَةَ الأمير سيف الدين بزلار شاد التربخاناة أحد أمراء الطبلخانات بِمِصْرَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ الشَّهْرِ، فضربت البشائر بالقلعة وطبلخانات الْأُمَرَاءِ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، وَزُيِّنَ الْبَلَدُ بِكَمَالِهِ، وَأُخِذَتِ البيعة له صبيحة يومه بدار السعادة وخلع عن نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَشْرِيفٌ هَائِلٌ، وَفَرِحَ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنْدُ وَالْعَامَّةُ وللَّه الْأَمْرُ، وَلَهُ الْحَكَمُ. قَالَ تَعَالَى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ من تَشاءُ
وَتُذِلُّ من تَشاءُ 3: 26 الْآيَةَ. وَوُجِدَ عَلَى حَجَرٍ بِالْحِمْيَرِيَّةِ فَقُرِئَتْ لِلْمَأْمُونِ فَإِذَا مَكْتُوبٌ.
مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا
…
دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ
إِلَّا لِنَقْلِ النَّعِيمِ مِنْ مَلِكٍ
…
قَدْ زَالَ سُلْطَانُهُ إِلَى مَلِكِ
وَمُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا
…
لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرَكِ
وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ سَوِيَّ الْخَلْقِ حَسَنَهُ، وَقَدْ لَبِسَ حُلَّةً خَضْرَاءَ، وَهُوَ شَابٌّ مُمْتَلِئٌ شَبَابًا، وَيَنْظُرُ فِي أَعْطَافِهِ وَلِبَاسِهِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى صَرْحَةِ الدَّارِ تَلَقَّتْهُ جِنِّيَّةٌ فِي صُورَةِ جَارِيَةٍ مِنْ حَظَايَاهُ فَأَنْشَدَتْهُ:
أنت نعم لَوْ كُنْتَ تَبْقَى
…
غَيْرَ أَنْ لَا حَيَاةَ للإنسان
ليس فيما علمت فيك عيب
…
يذكر غير أنك فان
فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ الَّذِي فِي جَامِعِ دِمَشْقَ وَخَطَبَ النَّاسَ، وَكَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ يُسْمِعُ أَهْلُ الْجَامِعِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَضَعُفَ صَوْتُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى لَمْ يَسْمَعْهُ أَهْلُ الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ حُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَاسْتَحْضَرَ تِلْكَ الْجَارِيَةِ الَّتِي تَبَدَّتْ تِلْكَ الْجِنِّيَّةُ عَلَى صُورَتِهَا، وَقَالَ: كَيْفَ أَنْشَدْتِينِي تَيْنِكِ الْبَيْتَيْنِ؟ فَقَالَتْ: مَا أَنْشَدْتُكَ شَيْئًا. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ نُعِيَتْ وَاللَّهِ إِلَيَّ نَفْسِي. فَأَوْصَى أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله.
وَقَدِمَ نَائِبُ طَرَابُلُسَ الْمَعْزُولُ عليلا والأمير سيف الدين استدمر الّذي كان نائب دمشق وكانا مقيمان بِطَرَابُلُسَ جَمِيعًا، فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، فَدَخَلَا دَارَ السَّعَادَةِ فَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِمَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ.
وَتَكَامَلَ فِي هَذَا الشَّهْرِ تجديد الرواق غربي باب الناطفانيين إصلاحا بدرابزيناته وَتَبْيِيضًا لِجُدْرَانِهِ وَمِحْرَابٍ فِيهِ، وَجُعِلَ لَهُ شَبَابِيكُ فِي الدَّرَابْزِينَاتِ، وَوُقِفَ فِيهِ قِرَاءَةُ قُرْآنٍ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَذَكَرُوا أَنَّ شَخْصًا رَأَى مَنَامًا فَقَصَّهُ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ فَأَمَرَ بِإِصْلَاحِهِ. وَفِيهِ نَهَضَ بِنَاءُ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِ هَذَا الْمَكَانِ من الشباك، وقد كان أسسها أولا علم الدين بن هِلَالٍ، فَلَمَّا صُودِرَ أُخِذَتْ مِنْهُ وَجُعِلَتْ مُضَافَةً إِلَى السُّلْطَانِ، فَبَنَوْا فَوْقَ الْأَسَاسَاتِ وَجَعَلُوا لَهَا خَمْسَةَ شَبَابِيكَ مِنْ شَرْقِهَا، وَبَابًا قِبْلِيًّا، وَمِحْرَابًا وَبِرْكَةً وَعِرَاقِيَّةً، وَجَعَلُوا حَائِطَهَا بِالْحِجَارَةِ الْبِيضِ وَالسُّودِ، وَكَمَّلُوا عَالِيَهَا بِالْآجُرِّ، وَجَاءَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ حَسَنٌ قَدْ رَسَمَ بِأَنْ تُجْعَلَ مَكْتَبًا لِلْأَيْتَامِ فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهَا حَتَّى قُتِلَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَاشْتَهَرَ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَنَّ بَقَرَةً كَانَتْ تَجِيءُ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الْجَابِيَةِ تَقْصِدُ جِرَاءً لِكَلْبَةٍ قَدْ مَاتَتْ أُمُّهُمْ، وَهِيَ فِي نَاحِيَةِ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ فِي خَرَابَةٍ، فَتَجِيءُ إِلَيْهِمْ فَتَنْسَطِحُ عَلَى شِقِّهَا فَتَرْضَعُ أولئك الجراء