الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب القضاء
القضاء [في اللغة](أ) بالمد في الأصل بمعنى إحكام الشيء والفراغ منه؛ كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (1). وبمعنى إمضاء الأمر؛ كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (2). وبمعنى الحتم والإلزام؛ كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ} (3). وبمعنى إمضاء الحكم، وسمي القاضي حاكما لأنه يمضي الأحكام. وشرعا: هو إلزام ذي الولاية بعد الترافع. وقيل: هو الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة. فخرج الفتيا بقوله: إلزام. إذ لا إلزام من المفتي، وبقيد الترافع يخرج إلزام من له ولاية بأمر شرعي؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقوله: في الوقائع الخاصة. يخرج إلزام مثلًا بوجوب الصوم عموما، وقوله: أو جهة. يدخل فيه القضاء على بيت المال أوله؛ كالحكم بنفقة فقير في بيت المال أو بوجوب الدية، وله كالميراث لبيت المال، ويجوز أن يكون وجه تسميته بالقاضي لإيجابه الحكم على من وجب عليه، وتسميته حاكما لمنعه الظالم من المظلوم، يقال: حكمت الرجل وأحكمته إذا منعته. وسميت حَكَمة الدابة لمنعها [الدابة](أ).
(أ) ساقطة من: ب.
_________
(1)
الآية 12 من سورة فصلت.
(2)
الآية 4 من سورة الإسراء.
(3)
الآية 23 من سورة الإسراء.
والحُكم في اللغة قد استعمل بمعنى المنع ونقل إلى المعنى الشرعي، وهو الخطاب المتناول للأحكام الخمسة؛ لمنعها من فعل القبيح.
1156 -
عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار". رواه الأربعة وصححه الحاكم (1).
وقال الحاكم في "علوم الحديث": تفرد به الخراسانيون ورواته مراوزة. قال المصنف رحمه الله تعالى (2): له [طرق](أ) غير هذه [جمعتها](ب) في جزء مفرد.
1157 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين". رواه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة وابن حبان (3).
(أ) في ب، جـ: طريق. والمثبت من الفتح 13/ 319.
(ب) في ب، جـ: جميعها. والمثبت من الفتح 13/ 319.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الأقضية، باب في طلب القضاء 3/ 297 ح 3573، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي 3/ 613 ح 1322 م، والنسائي في الكبرى، كتاب القضاء، باب ما أعد الله تعالى للحاكم الجاهل 3/ 461، 462 ح 5922، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2/ 776 ح 2315، والحاكم في المستدرك، كتاب الأحكام 4/ 90، وفي علوم الحديث ص 91.
(2)
فتح الباري 13/ 319.
(3)
أحمد 20/ 230، 365، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب في طلب القضاء 3/ 297 =
الحديث معناه التحذير من الدخول في القضاء والحرص عليه، كأنه يقول: من تصدى للقضاء فقد تعرض للذبح، فليحذره وليتوقه.
وقوله: "بغير سكين". يحتمل وجوها؛ أحدها: أن الذبح يكون عرفا وغالب عادته بالسكين، فعدل به عن ظاهر العرف ليعلم أن الخوف هلاك دين من تعرض لذلك. أو أراد أن الذبح [الوَحِيَّ](أ) هو ما يقع بالسكين وفيه خلاص الذبيحة من الألم، فضرب الشارع المثل بذلك ليبعد طالبه عن طلبه والتعرض (ب) لشأنه. وقيل: ذبح ذبحا معنويا، وهو لازم له؛ لأنه إن (جـ) أصاب ورشد فقد أتعب نفسه في الدنيا؛ للوقوف للحق وطلبه واستقصاء ما يجب عليه رعايته في النظر في الحكم، والوقوف مع الخصمين بالتسوية بينهما (هـ في العدل هـ) والقسط، وإن أخطأ في ذلك لزمه عذاب الآخرة، فلا بدَّ له من التعب والنصب. قال أبو العباس أحمد بن القاص: ليس في الحديث كراهية القضاء وذمه، إذ الذبح بغير سكين مجاهدة النفس وترك
(أ) في ب ،جـ: الوجى. والمثبت من سبل السلام 4 /. والوحى: السريع. اللسان (وح ى).
(ب) في جـ: التعريض.
(جـ) ساقطة من: جـ
(هـ - هـ) في جـ: بالعدل. وينظر سبل السلام 4/ 235.
_________
= ح 3571، 3572، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي 3/ 641 ح 1325، والنسائي في الكبرى، كتاب القضاء، باب التغليظ في الحكم 3/ 462 ح 5923 - 5926، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب ذكر القضاة 2/ 774 ح 2308.
الهوى، والله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} (1). وقد جاء في حديث أبي هريرة: "عليك بطريق قوم إذا فزع الناس أمِّنُوا". قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم قوم تركوا الدنيا فلم يكن في قلوبهم ما يشغلهم عن الله، قد أجهدوا أبدانهم، وذبحوا نفوسهم في طلب رضا الله" الحديث. فذكر من صفات هؤلاء الموصِي بمتابعتهم ذبح النفوس، فدل ذلك على عظم ما بذلوا نفوسهم لتحصيله وأنهكوها في رضا الله سبحانه، حتى صارت كأنها مذبوحة، فالحاكم المجتهد في إنفاذ ما (أ) أمر الله به (أ) سبحانه له هذه الفضيلة المضاهية لفضيلة الشهداء الذين لهم الجنة. والله سبحانه أعلم.
1158 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة". رواه البخاري (2).
قوله: "على الإمارة". يدخل فيها الإمارة العظمى وهي الخلافة، والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، وهذا من أعلام النبوة؛ للإخبار به قبل وقوعه، ووقع كما أخبر به.
وقوله: "ندامة". أي على من لا يعمل فيها بما ينبغي. وزاد في رواية
(أ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
الآية 69 من سورة العنكبوت.
(2)
البخاري، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، 13/ 125 ح 7148.
شبابة (1): "وحسرة". وجاء ذلك في رواية البزار والطبراني (2) بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ: "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل". وجاء في حديث أبي هريرة موقوفًا: الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة. أخرجه الطبراني (3)، وأخرج (4) من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ:"أولها ملامة وثانيها ندامة". ومن حديث زيد بن ثابت (5) رفعه: "نعم الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها، تكون عليه حسرة يوم القيامة". وهذا يقيد ما أطلق في (أ) الذي قبله، وهو مثلما أخرجه مسلم (6) عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال:"إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". قال النووي (7): هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف. وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرَط منه إذا جوزي [بالخزي](5) يوم القيامة، وأما من كان أهلا
(أ) في جـ: و.
(ب) في ب، جـ: بالجزاء. والمثبت من الفتح 13/ 126.
_________
(1)
ذكرها الحافظ في الفتح 13/ 125.
(2)
البزار ح 2756، والطبراني في الأوسط 7/ 26 ح 6747.
(3)
الطبراني في الأوسط 5/ 376 ح 5616.
(4)
الطبراني 7/ 355 ح 7186.
(5)
الطبراني 5/ 138 ح 4831.
(6)
مسلم 3/ 1457 ح 1825/ 16.
(7)
شرح مسلم 12/ 210.
وعدل فيها فأجره عظيم، كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها.
وقوله: "فنعم المرضعة". الحديث. قال الداودي: أي نعمت المرضعة في الدنيا وبئست الفاطمة أي بعد الموت؛ لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني، فيكون في ذلك هلاكه. وقال غيره: نعمت المرضعة؛ لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما (أ) يترتب عليها من التبعات في الآخرة. وإنما ألحق التاء في "بئست" ولم يلحقها في "نعم" مع أن الفاعل فيهما مؤنث للافتنان (ب)؛ لما كان لحوق التاء بأفعال المدح والذم غير واجب، استعمل أحد الجائزين في لفظ والجائز الآخر في لفظ. وقال الصبي: تأنيث الإمارة غير حقيقي، فترك تأنيث "نعم" وألحقها بـ "بئس"، نظرا إلى كون الإمارة حينئذ داهية دهياء. قال: وإنما أنث المرضعة والفاطمة لما صوَّر قوة الحالتين المتجددتين في الإرضاع والفطام.
1159 -
وعن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". متفق عليه (1).
(أ) في جـ: بما.
(ب) في جـ: للافتتان.
_________
(1)
البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 13/ 318 ح 7352، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 3/ 1342 ح 1716.
قوله: "إذا حكم الحاكم". أي إذا أراد أن يحكم فاجتهد؛ لأن الاجتهاد مقدم على الحكم، ويحتمل أن يكون قوله:"فاجتهد". تفسيرًا لـ: "حكم". فتكون الفاء تفسيرية لا للتعقيب.
وقوله: "فأصاب" أي صادف ما في نفس الأمر من حكم الله تعالى.
"فله أجران" الحديث فيه دلالة على أن الحق عند الله تعالى واحد، وأن لله حكما معينا في كل جزئية، وأن المجتهد إذا أعمل فكره، واستقصى جهده في تحصيل حكم من الأحكام، فحصَّل فيه مطلبًا من تحريم أو تحليل، فإن وافق حكم الله تعالى كان مصيبا، وإن لم يوافق كان مخطئا، وقد ذهب إلى هذا أكثر أهل التحقيق من الفقهاء والمتكلمين، وهو مروي عن جماعة من قدماء أهل البيت وعن الأئمة الأربعة، وهو الأصح عن الشافعي، وفي كلمات الصحابة رضي الله عنهم ما يدل على ذلك، وفي قوله تعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (1) ما يدل على ذلك، وذهب جماعة من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وأبي الهذيل وأبي عبد الله البصري وقاضي القضاة، ومن أهل البيت كأبي طالب والمؤيد بالله والمنصور بالله وأحمد بن الحسين -إلى أن الحق غير متعين، وأنه ليس لله تعالى في الأحكام الفروعية الاجتهادية مراد معين، وإنما المطلوب من المجتهد العمل بما أدى إليه اجتهاده، فما أدى إليه اجتهاده فهو مراد الله تعالى منه، قالوا: لأن الأجر الذي حازه مع الخطأ إنما كان لأجل الإصابة للحق. قالوا: وتسميته مخطئا؛ لأن الكلام وارد في حق من اجتهد وأخطأ النص بغير تعمد، لا في الحكم الذي لا نص فيه. وقال
(1) الآية 79 من سورة الأنبياء.
القرطبي في "المفهم" -وما أحسن ما قال-: ينبغي أن يكون هذا الحكم المذكور في الحديث مختصًّا بالحاكم لا يتعداه إلى سائر المجتهدين؛ لأن الخصمين إذا تحاكما إلى حاكم فهناك حق معين في نفس الأمر يتنازعه الخصمان، فإذا قضي به لأحدهما بطل حق الآخر، فإذا كان المقضي له مبطلا فقد أخطأ الحاكم، والحاكم لا يطلع على ذلك، فهذه الصورة لا يختلف فيها بأن المصيب واحد لكون الحق واحدا أو في طرف واحد، وينبغي أن يختص الخلاف بأن المصيب واحد أو كل مجتهد مصيب بالمسائل التي يستخرج الحق منها بطريق الدلالة. انتهى.
قلت: ويؤيد هذا حديث أم سلمة: "إنكم لتختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت (أ) له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار". وسيأتي قرييا إن شاء الله تعالى (1).
وقوله: "فله أجران". أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والذي أخطأ له أجر الاجتهاد فقط، وقد جاء في حديث عمرو بن العاص (2) في الإصابة:"فلك عشر حسنات". وكذلك في حديث عقبة بن عامر (3). وفي سند كل منهما ضعف.
(أ) في جـ: قضيت.
_________
(1)
سيأتي في ح 1162.
(2)
أحمد 4/ 205، وعبد بن حميد 1/ 113 ح 292.
(3)
أحمد 4/ 205، والدارقطني 4/ 203، والطبراني في الأوسط ح 1583، وفي الصغير 1/ 51 ح 123.
واعلم أن هذا الاختلاف في خطأ المجتهد وصوابه إنما هو في الاجتهاد في الفروع، فأما أصول الدين فالمصيب فيها واحد عند الأكثر، والخلاف في ذلك [لعبيد الله](أ) بن الحسن العنبري وداود فصوبا المجتهدين فيه، وتأول العلماء قولهما بأنهما أرادا المجتهدين من أهل الملة دون مجتهدي اليهود والنصارى وغيرهم، وإن كان ظاهر احتجاجهم شاملا.
والحديث يدل على أن الحاكم لا يكون إلا مجتهدا، وهو المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية، ولكنه يعِزُّ وجوده بل كاد يعدم بالكلية (ب)، ومع تعذره فمن شرطه أن يكون مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه، ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه، وأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له
(أ) في ب، جـ: لعبد الله. والمثبت من مصادر ترجمته طبقات ابن سعد 7/ 275، والقضاة لوكيع 2/ 88، وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 311، وتهذيب الكمال 19/ 23.
(ب) هذا التعليق جاء في حاشية ب: قوله: بل كاد يعدم بالكلية، ومع تعذره .. الخ. قلت: لا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه الأعيان، وقد بينا بطلان دعوى تعذر الاجتهاد في رسالتنا المسماة بـ:"إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد". بما لا يمكن دفعه وما أرى هذه الدعوى التي تطابق عليها الأنظار إلا من كفران نعمة الله عليهم فإنهم -أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها- مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة وما يمكنه بها الاستنباط ما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكة، وأبو موسى الأشعرى قاضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليمن، ومعاذ بن جبل قاضيه فيها وعامله عليها، ولا شريح قاضي عمر وعلي رضي الله عنه على الكوفة. ويدل كذلك قول الشارح: فمن شرطه أي المقلد أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه وأن يتحقق أصوله وأدلته ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه. قلت هذا هو الاجتهاد والذي حكم بكيدودة عدمه بالكلية وسماه متعذرا، فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عوضا عن إمامه، وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه والعبارات كلها ألفاظ دالة على معان، فهلا استبدل =
الحكم فإن حكم فأصاب اتفاقا فلا أجر له بل هو آثم، وهو أحد الثلاثة الذي مرَّ ذكرهم (1)، وهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يكون عامِّيًّا. وحكي عن مذهب مالك. وقال الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب "أدب القضاء"(2): لا أعلم بين (أ) العلماء ممن سلفى خلافا أن أحق
= بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام عليها إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا. تالله لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفَهُّم مرامهم والتفتيش عن كلامهم، ومن المعلوم يقينا أن كلام الله تعالى وكلام رسوله أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة بلوغ المرام، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع، وأقربه إلى الفهم والانتفاع، ولا ينكر هذا إلا جلمود الطاع، ومن لا حظ له في النفع والانتفاع. والأفهام التي فهم بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي كأفهامنا، وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوتة تفاوتا يسقط معه فهم العبارات الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين ولا مأمورين ولا منهيين، لا اجتهادا ولا تقليدا، أما الأول فلاستحالته، وأما الثاني فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل، على أنه قد شهد المصطفى بأنه يأتي من بعده من هو أفقه ممن في عصره وأوعى لكلامه حيث قال:"فرب مبلَّغ أفقه من سامع". وفي لفظ: "أوعى له من سامع". والكلام قد وفيناه حقه في الرسالة المذكورة. كذا من سبل السلام. قلت: وممن أبلغ في إيضاح هذه المسألة السيد الإِمام العلاء عز الدين محمَّد بن إبراهيم الوزير في كتابه "العواصم" ومختصره "الروض الباسم".
(أ) في جـ: من.
_________
(1)
تقدم في ح 1156.
(2)
فتح الباري 13/ 146.
الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، وأن يكون قارئا لكتاب الله تعالى، عالمًا بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حافظا لأكثرها، وكذا لأقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم، يتبع في النوازل الكتاب، فإن لم يجد فالسنن، فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم، مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه و [بطنه](أ) وفرجه فَهِمًا لكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى. ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان (ب) أكملهم وأفضلهم. قال ابن حبيب (1) عن مالك: لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع؛ لأنه بالورع يعف، وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده، وإذا طلب العقل لم يجده. قال ابن العربي (1): واتفقوا على أنه لا يشترط أن يكون غنيا؛ لقوله تعالى: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ} الآية (2). قال:
(أ) في ب، جـ: نطقه. والمثبت من الفتح 13/ 146.
(ب) في جـ: زمانه.
_________
(1)
الفتح 13/ 146.
(2)
الآية 247 من سورة البقرة.
والقاضي لا يكون في حكم الشرع إلا غنيا؛ لأن غناه في بيت المال، فإذا منع من بيت المال واحتاج كان تولية من يكون غنيًّا أولى من تولية من يكون فقيرًا؛ لأنه يصير في مظنة من يتعرض لتناول ما لا يجوز له تناوله. قال المصنف رحمه الله تعالى (1): وهذا قاله بالنسبة إلى الزمان الذي كان فيه، ولم يدرك زماننا هذا الذي صار من يطلب القضاء فيه يصرح بأن سبب طلبه الاحتياج إلى ما يقوم به أوده، مع العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال.
1160 -
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان". متفق عليه (2).
هذا الحديث لفظ مسلم، وقد ورد بألفاظ غير هذا.
وقوله: "لا يحكم أحد" إلخ. نهي (أ)، وظاهر النهي (ب) التحريم، وقد صرح الإِمام المهدي في "البحر"(3) بهذا، وأطلقه ولم ينسبه إلى أحد، وقال: ويحرم قضاؤه حال تأذٍّ بغضب أو (جـ) ألم أو جوع أو احتقانٍ أو نعاس غالب؛ لمنافاته التثبت. وقريب من هذا ذكره ابن رشد في "نهاية المجتهد"(4)، وظاهر
(أ) في ب: نفي.
(ب) في ب: النفي.
(جـ) في جـ: و.
_________
(1)
الفتح 13/ 146.
(2)
البخاري، كتاب الأحكام، هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان 13/ 136 ح 7158، ومسلم، كتاب الأقضية، باب كراهية قضاء القاضي وهو غضبان 3/ 1342 ح 1717/ 16.
(3)
البحر 6/ 122.
(4)
بداية المجتهد 8/ 675.
كلام الجمهور حمل النهي على الكراهة، وبوب مسلم بذلك وقال باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان. والبخاري بوب ذلك: باب هل يقضي القاضي أو يفتي (1) المفتي وهو غضبان؟ وصرح النووي بالكراهة في ذلك (2)، وكأنهم حملوا النهي على الكراهة نظرًا إلى العلة المستنبطة المناسبة لذلك، وهو أنه لما رتب النهي على الغضب، والغضب. بنفسه لا مناسبة فيه لمنع (ب) الحكم، وإنما ذلك لما هو مظنة لحصوله، وهو تشوش الفكر، وشغله القلب عن استيفاء ما يجب من النظر، وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ عن الصواب، ولكنه غير مطردٍ مع كل غضب ومع كل إنسانٍ، فإن أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق عن الباطل فلا كلام في تحريمه، وإن لم يصل إلى هذا الحد فأقل أحواله الكراهة، قال النووي (1): حديث اللقطة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم مع الغضب، وكذلك الحكم في قصة الزبير وهو غاضب. ولكنه يجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرجه الغضب إلى غير الحق؛ فإنه معصوم.
وظاهر الحديث أنه لا فرق بين مراتب الغضب و (جـ لا بين جـ) أسبابه، وخصه إمام الحرمين والبغوي (2) بما (د) إذا كان الغضب لغير الله تعالى،
(أ) في جـ: يقضي.
(ب) في ب: تمنع.
(جـ- جـ) في جـ: لأن.
(د) في جـ: لما.
_________
(1)
شرح مسلم 12/ 15.
(2)
فتح الباري 13/ 138.
واستبعده الرُّوياني (1) وغيره؛ لمخالفته ظاهر الحديث وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم، وكان الأولى أن يقال: إنه يختص بما إذا أدى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل، فهو سبب النهي، وإن كان الغضب دون ذلك فإن قلنا بتحريم الحكم مع هذا، كان اعتبار الغضب المطلق لأنه منضبط، وهذا غير منضبط، فتعلق الحكم بالمظنة، وسواء وجد معها المأمنة أو لا، فلا فرق بين مراتب الغضب؛ كالسفر المعتبر للقصر، والإفطار وإن لم توجد المشقة، فلو حكم في حال الغضب وصادف الحق نفذ الحكم وصح، وهذا مع القول بأن النهي للكراهة ظاهر، وإن كان للتحريم فكذلك أيضًا، إذا لم يكن فيه ذلك على وجه الجرأة، وإلا كان قادحًا في العدالة، فلا يصح الحكم لكونه لم يكن عدلًا، وقال بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي، والنهي يقتضي الفساد. ولكنه متعقب بأن الصحيح أن النهي لا يقتضي الفساد إلا إذا كان النهي لذات المنهي أو لوصف ملازم، وهنا (أ) النهي لوصف مفارق للمنهي عنه، فإنه إنما نهى لما يؤدي إلى تشويش (ب) الخاطر، فيكون كالنهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وبعضهم قال: ينفذ إذا كان الغضب بعد أن قد استبان له الحق، وإلا لم ينفذ. وهذا القول خارج عن محل النزاع، ويقاس على القضاء في حال الغضب غيره من المشوشات للخاطر؛ كالجوع والعطش وغلبة النعاس، وسائر ما يشغل القلب عن
(أ) في ب: هذا.
(ب) في جـ: تشوش.
_________
(1)
فتح الباري 13/ 138.
استيفاء النظر، وهو قياس مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته، بخلاف غيره، مع أنه قد أخرج البيهقي (1) بسند ضعيف عن أبي سعيد رفعه:"لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان". قال الشافعي في "الأم"(2): وأكره للحاكم أن يحكم وهو جائع أو تعب أو مشغول القلب، فإن ذلك يضر العقل.
1161 -
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي". قال علي: فما زلت قاضيًا بعد. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وقواه ابن المديني، وصححه ابن حبان (3). وله شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه (4).
الحديث أخرجوه من طرق عن علي أحسنها رواية البزار (5) عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي. وفي إسناده عمرو بن أبي المقدام (6)، واختلف فيه على عمرو بن مرة، فرواه شعبة عنه عن أبي البختري (أ)، قال:
(أ) في هامش ب: أبو البختري بفتح الموحدة والمثناة؛ بينهما معجمة ساكنة سعيد بن فيروز.
_________
(1)
البيهقي، 10/ 105، 106.
(2)
الأم 7/ 94.
(3)
أحمد 1/ 90، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء 3/ 299، 300 ح 3582، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما 3/ 618، 619 ح 1331، وابن حبان، كتاب القضاء، ذكر أدب القاضي عند إمضائه الحكم بين الخصمين 11/ 451 ح 5065.
(4)
الحاكم 4/ 88.
(5)
البزار 2/ 289 ح 711.
(6)
تقدمت ترجمته في 2/ 178.
حدثني من سمع عليًّا. أخرجه أبو يعلى (1) وإسناده صحيح لولا هذا المبهم، ومنهم من أخرجه عن أبي البختري عن علي (2)، ومنها رواية [البزار](ب)(3) أيضًا عن حارثة بن مضرب (جـ)، عن علي قال. وهذا أحسن أسانيده، ومنها رواية أبي داود (4) وغيره عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر (د)، عن علي. وأخرجه النسائي (5) في "الخصائص"، والحاكم (6)، وقد رواه ابن حبان (7) من رواية سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي، وفيه مقال. ومنها رواية ابن ماجه (8) من طريق أبي البختري عن علي، وهو منقطع، وأخرجها البزار والحاكم (9).
الحديث فيه دلالة على أنه يجب على الحاكم أن يسمع دعوى المدعي ثم
(أ) في ب، جـ: البراء. والمثبت يقتضيه السياق.
(ب) في جـ: مصرف. وينظر تهذيب الكمال 5/ 317.
(جـ) في هامش ب: حنش بن المعتمر، ويقال: ابن ربيعة. ويقال: إنه حنش بن ربيعة بن المعتمر، ويقال: إنهما اثنان، الكناني أبو المعتمر، الكوفي. صدوق له أوهام يرسل، من الثالثة، وأخطأ من عده في الصحابة.
_________
(1)
أبو يعلى 1/ 268 ح 316.
(2)
سيأتي تخريجه في حاشية 8، 9 من هذه الصفحة.
(3)
البزار 2/ 298، 299 ح 721.
(4)
أبو داود 3/ 299، 300 ح 3582.
(5)
النسائي في الكبرى 5/ 117 ح 8420/ 3.
(6)
الحاكم 4/ 93.
(7)
ابن حبان 11/ 451 ح 5065.
(8)
ابن ماجه 2/ 774 ح 2310.
(9)
الحاكم 3/ 135.
يسمع جواب المجيب، ولا يجوز له أن يبني الحكم على سماع دعوى المدعي قبل أن يسمع جواب المجيب، (أفإن حكم أ) قبل سماع الآخر عمدًا لم يصح قضاؤه، وكان قدحًا في عدالته، وإن كان خطأ لم يكن قدحًا وأعاد الحكم على وجه الصحة. وهذا حيث أجاب الخصم، فإن سكت عن الإجابة، أو قال: لا أقر ولا أنكر. فقال في "البحر" الإِمام يحيى، وعن مالك: يحكم عليه (ب) الحاكم لتصريحه بالتمرد، وإن شاء حبسه حتى يقر أو ينكر. وقال أبو العباس: بل يلزمه الحق بسكوته، إذ الإجابة تجب فورًا، فإذا سكت كان كنكوله. (جـ قلنا: النكول جـ) الامتناع من اليمين. وهذا ليس كذلك، وأحد قولي المؤيد بالله وابن أبي ليلى: بل يحبس حتى يقر أو ينكر، ولا يحكم عليه. قلنا: التمرد كاف في جواز الحكم، إذ الحكم شرع لفصل الشجار ودفع الضرار. انتهى. والأولى أن يقال: إن ذلك حكمه حكم الغائب، فمن أجاز الحكم على الغائب أجازه على الممتنع عن الإجابة؛ لاشتراكهما في عدم الإجابة.
والحديث فيه دلالة على أنه لا يحكم على الغائب لعدم سماعه لكلام الخصم، وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي وابن أبي ليلى وأبو حنيفة، قالوا: ولأنه لو كان الحكم جائزًا على الغائب لم يكن الحضور واجبًا. وذهب الهدوية والمؤيد بالله ومالك والليث والشافعي وابن شبرمة والأوزاعي وإسحاق وإحدى الروايتين عن أحمد إلى أنه يجوز الحكم على الغائب،
(أ- أ) في جـ: قال وحكم.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ-جـ) ساقطة من: جـ.
واحتجوا بما تقدم من حديث هند وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى (1)، وحملوا حديث علي على الحاضر، وبأن الغائب لا يفوت عليه حق؛ فإنه إذا حضر فحجته قائمة، فيسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم؛ لأنه في حكم المشروط، ولأنه كما إذا لم يمكن الإجابة حيث كان المدعى عليه (أ) صغيرًا أو مجنونًا أو محجورًا عليه، إلا أن هذا الوجه الآخر يدفع بأن المجنون والصغير يملك عنهما وليهما، والمحجور إنما يبقى إقراره موقوفًا، وعند المانعين أن من هرب أو تستر بعد إقامة البينة فنادى عليه الحاكم ثلاثًا، فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه، وأنكر ابن الماجشون صحة الرواية عن مالك، وأما ابن القاسم فاستثنى عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج؛ كالأرض والعقار إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبره، وقد جوز الحنفية الحكم على الغائب في نفقة الزوجة، فإذا ادعت (ب) نفقتها على زوجها الغائب، وأن له وديعة عند آخر، وقدرت على الوديع الوديعة، قضي لها مما عنده.
1162 -
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار". متفق عليه (2).
(أ) ساقطة من: ب.
(ب) في جـ: أودعت.
_________
(1)
تقدم في 7/ 307 - 310.
(2)
البخاري، كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين 5/ 288 ح 2680، ومسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة 3/ 1337 ح 4/ 1713.
قوله: "ألحن". اللحن: الميل عن جهة الاستقامة، يقال: لحن فلان في كلامه. إذا مال عن صحيح المنطق. وأراد: إن بعضكم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها (أ) من غيره. ويقال: لحنت (ب) لفلان. إذا قلت له قولًا يفهمه ويخفى على غيره؛ لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم.
وقوله: "على نحو مما أسمع منه". ظاهره الحكم بما يسمع الحاكم من كلام المتخاصمين بما يثبت به الحكم من سرد الدعوى، أو من إجابة المدعى عليه، أو الإقرار من أي المتخاصمين، وكذلك بما يكون معهما من شهادة، وسواء كانت صادقة في نفس الأمر أو كاذبة، ومثلها اليمين.
وقوله: "فمن قطعت له من حق أخيه". هكذا في بعض روايات مسلم، والمراد: من قضيت له بشيء من مال أخيه. وأطلق عليه القطع استعارة، شبه القضاء بمال الغير بقطع الشيء من الشيء، بجامع أنه بَعُد صاحب الملك عن الانتفاع بملكه؛ لصيرورته مع الغير، كما أن المقطوع من الشيء المتصل بعضه ببعض يبعد عن المقطوع منه.
وقوله: "قطعة من النار". يعني باعتبار ما يئول إليه، فإنه يئول إلى أنه يعذب بسببه، فسماه نارًا لما كان سببًا لعذاب صاحبه بالنار، مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (1). وتمامه في البخاري: "فليأخذها أو ليتركها". والأمر للتهديد فيه، مثل قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
(أ) في جـ: بها.
(ب) في جـ: ألحنت.
_________
(1)
الآية 10 من سورة النساء.
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (1). والمراد منه: أن حكمي لا ينقل الشيء عن التحريم إلى التحليل. فرجع الأمر إلى المحكوم له أن يختار لنفسه أي الأمرين، وزاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث: فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحاللا". أخرجه أبو داود (2). وبكى الرجلان حين سمعا ذكر النار.
وقوله: حقي لك. الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. فيه (أ) دلالة على صحة هبة الشيء قبل ثبوته، والهبة للحاكم في حضرة المحكوم عليه والشريك قبل أن يستأذن شريكه.
وقوله: "أمَّا". بتخفيف الميم، فيه دلالة على أن الهبة لا تملك إلا بالقبول، وأن الحاكم إذا لم يظهر له الحق توقف، ويأمرهما بالصلح والتحلل، وأن الصلح لا (ب) يُحل ملك الغير، وأن التحلل من المجهول يصح، ولعله كان في يد ثالث لا يدعيه لنفسه، أو في يد واحد [طارئ](جـ) على الشيء مقر بطروئها. والله سبحانه أعلم.
والحديث فيه دلالة على أن حكم الحاكم لا يحل للمحكوم له ما حكم به، مما هو على خلاف ما هو له في نفس الأمر، فإذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين وظن عدالتهما، وهما في الباطن كاذبان في مال، لم يحل
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ) في ب: طار به، وفي جـ: طار به. والمثبت ما يقتضيه السياق.
_________
(1)
الآية 29 من سورة الكهف.
(2)
أبو داود 3/ 300 ح 3585.
للمحكوم له ذلك المال، وكذا لو شهدا بقتل لم يحل لولي الدم الإقصاص، أو بزوجية امرأة لم تحل للمحكوم له، فحكم الحاكم صواب؛ لأنه قد حكم بما يجب الحكم به في الظاهر، وهو غير مطالب بالتفتيش عن جلية الحال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حق المتلاعنين:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"(1). ولو شاء الله لأطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على باطن أمر الخصمين بيقين، فلا يكون حكمه مخالفًا لما في نفس الأمر من غير حاجة إلى شهادة أو يمين، ولكن لما أمر الله تعالى أمته صلى الله عليه وسلم باتباعه، والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه، أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور؛ ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، فأجرى الله تعالى حكمه في ذلك على الظاهر، الذي يستوي فيه هو وغيره؛ ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث الجمهور من علماء الإِسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، إلا في الأحكام التي يوقعها الحاكم، وذلك مثل بيع مال المفلس إذا باعه لقضاء دينه بعد أن ظهر للحاكم إفلاسه، فإنه ينفذ باطنًا وظاهرًا، ولو كان في نفس الأمر موسرًا؛ لأن امتناعه من القضاء يبيح (أ) بيع ماله لقضاء غريمه، وكذا في فسخ اللعان فإنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا ولو (ب) كان الزوج كاذبًا عليها في نفس الأمر، والخلاف لأبي حنيفة أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرًا وباطنًا، فلو حكم الحاكم بشهادة زور أن هذه المرأة زوجة فلان حلت له عند أبي حنيفة،
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في جـ: أو.
_________
(1)
جزء من حديث الملاعنة أخرجه أبو داود الطيالسي 4/ 388 ح 2789، وأحمد 1/ 239، وأبو داود 2/ 284 ح 2256 من حديث عبد الله بن عباس.
واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلًا خطب امرأة فأبت، فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين، فقالت المرأة (أ): إنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه فقد رضيت. فقال: شاهداك زوّجاك (ب). وأمضى عليها النكاح. وكذا إذا حكم بشهادة أن هذا باع من زيد أرضًا أو نحوها، فإنها تحل الأرض للمحكوم له، للزومه العوض، واحتج أيضًا من حيث النظر بأن الحاكم قضى بحجة شرعية فيما (جـ) له ولاية الإنشاء فيه، فجعل الإنشاء [تحرزًا](د)؛ لأنه يملك إنشاء العقود والفسوخ، فإن له أن يبيع أمة زيد من عمرو حال خوف هلاكها لحفظها، وحال الغيبة، وإنشاء النكاح على الصغيرة، والفرقة على العنين، فلو لم ينفذ باطنًا وقد حكم مثلًا بطلاق هذه المرأة، لبقيت حلالًا للزوج الأول باطنًا وللثاني ظاهرًا، فلو حصل مع الثاني نزع، لحلت لثالث ورابع، ولا يخفى فحشه، ويوافق أبو حنيفة أنه إذا حكم الحاكم بتقرير يد من هو ثابت على ملك شيء بيمينه بعدأن عجز المدعي عن البينة، أو ببقاء زوجية امرأة بعد أن عجزت عن إقامة الشهادة على الطلاق (هـ) وكذا الحكم المطلق الذي لا ينضاف إلى عقد، وكذا القصاص وما كان فيه بسبب محرم، كالحكم بزوجية امرأة وينكشف أنها رضيعة، أن الحكم لا يحل للمحكوم له ما حكم به، كذا ذكره الإِمام المهدي في "الغيث"، وذكر
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في ب: يزوجاك.
(جـ) في جـ: مما.
(د) في ب، جـ: مجوزا. والمثبت من الفتح 13/ 176.
(هـ) في جـ: الإطلاق.
النواوي في "شرح مسلم"(1) أن أبا حنيفة لا يقول بحل الأموال، وظاهره الإطلاق، وفي "ملتقى الأبحر" في فقه الحنفية ما لفظه: والقضاء بحل (أ) أو حرمة ينفذ ظاهرًا وباطنًا ولو بشهادة زور؛ إذا ادعى بسبب معين، وعندهما لا ينفذ باطنًا بشهادة الزور، فلو قامت بينة زور أنه تزوجها وحكم بها (ب) حل لها تمكينه، خلافًا لهما، وفي الأملاك المرسلة (2) لا ينفذ باطنًا اتفاقًا. انتهى. وأجيب عن ذلك بأن الأثر المروي عن علي رضي الله عنه لم يثبت، أو أن عليا رضي الله عنه لما حكم بالشهادة التي تعين الحكم لأجلها، فعليٌّ مصيب في حكمه بالنظر إلى سبب الحكم، وإن كان مخالفًا في نفس الأمر للحقيقة، فلا مقتضى للاحتياط بإعادة العقد بالنظر إليه، وإن كان المحكوم له لا يحل له إمساكها، فهو زان في نفس الأمر، وإذا أقر على نفسه لزمه الحد، والمرأة لها أن تدفعه عن نفسها في باطن الأمر، وأما قولهم: إن الحاكم يملك إنشاء العقود. فهو مسلم أنما أصدره من الإيقاعات نفذ ظاهرًا وباطنًا، وكذا في الظنيات ينفذ الحكم ولو خالف مذهب المحكوم له، ويحل له ذلك عند الجمهور، ولا يلزم منه أن ينفذ حكمه فيما كان الحكم لتقرير ملك بسبب قد تقدم، أو نكاح، أو طلاق، أو غير ذلك، حيث لم يطابق الحقيقة، وقد نبه على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
(أ) في جـ: محلا.
(ب) في جـ: لها.
_________
(1)
شرح مسلم 12/ 6.
(2)
الأملاك المرسلة أن يشهد رجلان في شيء ولم يذكرا سبب الملك. التعريفات للجرجاني ص 16.
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} (1)، فنهي سبحانه وتعالى عن أكل المال بحكم الحاكم وسماه سبحانه باطلًا وإثمًا، فإن قيل: ظاهر الحديث أنه يقع من النبي صلى الله عليه وسلم حكم في الظاهر مخالف للباطن، وقد اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ في الأحكام. أجيب بأنه لا تعارض بين ما دل عليه الحديث وما قرره الأصوليون؛ لأن مرادهم فيما حكم فيه صلى الله عليه وسلم باجتهاده، والأكثرون على جواز الخطأ، ولا يقر عليه كما في قضية (أ) الأسارى، والإذن (ب) للمتخلفين، وأما الحكم الصادر عن الطريق التي قد فرضت كالحكم بالبينة أو بيمين المحكوم عليه، فإنه إذا كان مخالفًا للباطن فلا يسمى الحكم خطأ، بل الحكم صحيح؛ لأنه (جـ) على وفق ما وقع به التكليف، ووجوب العمل بالشاهدين وإن كانا شاهدي زور فالتقصير منهما (د)، وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عيب عليه بسببه، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد الذي صدر الحكم علي وفقه، مثل أن يحكم بأن الشفعة -مثلًا- للجار، وكان الحكم في ذلك -مثلًا- في علم الله أنه لا يثبت إلا للخليط، فإنه إذا كان مخالفًا للحق الذي في حكم الله بناء على وحدة الحق، فيثبت فيه الخطأ للمجتهد، وهو الذي تقدم في حديث عمرو، أو الإصابة ويكون له أجر واحد أو أجران.
(أ) في جـ: قصة.
(ب) في جـ: الأدب.
(جـ) ساقطة من: جـ.
(د) في جـ: منها.
_________
(1)
الآية 188 من سورة البقرة.
وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للحاكم موعظة المتخاصمين وتحذيرهم من الدعوى الباطلة، وأنه ليس للحاكم أن يحكم بما خطر له من غير استناد (أ) إلى أمر يكون مقتضيًا للحكم من بينة أو غيرها، ولذلك قال:"ألحن بحجته". وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحكم بالظاهر ولا يلزمه غيره، إلا أنه إذا قامت البينة بخلاف ما يعلمه الحاكم علمًا يقينًا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة، ونقل بعضهم الاتفاق عليه وإن وقع الخلاف في القضاء بما يعلم الحاكم. والله سبحانه أعلم.
1163 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كيف تقدَّس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم! ". رواه ابن حبان (1). وله شاهد من حديث بريدة عند البزار (2)، وآخر من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه (3).
أخرج حديث جابر أيضًا ابن خزيمة وابن ماجه (4)، وفي الباب عن
(أ) في جـ: إسناد.
_________
(1)
ابن حبان، كتاب القضاء، ذكر الأمر للمرء أن يأخذ للضعيف من القوي إذا قدر على ذلك 11/ 445 ح 4464.
(2)
البزار 10/ 334 ح 4464.
(3)
ابن ماجه 2/ 810 ح 2426.
(4)
ابن ماجه 2/ 329 ح 4010.
قابوس بن المخارق (ب) عن أبيه، رواه الطبراني وابن قانع (1)، وعن خولة -غير منسوبة- به. يقال: إنها امرأة حمزة. رواه الطبراني وأبو نعيم (2). وروى الحاكم والبيهقي (3) من حديث عثمان بن جبلة [عن شعبة](ب)، عن سماك، عن شيخ، عن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رفعه:"إن الله لا يقدس أمة لا تأخذ للضعيف من القوي حقه وهو غير متعتع". ورواه الحاكم (4) من حديث شعبة، عن سماك، عن عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث به في قصة. قال البيهقي: المرسل أصح. وقال الحاكم: بل الموصول صحيح، والمرسل مفسر لاسم المبهم الذي في الموصول. هذا معنى كلامه.
قوله: "كيف تقدس أمة". أي كيف تطهر، والتقديس التطهير، والمراد التطهير من الذنوب، ومنه بيت القدس لأنه يتطهر فيه من الذنوب. والاستفهام هنا للإنكار، أي لا تطهير من الذنوب مع كونهم موصوفين بهذه الصفة.
والحديث فيه دلالة على وجوب إنكار المنكر ونصرة الضعيف لأخذ
(أ) في هامش ب: بضم الميم بعدها معجمة خفيفة، ويقال: ابن أبي المخارق الكوفي، لا بأس به، من الثالثة.
(ب) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من مصدري التخريج.
_________
(1)
الطبراني 20/ 313 ح 745، وابن قانع في معجم الصحابة 3/ 132، 133.
(2)
الطبراني 24/ 233، 248 ح 591، 635، وفي الأوسط 5/ 187 ح 5029. وسماها فيه: خولة بنت قيس امرأة حمزة، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 5/ 225، 226 ح 7654.
(3)
الحاكم 3/ 256، والبيهقي 10/ 93.
(4)
الحاكم 3/ 256.
الحق له.
1164 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. "يدعى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره". رواه ابن حبان وأخرجه البيهقي (1)، ولفظه:"في تمرة".
الحديث أخرجوه عن عمران بن حطان الخارجي، قال العقيلي (2): لا يتابع عليه في الرواية عن عائشة، ولم يتبين لي سماعه منها. انتهى. قال المصنف رحمه الله تعالى (3): وقع في رواية الإِمام أحمد (4) من طريقه قال: دخلت على عائشة فذاكرتها حتى ذكرنا القاضي.
والحديث فيه الدلالة على المبالغة في التحذير من الدخول في القضاء، وتعظيم خطره، وعلى أن الحاكم يحاسب بما قضى به بين المتخاصمين. فنسأل الله تعالى التجاوز والمسامحة بمنه وإحسانه.
1165 -
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". رواه البخاري (5).
الحديث فيه دلالة على اشتراط كون الحاكم ذكرًا، ولا يصح تولية امرأة
(1) ابن حبان، كتاب القضاء، ذكر الأخبار عن وصف مناقشة الله في القيامة الحاكم العادل إذا كان في الدنيا 11/ 439 ح 5055، والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب كراهية الإمارة وكراهية تولي أعمالها لمن رأى من نفسه ضعفا 10/ 96.
(2)
الضعفاء الكبير 3/ 297.
(3)
التلخيص الحبير 4/ 184.
(4)
أحمد 6/ 75.
(5)
البخاري، كتاب الفتن 11/ 53 ح 7099.
الحكم، وكذا غير الحكم من أعمال المسلمين العامة، وذلك لما يحتاج إليه الوالي من كمال الرأي، ورأي المرأة ناقص، ولا سيما في محافل الرجال، وذهب الحنفية إلى جواز تولية المرأة الحكم، إلا الحدود فلا تتولاها، وذهب ابن جرير إلى صحة توليتها جميع الأحكام.
1166 -
وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ولاه الله شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم، احتجب الله دون حاجته". أخرجه أبو داود والترمذي (1).
أبو مريم الأزدي هو صحابي، روى عنه ابن عمه أبو الشماخ وأبو المعطل والقاسم بن مخيمرة.
الحديث أخرجه الحاكم (2) وأبو داود من حديث القاسم بن مخيمرة، عن أبي مريم، وفيه قصة له مع معاوية، وأورد الحاكم (3) له شاهدًا عن عمرو بن مرة الجهني، وعنه رواه أحمد والترمذي (4)، ورواه الطبراني في "الكبير" (5) من حديث ابن عباس بلفظ:"أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة". وقال ابن أبي حاتم (6) عن أبيه في هذا الحديث: منكر.
وفيه دلالة على أنه يجب على من ولي من أمر المسلمين تسهيل
(1) أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما يلزم الإِمام من أمر الرعية، 3/ 135 ح 2948، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في إمام الرعية 3/ 620 ح 1333.
(2)
الحاكم 4/ 93.
(3)
الحاكم 4/ 94.
(4)
أحمد 4/ 231، والترمذي 3/ 619 ح 1332.
(5)
الطبراني -كما في التلخيص الحبير 4/ 189.
(6)
علل الحديث 2/ 428 ح 2793.
الحجاب؛ ليصل إليه ذو الحاجة فيقضي حاجته، والفقير فيعطه من مال الله الذي يسد خلته، وأن من لم يفعل ذلك منعه الله تعالى فضله ورحمته، وكنى عن ذلك بالحجاب.
1167 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم. رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان (1). وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي (2).
وحديث ابن عمرو بهذا اللفظ ولم يذكر لفظ: في الحكم. في رواية أبي داود، وزادها الترمذي، [قال الترمذي] (أ): وقواه الدارمي.
قوله: الراشي. هو المعطي، والمرتشي. الآخذ، وزاد أحمد (3): والرائش. وهو الذي يمشي بينهما، وهو السفير بين الآخذ والدافع وإن لم يأخذ على سفارته أجرًا، فإن أخذ فهو أبلغ، والرشوة يدخل في إطلاقها رشوة الحاكم ورشوة العامل على أخذ الصدقات، وهي حرام بالإجماع.
(أ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
أحمد 2/ 387، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم 3/ 622 ح 1336. وفي قوله: الأربعة. نظر؛ فإن الحافظ نفسه عزاه في التلخيص 4/ 189 إلى أحمد والترمذي وابن حبان. وينظر تحفة الأشراف 10/ 469 ح 14984، والمسند الجامع 17/ 377 ح 13786.
(2)
أبو داود، كتاب الأقضية، باب كراهية الرشوة 3/ 299 ح 3580، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم 3/ 622 ح 1336، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة 2/ 775 ح 2313.
(3)
أحمد 2/ 164 من حديث ثوبان.
كذا قال في "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان، ونقله الإِمام المهدي عن "شرح الإبانة" في "الغيث". ويدل على تحريمها أيضًا قوله تعالى:{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (1). قال الحسن وسعيد بن جبير (2) في "تفسيره": هي الرشوة. وقال مسروق (3): سألت ابن مسعود عن السحت: أهو الرشوة في الحكم؟ قال: لا، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ، ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيُهدي لك، [فإن أهدى لك] (أ) فلا تقبل. وقال أبو وائل شقيق بن سلمة أحد أئمة التابعين: القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر. رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4) بإسناد صحيح، وإنما استحقا العقوبة معًا لاستوائهما في القصد و (ب) الإرادة، وأما إذا أعطى المعطي ليتوصل إلى حق، أو يدفع عن نفسه ظلمًا، فإنه لا يدخل في الوعيد، وقد أُخذ ابن مسعود بأرض الحبشة في شيء فأعطى دينارين حتى خُلي سبيله (5)، وقال الحسن والشعبي (6): لا بأس بذلك وكذا الأخذ،
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في ب: أو.
_________
(1)
الآية 42 من سورة المائدة.
(2)
ابن جرير في تفسيره 8/ 428، 429، وابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1135.
(3)
ابن جرير في تفسيره 8/ 430، وابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1134.
(4)
ابن أبي شيبة 6/ 544، لكن عن أبي وائل عن مسروق من قوله.
(5)
ابن أبي شيبة 6/ 557، والبيهقي 10/ 139.
(6)
ابن أبي شيبة 6/ 557، 558.
إنما يستحق الوعيد حيث كان (أما أخذه أ) على حق يلزمه أداؤه، أو على باطل يجب عليه تركه، ولكن لا يفعل ما ذكر حتى يصانع ويرشي، فإنها (ب) رشوة، وأما إذا كان الحق لا يلزمه فعله، والترك لا يجب عليه، فالظاهر جواز الأخذ.
1168 -
وعن عبد (جـ) الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم. رواه أبو داود وصححه الحاكم (1).
وأخرجه أحمد والبيهقي (2)، وقد أخرجوه من حديث مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وقد ضعفه يحيى بن معين (3) وابن حبان (4). وقال الذهبي في "الكاشف" (5): فيه لين؛ [لغلطه](د). ولم يزد على ذلك، وقال
(أ- أ) في جـ: يأخذه.
(ب) في جـ: فإنه.
(جـ) في جـ: عبيد.
(د) في جـ: لغطه. وفي ب، ومصدر التخريج: لغلظه. وهو تصحيف، والمثبت هو الصواب، وانظر
ما سيأتي في كلام أبي حاتم.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الأقضية، باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي 3/ 301 ح 3588، والحاكم، كتاب الأحكام 4/ 94.
(2)
أحمد 4/ 4، والبيهقي 10/ 135.
(3)
تاريخ ابن معين برواية الدارمي ص 208.
(4)
المجروحين 3/ 28، 29.
(5)
الكاشف 3/ 130.
ابن رسلان: روى عن جده مرسلًا، وعن أبيه وعمه عامر. قال أبو حاتم (1): صدوق كثير الغلط. وقال النسائي (2) وغيره: ليس بالقوي.
وقد جاء في حديث علي الذي مر: "فإذا جلس الخصمان بين يديك". والحديث ظاهره يدل على أنه يتعين قعود الخصمين بين يدي الحاكم من غير تفرقة بين أن يستويا أو لا؛ وذلك لما فيه من العدل بينهما والإقبال عليهما. قال الماوردي (3): ولا يسمع منهما الدعوى وهما قائمان. قال ابن رسلان (4): إذا كانا شريفين جلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. انتهى. وهذا التخصيص يحتاج إلى دليل، والله أعلم.
(1) الجرح والتعديل 8/ 304.
(2)
النسائي 8/ 91.
(3)
أدب القاضي له 2/ 249.
(4)
غاية البيان شرح زُبَد بن رسلان لمحمد بن أحمد الرملي 1/ 325.