الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الدعوى والبينات
الدعوى: اسم مصدر من ادعى شيئًا (أإذا زعم أن له حقًّا أو باطلًا، ومن دَعَاه إذا صاح به أ)، والبينات: جمع بينة، وهي الحجة الواضحة، سميت الشهادة بينة لوضوح الحق وظهوره بها.
1177 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعَى عليه". متفق عليه (1)، وللبيهقي بإسناد صحيح (2):"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر".
أخرجه البيهقي بإسناد حسن، قال المصنف رحمه الله (3): وزعم الأصيلي أن قوله: "البينة". إلى آخره إدراج في الحديث، حكاه القاضي عياض، وفي الباب عن مجاهد عن ابن عمر لابن حبان (3) في حديث، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي (4)، وأخرجه الدراقطني (5) بإسناد ضعيف بمسلم بن خالد الزنجي مولى بني مخزوم (ب)، قال الذهبي في
(أ- أ) في جـ: ومن دعاه إذا صاح به له وأزعم أنه له حقا أو باطلا.
(ب) في حاشية ب: فقيه صدوق كثير الأوهام من الثامنة مات سنة تسع و [سبعين] أو بعدها، روى له أبو داود وابن ماجة، تقريب. وينظر التقريب ص 529.
_________
(1)
البخاري، كتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال 5/ 280 ح 2668، ومسلم كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عيه 3/ 1363 ح 1711.
(2)
البيهقي 10/ 252.
(3)
التلخيص الحبير 4/ 208.
(4)
الترمذي 3/ 626 ح 1341.
(5)
الدارقطني 4/ 157.
"الكاشف"(1): وثق، ضعفه أبو داود الكثرة غلطه.
وهذا الحديث دل على قاعدة كبيرة (أ) من قواعد أحكام الشرع؛ وهو أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه لمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعَى عليه، فإن طلب يمين المدعَى عليه فله ذلك، وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه؛ لأنه لو أعطي بمجردها لادعى قومٌ دماء قوم وأموالهم واستبيح ذلك، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون دمه وماله، وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة، ودل على ما ذهب إليه الجمهور من سلف الأمة وخلَفها أن اليمين تتوجه على كل من ادُّعي عليه حق (ب)، سواء كان بينه وبين المدعي اختلاط أم لا، وقال مالك وجمهور أصحابه والفقهاء السبعة المدنيون: إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبين المدعي خلطة؛ لئلا [يبتذل](جـ) السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد، فاشترطت الخلطة دفعًا لهذه المفسدة. والخلطة قيل: هي معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو شاهدين. وقيل: تكفي الشبهة، بأن تكون الدعوى مما يليق مثلها بمثله. وقيل: أن يليق بالمدعي أن يعامل المدعى عليه بمثلها. وذهب الإصطخرى من الشافعية أن قرائن الأحوال إذا شهدت
(أ) في جـ: كثيرة.
(ب) في جـ: شيء.
(جـ) في ب: يتبذل، وفي جـ: يتبدل. والمثبت من شرح مسلم 12/ 3، والفتح 5/ 283.
_________
(1)
الكاشف 3/ 123، 124.
بكذب المدعي لم يتلفت إلى دعواه، ويجاب عنهم بأن الحديث مطلق، ولم يدل على اشتراط الخلطة كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ولعل المستند مثل حديث:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"(1). فإذا لم يكن بينهما ما يظن من أسباب الخلطة التي تشكك في ثبوت الدعوى كان مجرد ضرار منهي عنه، قال العلماء: والحكمة في كون البينة على المدعي أن جانب المدعي ضعيف؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، فكلف الحجة القوية وهي البينة، فيقوى بها ضعف المدعي، وجانب المدعى عليه قوي؛ لأن الأصل فراغ ذمته، فاكتفي منه باليمين. وهي حجة ضعيفة؛ لأن الحالف يجلب النفع لنفسه ويدفع الضرر عنها.
وقد اختلف في تعريف المدعي والمدعَى فقيل: المدعي من يُخلَّى وسكوتَه. وقيل: من معه أخفى الأمرين. والمدعى عليه بخلافه في الطرفين.
1178 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمرهم أن يُسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف. رواه البخاري (2).
الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وأخرجه النسائي (3) أيضًا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وقال فيه: فأسرع الفريقان. وقد رواه أحمد (4) عن عبد الرزاق شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ:
(1) أحمد 1/ 313، وابن ماجه 2/ 784 ح 2341.
(2)
البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا تسارع قوم في اليمين 5/ 285 ح 2674.
(3)
النسائي في الكبرى، كتاب القضاء، باب الاستهام على اليمين 3/ 487 ح 6001.
(4)
أحمد 2/ 317.
"إذا أكره الاثنان على اليمين فاستحباها فليستهما عليه". وأخرجه أبو نعيم في "مسند إسحاق بن راهويه"(1) عن عبد الرزاق مثل رواية البخاري، و [تعقبه بأنه رآه](أ) في أصل إسحاق عن عبد الرزاق باللفظ الذي رواه أحمد، وأخرجه أبو داود (2) عن أحمد وسلمة بن شبيب عن عبد الرزاق بلفظ:"أو استحباها". قال الإسماعيلي (3): هذا هو الصحيح. أي أنه بلفظ "أو" لا بالفاء ولا بالواو، وقد أخرجها الإسماعيلي من طريق عبد الرزاق بالواو.
وحديث أبي هريرة المذكور أوَّلًا يحتمل أنه ورد في حق جماعة وجبت عليهم اليمين؛ بأن يكونوا مدعّى عليهم وتسارعوا من يحلف أوَّلًا، فإنه يقرع بينهم، وأما رواية:"إذا (ب) أكره". فقال الخطابي (3): لا يراد به حقيقته (جـ)؛ لأن الإنسان لا يكره على اليمين، وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف، سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما، وهو معنى الإكراه، أو مختارين لذلك بقلبهما، وهو معنى الاستحباب، وتنازعا أيهما يبدأ، فلا يقدم أحدهما إلا بالقرعة، وهو المراد بقوله:"فليستهما". وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان عينًا ليست في يد واحد منهما،
(أ) في ب، جـ: تعقب بأنه رواه. والمثبت من الفتح 5/ 286.
(ب) في جـ: إذ ما.
(جـ) في جـ: حقيقه.
_________
(1)
مسند إسحاق 1/ 112 ح 23.
(2)
أبو داود 3/ 310 ح 3617.
(3)
الفتح 5/ 286.
ولا بينة لواحد منهما، ويكون هذا موافقًا لما رواه أبو داود والنسائي (1) من طريق أبي رافع عن أبي هريرة، أن رجلين اختصما في متاع ليس لواحد منهما بيّنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها". ويكون مفهوم الحديث أن يحلف من خرجت له القرعة ويستحقها. ولم أطلع على قول لأحد من الأئمة بمقتضى هذا المفهوم، والذي في كتب الفروع في الشيء المدعَى؛ إن كان عليه يد فالقول قول صاحب اليد واليمين عليه، وهو الموافق لحديث ابن عباس، وإن لم يكن عليه يد فهو لمن بيَّن أو حلف، فإن بيَّنا جميعًا أو تحالفا فبينهما. ذكره الإمام يحيى، وإن نكلا فلا شيء لهما. وقالت الهدوية: يقسم. وقال الفقهاء المفرِّعون على أصل الهادي: لا يقسم وإن حلفا، إذ (أ) مع عدم البينة هو كاللقطة. وأجاب الإمام المهدي بالفرق، وذلك أن يد الملتقط يد لبيت المال بخلاف ما لا يد عليه لأحد، فدعواه مع اليمين كاليد، ولم يكتف بالدعوى، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لو أعطي الناس بدعاويهم". الحديث.
1179 -
وعن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم الله عليه الجنة". فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيبًا من أراك". رواه مسلم (2).
(أ) في جـ: أو.
_________
(1)
أبو داود 9/ 303 ح 3616، والنسائي في الكبرى 3/ 487 ح 6000.
(2)
مسلم، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار 1/ 122 ح 137/ 218.
الحديث فيه دلالة على وعيد من حلف ليأخذ حقًّا على غيره، أو يسقط عن نفسه حقًّا استحقه غيره.
وفي لفظ: "حق". دلالة على حصول الوعيد على من غصب ما ليس بمال؛ كجلد الميتة والسرجين (أ)(1) وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها، وكذلك سائر الحقوق التي ليست بمال؛ كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم وغير ذلك، والمال كذلك، فإنه يشمله الحق.
وقوله: "مسلم". التقييد بالمسلم ليس لإخراج غير المسلم، فأما على قول من لا (ب) يقول بالمفهوم فالذكر لا يلزم منه أن غير المذكور بخلافه، وأما على قول من يقول بالمفهوم فيقول: المفهوم هنا غير معمول به؛ لأن المخاطب بذلك المسلمون، فخصهم بالذكر، أو لأن أكثر المعاملة بين المسلمين، فلا يلزم منه مغايرة غير المسلم في الحكم، بل الذمي كذلك، ويحتمل أن تكون هذه العقوبة العظيمة إنما تختص بمن اغتصب حق المسلم دون الذمي وإن كان محرمًا.
وقوله: "وإن كان قضيبًا من أراك". مبالغة في تحريم حق المسلم، وأنه يستوي فيه قليل الحق (جـ) وكثيره.
(أ) في جـ: السرحى.
(ب) ساقطة من: جـ.
(جـ) في ب: المال.
_________
(1)
السرجين: الزبل. التاج (س ر جـ).
وقوله: "فقد أوجب الله له" إلخ. محمول على عدم التوبة، وأما إذا تاب وتخلص مما عليه، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم.
وفيه دلالة لمذهب الجمهور أن حكم الحاكم لا ينفذ باطنًا وإن نفذ ظاهرًا، وقد تقدم ذلك.
1180 -
وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان". متفق عليه (1).
هو أبو محمد الأشعث -بالشين المعجمة والعين المهملة والثاء المثلثة- ابن قيس بن معد يكرب الكندي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، وكان رئيسهم، وذلك في سنة عشر، كان رئيسًا (أ) في الجاهلية، مطاعًا في قومه، وكان وجيهًا في الإسلام، وارتد عن الإسلام لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راجع الإسلام في خلافة أبي بكر، وخرج مع سعد بن أبي وقاص إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، ونزل الكوفة ومات بها سنة اثنين وأربعين، وصلى عليه الحسن بن علي وهو بها أيامَ صالح معاوية، وقيل: مات سنة أربعين بعد موت علي بأربعين يومًا. روى عنه ابنه محمد وقيس ابن
(أ) في جـ: رأسا.
_________
(1)
البخاري، كتاب الشهادات، باب سؤال الحاكم المدعي هل لك بينة؟ قبل اليمين 5/ 279 ح 2666، 2667، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة 1/ 122 ح 220/ 138.
ابنه وقيس بن أبي حازم وأبو وائل والشعبي وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن عدي الكندي (1).
قوله: "هو فيها فاجرٌ". أي إذا كان متعمدًا عالمًا بأنه غير محق، والتقييد لا بد منه؛ لأنه لا وعيد يستحقه الحالف إلا إذا كان بهذه الصفة.
وقوله: "وهو عليه غضبان". وفي رواية: "معرض". المراد به إرادته بُعد المغضوب عليه من رحمته وتعذيبُه وإنكارُ فعله وذمُّه (2)، وهو مقيد بأن يموت ولم يتب، والله أعلم.
1181 -
وعن أبي موسى رضي الله عنه، أن رجلين اختصما في دابة ليس لواحد منهما بينة، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين. رواه أحمد وأبو داود والنسائي (3) وهذا لفظه، وقال: إسناده جيد.
وأخرج الحديث الحاكم (4)، وأخرجه البيهقي (5) وذكر الاختلاف فيه على قتادة، وقال: هو معلول للاختلاف فيه على سعيد بن أبي عروبة؛ فقيل: عنه عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى. وقيل: عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة، قال: أنبئت أن رجلين. قال
(1) ينظر تهذيب الكمال 3/ 286، والإصابة 1/ 87.
(2)
مذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضا والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى. شرح العقيدة الطحاوية 2/ 685.
(3)
أحمد 4/ 402، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئًا 3/ 309 ح 3613، والنسائي، كتاب آداب القضاة، باب القضاء فيمن لم تكن له بينة 8/ 248.
(4)
الحاكم 4/ 94، 95.
(5)
البيهقي 6/ 67، 10/ 254.
سماك بن حرب: أنا حدثت أبا بردة بهذا الحديث (1). فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا الحديث من أبيه، ورواه أبو كامل مظفر بن مدرك عن حماد عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبي بردة مرسلًا، قال حماد:[فحدثت](أ) به سماك بن حرب، قال: أنا حدثت به أبا بردة (2). وقال الدارقطني والبيهقي والخطيب (3): الصحيح أنه عن سماك مرسلًا، ورواه ابن أبي شيبة (4) عن [أبي](ب) الأحوص عن سماك عن تميم بن طرفة أن رجلين ادعيا بعيرًا، فأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم[به](جـ) بينهما. ووصله الطبراني (5) بذكر جابر بن سمرة فيه بإسنادين في أحدهما حجاج بن أرطاة (6) والراوي عنه سُويد بن عبد العزيز (7)، وفي [الآخر](د) ياسين الزيات (8)، والثلاثة ضعفاء.
(أ) في ب، جـ: فحدث. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 210.
(ب) في ب، جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 12/ 282.
(جـ) ساقطة من ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.
(د) في ب، جـ: الأخرى. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 210.
_________
(1)
علل الترمذي الكبير ص 213، وينظر التلخيص 4/ 209.
(2)
أحمد في العلل ومعرفة الرجال 1/ 80 ح 261.
(3)
علل الدارقطني 7/ 204، 205، والبيهقي 10/ 258، والخطيب -كما في التلخيص الحبير 4/ 210.
(4)
ابن أبي شيبة 6/ 315.
(5)
الطبراني 2/ 224، 225 ح 1834، 1835.
(6)
تقدمت ترجمته في 2/ 168.
(7)
تقدمت ترجمته في 3/ 258.
(8)
تقدمت ترجمته في 9/ 106.
وهذا حديث أبي بردة في أكثر ألفاظه بعير. وفي لفظ: في شيء (1). وفي لفظ: في دابة. وفي لفظ أبي داود: بعيرًا أو دابة. وفي النسائي بلفظ: دابة. من غير شك.
الحديث محمول على أن الدابة في أيدي المتداعيين كما بوب على ذلك البيهقي (2)، قال: باب المتداعيين يتنازعان المال وما يتنازعان في أيديهما معًا، ثم قال: قال الشافعي: فهو بينهما نصفان، فإن لم يجد واحد منهما بينة أحلفنا كل واحد منهما على دعوى صاحبه. ثم ساق حديث أبي موسى. وقد ذكر الإمام المهدي في "البحر" تفصيل المسألة والخلاف فيها، قال: ومتى كان المدعَى في أيديهما أو مقر لهما -قلت: أو لواحدٍ غير معين- فلِمَن بَيَّن أو حلف أو نكل صاحبه دونه، فإن بينا أو حلفا أو نكلا؛ ابن عمر وابن الزبير والثوري والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي: يقسم نصفين؛ لفعله صلى الله عليه وسلم في متداعيي البعير، لكن حيث بيّنا أو نكلا استحق كل واحد ما في يد خصمه ببينته، والنكول كالإقرار، وحيث لا بينة يتحالفان ويقسم؛ إذ كلٌّ مُدعٍ ومنكر، فيحلف كلٌّ فيما أنكره ولا يعطى ما ادعاه؛ لعدم البينة. الناصر ومالك والشافعي: بل تتهاتر البينتان (أ)؛ لتيقن كذب
(أ) في جـ: البينات. وتهاترت البينات إذا تساقطت وبطلت. المصباح المنير (هـ ت ر).
_________
(1)
البيهقي 6/ 67، 10/ 254.
(2)
البيهقي 10/ 254.
إحداهما، ولا تحالف (أ) مع عدمهما، فتقر مع ذي اليد، كتساقط الخبَرين والقياسين حيث تعارضا. الإمام يحيى: بل يحتمل صدقهما؛ لصحة تصرف كل واحد في كله تصرف المالك، فحملتا على الشركة؛ إذ الواجب التلفيق (1) ما أمكن. للشافعي: يقرع بينهما. للشافعي: بل يوقف حتى يصطلحا. قلنا: لا دليل. انتهى.
ورواية: أنه أقام كل واحد منهما بينة. قال ابن رسلان في "شرح السنن": يحتمل أن تكون القصة في هذا الإسناد والذي قبله واحدة، إلا أن البيِّنتين لما تعارضتا تساقطتا وصارتا كالعدم، وحكم لهما نصفين؛ لاستوائهما في اليد، ويحتمل أن يكون الحديث الأول في عين كانت في يدهما، ويدل عليه أن في رواية ابن ماجه (2): اختصم إليه رجلان بينهما دابة. والحديث الثاني: كانت العين في يد ثالث لا يدعيها. يدل عليه رواية النسائي (3) بلفظ: ادعيا دابة وجداها عند رجل، فأقام كل واحد (ب) منهما شاهدين، فلما أقام كل واحد شاهدين نزع من يده ودفع [إليهما](جـ) ليقتسماه بينهما نصفين. وهذا أظهر؛ لأن حمل الإسنادين على معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد.
(أ) في جـ: يخالف.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ) في ب، جـ: إليه. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
تلافقوا: إذا تلاءمت أمورهم وأحوالهم. التاج (ل ف ق).
(2)
ابن ماجه 2/ 780 ح 2330.
(3)
النسائي في الكبرى 3/ 487 ح 5997.
1182 -
وعن جابر (أ) رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان (1).
وأخرجه البيهقي (2) من طريق الشافعي.
الحديث فيه دلالة على عظم (ب) إثم من حلف اليمين الآثمة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء في تغليظ التحليف بالمكان والزمان، هل يجوز للحاكم أم لا؟ وهذا الحديث لا يدل على ذلك، وإنما فيه دلالة على وعيد من فعل اليمين الفاجرة فقط، وقد ذكره البيهقي في باب تأكيد اليمين بالمكان، فذهب العترة والحنفية إلى أنه لا تغليظ بمكان ولا زمان، والحنابلة كذلك، والمراد أنه لا يجب على الحالف الإجابة إلى ذلك، وذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ؛ ففي المدينة المشرفة على المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وفي غيرهما في المسجد الجامع، واحتج من لم يقل بالتغليظ
(أ) كتب في هامش ب: هكذا في بعض نسخ المتن وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. رواه الشافعي وأصحاب السنن وابن حبان، وقال ابن أبي حاتم: إنه صحيح. ورواه البيهقي أيضًا. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه تقدم برقم 1076 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(ب) في جـ: عظيم.
_________
(1)
أحمد 3/ 344، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي 3/ 219 ح 3246، والنسائي في الكبرى، كتاب القضاء، باب اليمين على المنبر 3/ 491 ح 6018، وابن حبان كتاب الأيمان، باب ذكر إيجاب دخول النار للحالف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا 10/ 210 ح 4368.
(2)
البيهقي 10/ 176.
بالأحاديث الواردة في اليمين كقوله: "شاهداك أو يمينه"(1). وغيره، ولم يذكر معها تغليظ؛ ولذلك بوب البخاري (2): باب: يحلف المدعَى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه". ولم يخص مكانًا دون مكان. انتهى. وهذا من جودة فقه البخاري وقوة استنباطه، ولا يعترض عليه بما بوب قبله: باب: اليمين بعد العصر. وذكر فيه حديث أبي هريرة (3): "ثلاثة لا يكلمهم الله
…
" الحديث، وفيه: "ورجل ساوم بسلعته بعد العصر". انتهى. ولعله يقول: ورد التغليظ بالزمان فيكون خاصا كما في الحديث، وكما في قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (4). وقد فسرت بصلاة العصر، إلا أنه يرد عليه: القياس يقضي بالتغليظ بالكان قياسًا على الزمان. واحتج الجمهور لهذا بحديث جابر وحديث أبي أمامة مرفوعًا: "من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا". أخرجه النسائي (5) ورجاله ثقات، وأخرج الكرابيسي (6) في "أدب القضاء" بسند قوي إلى سعيد ابن المسيب قال: ادعى مدع على آخر أنه اغتصب له بعيرًا، فخاصمه إلى عثمان، فأمره عثمان أن يحلف عند المنبر، فأبى أن يحلف وقال: أحلف له
(1) تقدم في ص 62.
(2)
البخاري 5/ 284 عقب ح 2672.
(3)
البخاري 5/ 284 ح 2672.
(4)
الآية 106 من سورة المائدة.
(5)
النسائي في الكبرى 3/ 492 ح 6019.
(6)
الكرابيسي -كما في الفتح 5/ 285.
حيث شاء غير المنبر. فأبى عليه عثمان أن يحلف إلا عند المنبر، فغرم له بعيرًا مثل بعيره ولم يحلف. وأخرج البيهقي (1) من طريق الشافعي عن أبي غطفان (أابن طريف أ) المري قال: اختصم زيد من ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار، فقضى باليمين على زيد بن ثابت على المنبر، فقال زيد: أحلف له مكاني. فقال مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق. فجعل زيد يحلف أن حقه لحق، ويأبي أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك. قال مالك: كره زيد صبر اليمين. وأخرج (1) عن الشافعي قال: وبلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلف على المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل، وأن عثمان رضي الله عنه ردت عليه اليمين على المنبر فاتقاها وافتدى منها، وقال: أخاف أن يوافق قدر بلاء فيقال: بيمينه. وأخرج (1) عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة شهدت أنها أرضعت امرأة وزوجها، فقال: استحلفها عند المقام؛ فإنها إن كانت كاذبة لم يحل عليها الحول حتى يَبيَضَّ ثدياها. فاستحلفت فحلفت، فلم يحل عليها الحول حتى ابيض ثدياها. وأخرج (2) عن الشعبي قال: قُتل رجل فأدخل عمر بن الخطاب الحجرة من المدعَى عليهم خمسين رجلًا، فأقسموا: ما قتلنا ولا
(أ- أ) في جـ: من طريق.
_________
(1)
البيهقي 10/ 177.
(2)
البيهقي 10/ 176.
علمنا قاتلًا. وأخرج (1) عن عطاء بن أبي رباح، أن رجلًا قال لامرأته: حبلك على غاربك. مرارًا، فأتى عمر بن الخطاب، فاستحلفه بين الركن والمقام: ما الذي أردت بقولك؟ وهما مرسلان يؤكد أحدهما الآخر، وأخرج (1) من طريق الشافعي عن المهاجر بن أبي أمية قال: كتب إليَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن ابعث إليّ بقيس بن مكشوح في وثاق، فأحلفه خمسين يمينا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل دادوي (أ). قال الشافعي (2): وهذا قول حكام المكيين ومفتيهم. قال الشافعي: وأخبرني مسلم والقداح عن ابن جريج عن عكرمة ابن خالد، أن عبد الرحمن بن عوف رأى قوما يحلفون بين المقام والبيت، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا. قال: فعلى عظيم من الأموال (ب)؟ قالوا: لا. قال: لقد خشيت أن يبهأ (جـ) الناس بهذا المقام. أي [يأنسوا](د) به فتذهب (هـ) هيبته من (و) قلوبهم. قال أبو عبيد (3): بَهَأت بالشيء إذا أنِسْت
(أ) كذا في ب، جـ، وسنن البيهقي. وفي إحدى نسخه كما في حاشية السنن: داذوي. وقد اختلف في ضبط اسمه، فورد: داذويه، وبزادويه، ودادويه. والأكثر على داذويه. وينظر الإصابة 2/ 397، 425.
(ب) كذا في ب، جـ، وسنن البيهقي 10/ 176، وفي الأم 7/ 34: الأمر.
(جـ) في الأم 7/ 34: يتهاون.
(د) في ب، جـ: يأنس. والمثبت من سنن البيهقي 10/ 176.
(هـ) في جـ: فيذهب.
(و) في جـ: في.
_________
(1)
البيهقي 10/ 176.
(2)
الأم 7/ 34.
(3)
غريب الحديث لأبي عبيد 4/ 473.
به. قال الشافعي (1): ذهبوا إلى أن العظيم من الأموال عشرون دينارًا. و [قال مالك](أ): يحلف على ربع دينار. لانه نصاب السرقة عنده. فهذه الآثار عن الصحابة تدل على أن التغليظ بالمكان شائع ذائع واجب إذا طلبه الخصم؛ لأنه لو كان غير واجب لما امتنع البعض منه وافتدى منه بالمال. وقال الإمام يحيى: إن التغليظ يستحب وليس بواجب. وقال أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي: يستحب أيضًا في القليل كالكثير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولو على أراك"(2). قال الإمام المهدي: والأقرب أنه موضع اجتهاد للحاكم واستحسانه جنسًا وقدرًا. قال: كما أشار إليه الشافعي حيث قال: استحسنت له ذلك. انتهى. وظاهر كلام الشافعي الذي نقله عنه البيهقي الوجوب. والله أعلم.
وقد ورد التغليظ بالزمان كما في قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (3). قال الشافعي (4): وقال المفسرون: صلاة العصر. قال البيهقي (5): قد روينا عن الشعبي في مثل قصة الآية الكريمة عن أبي موسى الأشعري: وأحلفهما بعد العصر ما خانا. وأخرج (5) في حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم. الحديث: "ورجل ساوم رجلًا على سلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا. فصدقه الآخر".
(أ) في ب: قالوا. وفي جـ: قال. والمثبت من الأم 7/ 34.
_________
(1)
الأم 7/ 34.
(2)
أبو داود 3/ 219 ح 3246.
(3)
الآية 106 من سورة المائدة.
(4)
الأم 7/ 36.
(5)
البيهقي 10/ 177.
(أعن أبي هريرة أ). وعن أبي هريرة (1) أيضًا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم؛ رجل حلف على مال امرئ مسلم بعد صلاة العصر فيقتطعه
…
" الحديث. أخرجاهما في "الصحيحين" (2)، و (ب) قال الخطابي (3): خص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت؛ لأن الله تعالى (جـ) عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت العقوبة فيه؛ لئلا يقدم عليها تجرؤا، فإن من تجرأ عليها فيه اعتادها في غيره. وكان السلف يحلفون بعد العصر، وكذلك التحليف على المصحف. أخرج البيهقي (4) عن الشافعي قال: أخبرني مُطَرف بن مازن (جـ) بإسناد لا أحفظه أن ابن الزبير أمر أن يحلف على المصحف. قال الشافعي: ورأيت مطرفًا بصنعاء يحلف على المصحف. قال الشافعي (5): وقذ كان من حكام الآفاق من يستحلف علي المصحف، وذلك عندي حسن. قال الإمام يحيى: وفي المساجد لشرفها، وعلى المصاحف لحرمتها؛ فيضع يده على المصحف.
(أ- أ) ساقطة من: ب.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ) في جـ: به.
(د) في جـ: ماران. وينظر ميزان الاعتدال 4/ 125.
_________
(1)
البيهقي 10/ 177، 178.
(2)
هو الحديث الآتي في الصفحة التالية.
(3)
الفتح 13/ 203.
(4)
البيهقي 10/ 178.
(5)
الأم 6/ 259.
ويكره اختصاص شيء من الحجارة، إذ فيه تشبه (أ) بالوثنيين؛ كما يفعل في مؤخر جامع صنعاء عند الحجر الأخضر، وهي في شرقي جامع صنعاء. انتهى (ب).
1183 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله: لأخذها بكذا وكذا. فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إمامًا لا يبايِعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفي، وإن لم يعطه منها لم يف". متفق عليه (1).
قوله: "لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم". هذا كناية عن غضبه تعالى عليهم، وإشارة إلى حرمانهم عما عند الله من المنازل والقرب، فإن من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه، كما أن من اعتد (جـ) بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه (2).
"ولا يزكيهم". أي: لا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم.
(أ) في جـ: شبيه.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ) في جـ: اعيد.
_________
(1)
البخاري، كتاب الشهادات، باب اليمين بعد العصر 5/ 284، ح 2672، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار 1/ 103 ح 108/ 173.
(2)
قال ابن القيم: قول أتباع الرسل الذين تلقوا هذا الباب عنهم أثبتوا لله صفة الكلام كما أثبتوا له سائر الصفات. مختصر الصواعق المرسلة 2/ 293، وينظر ما تقدم ص 73.
"ولهم عذاب أليم". على ما فعلوا.
لفظ: "ولا ينظر إليهم". زادها جرير من رواية الأعمش وسقط من روايته لفظ: "يوم القيامة". وسقط من روايته: "ولا يكلمهم". وثبت هذا اللفظ جميعه من رواية معاوية عن الأعمش عند مسلم على وفق الآية التي في "آل عمران" وقال في آخر الحديث: ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (1).
وقوله: "رجل على فصل ماء". جاء في رواية (2): "رجل كان له فضل ماء منعه من ابن السبيل". والمقصود واحد، وجاء في رواية البخاري "بالطريق" بدل "الفلاة". وقد تقدم في كتاب البيع الكلام عليه (3).
وقوله: "لأخذها بكذا". جاء في رواية البخاري (4): "لقد أُعطي بها كذا وكذا". مضبوطًا بضم الهمزة وكسر الطاء على البناء للمجهول، وفي بعض نسخه بفتح الهمزة وفتح الطاء على البناء للفاعل، والضمير للحالف، وهي أرجح لمطابقتها لرواية:"لأخذها بكذا".
وقوله: "فصدقه". أي المشتري.
وقوله: "وهو على غير ذلك". الضمير في "وهو" إلى الآخذ المدلول عليه بالفعل بأقل مما ذكره الحالف، وفي نسخ البخاري (4):"فصدقه فأخذها"
(1) الآية 77 من سورة آل عمران.
(2)
البخاري 5/ 34 ح 2358.
(3)
تقدم في 6/ 56 - 61.
(4)
الفتح 12/ 202.
أي (أ) المشتري، "ولم يعط بها القدر". أي القدر الذي حلف أنه عوضها.
وقوله: "ورجل بايع إمامًا". جاء في رواية: "إمامه". وهذا حكم المؤلفة قلوبهم. وفي الحديث وعيد شديد في نكث البيعة والخروج على الإمام؛ لما في ذلك من تفريق الكلمة، ولما في الوفاء من تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء.
والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمن جعل مبايعته لمال يعطاه دون ملاحظة المقصود في الأصل، فقد خسر خسرانًا مبينًا، ودخل في الوعيد المذكور، وجاء في رواية البخاري (1) عوض الثالث:"ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم". قال الكرماني (2): ولا منافاة؛ لأن التخصيص بعدد لا ينفي ما زاد عليه، يعني أن [الراويين](ب) حفظ أحدهما ما لم يحفظ الآخر، فالمجتمع من الحديثين أربع خصال، وكل من الحديثين مصدر بثلاثة، فكأنه كان في الأصل أربعة، فاقتصر كل من الراويين على واحد ضمه مع الاثنين اللذين توافقا عليهما، فصار في رواية كل منهما ثلاثة، وقد أخرج مسلم (3) حديث أبي هريرة ولكن قال: "وشيخ زان،
(أ) في جـ: إلى.
(ب) في ب، جـ: الروايتين. والمثبت من الفتح 13/ 202.
_________
(1)
البخاري 13/ 423 ح 7446.
(2)
البخاري بشرح الكرماني 24/ 245.
(3)
مسلم 1/ 102 ح 107.
وملك كذاب، وعائل مستكبر". وأخرج من حديث أبي ذر (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنان الذي لا يعطي شيئًا (أ) إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره". ويجتمع من مجموع هذه الأحاديث تسع خصال، ويحتمل أن تبلغ عشرًا، لأن النفق سلعته بالحلف الكاذب مغاير للذي حلف: لقد أعطى بها كذا. لأن هذا خاص بمن يكذب في أعمال الشراء، والذي قبله أعم منه، فتكون خصلة أخرى.
1184 -
وعن جابر رضي الله عنه، أن رجلين اختصما في ناقة فقال كل واحد منهما: نُتِجت عندي. وأقاما (ب) بينة، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هي في يده (2).
الحديث أخرجه البيهقي (3) ولم يضعف إسناده، وأخرج أيضًا من طريق الشافعي نحوه (3) إلا أن فيه: تداعيا دابة. ولم يضعف إسناده أيضًا، وأخرج عبد الرزاق (4) عن يحيى [بن] (جـ) الجزار قال: اختصم إلى علي رجلان في دابة وهي في يد أحدهما، فأقام هذا بينة أنّها دابته فقضى بها للذي هي في
(أ) في جـ: شيء.
(ب) في مصدري التخريج: أقام.
(جـ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 31/ 251.
_________
(1)
مسلم 1/ 102، ح 106.
(2)
الدارقطني 4/ 209 ح 21 كما سيشار إليه في الحديث الذي بعده.
(3)
البيهقي 10/ 256.
(4)
عبد الرزاق 8/ 278 ح 15208.
يده. قال: وقال علي: إن لم تكن في يد واحد منهما، فأقام كل واحد منهما بينة أنها دابته فهي بينهما.
الحديث فيه دلالة على أن اليد مرجحة للشهادة الموافقة لها، وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وشريح والنخعي وأبو ثور والحكم (أ)، قال الشافعي رحمه الله تعالى: يقال لهما: قد استويتما في الدعوى والبينة، وللذي (ب) هو في يده سبب بكينونته في يده هو أقوى من سببك؛ فهو له بفضل قوة سببه، وفيه سنة بمثل ما قلنا. فذكر الحديث. وذهب الناصر والهادي والمؤيد وأبو طالب وأبو العباس وأحمد بن حنبل إلى أنها ترجح بينة الخارج، وهو من لم تكن في يده، قالوا: إذ شرعت له وللمنكر اليمين، وإذ قوله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي"(1). يقتضي ألا تفيد بينة المنكر، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من كان في يده شيء (جـ) فبينته لا تعمل له شيئًا. ذكره في "البحر"، وقد يجاب عن ذلك بأن حديث جابر خاص وحديث:"البينة على المدعي". عام، والخاص مخصص، وحديث علي رضي الله عنه معارض بما سبق. وذهب القاسم في إحدى الروايتين عنه أنه يقسم بينهما؛ لأن اليد مقوية لبينة الداخل، فساوت بينة الخارج، والرواية الأخرى كقول الشافعي، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها ترجح بينة الخارج حيث شهدت بملك مطلق أو مضاف إلى سبب يتكرر؛ كالمصبوغ الذي يتكرر بسبب صبغته حسب (جـ)
(أ) في جـ: الحاكم.
(ب) في جـ: الذي.
(جـ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
تقدم ح 1177.
الحاجة، وذلك فيما يصاغ من الذهب والفضة، وكخز مما ينسج مرتين أو كتان ينقض (أ) ثم ينسج، إذ (ب) الإطلاق يحقق كونه مُدعيا، والتكرار يفيد القوة، فإن أضيف إلى سبب لا يتكرر؛ كنتاج وصوف ونحوه، فبينة الداخل؛ لقوتها باليد وضعف الخارجة (جـ). كذا حكى الخلاف الإمام المهدي عليه السلام في "البحر"، والجواب عن الحنفية، أن العمل بالسنة أولى. وأخرج البيهقي (1) عن شريح أن رجلين ادعيا دابة فأقام أحدهما البينة وهي في يده أنه نتجها، وأقام الآخر بينة أنها دابته عرفها، فقال شريح: الناتج أحق من [العارف](د). وهذا الذي (هـ ذهب إليه هـ) يصلح أن يكون قولًا غير ما قد حكى.
1185 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق. رواهما الدارقطني (2) وفي إسنادهما ضعف.
الحديث أخرجه البيهقي (3) من طرق ومدارها (و) على محمد بن مسروق
(أ) في جـ: ينقضى.
(ب) في جـ: إذا.
(جـ) في جـ: الحاجة.
(د) في ب، جـ: العرف. والمثبت من مصدر التخريج.
(هـ- هـ) ساقطة من: جـ.
(و) في ب: مدارهما.
_________
(1)
البيهقي 10/ 257.
(2)
أي هذا الحديث والذي قبله كما في البلوغ ص 321، وهذا الدارقطني 4/ 213 ح 34.
(3)
البيهقي 4/ 213.
عن إسحاق بن الفرات، ومحمد بن مسروق (1) لا يعرف، وإسحاق بن الفرات مختلف فيه. كذا قال المصنف (2) رحمه الله، وفي "الكاشف" للذهبي (3) قال: هو قاضي مصر ثقة معروف. قال المصنف (2): ورواه تمام في "فوائده" من طريق أخرى عن نافع. وقد ذكر هذا الحديث البيهقي في باب النكول ورد اليمين. وضعفه بتفرد سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي إلا أنه قال: الاعتماد على غيره. وساق في هذا الباب أحاديث القسامة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أولياء الدم بأن يحلفوا فأبوا، قال:"فيحلف (أ) يهود؟ ". وهو حديث "الصحيحين"(4). وأخرج (5) من طريق الشافعي وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَدَّأ الأنصاريين فلما لم يحلفوا رد اليمين على يهود. ومن طريق مالك مرسلة في "الموطأ"(6) كذلك، وأخرج (7) من طرق أنه قدم أيمان اليهود، فلما قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قال: "أفيقسم (ب) منكم خمسون أنهم قتلوه (جـ)؟ ". ولكن هذا خلاف رواية الجماعة، والجماعة أولى بالحفظ من
(أ) في ب: فتحلف.
(ب) في ب: ليقسم.
(جـ) في ب، جـ: قاتلوه. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
محمد بن مسروق، قال ابن القطان: لا يعرف، وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات 9/ 77، ولسان الميزان 5/ 379.
(2)
التلخيص الحبير 4/ 209.
(3)
الكاشف 1/ 64.
(4)
تقدم ح 988.
(5)
البيهقي 10/ 182.
(6)
الموطأ 2/ 878 ح 2.
(7)
البيهقي 10/ 183.
الواحد، يعني ابن عيينة، قال الشافعي رحمه الله في كتاب القسامة (1): كان ابن عيينة لا يثبت: أقدّم النبي صلى الله عليه وسلم الأنصاريين في الأيمان أو يهود؟ قال البيهقي (2): والقول قول من أثبت ولم يشك دون من شك، والذين أثبتوه عدد كلهم حفاظ أثبات وبالله التوفيق. ثم أخرج (3) عن عمر في قصة (أ) رجل من بني سعد بن ليث، أجرى فرسًا فوطئ على أصبع رجل من جهينة فنزي (ب) منها فمات، فقال عمر للذين (جـ) ادعي عليهم: تحلفون خمسين يمينًا ما مات منها؟ فأبوا وتحرجوا من الأيمان، فقال للآخرين: احلفوا أنتم. فأبوا. زاد أبو سعيد (4) في روايته بإسناده قال: قال الشافعي رحمه الله تعالى: فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين على الأنصاريين يستحقون، فلما لم يحلفوا حوَّلها على اليهود يبرءون بها، ورأى عمر رضي الله عنه اليمين على الليثيين يبرءون بها، فلما أبوا حوّلها على الجهنيين يستحقون بها (د)، وكل هذا تحويل يمين من موضع رئيت (هـ) فيه إلى الموضع الذي يخالفه، فبهذا وما أدركنا عليه أهل العلم ببلدنا يحكونه عن مفتيهم وحكامهم قديمًا وحديثًا. انتهى.
(أ) في ب: قضية.
(ب) في جـ: فبري. ونزي دمه: إذا جرى ولم ينقطع. النهاية 5/ 43.
(جـ) في جـ: للذي.
(د) في جـ: لها.
(هـ) في جـ: فرأيت، وفي مصدر التخريج: رتبت، وفي نسخة منه كالمثبت.
_________
(1)
الأم 6/ 90.
(2)
البيهقي 10/ 183.
(3)
البيهقي 10/ 183، 184.
(4)
البيهقي 10/ 184.
فهذه الأحاديث هي المعتمدة في رد اليمين على المدعي إذا لم يحلف المدعَى عليه.
الحديث فيه دلالة على ثبوت رد اليمين على المدعي، والمراد به أنها تجب اليمين على المدعي، ولكن إذا لم يحلف المدعى عليه، وقد ذهب مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين إلى أنه إذا نكل المدعى عليه فقالوا: لا يجب بنفس النكول شيء إلا إذا حلف المدعي، ولكن اليمين عند مالك تكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان وشاهد ويمين، إلا في التهمة، ولمالك في التهمة قولان، وعند الشافعي في كل موضع تجب فيه اليمين، وقال ابن أبي ليلى: في كل موضع. وذهب الهدوية والناصر وأبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين إلى أنه يثبت الحق بالنكول من دون تحليف للمدعي، إلا أن أبا حنيفة اشترط أن يكون النكول ثلاثًا، واستثنى القصاص في النفس، وصاحباه: القصاص ولو في دون النفس. (أوذهب الهادي إلى أنه لا يثبت به السبب، قال الإمام المهدي في "البحر": قلت: ولا خلاف فيه أ). واحتج له في "البحر" بفعل عمر في قصة (ب) مَن وطئ أصبع رجل (1)، وفعل عثمان لما قضى على عبد الله بن عمر في الغلام الذي باعه وادعى المشتري أن به داءً، وأمره عثمان أن يحلف لقد باعه وما به داءٌ، فأمر عثمان برد اليمين وارتجاع الغلام (2)، وبما روي عن ابن عباس أنه قال لابن أبي
(أ- أ) ساقطة من: ب.
(ب) في ب: قضية.
_________
(1)
تقدم الصفحة السابقة.
(2)
مالك 2/ 613 ح 4.
مليكة: احكم بمثل هذا في امرأتين استعدت إحداهما على صاحبتها بأنها غرزت فيها [إِشْفَى](أ)، فأنكرت المرأة ونكلت، فقرأ عليها:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} (1). ثم ضمنها الأرش (ب)(2) بالنكول (3). ويجاب عما ذكر بأن فعل عمر وعثمان لم يكن الحكم بنفس النكول، بل مع تحليف المدعي كما ذهب الأولون، وحديث ابن عباس يمكن حمله على زيادة تحليف المدعي وإن لم يذكره الراوي، ليوافق غيره، وقال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (4): وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى واليمين لإبطالها، وجب إن نكل عن اليمين أن [تحقق] (جـ) عليه الدعوى. قالوا: وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف النص؛ لأن اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه. انتهى. ويجاب عنه بأن النص قد دل أيضًا على ثبوتها على المدعي كما عرفت، فالعمل به واجب، واعلم أن الفقهاء المفرعين (د) على المذاهب قد ذكروا في مسائل كثيرة قبول يمين المدعي حيث لا يمكن إقامة البينة، وقد يستأنس له بما ذكر في حديث القسامة وغيره. والله أعلم.
(أ) في ب، جـ: المشقى. والمثبت من مصدر التخريج، والإشْفَى: المثقب. اللسان (ش ف ى).
(ب) بعده في ب: و.
(جـ) في ب، جـ: بحق. والمثبت من بداية المجتهد 8/ 663.
(د) في ب، جـ: المفرعون. والمثبت هو الصواب.
_________
(1)
الآية 77 من سورة آل عمران.
(2)
الأرش من الجراحات: ما ليس له قدر معلوم. وقيل: هو دية الجراحات. اللسان (أرش).
(3)
البخاري 8/ 213 ح 4552.
(4)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 8/ 663.
1186 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال:"ألم تري إلى مُجَزِّزٍ المدلجي نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: هذه أقدام بعضها من بعض؟ ". متفق عليه (1).
قوله: تبرق. بفتح التاء وضم الراء. أي: تضيء وتستنير من الفرح والسرور. والأسارير: هي المخطوط التي في الجبهة، واحدها (أسِر، والجمع أ) سرر وجمع الجمع أسارير.
وقولى: "ألم تري"؟. وفي لفظ للبخاري (2): "ألم تسمعي؟ ".
ومُجَزِّز بضم الميم وفتح الجيم ثم زاي مشددة مكسورة ثم زاي أخرى.
وهذا هو الصحيح المشهور، وحكى القاضي عياض (3) عن الدارقطني وعبد الغني أنهما حكيا عن ابن جريج (ب) أنه بفتح الزاي الأولى، وذكر مصعب الزبيري والواقدي (4) أنه سمي مجززًا لأنه كان إذا أخذ أسيرًا في الجاهلية جزَّ ناصيته وأطلقه. وهذا يدفع رواية فتح الزاي الأولى من اسمه، ويدل على أن
(أ-أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في ب: جرير.
_________
(1)
البخاري، كتاب الفرائض، باب القائف 12/ 56 ح 6770، 6771، ومسلم، كتاب
الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد 2/ 1081 ح 1459/ 38.
(2)
البخاري 6/ 565 ح 3555.
(3)
مشارق الأنوار 1/ 395، 396.
(4)
الفتح 12/ 57.
له اسمًا آخر، وهذا العلم طارئ عليه، ولكنه لم يذكره أحد، وكان مجزز عارفًا بالقيافة، وذكره ابن يونس (1) فيمن شهد فتح مصر، وقال: لا أعلم له رواية. وعن ابن عبد البر وأبي علي الغساني، أنه قال ابن جريج: إنه مُحْرِز بضم اليم والحاء المهملة الساكنة وكسر الراء المهملة وبعدها زاي، و (أ) هو ابن الأعور بن جعدة المدلجي؛ نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة (2)، وكانت القيافة في بني مدلج وبني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك، وليس خاصًّا بهم (ب) على الصحيح، فقد أخرج يزيد بن هارون (3) في "الفرائض" بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب، أن عمر كان قائفًا. أورده في قصة، وعمر قرشي ليس مدلجيًّا ولا أسديًّا، لا أسد قريش ولا أسد خزيمة.
وقوله: "آنفا"، بالمد أي قريبا، أو أقرب وقت.
قوله: "فقال: هذه أقدام بعضها من بعض؟ ". في رواية للبخاري (4): "ألم تري أن مجززا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطّيا رءوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؟ ".
(أ) في جـ: هذا.
(ب) في جـ: لهم.
_________
(1)
الفتح 12/ 57.
(2)
جمهرة أنساب العرب ص 187.
(3)
الطحاوي 4/ 163، والبيهقي 10/ 264 من طريق يزيد بن هارون به. وينظر الفتح 12/ 57.
(4)
البخاري 12/ 56 ح 6771.
الحديث فيه دلالة على اعتبار القيافة في ثبوت النسب، وهي مصدر قاف قيافة، يقال: فلان يقوف الأمر ويقتافه قيافة، مثل قفا الأثر واقتفاه. والقائف هو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة (1)، وكأنه مقلوب من قفا يقفو.
وقد ذهب إلى اعتبارها مالك والشافعي وجماهير العلماء، قال النووي (2): والمشهور عن مالك إثباتها في الإماء دون الحرائر. وفي رواية عنه إثياتها فيهما. وروى الخلاف في "نهاية المجتهد"(3). واعتبارها يكون في الأمة المتناسخة بالشراء أو المشتركة، ووطئها المشتريان في طهر، أو المشتركة يطؤها الشريكان في طهر، وكذا الزوجة إذا تزوجها زوج في العدة جهلا في طهر واحد، ووطئها في ذلك الطهر، وكذا في اللقيط إذا ادعاه اثنان، فإذا ألحق القائف الولد بواحد لحق به، وإن أشكل عليه أو نفاه عنهما، فيترك الولد حتى يبلغ وينتسب (أ) إلى من أراد منهما، وإن ألحقه بهما، فذهب عمر بن الخطاب (4) ومالك والشافعي إلى أنه يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من يميل إليه منهما. وقال أبو ثور: ويستحبون أنه يكون ابنا لهما. وقال الماجشون ومحمد بن مسلمة المالكيان: يلحق (ب) بأكثرهما له (جـ) شبها. قال محمد بن
(أ) في جـ: ينسب.
(ب) في جـ: يلتحق.
(جـ) ساقطة من: ب.
_________
(1)
انظر النهاية 4/ 121.
(2)
شرح صحيح مسلم 10/ 41.
(3)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 8/ 294.
(4)
سيأتي تخريجه ص 496 من هذه الملزمة.
مسلمة: إلا أن يعلم الأول فيلحق به. وروى في "نهاية المجتهد"(1) عن مالك أنه ليس يكون ابنا لاثنين؛ لقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (2). وحجتهم هذا الحديث، ووجه الاحتجاج به أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قول وفعل وتقرير، قالوا: وهذا (أ) من التقرير، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى فعلا من فاعل، أو علم به وكان ذلك الفعل من الأفعال التي لم يعلم إنكاره عليها (ب وقد قدر عليها ب)، كمضي كافر إلى كنيسة، أو مع عدم القدرة، كما كان يشاهده من كفار مكة من عبادة الأوثان وأذى المسلمين ولم ينكره؛ كان ذلك تقريرًا، ودل على جوازه، فإن استبشر به (جـ) فأوضحُ، كما وقع في قصة مجزّز، فإنه تكلم بانتساب أسامة إلى زيد واستبشر به النبي صلى الله عليه وسلم، فدلّ على تقرير كون القيافة طريقا إلى معرفة الأنساب، وما رواه مالك (3) عن سليمان بن يسار، أن عمر بن الخطاب كان يليط (4) أولاد الجاهلية بمن ادّعاهم في الإسلام، فأتى رجلان كلاهما يدّعي ولد امرأة، فدعا قائفا، فنظر إليه القائف فقال: لقد اشتركا فيه. فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبريني خبرك. فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيني في إبل
(أ) في جـ: هنا.
(ب- ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في ب: له.
_________
(1)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 8/ 292.
(2)
الآية 13 من سورة الحجرات.
(3)
الموطأ 2/ 740، 741 ح 22.
(4)
أي يلحقهم بهم، من ألاطه يليطه، إذا ألصقه به. النهاية 4/ 285.
لأهلها، فلا يفارقها حتى [يظُنَّ و](أ) تظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها، فأهريقت عليه دماء، ثم خلف عليها هذا -يعني الآخر- فلا أدري من أيهما هو؟ فكبّر القائف، فقال عمر للغلام؟ [وال](ب) أيهما شئت. فقضى عمر بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم بالقيافة من غير إنكار من واحد منهم، فكان كالإجماع. قالوا: وهو مروي عن ابن عباس (1) وأنس بن مالك (2)، ولا مخالف لهما من الصحابة. وذهب العترة وأبو حنيفة والكوفيون وأكثر أهل العراق إلى أنه لا يعمل بالقيافة في إثبات النسب، والحكم في ذلك الولد المذكور أن يكون للشريكين أو المشتريين أو الزوجين، إلا أن في الزوجين [تفصيلًا](جـ) عند الهدوية، وهو أنه إذا ترتب فراشان حكم به للآخر إن أمكن، وإلا فللأول إن أمكن، وإلا فلأيّهما، وفي اللقيط يكون لمن ادّعاه أولًا، فإن اتفقوا كان لهم الجميع إذا استووا، وإن كان أحدهم عبدًا كان للحر، أو (د) كان كافرًا كان للمسلم، وإن تداعى امرأتان فيه لحق بهما. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يلحق إلا بامرأة واحدة. وقال إسحاق: يقرع بينهما. قالوا: وحديث أسامة ليس من باب التقرير؛ وذلك لأن نسب أسامة كان معلوما إلى زيد، وإنما كان الكفار يقدحون في نسب أسامة
(أ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الموطأ.
(ب) في ب، جـ: فإلى. والمثبت من الموطأ.
(جـ) في ب، جـ: تفصيل. والمثبت هو الصواب.
(د) في جـ: وإن.
_________
(1)
عبد الرزاق 7/ 448 ح 13835.
(2)
البيهقي 10/ 264، 265.
لكونه كان أسود شديد السواد، وكان زيد أبيض. كذا قاله أبو داود (1) عن أحمد بن صالح، وقال القاضي عياض (2): قال غير أحمد بن صالح: كان زيد أزهر اللون، وأم أسامة هي أم أيمن، واسمها بركة، وكانت حبشية سوداء. قال القاضي: هي بركة بنت محصن بن ثعلبة بن عمر بن حصن (أ) بن سلمة بن عمرو بن النعمان (3)، وقد وقع في "الصحيح"(4) عن ابن شهاب، أن أم أيمن كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله، وتزوجت قبل زيد عبيدًا الحبشي، فولدت له أيمن فكنيت به، واشتهرت به، وكان يقال لها: أم الظباء. قال القاضي عياض (5): لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكر سواد ابنها أسامة؛ لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود. قال المصنف رحمه الله تعالى (5): يحتمل أنها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك، وذلك لأن القيافة إنما كانت من عادة الجاهلية، وقد جاء الإسلام بمحو آثارها، وتغيير أعلامها،
(أ) في مصدر التخريج: حصين. وانظر الاستيعاب 4/ 1793.
_________
(1)
أبو داود 2/ 289 عقب ح 2268.
(2)
شرح مسلم 10/ 41.
(3)
انظر ترجمتها في الاستيعاب 4/ 1793، وأسد الغابة 7/ 36. وورد فيهما اسمها: بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن عمرو بن النعمان.
(4)
مسلم 3/ 1391، 1392 ح 1771/ 70.
(5)
الفتح 12/ 57.
وطمس آثارها، فسكوته عن الإنكار على مجزز لا يكون تقريرا لفعله، واستبشاره إنما هو لإلزام المعاند الطاعن في نسب أسامة بما يقوله ويعتمده، فلا حجة في ذلك. ولكنه يرد عليه أنه لم يكن قد عرف من النبي صلى الله عليه وسلم إنكار القيافة، وليس كل ما كان يعتاد في الجاهلية غيّره الإسلام، فلا يبطل الاحتجاج، ويتأيد اعتبار هذا الحكم بما روي عن عمر، وعدم الإنكار عليه من الصحابة، وهو جار مجرى الإجماع، مع أنه قد روى الثوري (أ) عن صالح بن حيّ عن الشعبي عن زيد بن أرقم قال: كان علي رضي الله عنه باليمن، فأتي بامرأة وطئها ثلاثة في طهر وأحد، فسأل كل واحد منهم أن يقر لصاحبه بالولد، فأبوا، فأقرع بينهم وقضى بالولد للذي أصابته القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه (1). وهذا يخالف القولين السابقين.
واتفق القائلون بالقائف على أنه يشترط فيه العدالة، واختلفوا في أنه هل (ب) يشترط العدد أم يكتفى بواحد؟ والأصح عند أصحاب الشافعي الاكتفاء، وبه قال ابن القاسم المالكي. وقال مالك: يشترط اثنان. وبه قال بعض أصحاب الشافعي، والحديث يدل على أنه يكتفى بواحد.
واختلف أصحاب الشافعي في أنه هل يختص هذا الحكم ببني مدلج؟ والأصح أنه لا يختص، ويدل عليه ما روي عن عمر.
(أ) في جـ: النووي.
(ب) ساقطة من: ب.
_________
(1)
أبو داود 2/ 289 ح 2270، والنسائي 6/ 182.