المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الزهد والورع - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ١٠

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌باب الزهد والورع

‌بابُ الزُّهدِ والوَرَع

1233 -

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: "إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمًى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله (أ)، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". متفق عليه (1).

أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام. وإن الإسلام يدور عليه وعلى حديث: "الأعمال بالنية"(2)، وحديث:"من حسن إسلام المرء تركه ما (ب لا يعنيه ب) "(3)، وقال أبو داود السجستاني (4):

(أ) ساقطة من: ب.

(ب - ب) في ب: ما لان لم.

_________

(1)

البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 126 ح 52، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 3/ 1219، 1220 ح 1599/ 107.

(2)

البخاري 1/ 9 ح 1، ومسلم 3/ 1515 ح 1907.

(3)

سيأتي ح 1240.

(4)

ينظر صحيح مسلمٍ بشرح النووي 11/ 27.

ص: 231

يدور على أربعة أحاديث. هذه الثلاثة، وحديث:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1). وقفيل: حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"(2).

قال العلماء رحمهم الله تعالى: وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبّه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها؛ بأنه ينبغي أن يكون حلالًا، وأرشد إلى معرفة الحلال، وأنه ينبغي ترك المشتبهات؛ فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب، فقال عليه الصلاة والسلام:"ألا وإن في الجسد مضغة" إلى آخره. فبين أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه.

وأمَّا قوله عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين". فمعناه أن الأشياء ثلاثة أقسام؛ حلالٌ بين واضح لا يخفى حله، كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات، وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات، فإن هذه الأشياء حلال في أنفسها، واضحة الحل، والحرام البين كالخمر والخنزير والميتة والدم والبول، وكذلك الزنى والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية لشهوة، وأشباه ذلك، وأما المشتبهات فهي التي (أ) ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

البخاري 1/ 56، 57 ح 13، ومسلم 1/ 67 ح 45.

(2)

سيأتي ح 1238.

ص: 232

يعرفها كثيرٌ من الناس ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب وغير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال، فيكون الورع تركه، ويكون داخلًا في قوله عليه السلام:"فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه". وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله أو بحرمته أو يتوقف فيه؟ ثلاثة مذاهب، وهي مخرجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع؛ فعند من لا يثبت أن العقل حاكم قبل ورود الشرع لا حكم فيها (أبحل ولا حرمة أ) ولا إباحة ولا غيرها؛ لأن التكليف إنما هو بعد ورود الشرع، ومن قال بحكم العقل ففيها التحريم والإباحة والتوقف (ب). وقال الخطابي (1): ما شككت فيه فالورع اجتنابه، وهو على ثلاثة أحوال؛ واجب، ومستحب، ومكروه، فالواجب اجتناب ما يستلزم المحرم، والمندوب اجتناب معاملة مَنْ غلب على ماله الحرام، والمكروه اجتناب الرخصة المشروعة. انتهى.

وقد ينازع في المندوب، فإنه إذا غلب الحرام الأولى أن يكون واجب الاجتناب، وهو الذي بنى عليه الهدوية في معاملة (جـ) الظالم فيما لم يظن

(أ- أ) ساقط من: جـ.

(ب) في جـ: الوقف.

(جـ) غير واضحة في ب.

_________

(1)

ينظر الفتح 4/ 293.

ص: 233

تحريمه؛ لأن الذي غلب عليه الحرام يظن فيه التحريم.

وقال البخاري (1): باب من لم ير الوساوس من الشبهات. كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون انفلت من يد إنسان، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حرام أم حلال، ولا علامة تدل على ذلك التحريم، وكمن يترك تناول شيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه (أ) ويكون دليل إباحته قويا وتأويله ممتنع أو مستبعد. وقسم الغزالي (2) الورع أقسامًا؛ ورع الصدّيقين؛ وهو ترك ما لم يكن بَيّنة واضحة على (ب حله. وورع ب) المتقين؛ وهو ما لا شبهة فيه ولكن يخاف أن يجر إلى حرام. وورع الصالحين، وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم، بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، وإلا فهو ورع الموسوسين، وقد مرّ مثاله. قال: ووراء ذلك ورع الشهود، وهو ترك ما يسقط الشهادة أعم من أن يكون حرامًا أم لا. انتهى. وغير الحرام وهو ما يخل بالمروءة، بأن لا يفعله أمثال الفاعل، كالأكل في السوق وغير ذلك.

وقوله: "مشتبهات". ويروى " مُشبهات"، بضم الميم وتشديد الموحدة، و "مُشتبهات"، بضم الميم وتخفيف الموحدة.

(أ) زاد في ب: ويكون دليل على ضعفه.

(ب- ب) في جـ: جهة ورع.

_________

(1)

الفتح 4/ 294.

(2)

الإحياء 2/ 814، 815.

ص: 234

وقوله: "فقد استبرأ لدينه وعرضه". بالهمز بوزن "استفعل"، من البراءة، أي حصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي، وصان عرضه عن كلام الناس فيه.

وقوله: "إنَّ لكل ملك حمًى". معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل واحدٍ حمًى يحميه من الناس ويمنعهم عن دخوله، فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفًا من الوقوع فيه، ولله تعالى أيضًا حمًى، وهو محارمه، أي المعاصي التي حرمها؛ كالقتل، والزني، والسرقة، والقذف، والخمر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه ذلك، وكل هذا حمى الله، من دخله بارتكاب شيء من المعاصي استحق العقوبة، ومن قاربه يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه لم يقاربه، فلا يتعلق بشيء لقربه من المعصية، ولا يدخل في شيء من الشبهات.

وقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة". المضغة القطعة من اللحم، سُميت بذلك لأنها تمضع في الفم لصغرها.

وقوله: "إذا صلحت" و "إذا فسدت". بفتح اللام والسين وضمهما، والفتح أشهر وأفصح، والمراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب، وفي هذا الدلالة على أنه يجب أن يسعى الإنسان في صلاح قلبه وحمايته عن الفساد، ويحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس، وقد حكي الأول أيضًا عن الفلاسفة، والثاني عن الأطباء. قال المازري رحمه الله تعالى (1): احتج

(1) ينظر شرح مسلم 11/ 29.

ص: 235

القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (1).

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (2). وبهذا الحديث، فإنه جعل صلاح الجسد وفساده تابعًا للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعًا للقلب، فعلم أنه ليس محلًّا للعقل، واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، ولا حجة لهم في ذلك، لأنه يجوز أن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع من ذلك. قال المازري (3): لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكا.

وفي إشارة النعمان بأصبعيه إلى أذنيه تصريح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذهب إليه أهل العراق والجماهير من العلماء، قال القاضي عياض (3): وقال يحيى بن معين: إن أهل المدينة لا يصححون سماع النعمان من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حكاية ضعيفة أو باطلة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام". يحتمل وجهين؛ أحدهما: أنه من كثر تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده، وقد يأثم به، وذلك إذا نسب إلى تقصير. والثاني: أنه يعتاد

(1) الآية 46 من سورة الحج.

(2)

الآية 37 من سورة ق.

(3)

شرح مسلم 11/ 29.

ص: 236

التساهل ويتمرن عليه، وينتقل من شبهة إلى شبهة أغلظ من الأولى، وهكذا حتى (أ) يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السلف: إن المعاصي بريد الكفر. أي تسوق إليه، عافانا الله من الشرك.

وقوله: "يوشك أن يقع فيه". يقال: أوشك يوشك. بضم الياء وكسر الشين، أي يسرع ويقرب.

1234 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض". أخرجه البخاري (1).

قوله: "تعِسَ". بكسر العين المهملة ويجوز الفتح، أي سقط، والمراد هنا أنه هلك. وقال ابن الأنباري (2): التعسر الشر، قال الله تعالى:{فَتَعْسًا لَهُمْ} (3). أراد: ألزمهم الشر. وقيل: التعس البعد، أي: بعدًا لهم. وقال غيره: قولهم: تعسًا لفلان. نقيض قولهم: لعًا له. دعاء عليه بالعثرة، ولَعًا دعاء له بالانتعاش.

و"عبد الدينار". أي: طالب الدينار الحريص على جمعه القائم على حفظه، شبهه بالعبد لأنه لانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصًا، كالعبد الذي لا يخلص من أحكام الرِّقِّيَّة، وليس المذموم مجرد

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال 11/ 253 ح 6435.

(2)

ينظر الفتح 11/ 254.

(3)

الآية 8 من سورة محمد.

ص: 237

ملك الدينار المنتفع به في حاجاته ومقاصده، فإن ذلك مما يمدح ويحمد، بل قد يجب التملك ليسد به الخلة، وينفق على من يجب عليه الإنفاق.

والقطيفة هي الثوب الذي له خَمل، والخميصة هي الكساء المربع (أ).

وقوله: "إن أعطي رضي". يؤذن بشدة الحرص على ذلك، وذكر البخاري (1) الحديث في كتاب الجهاد بلفظ:"تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش". قال الطيبي (2): فيه ترقٍّ في الدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه، وإذا انتكس انقلب على رأسه. وقيل: التعس الجر على الوجه، والنكس الجر على الرأس. و "شيك" بكسر المعجمة بعدها ياء تحتانية ساكنة ثم كاف؛ أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش، وهو معنى قوله:"فلا انتقش". أو أن الطيب لا يتمكن من إخراجها، وجاز الدعاء عليه لأنه قصر عمله على جمع الدنيا والاشتغال بها عن أمر الدين الذي أمر به.

وقوله: "إن أُعطي". بضم أوله بتغيير صيغته، وهو يحتمل أن يكون ذما للمؤلَّف الذي لا يرضى إلا بما أعطي من الدنيا، أو لمن لم يرض بقسمة الله تعالى له من الرزق إذا قتر عليه ولا يرضيه إلا الغنى.

1235 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن

(أ) في جـ: المرقع.

_________

(1)

البخاري 6/ 81 ح 2887.

(2)

الفتح 11/ 254.

ص: 238

عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك. أخرجه البخاري (1).

قوله: بمنكبي (أ). المنكِب بكسر الكاف مجمع العضد والكتف، وضبط في بعض الأصول بصيغة التثنية، وجاء في رواية الترمذي (2) عن الليث: أخذ ببعض جسدي.

وقوله: "كأنك غريب". الغريب هو الذي ليس له مسكن يأويه ولا سكن يأنس به.

وقوله: "أو عابر سبيل". من باب عطف الترقي، و "أو" ليست للشك بل للتخيير أو الإباحة، يعني: قدر نفسك ونزلها منزلة من أردت من المذكورين، ويحتمل أن يكون بمعنى "بل" للإضراب قصدًا للترقي، يعني أن الناسك السالك ينزل نفسه منزلة الغريب، ثم يترقى إلى أن يكون عابر سبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السبيل القاصد إلى بلد شاسع، وبينهما أودية مردية، ومفاوز مهلكة، وقطاع طريق، فإن من شأنه ألا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة. وقال ابن بطال (3): لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس بل هو مستوحش [منهم](ب)، لا يكاد يمر بمن

(أ) ساقطة من: جـ.

(ب) في ب، جـ: فيهم. والمثبت من مصدر التخريج، والفتح 11/ 234.

_________

(1)

البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب 11/ 233 ح 6416.

(2)

الترمذي 4/ 490، 491 ح 2333.

(3)

شرح صحيح البخاري 10/ 148.

ص: 239

يعرفه فيأنس به، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه وتخفيفه من الأثقال، غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره، معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته من قصده، فشبه السالك بهما (أ). وفي هذا إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا، وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل.

وقوله: وكان ابن عمر. إلى آخره. زاد عبدة في روايته عن ابن عمر: اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا. الحديث (1). وزاد ليث في روايته: وعد نفسك في (ب) أهل القبور (2). وهذا الموقوف عن ابن عمر جاء معناه في حديث ابن عباس مرفوعًا أخرجه الحاكم (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". قال بعض العلماء: كلام ابن عمر منتزع من الحديث المرفوع، وهو متضمن لنهاية تقصير الأمل، وأن العاقل ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن (جـ) أن أجله يدركه قبل ذلك.

(أ) في جـ: لهما.

(ب) في جـ: من.

(جـ) في جـ: ينظر.

_________

(1)

أحمد 2/ 132.

(2)

تقدم تخريجه ص 239.

(3)

الحاكم 4/ 306.

ص: 240

وقوله: وخذْ من صحتك لمرضك. يعني أن العمر لا يخلو من صحة ومرض، فإذا كنت صحيحًا فسر سير القصد، وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة، بحيث يكون ما فعلت من الزيادة قائمًا مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف، أو أن المعنى أن تعمل ما تلقى نفعه بعد الموت، وبادر أيام صحتك بالعمل الصالح، فإن المرض قد يطرأ فيمنع من العمل، فيخشى على من فرط في ذلك أن يصل إلى المعاد بغير زاد، ولا يعارض هذا الحديث الذي أخرجه البخاري (1):"إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا". لأنه ورد في حق من قد ثبت منه العمل. وهذا الحديث في تحذير من لم يكن قد عمل عملًا معتادًا مداومًا عليه، فإنه إذا مرض ندم على ترك العمل فلا ينفعه الندم.

وقوله: وخُذْ من صحتك لمرضك. أي من زمن صحتك لمرضك، وجاء في رواية ليث: لسقمك (2).

وقوله: ومن حياتك لموتك. في رواية ليث (2): قبل موتك. وزاد: فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا. يعني هل يقال لك شقي أو سعيد: أو المراد: هل حيٌّ أو ميت.

وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للعالم تأنيس المتعلم والواعظ المتعظ بمس شيء من جسده، وتوجيه الخطاب إلى واحد وإن كان يراد الجمع،

(1) البخاري 6/ 136 ح 2996.

(2)

تقدم تخريجه ص 239.

ص: 241

وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير إلى أمته، والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بد منه.

1236 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تشبه بقوم فهو منهم". أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان (1).

الحديث في سنده ضعف، لكن له شواهد عند البزار عن حذيفة (2) وأبي هريرة (3)، وعن أنس في "تاريخ أصبهان"(4) لأبي نُعيم والقضاعي (5) عن طاوس مرسلًا، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم:"من رضي عمل قوم كان منهم". عن ابن (أ) مسعود، رواه أبو يعلى (6) مرفوعًا.

الحديث فيه دلالة على أنه يحرم التشبه بالكفار والفساق فيما يختصون به، من كلام، أو مشي، أو هَيْئة، أو لباس، وإذا تشبه بالكافر في زي يختص به، واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، وإنْ لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، قال في "شرح الإبانة": إنه لا يكفر عند السادة والفقهاء. وهو قول أبي هاشم، والقاضي عبد الجبار، لكن يؤدب. وقال أبو علي: إنه يكفر. وذهب إلى ذلك أبو طالب، وهو ظاهر الحديث.

(أ) في ب: أبي.

_________

(1)

أبو داود 4/ 43 ح 4031.

(2)

البزار 7/ 368 ح 2966.

(3)

البزار -كما في نصب الراية 4/ 347.

(4)

تاريخ أصبهان 1/ 129.

(5)

مسند الشِّهاب 1/ 244 ح 390.

(6)

أبو يعلى -كما في المطالب العالية 4/ 315 ح 1788.

ص: 242

1237 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". رواه الترمذي (1)، وقال: حسن صحيح.

تمام الحديث: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف". وجاء من رواية رزين (2): فقال لي: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك -أو قال: أمامك- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك، لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك، جفت الأقلام، وطويت الصحف، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، ولن يغلب عسرٌ يسرين". وقد جاء نحو هذا في "مسند أحمد بن حنبل"(3) رحمه الله.

قوله: "احفظ الله". أي احفظ أمر الله تعالى بملازمة طاعته وتقواه؛ فلا يراك حيث نهاك، واحفظ حدوده ومراسيم واجباته؛ فلا تضيع منها

(1) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب (59) 4/ 575، 576 ح 2516.

(2)

رزين -كما في جامع الأصول 11/ 685، 686 ح 9315.

(3)

أحمد 1/ 307.

ص: 243

شيئًا، فإذا قمت بذلك تسبب منه أن يحفظك الله تعالى في دنياك ودينك، كما قال الله تعالى:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1). فقوله: "يحفظك". مجزوم جواب شرط الأمر.

وقوله: "تجده تجاهك". التاء في "تجاه" مبدلة من الواو وأصله وجاه، وهو كناية عن كونه سبحانه وتعالى يقبل على العباد بقبول طاعتهم، ويجازي بالقليل من العمل الكثير الطيب، فالمراد هنا أنه سبحانه وتعالى يكون مع المطيع في كل أحواله بالحفظ والكلاءة والتأييد والإعانة.

وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للمؤمن إمحاض التوكل على الله تعالى، والاعتماد عليه في جميع أحواله فيما سأل ورغب في حصوله، وفيما (أ) استعاذ من حصوله والتجأ إلى الله تعالى في دفع مكروهه. والتوكل هو إسناد الأمر إلى الله تعالى والوثوق به، ويكون بما عند الله أوثق بما عنده، ولا ينافيه القيام بالأسباب، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأرزاق في الأغلب مشروطة بشروط، فإذا طلب الإنسان رزقه بسبب فإن كان قد كتب له سبحانه وتعالى إدراك شيء بذلك السبب شكر على حصوله، وإن حرم صبر على الحرمان ورضي بما قسم الله له، ويعتقد أن الذي وصل إليه من الرزق من النعم الواصلة من الله تعالى، وأن الفائت له منه لمصلحة له، فطلب الرزق لا ينافي التوكل على الله، فقد جاء في الحديث:"كسب الحلال فريضة". أخرجه الطبراني والبيهقي والقضاعي (2)، عن ابن مسعود مرفوعًا، وفيه عَبّاد

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

الآية 97 من سورة النحل.

(2)

الطبراني 10/ 90 ح 9993، والبيهقي 6/ 128، والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 104 ح 121.

ص: 244

ابن كثير وهو ضعيف، وله شواهد. وأخرج الديلمي (1)، عن أنس:"طلب الحلال واجب على كل مسلم". وعن ابن عباس مرفوعًا: "طلب الحلال جهاد". رواه القضاعي (2). ومثله في "الحلية"(3)، عن ابن عمر. وبعضها يقوي بعضًا، وشواهدها كثيرة، والكسب الممدوح الذي يكون لطلب الكفاية له ولمن يعول، أو الزائد على ذلك إذا كان لقصد إغاثة ملهوف، أو إعانة طالب علم أو مفتٍ أو قاض وغيرهم، ممن كان اشتغالهم بمصالح المسلمين لا بغير (ب) ذلك، فإنه يكون من الإقبال على الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة، وأما العالم المشتغل بالتدريس والحاكم المستغرق أوقاته في إقامة الشريعة، ومن كان من أهل الولايات العامة كالإمام، فترك التكسب أوْلى بهم؛ لما فيه من الاشتغال عن القيام بما هم فيه، ويرزقون من الأموال المعدة للمصالح. قال بعض العارفين: وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (4). بعد قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} (5). وهو كلامٌ حسن، بل وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ

(أ) في ب: بما.

(ب) في جـ: لغير.

_________

(1)

الديلمي في مسند الفردوس 3/ 16 ح 3727.

(2)

القضاعي في مسند الشهاب 1/ 83 ح 82.

(3)

الحلية -كما في الجامع الصغير 4/ 270 ح 5273 - فيض القدير.

(4)

الآية 98 من سورة الحجر.

(5)

الآية 97 من سورة الحجر.

ص: 245

وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (أ)} (1). والله سبحانه أعلم.

1238 -

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال:"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". رواه ابن ماجه، وسنده حسن، (ب وصححه الحاكم ب)(2).

الحديث في إسناده خالد بن عمرو القرشي (3)، عن الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي. وخالد مجمع على تركه بل نسب إلى الوضع، فلا يصح قول الحاكم: إنه صحيح الإسناد. لكن قد رواه غيره عن الثوري (4). وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(5) من حديث منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن أنس رفعه نحوه. ورجاله ثقات ولم يثبت سماع مجاهد عن أنس، وقد رواه الأثبات فلم يجاوزوا به مجاهدًا. وكذا يروى من حديث ربعي بن خراش، عن الربيع بن خثيم، رفعه مرسلًا (6)، وقد حسن الحديث النووي (7) رحمه الله تعالى.

(أ) بعده في ب، جـ: تعالى.

(ب - ب) ساقطة من: ب.

_________

(1)

الآية 37 من سورة النور.

(2)

ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا، 2/ 1373، 1374 ح 4102، والحاكم 4/ 313.

(3)

خالد بن عمرو بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن العاص الأموي، أبو سعيد الكوفي، رماه ابن معين بالكذب، ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع. التقريب ص 189، وينظر تهذيب الكمال 8/ 138.

(4)

أبو نعيم في الحلية 3/ 252، 253، وابن عدي في الكامل 3/ 902 من طريق الثوري.

(5)

الحلية 8/ 41.

(6)

أبو نعيم في حلية الأولياء 8/ 53 من طريق ربعي به.

(7)

رياض الصالحين ص 226، 227 ح 476.

ص: 246

الحديث فيه دلالة على فضيلة الزهد، وأن الزهد سبب في محبة الله للعبد، التي هي أشرف المقاصد وأفضل المطالب، وكذلك الزهد فيما عند الناس؛ فإنه لا يرق المرء لغيره ويستحكم عليه نفاذ ما طلب منه إلا إذا كان له طمع فيما عند الناس، ويحصل بذلك إهانته والتبرم من حاله وكراهة مقامه.

1239 -

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ". أخرجه مسلم (1).

قوله: "إن الله يحب". قال العلماء: محبة الله لعبده هي إرادته الخير له، وهدايته ورحمته، ونقيض ذلك البغض، وهو إرادة عقابه وشقاوته (2).

وقوله: "التقي". وهو الآتي بما يجب عليه من التكاليف، و "الغني". المراد به غنى النفس، وهو الغنى المحبوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ولكن الغنى غنى النفس"(3).

وأشار القاضي عياض (4) إلى أن المراد به غنى المال، وهو محتمل.

وقوله: "الخفي". بالخاء المعجمة، هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في روايات مسلم، وذكر القاضي عياض أن بعض رواة مسلم رووه بالمهملة، ومعناه بالمعجمة الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بأمور نفسه، ومعناه بالمهملة الوَصُول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء.

وفي الحديث دلالة على تفضيل الاعتزال وترك الاختلاط بالناس، وفي ذلك خلاف، وقد يحمل هذا على ترك الاختلاط في أيام الفتنة، كما قد

(1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق 4/ 2277 ح 2965.

(2)

ينظر ما تقدم ص 73 حاشية (2).

(3)

البخاري 11/ 271 ح 6446، ومسلم 2/ 726 ح 1051.

(4)

ينظر شرح مسلم 18/ 100.

ص: 247

جاء الأمر بذلك صريحًا. والله أعلم.

1240 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". رواه الترمذي وقال: حسن (1).

وأخرج الحديث مالك (2) عن الزهري عن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حسن إسلام المرء". الحديث. لما سأل رجل مالكًا عن رجل يشرب في الصلاة ناسيًا فقال: ولم لا يأكل؟! ثم ذكر الحديث.

وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعم الأقوال، كما روي أن في صحف إبراهيم عليه السلام:"من عدَّ [كلامه] (أ) من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه"(3). ويعم الأفعال، فيندرج في هذا ترك التوسع في الدنيا وطلب المناصب والرئاسة، وحب المحمدة والثناء وغير ذلك مما لا يحتاج إليه المرء في إصلاح دينه وكفايته من دنياه، ولا يقال: إنه يكون من الاشتغال بما لا يعني ما ذكر العلماء من المسائل الفرضية التي يندر وقوعها أو يعدم، وقد بالغ العلماء في تدوين ذلك وتخريجه وتنقيحه وتصحيحه؛ لأنه صدر منهم ذلك لما عرفوه من وقوع الجهل بالشرائع في الأعصار المتأخرة، وتهدم أركانها كما قال صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ"(4). و: "أول ما يرفع من هذه الأمة من العلم علم الفرائض"(5).

(أ) في ب، جـ: كلمه. والمثبت من مصدر التاريخ.

_________

(1)

الترمذي، كتاب الزهد، باب (11) 4/ 483 ح 2317. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه.

(2)

الموطأ 2/ 903 ح 3.

(3)

ابن حبان 2/ 78 ح 361. من حديث أبي ذر.

(4)

مسلم 1/ 130 ح 232.

(5)

ابن ماجه 2/ 908 ح 2719.

ص: 248

و: "إن الله لا ينتزع العلم انتزاعًا"(1) الحديث. وغير ذلك، فهذبوا المسائل، وأتعبوا القرائح، وخرّجوا التخاريج، وقدروا التقادير تسهيلًا للطالبين، وإرشادًا للراغبين في نيل فضيلة التعليم والإرشاد والتفهم، لا لطلب التعمق والتكلف والتنطع ليقال: إنه العالم المحقق، والفاحص المدقق. والأعمال بالنيات، والله سبحانه وتعالى المجازي لكل أحد بما سعى وما جهر به وما أخفى.

وقوله: "ما لا يعنيه". أي يهمه، من: عناه يعنوه ويعنيه، أي أهمه.

1241 -

وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطن". أخرجه الترمذي وحسنه (2).

وأخرج الحديث ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه"(3)، وتمامه:"بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة -وفي لفظ ابن ماجه: "فإن غلبت ابن آدم نفسه، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه".

الحديث فيه دلالة على ذم الشبع والامتلاء من الطعام، وأن ذلك شر، وهو مشهور معروف عند علماء الطب، أن الشبع أصل الأدواء، وأكثرها سببًا في فساد البدن، وترادف العلل، وقد أجاب الواقدي على مَنْ قال: إنه لم يكن في القرآن ذكر علم (أ) الطب بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا

(أ) بعده في جـ: في.

_________

(1)

البخاري 1/ 194 ح 100.

(2)

الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل 4/ 509، 510 ح 2380.

(3)

ابن ماجه 2/ 1111 ح 3349، وابن حبان 2/ 449 ح 674.

ص: 249

تُسْرِفُوا} (1). بناء على أن توسعة الأكل والشرب من الإسراف المضر بالأبدان.

وهذا الحديث منبه على القدر المحتاج إليه الذي يكون بلغةً للإنسان إلي حفظ البدن مدة بقائه في الدنيا، وقد جاء في الحديث كثير طيب في (أ) التحذير من توسيع الأكل. أخرج البزار (2) بإسنادين أحدهما ثقات مرفوعًا:"أكثر الناس شبعًا في الدنيا أكثرهم جوعًا يوم القيامة". قاله لأبي جحيفة لما تجشأ قال: فما ملأت بطني منذ ثلاثين سنة. وأخرج الطبراني (3) بسند حسن "أن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غدًا في الآخرة". زاد البيهقي (4): "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". والطبراني (5) بسندٍ جيد أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا عظيم البطن فقال بأصبعه: "لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك". والبيهقي واللفظ له والشيخان (6) باختصار: "ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم:

(أ) في جـ: من.

_________

(1)

الآية 31 من سورة الأعراف.

(2)

البزار 4/ 258 ح 3669، 3670 - كشف.

(3)

الطبراني 11/ 267 ح 11693 من حديث ابن عباس.

(4)

البيهقي في الشعب 5/ 27 ح 5645 من حديث سلمان.

(5)

الطبراني 2/ 319 ح 2184، 2185.

(6)

البيهقي في الشعب 5/ 34 ح 5670، والبخاري 8/ 426 ح 4729، ومسلم 4/ 2147 ح 2785.

ص: 250

{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (1). وابن أبي الدنيا (2) أنه صلى الله عليه وسلم أصابه جوع يومًا، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال:"ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم". وصح حديث: "من الإسراف أن تأكل كلما اشتهيت"(3). والبيهقي (4) بسند فيه ابن لهيعة (5) عن عائشة رضي الله عنها: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال: "يا عائشة، أمَّا تحبين أن يكون لك شغل إلا جوفك!! الأكل في اليوم مرتين من الإسراف، والله لا يحب المسرفين". وصح: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة". أخرجه أحمد والنسائي (6). والبزار (7) بإسناد صحيح إلا أنه مختلف فيه: "إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم". وابن أبي الدنيا والطبراني في "الكبير" و "الأوسط"(8): "سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي".

فهذه الأحاديث تزهد في اختيار الطعامات، والتوسع في الأكل، وأن

(1) الآية 105 من سورة الكهف.

(2)

ابن أبي الدنيا -كما في الترغيب والترهيب 3/ 139، 140.

(3)

ابن ماجه 2/ 1112 ح 3352.

(4)

البيهقي في الشعب 5/ 26 ح 5641.

(5)

تقدمت ترجمته في 1/ 175.

(6)

أحمد 2/ 181، 182، والنسائي 5/ 79.

(7)

البزار 4/ 237 ح 3616 - كشف.

(8)

ابن أبي الدنيا في الجوع ص 113، 114 ح 173، والطبراني في الكبير 8/ 126، 127 ح 7512، 7513، وفي الأوسط 3/ 24 ح 2351.

ص: 251

ذلك يجلب الغفلة والتثاقل عن العبادة، والميل إلى الدنيا والرغبة في لذاتها. قال الحليمي (1) في قوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية (2): إن الوعيد وإن كان للكفار الذين يسارعون في الطيبات المحرمة؛ ولذا قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} . فقد يخشى مثله على المنهمكين في الطيبات المباحة؛ لأن من تعودها مالت نفسه إلى الدنيا، فلم يأمن أن يرتكب الشهوات والملاذ، كلما أجاب نفسه إلى واحدة منها دعته إلى غيرها، فيعسر عليه عصيان نفسه في هؤى قط، وينسد باب العبادة دونه فلا ينبغي أن يعود النفس بما تميل به إلى الشره ثم يصعب تداركها، ولتُرَضْ من أول الأمر على السداد، فإن ذلك أهون من أن تدرب على الفساد ثم يجتهد في إعادتها إلى الصلاح، والله أعلم. انتهى. وقد فهم عمر (3) رضي الله عنه أن الآية عامة، ولذلك اجتهد في جهاد نفسه. نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق لما يرضاه منا.

وقد أخرج الشيخان (4) وغيرهما حديث: "المسلم يأكل في معًى واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". وأخرج مسلم (5) أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف ضيفًا كافرًا، فأمر صلى الله عليه وسلم له بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى حتى شرب حلاب سبع شياه، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن المؤمن يشرب في معًى واحد، وإن الكافر يشرب في سبعة أمعاء" الحديث. وقد تأوله العلماء بتأويلات، ومن

(1) الشعب 5/ 35.

(2)

الآية 20 من سورة الأحقاف.

(3)

الشعب 5/ 34.

(4)

البخاري 9/ 536 ح 5396، ومسلم 3/ 1631 ح 2061/ 184.

(5)

مسلم 3/ 1632 ح 2063/ 186.

ص: 252

جملتها أن المؤمن يقتصد في أكله، فيكون مطابقًا لهذه الأحاديث، وقيل غير ذلك، والله أعلم، والسبعة الأمعاء التي في الإنسان هي المعدة وثلاثة رقاق وثلاثة غلاظ.

1242 -

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخاطئين التوَّابون". أخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وسنده قوي.

الحديث فيه دلالة على أن بني آدم كل واحد لا يخلو عن خطيئة، وظاهره وفي حق الأنبياء عليهم السلام. وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء، فإنه يجوز وقوع الخطيئة من النبي وتكون صغيرة في حقه مغفورة، ولا يجوز عليهم الكبائر ولا صغائر الخسة، وقد ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى ما يدل على ذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيى بن زكريا ما هم بخطيئة (2). وقد روي أن يحيى بن زكريا صلى الله على نبينا وعليهما رأى إبليس ومعه معاليق من كل شيء، فسأله عنها فقال: هي الشهوات التي أصيب بها بني آدم. فقال: هل لي فيها شيء؟ فقال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر. قال: هل غير ذلك؟ قال: لا. قال: لله عليّ ألا أملأ بطني من طعام أبدًا. قال إبليس: ولله عليّ ألا (أ) أنصح مسلمًا أبدًا (3).

(أ) في ب: ما.

_________

(1)

الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقاق والورع، باب (49) 4/ 568، 569 ح 2499، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة 2/ 1420 ح 4251.

(2)

أحمد 1/ 254، والحاكم 2/ 591 من حديث ابن عباس.

(3)

أحمد في الزهد ص 76، والبيهقي في الشعب 5/ 41 ح 5700.

ص: 253

فيكون مخصصًا لهذا العموم. ويؤيد هذا الحديث حديث: "لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم" الحديث (1). وقوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (2). بعد ذكر الإنسان، وظاهره الاستغراق، والله سبحانه أعلم.

1243 -

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله". أخرجه البيهقي في "الشعب"(3) بسند ضعيف، وصحح أنه موقوف من قول لقمان الحكيم.

الحديث فيه دلالة على حسن الصمت، وهو محمول على ترك الفضول من الكلام، كما قال الله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية (4). وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن كلام المرء كله عليه" الحديث (5). وقوله: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(6). وغير ذلك كثير.

وقوله: "حكم". أي منع من التكلم بما لا يعني، مأخوذ من الحَكَمة التي تمنع الفرس من الجمُوح.

(1) مسلم 4/ 2106 ح 2749/ 11.

(2)

الآية 23 من سورة عبس.

(3)

البيهقي 4/ 264 ح 5027.

(4)

الآية 114 من سورة النساء.

(5)

أبو يعلى 3/ 56 ح 7132، والطبراني 23/ 243 ح 484، والبيهقي في الشعب 1/ 393، 4/ 246 ح 514، 4954 من حديث أم حبيبة.

(6)

تقدم ح 1240.

ص: 254