الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الترهيب من مساوئ الأخلاق
1244 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". أخرجه أبو داود (1)، ولابن ماجه (2) من حديث أنس نحوه.
حديث ابن ماجه فيه زيادة: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، والصلاةُ نور المؤمن، والصيام جُنَّةٌ". أي ساتر ووقاية من النار. وفي الباب أحاديث كثيرة؛ أخرج أحمد والضياء والترمذي (3): "دبَّ إليكم داء الأم قبلكم؛ الحسد والبغضاء، هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". وأخرج ابن صصرى (أ): "الغل والحسد يأكلان الحسنات، كما تأكل النار الحطب"(4). وأخرج الطبراني (5): "ليس مني (ب) ذو حسد ولا نميمة ولا
(أ) في جـ: صيصري. وينظر ذيل التقييد 1/ 491.
(ب) في جـ: منا.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الأدب، باب في الحسد 4/ 278 ح 4903.
(2)
ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحسد 2/ 1408 ح 4210.
(3)
أحمد 1/ 164، 165، والضياء في المختارة 3/ 181 ح 889، والترمذي 4/ 573 ح 2510.
(4)
هناد في الزهد 2/ 641 ح 1391، والخطيب في الموضح 1/ 145، 146.
(5)
ابن عساكر 21/ 334 من طريق الطبراني.
كهانةٍ، ولا أنا منه". وأخرج الطبراني (1):"لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا". وأخرج الحاكم والديلمي (2) أن إبليس يقول: ابغوا من بني آدم البغي والحسد، فإنهما يعدلان عند الله الشرك. وأخرج الشيخان (3) قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"، وروي عنه صلى الله عليه وسلم:"أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال، فيتحاسدون ويقتتلون"(4). ثم قال: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود (أ) "(5). وفي رواية: "إن لنعم الله تعالى أعداء". قيل: ومن أولئك؟ قال: "الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"(6). وفي رواية: "ستة يدخلون النار قبل الحساب لستة". قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالتكبر -والدهقان هو القوي على التصرف- والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهالة -وهم أهل السواد والقرى- والعلماء بالحسد"(7).
(أ) في جـ: محسودة.
_________
(1)
الطبراني 8/ 309 ح 8157.
(2)
الديلمي 1/ 292 ح 923، ولم نجده في المستدرك.
(3)
سيأتي ح 1259.
(4)
الحاكم 2/ 288 بنحوه.
(5)
الطبراني 20/ 94 ح 183.
(6)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 251 موقوفًا على ابن مسعود.
(7)
الديلمي ح 3309، بلفظ:"والتجار بالكذب والفقراء بالحسد والأغنياء بالبخل".
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وقوله: "إياكم والحسد". الضمير منصوب على التحذير، والمحذر منه الحسد، والحسد مصدر حَسَده، بالفتح، يحسُده بالضم، حسودا وحسدا، وقال الأخفش (1): يحسد، بالكسر، حسدا وحسادة. والحسد هو أن يتمنى الحاسد زوال نعمة المحسود إليه، وفي "القاموس" (2): نعمة المحسود أو فضيلته. وفي "الكشاف (3) في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} (4): يتمنوا أن يكون لهم نعمة غيرهم. وزيادة "القاموس" الفضيلة إنما هو زيادة تصريح، وإلا فالنعمة تشمل الفضيلة. وقال المصنف (5) رحمه الله: الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها، أعم من أن يسعى في ذلك أو لا؛ فإن سعى كان باغيًا، لأن لم يسع في ذلك ولا أظهره، ولا تسبب (أ) في ذلك نظر؛ فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهو مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى فقد يعذر؛ لأنه لا يستطع دفع الخواطر النفسانية، فيكفيه في مجاهدتها ألا يعمل بها، ولا يعزم على العمل بها. انتهى. وذكر مثل هذا في "الإحياء" (6) قال: فإن كان
(أ) بياض في ب.
_________
(1)
اللسان، والتاج (ح س د)، وفيهما أن الأخفش نقله عن بعضهم.
(2)
القاموس (ح س د).
(3)
الكشاف 1/ 533، 534.
(4)
الآية 54 من سورة النساء.
(5)
الفتح 10/ 482.
(6)
إحياء علوم الدين 3/ 1684.
بحيث لو ألقي الأمر إليه ورد إلى اختياره، لسعى في إزالة النعمة عنه، فهو حسود حسدًا مذمومًا، وإن كان يزعه التقوى عن إزالة ذلك، فيعفى عنه ما يجده في طبعه، من ارتياحه إلى زوال النعمة عن محسوده، مهما كان كارهًا لذلك من نفسه بعقله ودينه. وهذا التفصيل يشير إليه ما أخرجه عبد الرزاق (1) عن معمر عن إسماعيل بن أمية مرفوعًا:"ثلاث لا يسلم منها أحد؛ الطيرة، والظن، والحسد". قيل: فما الخرج منها يا رسول الله؟ قال: "إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ". وأخرج ابن عدي (2): "إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا". وأبو نعيم: "كل ابن آدم حسود؛ ولا يضر حاسدًا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد". وفي رواية (3): "كل ابن آدم حسود؛ وبعض الناس (أ) في الحسد أفضل من بعض، ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد". وعليه يحمل الحديث الذي رواه في كتاب "الفردوس" وهو قوله عز وجل: "لا تقبلوا أقوال العلماء بعضهم على بعض؛ فإن حسدهم عدد نجوم السماء، وإن الله لا ينزع الحسد من قلوبهم حتى يدخلهم الجنة". ومؤلف الكتاب هو أبو منصور شَهْرَدار بن أبي شجاع الديلمي. قال ابن الصلاح: يقال إنه كثير الأوهام. وقد اختصر
(أ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
عبد الرزاق -كما في الفتح 10/ 213، 482.
(2)
ابن عدي في الكامل 4/ 1623.
(3)
أبو نعيم في أخبار أصبهان 1/ 227.
أحاديثه [عبد المجيد القرشي الميَّانِشِي](أ) في كتاب سماه "الانتقاء والانتخاب" فأفاد وأجاد، وصرح جلال الدين الأسيوطي في "الجامع الكبير" بضعف (ب) أحاديثه، وأن عزوه إليه في "الجامع" غير منبه على التضعيف مغنٍ عن ذلك (1). فهذه الأحاديث تدل على ما ذكر، وذلك لأن الخاطر في القلب من دون عمل لا يستطيع الإنسان دفعه، فينبغي الاحتياط التام في مدافعة مثل هذا الخاطر، ويكره من نفسه إمرار الخاطر فيها، ويكون إن شاء الله تعالى كفارة له.
وقال المحقق أحمد بن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر": إن للحسد مراتب، وهي (جـ) إمَّا محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل للحاسد، وهذا غاية الحسد، أو مع انتقالها إليه، أو انتقال مثلها إليه، وإلا أحب زوالها لئلا يتميز عليه، أولًا مع محبة زوالها، وهذا الأخير هو المعفو عنه من الحسد إن كان في الدنيا، والمطلوب إن كان في الدين. انتهى. وهذا القسم الأخير يسمى غيرة، وإن (د) كان في الدين فهو المطلوب، ولذلك قال العلماء: ينبغي للقدوة إذا كان يأمن على نفسه من الرياء أن يظهر صالحات أعماله، عسى أن تتحرك نفوس العجزة بالغيرة فيفعلوا كفعله. ويحمل عليه ما رواه
(أ) في ب: عبد الحميد القرشي المبانشي، وفي جـ: عبد الحميد القرشي المياشي. وهو عمر بن عبد المجيد بن الحسن المهدوي الميَّانِشي. معجم البلدان 4/ 709.
(ب) في ب: بضعيف.
(جـ) في جـ: هو.
(د) في ب: إذا.
_________
(1)
مقدمة الجامع الكبير.
الشيخان (1) بن حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا على [اثنتين] (أ)؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار". والمراد أنه يُغار ممن اتصف [بهاتين](ب) الصفتين، فيقتدي به من أثَّر في قلبه محبة السلوك في هذا المسلك، ولعل تسميته حسدًا مجازًا، وليس من هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"الغيرة من الإيمان، والمذاء (جـ) من النفاق". أخرجه الديلمي والقُضاعي والبزار والبيهقي في "السنن"(2) عن أبي سعيد مرفوعًا وفيه: فقال رجل من أهل الكوفة لزيد بن أسلم [راويه](د): ما المِذَاء؟ فقال: الذي لا يغار على أهله. فإن المراد بالغيرة هنا الغيرة على محارمه بألا يراد بهم سوءًا، ومقابله الديوث الذي لا غيرة له.
والحديث فيه دلالة على تحريم الحسد، وأنه من الكبائر، فإنه إذا أكل الحسنات فقد أحبطها، ولا يحبط إلا الكبيرة، ونسبة الأكل إليه مجاز، وهو من باب الاستعارة بالكناية؛ شبه الحسد بالحيوان الذي يأكل قوته حتى
(أ) في ب، جـ: اثنين. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في ب، جـ: بهاذين. والمثبت هو الصواب.
(جـ) في مسند الفردوس: البذاء، وفي مسند الشهاب: المراء. قال أبو عبيد: وتفسيره عند الفقهاء أن يُدخِل الرجلُ الرجال على أهله، فإن كان المذاء هو المحفوظ فإن أخذ من المذي، يعني أن يجمع بين الرجال وبين النساء ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا مذاء. غريب الحديث 2/ 264.
(د) في ب، جـ: رواية. وينظر كشف الخفاء 2/ 81.
_________
(1)
البخاري 9/ 73 ح 5025، ومسلم 1/ 558 ح 815/ 266.
(2)
الديلمي 3/ 146 ح 4225، والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 122 ح 154، والبزار 2/ 188 ح 1490 - كشف، والبيهقي 10/ 226 معلقا.
يفنيه، ولا يبقى من صفته الأولى شيء، في أن الحَسَدَ تذهب معه الحسنات حتى لا يبقى لها نفع لفاعلها، ونسبة الأكل استعارة تخييلية؛ لأن الحيوان من لوازمه الأكل.
وفي قوله: "كما تأكل النار الحطب". تحقيق لذهاب الحسنات بالحسد، كما يذهب الحطب بالنار ويتلاشى جرمه، فعلى العاقل أن يداوي هذا الداء ويزيله عن قلبه، بمعرفة أن الحسد يضر الحاسد دينًا ودنيا، ولا يضر المحسود دينًا ولا دنيا، إذ لا تزول نعمة بحسد قط، وإلا لم يبق لله نعمةٌ على أحد حتى الإيمان؛ لأن الكفار يحبون زواله عن المؤمنين، بل المحسود ينتفع بحسنات الحاسد له، لأنه مظلوم من جهته، سيما إذا ظهرت آثار الحسد بالانتقاص: الغيبة وهتك الستر وغيرها من أنواع الإيذاء، فيلقى الله يوم القيامة مفلسًا من الحسنات محرومًا من نعم الآخرة، كما حرم من نعمة سكون القلب وسلامة الصدر في الدنيا، بل في الحقيقة اعتراضه على ربه الذي أولى المحسود نعمته، فقد سخط القضاء، ولم يرض بما اختار الله سبحانه ورضيه له ولمن حسده، وأشبه إبليس في اعتراضه في حق آدم وإبائه على (أ) الذي أراده الله سبحانه، فنسأل الله تعالى السلامة والتسليم لقضائه والرضا بماضي أحكامه.
1245 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". متفق عليه (1).
(أ) في ب: عن.
_________
(1)
البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 518، ح 6114، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب 4/ 2014 ح 2609.
قوله: "ليس الشديد". أي: شديد القوة، "بالصُّرَعة" لضم الصاد المهملة وفتح الراء المهملة، وبالعين المهملة علي بناء فُعَلَة كالهُمَزة واللمزة للمبالغة، أي كثير الصرع لغيره، وبسكون الراء لمن يصرعه غيره كثيرا، قال ابن التين (1): ضبطاه بفتح الراء، ورواه بعضهم بسكونها، وليس بشيء، لأنه عكس المطلوب. قال: وضبط في بعض الكتب بفتح الصاد. ويدل على المعنى الأول ما جاء في حديث ابن مسعود عند مسلم (2): "ما تعدون الصُّرَعة فيكم؟ ". قالوا: الذي لا يصرعه الرجال.
وقوله: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". المراد بالشديد هنا هو شدة القوة المعنوية، وهو مجاهدة النفس وإمساكها عن الشر، ومنازعتها للجوارح بالانتقام ممن أغضبها، فالنفس في حكم الأعداء الكثيرين، وغلبتها فيما تشتهيه، في حكم من هو شديد القوة في غلبة الجماعة الكثيرين فيما يريدونه منه.
وفيه إشارة إلى أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة.
والغضب عند الحكماء هو حركة النفس إلى خارج الجسد لإرادة الانتقام، وفسره أهل اللغة بضد الرضا، والرضا فسروه بضد السخط.
والحديث فيه دلالة على أنه يجب على من أغضبه امرؤ وأرادت النفس المبادرة إلى الانتقام ممن أغضبه أن يجاهد نفسه ويمنعها عما طلبت، قال
(1) الفتح 10/ 519.
(2)
مسلم 4/ 2014 ح 2608.
بعض العلماء: خلق الله الغضب من النار، وجعله غريزة في الإنسان، فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم؛ لأن البشرة تحكي لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، فيصفر اللون حزنا، وإن كان على النظير (أ) تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر. ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن، كتغير اللون والرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال على غير ترتيب، واستحالة الخلقة، حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لسكن غضبه (ب) حياءً من قبح صورته واستحالة خلقته، هذا في الظاهر، وأمّا الباطن فقبحه أشد من الظاهر، لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أول شيء يقبح منه باطنه، وتغير ظاهره (جـ) ثمرة تغير باطنه، فيظهر في اللسان الفحش والشتم، ويظهر في الأفعال بالضرب والقتل وغير ذلك من المفاسد، وقد جاءت الأحاديث في النهي عن الغضب، والمراد النهي عن آثار الغضب، لأن الغضب أمر جبلي لا يزول عن النفس.
وفيما يعالج به نفسه من وجد فيها الغضب أخرج ابن عساكر (1):
(أ) في ب: النصر.
(ب) ساقطة من: جـ.
(جـ) في ب: ظاهر.
_________
(1)
ابن عساكر في تاريخ دمشق 40/ 289، 464، 59/ 169.
"الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، والماء يُطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل". وفي رواية: "فليتوضأ". وابن أبي الدنيا وابن عساكر (1): "اجتنب الغضب". وابن عدي (2): "إذا غضب أحدكم فقال: أعوذ بالله. سكن غضبه". وأحمد (3): "إذا غضب أحدكم فليسكت". وأحمد وأبو داود وابن حبان (4): "إذا غضب أحدكم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع". وأبو الشيخ: "الغضب من الشيطان، فإذا وجده أحدكم قائمًا فليجلس، وإذا وجده جالسًا فليضطجع". والمراد بالغضب المنهي عنه هو الغضب في غير الحق؛ ولذلك بوّب البخاري (5): باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال الله تعالى:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (6). كأنه يشير إلى أن الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأمّا إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله تعالى من الشدة، وذكر فيه خمسة أحاديث، وفي كل منها ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم في أسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد، وكفى بما ذكر الله تعالى في قصة موسى صلى الله (أ) على نبينا وعليه: {وَلَمَّا
(أ) بعده في ب: عليه وسلم.
_________
(1)
ابن أبي الدنيا في ذم الغضب -كما في البيان والتعريف 1/ 26 - وابن عساكر في تاريخ دمشق 64/ 46.
(2)
ابن عدي 5/ 1896.
(3)
أحمد 1/ 239.
(4)
أحمد 5/ 152، وأبو داود 4/ 250، ح 4782، وابن حبان 12/ 501 ح 5688.
(5)
البخاري 10/ 516، 517.
(6)
الآية 73 من سورة التوبة.
سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (1) الآية.
1246 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة". متفق عليه (2).
الحديث فيه دلالة على تحريم الظلم، وهو يشمل جميع أنواعه، سواء كان في نفس أو مال أو عرض.
وقوله: "ظلمات يوم القيامة". قال القاضي عياض (3): قيل: هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلًا حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم، ويحتمل أن الظلمات مرادٌ بها الشدائد، وبه فَسَّرُوا قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (4). أي من شدائدهما، ويحتمل أنها كناية عن [الأنكال](أ) والعقوبات، والله أعلم.
1247 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم". أخرجه مسلم (5).
(أ) في ب، جـ: النكال. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
الآية 154 من سورة الأعراف.
(2)
البخاري، كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة 5/ 100 ح 2447، ومسلم، كتاب البر والآداب والصلة، باب تحريم الظلم 4/ 1996 ح 2579.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 134.
(4)
الآية 63 من سورة الأنعام.
(5)
مسلم، كتاب البر والآداب والصلة، باب تحريم الظلم 4/ 1996 ح 2578.
قوله: "واتقوا الشح". قال جماعة: الشح أشد البخل، وأبلغ في المنع من البخل. وقيل: هو البخل مع الحرص. وقيل: البخل في بعض الأمور، والشح عام. وقيل: البخل بالمال خاصة، والشح بالمال والمعروف. وقيل: الشح الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده.
وقوله: "فإنه أهلك من كان قبلكم". يحتمل أن يريد الهلاك الدنيوي المفسر بما بعده في تمام الحديث، وهو قوله:"حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم". وهذا هلاك دنيوي، والحامل لهم هو شحهم على حفظ المال وجمعه وازدياده وصونه عن أن يذهب في النفقة، فطلبوا أن يصان بما ينضم إليه من مال الغير الذي لا يدرك إلا بالإغارة المفضية إلى القتل واستحلال المحارم، ويحتمل أن يراد الهلاك الأخروي الحاصل بما اقترفوه من هذه المظالم، ويحتمل أن يراد مجموع هلاكي (أ) الدنيا والآخرة.
والحديث فيه دلالة على قبح الشح وتحريمه، ويكون المحرم منه ما أدى إلى منع واجب شرعي أو عرفي، وما زاد على ذلك فهو معدود من السخاء، وهو صفة كمال ممدوح ما لم يفض إلى إسراف، كما قال الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (1). وكما قيل (2):
* كلا طَرَفي قَصْدِ الأُمور ذميمُ *
وخير الأمور أوسطها، وحاصل الأمر أن المال إذا كان موجودًا فينبغي أن يكون حال صاحبه الإيثار والسخاء واصطناع المعروف بالتي هي أحسن،
(أ) في جـ: هلاك.
_________
(1)
الآية 29 من سورة الإسراء.
(2)
هو عجز بيت وصدره:
*ولا تك فيها مفرِطًا أو مُفَرِّطًا *
ينظر الخزانة 2/ 122، 123.
ويكون الإنسان مع ذلك المال بما عند الله أوثق منه بما عنده، وإن كان مفقودًا يكون حال الإنسان القناعة والتكفف وقلة الطمع فهو أحمد في العقبى، أراح للقلب في الدنيا.
1248 -
وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء". أخرجه أحمد بإسناد حسن (1).
هو محمود بن لبيد بن رافع بن امرئ القيس بن زيد الأنصاري الأشهلي من بني عبد الأشهل، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحدث عنه أحاديث، قال البخاري (2): له صحبة. وقال أبو حاتم (2): لا نعرف له صحبة. وذكره مسلم (3) في التابعين في الطبقة الثانية منهم، قال ابن عبد البر (4): والصواب قول البخاري. فأثبت له صحبة. وهو أحد العلماء، روى عن ابن عباس وعتبان بن مالك، مات سنة ست وتسعين، وعِتْبان بكسر العين وسكون التاء فوقها نقطتان وبالباء الموحدة.
الحديث فيه دلالة على قبح الرياء، وأنه من أعظم المعاصي المحبطة للأعمال، فإنه إذا كان أخوف الخوفات كان أعظمها وأخطرها، وتسميته شركًا أصغر يدل على أنه في رتبة تلي الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، والوبال المهلك الوخيم.
(1) أحمد 5/ 428.
(2)
التاريخ الكبير 7/ 402، والمراسيل لابن أبي حاتم ص 200.
(3)
الطبقات لمسلم 1/ 231 (658).
(4)
الاستيعاب 3/ 1379.
والرياء مصدر راءى فاعَل، وهو يأتي على مفاعلة وفِعال بكسر الفاء وفتح العين وهو مهموز العين؛ لأنه من الرؤية، ويجوز فيه تخفيف الهمزة بقلبها ياء، وقرأ السبعة بتحقيق (أ) الهمزة إلا حمزة في حال الوقف فخففها بقلبها ياء كـ: مئة (1). ولام الرياء في الأصل ياء وقعت بعد ألف زائدة فقلبت همزة ككساءٍ، وحقيقة الرياء لغة هو أن يُرِي غيره خلاف ما هو عليه، وشرعًا هو أن يفعل الطاعة أو يترك المعصية مع ملاحظة غير الله، أو يخبر بها أو يحب الاطلاع عليها لقصدٍ دنيوي إما مالٍ أو عرض، وهو محرم إجماعًا، وقد ذكره (ب) الله سبحانه وتعالى ونبه على قبحه وتوعد مرتكبه بعقابه، كقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (2) الآية، وقوله:{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3). وغير ذلك، والأحاديث الكثيرة المتعاضدة المهوِّلة لعقاب (جـ) المرائي، والإجماع من الأمة على قبحه، والرياء ينقسم (د) إلى أقسام بعضها أشد من بعض، فأقبح أقسامه ما كان في الإيمان، فإذا أرَى أنه مؤمنٌ وليس بمؤمن فهو حال المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلا قَلِيلًا} (4). ويقرب منهم الباطنية الذين يظهرون أنهم موافقون في الاعتقاد وهم يبطنون خلافه، ويقرب من ذلك من يفعل
(أ) في جـ: بتخفيف.
(ب) في ب: ذكر.
(جـ) في جـ: بعقاب.
(د) في ب: منقسم.
_________
(1)
ينظر النشر 1/ 307، 308. وفيه أبو جعفر بدلا من حمزة.
(2)
الآية 4 من سورة الماعون.
(3)
الآية 110 من سورة الكهف.
(4)
الآية 142 من سورة النساء.
الفريضة إذا كان في الملأ، ويتركها في الخلاء خوف الذم، ويقرب من ذلك الذي يفعل النوافل في الملأ لئلا ينتقص بعدم فعلها، ويتركها في الخلوة كسلًا وعدم احتفال بما يقربه من الثواب، ويقرب من ذلك من يحسن فعل العبادة بالخضوع والخشوع واستكمال هيئاتها ومسنوناتها في الملأ، ويقتصر في الخلوة على فعل الواجب من ذلك؛ لئلا يُذم على ذلك، وقد يزين الشيطان لفاعل هذا بأنه إنما فعله لئلا يقع الغير في عرضه، وفاته النظر الشديد بأنه كان الباعث له على الفعل هو النظر إلى الخلق رجاء الثناء عليه، ولا بد من تفصيل فيما يصحبه الرياء من الأعمال في صحته وعدم صحته، وحاصل ذلك أنه إذا كان الباعث على أداء العبادة هو ملاحظة غير المعبود لغرض دنيوي فالعبادة غير صحيحة، ويجب على المرائي إعادتها، فإذا كان الباعث مثلًا على فعل الصلاة أو غيرها هو محبة الثناء أو غيره فالصلاة باطلة؛ لأنه لم ينو العبادة للمعبود، وهذا هو الشرك الأصغر، وإنما لم يكن شركًا أكبر؛ لأنه لم يقصد بالعبادة تعظيم المراءَى، وإنما قصد أن يثني عليه مثلًا، وأما السجود لغير الله فقد قصد به تعظيم المسجود له، وهذا هو السر في تسميته الشرك الأصغر، وكان شبيهًا بالشرك الأكبر؛ لأن المرائي لما عظم قدر المخلوق عنده حتى حمله على الركوع والسجود لله، فكان ذلك المخلوق هو المعظم بالسجود من وجه، وهذا هو الشرك الخفي لا الجلي، وإن كان الباعث على الطاعة هو الامتثال لأمر الله وقصد محبة الثناء مثلًا واجتمع الباعثان عند نية العبادة ولم يستقل أحدهما بالانبعاث على الفعل، فكذلك لا تصح العبادة، وقد أخرج الخطيب" (1) أن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك
(1) الدارقطني 1/ 51، والبيهقي في الشعب 5/ 336 عقب ح 6836 من حديث الضحاك بن قيس مرفوعًا.
معي شيئًا فهو لشريكي، يأيها الناس، أخلصوا أعمالكم لله، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم. فإنه للرحم وليس لله منه شيء. وإن كان كل واحد منهما مستقلًّا بحيث لو عدم باعث الرياء لفُعِل الفعل، فهذا مَحل النظر، ولعله يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة، وفيها الخلاف، وأما إذا كان الباعث خالصًا وورد عليه وارد الرياء، فإن كان بعد الفراغ من العمل لم يؤثر فيه، إلا إذا أظهر العمل للغير وتحدث به. وقد أخرج الديلمي (1) مرفوعًا:"إن الرجل ليعمل عملا سرًّا فيكتبه الله عنده سرا، فلا يزال به الشيطان حتى يتكلم به فيمحى من السر ويكتب علانية، فإن عاد [فتكلم] (أ) الثانية محي من السر والعلانية وكتب رياءً". وقال الغزالي (2) في هذا القسم: الأقيس أن ثوابه على عمله باق، ويعاقب على الرياء الذي قصده، وأما إذا عرض عليه قصد الرياء في أثناء العبادة التي باعثها خالص، فإن تمحض قصدُ الرياء أفسدها وأحبط ثوابها، وإن لم يتمحض ولكن غَلَب قصد القربة فهذا يتردد في إفسادها، ومال (جـ). الحارث المحاسبي (3) إلى أن العبادة تفسد. قال الغزالي (4): والأظهر أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بحصول زيادة فيه أنه لا يفسد العمل، لبقاء
(أ) في ب، جـ: تكلم. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في جـ: قال.
_________
(1)
الديلمي 1/ 237 ح 718.
(2)
الإِحياء 3/ 1883، 1884.
(3)
الرعاية لحقوق الله ص 151 - 153.
(4)
الإحياء 3/ 1885.
أصل النية الباعثة عليه والحاملة على إتمامه، وأما إذا كان باعث الرياء مقارنًا لباعث العبادة ثم ندم في أثناء العبادة، فأوجب البعض الاستئناف لعدم انعقادها، وقال بعض: يلغو جميع ما فعله إلا التحريم. وقال بعض: يصح؛ لأن النظر إلى الخواتم، كما لو ابتدأ بالإخلاص وصحبه الرياء من بعدُ (أ). قال (1): والقولان الأخيران خارجان عن قياس الفقه. وقد أخرج الواحدي في "أسباب النزول"(2) جواب جندب بن زهير لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله، وإذا اطلع عليه سرني. فقال صلى الله عليه وسلم:"لا شريك لله في عبادته". وفي رواية: "إنّ الله لا يقبل ما شورك فيه". رواه ابن عباس. وروى عن مجاهد أيضًا (2): جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيذكر ذلك مني، فيسرني ذلك، وأعجب به. فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزلت الآية. فالحديث يدل على أن السرور بالاطلاع على العمل رياء، وظاهره ولو كان بعد العمل، وقد عارضه ما أخرجه الترمذي (3) عن أبي هريرة، وقال: حديث غريب. قال: قلت يا رسول الله، بينا أنا في بيتي في مصلاي، إذ دخل عليّ رجل، فأعجبني الحال التي رآني عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لك أجران". وفي "الكشاف (4) من حديث جندب قال له: "لك أجران؛ أجر السر
(أ) بعده في الإحياء 3/ 1885: لكان يفسد عمله.
_________
(1)
الإحياء 3/ 1886.
(2)
أسباب النزول ص 226.
(3)
الترمذي 4/ 594 ح 2384 وقال فيه: حسن غريب.
(4)
الكشاف 2/ 501.
وأجر العلانية". وقد ترجح هذا بظاهر قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} (1). فدل على أن محبة الثناء من الرسول لا ينافي الإخلاص، ولا يعد من الرياء، وقد يتأول الحديث الأول بأن المراد بقوله إذا اطلع عليه سرني. لمحبته للثناء عليه، (أويكون الرياء في محبته للثناء أ) على العمل، وإنْ لم يخرج العمل عن كونه خالصًا، وحديث أبي هريرة لم يكن فيه تعرض لمحبته الثناء من المطلع عليه، وإنما هو مجرد محبة (ب) لما صدر منه من العمل وعلم به غيره. أو يراد بقوله: فيعجبني. يعني تعجبه شهادة الناس له بالعمل الصالح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم شهداء الله في الأرض". وقال في حق من شهدوا له بالجنة: "وجبت" (2).
وقال الغزالي (3): أما مجرد السرور باطلاع الناس، إذا لم يبلغ أثره بحيث يؤثر في العمل، فبعيد أن يفسد العبادة. وقد يطلق الرياء على أمر مباح، وهو طلبُ نحو الجاهِ بغير عبادة، كأن يقصد بزينته في لباسه الثناء عليه بالنظافة والجمال ونحو ذلك، وكالإنفاق على الأغنياء ليقال: إنه سخي. فهذا ليس داخلا في حقيقة الرياء المحرم، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد
(أ- أ) ساقط من: جـ.
(ب) في جـ: محبته.
_________
(1)
الآية 99 من سورة التوبة.
(2)
البخاري 3/ 228، 229 ح 1367، ومسلم 2/ 655 ح 949.
(3)
الإحياء 3/ 1870، 1887، 1888.
الخروجِ سوَّى عمامته وشعره ونظر وجهه في الماء، فقالت عائشة: أو تفعل ذلك يا رسول الله؟! فقال: "نعم، إن الله يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم"(1).
1249 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". متفق عليه (2). ولهما (3) من حديث عبد الله بن عمرو: "وإذا خاصم فجر".
قوله: "آية المنافق". أي: علامته، والمنافق الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وظاهر الحديث أنه يحكم بنفاق من اجتمع فيه الثلاث أو الأربع، وإن كان مؤمنًا مصدقًا بشرائع الإسلام، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقًا بقلبه مقرًّا بلسانه وفعل هذه الخصال، لا يحكم عليه بكفر ولا نفاق يخلد به في النار؛ ولذلك عدَّ جماعة من العلماء هذا الحديث مشكلًا من حيث إنّ هذه الخصال توجد في المسلم المصدق.
قال النووي (4): اختلف العلماء في معناه؛ فقال المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن هذه الخصال هي من خصال المنافقين، فإذا اتصف بها أحدٌ من المصدقين أشبه المنافق، فيطلق عليه اسم النفاق مجازًا، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه
(1) ابن عدي 3/ 1102.
(2)
البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89 ح 33، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/ 78 ح 59/ 107.
(3)
البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89 ح 34، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/ 78 ح 58.
(4)
شرح مسلم 2/ 47.
الخصال؛ ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وأْتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام وهو يبطن الكفر، ومعنى تمام الحديث:"من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها". أنه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. ثم قال (1): وهذا فيمن كانت الخصال غالبة مِنْ حاله لا مَنْ ندرت منه. وقيل: إن هذا في حق المنافقين الذين كانوا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم؛ تحدثوا بإيمانهم فكذبوا، وأْتُمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا، وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر و [روياه] (أ) عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض (1): وإليه مال كثير من أئمتنا، وحكى الخطابي قولًا آخر أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه منها أن تفضي به إلى حقيقة النفاق. وقال الخطابي (2) أيضًا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل معين منافق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول: فلان مُنافق. وإنما يشير إشارة. انتهى مع بعض تصرف فيه.
والأقرب إلى سياق الحديث هو ما ذكره الخطابي، أن معناه التحذير. . .
(أ) في ب، جـ: رويناه. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
شرح مسلم 2/ 47.
(2)
شرح مسلم 2/ 47، 48.
إلى آخره، وأن اجتماع هذه الخصال يفضي بصاحبها إلى نفاق الكفر، كما قال الله تعالى:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (1). مع أن في قصته أنه أتى بزكاته في خلافة أبي بكر، وفي خلافة عمر، وفي خلافة عثمان، ولم تقبل، مع أن ظاهر حاله أنه مصدق بوجوب الزكاة وغيرها، ولكن النفاق داخل القلب بسبب المنع وإخلاف ما وعد الله به (2)، ويكون المراد بالحديث التحذير من التخلق بهذه الأخلاق التي تورث صاحبها النفاق الحقيقي الكامل، والخصلة الواحدة تكون في صاحبها شعبة من النفاق يعاقب عليها وإن لم يكن عقاب منافق خالص. والله سبحانه أعلم.
وفي قوله: "ثلاث". أو: "أربع". لا تنافي بين ذلك، لأنه لا مانع أن يكون للشيء علامات، كل واحدة قد تحصل بها صفة ذلك الشيء.
وقوله: "وإذا خاصم فجر". داخل في قوله: "وإذا حدَّث كذب". أي: مال عن الحق وقال الباطل والكذب. قال أهل اللغة: وأصل الفجور الميل عن القصد.
1250 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) الآية 77 من سورة التوبة.
(2)
قال ابن كثير: وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري. تفسير ابن كثير 4/ 124. قال البيهقي: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وهو مشهور فيما بين أهل التفسير. شعب الإيمان عقب ح 4357، وينظر مجمع الزوائد 7/ 31، 32، والإصابة 1/ 400، 401.
"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". متفق عليه (1).
قوله: "سِباب". بكسر السين المهملة مصدر سبَّ، تقول: سبَّه سبًّا وسبابا. والسب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الناس [بما](أ) لا يعني الساب.
والفسوق مصدر فسق، يقال: فسقًا وفسوقًا. والفسق معناه لغةً الخروج، وشرعًا الخروج عن طاعة الله تعالى.
والحديث يَدُلُّ على تحريم سب المسلم بغير حق، وهو حرام بالإجماع، وفاعله فاسق.
وقوله: "المسلم". ظاهره أنه يجوز سب الكافر، وأما مرتكب الكبيرة فهو داخل في معنى المسلم، وإن كان في عصر النبوة ظاهر حالهم السلامة من ارتكاب الكبيرة، فهو مراد به الإسلام الكامل، وذكر المسلم للتنويه بزيادة احترام المسلم، وإن كان الذمي كذلك لا يجوز سبه؛ لتحريم أذيته، وأما الحربي فيجوز؛ لأنه لا حرمة له ما لم يكن سبه بما هو كذب.
وقد اختلف العلماء في جواز سب الفاسق بما هو مرتكب له من المعاصي، فذهب الأكثر إلى جوازه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا الفاسق بما فيه
(أ) في ب، جـ: مما. والمثبت هو الصواب.
_________
(1)
البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن 10/ 464 ح 6044، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق" 1/ 81 ح 64/ 116.
كي يحذره الناس" (1). وهو حديث ضعيف. وقال أحمد (2): منكر. وقال البيهقي (3): ليس بشيء، فإن صحَّ حمل على فاجر يعلن بفجوره، أو يأتي بشهادة، أو يعتمد عليه [في أمانة] (أ)، فيحتاج إلى بيان حاله؛ لئلا يقع الاعتماد عليه. انتهى كلام البيهقي. ونقل عن شيخه الحاكم أنه غير صحيح وأورده بلفظ: "ليس للفاسق غيبة" (4). وأخرج (ب) الطبراني (5) في "الأوسط " و "الصغير" بإسناد حسن رجاله موثقون، وفي "الكبير" (6) أيضًا عن معاوية بن حيدة، قال: خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "حتى متى ترعون عن ذكر الفاجر، اهتكوه حتى يحذره الناس". وقوله صلى الله عليه وسلم:"من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له". أخرجه البيهقي (7) من حديث أنس بإسناد ضعيف. وأخرج رزين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا غيبة لفاسق ولا مجاهر، وكل أمتي معافى إلا المجاهرين"(8). وفي "مسلم"(9) أيضًا: "كل أمتي معافى إلا
(أ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في ب: أخرجه. ونظر سبل السلام 4/ 370.
_________
(1)
ابن حبان في المجروحين 1/ 220، وابن عدي في الكامل 2/ 595.
(2)
الكامل لابن عدي 2/ 595.
(3)
شعب الإيمان عقب ح 9666.
(4)
شعب الإيمان ح 9665.
(5)
الطبراني في الأوسط 4/ 338، 339 ح 4372، وفي الصغير 1/ 214، 215.
(6)
الطبراني 19/ 418 ح 1010.
(7)
البيهقي 10/ 210.
(8)
لم أجده بهذا التمام، وينظر جامع الأصول 8/ 450.
(9)
مسلم 4/ 2291 ح 2990.
المجاهرين". وهم الذين جاهروا بمعاصيهم، فكشفوا ما ستر الله عليهم، فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة، قال العلماء: يجوز أن يقال للفاسق: أنت فاسق أو مفسد. وكذا في غيبته بشرط قصد النصيحة له أو لغيره؛ كبيان حاله أو للزجر عن صنيعه لا لقصد الوقيعة به، فلا بد من قصدٍ صحيح، ولكن قد ورد في خصام أُسيد لسعد: إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين (1). ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم، وقول عمر بن الخطاب في قصة حاطب بن أبي بلتعة: دعني أضرب عنق هذا المنافق. كما في "صحيح البخاري" (2)، ولم يشكر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنك امرؤٌ فيك جاهلية وكفر" (3). وقد بوّب الحفاظ لا يجوز الاغتياب فيه لأهل الإفساد، وأورد فيه البخاري (4) في حديث عائشة رضي الله عنها، أن رجلًا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة". فلمَّا جلس تطلَّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط له. قيل: والرجل عيينة بن حِصن الفَزَاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع. وقد اختلف في حسن إسلامه، وقد كان ارتد في زمن أبي بكر ثم أسلم وحضر بعض (أ) الفتوح في زمن عمر. فظاهر هذا الجواز مطلقًا، ويستثنى من تحريم سباب المسلم جواز الجواب على المبتدئ بالسب؛ لقوله
(أ) في جـ: بعد.
_________
(1)
البخاري 8/ 452 ح 4750، ومسلم 4/ 2129 ح 2770/ 56.
(2)
البخاري 6/ 143 ح 3007.
(3)
البخاري 1/ 84 ح 30، ومسلم 3: 1282 ح 1661 دون قوله: "وكفر".
(4)
البخاري 10/ 471 ح 6054.
- صلى الله عليه وسلم: "المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم (أ) ". أخرجه مسلم (1). فيدل على أنه يجوز للمسبوب أن يجيب بسب من ابتدأه، بشرط ألا يعتدي، ولا يكون ما سب به كذبًا أو قذفًا أو سببًا لإتلافه، فمن صور الجائز أن يقول له: يا ظالم. أو: يا أحمق. أو: جافي. أو نحو ذلك مما لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف. ولا خلاف في جواز الانتصار، وقد تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة. قال الله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (2). وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (3). ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال الله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4). وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا"(5). قال العلماء: وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته، وبرئ الأول من حقه وبقي عليه إثم الابتداء والإثم المستحق لله تعالى. وقيل (ب): يرتفع عنه الإثم، ويكون على البادئ اللوم والذم لا الإثم.
وقوله: "وقتاله كفر". فيه دلالة على أنه يكفر من قاتل المسلم بغير حق، وهذا لا خفاء فيه في حق من استحل قتال المسلم أو، قاتله لأجل
(أ) في جـ: المطلوب.
_________
(1)
سيأتي في ح 1263.
(2)
الآية 39 من سورة الشورى.
(3)
الآية 41 من سورة الشورى.
(4)
الآية 43 من سورة الشورى.
(5)
مسلم 4/ 2001 ح 2588/ 69، والترمذي 4/ 330 ح 2029 من حديث أبي هريرة.
إسلامه، وأما إذا كان المقاتلة لغير ذلك فإطلاق الكفر عليه مجاز، ويراد به كفر الإحسان والنعمة، (أوأخوة الإسلام أ)، لا كفر الجحود، أو سماه كفرًا لأنَّه قد يئول إلى الكفر لِما (ب) يحصل من المعاصي من الرين على القلب حتى يعمى عن الحق، فقد يصير كفرًا. أَو أنه فعل كفعل الكافر الذي يقاتل المسلم. والظاهر من المقاتلة هي المقاتلة المعروفة بالفعل المفضية إلى القتل.
قال القاضي عياض (1): ويجوز أن يكون المراد المشاررة والمدافعة.
1251 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث". متفق عليه (2).
قوله: "إياكم والظن". من باب التحذير، فالضمير منصوب بفعل مقدر واجب الحذف، و "الظن" معطوف عليه، والغرض منه التحذير من الظن، والمراد بالظن هنا هو الظن بالمسلم شرًّا، مثل قوله تعالى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} (3). وهو ما يخطر في النفس من التجويز المحتمل للصحة
(أ- أ) في ب: أخوه المسلم.
(ب) في جـ: بما.
_________
(1)
شرح النووي 2/ 54.
(2)
البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع 9/ 198، 199 ح 5143، وكتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، وباب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ. . .} 10/ 481، 484 ح 6064، 6066، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش 4/ 1985 ح 2563/ 28.
(3)
الآية 12 من سورة الحجرات.
والبطلان، فتحكم به وتعمل عليه. كذا فسر الحديث في "مختصر النهاية" للسيوطي. قال الخطابي (1): والمراد التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو عن التهمة التي لا سبب [لها](أ) يوجبها، كمن اتهم بالفاحشة ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. قال النووي (2): والمراد النهي عن تحقيق التهمة والإصرار عليها وتقررها في النفس دون ما يعرض ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به كما في حديث تجاوز الله تعالى عما تحدث به الأمة ما لم تتكلم أو تعمل (3). ونقله القاضي عياض عن سفيان.
وظاهر الحديث النهي عن الظن، وإن كان في حق من قد ظهر منه الشر والفحش، ولكنه معارض بما جاء في الحديث:"احترسوا من الناس بسوء الظن". أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي، والعسكري (4) عن أنس مرفوعًا، قال الطبراني: تفرد به بقية. ولأبي الشيخ والديلمي (5) عن علي رضي الله عنه من قوله: الحزم سوء الظن. وأخرجه القُضاعي في "مسند الشهاب"(6) عن عبد الرحمن بن عائذ مرفوعًا مرسلًا، وكل طرقه ضعيفة
(أ) في ب، جـ: لما. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
عزاه الحافظ في الفتح 10/ 481 إلى القرطبي.
(2)
شرح مسلم 16/ 119.
(3)
تقدم ح 889.
(4)
الطبراني 1/ 189 ح 598، والبيهقي 10/ 129، والعسكرى -كما في كشف الخفاء 1/ 55.
(5)
أبو الشيخ -كما في كشف الخفاء 1/ 355 - والديلمي في فردوس الأخبار 2/ 254 ح 2619.
(6)
مسند الشهاب 1/ 48 ح 24.
وبعضها يتقوى ببعض. وأخرجه أحمد، والبيهقي (1)، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد التابعين من قوله، وأخرجه تمام في "فوائده" (2) عن ابن عباسٍ مرفوعًا بلفظ:"من حسن ظنه في الناس كثرت ندامته".
ونظمه بعضهم فقال (3):
لا يكن ظنك إلا سيئًا
…
إن سوء الظن من أقوى الفطن
ما رمى الأنفس في مكروهها
…
أسفًا أقوى من الظن الحسن
ولكنه محمول على الظن بأهل الشر والفجور، والأول على من لم يظهر منه شر وكان ظاهر حاله السلامة، وقد روت عائشة رضي الله عنها (4): من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه؛ لأن الله تعالى يقول: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} (5).
وروي عن علي رضي الله عنه، أنه إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثم أساء رجلٌ الظن برجل لم يظهر منه خَرَبة (6) فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله، وأحسن رجل الظن برجل، فقد غرر.
قال جار الله الزمخشري (7) رحمه الله تعالى: الظن ينقسم إلى واجبٍ، ومندوب، وحرام، ومباح؛ فالواجب حسن الظن بالله، والحرام سوء الظن
(1) أحمد في الزهد ص 242، والبيهقي 10/ 129.
(2)
فوائد تمام 3/ 393 ح 1168 - روض.
(3)
ديوان الشافعي ص 53، وصدر البيت الثاني فيه هكذا:
* ما رمى الإنسان في مخمصة *
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 92 إلى ابن مردويه وابن النجار في تاريخه عن عائشة مرفوعًا.
(5)
الآية 12 من سورة الحجرات.
(6)
الخربة: العيب والعورة والزلة. القاموس المحيط (خ ر ب).
(7)
تفسير الكشاف 3/ 567.
به تعالى، وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والظن". الحديث. والمندوب حسن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين. والجائز مثل قول أبي بكر رضي الله عنه لعائشة: إنما هو أخواك وأختاك (1). لما وقع في قلبه أن الذي في بطن امرأته أنثى، ومن ذلك ظن السوء لمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم سوء الظن به؛ لأنه قد دل على نفسه، ومن ستر على نفسه لم يظن به إلَّا خير، ومن دخل في مداخل السوء اتُّهم، ومن هتك نفسه ظننا به السوء، والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عمَّا سواها، أن كل ما لم يعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حرامًا واجبًا الاجتناب؛ وذلك كأهل الستر والصلاح، ومن أُنست منه الأمانة في الظاهر، ومقابله بعكس ذلك. انتهى بمعناه في "الكشاف".
ويؤيد هذا التفصيل قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} (2).
وحمله بعضهم على العمل بالظن في الأحكام الشرعية، وأراد بالظن هو تغليب أحد الجانبين (أ)، وهو بعيد لا يلتفت إليه؛ لعدم مناسبته سياق الحديث، وعطف:"ولا تجسسوا" عليه كما في رواية البخاري.
(أ) في ب: المحورين. وفي جـ: المجويزين. والمثبت من الفتح 10/ 481.
_________
(1)
ينظر الموطأ 2/ 752 ح 40، والبيهقي 6/ 257.
(2)
الآية 12 من سورة النور.
وقوله: "فإن الظن أكذب الحديث" الحديث. المراد بالظن الشيء المظنون، وهو تحقيق الخاطر ولو بالفعل، وسماه حديثًا تغليبا للقول على غيره، وإنما كان أكذب الحديث، لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة، وهو قبيح ظاهرًا لا يحتاج إلى إظهار قبحه، وأما الظن فيزعم صاحبه أنه مستند إلى شيء، فيخفى على السامع كونه كاذبًا بحسب الغالب، فكان أشد الكذب. والله أعلم.
1252 -
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلَّا حرم الله عليه الجنة". متفق عليه (1).
الحديث أخرجه البخاري من رواية الحسن أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة". وفي رواية للبخاري (2) عن الحسن قال: أتينا معقل بن يسار نعوده، فدخل علينا عبيد الله بن زياد، فقال له معقل: أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة". وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى إحدى روايتي مسلم.
(1) البخاري، كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح 13/ 126، 127 ح 7150، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر. . . 3/ 1460 ح 142/ 21.
(2)
البخاري 13/ 127 ح 7151.
معقل بن يسار، بتحتانية ثم سين مهملة خفيفة هو المزني الصحابي المشهور، توفي فيما ذكره البخاري (1) في "الأوسط" بالبصرة فيما بين الستين إلى السبعين، وذلك في خلافة يزيد بن معاوية، وكان عبيد الله بن زياد أميرًا على البصرة في أيام معاوية وولدِه يزيد.
قوله: "ما من عبد". "من" زائدة لتأكيد معنى النفي، أي: ما عبد.
وقوله: "يسترعيه الله تعالى رعية". أي: طلب منه أن يكون راعيًا، والراعي هو القائم بمصالح ما ورعاه، وفي ننسخة الصَّاغاني (2) للبخاري بلفظ:"استرعاه الله".
وقوله: "يموت يوم يموت". يعني: يدركه الموت وهو يتصف بالغِش غير تائب منه.
وقوله: "وهو غاش لرعيته". الغش ضد النصح، وهو معنى قوله في الرواية الثانية:"فلم يحطها بنصيحة". وكأنه لا واسطة بين الغش وعدم النصح، ويتحقق الغش بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس ما يستحقونه من مال الله سبحانه المعدود للمصارف، أو ترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم أو دنياهم، أو بإهمال الحدود فيهم، أو عدم ردع المفسدين منهم، أو ترك حمايتهم من عدوهم، أو تولية من يحابيه لا لغرض إصلاحهم، أو تولية مَن غيره أولى بالقيام بحقوقهم.
وقد جاء في هذين الأخيرين تحذير خاص؛ ما رواه أبو بكر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا
(1) التاريخ الصغير 1/ 155، 168.
(2)
الفتح 13/ 127.
محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم". أخرجه الحاكم (1) وصححه، لكن فيه من وثقه ابن معين في رواية، ووهاه في غيرها (2). وأخرجه أحمد (3)، وأخرج الحاكم (4) وصححه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعمل رجلًا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". وفي إسناده واهٍ، إلا أن ابن نمير وثقه، وحَسَّن له الترمذي غير ما حديث. قال الحافظ المنذري (5) بعد أن ذكر ذلك: وصحح له الحاكم، ولا يضر في المتابعات.
ويؤخذ منه أن عزل الصالح وتولية مَن هو دونه يكون من الغِش.
وقوله: "إلا حرم الله عليه الجنة". خبر "عبد" المجرور لفظًا بـ "من" الزائدة واقع بعد "إلا" لقصد الحصر، أي: هو مقصور بالاتصاف بتحريم الجنة عليه.
والحديث يدل على أن الغش محرم وهو من الكبائر التي ورد الوعيد عليها بعينها؛ فإن تحريم الجنة نص الله تعالى عليه في كتابه أن الله حرمها على الكافرين، فهذا الذي اتصف بهذه الصفة إذا كان محرمًا عليه الجنة اقتضى أنه من أهل النار الخالدين فيها، فأما على قاعدة العدلية (6) من تخليد صاحب الكبيرة فلا إشكال عليه، بل يكون الحديث من حججهم، وأما على قاعدة
(1) الحاكم 4/ 93.
(2)
هو بكر بن خنيس. وقد تقدمت ترجمته في 7/ 314، وينظر تاريخ بغداد 7/ 89.
(3)
أحمد 1/ 6.
(4)
الحاكم 4/ 92.
(5)
الترغيب والترهيب 3/ 175.
(6)
العدلية هم المعتزلة، نسبة إلى العدل، وهو أحد أصولهم التي هم عليها، وهي العدل، والتوحيد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر التنبيه والرد للملطي ص 40، 41.
من يقول: إن أهل التوحيد لا يخلد العصاة منهم في النار. فيحتاج إلى تأويل؛ فقال بعضهم: يحمل هذا على من استحل، الغش فيكون كافرًا مخلدًا في النار. وقال بعضهم: يحمل على الزجر والتغليظ، فكأنه قال: يمنع من الجنة ويكون في النار أوقاتًا متكاثرة مشابهة للخلود. ويتأيد هذا بما وقع في رواية لمسلم (1) بلفظ: "لم يدخل معهم الجنة". ولا يلزم منه الخلود في النار. وقال ابن بطال (2): هذا وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه اللهُ أو خانهم أو ظلمهم، فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة؟ ومعنى:"حرم اللهُ عليه الجنة". أي: أنفذ عليه الوعيد، ولم يُرض عنه المظلومين. ونقل ابن التين عن الداودي بأن هذا ورد في حق الوالي الكافر؛ لأن المؤمن لا بد له من نصيحة. قال المصنف (3) رحمه الله تعالى: وهذا احتمال بعيد والتعليل مردود؛ فإن الكافر قد يكون ناصحًا فيما تولاه ولا يمنعه ذلك الكفر. انتهى. ومن طالع التواريخ ورأى نصيحة كثير من الأكاسرة والقياصرة وغيرهم من الملوك الكفرة لرعاياهم وحمايتهم عن المظالم وقيامهم بحفظ ممالكهم والذب عنها تحقق ما قاله المصنف.
وقد روي مثل هذا الحديث [عن](أ) غير معقل بن يسار. أخرج
(أ) في ب، جـ: من. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
سيأتي بتمامه في الصفحة التالية.
(2)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 8/ 219.
(3)
الفتح 13/ 128.
الطبراني (1) في "الكبير" من وجه آخر عن الحسن قال: قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرًا أمره علينا معاوية غلامًا سفيهًا يسفك الدماء سفكًا شديدًا، وفينا عبد الله بن مغفل المزني، فدخل عليه ذات يوم فقال له: انته عمَّا أراك تصنع. فقال له: وما أنت وذاك؟! قال: ثم خرج إلى المسجد، فقلنا له: ما كنت تصنع بكلام مثل هذا السفيه على رءوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي علم فأحببت (أ) ألا أموت حتى أقول به على رءوس الناس. ثم قام، فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه، فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فذكر نحو حديث الباب. ويحتمل أن القصة وقعت للصحابيين جميعًا.
وفي الباب أحاديث كثيرة؛ أخرج مسلم (2): "ما من أمير يلي أمور المسلمين لا يجهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة". ورواه الطبراني (3) وزاد: "كنصيحته وجهده لنفسه". والطبراني (4)[بسند](ب). رواته ثقات إلا واحدًا اختلف فيه: "من ولي من أمور المسلمين شيئًا فغشهم فهو في النار". والطبراني (5) بإسناد حسن: "ما من إمام ولا وال بات ليلة
(أ) في ب: وأحببت.
(ب) في ب، جـ: سند. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
الطبراني -كما في مجمع الزوائد 5/ 212، والفتح 13/ 128.
(2)
مسلم 3/ 1460 ح 142/ 22.
(3)
الطبراني في الصغير 1/ 167.
(4)
الطبراني في الأوسط 4/ 11 ح 3481.
(5)
الطبراني -كما في الترغيب والترهيب 3/ 176 - ومن طريقه ابن عساكر 37/ 446، 447.
سوداء غاشًّا لرعيته إلَّا حرم الله عليه الجنة". وفي رواية (1) له: "ما من إمام يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة، وعَرْفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عامًا". وغير ذلك من الوعيد الشديد الذي تُوعّد به من كفر بالله سبحانه وتعالى، نسأل الله تعالى السلامة من الأعمال المردية، والأهواء المخزية، بمنِّه ورحمته.
1253 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه". أخرجه مسلم (2).
قوله: "فشق عليهم". أي: أدخل عليهم المشقة، أي المضرة. قال صاحب "العين" (3): تقول: شق الأمر عليك مشقة. أي: أضَر بك.
وقوله: "فاشقق عليه". أي اجعل جزاءه من جنس عمله جزاءً وفاقًا، وتمام الحديث:"ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". رواه أبو عوانة (4) في "صحيحه"، وقال فيه:"ومن ولي منهم شيئًا فشق عليهم فعليه بَهلة الله". قالوا: يا رسول الله، وما بهلة الله؟ قال:"لعنة الله". والحديث يدل على أنه يجب على الوالي تيسير الأمر على من وليه، والرفق بهم، ومعاملتهم بالعفو والصفح، وإيثار الرخصة على العزيمة في حقهم؛ لئلا
(1) الطبراني -كما في الترغيب والترهيب 3/ 177، ونصب الراية 1/ 333، ومجمع الزوائد 5/ 212، 213.
(2)
مسلم، كتاب الإِمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر. . . 3/ 1458 ح 1828/ 19.
(3)
كما في الفتح 13/ 130.
(4)
أبو عوانة 4/ 380 ح 7023.
يدخل عليهم المشقة. وقد عند بعض العلماء مشقة الوالي على من وليه من الكبائر، وهو صريح حديث أبي عَوانة؛ فإن اللعنة إنما تكون على من فعل الكبيرة. والله أعلم.
1254 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه". متفق عليه (1).
1255 -
وعنه، أن رجلًا قال: يا رسول الله، أوصني. قال:"لا تغضب". فردد مرارًا. قال: "لا تغضب". أخرجه البخاري (2).
قوله: "إذا قاتل". وفي رواية لمسلم (3): "إذا ضرب أحدكم". وفي رواية (4): "فلا يلطمن الوجه". وفي رواية (5): "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته".
الحديث فيه دلالة على حرمة الوجه زيادة على سائر البدن، وأنه يترقى عن أن يصاب بضرب أو لطم ولو في حد، وذلك لأن الوجه لطيف مجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطفة، وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه، والشَّين فيه فاحش؛ لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره، ومتى أصابه ضرب لا يسلم من شين غالبًا، ويدخل في النهي
(1) البخاري، كتاب العتق، باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه 5/ 182 ح 2559 واللفظ له،
ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن ضرب الوجه 4/ 2016 ح 2612.
(2)
البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 519 ح 6116.
(3)
مسلم 4/ 2016 ح 2612/ 112.
(4)
مسلم 4/ 2017 ح 2612/ 114.
(5)
مسلم 4/ 2017 ح 2612/ 115.
ما إذا أراد تأديب الولد أو الزوجة أو العبد؛ فإنه يجب اجتناب الوجه.
والتعليل بقوله: "فإن الله خلق آدم على صورته". أي: صورة هذا المضروب، كما هو ظاهر عبارة مسلم. يعني أن الوجه الذي في المضروب هو على نحو ما خلق آدم عليه، وآدم خلق في أكمل الأحوال وأشرف الصفات، فينبغي احترامه، والضمير في:"صورته". يعود إلى المضروب. وقالت طائفة: يعود إلى آدم. والمعنى غير مناسب. وقالت طائفة: يعود إلى الله تعالى. ويكون المراد بالإضافة التشريف والاختصاص، كقوله:{نَاقَةَ اللَّهِ} (1). وكما يقال في الكعبة: بيت الله. وبعضهم جعله من أحاديث الصفات التي قال فيها جمهور السلف: نؤمن بأن ظاهرها غير مراد، ولها معنى يليق بها في حق الله تعالى وإن خفي علينا، وأنه ليس كمثله شيء. وهو أسلمُ من التكلف.
قال المازري (2): هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت، ورواه بعضهم:"إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"(3). وهذا ليس بثابت عند أهل الحديث، وكأن من رواه رواه بالمعنى الذي وقع له، وغلط في ذلك. واللهُ أعلم.
وقاله: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أوصني. الرجل جاء في رواية أحمد وابن حبان والطبراني (4) مفسرًا ومبهمًا، والتفسير بتسميته جارية -
(1) الآية 73 من سورة الأعراف.
(2)
ينظر شرح مسلم 16/ 166.
(3)
الآجري في الشريعة ص 315، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 291، وينظر الفتح 5/ 183.
(4)
أحمد 3/ 484، 5/ 370، وابن حبان 12/ 502 - 504 ح 5689، 5690، والطبراني 2/ 292 - 295 ح 2093 - 2107.
بالجيم- بن قدامة، ويحتمل أن يفسر المبهم بغيره، فقد جاء في رواية للطبراني (1) من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت: يا رسول الله، قل لي قولًا أنتفع به وأقلل. قال:"لا تغضب ولك الجنة". وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى (2): قلت: يا رسول الله، قل لي قولًا لعلي أعقله. وجاء في حديث أبي الدرداء (3): دلني على عمل يدخل الجنة.
وفي حديث ابن [عمرو](أ) عند أحمد (4): ما يباعدني من غضب الله. زاد أبو كريب عن أبي بكر بن عياش عند الترمذي (5): ولا تكثر علي؛ لعلي أعيه.
وقوله: فردد مرارًا. بيَّن عثمان بن أبي شيبة (6) في روايته عددها قال: "لا تغضب". ثلاثًا.
وقوله: "لا تغضب". قال الخطابي (7): [اجْتَنِب](ب) أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه، وأمَّا نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه؛ لأنه أمر
(أ- أ) في ب: جـ: عمر. والمثبت من الفتح 10/ 520.
(ب) في ب، جـ: النهي عن اجتناب. والمثبت من الفتح.
_________
(1)
الطبراني 7/ 79 ح 6399.
(2)
أبو يعلى 10/ 51 ح 5685.
(3)
الطبراني في الأوسط 3/ 25 ح 2353.
(4)
أحمد 2/ 175.
(5)
الترمذي 4/ 326 ح 2020.
(6)
الإسماعيلي -كما في الفتح 10/ 519، 520.
(7)
كما في الفتح 10/ 520.
جبلي. وقال غيره: وقع النهي عما كان من قبيل ما يكتسب فيدفعه بالرياضة. وقيل هو نهي عما ينشأ عنه الغضب، وهو الكبر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى تذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل: معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب. وإنما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخصلة، قال بعضهم: لعل السائل كان غضوبًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كل أحد بما هو أولى به. وقال ابن التين (1): جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تغضب". خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يئول إلى التقاطع ومنع الرفق، ويئول إلى أن يؤذي الذي غضب عليه بما لا يجوز، فيكون نقصًا في دينه. انتهى. ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن الغضب ينشأ عن النفس والشيطان، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة، كان لقهر نفسه عن غير ذلك بالأولى. وقد تقدم (2) قريبًا كلام حسن يتعلق بالغضب.
1256 -
وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة". أخرجه البخاري (3).
(1) الفتح 10/ 520.
(2)
تقدم ص 262 - 265.
(3)
البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قوله تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} . 6/ 217 ح 3118.
الحديث فيه دلالة على أنه يحرم على من لم يستحق شيئًا من مال الله تعالى -بألا يكون من المصارف التي عين سبحانه وتعالى أن يأخذه ويتملكه، وأن ذلك من المعاصي الموجبة للنار، ويَدْخل في هذا النوع من كان بيده مال الله تعالى من إمام أو وال، وصرفه في غير مصارفه اتباعًا لتشهِّيه واختياره.
1257 -
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا". أخرجه مسلم (1).
قوله: "حرمت الظلم". التحريم في اللغة بمعنى المنع من الشيء. وفي الشرع: ما يستحق فاعله العقاب. وهذا ممتنع في حق الله تعالى، ولكنه مراد به أنه سبحانه متقدس ومتنزه عن الظلم، فأطلق عليه التحريم؛ لمشابهته الممنوع بجامع عدم الشيء (2)، والظلم مستحيل (أ) في
(أ) في هامش ب: الأوضح أن يعدل: والظلم مستحيل في حقه حكمة؛ لأنه قبيح، وهو منزه عنه كما لا يخفى على المتأمل للعواقب الكلامية. قلت: وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمد الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعلم أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم، وأنه لا يفعله. الفتاوى الكبرى 1/ 46، وينظر منهاج السنة 1/ 452، 2/ 310، 6/ 403.
_________
(1)
مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم 4/ 1994 ح 2577.
(2)
قال ابن القيم: كيف يمتنع في حقه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه، وكتابته على =
حقه تعالى؛ لأن الظلم هو التصرف في غير الملك، أو مجاوزة الحد، وكلاهما مستحيل في حق الله تعالى؛ لأنه المالك للعالم كله، السلطان المتصرف كيف شاء.
وقوله: "فلا تظالموا". وفي رواية (1): "فلا تَظْلِموا". و: "تظالموا". بفتح التاء، مضارع بحذف حرف المضارعة، والمراد: لا يظلم بعضكم بعضًا. وهو توكيد لقوله: "وجعلته بينكم محرمًا". وزيادة في تغليظ تحريمه.
1258 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك يما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته". أخرجه مسلم (2).
قوله: "ما الغيبة؟ ". هي بكسر الغين المعجمة.
= نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة ألا يفعله، فإِ ن محبته للفعل تقتضي وقوعه منه، وكراهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه. بدائع الفوائد 2/ 391. وينظر مفتاح دار السعادة 2/ 106، 108.
(1)
عبد الرزاق 11/ 182 ح 20272، والبيهقي في الشعب 5/ 405 ح 7088.
(2)
مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة 4/ 2001 ح 2589.
الحديث فيه تعريف الغيبة وبيان حقيقتها، وقد اختلف العلماء في حدها وفي حكمها؛ فقال الراغب (1): هي أن يذكر الإنسان عَيْبَ أخيه من غير محوج إلى ذكر ذلك. وقال الغزالي (2): هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه. وقال ابن الأثير في "النهاية"(3): هي أن تذكر الإنسان في غيبته بسوءٍ وإن كان فيه. وقال النووي في "الأذكار"(4) تبعًا للغزالي: ذكر المرء بما يكره؛ سواء كان في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو والده، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، أو غير ذلك مما يتعلق به ذكر سوءٍ، سواء ذكر باللفظ، أو بالإشارة، أو بالرمز.
قال النووي (5): ومن ذلك التعريض في كلام المصنفين، كقولهم: قال من يدعي العلم. أو: بعض من ينسب إلى الصلاح. أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به. ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة. ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة.
(1) المفردات ص 367.
(2)
إحياء علوم الدين 3/ 1599.
(3)
النهاية 3/ 399.
(4)
الأذكار ص 784.
(5)
الأذكار ص 790.
وظاهر الحديث أن الغيبة ليس من شرطها أن تكون في حق الغائب، فإن قوله:"ذكرك أخاك بما يكره". يشمل الحاضر والغائب، وقد ذهب إلى هذا جماعة. ويكون هذا الحد الأثري لها بيان معناها الشرعي. وأما اللغوي، فالاشتقاق من الغيب يدل على أنها لا تكون إلا في الغيبة. ورجح تقي الدين وغيره، أن معناها الشرعي موافق للغوي، وروى حديثًا مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة"(1). فيكون هذا مخصصًا لحديث أبي هريرة.
قال ابن فورك في "مشكل القرآن" في تفسير "الحجرات": الغيبة ذكر العيب بظهر الغيب. وقال سليم الرازي في "تفسيره": الغيبة أن يذكر الإنسان من خلفه بسوءٍ وإن كان فيه. وكذا ذكر الزمخشري (2)، وأبو نصر القشيري في "تفسيره"، والمنذري (3)، والكرماني (4)، وابن خميس (أ) في جزءٍ مفرد له في الغيبة، والإمام المهدي صرح بذلك في "الأزهار"، ولعل المستند هو الحديث المتأيد بالاشتقاق. وأما ذكر العيب في الوجه فهو كذلك حرام؛ لما فيه من الأذى. وذكر الأخ يدل على أن من لم يكن أخًا فلا يكون عيبه غيبة، وأما الكافر الحربي فإيذاؤه جائز، إلا أن يكون بانتقاص الخلقة، فالأولى عدم الجواز؛ لأن في ذلك انتقاصًا بفعل خالقها الذي أحسن كل
(أ) في جـ: حسن.
_________
(1)
ابن عساكر في تاريخ دمشق 51/ 28 من حديث أنس.
(2)
الكشاف 3/ 568.
(3)
كما في الفتح 10/ 469، 470.
(4)
شرح الكرماني على صحيح البخاري 10/ 194.
شيء خلقه، وأمَّا الذمي فحكمه حكم المسلم في تحريم الإيذاء في العرض، وقد روى ابن حبان (1) في "صحيحه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من سَمَّع يهوديًّا أو نصرانيا فله النار". ومعنى: "سَمَّع"، أسمعه ما يؤذي. وهذا دليل واضح في التحريم للأذى. قال الغزالي: وأمَّا المبتدع فإن كفر ببدعته فكالحربي، وإلا فكالمسلم، وأما ذكره ببدعته فليس مكروهًا. وقال ابن المنذر: في الحديث دلالة على أن من ليس بأخ؛ كاليهودي والنصراني وسائر أهل الملل ومن قد أخرجته بدعته عن الإسلام، لا غيبة له. انتهى. وأمَّا غيبة مرتكب الكبيرة فقد تقدم الكلام فيه قريبًا، ويجوز أن يقال: إن قوله: "أخاك". ليس للتقييد، وإنما هو لترقيق المخاطب وتعريفه بخطئه، فإن الأخ لا يرضى بنقص أخيه، فيكون النهي عامًّا، ولا يخرج منه إلا لمخصص، كما هو القاعدة المعروفة.
وقوله: "بما يكره". ظاهره أنه إذا كان المعيب لا يكره ما ذكر فيه من العيب، كما قد يوجد فيمن يتصف بالخلاعة والمجون، أنه يجوز، ولا [بُعد](أ) في جوازه، إلا أن يكون بانتقاص الخلقة، فالظاهر أنه لا يجوز؛ لما عرفت.
وقوله: "فقد بَهَته". بفتح الباء الموحدة وفتح الهاء المخففة، يعني: قلت فيه البهتان. وهو الباطل، وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه، فاستعمل في معنى قول الباطل وإن كان في الغيبة، مجازًا مرسلًا من استعمال المقيد في المطلق، وهو كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ
(أ) غير منقوطة في ب، وفي جـ: يعد. ولعل المثبت هو الصواب.
_________
(1)
ابن حبان 11/ 238 ح 480.
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1).
والحديث فيه دلالة على تفسير الغيبة المنهي عنها في قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (2).
واختلف العلماء هل الغيبة من الكبائر أم من الصغائر؟ فنقل أبو عبد الله القرطبي (3) في "تفسيره" الإجماع على أن الغيبة من الكبائر؛ لأن حد الكبيرة صادق عليها، ونص عليه الشافعي فيما نقله عنه الكَواشي في كتابه المعروف بـ "آداب القضاء" من القديم، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"(4). وجزم به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني في "عقيدته"، في الفصل المعقود للكبائر، وكذا الحبُلي في "شرح التنبيه"، وكذلك الكواشي في "تفسيره"، وهو معدود من الشافعية. وقال: إنها من عظائم الذنوب. وذهب الغزالي وصاحب "العدة" إلى أنها من الصغائر. قال الأذرعي: لم أر من صرح بأنها من الصغائر غيرهما. وذهب الإمام المهدي وغيره من الهدوية إلى أنها محتملة للكبر والصغر، على قاعدة المعتزلة أن ما لم يقطع بكبره فهو محتمل في حق غير الأنبياء. وذهب الجلال البلقيني إلى أنها من الصغائر. قال: لأن الله تعالى شبهها بكراهية أكل لحم الميت، فقال تعالى: {أَيُحِبُّ
(1) الآية 58 من سورة الأحزاب.
(2)
الآية 12 من سورة الحجرات.
(3)
تفسير القرطبي 16/ 337.
(4)
تقدم في 5/ 358، 359.
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (1). قال بعض العلماء: قيل: معناه أنهم لا بد أن يجيبوا بأن يقولوا: لا أحد. فقال لهم تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} . وأما الأحاديث فلم أر فيها ذكر [المغتاب](أ) ولا وعيد العذاب. وقد روى أحمد وأبو داود (2) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم". انتهى. وهذا لا يدل على أنها كبيرة، إنما يدل على تحريمها والتنفير منها: الزجر عنها. انتهى كلام الجلال.
ويجاب عليه (ب) بأن الآية الكريمة تدل على المبالغة في التنزه عن الغيبة، كما أن الطبع ينفر ويتنزه عن إساغة لحم الأخ ميتًا، وهي وإن لم يذكر فيها صريح الوعيد بالنار فهو متضمن. قال الزركشي: والعجب ممن يعد أكل الميتة كبيرة ولا يعد الغيبة كذلك، والله تعالى أنزلها منزلة أكل لحم الآدمي، وأما ما ذكر أن الأحاديث لم يذكر فيها وعيد المغتاب، فحديث المعراج صريح في العقاب، وأي عقاب أعظم من ذلك؟.
وفي الحديث من وعيد المغتاب الكثير المهول لذلك أشد الهول. وقد
(أ) في ب، جـ: الغيبة. والمثبت ما سيأتي بعده في الرد على كلامه.
(ب) في جـ: عنه.
_________
(1)
الآية 12 من سورة الحجرات.
(2)
أحمد 3/ 224، وأبو داود 4/ 271 ح 4878.
ورد أيضًا في حديث القبر المعذب صاحبه ما أخرجه أحمد وغيره (1) بسند صحيح عن أبي [بكرة](أ) رضي الله عنه، قال: بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيدي ورجل عن [يساره](ب)، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبيرة -وبكى- فأيُّكم يأتيني بجريدة؟ ". فاستبقنا فسبقته، فأتيته بجريدة فكسرها نصفين، فألقى على هذا القبر قطعة وألقى على ذا القبر قطعة، قال:"إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول". وأخرج أحمد (2) بسند رواته ثقات إلا عاصمًا (3) أحد القراء السبعة قَبِلَه جماعة، ورده آخرون، وحديثه حسن، أنه صلى الله عليه وسلم أتى على قبر يعذب صاحبه، فقال:"إن هذا كان يأكل لحوم الناس". وأخرج ابن جرير (4) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيع الغرقد، فوقع على قبرين ثريين، فقال:"أدفنتم فلانًا وفلانة؟ " -أو قال: "فلانًا وفلانا"- قالوا: نعم يا رسول الله. قال: "لقد أقعد فلان الآن فضرب". ثم قال: "والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع، ولقد تطاير قبره نارًا، ولقد صرخ صرخةً سمعها
(أ) في ب، جـ: بكر. والمثبت من مصدري التخريج.
(ب) في ب، جـ: يساري. والمثبت من مصدري التخريج.
_________
(1)
أحمد 5/ 36، والطيالسي 2/ 198 ح 908.
(2)
أحمد 4/ 172. وأخرجه بهذا اللفظ الطبراني في الكبير 22/ 705. وقد عزاه الحافظ في الفتح 10/ 471 لهما وذكر لفظ الطبراني، فتابعه المصنف واختصره فلم يذكر الطبراني.
(3)
تقدمت ترجمته في 1/ 263.
(4)
ابن جرير في صريح السنة 1/ 29 ح 40.
الخلائق إلا الثقلين؛ الإنس والجن، ولولا تمرُّغ (أ) في قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع" (ب). قالوا: يا رسول الله، صلى الله عليك، وما ذنبهما؟ قال:"أما فلان، فكان (جـ) لا يستبرئ من البول، وأما فلان -أو قال: فلانة- فإنه كان يأكل لحوم الناس". ورواه من طريق ابن جرير أحمد (1) لكن بلفظ: "بالنميمة". وزاد فيه قال: يا رسول الله، حتى متى هما يعذبان؟ قال:"غيب لا يعلمه إلا الله تعالى".
وقد يؤخذ من إيراد هذا الحديث في الغيبة، أن الغيبة نوع من النميمة، إذا قيل باتحاد القصة؛ وذلك لأن النميمة هي إسماع المقول فيه ما قاله القائل، ولو سمعه القائل لكره أن ينقل عنه ذلك، فقد صدق:"ذكرك أخاك بما يكره". قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: إن الغيبة قد توجد في بعض صور النميمة؛ وهو أن يذكره في غيبته ممَّا يسوءه قاصدًا بذلك الإفساد بينه وبين السامع، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك، ويحتمل أن تكون القصة متعددة، وأن عذاب القبر تكون من أسبابه الغيبة والنميمة، فبزيادة قيد الإفساد تكون الغيبة أعم مطلقًا، إذ لا يشترط فيها قصد الإفساد، وإذا قلنا: إن الغيبة لا تكون إلا في الغيب يكون
(أ) كذا في ب، جـ، وحاشية نسخة من مسند أحمد، وفي مصدر التخريج: تمريج، وفي نسخ من مسند أحمد: تمريغ.
(ب) زاد في مصدر التخريج: ثم قال: "الآن يضرب هذا، الآن يضرب هذا". ثم قال: والذي نفسي بيده، لقد ضرب ضربة ما بقي منه عظم إلا انقطع، ولقد تطاير قبره نارًا، ولقد صرخ صرخة سمعها الخلائق إلا الثقلين من الجن والإنس، ولولا تمريج في قلوبكم، وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع".
(جـ) في جـ: فإِنه كان.
_________
(1)
أحمد 5/ 266.
(2)
الفتح 10/ 470.
بينهما عموم وخصوص من وجه.
واعلم أنها قد تجب الغيبة أو تباح لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها، وذلك لستة أسباب:
الأول، التظلم، فيجوز لمن ظُلِمَ أن يشكو ظلامته على من له قدرة على إزالتها أو تخفيفها. الثاني، الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته، فيقول له: فلان فعل كذا. في حق من لم يكن مجاهرًا بالمعصية. الثالث، الاستفتاء بأن يقول لمفت: فلان ظلمني بكذا، فما طريقي إلى الخلاص؟ الرابع، التحذير للمسلمين من الاغترار بالمذكور؛ كجرح الرواة، والشهود، والمتصدرين لإفتاءٍ أو إقراءٍ مع عدم الأهلية (أ).
الخامس، ذكر من يجاهر بفسقه أو بدعته؛ كالمكاسين وذوي الولايات الباطلة، فيجوز ذكرهم بما يجاهروا به دون غيره، وقد تقدم.
السادس، التعريف بالشخص بما فيه من العيب؛ كالأعور والأعرج والأعمش وغير ذلك، ولا يراد به نقصه وغيبته.
وهذه الأسباب الستة مجمع عليها، وقد نظمها ابن أبي شريف، فقال:
الذم ليس بغيبة في ستة
…
مُتَظَلِّم ومُعرِّف ومحذرِ
ولمُظهر فسقًا ومستفت ومَن
…
طلَب الإعانة في إزالة منكرِ
ودلت عليها الأحاديث، كالذي استأذن عليه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ائذنوا له، بئس أخو العشيرة". متفق عليه (1). وروى البخاري (2) حديث: "ما أظن
(أ) في ب: أهلية.
_________
(1)
البخاري 10/ 471 ح 6054، ومسلم 4/ 2002 ح 2581 من حديث عائشة.
(2)
البخاري 10/ 485 ح 6067، 6068 من حديث عائشة.
فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا". قال الليث: كانا منافقين، هما مخرمة بن نوفل بن عبد مناف القرشي، وعُيَيْنة بن حصن الفزاري. وقوله: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه" (1).
وقصة زيد بن أرقم يرفعه ما قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة (2). وشكاية هند من أبي سفيان بأنه رجل شحيح (3).
لطيفة: ذكر بعضهم مناسبة كون النميمة والبول سببين في عذاب القبر؛ وذلك أن البرزخ مقدمة للآخرة، وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله تعالى الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء. ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة، بنشر الفتن التي تسفك الدماء بسببها.
1259 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقِر أخاه، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه". أخرجه مسلم (4).
(1) تقدم مختصرًا في ح 824.
(2)
البخاري 8/ 644 ح 4900، ومسلم 4/ 2140 ح 2772.
(3)
تقدم ح 943.
(4)
مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله 4/ 1986 ح 2564/ 32.
الحديث أخرجه مسلم من طرق (أ) بزيادة ونقصان، وهذه الطريق هي أتم الطرق، إلا أن في بعض رواياته:"ولا تنافسوا"(1). عوض: "ولا تناجشوا".
وكذا في جميع الروايات عن مالك بلفظ: "ولا تنافسوا". بالفاء والسين المهملة. وكذا أخرجه الدارقطني (2) في "الموطآت"، وكذا ذكره ابن عبد البر (3) من رواية يحيى بن يحيى الليثي وغيره عن مالك. وفي جميع نسخ "البخاري" (4) بلفظ:"ولا تناجشوا". والحاصل أنه وقع الاختلاف في هذه اللفظة من الرواة عن أبي هريرة، وكذلك وقع الاختلاف من الرواة عن مالك، ولعل اللفظين واقعان، إلا أن الراوي قد يختصر الرواية، وقد يذكر أحد اللفظين ويترك الآخر.
فقوله: "لا تحاسدوا". المحاسدة لا تكون إلا بين اثنين فصاعدًا، ويكون النهي عن وقوع الحسد من جانبين، وكذلك الحسد من جانب واحد بالأولى؛ لأنه إذا ذم مع وقوعه مع المكافأة المتضمنة جزاء سيئة سيئة مثلها، فمع الانفراد بطريق الأولى. وقد مر الكلام على الحسد قريبًا (5).
وققوله: "ولا تناجشوا". بالجيم والشين المعجمة، من النجش، وقد مر
(أ) في جـ: طريق.
_________
(1)
مسلم 4/ 1985 ح 2563/ 28.
(2)
أحاديث الموطأ ص 24.
(3)
التمهيد 18/ 19.
(4)
البخاري 4/ 353، 361، 372، 5/ 323، 10/ 484 ح 2140، 2150، 2160، 2723، 6066.
(5)
تقدم ص 255 - 261.
الكلام عليه في البيع (1).
وأما رواية: "ولا تنافسوا". من المنافسة، والتنافس الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به (أ)، تقول: نافست في الشيء منافسة ونفاسًا. إذا رغبتَ فيه. والمعنى النهي عن الرغبة في الدنيا وأسبابها وحظوظها.
وقوله: "ولا تباغضوا". أي: لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأن البغض لا يكتسب (ب) ابتداءً. وقيل: المراد النهي عن الأهواء المضلة المفضية للتباغض. والأَوْلَى أنه لأعم من هذا، فقد يكون للهوى، وقد يكون لظن السوء، وقد يكون للحسد وغير ذلك. والتباغض: تفاعل، وفيه ما في قوله:"لا تحاسدوا". والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فأما ما كان لله تعالى فهو واجب يثاب فاعله عليه؛ لأن في ذلك حقيقة الإيمان، أن تبغض في الله وأن تحب في الله.
وقوله: "ولا تدابروا". قال الخطابي (2): أي: لا تهاجروا، فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه. وقال ابن عبد البر (3): قيل للإعراض: مدابَرة. لأن من أبغض أعرض، (جـ ومن أعرض جـ) ولى دبره، والمحب بالعكس. وقيل: معناه: لا يستأثر أحدكم على
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في جـ: يكسب.
(جـ - جـ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
تقدم في 6/ 82 - 85، 102.
(2)
معالم السنن 4/ 122.
(3)
التمهيد 6/ 117.
الآخر. وقيل للمستأثر: مستدبر. لأنه يولي دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر. وقال [المازري](أ)(1): معنى التدابر المعاداة؛ تقول: دابرته. أي: عاديتُه. وحكى القاضي عياض (2) أن معناه: لا تخاذلوا -بالخاء (جـ) المعجمة والذال المعجمة- ولكن تعاونوا. والأول أولى. وقد فسره مالك في "الموطأ"(3) بأخص منه، فقال إذ ساق الحديث عن الزهري: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يدبر عنه بوجهه. وكأنه أخذه من بقية الحديث:"يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"(4). فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض، ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي (5) في "زيادات البر والصلة" لابن المبارك بسند صحيح، عن أنس، قال: التدابر التصارم.
وقوله: "ولا بيع بعضكم". تقدم الكلام عليه في البيع (6).
وقوله: "وكونوا عباد الله إخوانًا". "عبادَ اللهِ" منصوب على أنه منادًى محذوف حرف النداء، أو على الاختصاص، بتقدير: أخص أو
(أ) في ب، جـ: الماوردي. والمثبت من الفتح.
(ب) زاد بعده في جـ: أي.
_________
(1)
الفتح 10/ 482، 483.
(2)
الفتح 10/ 483.
(3)
الموطأ 2/ 907.
(4)
البخاري 10/ 492 ح 6077، ومسلم 4/ 1984 ح 2560 من حديث أبي أيوب الأنصاري.
(5)
الحسين بن الحسن -كما في الفتح 10/ 483.
(6)
تقدم 6/ 103.
أعني. والمعنى: أنكم إذا تركتم هذه الخصال المتقدمة المنهي عنها صرتم إخوانًا، وإذا اتصفتم بهاكنتم أعداءً. والمراد بقوله:"كونوا" بمعنى: اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا مما سبق ذكره وغيره من الأمور المقتضية للتآخي إثباتًا ونفيًا. وجملة: "كونوا". تشبه التعليل لما تقدم في قوة: اتركوا (أ) هذه المنهيات لتكونوا إخوانًا.
وقوله: "عباد الله". إشارة إلى أنكم عبيد الله، فحقكم أن تتواخوا بذلك. وقال القرطبي (1): المعنى: كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والعاونة والنصيحة. وفي رواية لمسلم (2) زيادة: "كما أمركم اللهُ". أي: كما أمركم الله بهذه الأوامر المقدم ذكرها، فإنها جامعة لعاني الأخوة. ونسبتها إلى الله؛ لأن الرسول بلغ عن الله. ويحتمل أن يكون أراد بقوله:"كما أمركم الله". الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3). فإنه خبرٌ عن الحالة التي شرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر.
قال ابن عبد البر (4): تضمن الحديث تحريم بغض المسلم، والإعراض عنه، وقطيعته بعد صحبته، بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم الله به
(أ) في جـ: أو تركوا.
_________
(1)
الفتح 10/ 483.
(2)
مسلم 4/ 1986 ح 2563/ 30.
(3)
الآية 10 من سورة الحجرات.
(4)
التمهيد 6/ 126.
عليه، وأن تعامله معاملة الأخ النسيب (أ) ولا تبحث عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، والميت والحي.
وقوله: "المسلم أخو المسلم". أي أنهما كالأخوين بجامع الإسلام.
ولؤله: "لا يظلمه". قد مر تفسير الظلم (1)، والظلم حرم (ب) في حق المسلم والكافر، وإنما خص المسلم بالذكر لمزيد شرف الإسلام.
وقوله: "ولا يخذله". قال العلماء: الخذل ترك الإعانة والنصر.
ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي.
وقوله: "ولا يَحْقِره". هو بفتح الياء وسكون الحاء المهملة والقاف، أي: لا يحتقره ولا يتكبر عليه ولا يستصغره ويستقله. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى (2): ورواه بعضهم: "لا يُخْفِره". بضم الياء وبالخاء المعجمة وبالفاء، أي: لا يغدِر بعهده، ولا ينقض أمانه. قال: والصواب المعروف هو الأول، وهو الموجود في "كتاب مسلم" بلا خلاف، وروي:"ولا يحتقره". وهذا يرد الرواية الثانية.
وقوله: "التقوى ها هنا". إلخ. يعني أن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها
(أ) في ب: النسب.
(ب) في ب: يحرم.
_________
(1)
تقدم ص 295.
(2)
شرح مسلم 16/ 121.
التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته، وأما مجرد العمل الظاهر، فإنه قد يحصل مع النفاق والرياء والعجب، ويكون زيادة في عقاب صاحبه. وجاء في رواية لمسلم (1):"إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". يعني أن مجازاته سبحانه وتعالى ومحاسبته إنما تكون على ما في القلب دون الصور الظاهرة، ونظر الله تعالى ورؤيته محيطة بكل شيء. ومقصود الحديث أن الاعتبار في هذا كله بالقلب، وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم "ألا إن في الجسد مضعة". الحديث (2). واحتج البعض بهذا على أن العقل في القلب لا في الرأس، وقد سبق ذلك (3).
وقوله: "بحسب امرئ" إلخ. أي: يكفىِ. ولفظ "حسب" مبتدأ، والباء زائدة، و:"أن يحقر أخاه". الخبر، أي أن هذه الخصلة الواحدة تكفي في أن يكون المتصف بها من أهل الشر الذي يستحق به العقاب والنكال.
وقوله: "كل المسلم على المسلم" إلخ. أي أن هذه (أ) الثلاثة الأنواع (ب) مستوية في التحريم، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع متضافرة على تحريمها، بل والعقل أيضًا. والله سبحانه أعلم.
(أ) في جـ: هذا.
(ب) في جـ: أنواع.
_________
(1)
مسلم 4/ 1986، 1987 ح 2564/ 33.
(2)
تقدم ح 1233.
(3)
تقدم ص 235، 236.
1260 -
وعن قُطْبة بن مالك قال: كان (أ) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء". أخرجه الترمذي، وصححه الحاكم واللفظ له (1).
هو قُطْبة -بضم القاف وسكون الطاء المهملة وفتح الباء الموحدة- بن مالك الثعلبي، ويقال: التغلبي. ويقال: الذبياني. يعني أنه اختلف في نسبه هل هو إلى ثعلبة بالثاء المثلثة والعين المهملة، أو إلى تغلب بالتاء المثناة من فوق والغين المعجمة، كوفي (2)، روى عنه يزيد بن عِلاقة، بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالقاف.
وقوله: "اللهم جنبني". أي: باعدني.
وقوله: "منكرات الأخلاق". الأخلاق جمع خُلُق، بضم الخاء المعجمة وضم اللام ويجوز سكونها. قال الراغب (3): الخلق والخلق -يعني بالضم والفتح- في الأصل بمعنًى، كالشُّرْب والشَّرْب، لكن خص المفتوح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص المضموم بالقُوى والسجايا المدركة
(أ) في جـ: قال.
_________
(1)
الترمذي، كتاب الدعوات، باب دعاء أم سلمة 5/ 536 ح 3591، والحاكم، كتاب الدعاء 1/ 532.
(2)
ينظر أسد الغابة 4/ 408، وتهذيب الكمال 23/ 608، والخلاف الذي في مصادر ترجمته في نسبته الثعلبي أو الثُّعْلبي، نسبة إلى بني ثعلب أو بني ثعل، ولم نجد الخلاف في نسبته إلى تغلب كما ذكر المؤلف.
(3)
المفردات ص 158 (خ ل ق).
بالبصيرة. نتهى.
وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم كما حسَّنت خَلقي فحسن خُلُقي". أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان (1). وفي حديث علي (2) رضي الله عنه في دعاء الافتتاح:"واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي (أ) لأحسنها إلا أنت". وقال القرطبي في "الفهم"(3): الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة؛ فالمحمودة على الإجمال، أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنتصف لها، وعلى التفصيل؛ العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى، والرحمة، والشفقة، وقضاء الحوائج، والتودد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك، فقوله:"منكرات الأخلاق". المراد بها ضد محاسن الأخلاق، وهو ضد الأشياء المذكورة؛ لأن المنكر ضد الحسن، والحسن هو المرغوب فيه؛ إما من جهة العقل، وإما من جهة الفرض (ب)، وأكثر (جـ) ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، والمراد هنا طلب البعد عن كل ما ينكر من الأخلاق شرعًا أو عادة.
وقوله: "والأعمال". كذلك يراد به ما كان ينكر من العمل شرعًا أو
(أ) في ب: يهدني.
(ب) في جـ: العرض.
(جـ) في جـ: أكثرها.
_________
(1)
أحمد 6/ 373، وابن حبان 3/ 329 ح 959.
(2)
مسلم 1/ 534، 535 ح 771/ 201.
(3)
الفتح 10/ 456.
عادة.
وقوله: "والأهواء". جمع هوى، والهوى ما تشتهيه النفس من غير نظر إلى مقصد يحمل (أ) عليه شرعًا.
و: "الأدواء". جمع داء، وهي الأسقام المنفرة التي كان النبي (ب) صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها؛ كالجذام والبَرَص، أو المُهلِكة، كذات الجنْبِ (1)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من سيئ الأسقام (2).
1261 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده (جـ) موعدًا فتخلفه". أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف (3).
قوله: "لا تمار". من: مَرِي، أي جحده، والمراد هنا الجدال، أي لا تجادل أخاك. وقيل: المراء طعنك في كلام لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله، وإظهار مزيتك عليه. والجدال هو ما يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها، والخصومة لجاج في الكلام ليُستوفى به مال أو غيره، ويكون تارة
(أ) في جـ: يحمد.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ) في جـ: تعدن.
_________
(1)
ذات الجنب: هي الدبيلة والدُّمّل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل، وقلما يسلم صاحبها. النهاية 1/ 303، 304.
(2)
أحمد 3/ 192، وأبو داود 1/ 94 ح 1554.
(3)
الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المراء 4/ 316 ح 1995.
ابتداء، وتارة اعتراضًا. والراء لا يكون إلا اعتراضًا، وقد جاءت أحاديث كثيرة في النهي عن الجدال في القرآن، وأنه كفر (1)، وروى الطبراني (2) أن جماعة من الصحابة قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال:"مهلًا"(أ) يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا الراء لقلة خيره، ذروا الراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا المراء فكفى (ب) إثمًا ألا تزال مُمَاريًا، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم (جـ بثلاثة أبيات جـ) في الجنة؛ في رباضها -أي أسفلها- ووسطها وأعلاها، لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإنه أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان". وروي الشيخان (3):"إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". أي الشديد الخصومة الذي يحج مخاصمه، مأخوذ من لَدِيدَي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كُلَّما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر. و:"الخَصِم". بفتح الخاء وكسر الصاد المهملة، هو الحاذق في الخصومة. وهو محمول على المراء إذا لم يكن مقصودًا به
(أ) في ب، جـ: بهذا. والمثبت من الطبراني.
(ب) في ب: يكفي.
(جـ - جـ): بثلاث أبيات، وفي الطبراني: بثلاث آيات.
_________
(1)
أحمد 2/ 258، 286، وأبو داود 4/ 199 ح 4603، والنسائي في الكبرى 5/ 33 ح 8093.
(2)
الطبراني 8/ 178، 179 ح 7659.
(3)
البخاري 5/ 106 ح 2457، ومسلم 4/ 2054 ح 2668.
إظهار الحق، وكان القصد إنما هو إظهار الغلبة على الغير، أو كان الجدال في نفس آيات القرآن، أو في معنى لا يسوغ الاجتهاد فيه، أو في أمير يوقع في شك، أو شبهة، أو فتنة، أو خصومة، أو شحناء، أو نحو ذلك، وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة وإظهار الحق وجدالهم في ذلك، فليس منهيًّا عنه بل مأمورًا به، وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن.
وقوله: "ولا تمازحه". من المزح، وهو المداعبة، والمراد المنهي عنه ما كان باطلًا، وأما ما كان حقًّا ولا يتسبب به شحناء، فهو جائز، كما قد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم (1). وروي أبو هريرة أنهم قالوا: يا رسول الله، إنك لتداعبنا. قال:"إني لا أقول إلا حقًّا". أخرجه الترمذي (2). فنبه أن المزاح الحق لا حرج فيه.
وقوله: "ولا تعده موعدًا فتخلفه". يدل على أنه لا يجوز إخلاف الوعد. وقد تقدم قريبًا أن ذلك من علامة النفاق (3)، ولعل المحرم منه ما كان فيه ترك واجب، وما لم (أ) يكن كذلك فهو مكروه. والله أعلم.
(أ) في جـ: لا.
_________
(1)
صحيح مسلم 4/ 1811 ح 2323، وأبو داود 4/ 301، 302 ح 4998 - 5002، والترمذي 4/ 314، 315 ح 1989، 1991، 1992.
(2)
الترمذي 4/ 314 ح 1990.
(3)
تقدم ح 1249.
1262 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن؛ البخل وسوء الحلق". أخرجه الترمذي (1) وفي إسناده ضعف.
الحديث فيه دلالة على قبح هاتين الخصلتين، وأنهما منافيتان للإيمان، وقد ذم الله سبحانه وتعالى البخيل في كتابه، والأحاديث المتضافرة على ذمه المتوعدة للبخيل بالعذاب والنكال.
واختلف العلماء في حد البخل المذموم؛ فحده بعضهم بأنه في الشرع منع الزكاة، وألحق بها كل واجب، فمن منع ذلك كان بخيلًا يناله العقاب الوارد في الكتاب والسنة. قال الغزالي (2): وهذا الحد غير كاف، إذ من يَرُد اللحم أو الخبز إلى قصاب أو خباز لنقص وزن حبَّة يعد بخيلًا اتفاقًا، وكذا من يُضايق عياله في لقمة أو تمرة أكلوها من ماله بعد أن سلم لهم ما فرضه لهم القاضي، وكذا من بين يديه رغيف، فحضر من يظن أنه يشاركه، فأخفاه عنه يعد بخيلًا. انتهى. وهذا الكلام في البخيل عرفًا لا من يستحق (أ) العقاب، فلا يرد نقضًا.
وقال آخرون: البخيل الذي يستصعب العطية. وهذا الحد قاصر، فإنه إن أريد أنه الذي يستصعب كل عطية، وَرَد عليه أن كثيرًا من البخلاء لا
(أ) في جـ: استحق.
_________
(1)
الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في البخيل 4/ 302 ح 1962.
(2)
الإحياء 3/ 1801.
يستصعب إعطاء الحبة، وإن أريد الكثير من العطية، فهذا لا يوجب الحكم بالبخل. وبعضهم بأنه منع ما يطلب مما يقتنى. واعلم أن البخاري بوب باب حسن الخلق وإلسخاء وما يكره من البخل، وذكر في الباب (1) حديث البردة التي لبسها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتاج إليها، ثم سأله رجل من أصحابه البردة فأعطاه إياها، ثم لامه أصحابه. وقال في آخره: وقد علمت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه؟ وكان من (أ) عادته أنه إذا لم يكن مسوغًا للإعطاء سكت (ب) في جواب السائل، ولا يصرح بقوله (جـ): لا أعطي. وأشار إلى أن بعض البخل مكروه كما أن منه ما يحرم، ومنه ما يباح، بل ويستحب، بل ويجب. كذا ذكره (د) المصنف (2) رحمه الله. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (3). وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} (4).
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم (5): {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} . وقوله
(أ) ساقطة من: ب.
(ب) في جـ: يسكت.
(جـ) في جـ: بقول.
(د) في جـ: ذكر.
(هـ) زاد بعده في ب، جـ: قال قلت. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
البخاري 10/ 455، 456 ح 6036.
(2)
الفتح 10/ 458.
(3)
الآية 29 من سورة الإسراء.
(4)
الآية 67 من سورة الفرقان.
(5)
الآية 92 من سورة التوبة.
للأشعريين: "والله لا أحملكم"(1). فلا إشكال فيه؛ فإن قوله: {لَا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ} . لمن (أ) لا يغني في حقه السكوت، ولم يكن متماديًا في الطلب، وفي جواب الأشعريين لما تحققوا أنه لم يكن عنده شيء وتمادوا في السؤال، ويكون القسم قطعًا لطمع السائل، فلا ينافي قول الفرزدق (2).
* ما قال لَا قطُّ إلا في تشهده *
لأنه إذا لم يكن الإعطاء سائغًا سكت.
وحده الإمام المهدي في "تكملة الأحكام" بأنه منع المال عما يجب صرفه فيه، من تحصيل نفع، أو دفع ضرر أو ذم، وأراد بالنفع النفع في العاجل؛ من نفقته على نفسه وأولاده ومن يجب عليه إنفاقه، وفي الآجل؛ كإخراج الزكاة وغيرها من الواجبات المالية. وأراد بقوله: أو ذم. يعني: يدفع الذم عن نفسه بالإنفاق فيما يحفظ به مروءته الذي يصون به عرضه عن الذم. وقد تكلم الهادي على هذا في كتابه "الأحكام"، واحتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"اجعل مالك دون عرضك، وعرضك دون روحك، وروحك دون دينك"(ب)(3).
(أ) في جـ: لم.
(ب) في جـ: ذنبك.
_________
(1)
البخاري 8/ 110 ح 4415، ومسلم 3/ 1268 ح 1649/ 7.
(2)
صدر بيت للفرزدق من قصيدة طويلة في مدح علي بن الحسين زين العابدين. ينظر زهر الآداب 1/ 65 - 67، وخزانة الأدب 11/ 161 - 163.
(3)
الديلمي في مسند الفردوس 1/ 518 ح 1745 من مسند ابن جندب بنحوه، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 4/ 294 ح 2315، والبيهقي في الشعب 2/ 246، 357 ح 1642، 2031 موقوفًا على جندب.
وقوله "وسوء الخلق". المراد به الوصف المضاد لحسن الخلق. وقد تقدم الكلام في حسن الخلق. وما خالف تلك الصفات فهو سوء الخلق، وقد تضافرت الأحاديث في أنه ينافي الإيمان.
أخرج الحاكم والحارث (1)"سوء لخلق ويفسد العمل كما يفسد الخل العسل". وابن منده (2): "سوء الخلق شؤم ، وطاعة النساء ندامة ، وحسن الملكة نماء". والخطيب (3): "إن لكل شيء توبة إلا صاحب سوء الخلق، فإنه لا يتوب من ذنب إلا وقع فيما هو شر منه". والصابوني (4): "ما من ذنب إلا وله عند الله توبة إلا سوء الخلق، فإنه لا يتوب من ذنب إلا رجع إلى ما هو شر منه". والترمذي وابن ماجه (5): "لا يدخل الجنة سيئ الخلق". وقوله صلى الله عليه وسلم "ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة"(6). وأنه يدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم (7)، ودرجات الآخرة وشرف المنازل (8)، وإن سوء الخلق ذنب لا يغفر (9)، وإن العبد ليبلغ من سوء خلقه أسفل درك جهنم (10).
(1) الحاكم في الكني -كما في الجامع الكبير ص 548 - والحارث -كما في المطالب العالية 7/ 121 ح 2853.
(2)
ابن منده -كما في الجامع الكبير ص 548.
(3)
الخطيب 8/ 60،59 بلفظ: لكل مسيء.
(4)
الصابوني في الأربعين -كما في الجامع الكبير ص 548.
(5)
سيأتي عند الترمذي ح 1269 بنحوه.
(6)
عبد بن حميد 3/ 108 ح 1210، والطبراني 23/ 222 ح 411.
(7)
أحمد 6/ 64 وأبو داود 4/ 253 ح 4798.
(8)
جزء من الحديث المتقدم حاشية (6).
(9)
الخرائطي في مساوئ الأخلاق ص 21 ح 7.
(10)
جزء من الحديث المتقدم حاشية (6).
وغير ذلك. ولعله يحمل الحديث بأن الخصلتين لا تجتمعان في مؤمن كامل الإيمان، أو أنه إذا اتصف بهما مستحلًّا لترك واجب قطعي، كالزكاة، فيكون كافرًا، أو أن ذلك خارج مَخرج التحذير والتنفير عنهما. والله سبحانه أعلم.
1263 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستبّان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم". أخرجه مسلم (1).
تقدم الكلام عليه في حديث: "سباب المسلم فسوق (أ) "(2).
1264 -
وعن أبي صِرْمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضارّ مسلمًا ضارّه الله تعالى، ومن شاقَّ مسلمًا شقَّ الله عليه". أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه (3).
هو أبو صِرْمة الأنصاريُّ -بكسر الصاد المهملة وسكون الراء- واسمه مختلف فيه؛ فقيل: اسمه مالك بن قيس. وقيل: لُبابة (ب بن قيس. وقيل: قيس ب) بن مالك بن أبي أنس. وقيل: هانئ بن سعد. وهو مازني من بني مازن بن النجار، وهو مشهور بكنيته، شهد بدرًا وما بعدها من الشاهد،
(أ) في جـ: فسق.
(ب - ب) ساقط من: جـ.
_________
(1)
مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن السباب 4/ 2000 ح 2587.
(2)
تقدم ص 278، 279.
(3)
أبو داود، كتاب الأقضية، أبواب من القضاء 3/ 314 ح 3635، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الخيانة والغش 4/ 293 ح 1940 بدون قوله: مسلما.
روى عنه محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وابن (أ) مُحَيريز (1).
قوله: "من ضار مسلمًا". أي: أدخل عليه المضرة في نفسه أو عرضه أو ماله بغير حق.
"ضاره الله تعالى". أي: جازاه من جنس فعله جزاءً وفاقًا.
"ومن شاق". أي: أدخل عليه المشقة، وهي المضرة أيضًا (ب)، أو المشاقة المنازعة، أي: نازعه ظلمًا وتعديًا.
1265 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبغض الفاحش البذيء". أخرجه الترمذي وصححه (2)، وله من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"ليس المؤمن بالطّعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء". وحسنه، وصححه الحاكم، ورجح الدارقطني وقفه (3).
قوله: "إن الله يبغَض". مضارع بغض، كفرح. البُغض، بضم الباء وسكون الغين، مصدر بغض، وهو ضد المحبة. والمراد به إنزال العقوبة (4).
(أ) جـ: أبي.
(ب) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
تهذيب الكمال 33/ 426، والإصابة 7/ 218.
(2)
الترمذي ، كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في حسن الخلق 4/ 318، 319 ح 2002.
(3)
الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة 4/ 308 ح 1977، والحاكم، كتاب الإيمان 1/ 12 ، والدارقطني في العلل 5/ 92، 93 ح 738.
(4)
ينظر ما تقدم ص 73 حاشية (2).
و: "الفاحش". اسم فاعل من الفحش، وهو كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، فيشمل القول والفعل والصفة، تقول: طويل فاحش الطول. وأكثر استعماله في القوال.
و: "البذيء". فعيل من البذاءِ، وهو الكلام القبيح، وهو هنا في معنى فاحش، فيكون مرادفًا أتي به للتأكيد.
وقوله: "ليس المؤمن بالطعان". المراد (أبه الطعن أ)، وهو السب. يقال: طعن في عرضه. أي: سبه.
و"اللعان". فعَّال، مبالغة فاعل، أي كثير اللعن، واللعنة في الدعاء يراد بها (ب) الإبعاد من رحمة الله. يعني أن هذه (جـ) ليست من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة -وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى- فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يدعو به المسلم على الكافر، وقد جاء في الحديث أن:"لعن المؤمن كقتله"(1). لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة. أو أن معنى:
(أ- أ) في جـ: بالطعن.
(ب) في جـ: به.
(جـ) في جـ: هذا.
_________
(1)
أحمد 4/ 33، ومسلم 1/ 104 ح 110/ 176.
"لعن المؤمن كقتله". يعني في الإثم. وهذا في حق من يكثر اللعن لا المرة الواحدة ، ويخرج منه من يجوز لعنه من الكفار، ومثل لعن الواصلة، والواشمة، وآكل الربا، وشارب الخمر، وغير ذلك ممن ورد في الحديث لعنه، والمعنى أن هذه الخصال ليست من أخلاق المؤمن، فمن تحلى بها فهو غير كامل الإيمان. والله أعلم.
1266 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا". أخرجه البخاري. مر الحديث بلفظه في آخر كتاب الجنائز (1).
1267 -
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنَّة قتَّات". متفق عليه (2).
قوله: "قتات". هو بقاف ومثناة ثقيلة، وبعد الألف مثناة أخرى، وهو النمام، وقد جاء عند مسلم في رواية أبي أوائل عن حذيفة بلفظ:"نمام". وقيل: الفرق بين القتات والنمام، أن النمام (أ) الذي يحضر القصة فيبلغها (ب) ، والقتات الذي يسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل (جـ ما سمِعه جـ).
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في جـ: فينقلها.
(جـ - جـ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
تقدم 4/ 273 ح 452.
(2)
البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة 10/ 472 ح 6056، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة 1/ 101 ح 105/ 169، 170.
قال الغزالي (1) ما ملخصه: ينبغي لمن حملت إليه النميمة ألا يصدق من نم له، ولا يظن بمن نُم عنه ما نقال عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكره له (أ)، وأن ينهاه ويقبح فعله، وأن يُبغضه إن لم ينزجر، وألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فينم على النمام فيصير نمامًا، وقد تكون النميمة واجبة، كما إذا اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصًا ظلمًا فيحذره منه. قال العلماء: والنميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم. قال الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء"(2): اعلم أن النميمة إنما تطلق على الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلان يتكلم فيك بكذا. قال: وليست النميمة مخصوصة بهذا، بل حد النميمة كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المقول عنه أو المقول إليه أو ثالث، وسواء كان الكشف بالكناية أو بالرمز أو بالإيماء، فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، ولو رآه يخفي مالًا لنفسه فذكره فهو نميمة.
والحديث يدل على أن النميمة محرمة وأنها من الكبائر (ب). قال الحافظ المنذري (3): أجمعت الأمة على أن النميمة محرمة، وأنها من أعظم الذنوب
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) زاد بعده في جـ: ثم.
_________
(1)
الإحياء 3/ 1621.
(2)
الإحياء 3/ 1620.
(3)
الترغيب والترهيب 3/ 498.
عند لله تعالى وحديث: "وما يعذبان في كبير (أ) "(1). يراد (ب) به كبير تركه والاحتراز عنه، أو ليس كبيرًا في اعتقادكم، كما قال الله تعالى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (2). أو (جـ) المراد به ليس أكبر الكبائر. كما دل عليه قوله في الحديث:"بلى إنه كبير". إلا أنه إذا سلم للغزالي أن النميمة مطلقة عن قيد قصد الإفساد، فهي نميمة محرمة، ولا تكون كبير إلا مع قصد الإفساد، وقد ورد فيها أحاديث كثيرة، أخرج الطبراني (3):"ليس مني (د) ذو حسدٍ ولا نميمة ولا كهانة، ولا أنا منه". ثم " رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (4). وأحمد (5): "خيار عباد الله الذين إذا رُءوا ذكر الله ، وشر عباد الله المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب". وأبو الشيخ (6): "الهمازون واللمازون ، والمشاءون بالنميمة ، الباغون للبرآء العيب ، يحشرهم الله
(أ) في ب: كبير.
(ب) في جـ: مراد.
(جـ) في جـ: و.
(د) في جـ: منا.
_________
(1)
البخاري 3/ 222 ح 1361، ومسلم 1/ 240 ح 292/ 111.
(2)
الآية 15 من سورة النور.
(3)
الطبرني -كما في مجمع الزوائد 8/ 91.
(4)
الآية 58 من سورة الأحزاب.
(5)
أحمد 4/ 227.
(6)
أبو الشيخ في التوبيخ والتنبيه ص 237 ح 216.
تعالى في وجوه الكلاب". وروى كعب أنه أصاب بني إسرائيل قحط، فاستسقى موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم مرَّات فما أجيب، فأوحى الله إليه: إني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة. فقال موسى: من هو يا رب حتى نخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسى، أنهاكم عن النميمة وأكون نمامًا! فتابوا بأجمعهم فسُقوا. وغير ذلك من الأحاديث المنبئة على أن النمام ممن يستحق العقاب بالنار، نسأل الله السلامة من أخلاق السوء بمنه وإحسانه.
1268 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كف غضبه كف اللهُ عنه عذابه". أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1)، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبي الدنيا (2).
تقدم الكلام قريبًا في الغضب (3).
1269 -
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة خِبّ ولا بخيل ولا سيئ الملكة". أخرجه الترمذي (4)، وفرقه حديثين، (أوفي سنده ضعف أ).
(أ- أ) في جـ: وسنده ضعيف.
_________
(1)
الطبراني 2/ 82 ح 1320.
(2)
ابن أبي الدنيا في الصمت ص 42 ح 21.
(3)
تقدم ص 262 - 265، 292، 293.
(4)
الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان إلى الخدم، وباب ما جاء في البخيل 4/ 295، 302، 303 ح 1946، 1963.
قوله: "خِب". الخِب: الماكر الخدَّاع. والبخيل؛ تقدم الكلام عليه (أ)(1) وسيء الملكة، هو من يترك ما يجب عليه من حق من كان مملوكًا له، إما بالتقصير في المؤنة أو غيرها، كالأذى والتأديب الخارج عن الحد الذي يجوز. والله أعلم.
1270 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع حديث قوم وهم له كارهون، صُبَّ في أذنيه الآنك يوم القيامة". يعني الرصاص. أخرجه البخاري (2).
قوله: "من سمع". هذا اللفظ في "بلوغ المرام"، والذي في روايات "البخاري":"من استمع إلى حديث قوم".
وقوله: "وهم له كارهون". في "البخاري": "أو يفرون منه". بالشك، وقد جاء في رواية عباد:"وهم يفرون منه". من غير شك.
وقوم "صب في أذنيه الآنك". وقع في رواية: "ومن استمع إلى حديث قوم ولا يعجبهم (ب أن يسمع ب) حديثهم، أذيب في أذنه الآنك".
والآنك بالمد وضم النون بعدها كاف: الرصاص المذاب. وقول المصنف: يعني الرصاص. ليس في الحديث، وإنما هو تفسير من المصنف
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب-ب) في ب: أنه سمع.
_________
(1)
تقدم ص 316 - 318.
(2)
البخاري، كتاب التعبير، باب من كذب في حلمه 12/ 427 ح 7042.
رحمه الله تعالى. وقيل: هو خالص الرصاص. وقال الداودي (1): هو القصطير.
والحديث يدل على أن استماع حديث من يكره محرم، وقد عد من الكبائر؛ لوعيده بالعذاب؛ فإن الرصاص المذاب عذاب وأي عذاب، ولا يعارضه حديث:"لا يتناجى اثنان دون الآخر"(2). لأن هذا فيما إذا أتى وهم يتناجون، فإنه يحرم على الثالث الاستماع إذا عرف الكراهة. وقد أخرج البخاري في "الأدب الفرد" (3) من رواية سعيد المقبري قال: مررت على ابن عمر ومعه رجل يتحدث، فقمت إليهما، فلطم صدري وقال: إذا وجدت اثنين يتحدثان فلا تقم معهما حتى تستأذنهما. زاد أحمد (4) في روايته من وجه آخر عن سعيد (أ): وقال: أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تناجى اثنان فلا يدخل معهما غيرهما حتى يستأذنهما". قال ابن عبد البر (5): لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما. وقال المصنف (6) رحمه الله: ولا ينبغي للداخل القعود عندهما ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما؛ لأن افتتاحهما الكلام سرًّا وليس عندهما أحد دل (ب) على أنهما لا يريدان
(أ) في ب: شعبة.
(ب) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
الفتح 12/ 429.
(2)
أحمد 2/ 2، ومسلم 4/ 1717 ح 2183.
(3)
البخاري 2/ 580 ح 1166.
(4)
أحمد 2/ 114.
(5)
التمهيد 15/ 292.
(6)
الفتح 11/ 84.
الاطلاع عليه (أ)، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم، إذا سمع بعض الكلام استدل به على باقيه، فلا بدَّ له من معرفة الرضى؛ فإنه قد يكون الإذن حياء، وفي الباطن الكراهة.
ويلحق باستماع الحديث استنشاق الرائحة، ومس الثوب، أو استخبار صغار أهل الدار ما يقول الأهل أو (ب) الجيران من الكلام، أو ما يعملون من الأعمال، وأما لو أخبره عدل باجتماع أهل الدار على منكر، جاز له أن يهجم يستمع الحديث لإزالة المنكر. والله سبحانه أعلم.
1271 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس". أخرجه البزار بإسناد حسن (1).
قوله: "طوبى". على وزن فُعْلى ، مصدر من الطيب ، أو اسم شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.
وقوله: "لمن شغله عيبه" أي: النظر في عيوبه وطلب إزالتها والستر عليها.
وقوله: "عن عيوب الناس". أي: عن ذكرها والتعرف لما يصدر منهم من العيوب.
1272 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
(أ) في جـ: عليها.
(ب) في جـ: و.
_________
(1)
البزار 4/ 71 ح 3225 - كشف.
تعاظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان". أخرجه الحاكم ورجاله ثقات (1).
قوله: "تعاظم في نفسه". صيغة تفاعل تأتي لمعان؛ ومن معانيه أنه يأتي بمعنى فعل، نحو: توانيت، بمعنى: وَنَيْت، مع البالغة، وهو المقصود هنا فـ "تعاظم" بمعنى: عظم في نفسه؛ إما بمعنى أنه اعتقد أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة، أو يكون "تعاظم" بمعنى تعظم، وهو وإن لم يكن قياسيًّا، فقد جاء تفاعل بمعنى يفعل. ذكره نجم الدين في شرحه على "مقدمة التصريف"، و "يفعل" إما أن يكون بمعنى استفعل؛ أي: طلب أن يكون عظيمًا. أو بمعنى: اعتقد في نفسه أنه عظيم كـ "تكبر"، أي: اعتقد أنه كبير. و"تعاظم" هنا بمعنى "تكبَّر" على أحد هذين المعنيين، والتكبر والكبر والكِبْرة -بكسر الكاف وسكون الباء- والكبرياء ، بمعنى واحد، وهو اعتقاد أنه يستحق من التعظم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة، على ما حده به الإمام المهدي في "تكملة الأحكام". وفي "بداية الهداية" للغزالي أن العجب والكبر والفخر نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام، وإلى غيره بعين الاحتقار، وعلامته الترفع في المجالس والتقدم، والاستنكار من أن يرد عليه كلامه، وعلى الجملة فكل من رأى نفسه خيرًا من عباد الله فهو متكبر. انتهى. وفي "الكشاف" (2) في تفسير قوله تعالى:{إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إلا كِبْرٌ} (3). أي: إلا إرادة التقدم
(1) الحاكم، كتاب الإيمان 1/ 60.
(2)
الكشاف 3/ 432.
(3)
الآية 56 من سورة غافر.
والرياسة، وألا يكون أحد فوقهم. وفي "تفسير أبي السعود" (1) في تفسير الآية: أي: إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم. أو: إرادة الرياسة والتقدم على الإطلاق. أو: إرادة أن تكون النبوة فيهم دونك، حسدًا أو بغيًا ، ما هم ببالغي (أ) مقتضى ذلك التكبر. انتهى.
ويظهر من كلام هؤلاء الأئمة أن الكبر يحصل وإن لم يكن صاحبه معتقدًا للمعنى ، بل يكفي إظهار الترفع على الغير وإرادته ، وقد يصحبه الاعتقاد ، وقد يخلو عند فلا يكون معناه الاعتقاد ، وصريح في هذا المعنى ما أخرجه مسلم، والحاكم، والترمذي (2)، من حديث ابن مسعود أنه قال صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من تكبر". قال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا. قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله جميل يحب الجمال، التكبر بطر الحق وغمط الناس". و "غمط" بالطاء المهملة وبالظاء المعجمة ، ومعناهما متقارب؛ قال في "النهاية" (3): هو أن يجعل ما جعله الله (ب حياة توحيد - أي ثمرة ب) توحيده ومعبادته - باطلا، وقيل: هو أن [يتجبر](جـ) عند الحق فلا يراه حقًّا. وقيل: هو أن يتكبر
(أ) في ب: ببالغيه.
(ب - ب) في النهاية: حقا من.
(جـ) في ب: سحير. وفي جـ: سحد. والمثبت من النهاية.
_________
(1)
تفسير أبي السعود 7/ 281.
(2)
مسلم 1/ 93 ح 91/ 147 ، والترمذي 4/ 317 ، 318 ح 1999، والحاكم 1/ 26 وعنده بنحوه.
(3)
النهاية 1/ 135.
عن الحق فلا يقبله. وقال النووي (1): معناه الارتفاع عن الناس واحتقارهم، ودفع الحق وإنكاره، ترفعًا وتجبرًا. وجاء في رواية الحاكم:"ولكن الكبر مِن بطر الحق وازدراء الناس". "بطر الحق": دفعه ورده. و "غمط الناس". بفتح الغين المعجمة وسكون الميم وبالطاء المهملة، هو احتقارهم وازدراؤهم. هكذا جاء مفسرا عند الحاكم، قاله عبد العظيم المنذري (2). ولفظة:"من" رُويت بكسر الميم على أنها حرف جر، وبفتحها على أنها موصولة. فهذا التفسير النبوي يؤيد (أ) أن التكبر ليس من قبيل الاعتقاد، وليس بمعنى إرادة التقدم، وإنما هو بمعنى عدم الامتثال ترفعًا وتعززًا، واحتقار الناس، ويكون مانعًا للخلق (ب) دون الجمع، فكبر إبليس جامع للأمرين، وكذلك كفار قريش، وبعض الكفرة؛ للترفع والحسد، وقد يكون مع بعض المخالفين ترك الامتثال لاحتقار الآمر له. والرجوع إلى التفسير الأثري أولى، ويحمل تفسيره بإرادة التقدم على المجاز، لما كان ذلك حاملًا على دفع الحق وإظهار حقارة الآمر، فبالغ في السبب، (جـ فأخبر به جـ) عن المسبب، وجعل كأنه عينه، مثل: زيدٌ صوم.
وقال الإمام المحقق أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (د) في كتابه "الزواجر": إن الكبر؛ إما باطن، وهو خلق في النفس، واسم الكبر بهذا
(أ) في جـ: يولد.
(ب) كذا في ب، وغير واضحة في جـ. ولعل الصواب: للحق.
(جـ - جـ) في جـ: فأخبره.
(د) في ب: الهيثمي. وينظر الأعلام 1/ 223.
_________
(1)
شرح مسلم 2/ 90.
(2)
الترغيب والترهيب 3/ 567 بذكر التفسير، والرواية عند الحاكم بدون التفسير.
أحق. وإما ظاهر، وهو أعمال تصدر من الجوارح، وهي ثمرات ذلك الخلق، وعند ظهورها يقال: تكبّر (أ). وعند عدمها يقال: كِبْر. والأصل هو خلق النفس الذي هو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبَّر عليه، فهو يستدعي متكبرًا عليه ومتكبرًا به، وبه فارق العجب، (ب فإنه لا يستدعي غير المعجب به، حتى لو فرض انفراده دائما أمكن أن يقع منه العجب دون الكبر ، فالعجب ب) مجرد استعظام الشيء ، فإن صحبه من يرى أنه فوقه كان تكبرًا، انتهي كلامه؛ وهو لا يناسب تفسير الكبر في الحديث.
وقوله: "اختال في مشيته". الاختيال التكبر ، وعطفه على "تعاظم في نفسه" يناسبه كلام (جـ) ابن حجر، ويحتمل أنه من عطف أحد نوعي الكبر على الآخر، كأنه قال: من جمع بين نوعين من أنواع الكبر استحق هذا الوعهد، ولا يلزم منه أن أحدهما لا يكون بهذه المثابة؛ لأنها قد وردت الأحديث في ذم الكبر مطلقًا.
والحديث يدل على أن التكبر محرم، وأنه يوجب الغضب من الرب جل وعلا ، فيكون من الكبائر المهلكة. وفي التحذير منه أحاديث كثيرة مصرحة بوعيد المتكبر بالنار. والله سبحانه أعلم.
1273 -
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجلة من الشيطان". أخرجه الترمذي (1) وقال: حسنٌ.
(أ) في جـ: الكبر.
(ب - ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في جـ: بكلام.
_________
(1)
الترمذي ، كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في التأني والعجلة 4/ 322 ح 2012. وقال: هذا =
العجلة هي السرعة في الشيء، وهي تكون من الشيطان فيما كان الأناة مطلوبة لتحصيل غرض أكمل من الحاصل من الأمر المعجل. والله أعلم.
1274 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم سُوءُ الخُلق". أخرجه أحمد (1)، وفي إسناده ضعف.
قوله: "الشؤم". ضد اليُمن، وواوه منقلبة عن همزة، وشؤم الخلق المراد به سوء الخلق. وقد تقدم الكلام قريبًا عليه (2)، والمراد هنا أن الشيء الذي تُكْرَه عاقبته ويخاف منه هو سوءُ الخلق. والله أعلم.
1275 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللعانين لا يكونون (أ) شُفعاء ولا شهداء يوم القيامة". أخرجه مسلم (3).
قوله: "إن اللعانين". تقدم الكلام على معنى اللعن قريبًا (4).
وقوله: "لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة". معناه: لا
(أ) في ب: يكونوا.
_________
= حديث غريب، وذكر عنه المزي أنه قال: حسن غريب. وينظر تحفة الأشراف 4/ 129.
(1)
أحمد 6/ 85.
(2)
تقدم ص 319.
(3)
مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها 4/ 2004 ح 2598/ 85.
(4)
تقدم ص 322، 323.
يشفعون حين (أ) يشفع المؤمنون في إخوانهم.
ومعنى: "ولا شهداء". فيه ثلاثة أقوال؛ أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات. والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا ولا تقبل شهادتهم لفِسْقِهم. والثالث: لا يرزقون الشهادةَ؛ وهي القتل في سبيل الله تعالى، فـ "يوم القيامة" يتعلق بـ "شفعاء" وحده على الأخيرين، ويحتمل أن يتعلق بهما؛ بمعنى أن شهادته لمَّا لم تُقبل في الدنيا لم يكتب في الآخرة له ثواب من شَهِد بالحق، وكذلك لا يكون له في الآخرة ثواب من قتل في الشهادة. والله أعلم.
1276 -
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عَيَّر أخاه بذنب لم يمت حتي يعمله". أخرجه الترمذي (1) وحسنه (ب) ، وسنده منقطع.
الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز أذية المؤمن ولو قد ارتكب ذنبًا ، وأنه يجب الستر عليه، وهو كما تقدم في الغيبة، أنها لا تجوز ولو في حق الفاسق إلا في المواضع الستة التي تقدمت) (2).
(أ) في جـ: حتى.
(ب) ساقط من: جـ.
_________
(1)
الترمذي ، كتاب صفة القيامة والرقاق والورع، باب (53) 4/ 571 ح 2505. وقال: هذا حديث غريب، وذكر عنه المزي أنه قال: حسن غريب. وينظر تحفة الأشراف 8/ 399.
(2)
تقدم ص 303، 304.
وقوله: "لم يمت حتى يعمله". كأنه -ونعوذ بالله من ذلك- يكون عقوبته؛ سببًا لخِذْلانه وسلب التوفيق عنه حتى يعمل ذلك الذنب، وكأنه لِما (أ) يصحبه من العُجب وعدم شكره لله تعالى على توفيقه ببعده من ذلك الذنب، وإن كان لا يخلو من الذنوب (ب). نسأل الله تعالى التجاوز والعفو.
1277 -
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، وويل له ثم ويل له". أخرجه الثلاثة (1) وإسناده قوي.
الحديث حسنه الترمذي، وأخرجه البيهقي (2)؛ فيه دعاء على الذي يكذب بالويل ثلاث مرات، والويلُ مصدر بمعنى الهلاك، مرفوع على أنه مبتدأ، والخبر الجار والمجرور.
وفيه دلالة على تحريم الكذب وإن لم يكن ضارًّا، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في التحذير من الكذب على الإطلاق، مثل قوله:"إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار".
(أ) في جـ: لم.
(ب) في جـ: الذنب.
_________
(1)
الترمذي، كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس 4/ 483 ح 2315، وأبو داود، كتاب الأدب، باب التشديد في الكذب 4/ 299 ح 4990، والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير، سورة المطففين 6/ 509 ح 11655.
(2)
البيهقي 10/ 196.
وسيأتي (1). وأخرج ابن حبان (2) في "صحيحه": "وإياكم والكذب فإنه مع (أ) الفجور وهما في النار". والطبراني (3): (ب "وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وهما في النار". وأحمد (4) من حديث ابن لهيعة: ما عمل النار؟ قال "الكذب ب) بم إذا كذَب العبدُ فجر، وإذا فجر كفَر وإذا كفر دخل النارَ". و (جـ) البخاري (5): "رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة تُحْمَل عنه حتى تبلُغَ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة". والشيخان (6): "علامةُ المنافق ثلاثٌ؛ إذا حدث كذب". الحديث، وزاد مسلم:"وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". وأخرجه أبو يعلى (7) بزيادة: "وإن صام وصلى وحج واعتمر و (د) قال: إني مسلم". وأحمد والطبراني (8): "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقًا". وأبو يعلى (9) بسند رواته رواة الصحيح: "لا
(أ) في جـ: من.
(ب - ب) ساقط من: ب.
(جـ) زاد بعده في جـ: في.
(د) ساقط من: جـ.
_________
(1)
سيأتي ح 1280.
(2)
ابن حبان 13/ 43 ح 5734.
(3)
الطبراني 19/ 380، 381 ح 894.
(4)
أحمد 2/ 176.
(5)
البخاري 3/ 251، 252 ح 1386.
(6)
البخاري 1/ 89 ح 33، ومسلم 1/ 87، 79 ح 85/ 109، 110 بلفظ: "آية المنافق
…
".
(7)
أبو يعلى 7/ 136 ح 4099.
(8)
أحمد 2/ 364، والطراني في الأوسط 5/ 208 ح 5103.
(9)
أبو يعلى في المسند الكبير -كما في مجمع الزوائد 1/ 92.
يبلغ العبد الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ويدع المراء: إن كان محقا". وأحمد (1): "يطبع المؤمن على الخلالِ إلا الخيانة والكذب". وأخرجه الطبراني والبيهقي وأبو يعلى (2) بسند رواته رواة الصحيح. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة. وقد عُدَّ من الكبائر لشمول حَدِّ الكبيرة له، فإنه ورد الوعيد عليه بعينه، وقد صرَّح الرُّوياني في "البحر" -من الشافعية- أنه كبيرةٌ وإن لم يَضر، وقال: من كذب قصدًا رُدَّت شهادته وإن لم يضر بغيره؛ لأن الكذب حرام بكل حال. وروى في "البحر" حديثًا مرسلًا، أنه صلى الله عليه وسلم أبطل شهادة رجل في كذبة كذبها. وقال الأذرعي: قد تكون الكذبة الواحدة كبيرة. وفي "الأم" للشافعي (3): كل من كان منكشف الكذب مُظهِره غير مستتر به لم تجز شهادته. ومثله ذكرته الهدوية في ردِّ الشهادة، ونصوا أنه ليس بكبيرة كما ذكره الإمام المهدي في "الأزهار" وغيره، ولكن لا يتم لهم الإطلاق، فإن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم والكذب الضار للمسلم أو الذمي لا يمكن أحد أن يدعي أنه ليس بكبيرة، وأما القليل من الكذب الخالي عن الضرر، فصرَّح الرافعي نقلًا عن غيره أنه ليس بكبيرة، وكان مستندهم في ذلك ابتلاء أكثر الناس به، وذكر الغزالي في "الإحياء" (4) تفصيلًا، وقسم الكذب إلى واجب ومباح ومحرم، وقال: إن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب [فيه](أ) حرام، وإن أمكن
(أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من الإحياء.
_________
(1)
أحمد 5/ 252.
(2)
الطبراني 9/ 207 ح 8909، والبيهقي 10/ 197، وأبو يعلى 2/ 67، 68 ح 711.
(3)
الأم 7/ 53.
(4)
الإحياء 3/ 1588، 1590، 1591.
التوصل إليه (أ) بالكذب وحده فمباح إن أبيح تحصيل ذلك المقصود، وواجب إن وجب تحصيل ذلك، وهو إذا كان فيه عِصْمةُ من يجب إنقاذه، وكذا إذا خشي على الوديعة من ظالم وجب الإنكار والحلف، وكذا إذا كان لا يتم مقصود حربٍ أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فهو مباح، وكذا إذا وقعت منه فاحشة كالزنى وشرب الخمر، وسأله السلطان فله أن يكذب ويقول: ما فعلت. وله أن ينكر سِرَّ أخيه. ثم قال: ينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق؛ فإن كانت مفسدة الصدق أشد فله الكذب، وإن كان بالعكس أو شك فيها حرم الكذب ، وإن تعلق بنفسه استحب ألا يكذبَ، وإن تعلق بغيره لم يجز المسامحة بحق الغير، والحزم تركه حيث أبيح. انتهى. وقال مسلم في "الصحيح" (1): قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرخَّص -في شيء مما تقول الناس كذبٌ إلا في ثلاث؛ الحربُ ، وإصلاحٌ بين الناس ، وحديثُ الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. قال القاضي عياض (2): لا خلاف في جواز الكذب في هذه الثلاث الصور. واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه. وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة. وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة. واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم: {بَل
(أ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
مسلم 4/ 2011 عقب ح 2605/ 101.
(2)
شرح مسلم 16/ 158.
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} (1)، و {إِنِّي سَقِيمٌ} (2)، وقوله:"إنها أختي"(3). وقول منادي يوسف: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (4). وقال آخرون؛ منهم الطبريُّ: لا يجوز الكذب في شيء أصلًا. قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا فالمراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب. ذكر هذا في "شرح النووي"(5)، ولكن أخرج ابن النجار (6) عن النواس بن سمعان مرفوعًا:"الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا؛ الرجل يكذب بين الرجلين ليُصْلحَ بينهما، والرجل يحدث امرأته ليُرضِيها بذلك، والكذب في الحرب، والحرب خدعة". وأجرج البنرار (7) عن ثوبان مرفوعًا: "الكذب مكتوب إلا ما نفع به مسلمًا (أأو دفع أ) به عنه". وأخرج الروياني (8) عن ثوبان: "الكذب كله إثم إلا ما نفَع به مسلمًا (ب) أو دفع به عن دين".
فهذا يدُلُّ على جواز الكذب من دون تورية ويكون مخصصًا لأحاديث العموم على ما هو القاعدة في تخصيص العام، وما ذكره الغزالي من الصور
(أ- أ) في جـ: ووقع.
(ب) في جـ: مسلم.
_________
(1)
الآية 63 من سورة الأنبياء.
(2)
الآية 89 من سورة الصافات.
(3)
البخاري 4/ 410 ح 2217، ومسلم 4/ 1840 ح 2371.
(4)
الآية 70 من سورة يوسف.
(5)
شرح مسلم 16/ 158.
(6)
ابن النجار -كما في الجامع الكبير ص 1/ 437 (مخطوط).
(7)
البزار 2/ 441 ح 2061 - كشف.
(8)
الروياني -كما في الجامع الكبير 1/ 437 (مخطوط).
المباحة مقيسة فيما لم يتناولها المخصص، وأما الكذب الواجب فلدليل آخر. واعلم أنه قد اختلف في تحقيق الكذب؛ فذهب الجمهور إلى أن حقيقته ما خالف مقتضاه في الوقوع؛ فإذا قال: زيد في الدار. وانكشف أنه في الدار كان صِدْقًا، وإن لم يكن في الدار كان كذبًا (أ)، ولو كان يعتقد أنه في الدار إلا أنه لا يأثم في الإخبار في هذا الظرف. وقال النَّظَّامُ: ما خالف مقتضاه في الاعتقاد وإن طابق الواقع. وقال الجاحظُ: ما خالف الاعتقاد والواقع. وأثبت الواسطة بين الصدق والكذب وتحقيق الأقوال في علم الأصول.
1278 -
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "كفارة من اغتبته أن تستغفر له". رواه الحارث بن أبي أسامة (1) بسند ضعيف.
وأخرج الحديث ابن أبي شيبة في "مسند" ، والبيهقي (2) في "شعب الإيمان"، وغيرهما من حديث أنس بألفاظ مختلفة وفي أسانيدها ضعف، ورو من طرُق أُخَرَ بمعناه، والحاكم من حديث حذيفة، والبيهقي (3)، قال: وهو أصح، ولفظه: كان في لساني ذرب على أهلي؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (ب): "أين أنت من الاستغفار يا حذيفة؟ إني
(أ) في جـ: كاذبا.
(ب) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
الحارث بن أبي أسامة ص 323، 324 ح 1087.
(2)
البيهقي في الشعب -كما في كشف الخفاء 2/ 111 ح 1932.
(3)
الحاكم 1/ 510، والبيهقي في الشعب 5/ 317 ح 6787، 6788.
أستغفر الله في كل يوم مائة مرة".
والحديث يدل على أنه يكفي في ذنب الغِيبة الاستغفارُ للمغتاب، ولا يحتاج إلى الاستحلال، وذهب الهدوية وأصحاب الشافعي -ذكره النووي عنهم في "الأذكار"(1) - أنه يجب الاستحلال إذا علم المغتاب، وأما إذا لم يعلم فلا يجب بل لا يستحب؛ لأنه يكون فيه إيحاش وإيغار للصدر (أ)، ويدل على هذا ما أخرجه البخاري (2) من حديث أبي هريرة:"من كانت عنده مظلمة لأخيه في عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". وأخرج نحوه البيهقي (3) من حديث أبي موسى، وهو يدل على أنه يجب الاستحلال وإن لم يكن قد علم بما قيل فيه، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن حديث أنس في حق من لم يكن قد علم، وحديث أبي هريرة في حق من قد بلغه. والله أعلم.
1279 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". أخرجه مسلم (4).
الحديث فيه دلالة على تحريم كثرة الخصومة، وقد تقدم قريبًا تحقيق معنى
(أ) في جـ: الصدر.
_________
(1)
الأذكار ص 801.
(2)
البخاري 11/ 395 ح 6534.
(3)
البيهقي 3/ 369، 6/ 65، 83 من حديث أبي هريرة وليس من حديث أبي موسى.
(4)
مسلم، كتاب العلم، باب في الألد الخصم 4/ 2054 ح 2668/ 5.
الحديث، وظاهره: وإن كانت الخصومة في حق. قال النووي في "الأذكار"(1): فإن قلت: لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه. فالجواب ما جاب به الغزالي (2) أن الذَّمَ إنما هو لمن خاصم بباطل أو بغير علم كوكيل القاضي ، فإنه يتوكل قبل أن يعرف الحق في أي جانب.
ويدخل في الذَّم من يطلب حقًّا، لكن لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللَّدد والكذب للإيذء والتسلط على خصمه، وكذلك من يحمله على الخصومة محضُ الفساد لِقَهْر الخَصْمِ وكسره، وكذلك من يخلط الخصومة بكلمات تؤذي وليس إليها ضرورة في التوصل إلى غرضه؛ فهذا هو المذموم، بخلاف المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء، ففعله (أ) هذا ليس مذمومًا ولا حرامًا، لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلًا؛ لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال [متعذر](ب).
وأخرج الشافعي في "الأم"(3) عن علي كرم الله وجهه (جـ) أنه وكل في خصومة وهو حاضر. قال: وكان يقول: إن الخصومة لها قُحَم وإن الشيطان يحضرها. وقحم بضم القاف وبالمهملة المفتوحة؛ أي شدة
(أ) في جـ: يفعله.
(ب) في ب ، جـ: متعذرة. والمثبت من الأذكار.
(جـ) زاد بعده في ب: في الجنة.
_________
(1)
الأذكار ص 864.
(2)
الإحياء 3/ 1557.
(3)
الأم 3/ 233.
وورطة، وعَدَّ المُطَرزيُّ في "المغرب"(1) فتح الحاء خطأً، فالورع ترك مباشرة الخصومة وإن كان محقًّا.
وقد ورد في ذم الخصومة أحاديث كثيرة؛ قوله صلى الله عليه وسلم "من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع"(2). وقال صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا جدلًا". ثم تلى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (3). وأخرج الترمذي (4) -وقال: غريب- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بك ألا تزال مخاصمًا". قال بعض العلماء: عدم قبول شهادة (أ) وكلاء القاضي مسألة غريبة.
وعَدَّ صاحب "العدة" أن من الصغائر كثرة الخصومة وإن كان الشخص محقًّا. ووجه صاحب "الخادم" بأن كثرة الخصومة في الحق تُرَد بها الشهادة؛ لأنها تنقص المروءة، لا لكونها معصية توجب الإثم، وتسميتها صغيرة مجاز؛ لأنها لما ردت بها الشهادة أشبهت العصية التي ترد بها
(أ) في ب: شهادته.
_________
(1)
المغرب 2/ 159.
(2)
ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة ح 14 من حديث أبي هريرة اللفظ ، وأحمد 2/ 79، وأبو داود 3/ 304 ح 3597 بلفظ:"ومن خاصم في باطل وهو يعلمه".
(3)
الآية 58 من سورة الزخرف.
والحديث أخرجه الترمذي 3/ 353 ح 3253، وابن ماجه 1/ 19 ح 48.
(4)
الترمذي 4/ 315 ح 1994.
الشهادة، إلا أنه يؤيد (أ) ما قال في "العدة" ما قال في "الإحياء"(1) أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة عليه؛ كاللعب بالشطرنج. انتهى. إلا أنه يمكن توجيه كون ذلك معصية بأن الخصومة لما كانت مظِنَّة لوقوع ما لا يجوز فيها، وضبط النفس في الخصومات الكثيرة (ب) في حكم المتعثر أو المتعذر، فالإقدام على ذلك معصية، مثل من أقدم على قتل من لا يجوز، فانكشف أن المقتول ممن يجوز قتله؛ فإنه قد أثم بنفس الإقدام وإن انتهى الحال إلى السلامة، ويدل على هذا قول علي رضي الله عنه، والله سبحانه أعلم.
(أ) في جـ: "يؤد"
(ب) في ب: "الكبيرة".
_________
(1)
الإحياء 4/ 2105.