الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب العتق
العتق الحرية، قال أهل اللغة: يقال فيه: عتق عتقا. بكسر العين، وعتقا بفتحها أيضًا. حكاها صاحب "المحكم" وغيره (1). وعتاقا وعتاقة بفتح العين فهو عتيق وعاتق أيضًا. حكاها الجوهري (2). وهم عتقاء، وأعتقه فهو معتق وعتيق، وأمة عتيق وعتيقة، وإماء عتائق، وحلف بالعتاق أي الإعتاق. قال الأزهري (3): هو مشتق من قولهم: عتق الفرس. إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ إذا طار واستقلّ، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء.
قال الأزهري وغيره (3): وإنما قيل لمن أعتق نسمة: إنه أعتق رقبة وفك رقبة. فخصت الرقبة دون سائر الأعضاء مع أن العتق تناول الجميع؛ لأن (أحكم السيد أ) عليه وملكه له كحبل في رقبة العبد، وكالغل المانع له من الخروج، فإذا أعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك.
1187 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا من
(أ- أ) في جـ: الحكم للسيد.
_________
(1)
المحكم 1/ 100.
(2)
الصحاح (ع ت ق).
(3)
الزاهر 1/ 427.
النار". متفق عليه (1). وللترمذي (2) وصححه عن أبي أمامة: "وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فكاكه من النار". ولأبي داود (3) من حديث كعب بن مرة:"وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار".
الحديث فيه دلالة على فضيلة العتق، وأنه من أفضل الأعمال، ومما يحصل له العتق من النار ودخول الجنة.
وقوله: "أيما امرئ مسلم". جاء في رواية البخاري (أ): "أيما رجل"، والإسلام لابدّ من اعتباره، وإن صح العتق من الكافر، لكن لا نجاة له بسببه من النار.
و (ب) قوله: "امرأ مسلما". يدل على أن هذه الفضيلة إنما هي في عتق الرقبة المؤمنة، وأما غير المؤمنة فإنها وإن كان (جـ) في عتقها فضل بلا خلاف، لكن دون المؤمنة، ولذلك وقع الإجماع في كفارة القتل على اشتراط الإيمان كما نص عليه سبحانه وتعالى، وحكى القاضي عياض (4) عن مالك أن
(أ) في جـ: للبخاري.
(ب) زاد في ب: في.
(جـ) في جـ: كانت.
_________
(1)
البخاري، كتاب العتق باب في فضل العتق 5/ 146 ح 2517، ومسلم، كتاب العتق، باب في فضل العتق 2/ 1148 ح 1509/ 24.
(2)
الترمذي، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في فضل العتق 4/ 100 ح 1547.
(3)
أبو داود، كتاب العتق، باب في أي الرقاب؟ 4/ 29 ح 3967 بلفظ:"وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة".
(4)
شرح مسلم 10/ 152.
الأعلى (أ) ثمنا أفضل وإن كان كافرا، وخالفه الجمهور من الصحابة وغيرهم.
ويحتج لمالك بالحديث الذي يأتي عقيب هذا (1)، ويجاب بأنه مقيد بأن الأعلى ثمنا من المسلمين.
وقوله: "بكل عضو". وقع في رواية مسلم (2): "إرب". والإرب بكسر الهمزة وإسكان الراء: هو العضو، بضم (ب) العين وكسرها، ويدل على أن الأفضل عتق كامل الأعضاء، فلا يكون خصيًّا ولا فاقد غيره من الأعضاء، وفي الخصي وغيره الفضل العظيم، لكن الكامل أولى. وقال الخطابي (3): إذا كان في الخصي منافع لا تكون في غيره، كان مثل غير الخصي، والأعلى (أ) ثمنا أفضل. وقد ورد ذلك في الحديث الآتي.
وفي حديث أبي أُمامة دلالة على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى. قال القاضي عياض (4): وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال بعضهم: الإناث أفضل، لأنها إذا عتقت (د) كان ولدها حرًّا، سواء تزوجها حر أو
(أ) في ب: الأعلى.
(ب) في جـ: بكسر.
(جـ) في جـ: أعتقت.
_________
(1)
سيأتي ح 1188.
(2)
مسلم 2/ 1147 ح 1509/ 21.
(3)
الفتح 5/ 147.
(4)
شرح النووي 10/ 152.
عبد. وقال آخرون: عتق الذكر أفضل؛ لحديث أبي أُمامة، ولما في الذكر من المعاني العامة والمنفعة التي لا توجد في الإناث؛ من الشهادة والقضاء والجهاد، وغير ذلك مما يختصُّ بالرجال، إمَّا شرعًا وإما عادةً، ولأن في الإماء من لا ترغب في العتق، وتضيع به، بخلاف العبد.
وقوله: "بكل عضو عضوًا". يدل على استغراق جميع الأعضاء. وتمام الحديث في رواية البخاري: "حتى فرجه بفرجه". وهذه الغاية تؤكد الاستغراق، وقد استشكل ابن العربي (1) عتق الفرج بالفرج، مع أن المعصية التي تتعلق بالفرج هي الزنى، والزنى كبيرة لا تكفره إلا التوبة، إلا أن تكون المعصية غير الزنى، كالملامسة بالفرج على غير الزنى في سائر الأعضاء، فهو ممكن إلا أن يقال: إن العتق يرجّح عند الموازنة بحيث تكون حسنات المعتق راجحةً توازي سيئة الزنى، مع أنه لا اختصاص لهذا بالزنى، فإن اليد يكون بها القتل، والرِّجل الفرار من الزحف، وغير ذلك، فلا بد من هذا الاعتبار.
1188 -
"وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ العمل أفضل؟ قال: "إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله". قلت: فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: "أعلاها (أ) ثمنًا، وأنْفَسُها عند أهلها". متفق عليه (2).
الحديث فيه دلالةٌ على تفضيل الجهاد على غيره، وقد تقدم في كتاب
(أ) في ب: أغلاها.
_________
(1)
عارضة الأحوذي 7/ 25.
(2)
البخاري كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل؟ 5/ 148 ح 2518، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/ 89 ح 136/ 84 بلفظ: وأكثرها ثمنا.
الصلاة أن الصلاة أول وقتها أفضل الأعمال (1)، والكلام هناك على الجمع بين الأحاديث.
وقوله: "أعلاها ثمنا". بالعين المهملة لأكثر رواة البخاري، وللكشميهني بالغين المعجمة، وكذا في رواية النسفي (2)، والمعنى متقارب. وفي رواية لمسلم (3):"أكثرها ثمنًا". وهي تبين المراد، تدل على أن الأكثر ثمنًا (أعتقه أفضل أ)، وظاهره: ولو كانت رقبتان متساويتان (ب) في جهة الخير، وكانت إحداهما (جـ) أكثر ثمنًا على مشتريها (د) أن عتقها أفضل. قال النووي رحمه الله تعالى (4): محله والله أعلم فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلًا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها (هـ) فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضولتين، قال: فثنتان أفضل بخلاف الأضحية، فإن الواحدة الثمينة أفضل، لأن المطلوب في العتق فك الرقبة، وفي الأضحية طيب اللحم. انتهى.
(أ- أ) في جـ: أفضل عتقه.
(ب) في جـ: متساويان.
(جـ) في ب: أحدهما.
(د) في جـ: مشتريهما.
(هـ) في جـ: بعينها.
_________
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 241، 242.
(2)
الفتح 5/ 148.
(3)
تقدم في حديث الباب.
(4)
شرح مسلم 2/ 79.
والأولى أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فإنه إذا كان شخص من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به بمحلّ عظيم، فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات، فيكون الضابط اعتبار الأكثر نفعا.
وقوله: "وأنفسها عند أهلها" أي (أ) ما كان اغتباطهم به أشدَّ، وهو الموافق لقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1).
1189 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوّم قيمة عدْل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلّا فقد عتق منه ما عتق". متفق عليه (2).
ولهما (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "وإلّا قُوِّم العبد عليه، واستسعي غير مشقوق عليه". وقيل: إن السعاية مدرجة في الخبر.
قوله: "قيمة عدل". بفتح العين، لا زيادة فيه ولا نقص، وقد جاء في رواية النسائي (4):"لا وكس ولا شطط". والوكس بفتح الواو وسكون الكاف بعدها سين مهملة: النقص، والشطط بمعجمة ثم مهملة مكررة والفتح: الجور.
(أ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
الآية 93 من سورة آل عمران.
(2)
البخاري، كتاب العتق، باب إذا أعتق عبدا بين اثنين، أو أمة بين الشركاء 5/ 151 ح 2522، ومسلم، كتاب العتق 2/ 1139 ح 1501.
(3)
البخاري 5/ 156 ح 2527، ومسلم 2/ 1140 ح 1503/ 4.
(4)
النسائي في الكبرى 3/ 181 ح 4941، 4942.
الحديث فيه دلالة على أن العبد المشترك إذا أعتق أحد الشريكين حصته فيه وكان موسرا من تسليم قيمة حصة الشريك، فإنه يقوم حصة الشريك بقيمة مثله، ولزمه تسليم ذلك، وعتق عليه العبد جميعه. وقد أجمع العلماء أن نصيب المعتق يعتق (أ) بنفس الإعتاق، إلا ما حكاه القاضي عن ربيعة أنه لا يعتق نصيب المعتق موسرا كان أو معسرًا. وهو مذهب باطل مخالف للأحاديث الصحيحة كلها. وحكى الإِمام المهدي أن خلافه إنما هو في نصيب الشريك، سواء كان موسرا أو (ب) معسرا. ولعله تأويل لقوله: وأما نصيب الشريك. فهذا حديث ابن عمر يدل على أنه لا يعتق إلَّا إذا كان موسرا، ولا يعتق مع الإعسار. وفي المسألة ستة أقوال:
الأول: للهدوية، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وبه قال ابن شبرمة والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق وبعض المالكية أنه يعتق بنفس الإعتاق، ويقوّم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق ويكون ولاؤه جميعه للمعتق، وحكمه من حين الإعتاق حكم الأحرار في الميراث وغيره من الأحكام، وليس للشريك إلا المطالبة بقيمة نصيبه كما لو قتله، ولو أعسر المعتق بعد ذلك استمرّ نفوذ العتق وكانت القيمة دينًا في ذمته، ولو مات أخذت من تركته، فإن لم يكن له تركة ضاعت القيمة واستمرّ عتق جميعه.
الثاني: أنه لا يعتق إلَّا بدفع القيمة، وهو المشهور من مذهب مالك، وبه قال أهل الظاهر، وهو قول للشافعي.
(أ) في جـ: معتق.
(ب) في جـ: أم.
الثالث: مذهب أبي حنيفة أن للشريك الخيار، إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، وإن شاء أعتق نصيبه والولاء بينهما جميعًا، وإن شاء قوّم نصيبه على شريكه المعتق، ويرجع بما دفع إلى شريكه على العبد يستسعيه في ذلك، والولاء كله للمعتق. قال: والعبد في مدة السعاية بمنزلة المكاتب في كل أحكامه.
الرابع: مذهب عثمان البتِّي: لا شيء على المعتق إلَّا أن تكون جارية رائعة (1) تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر.
الخامس: محكي عن ابن سيرين أن القيمة في بيت المال.
السادس: محكيٌّ عن إسحاق بن راهويه أن هذا الحكم للعبيد دون الإماء. ويُردّ قول إسحاق بما (أ) أخرجه الدارقطني (2) من طريق الزهريّ عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شريك في عبد أو أمة". الحديث. وأخرج الطحاوي (3) من طريق ابن إسحاق عن نافع مثله، وقال فيه:"حمل عليه ما بقي في ماله حتى يعتق كله". والجمع بين العبد والأمة بنفي الفارق يقوّي هذا، وقد قال إمام الحرمين (4): إدراك كون الأمة في هذا الحكم كالعبد حاصل للسامع قبل التفطن لوجه الجمع والفرق.
(أ) في جـ: ما.
_________
(1)
رائعة: مُعجِبة. الوسيط (روع).
(2)
الدارقطني 4/ 123 ح 6.
(3)
شرح معاني الآثار 3/ 105.
(4)
الفتح 5/ 152.
وظاهر الحديث سواء كان العبد مسلما أم كافرا، ولا خيار للعبد ولا للشريك ولا للمعتق، بل ينفذ هذا الحكم وإن كرهوه كلهم رعاية لحق الله تعالى.
وقوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" -بفتح العين من الأول، ويجوز فتح العين وضمها في الثاني. كذا قاله الداودي (1)، وتعقبه ابن التين بأنه لم يقله غيره، وإنما يقال: عتق. بالفتح، وأُعتق بضم الهمزة، ولا يعرف عُتق بضم أوله؛ لأنه لازم غير متعدٍّ. أي: وإن لا يكن له مال فقد عتق حصة المعتق، وبقي حصة الشريك مملوكة.
هذه الزيادة في الحديث ظاهرها أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا رواه مالك (2) وعبيد الله العمري (3) فوصلاه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وجعلاه منه، ورواه أيوب عن نافع (4) فقال: قال نافع: وإلّا فقد عتق منه ما عتق. ففصله من الحديث وجعله من قول نافع. قال أيوب مرة: لا أدري هو من الحديث أم هو شيء قاله نافع؟ ولهذه الرواية قال ابن وضاح (5): ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي (5): وما قاله مالك وعبيد الله العمري أولى، وقد جوّداه، وهما في نافع أثبت من أيوب عند أهل هذا الشأن، كيف وقد شك أيوب فيه
(1) الفتح 5/ 153.
(2)
الموطأ 2/ 772 ح 1.
(3)
النسائي في الكبرى 3/ 182 ح 4947، والطحاوي في شرح المشكل 13/ 412 ح 5369.
(4)
البخاري 5/ 151 ح 2524، ومسلم 2/ 1139 ح 1501.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم 10/ 139.
كما ذكرناه؟ قال: وقد رواه يحيى بن سعيد عن نافع، وقال في هذا الموضع:"وإلّا فقد جاز ما صنع"(1). سيأتي به على المعنى، وقد أثبتها جرير بن حازم عند البخاري (2)، وإسماعيل بن أمية عند الدارقطني (3)، وقد رجح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة من قوله صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي (4): لا أحسب عالمًا في الحديث يتشكك في أن مالكا أحفظ لحديث نافع من أيوب؛ لأنه كان ألزم له، حتى ولو استويا، فشك أحدهما في شيء ولم يشك فيه صاحبه، كان الحجة مع من لم يشك، ويؤيد ذلك قول عثمان الدارمي (5): قلت لابن معين: مالك في نافع أحب إليك أو أيوب؟ قال: مالك.
وهذه الزيادة في الحديث ذهب إليها مالك والشافعي وأحمد وأبو [عبيد](أ) وجمهور علماء الحجاز. وفي المسألة أربعة مذاهب هذا أولها.
الثاني: ما ذهب إليه ابن شبرمة والأوزاعيّ وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وسائر الكوفيين وإسحاق بن راهويه، وهو مذهب الهدوية: أنه يستسعى العبد في حصة الشريك ويعتق جميعه. واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدّى، وفي سعايته على معتقه (أ)، فقال ابن أبي ليلي: يرجع به عليه. وقال
(أ) في ب، جـ: عبيدة. وينظر المغني 14/ 358.
(ب) في جـ: منفقه.
_________
(1)
النسائي في الكبرى 3/ 184 ح 4958، 4959.
(2)
البخاري 5/ 177 ح 2553.
(3)
الدارقطني 4/ 123، 124 ح 7.
(4)
اختلاف الحديث ص 294.
(5)
الفتح 5/ 154.
أبو حنيفة وصاحباه: لا يرجع. بل هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب، وعند الآخرين حُرٌّ بالسعاية.
المذهب الثالث: مذهب زفر وبعض البصريين أنه يقوّم على المعتق ويؤدي القيمة إذا أيسر.
المذهب الرابع: حكاه القاضي عن بعض العلماء، أنه إن (أ) كان المعتق معسرا بطل عتقه في نصيبه أيضًا، فيبقى العبد كله رقيقا كما كان.
وقوله في حديث أبي هريرة: "وإلا قوّم العبد واستسعي غير مشقوق عليه (ب) ". يدل على ثبوت السعاية.
وقد احتج به من قال بوجوب السعاية، ولكنه جزم جماعة بأنه مدرج وليس من الحديث. قال القاضي أبو بكر بن العربي (1): اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من قول قتادة. ونقل الخلال في "العلل"(2) عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد بن أبي عروبة في الاستسعاء، وضعفه أيضًا الأثرم عن سليمان (جـ) بن حرب (3)، واستند أن فائدة الاستسعاء
(أ) في جـ: إذا.
(ب) ساقط من: ب.
(جـ) في جـ: سلمان. وكتب بهامش ب: قاضي مكة، إمام حافظ من التاسعة مات سنة أربع وعشرين وله ثمانون سنة، تقريب. وينظر التقريب ص 250.
_________
(1)
عارضة الأحوذي 6/ 97.
(2)
الفتح 5/ 157.
(3)
تهذيب الكمال 11/ 384.
ألا يدخل ضررا على الشريك، قال: لأنه لو كان مشروعا للزم إعطاؤه مثلًا كل شهر درهمين، وفي ذلك غاية الضرر. انتهى. قال النسائي (1): بلغني أن هماما رواه فجعل هذا الكلام؛ أي الاستسعاء، من قول قتادة. وكذا قال (أ) الإسماعيلي (1): إنما هو من قول قتادة مدرج على ما رواه (ب) همام. وقال ابن المنذر والخطابي (2): هو من فتيا قتادة. وأخرج أبو داود (3) الحديث من حديث همام عن قتادة، ولم يذكر الاستسعاء أصلًا.
ورواه عن همام؛ عبد الله بن يزيد المقرئ، وذكر السعاية وفصَلها عن الحديث. كذا أخرجه الإسماعيلي وابن المنذر والدارقطني والخطابي والحاكم في "علوم الحديث" والبيهقي والخطيب وكذا الدارقطني (4). فهؤلاء جزموا بأنه مدرج، وقد ردّ قول من قال: إنه مدرج. بما اتفق عليه الشيخان (5)(جـ من رفعه جـ)؛ فإنها في أعلى درجات التصحيح، وقد روى (د)
(أ) في جـ: قول.
(ب) في جـ: روى.
(جـ - جـ) في جـ: بدفعه.
(د) في جـ: ورد.
_________
(1)
الفتح 5/ 157.
(2)
معالم السنن 4/ 70، 71.
(3)
أبو داود 4/ 22 ح 3934.
(4)
الإسماعيلي وابن المنذر -كما في الفتح 5/ 157 - والدارقطني 4/ 127 ح 10، والخطابي في معالم السنن 4/ 70، والحاكم في المعرفة ص 40، 41، والبيهقي 10/ 282، والخطيب في الفصل للوصل 1/ 358، 359.
(5)
البخاري 5/ 132 ح 2492، ومسلم 2/ 1140 ح 1503.
إثباته من الحديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (1)، وهو أعرف بحديث قتادة؛ لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه من همام وغيره. وهشام وشعبة وإن كانا أحفظ من سعيد، لكنهما لم ينافيا ما رواه، وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس واحدًا حتى يتوقف في زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما، والإعلال بأن سعيدًا اختلط، مردود؛ لأنه في "الصحيحين" وغيرهما من رواية من روى عن سعيد قبل الاختلاط كيزيد بن زريع، ووافقه عليه غيره، وقد أشار البخاري (2) إلى دفع هذا التعليل، فأخرج الحديث من رواية يزيد بن زريع عن سعيد، وهو من أثبت الناس فيه، وسمع منه قبل الاختلاط، ثم استظهر له برواية جرير بن حازم لمتابعته؛ لينفي عنه التفرد، ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما، ثم (أ) قال: اختصره شعبة. وكأنه جواب لسؤال مقدر تقديره أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة، فكيف لم يذكر الاستسعاء؟ فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفًا؛ لأنه أورده (أ) مختصرًا وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، وقد جاء ذكر الاستسعاء من حديث جابر أخرجه الطبراني (3) وأخرجه البيهقي (4) من حديث رجل من بني عذرة، أن رجلًا منهم أعتق مملوكًا له عند موته
(أ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
تقدم ص 106.
(2)
البخاري 5/ 137 ح 2504.
(3)
الطبراني في الأوسط 7/ 118 ح 7024.
(4)
البيهقي 10/ 283.
وليس له مال غيره، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه وأمره أن يستسعي (أ) في الثلثين. وأخرج أبو داود (1) من حديث أبي المليح عن أبيه أن رجلًا أعتق شقصًا له من غلام، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ليس لله شريك". وفي رواية: فأجاز عتقه. وأخرجه النسائي (2) بإسناد قوي، وأخرج أحمد (3) بإسناد حسن من حديث سمرة، أن رجلًا أعتق شقصًا له في مملوك (ب)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو [حُرٌّ] (جـ) كله، فليس لله شريك". وقد عورضت هذه الأحاديث بما أخرجه أبو داود (4) من طريق ملقام (د) عن أبيه، أن رجلًا أعتق نصيبه من مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده حسن، وبحديث عمران بن حصين عند مسلم (5)، أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثا (د) ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة. وسيأتي قريبًا. وذلك لأنه لو كان الاستسعاء مشروعًا لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه وأمره بالسعاية في بقية قيمته لورثة
(أ) في جـ: يسعى.
(ب) في جـ: مملوكه.
(جـ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من مصدر التخريج.
(د) بهامش الأصل: ملقام بكسر أوله وسكون اللام ثم قاف. ويقال: بالهاء بدل الميم ابن التلب بفتح المثناة وكسر اللام وتشديد الموحدة، التميميّ العنبرى، مستور من الخامسة. تقريب.
(هـ) في جـ: ثلاثة.
_________
(1)
أبو داود 4/ 22 ح 3933.
(2)
النسائي في الكبرى 3/ 186 ح 497.
(3)
أحمد 5/ 75.
(4)
أبو داود 4/ 24 ح 3948.
(5)
مسلم 3/ 1288 ح 1668/ 56، وسيأتي ح 1192.
الميت، إلا أنه قد يجاب عنه بأنها قضية عين، أو كان ذلك قبل شرعية الاستسعاء. وأخرج النسائي (1) عن ابن عمر بلفظ:"من أعتق عبدًا (أ) وله فيه شركاء وله وفاء (ب)، فهو حر، ويضمن نصيب شركائه بقيمته بما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء".
وبما تلوناه عليك عرفت صحة الحديثين، وظاهرهما التعارض، وقد جمع بينهما بوجهين؛ أحدهما، أن قوله:"وإلا فقد عتق ما عتق منه". ليس معناه أنه يستمر ملكه، وإنما المعنى أنه عتق ما عتق بإعتاق مالك الحصة، وحصة الشريك تعتق بالسعاية، فيعتق العبد بعد تسليم ما عليه ويكون كالمكاتب، وهذا هو الذي جزم به البخاري، والذي يظهر أنه في ذلك باختياره، لقوله:"غير مشقوق عليه". فلو كان ذلك على سبيل اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك، حصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور؛ لأنها غير واجبة، هذا مثلها (جـ)، وإلى هذا الجمع مال البيهقي (2) وقال: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلًا. وهو كما قال، إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر (د) العبد الاستسعاء، ويحمل حديث أبي المليح وحديث سمرة أن ذلك في حق
(أ) زاد في جـ: له.
(ب) في النسائي: رفاق، وهو تصحيف.
(جـ) في جـ: منها.
(د) في جـ: يجبر.
_________
(1)
النسائي في الكبرى 3/ 185 ح 4961.
(2)
البيهقي 10/ 284.
الموسر فلا معارضة، وحديث الملقام في حق المعسر، وجمع أبو عبد الملك بأن المراد بالاستسعاء أن العبد يستمر في خدمة سيده الذي لم يعتق رقيقًا بقدر ماله من الرق.
ومعنى "غير مشقوق عليه". أي: لا يكلفه سيده من الخدمة فوق ما يطيقه ولا فوق حصته من الرق. إلا أنه يبعد هذا الجمع حديث الرجل من بني عذرة، هذا إذا كان المعتق يملك بعض العبد، وأما إذا كان يملكه جميعًا فأعتق بعضه، فجمهور علماء الحجاز والكوفة والعراق أنه يعتق جميعه، وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر: يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى في الباقي. وهو قول طاوس وحماد. وحجة الأولين حديث أبي المليح وغيره. وبالقياس على عتق الشقص، فإنه إذا سرى إلى ملك الشريك فبالأولى إذا لم يكن له شريك، وحجة أبي حنيفة أن السبب في حق الشريك هو أنه لما يدخل على شريكه من الضرر، فإذا كان العبد له جميعه لم يكن هناك ضرر، فلا قياس. وبما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عتقه (1). والله أعلم.
1190 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه". رواه مسلم (2).
قوله: "لا يجزي". بفتح أوله، أي، لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه، إلا أن يعتقه.
(1) أحمد 3/ 412.
(2)
مسلم، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد 2/ 1148 ح 1510/ 25.
وقوله: "فيشتريه فيعتقه". ظاهره أنه لا يعتق بمجرد الشراء، وأنه لا بد من الإعتاق بعد الشراء، وقد ذهب إلى هذا الظاهرية، وذهب الجمهور إلى أنه يعتق بنفس الشراء، ومعنى قوله:"فيعتقه". هو أنه لما شراه تَسَبَّب منه (أ) العتق، فنسب إليه العتق مجازًا، وإنما كان جزاء له؛ لأن العتق أفضل ما أنعم به أحد على أحد، لتخليصه بذلك من الرق، فيكمل له أحوال الأحرار من الولاية والقضاء والشهادة بالإجماع. والحديث نص في عتق الوالد، وهو مجمع عليه في (ب) حق الأب والأم إلا داود الظاهري.
1991 -
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ملك ذا رحم محرم فهو حر". رواه أحمد والأربعة (1)، ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف.
الحديث أخرجه أبو داود مرفوعًا من رواية حماد وموقوفًا من رواية سعيد (جـ)، وقال: سعيد (جـ) أحفظ من حماد. فالوقف حينئذ أرجح، وأخرجه أيضًا من طريق سعيد (جـ) عن قتادة، أن عمر بن الخطاب قال: من ملك. الحديث، فوقفه على عمر، وقال أبو داود: ولم يحدث بهذا الحديث
(أ) في د: "فيه".
(ب) زاد في جـ: حكم.
(جـ) في ب: شيبة.
_________
(1)
أحمد 5/ 15، وأبو داود، كتاب العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم 4/ 25 ح 3949 مرفوعًا، ح 3951، 3952 موقوفًا على الحسن وجابر بن زيد، وابن ماجه، كتاب العتق، باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر 2/ 844 ح 2525، والنسائي في "الكبرى" كتاب العتق، باب من ملك ذا رحم محرم 3/ 173 ح 4897، والترمذي، كتاب الأحكام، باب فيمن ملك ذا رحم محرم 3/ 647 ح 1365.
إلا حماد، وقد شك فيه. وقال علي بن المديني: هو حديث منكر. وقال البخاري (1): لا يصح. رواه ابن ماجه والنسائي والترمذي والحاكم (2) من طريق ضمرة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. قال النسائي: حديث منكر. وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة عليه وهو خطأ. وقال [البيهقي](أ)(3): وهم في هذا الإسناد، والمحفوظ بهذا الإسناد: نهى عن بيع الولاء وعن هبته. ورد الحاكم (2) هذا بأنه روى من طريق ضمرة الحديثين بالإسناد الواحد. وصححه ابن حزم (4) وعبد الحق (5) وابن القطان، وضمرة بن ربيعة هذا لا يضر تفرده؛ لأنه ثقة، لم يكن في الشام رجل يشبهه.
الحديث فيه دلالة على أنه إذا ملك من بينه وبينه رحامة محرمة للنكاح، فإنه يعتق عليه؛ وذلك كالآباء وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا، والإخوة وأولادهم والأخوال والأعمام لا أولادهم، وقد ذهب إلى هذا الهادي وأبو حنيفة وأصحابه؛ للحديث المذكور، وذهب الشافعي إلى أنه لا يعتق إلا الآباء والأبناء نصًّا في الحديث السابق على الآباء وقياسًا للأبناء على الآباء. قالوا: ولأن البنوة صفة تنافي العبودية؛ لقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (6). فأفهمت الآية أنه يتنافى أن يكون
(أ) في ب، جـ: الطبراني. والمثبت من التلخيص 4/ 212.
_________
(1)
التلخيص الحبير 4/ 212.
(2)
الحاكم 2/ 214.
(3)
البيهقي 10/ 289، 290.
(4)
المحلى 10/ 223.
(5)
الأحكام الوسطى 4/ 15.
(6)
الآية 26 من سورة الأنبياء.
عند الشخص أبناء له [عبيد](أ)، وزاد مالك الإخوة والأخوات قياسًا على الآباء والأبناء، وذهب داود الظاهري إلى أنه لا يعتق أحد (ب) بهذا السبب، واحتج بظاهر قوله في حديث أبي هريرة (1):"فيشتريه فيعتقه". فظاهره أن الأب لا يعتق إلا بإعتاقه. وقد تقدم الجواب عنه.
1192 -
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له (ب) عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثًا ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا. رواه مسلم (2).
القول الشديد في رواية النسائي وأبي داود (3) أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين". وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث -وهو أن حكم التبرع في المرض حكم الوصية فينفذ من الثلث- مالك والشافعي وأحمد، ولكنهم اختلفوا، فذهب مالك إلى اعتبار التقويم، فإذا كانوا ستة أعبد مثلًا أعتق منهم الثلث بالقيمة، سواء كان الحاصل من ذلك اثنين منهم أو أقل أو [أكثر](جـ)، ويكون تعيين المعتق بالقرعة، وبعضهم ذهب إلى أن المعتبر العدد من غير تقويم، فإن كانوا ستة أُعتق منهم اثنان،
(أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر إعانة الطالبين 4/ 327، والإقناع للشربيني 2/ 646.
(ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في ب، جـ: أكثر. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
تقدم ح 1190.
(2)
مسلم، كتاب الأيمان، باب من أعتق شركا له في عبد 3/ 1288 ح 1668/ 56.
(3)
النسائي في الكبرى 3/ 187 ح 4973، وأبو داود 4/ 27 ح 3960.
وإن كانوا مثلًا سبعة أُعتق منهم اثنان وثلث، ويكون ذلك بالقرعة، وهذا هو ظاهر الحديث، إلا (أ) أنه يحتمل أنه تساوى في هذا قيمهم.
وذهب الهدوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه، ويسعى كل واحد في ثلثي قيمته للورثة. قالت الحنفية: إنه لا يعمل بهذا الحديث؛ لأنه أحادي خالف الأصول الثابتة بالتواتر. وهذه قاعدة الحنفية، وذلك أن السيد قد أوجب لكل واحد منهم العتق، فلو كان له مال لنفذ العتق في الجميع بالإجماع، وإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعل السيد (ب) فيه. ولكنه يقال في الرد عليهم: إن هذا ليس ثابتًا في الأصول مطلقًا ولو أدخل ضررًا على الغير، وهذا يدخل ضررًا على الورثة وعلى العبيد المعتقين. وإذا جمع العتق في أشخاص بأعيانهم حصل الوفاء بحق المعتق وحق الوارث، فلا مخالفة للأصول.
وقوله: ثم أقرع بينهم. قال الخطابي (1): فيه إثبات القرعة في تمييز الشائع.
1193 -
وعن سفينة رضي الله عنه قال: كنت مملوكًا لأم سلمة فقالت: أعتقتك واشترطت عليك أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت. رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم (2).
(أ) في جـ: إلى.
(ب) في جـ: السنة.
_________
(1)
معالم السنن 4/ 76.
(2)
أحمد 5/ 221، وفيه بلفظ: ما عاش، وأبو داود، كتاب العتق، باب في العتق على شرط 4/ 21، 22 ح 3932، والنسائي في الكبرى كتاب العتق، ذكر العتق على الشرط 3/ 190 ح 4995، والحاكم، كتاب العتق 2/ 213، 214.
الحديث فيه دلالة على صحة اشتراط الخدمة على العبد العتق، والعتق يصح أن يعلق بشرط فيقع بوقوع الشرط، ويصح أن يكون معقودًا على عوض مال أو غرض كالخدمة، فيقع العتق بوقوع ذلك المعقود أو بالقبول لذلك، وإذا تعذرت الخدمة لزم (أ) العبد القيمة، ولعل هذه العبارة وهي قولها: واشرطت (ب) عليك. يتنزل منزلة العقد، كأنها قالت: على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بهذا الهدوية، وروي عن عمر أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعده ثلاث سنين. قال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (1): ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنتين، أنه لا يتم عتقه إلا بخدمته. وهو يوافق ما ذكرته الهدوية، وكذا عند الحنفية، قال في "ملتقى الأبحر": ولو حرره على أن يخدمه سنة فقبل، عتق، وعليه أن يخدمه تلك المدة، فإن مات المولى قبلها، لزمه قيمة نفسه، وعند محمَّد قيمة خدمته.
1194 -
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الولاء لمن أعتق". متفق عليه في حديث (أ)(2).
تقدم الحديث -وهذا بعض من حديث بريرة المذكورة في البيع- والكلام عليه.
(أ) في جـ: لزمت.
(ب) في جـ: شرطت.
_________
(1)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 8/ 380، 381.
(2)
تقدم ح 626.
وقوله: "والولاء لمن أعتق". يعني لا يثبت لغير المعتق بشرط، كما في حديث بريرة، ولا بغيره كما في الحديث الآتي، و"إنما" للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، وقد استدل به على أنه لا ولاء بالإِسلام خلافًا للهدوية والحنفية، ولا للملتقط خلافًا لإسحاق.
1195 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب". رواه الشافعي وصححه ابن حبان والحاكم (1)، وأصله في "الصحيحين"(2) بغير هذا اللفظ.
الحديث أخرجه الشافعي عن محمَّد بن الحسن عن أبي يوسف عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ورواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق [بشر](أ) ابن الوليد عن أبي يوسف، لكن قال: عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار. وكذا رواه البيهقي (3)، وقال في "المعرفة" (4): كأن الشافعي حدّث به من حفظه فنسي عبيد الله بن عمر من إسناده، وقد رواه محمَّد بن الحسن في كتاب "الولاء" له عن أبي يوسف عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار به (ب). وقال أبو بكر النيسابوري (5): هذا خطأ بيِّن،
(أ) في ب، جـ: بشير، والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الجرح والتعديل 2/ 369.
(ب) ساقط من: جـ.
_________
(1)
مسند الشافعي 2/ 140 ح 237، وابن حبان 11/ 325، 326 ح 4950، والحاكم 4/ 341.
(2)
سيأتي تخريجه في الصفحة التالية.
(3)
البيهقي 10/ 292.
(4)
معرفة السنن والآثار 7/ 507.
(5)
السنن الكبرى 10/ 292.
الثقات رووه عن عبد الله بن دينار بغير هذا اللفظ، وهذا اللفظ إنما هو رواية الحسن المرسلة. ورواه البيهقي (1) من طريق ضمرة بن ربيعة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وقد جمع أبو نعيم طرق حديث النهي عن بيع الولاء عن هبته في "مسند عبد الله بن دينار" له، فرواه عن نحوٍ من خمسين رجلًا (أو أكثر أ) من أصحابه عنه، ورواه أبو جعفر الطبري في "تهذيبه"، وأبو نعيم في "معرفة "الصحابة" (2)، والطبراني في "الكبير" من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وظاهر إسناده الصحة، وهو يعكر على البيهقي حيث قال (3) عقيب حديث أبي يوسف: ويروى بأسانيد أخر كلها ضعيفة.
وقوله: وأصله في "الصحيحين"(4). أخرج البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. وكذا أخرجه مسلم عنه، وقال مسلم بعد إخراجه عن عبد الله بن دينار: الناس في هذا الحديث عيال عليه. وقال الترمذي (5) بعد تخريجه: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار، رواه عنه سعيد وسفيان ومالك.
وقوله: "الولاء لحمة كلحمة النسب". وفي رواية: "كلحمة الثوب". وقد اختلف في ضم اللام وفتحها؛ فقيل: هي في النسب مضمومة، وفي
(أ - أ) في ب: وكثر.
_________
(1)
البيهقي 10/ 293.
(2)
معرفة الصحابة 3/ 105 ، 4029.
(3)
الطبراني -كما في مجمع الزوائد 4/ 231.
(4)
البخاري 5/ 167 ح 2535، ومسلم 2/ 1145 ح 1506/ 16.
(5)
الترمذي 3/ 537.
الثوب بالفتح وحده. وقيل: بالفتح في النسب والثوب، فأما بالضم فهو ما (أيصاد به أ) الصيد، وفي "القاموس"(1) بفتح اللام وضمها في النسب والثوب. ومعنى الحديث أن المخالطة في الولاء تحري مجرى النسب في الميراث، كما تخالط (ب) اللُّحمة سد الثوب حتى يصيرا (جـ) كالشيء الواحد. كذا في "النهاية" (2). وقال ابن العربي (3): معناه أن المعتق أخرجه بالحرية إلى النسب حكمًا، كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حشًا؛ لأن العبد كان كالمعدوم بالنظر إلى الأحكام التي قصر فيها عن الحر، فلما شابه حكم النسب جعل للعتق (د) حكم النسب. انتهى.
وقوله: "لا يباع ولا يوهب". فيه دلالة على أنه لا يصح بيع الولاء ولا هبته؛ لأن ذلك أمر معنوي كالنسب لا يتأتى انتقاله؛ كالأبوة والأخوة والجدودة التي لا يتأتى انتقالها، قال ابن بطال (4): أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب. فإذا كان حكم الولاء حكم النسب، فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في الجاهلية ينقلون (هـ) بالولاء لا بالبيع وغيره،
(أ - أ) في ب: يصادمه.
(ب) في ب: تخلط.
(جـ) في ب: يصير.
(د) في ب: للمعتق.
(هـ) في ب: يعطون.
_________
(1)
القاموس المحيط (ل ح م).
(2)
النهاية 4/ 240.
(3)
القبس 3/ 968، 969.
(4)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/ 51.
فنهى الشرع عن ذلك. وقال ابن بطال (1) وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء، وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء، فإنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس. قال المصنف رحمه الله تعالى (2): قلت: قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان، فأخرج عبد الرزاق (3) عنه أنه كان يقول: أيبيع أحدكم [نسبه](أ)؟ ومن طريق على: الولاء شعبة من النسب (4). ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته (5). ومن طريق عطاء أن ابن عمر كان ينكره (6)، ومن طريق عطاء عن ابن عباس: لا يجوز (7). وسنده صحيح، ومن ثم فصلوا في النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة. انتهي. وروى في "البحر" عن مالك، أنه يجوز هبة الولاء وبيعه، ولم أره في غيره، ويحتج عليه بالحديث.
(أ) في ب: نسيبه، وفي جـ: سببه. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/ 50، 8/ 372.
(2)
الفتح 12/ 45.
(3)
عبد الرزاق 9/ 4 ح 16142.
(4)
عبد الرزاق 9/ 4 ح 16141.
(5)
عبد الرزاق 9/ 4 ح 16143.
(6)
عبد الرزاق 9/ 5 ح 16150، لكن من طريق نافع عنه.
(7)
عبد الرزاق 9/ 4 ح 16145.