الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ التَّرغيب في مكارم الأخلاق
1280 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن (أ) البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب (ب ويتحرى الكذب ب) حتى يكتب عند الله كذابًا". متفق عليه (1).
قوله: "عليكم بالصدق". أي الزموا الصدق، والمقصود الإغراء والحث عليه. قال الراغب (2): أصل الصدق والكذب في القول؛ ماضيًا كان أو مستقبلًا، وعدًا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول (جـ إلا في القول، ولا يكونان في القول جـ) إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب. والصدق مطابقة القول الضمير والمخبَر عنه، فإن انخرم شرط لم يكن صدقًا، بل إما أن يكون كذبًا أو مترددًا بينهما على اعتبارين، كقول
(أ) ساقط من: جـ.
(ب- ب) ساقط من: جـ.
(جـ - جـ) ساقط من ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
البخاري، كتاب الأدب، باب قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وما ينهى عن الكذب 10/ 507 ح 6094، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله 4/ 2012، 2013 ح 2607/ 105.
(2)
المفردات في غريب القرآن ص 277.
المنافق: محمد رسول الله. فإنه يصح أن يقال: صدق. لكون المخبَر عنه كذلك، ويصح أن يقال: كذب. لمخالفة قوله الضمير. والصدِّيق من كثر منه لصدق، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل؛ نحو: صدق ظني. وفي الفعل، نحو: صدق في القتال. ومنه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (1) انتهى ملخصًا. وهذا كلام الراغب موافق لقول الجمهور: إن الصدق ما طابق الواقع، والكذب ما خالف الواقع، إلا أن الواقع له اعتباران؛ واقع بالنظر إلى اعتقاده، وواقع بالنظر إلى نفس الأمر، فمثل قوله صلى الله عليه وسلم في جواب ذي اليدين:"كل ذلك لم يكن". أي في الواقع بالنظر إلى ظنه (2)، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} (3) أي الواقع بالنظر على اعتقادهم وظنهم الباطل، فلا يكون الصدق حينئذٍ إلا طابق الواقع، ولا يكون الكذب إلا ما خالف الواقع.
وقوله: "يَهدي". بفتح الياء، من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب.
قوله: "إلى البر" بكسر البال الموحدة ، وأصله التوسع في فعل الخيرات ، وهو اسم جامع اللخيرات كلها ،ويطلق على العمل الصالح الخالص الدائم.
وقوله: "وإن البر". إلى آخره. قال ابن بطال (4): مصداقه قوله تعالى:
(1) الآية 105 من سورة الصافات.
(2)
مسلم 1/ 404 ح 573/ 99.
(3)
الآية 1 من سورة المنافقون.
(4)
شرح البخاري 9/ 280.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (1).
وقوله: "وما يزال الرجل يصدق". إلى آخره. قال ابن بطال (2): المراد يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة وهو صدّيق.
وقوله: "الفجور". أصل الفجر: الشق، فالفجور شق الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشر.
وقوله: "وما يزال الرجل يكذب". إلى آخره. المراد أنه إذا تكرر منه الكذب استحق اسم المبالغة وهو كذاب.
وفي الحديث إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار الصدق له سجية حتى يستحق الوصف به، وكذلك عكسه، وأما ذم الكاذب ومدح الصادق فهو حاصل على كل حال، والحديث فيه دلالة على تحريم الكذب على العموم، وقد تقدم الكلام على هذا قريبًا (3).
1281 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث". متفق عليه (4).
قوله: "إياكم". ضمير جماعة المخاطبين منصوب على التحذير بفعل
(1) الآية 13 من سورة الانفطار، والآية 22 من سورة المطففين.
(2)
شرح البخاري 9/ 281.
(3)
تقدم ص 336 - 341.
(4)
البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر 10/ 481 ح 6064 ، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها 4/ 1985 ح 2563/ 28.
مقدر، والظن معطوف عليه. الحديث قد تقدم في الباب الأول فهو تكرير (1).
1282 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس بالطرقات". قالوا: يا رسول الله، ما لنا بدٌّ من مجالسنا نتحدث فيها. قال:"فأما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه". قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". متفق عليه (2).
قوله: "إياكم". للتحذير، و:"الجلوسَ" بالنصب عطف على الضمير محذر منه، و:"الطُّرُقات". بضمتين جمع طرق، وطرق جمع طريق.
وقوله: قالوا. إلخ. قال القاضي عياض (3): فيه دليل (أ) على أنهم فهموا أن الأمر ليس للوجوب، وأنه للترغيب فيما هو الأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه.
قال المصنف رحمه الله تعالى (3): ويحتمل أنهم رجوا وقوع النسخ تخفيفًا لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر:
(أ) في جـ: دلالة.
_________
(1)
تقدم ح 1251.
(2)
البخاري ، كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها 5/ 112 ح 2465، ومسلم، كتاب السلام باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام 4/ 1704 ح 2121.
(3)
الفتح 11/ 11.
وظن القوم أنها عزمة. ووقع في حديث أبي طلحة: فقالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس نتحدث ونتذاكر (1).
وقوله: "فأما إذا أبيتم". لفظ البخاري (2): "فإذا أبيتم إلا المجلس".
وقوله: "فأعطوا الطريق حقه". في رواية "حقها". والطريق تذكر وتؤنث. وقوله: قال: "غض البصر". إلى آخره. ذكر أربعة أشياء، وجاء في حديث أبي طلحة (3) الأولى والثالثة، وزاد:"وحسن الكلام". وفي حديث أبي هريرة (4) الأولى والثالثة، وزاد:"وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد". زاد أبو داود (5) في حديث عمر وكذا في مرسل يحيى بن يعمر (6): "وتغيثوا الملهوف، وتهدوا الضال". وهو عند البزار (7) بلفظ: (أ "وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد" أ). وفي حديث ابن عباس عند البزار (8) من الزيادة: "وأعينوا على الحمولة". وفي حديث سهل
(أ- أ) كذا في ب، جـ. وفي مصدر التخريج والفتح - معزوا إلى البزار من حديث عمر: وإرشاد الضال.
_________
(1)
مسلم 4/ 1703، 1704 ح 2161، والنسائي في الكبرى 6/ 418، 419 ح 11362.
(2)
البخاري 11/ 8 ح 6229.
(3)
مسلم 4/ 1703 ح 2161.
(4)
البخاري في الأدب المفرد 2/ 470 ح 1014، وأبو داود 4/ 257 ح 4816.
(5)
أبو داود 4/ 257 ح 4817.
(6)
أخرجه هناد في الزهد 2/ 584، 585 ح 1241، من طريق يحيى بن يعمر.
(7)
البحر الزخار 1/ 472 ح 338.
(8)
البحر الزخار 11/ 394 ح 5232.
ابن حنيف عند الطبراني (1) من الزيادة: "ذكر الله كثيرًا". وفي حديث وحشي بن حرب عند الطبراني (2) من الزيادة: "واهدوا الأغبياء، وأعينوا المظلوم".
ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبًا. قال المصنف رحمه الله تعالى (3): وقد نظمتها في ثلاثة أبيات:
جمعتُ آدابَ مَن رام الجلوسَ على الطـ
…
ـريق من قولِ خير الخلقِ إنسانا
أفش السلام وأحسن في الكلام وشـ
…
ـمِّت عاطسًا وسلامًا رُد إحسانًا
في الحمل عاون ومظلومًا أعن وأغث
…
لهفان واهد سبيلًا واهد حيرانا
بالعرف مُر وانه عن نكرٍ وكف أذًى
…
وغض طرفًا وأكثر ذكر مولانا
فالعلة في النهي عن الجلوس في الطريق هو أن يتعرض للفتنة، فإنه قد ينظر إلى الشوابِّ ممن يخاف الفتنة على نفسه من النظر إليهن مع مرورهن لحوائجهن ، ومن التعرض لحقوق الله والمسلمين مما لا (أ) يلزم الإنسان إذا كان في بيته ، وقد يخشى على نفسه التقصير بالوفاء بتلك الحقوق، فندبهم
(أ) في ب: لم.
_________
(1)
الطبراني 6/ 105 ح 5592.
(2)
الطبراني 22/ 138 ح 367 بلفظ: "واهدوا الأعمى". والمثبت من ب ، جـ موافق لما الفتح 11/ 11.
(3)
الفتح 11/ 11.
الشارع إلى ترك التعرض حسمًا للمادة، فلما ذكروا له ضرورتهم لا فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضًا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح، دلهم على ما يزيل المفسدة المذكورة.
ولكل من الآداب شواهد؛ فأما إفشاء السلام فسيأتي (1)، وأما إحسان الكلام، فقال القاضي عياض (2): فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم، فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى، وقد جاء في حديث أبي مالك الأشعري يرفعه (3):"في الجنة غرف لمن أطاب الكلام". الحديث، وفي الصحيحين (4):"اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". وأمَّا تشميت (أ) العاطس فقد مضى، ورد السلام قد مضى (5)، وأمَّا المعاونة على الحمل فله شاهد في الصحيحين (6) من حديث
(أ) في جـ: تشميته.
_________
(1)
سيأتي ح 365 - 369.
(2)
الفتح 11/ 12.
(3)
عبد الرزاق 11/ 418 ، 419 ح 20883 وأحمد 5/ 343.
(4)
البخاري 3/ 283 ح 1417، ومسلم 2/ 704 ح 1016/ 68.
(5)
تقدم ص 144 - 149.
(6)
البخاري 6/ 85 ح 2891، ومسلم 2/ 699 ح 1009/ 56.
أبي هريرة رفعه: "كل سلامى من الناس عليه صدقة". وفيه: "ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها وفع عليها متاعه صدقة". وأما إعانة (أ) المظلوم فقد ورد من حديث البراء في السبع المأمور بها؛ ومنها (ب): "نصر المظلوم". أخرجه البخاري (1)، وأما إغاثة الملهوف ففي حديث أبي ذر عند ابن [حبان] (جـ) "وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث". وأخرج المرهبي (2) من حديث أنس رفعه:"والله يحب إغاثة اللهفان". وأما إرشاد السبيل فروى الترمذي وصححه ابن حبان (3) من حديث أبي ذر مرفوعًا: "وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة"، وللبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه (4) من حديث البراء رفعه:"من منح منيحة أَو هَدَّى زُقَاقا كان له عِدْل عِتق نسمة". وهَدَّى بفتح الهاء وتشديد الدال المهملة، والزقاق بضم الزاي وتخفيف القاف وآخره قاف، معروف، والمراد من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وأما هداية الحيران فله شاهد في الذي قبله، وأمَّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة، وأمَّا كفُّ الأذى فالمراد به كف الأذى عن المارَّة بألَّا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق أو على
(أ) في ب: إغاثة.
(ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في ب، جـ: أحمد. والمثبت من الفتح 11/ 12. والحديث عند ابن حبان 8/ 171 ح 3377.
_________
(1)
البخاري 3/ 112 ح 1239.
(2)
المرهبي -كما في الفتح 11/ 12.
(3)
الترمذي 4/ 299 ح 1956، وابن حبان 2/ 286، 287 ح 529.
(4)
الأدب المفرد 2/ 336 ح 337، والترمذي 4/ 300 ح 1957.
باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه أو حيث ينكشف عياله أو ما يريد التستر به من حاله. قاله القاضي عياض (1)، قال: ويحتمل أن يكون المراد (أ) كف أذى الناس بعضهم عن بعض. انتهى. وقد وقع في "الصحيح"(2): "فكف عن الشر فإنها لك صدقة". وهو يؤيد الأول، وأما غض البصر فهو كما صرح به في هذا الحديث، وأما كثرة ذكر الله تعالى ففيه عدة أحاديث وسيأتي منها في باب الدعاء.
1283 -
وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". متفق عليه (3).
الحديث فيه دلالة على فضيلة العلم، وأن من فاته العلم فقد فاته الخير كله؛ فإنه رتب تفقهه على إرادة الله تعالى الخير.
وقوله: "يفقهه". مجزوم جواب (ب) الشرط؛ أي يفهمه، مضارع فقَّهه المعدَّي إلى المفعول بالتضعيف، وهو من: فقُه، وهو بالضم إذا صار الفقه له سجية، ويقال: فقَه. بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقِه بالكسر إذا فهم، (جـ ونكّر:"خيرًا" جـ). لقصد العموم في (د) سياق الشرط، أو التنكير
(أ) زاد بعده في جـ: به.
(ب) في جـ: جزاء.
(جـ - جـ) (في جـ: ويكون خبرا.
(د) في جـ: و.
_________
(1)
الفتح 11/ 12.
(2)
البخاري 3/ 307، 308 ح 1445 بلفظ. وليمسك عن الشر فإنها له صدقة.
(3)
البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين 1/ 164 ح 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة 2/ 719 ح 1037/ 100.
للتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه ، والمراد بالتفقه في الدين هو تعليم قواعد الإسلام ومعرفة تفصيل الحلال والحرام ، ومفهوم الجملة الشرطية أن من لم يعرف قوعد الدين فقد حرم الخير كله، وقد أشار في رواية أبي يعلى إلى هذا المفهوم، زاد في الحديث:"ومن لم يفقه في الدين لم يبال الله به"(1). وهذا بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضيلة التفقه في الدين على سائر العلوم.
وتمام الحديث: "وإنما أنا قاسم والله عز وجل يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله"(2).
1284 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء في الميزان أثقل من حسن (أ) الخلق" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه (3).
في الحديث دلالة على أفضلية حسن الخلق، وأنه راجح في ميزان الأعمال ، وقد تقدم الكلام في تحقيقه (4).
1285 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
أبو يعلى 13/ 371 ح 7381 ، بلفظ: لم يبل به.
(2)
هذا لفظ البخاري، وليس في مسلم.
(3)
أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق 4/ 253، 254 ح 4799، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق 4/ 318، 319 ح 2002.
(4)
تقدم ص 158 - 160.
"الحياء من الإيمان" متفق عليه (1).
الحديث أخرجه البخاري بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعه فإن الحياء من الإيمان". قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: لم أعرف اسم هذين الرجلين، يعني الواعظ وأخاه، والمراد بقوله: يعظ أخاه. أي ينصحه ويخوفه. وجاء في رواية للبخاري في "الأدب"(3) بلفظ: يعاتب أخاه في الحياء؛ يقول: إنك لتستحي حتى لقد أضرَّ بك الحياء. وقد جاء في سببه: وكان الرجل كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه فعاتبه أخوه على ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه". أي اتركه على هذا الخلق الحسن. ثم زاده في ذلك ترغيبًا لحكمه بأنه من الإيمان. والحياء بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به. وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسببه، وفي الشرع: أخلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي [الحق](أ). والحياء وإن كان قد يكون غرِيزة، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فلذلك كان من الإيمان، وقد يكون كسبيًّا فهو من الإيمان.
(أ) في ب، جـ: الحياء. والمثبت من الفتح 1/ 52، وشرح مسلم 2/ 6.
_________
(1)
البخاري، كتاب الإيمان، باب الحياء من الإيمان 1/ 74 ح 24، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان 1/ 63 ح 36.
(2)
الفتح 1/ 74.
(3)
الأدب المفرد 2/ 62 ح 603.
وقوله: "الحياء من الإيمان". ذكر ابن التين (1) عن أبي عبد الملك، أن المراد به كمال الإيمان. وقال أبو عبيد الهروي (1): معناه أن المستحيي ينقطع بحيائه عن المعاصي وإن لم يكن له تقية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي. وقد جاء في الحديث:"إن الحياء خير كله"(2)، و"لا يأتي إلَّا بخير"(3).
واستشكل عمومه بأنه قد يحمل صاحبه على ترك إنكار المنكر والإخلال ببعض الحقوق، وأجيب بأن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًّا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيًّا، بل هو عجز ومهانة، وإنَّما يطلق عليه حياء لمشابهته الحياء الشرعي، وقد يجاب عنه بجواب أحسن؛ وهو أن من كان الحياء من خلقه فالخير فيه أغلب، أو أنَّه إذا كان الحياء من خلقه كان الخير فيه بالذات ولا ينافيه حصول التقصير في بعض الأحوال. قال القرطبي (4): وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد جُمع له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي، فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم.
وجعْلُه من الإيمان مجاز، قال ابن قتيبة (5): معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان فيسمى إيمانًا، كما يسمى الشيء
(1) الفتح 10/ 522.
(2)
مسلم 1/ 64 ح 61، 37، وأبو داود 4/ 253 ح 4796.
(3)
البخاري 10/ 521 ح 6117، ومسلم 1/ 64 ح 37/ 60.
(4)
الفتح 10/ 522، 523.
(5)
تأويل مختلف الحديث ص 237.
باسم ما قام مقامه. وهو مركب من خير وعفة؛ ولذلك لا يكون المستحيي كاشفًا وقل ما يكون الشجاع مستحيًا. وقد يكون لمجرد الانقباض كما في بعض الصبيان.
1286 -
وعن أبي (أ) مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ممَّا أدرك النَّاس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت". أخرجه البُخاريّ (1).
قوله: "إن ممَّا أدرك" إلخ. وقع في حديث حذيفة عند أحمد والبزار (2): "إن آخر ما تعلَّق به أهل الجاهلية من كلام (ب)
…
" الحديث.
و"النَّاس". مرفوع في جميع الروايات، والعائد إلى "ما" محذوف، ويجوز نصب:"النَّاس". والعائد ضمير الفاعل، و "أدرك" بمعنى بلغ، و "إذا لم تستحي"، اسم إن بتأويل هذا اللفظ أو الكلام وخبرها الجار والمجرور المتقدم.
وقوله: "النبوة الأولى". أي أنَّه ممَّا اتفق عليه الأنبياء وندبوا إليه ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم؛ لأنَّه أمر أطبقت عليه العقول. ولفظ "الأولى"
(أ) في جـ: ابن.
(ب) كذا في ب، جـ، وبعده في مصدري التخريج: النبوة.
_________
(1)
البُخاريّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (54) 6/ 515 ح 3483، 3484، وكتاب الأدب، باب إذا لم تستحي فاصنع ما شئت 10/ 523 ح 6120.
(2)
أحمد 5/ 405، والبزار -كما في مجمع الزوائد 8/ 27.
لم يكن في البُخاريّ (1) وهي من زيادة أبي داود (2)، والمراد بها مَن كان قبل نبينا عليهم الصَّلاة والسلام.
وقوله: "فاصنع ما شئت". هو أمر بمعنى الخبر؛ أي: صنعت ما شئت. وإنَّما عبر عنه بلفظ الأمر للتنبيه على أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء، فإذا تركه توفرت دواعيه إلى مواقعة الشر حتَّى صار كأْنه مأمور بارتكاب كل شر، أو الأمر للتهديد؛ أي: اصنع ما شئت فإن الله مجازيك على ذلك، أو (أ) معناه، انظر إلى ما تريد أن تفعله فإن كان مما (ب) لا تستحيي منه فافعله، وإن كان مما تستحيي منه فدعه، ولا تبال بالخلق، أو المراد الحث على الحياء والتنويه بفضله؛ أي. كما لا يجوز صنع جميع ما شئت لم يجز ترك الاستحياء.
1287 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان". أخرجه مسلم (3).
(أ) في جـ: إذ.
(ب) في جـ: ممن.
_________
(1)
لفظ الأولى ورد عند البُخاريّ 10/ 523 ح 6120.
(2)
أبو داود 4/ 253 ح 4797.
(3)
مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله 4/ 2052 ح 2664.
قوله: "القوي". المراد به عزيمة النَّفس والاجتهاد في أمر الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصَّلاة والصوم والأذكار وسائر الطاعات وأنشط لها والمحافظة عليها ونحو ذلك.
وقوله: "وفي كل خير". معناه في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات.
وقوله: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز". احرص، فعل أمر من حرص، بفتحها، يَحرِص، وبكسرها في المضارع، ويجوز الفتح، من حرِص بكسر الراء، في الماضي، ومعناه احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على أداء الطاعة، كما قال الله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1)، "ولا تعجز". بكسر الجيم ويجوز الفتح، يعني لا تكسل عن الطاعة ولا عن طلب الإعانة.
وقوله: "فلا تقل: لو" إلى آخره. قال بعض العلماء: هذا النَّهي إنَّما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنه لو فعل ذلك لم يصبه قطعًا، فأمَّا من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى وأنه لن يصيبه إلَّا ما شاء، فليس من هذا. [واستدل] (أ) بقول أبي بكر في الغار: لو أن أحدهم رفع رأسه
(أ) في ب، جـ: وليستدل. والمثبت من شرح مسلم 16/ 216.
_________
(1)
الآية (5) من سورة الفاتحة.
لرآنا (1). قال القاضي عياض (2): وهذا لا حجة فيه؛ لأنَّه إنما أخبر عن مستقبل، وليس فيه دعوى لرد [قدر] (أ) بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البُخاريّ (3) في باب ما يجوز من "اللو"، كحديث:"لولا حدثان عهد قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم"(4). و: "لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه"(5). و: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"(6). وشبيه ذلك، فكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، فلا كراهة فيه؛ لأنَّه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته، فأمَّا ما ذهب فليس في قدرته. قال القاضي: فالذي عندي في معنى الحديث أن النَّهي على ظاهره وعمومه، لكنَّه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن لو تفتح عمل الشَّيطان". قال النووي (7): وقد جاء من استمعال "لو" في الماضي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى"(8). وغير ذلك، فالظاهر أن النَّهي إنَّما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهى تنزيه لا نهي تحريم، فأمَّا من قاله تأسفًا على ما
(أ) في ب، جـ: قدره. والمثبت من شرح مسلم 16/ 216.
_________
(1)
كذا في ب، جـ، وشرح مسلم، ولم نقف على هذه الرّواية، والرواية المشهورة: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. وهي عند البُخاريّ 7/ 8 ح 3653، ومسلم 4/ 1854 ح 2381.
(2)
شرح مسلم 16/ 216.
(3)
البُخاريّ 13/ 224.
(4)
البُخاريّ 3/ 439 ح 1583.
(5)
البُخاريّ 13/ 224 ح 7238.
(6)
البُخاريّ 13/ 224 ح 7240.
(7)
شرح مسلم 16/ 216.
(8)
البُخاريّ 3/ 504 ح 1651.
فات من طاعة الله تعالى وما هو متعذر عليه من ذلك ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، والله أعلم.
1288 -
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتَّى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد". أخرجه مسلم (1).
قوله: "أن تواضعوا". أي لا تَكَبَّرُوا بأن تعدوا لأنفسكم مَزِيَّة على الغير في استحقاق التعظيم، كما تقدم في الكبر، وجعل ثمرة التواضع وغايته أن:"لا يبغي أحد على أحد". أي لا يظلمه؛ فإن البغي هو الظلم، و"لا يفخر أحد على أحد". يعني يتكبر أحد على أحد، وجاء في هذا أحاديث كثيرة؛ أخرج التِّرمذيُّ وصححه والحاكم وصححه وابن ماجه (2) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أجدر -أي أحق- من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدُّنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". والبيهقيّ (3): "ليس شيء ممَّا عُصِي الله به هو أعجل عقابًا من البغي". وجاء في الأثر: لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكًّا (4). وكذلك خسف الله بقارون لما بغى على قومه قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (5). قال ابن عباس: من بغيه أنَّه جعل لبغيَّةٍ
(1) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدُّنيا أهل الجنة وأهل النَّار 4/ 2198، 2199 ح 2865/ 64.
(2)
التِّرمذيُّ 4/ 573 ح 2511، والحاكم 2/ 356، وابن ماجه 2/ 1408 ح 4211.
(3)
البيهقي 10/ 35.
(4)
ينظر شعب الإيمان 6693، وتفسير القرطبي 10/ 167.
(5)
الآية 81 من سورة القصص.
جعلًا على أن ترمي موسى صلى الله عليه وسلم المبرأ من كل سوء بنفسها. وفي الحديث دلالة على تحريم البغي والفجر، وهو مجمع على ذلك، والله أعلم.
1289 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من رد عن عرض أخيه بالغيب رد الله عن وجهه النَّار يوم القيامة". أخرجه التِّرمذيُّ (1) وحسنه، ولأحمد (2) من حديث أسماء بنت يزيد نحوه.
الحديث فيه دلالة على فضيلة الرد عن عرض المسلم وهو أيضًا واجب، لأنَّه من باب النَّهي عن المنكر، وقد ورد الوعيد على تركه؛ أخرج أبو داود وابن أبي الدُّنيا وغيرهما (3):"ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلمًا في موضع ينتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلَّا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر امرأ مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلَّا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته". وأخرج أبو الشَّيخ (4): "من رد عن عرض أخيه رد الله عنه عذاب النَّار يوم القيامة". وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} " (5). وأبو داود وغيره، وأبو الشَّيخ (6): "من حمى عرض أخيه في الدُّنيا بعث الله له ملكًا يوم القيامة يحميه من النَّار". والأصبهاني (7):
(1) التِّرمذيُّ، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الذب عن عرض المسلم 4/ 288 ح 1931.
(2)
أحمد 6/ 461.
(3)
أبو داود 4/ 272 ح 4884، وابن أبي الدُّنيا في الصمت ح 241، وأحمد 4/ 30.
(4)
أبو الشَّيخ -كما في الترغيب والترهيب 3/ 517.
(5)
الآية 47 من سورة الروم.
(6)
أبو داود 4/ 272 ح 4883، وابن أبي الدنيا ح 140. ولم أقف على الرّواية لأبي الشَّيخ.
(7)
الأصبهاني -كما في الترغيب والترهيب 3/ 518.
"من اغتيب عنده أخوه فاستطاع نصرته فنصره، نصره الله في الدُّنيا والآخرة، وإن لم ينصره أذله الله في الدُّنيا والآخرة". بل قد جاء في الحديث أن المستمع أحد المغتابين (1)، يعني فعقابه عقاب المغتاب فلا يبرئه إلَّا إنكار الغيبة والرد عن العرض إذا أمكن، أو تغيير المقام بالقيام منه إن أمكنه، أو الخوض في كلام آخر، فإن عجز عن التغيير وجب الإنكار بالقلب والكراهة للقول، وقد عد بعض المحققين السكوت كبيرة، وهو حسن؛ لورود هذا الوعيد، ولدخوله في عموم ترك إنكار المنكر؛ ولكونه أيضًا أحد المغتابين، فما ورد من وعيد المغتاب استحقه، وإن احتمل أن تسميته مغتابًا مجاز للمشابهة مبالغة في ذلك، فلا يكون حكمه حكم المغتاب حقيقة، ولكن الأحوط التنزه لئلا يكون له حكمه شرعًا ويكون العقاب عند الله سبحانه وتعالى واحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
1290 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله تعالى". أخرجه مسلم (2).
قوله: "ما نقصت صدقة من مال". يحتمل أن يراد بعدم النقصان أنَّه يبارك فيه ويدفع عنه المفسدات، فيجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحس والعادة، ويحتمل أن يراد أنَّه يحصل بالثواب المرتب على فعل الصدقة جبر نقصان عينها، وكأن الصدقة لم تنقص المال، لما يكتب الله من
(1) ولفظ الحديث: "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم" ورد في الإحياء ولم يخرجه العراقي، وقال القارئ في المصنوع ص 173: لا يعرف له أصل بهذا اللفظ.
(2)
مسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع 4/ 2001 ح 2588.
مضاعفة الحسنة إلى عشرة أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، فقوله:"ما نقصت". مجاز على الوجهين استعارة تبعية.
وقوله: "وما زاد الله" إلى آخره. يحتمل الحمل على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاده عزة وكرامة، فيكون حقيقة، ويحتمل أن المراد الأجر في الآخرة والعز هناك فيكون مجازًا.
وقوله: "ومما تواضع" إلى آخره. يحتمل أن يراد أن الله يرفعه في الدُّنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند النَّاس ويجل مكانه، ويحتمل أن يراد أن الله تعالى يثيبه في الآخرة ويرفعه فيها بسبب تواضعه في الدُّنيا. قال العلماء: وهذه الاحتمالات في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة، وقد يكون المراد الاحتمالين معًا في جميعها في الدُّنيا والآخرة، والله أعلم.
1291 -
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، أفشوا السَّلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطَّعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". أخرجه التِّرمذيُّ (1) وصححه.
قوله: "أفشوا السَّلام". الإفشاء بمعنى الإظهار، والمراد نشر السَّلام بين
(1) التِّرمذيُّ، كتاب صفة القيامة، باب (42) 4/ 562، 563 ح 2485. وليس فيه. وصلوا الأرحام.
النَّاس لإحياء سنته (أ) ولو لغير معروف، وقد أخرج في "الصحيحين" (1) عن عبد الله بن عمرو أن رجلًا سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطَّعام وتقرأ السَّلام على من عرفت ومن لم تعرف".
ولا بد من اللفظ المسمع، وقد أخرج البُخاريّ في "الأدب المفرد" (2) بسند صحيح عن ابن عمر: إذا سلمت فأسمع فإنَّها تحية من عند الله. قال النووي (3): أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلَّم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنة، فإن شك استظهر، فإن دخل مكانًا وفيه أيقاظ ونيام، فالسنة فيه ما ثبت في "صحيح مسلم" (4) عن المقداد قال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليمًا لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان.
وإذا لقي جماعة فيكره أن يخص واحدًا منهم بالسلام؛ لأنَّ الغرض من الإفشاء الألفة والإيناس، وفي هذا إيحاش. وقد جاء عند مسلم (5) من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"ألا أدلكم على ما تحابون به؟ أفشوا السَّلام بينكم".
(أ) في ب: سننه.
_________
(1)
البُخاريّ 1/ 55 ح 12، ومسلم 1/ 65 ح 39.
(2)
الأدب المفرد ح 2/ 464 ح 1005.
(3)
الفتح 11/ 18.
(4)
مسلم 3/ 1625 ح 2055.
(5)
مسلم 1/ 74 ح 54، بنحوه.
وقد جاء في إفشاء السَّلام أحاديث كثيرة؛ أخرج النَّسائيّ (1) عن أبي هريرهّ رفعه: "إذا قعد أحدكم فليسلم، وإذا قام فليسلم؛ فليست الأولى أحق من الآخرة". وغير ذلك ولا تكفي الإشارة باليد ونحوها. وقد أخرج النَّسائيّ (2) بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف". إلَّا أنَّه يستثنى من ذلك حالة الصَّلاة؛ فقد وردت أحاديث جيدة أنَّه صلى الله عليه وسلم رد السَّلام وهو يصلِّي إشارة، في حديث أبي سعيد (3)، وفي حديث ابن مسعود (4)، وكذا من كان بعيدًا بحيث لا يسمع التسليم تجوز الإشارة إليه بالسلام، ويتلفظ مع ذلك بالسلام. وأخرج ابن أبي شيبة (5) عن عطاء قال: يكره السَّلام باليد ولا يكره بالرأس. قال ابن دقيق العيد: وقد يستدل بالأمر بإفشاء السَّلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، ويرد عليه بأنه لو قيل بأن الابتداء فرض عين على كل أحد كان فيه حرج ومشقة، والشريعة على التخفيف والتيسير، فيحمل على الاستحباب. انتهى.
ويستثنى أيضًا من شرعية رد السَّلام من نهي عن ابتدائه بالسلام، كالكافر، وقد تقدم الكلام (6) في ذلك وفي غيره من أحكام السَّلام قريبًا.
(1) النَّسائيّ في الكبرى 6/ 100 ح 10202.
(2)
النَّسائيّ في الكبرى 6/ 92 ح 10172. بزيادة: "والإشارة".
(3)
البزار -كما في كشف الأستار 1/ 268 ح 554.
(4)
أبو داود 2/ 241، 242 ح 923.
(5)
ابن أبي شيبة 8/ 445.
(6)
تقدم ص 144 - 149.
قال النووي (1): وفي التسليم على من لم تعرف إخلاصُ [العمل](أ) لله تعالى، واستعمالُ التواضع، وإفشاءُ السَّلام الذي هو شعار هذه الأمة. انتهى. مع أنَّه لو ترك السَّلام على من لم يعرف قد يظهر له بعد أنَّه من معارفه فيوقعه في الوحشة. وقال ابن بطال (2): في مشروعية السَّلام على غير معروف استفتاح (ب) المخاطبة (جـ) للتأنيس؛ ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد.
وأورد الطحاوي في "المشكل"(3) حديث أبي ذر في قصة إسلامه وفيه: فانتهيت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد صَلَّى هو وصاحبه فكنت أول من حياه بتحية الإسلام. قال الطحاوي: وهذا لا ينافي حديث ابن مسعود في ذم السَّلام للمعرفة؛ لاحتمال أن يكون أبو ذر سلم على أبي بكر قبل ذلك، أو لأنَّ حاجته عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر. انتهى.
ولعلّه يقال: إنه جمع في التسليم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وصاحبَه، وخص النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالذكر لأنَّه المقصود أولًا.
وقال المصنف (4): والأقرب أن يكون ذلك قبل تقرر الشرع بتعميم
(أ) في ب: العمل.
(ب) في جـ: استقباح.
(جـ) في شرح ابن بطال: للخلطة.
_________
(1)
شرح مسلم 2/ 11.
(2)
شرح البُخاريّ 9/ 18.
(3)
الفتح 1/ 21، 22. وينظر شرح المشكل ح 1595، 1596.
(4)
الفتح 11/ 22.
السَّلام.
وقوله: "وصلوا الأرحام". تقدم الكلام قريبًا في صلة الرحم (1).
وقوله: " (أوتطعموا الطَّعام أ) ". ظاهره عموم الإطعام لمن يجب عليه إنفاقه، أو من يلزمه إطعامه ولو عرفًا وعادة، وكالصدقة على السائل للطعام وغيره، إذا أريد به العموم فالأمر محمول على فعل ما هو أولى من تركه؛ ليشمل الواجب والمندوب.
وقوله: "وصلوا بالليل واناس نيام". يحتمل أن يريد بها قيام الليل المندوب، أو ما يشمل صلاة العشاء الآخرة، فإنَّه كما جاء في الحديث (2):"إنكم تنتظرون صلاة (ب) ما انتظرها غيركم من أهل الأديان".
وقوله: "تدخلوا (جـ) الجنة بسلام". يعني أن هذه الخصال من أرجى ما ينال به الجنة، سالمين من جميع (د) مخاوف الآخرة، وإن كان لا بد من استكمال الواجبات واجتناب المحرمات، أو المراد أنها سبب للتوفيق لأداء غيرها من المشروعات، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (3). والله سبحانه وتعالى أعلم.
(أ- أ) لفظ الحديث: "وأطعموا الطَّعام".
(ب) في ب: لصلاة، وفي جـ: الصَّلاة. والمثبت من مصدر التخريج.
(جـ) في ب، جـ: تدخلون. والمثبت موافق لرواية البلوغ.
(د) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
تقدم ص 196 - 202.
(2)
مسلم 1/ 442 ح 639/ 220، بنحوه.
(3)
الآية 45 من سورة العنكبوت.
1292 -
وعن تميم الدَّارميّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: "الدين النصيحة". ثلاثًا. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". أخرجه مسلم (1).
هو أبو رقية تميم بن أوس بن (أ) خارجة بن سُود، بضم السِّين، بن (ب) جذيمة، بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة، بن ذراع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، وهو مالك بن عدي (2)، فهو منسوب إلى جده دار، قاله الجمهور. ووقعت نسبته الداري في رواية القعنبيّ وابن القاسم. وجاء في رواية يَحْيَى بن بكر "للموطأ"، الديري بالياء منسوب إلى دير كان تميم فيه قبل الإسلام، وكان نصرانيًّا، وذكر أبو الحسين الرازي (جـ) في كتابه "مناقب الشَّافعي" بإسناده الصَّحيح عن الشَّافعي النسبتين لتميم على ما ذكر، ومن العلماء من قال (3): إن نسبة الداري إلى دارين وهو مكان عند البحرين، وهو محل السفن، كان يجلب إليه العطر من الهند، وكذلك قيل للعطار: داري. ومنهم من قال: إن ديري منسوب إلى قبيلة. وهو بعيد شاذ، حكى القولين صاحب "المطالع"، وليس في "الصحيحين" و "الموطأ" داري ولا ديري إلَّا تميم، وكني بأبي رقية بابنة له لم يكن له من الولد غيرها،
(أ) ساقطة من: جـ.
(ب) في جـ: ثم.
(جـ) في جـ: الراوي. وينظر شرح مسلم 1/ 142، وكشف الظنون 3/ 1839.
_________
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان ألا يدخل الجنة إلَّا المؤمنون 1/ 74 ح 55.
(2)
تهذيب الكمال 4/ 326، والإصابة 1/ 367.
(3)
ينظر شرح مسلم 1/ 142، والأنساب 2/ 443.
أسلم سنة تسع وكان في جملة وفد الداريين مُنْصَرف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك، وكان يختم القرآن في ركعة، وربما ردد الآية الواحدة الليل كله إلى الصباح، سكن المدينة ثم انتقل منها إلى الشام بعد قتل عثمان إلى أن مات، وسكن بيت المقدس. وقيل: نزل بفلسطين. وهو أول من أسرج السَّرَّاج في المسجد (1)، وروي عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قصة الدجال والجساسة في خطبة فقال:"حدثني تميم الداري". وذكر القصة (2). وهذه منقبة لتميم، وهو داخل في رواية الأكابر عن الأصاغر، وروى عنه جماعة من التابعين، ولم يكن له في "صحيح مسلم" غير هذا الحديث، ولم يكن له في "صحيح البُخاريّ" شيء، وهذا الحديث المروي عنه هو العظيم الشأن.
قال جماعة من العلماء: إنه أحد الأربعة الأحاديث التي تجمع أمور الإسلام. قال الإمام محيي الدين النووي (3) رحمه الله تعالى: ليس الأمر كما قالوه، بل عليه مدار الإسلام، وتفصيل (أ) ذلك ما تسمعه إن شاء الله تعالى. قال الإمام أبو سليمان الخطابي (4) رحمه الله تعالى: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، ويقال: هو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة
(أ) في جـ: تحصيل.
_________
(1)
الطبراني 2/ 37 ح 1247.
(2)
مسلم 3/ 2265 ح 2942/ 122.
(3)
شرح مسلم 2/ 37.
(4)
معالم السنن 4/ 125.
أجمع لخير (أ) الدُّنيا والآخرة منه. قال: وقيل. النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب. قال: وقيل: إنَّها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع الخليط. قال: ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة، كقوله:"الحج عرفة"(1). أي عماده ومعظمه عرفة. قال النووي (2) رحمه الله تعالى: أما تفسير النصيحة وأنواعها، فقد ذكر الخطابي وغيره من العلماء فيها كلامًا نفيسًا أنا أضم بعضه إلى بعض مختصرًا؛ قالوا: أما النصيحة لله تعالى؛ فمعناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه تعالى عن جميع أنواع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والتلطف بجميع النَّاس أو من أمكن منهم عليها. قال الخطابي: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، والله تعالى غني عن نصح الناصح.
وأمَّا النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى، فالإيمان به بأنه كلام (ب) الله تعالى
(أ) في جـ: بخير.
(ب) في جـ: كتاب.
_________
(1)
التِّرمذيُّ 3/ 237 ح 889، والنَّسائيُّ 5/ 256، 264، 265.
(2)
شرح مسلم 2/ 38، 39.
وتنزيله، لا يشبه شيئًا من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد، ثم يعظمه ويتلوه حق تلاوته ويحسنها بالخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين، وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه (أوأمثاله أ)، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته.
وأمَّا النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًّا وميتًا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر شريعته ونفي التهمة عنها، و [استثارة](ب) علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها والتأدب عند قراءتها، والإمساك [عن](جـ) الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك.
وأمَّا النصيحة لأئمة المسلمين؛ فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم
(أ- أ) في ب: وامتثاله. وينظر شرح مسلم 2/ 38.
(ب) في ب، جـ: استنارة. والمثبت من مصدر التخريج. واستثار الشيء: بحثه واستقصاه. الوسيط (ث ور).
(جـ) في ب، جـ: من. والمثبت من مصدر التخريج.
يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب النَّاس لطاعتهم.
قال الخطابي: ومن النصيحة لهم الصَّلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم (أ) حيف أو سوء عشرة، وألا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح (ب). وهذا كله بناء على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور وحكاه أيضًا الخطابي ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين وأن من نصحهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم.
وأمَّا نصيحة عامة المسلمين، وهم من عدا ولاة الأمر، فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ودنياهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط
(أ) في جـ: فيهم.
(ب) في جـ: بالصلاة.
[هممهم](أ) إلى الطاعات، وقد كان في السلف رحمهم الله تعالى من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه، والله أعلم. هذا آخر ما تلخص في (ب) تفسير النصيحة. قال ابن بطال (1) رحمه الله تعالى في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول. قال: والنصيحة فرض كفاية يجزئ فيها من قام به ويسقط عن الباقين. قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنَّه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى فهو في سعة (جـ)، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
1293 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الحلق". أخرجه التِّرمذيُّ (2) وصححه الحاكم.
1294 -
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لا تسعون النَّاس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق". أخرجه أبو يعلى وصححه الحاكم (3).
(أ) في ب: همتهم.
(ب) في ب: من.
(جـ) في ب: سعة الله.
_________
(1)
شرح مسلم 2/ 38، 39.
(2)
التِّرمذيُّ، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق 4/ 319 ح 2004، والحاكم، كتاب الرقاق 4/ 354.
(3)
أبو يعلى 11/ 428 ح 710 ح 6550، والحاكم، كتاب العلم، 1/ 124.
1295 -
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه المؤمن". أخرجه أبو داود بإسناد حسن (1).
قوله: "أكثر ما يدخل الجنة (أ) ". الحديث فيه دلالة على عظم تقوى الله وحسن الخلق، وأمَّا تقوى الله سبحانه وتعالى؛ فلأنها الجامع لفعل الطاعات واجتناب المقبحات، فمن راعاها فقد استكمل العمل بشرائع الإسلام، وأمَّا حسن الخلق فهو كذلك وصف جامع لمحاسن العبادات والعادات، فكان الخصلتان من أعظم أسباب دخول الجنة، وفيه دلالة على أنَّه قد يدخل الجنة غيرهما من الأعمال إلَّا أنَّه قد يحمل الأكثر على الجميع إذا قيل: إن جميع الأعمال المقربة إلى دخول الجنة لا تخلو عن الخصلتين الشريفتين، وأمَّا إذا أريد أنَّه قد يدخل الجنة بغير عمل، كمن يدخل بالشفاعة، وكما في الصَّغير والمجنون، فـ "أكثر" مراد به (أ) معناه الحقيقي، ويدل بمفهومه أنَّه قليل ما يدخل الجنة بغيرهما، وقد تقدم الكلام قريبًا (2) في تحقيق حسن الخلق، وجاءت فيه أحاديث كثيرة، أخرج البُخاريّ (3):"إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا". وفي رواية له (4): "إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا". أخرج أبو يعلى (5) من حديث أنس يرفعه: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". وللترمذي
(أ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
أبو داود، كتاب الأدب، باب في النصيحة والحياطة 4/ 281 ح 4918.
(2)
تقدم ص 158 - 160.
(3)
البُخاريّ 10/ 456 ح 6035.
(4)
البُخاريّ ح 3559 بلفظ: "أحسنكم".
(5)
أبو يعلى 7/ 237 ح 1485.
وحسنه والحاكم (1) وصححه من حديث أبي هريرة: "أحسن النَّاس إسلامًا". ومثله لأحمد (2) بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة، وللترمذي (3) من حديث جابر يرفعه:"إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا". وأخرجه البُخاريّ في "الأدب المفرد"(4) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وللبخاري في "الأدب المفرد" وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك (5)، قالوا: يا رسول الله، من أحب عباد الله إلى الله؟ قال:"أحسنهم خلقًا". وفي رواية عنه: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: "خلق حسن". وقد تقدم حديث النواس بن سمعان، وهو عند البُخاريّ في "الأدب المفرد"(6)، وزاد التِّرمذيُّ فيه والبزار (7). "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة". وأخرجه أبو داود، وابن حبان، والحاكم (8) من حديث عائشة، والأحاديث في ذلك كثيرة.
(أ) التِّرمذيُّ 3/ 466 ح 1162، والحاكم 1/ 43.
(2)
أحمد 5/ 89.
(3)
التِّرمذيُّ 4/ 325 ح 2018.
(4)
الأدب المفرد 1/ 370 ح 272.
(5)
الأدب المفرد 1/ 388، 389 ح 291، وابن حبان 2/ 236 ح 486، والحاكم 1/ 121، 4/ 400، والطبراني 1/ 147 ح 471.
(6)
الأدب المفرد 1/ 394 ح 295.
(7)
التِّرمذيُّ 4/ 319 ح 2003، والبزار -كما في الكشف 2/ 407 ح 1975.
(8)
أبو داود 4/ 253 ح 4798، وابن حبان 3/ 229 ح 480، والحاكم 1/ 60.
وحكى ابن بطال (1) تبعًا للطبري (أ)، خلافًا هل هو غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال: إنه غريزة. بحديث ابن مسعود: "إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم". وهو عند البُخاريّ في "الأدب المفرد"(2). وقال القرطبي في "المفهم"(3): الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن [غلب](ب) عليه شيء منها، فإن كان محمودًا فهو الحسن، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتَّى يصير محمودًا، وكذا إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتَّى يقوى. وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنَّسائيُّ والبخاري في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان (4) أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:"إن فيك لخصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة". قال: يا رسول الله، قديمًا كانا في أو حديثًا؟ قال:"قديمًا"(جـ). قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما. وتقدم حديث الجنة وفيه: "ألا يسأل شيئًا
(أ) في جـ: للطبراني.
(ب) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من الفتح.
(جـ) في جـ: بل جبلت عليهما. وجاء في هامش ب ما يلي: الحديث في سنن أبي داود: انتظر المنذر بن الأشج حتَّى أتى عيبته، فليس ثوبيه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن فيك خلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله: أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ فقال: "بل الله جبلك عليهما". قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. من جامع الأصول. أ. هـ.
_________
(1)
شرط البُخاريّ 9/ 232.
(2)
الأدب المفرد 1/ 373 ح 275.
(3)
الفتح 10/ 459.
(4)
أحمد 3/ 22، والنَّسائيُّ في الكبرى 4/ 416 ح 7746، 5/ 83 ح 8306، والبخاري في الأدب المفرد 2/ 42 ح 584 - 586، وابن حبان 10/ 405، 406 ح 4541.
إلَّا أعطاه". فهو يدل على أن ذلك غَرِيزي، والله سبحانه أعلم.
وقوله في الحديث الثَّاني: "لا تسعون النَّاس بأموالكم". المراد بالسعة شمول النَّاس بإعطاء المال؛ لحقارة المال وكثرة النَّاس، وأن ذلك غير داخل في مقدرة البشر، وأمَّا شمول الأخلاق من البشر والطلاقة ولين الجانب وخفض الجناح، وغير ذلك، فذلك ممكن، وهو مخصص بمن يجب الإغلاظ عليه كالكافر ومرتكب المنكر الذي يحتاج إلى التخشين عليه، وعطف حسن الخلُق على بسط الوجه من عطف العام على الخاص.
وقوله: "المؤمن مرآة أخيه". يعني أن المؤمن لأخيه المؤمن كالمرآة التي ينظر فيها صورته ليطلع على ما فيها من قذى فيزيله، فشبه المؤمن بالمرآة لأخيه، وهو أنَّه إذا نظر فيه عيبًا نصحه ونبهه على إزالته، وقد أخرج الحديث أيضًا التِّرمذيُّ (1) وابن منيع، وهو داخل في حديث:"الدين النصيحة".
1296 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط النَّاس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط النَّاس ولا يصبر على أذاهم". أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن وهو عند التِّرمذيُّ إلَّا أنَّه لم يسم الصحابي (2).
الحديث فيه دلالة على فضيلة الصبر والعفو عن المظالم وكظم الغيظ، وهذه الخصال إنما تكون مع من يخالط النَّاس، ويقل حصولها مع من لا يخالط.
(1) الترمذي 4/ 287 ح 1929.
(2)
ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على النبلاء 2/ 1338 ح 4032، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (55) 4/ 572 ح 2507.
1297 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم أحسنت خَلْقي فحسِّن خُلُقِي". رواه أحمد وصححه ابن حبان (1).
قوله: "أحسنت خَلْقي". الخلق بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، المراد به ما عليه الجسم من الأبعاد وكيفية أوضاعها، وتحسينه؛ هو اعتدال أوضاعها وسلامته عن العيوب. فأمَّا حسن الخلق فقد مر الكلام قريبًا في تحقيقه (2)، وسؤاله صلى الله عليه وسلم ذلك إنَّما هو اعتراف نحو الربوبية وتواضع لإظهار العبودية، وإلا فهو مجبول على خلق كريم، وقد جمع الله سبحانه وتعالى له بين حسن الخَلق والخُلق، فما أسنى جماله وأبهاه، وما أعز جنابه وأحماه (أ)، فصل اللَّهم عليه وسلم صلاة ترفعه بها أعلى مقام وأسماه.
(أ) في جـ: واحماله.
_________
(1)
أحمد 1/ 403، وابن حبان 3/ 239 ح 959.
(2)
تقدم ص 158 - 160، 376 - 379.