المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجوب الصلاة وأدلة ذلك - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - من كتاب الصلاة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌وجوب الصلاة وأدلة ذلك

‌وجوب الصلاة وأدلة ذلك

مسألة: (روى عبادة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد أن شاء عذبه وأن شاء غفر له").

فالصلوات الخمس واجبة على كل مسلم بالغ عاقل إلا الحائض والنفساء.

أما عدد الصلوات المكتوبات وعدد ركعاتها في حق المقيم الآمن فهو من باب العلم العام الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله والمبين عنه معاني خطابه وتأويل كلامه الشارع عن الله بإذنه وبما انزل إليه من الكتاب والحكمة.

وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مثل الحديث الذي ذكره الشيخ رحمه الله وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وعن طلحة ابن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله اخبرني ماذا فرض الله علي من الصلوات قال: "الخمس إلا أن تطوع شيئا" فقال اخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام فقال: "شهر رمضان إلا أن تطوع" فقال: اخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة قال فاخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا انقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح أن صدق أو دخل الجنة أن صدق" متفق عليه.

ص: 33

وعن أنس بن مالك قال: "فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة اسري به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسا ثم نودي يا محمد أنه لا يبدل القول لدي وأن لك بهذه الخمس خمسين" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.

ومعناه في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة وغيره مثل حديث معاذ بن جبل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" وحديث ضمام بن ثعلبة وهي واجبة على كل مسلم بالغ لأن هذه شروط التكليف بالشرائع على أي حال كان من صحة أو سقم أو خوف أو إقامة أو سفر والأدلة الدالة على وجوبها في هذه الأحوال عموما وخصوصا كما تذكر أن شاء الله تعالى.

إلا الحائض والنفساء لما سبق في باب الحيض أن الحائض لم تكن تؤمر بقضاء الصلاة.

فأما المستحاضة ومن به سلس البول فتجب عليهما ويجب عليهما قضاء ما تركاه منها كما تقدم.

ص: 34

فصل.

فأما الكافر الأصلي فإنها تجب عليه في أشهر روايتين.

بمعنى أنه يعاقب على تركها في الآخرة وفي الدنيا إذا شاء الله تعجيل عقوبته ويذم على ذلك في الدنيا والآخرة.

فأما في حال كفره فلا تصح منه وإذا اسلم لم يجب عليه القضاء باتفاق لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وعن عمرو بن العاص قال: " لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يدك فلأبايعك فبسط يمينه قال فقبضت يميني فقال: "ما لك يا عمرو" فقلت: "أردت أن اشترط" فقال: تشترط ماذا قلت يغفر لي قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله" رواه مسلم.

وفي لفظ لأحمد: "الإسلام يجب ما قبله" وقوله: الإسلام يهدم ما قبله من ترك الواجبات وفعل المحرمات بخلاف الهجرة والحج فإنهما يهدمان ما فعل من إثم فما بين العبد وبين الله تعالى دون ما ترك من واجب يقضى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا ممن اسلم أن يقضي صلاة ولا

ص: 35

صوما ولا زكاة ولا يأخذه بضمان دم ولا مال ولا بشيء من الأشياء وهذا لأن الكافر كان منكرا للوجوب وللتحريم فكان الفعل والترك داخلا في ضمن هذا الاعتقاد الباطل وفرعا له فلما تاب من هذا الاعتقاد وموجبه غفر الله له الأصل وفروعه ودخلت هذه الفروع فيه في حال المغفرة كما دخلت فيه في حال المعصية بخلاف من تركه معتقدا للوجوب فإن الترك هناك غير مضاف إلى غيره بل إلى كسل فالتوبة منه بالنشاط إلى فعل ما ترك ولأن تخلل المسقط بين زمني الوجوب والقضاء لا يسقط الواجب كما لو ترك صلاة ثم حصل جنون أو حيض ثم حصل الغسل والطهارة فإنه يجب القضاء.

ولا يخاطب الكافر بفعلها إلا بعد أن يسلم لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" رواه الجماعة.

ص: 36

وأما الكافر المرتد فالمشهور أنه يلزمه قضاء ما تركه قبل الردة من صلاة وزكاة وصوم ولا يلزمه قضاء ما تركه في زمن الردة وهذا هو المنصوص عنه في مواضع مفرقا بين ما تركه قبل الردة وبعدها.

وحكي ابن شاقلا رواية أنه لا يلزمه شيء من ذلك بناء على أن الردة تحبط العمل لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالآيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ولأن الكفر الطارئ يهدم ما كان قبله من الصالحات كما أن الإيمان الطارئ يهدم ما كان قبله من السيئات والقضاء إنما يراد به جبر ما حصل به من الخلل في العمل فإذا حبط الجميع فلا معنى لجبره مع ظاهر قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} .

ص: 37

وعنه رواية أخرى أنه يلزمه قضاء الجميع أما قبل الردة فلوجوبه عليه وأما ما بعد الردة فلأنه التزم حكم الإسلام فلا يقبل منه الرجوع عنه كالمسلم إذا تركها عامدا ولهذا يضمن ما أتلفه في حال الردة من دية أو مال على المنصوص ولهذا لا يقر على دينه بغير جزية ولا فرق.

فإذا لم يقر على الاعتقاد لم يقر على موجبه وهو الترك فيكون مطالبا بالفعل في الدنيا ولأن الدليل يقتضي وجوبها على كل حال وإنما عفي للكافر الأصلي عن القضاء لأن مدة الترك تطول غالبا وقد كان على دين يعتقد صحته ولم يعتقد بطلانه وهو مع ذلك مقر عليه يجوز أن يهادن ويؤمن وأن يسترق ويعقد له الجزية أن كان من أهل ذلك بخلاف المرتد.

ووجه المشهور أن ما تركه قبل الردة قد وجب في ذمته واستقر فلا يسقط بعد ذلك بفعله لو كان مباحا فكيف يسقط بالمحرم ولأنه ترك صلاة يخاطب بفعلها ابتداء فخوطب بقضائها كالنائم والناسي وأولى ولأن تخلل المسقط بين زمن الوجوب والقضاء لا يسقط الواجب كما لو ترك الصلاة ثم حصل جنون أو حيض ثم حصل العقل والطهارة فإنه يجب القضاء.

وأما حبوط عمله بالردة فقد منع ذلك بعض أصحابنا وقالوا الآيات فيمن مات على الردة بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} والإطلاق في الآيات البواقي لا يمنع ذلك لأن كل عقوبة مرتبة على كفر فإنها مشروطة

ص: 38

بالموت عليه.

فإن قيل التقييد في هذه الآية بالموت على الكفر إنما كان لأنه مرتب علي شيئين وهو حبوط العمل والخلود في النار.

والخلود إنما يستحقه الكافر وتلك الآيات إنما ذكر فيها الحبوط فقط فعلم أن مجرد الردة كافية.

قلنا قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالآيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} لا يكون إلا لمن مات مرتدا لأن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وهذا ليس لمن مات على عمل صالح لأنه إذا عاد إلى الإسلام فقد غفر له الارتداد الماضي لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا زال الذنب زالت عقوباته وموجباته وحبوط العمل من موجباته يبين هذا أنه لو كان فعل في حال الردة ما تقتضيه الردة من شتم أو سب أو شرك لم يقم عليه إذا اسلم ولأن الكافر الحربي لو تقرب إلى الله بأشياء ثم ختم له بالإسلام لكانت محسوبة له بدليل ما روى حكيم ابن حزام قال: "قلت: يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلاة وعتاقة وصلة هل فيها من اجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما سلف لك من خير" متفق عليه فإذا كان الكفر المقارن

ص: 39

للعمل لا يحبط إلا بشرط الموت عليه فإنه لا يحبط الكفر الطارئ إلا بشرط الموت أحرى وأولى لأن بقاء الشيء أولى من ابتدائه وحدوثه والدفع أسهل من الرفع ولهذا قالوا الردة والإحرام والعدة تمنع ابتداء النكاح دون دوامه كيف وتلك الأعمال حين عملت عملت لله سبحانه وقد غفر الله ما كان بعدها من الكفر بالتوبة منه.

ومن أصحابنا من قال يحبط العمل مطلقا لكن قال الإحباط هو إحباط الثواب لا إبطال العمل في نفسه بدليل أنه لا ينقض ما قبل الردة من الأمور المشروطة بالإسلام كالحكم والولاية والإرث والإمامة والذبح فلا تبطل صلاة من صلى خلفهم ولا يحرم ما ذبحه قبل الردة ولا يلزم من بطلان ثوابه مما فعله سقوط الواجب الذي لم يفعله فإن الردة تناسب التشديد لا التخفيف.

ثم نقول فعل المكتوبة له فائدتان إحداهما: أنه يقتضي الثواب.

والثانية: أنه يمنع العقاب الواجب بتقدير الترك فإذا ارتد ذهبت فائدة واحدة وهي الثواب وبقيت الأخرى وهي منع العذاب على الترك بحيث لا يعذب من فعل ويحبط عمله على نفس ما فعله من الخير وإنما يعذب على الكفر المحبط كما يعذب من لم يفعل وهذا الخلل يتعين جبره وإلا عوقب على الترك وهذا معنى ما يجيء في كثير من الأعمال الواجبة أنها غير مقبولة أي لا ثواب فيها وأن أبرأت الذمة بحيث لولا الفعل لكان مكلفا ولولا السبب المانع من القبول لكان فيها ثواب ولهذا قلنا إذا أتى قبل الردة ما يوجب الحد من زنى أو سرقة وغيرهما فإنه يقام عليه الحد بعد الإسلام الثاني نص عليه بخلاف من أقيم عليه الحد قبل

ص: 40

الردة فإنه لا يقام عليه الحد ثانية فلو فرضنا أن لا فائدة أصلا فيما فعله قبل الردة فإنما ذلك فيما يفعله دون ما يوجب عليه ولم يفعله فإنه الآن قادر على فعله على وجه يبرئه فيجب عليه كما يجب عليه قضاء الحقوق التي كانت واجبة قبل الردة ويثاب على قضائها وأن كان قد بطلت فائدة ما قضاه قبل الردة.

وأما ما قبل الإسلام فإنه لم يخاطب به ابتداء وإنما يخاطب أولا بالإسلام فلا يجب قضاؤه كالكافر الأصلي فإن الموجب للسقوط في أحدهما: موجود في الآخر وقد ارتد جماعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ومكث منهم طائفة على الردة برهة من الدهر ولم ينقل أن أحدا منهم أمر بالقضاء ولأن الترك هنا كان في ضمن الاعتقاد فلما غفر له الاعتقاد غفر له ما في ضمنه ولأن إيجاب القضاء هنا قد يكون فيه تنفير عن الإسلام لا سيما إذا كثرت أعوام الردة وكانت الأموال كثيرة فإنه قد يعجز عن القضاء فيصر على الكفر فرارا من القضاء.

فأما ما فعله قبل الردة فلا يجب عليه قضاؤه بحال لأن الذمة برئت منه حتى الحج في إحدى الروايتين.

وعنه إيجاب قضاء الحج فمن أصحابنا من علل ذلك بأن العمل الماضي حبط بالردة فيجب عليه ما يجب على الكافر الأصلي فعلى هذا يجب إعادة ما صلى إذا اسلم ووقته باق وهذه طريقة ابن شاقلا وأبي الخطاب وغيرهما.

ص: 41

وقال القاضي والآمدي وأكثر أصحابه مثل الشريف أبي جعفر يجب إعادة الحج مع القول بأن العمل لم يحبط لأن هذا إسلام جديد والإسلام مبني على خمس فلا بد فيه من جميع المباني بخلاف ما تكرر وجوبه من الصلاة والزكاة والصوم ولأن الاحتساب له بذلك الحج لا يمنع أن يجب عليه حج ثان بالإسلام كالكافر الحربي لو حج ثم أسلم لزمه حج ثان مع أن ذلك الحج محسوب له وكذلك العبد والصبي لو حجا قبل الوجوب كتب لهما ثوابه ثم يلزمهما بالوجوب حج ثان.

وإذا اسلم لزمه قضاء ما تركه بعد الإسلام وأن لم يعلم وجوبه.

فصل.

وأما المجنون فلا يجب عليه قضاء على ما في ظاهر المذهب نص عليه في رواية صالح وأبي داود وغيرهما.

وقد روى حنبل عنه أن المجنون يقضي الصلاة والصيام إذا أفاق كالمغمى عليه.

وحمله بعض أصحابنا على الجنون العارض دون المطبق لقرب شبهه بالإغماء.

ص: 42

وقال في رواية أنه يحتمل الحال كالمبرسم بعد الصلاة وأن طال ذلك شهرا أو أكثر.

والأول هو المذهب لما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وهذا الحديث ينفي القضاء والأداء لكن وجب القضاء على النائم لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فبقي المجنون على الإطلاق كالصبي.

وأما من زال عقله بغير جنون فيجب عليه القضاء سواء كان السبب مباحا أو محرما من فعله أو من غير فعله كالسكران ببنج أو خمر والنائم والمغمى عليه لمرض أو شرب دواء أو غير ذلك.

وقال القاضي أن كان الإغماء بشرب دواء مباح لم يجب القضاء لأنه

ص: 43

لو وجب القضاء لامتنع من شرب الدواء بخلاف إغماء المريض.

والمباح هو ما تحصل معه السلامه في اغلب الأحوال وأن كان سما في أقوى الوجهين.

وفي الآخر لا يجوز شرب السم بحال.

والأول المذهب لأنها عبادة تسقط بالإغماء.

وقيل أن كان عقله يزول بالدواء ويطول فهو كالمجنون وأن كان لا يدوم كثيرا فهو كالإغماء في الصيام وسائر العبادات.

قال الإمام أحمد أغمى على عمار بن ياسر ثلاثا وروي نحو ذلك عن سمرة بن جندب وعمران بن حصين وهذا لأن هذه الأسباب هي بين محرم لا يعذر في شربه وبين مباح تقصر مدته غالبا فأشبه النوم ويفارق الجنون فإنه يطول غالبا وينافي أهلية التكليف ويوجب الولاية على صاحبه ولا يجوز على الأنبياء ولأن الإغماء والنوم ونحوهما يزيل الإحساس الظاهر والعقل الظاهر وإلا فيجوز أن يرى رؤيا ويوحي إليه في حال نومه وإغمائه ويكون زوال العقل تبعا لزوال حس الظاهر بخلاف المجنون فإن حسه وإدراكه باق والعقل زائل فهو في ذلك ليس كالنائم ولهذا النائم والمغمى عليه يندر منهما القول والعمل بخلاف المجنون.

ص: 44

فصل.

وأما الصبي فلا تجب عليه في أشهر الروايتين.

وعنه أنها تجب عليه إذا بلغ عشرا اختارها أبو بكر والتميمي لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع" رواه أحمد وأبو داود وعن سبرة الجهني قال قال رسول الله: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن فقد أمر بالعقاب على تركها وما يعاقب على ترك شيء إلا الواجب لا سيما مع رأفة

ص: 45

النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته ولأنه يفهم الأمر ويقدر على الامتثال فوجب عليه كالبالغ وهذا لأن عمدة الوجوب إنما هي العقل الذي به يعلم والقدرة التي بها يفعل وكلاهما موجود ولأن العشر مظنة الاحتلام وأول سببه فجاز أن تقوم مقامه ويحمل حديث رفع القلم على ما يفعله من الذنوب لا على ما يتركه من الواجب ويؤيد هذا أن المأمورات تصح منه فجاز أن تجب عليه ولهذا صح منه الإسلام وهو يلزم لأحكام كثيرة في الدنيا والآخرة وأما المنهيات فإنها تقع منه باطلة إذا كانت تقبل البطلان فلا تحرم عليه ولهذا لا تصح تصرفاته بغير إذن من نكاح وبيع وهبة ويقع كفره وقذفه وزناه وسرقته غير موجب للحد والعقوبة ومن قال هذا صحح إسلامه دون ردته كإحدى الروايات وهذا لأن فعل البر أسهل من ترك الإثم ولهذا قال سهل بن عبد الله أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن الآثام إلا صديق ومن قال هذا التزم وجوب الصيام إذا أطاقه.

فأما الحج فلا يجب عليه قبل الاحتلام قولا واحدا لقوله: "أيما صبي حج به أهله ثم احتلم فعليه حجة أخرى" وهذا يروى مرسلا وموقوفا عن

ص: 46

ابن عباس وكذلك لو بلغ بالسن أو الإنبات ولم يحتلم لم يجب عليه ولو حج بعد البلوغ بالسن ثم احتلم لزمه إعادة الحج في رواية منصوصة على ظاهر الحديث الوارد فيه ولأن السن والإنبات ليس هو حقيقة الإدراك لأن الله إنما علق الأحكام ببلوغ الحلم بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} وقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم" لكن لما كان بلوغ الحلم خفيا عن غير المحتلم وكان ذلك غالبا يكون مع بلوغ خمسة عشر وإنبات شعر العانة جعل مظنته علامة قائمة مقامه في الأحكام التي تتعلق بغير هذا البالغ من الحدود والقصاص والجهاد والحجر وغير ذلك إذ كانوا لا يطلقون على الحقيقة غالبا فأما ما بينه وبين الله فإنه يعلم وقت احتلامه ولأن هذه الأمور تتكرر قبل الاحتلام وبعده فجاز أن يجعل ما يقارب الاحتلام في حكمه احتياطا وعموما بخلاف الحج فإنه لا يتكرر ولأنه احرم لحجه قبل الاحتلام لكان قد فعل الحج قبل كمال قواه وبلوغ أشده ولذلك يعيده إذا بلغ.

والرواية الأخرى اختيار أكثر أصحابنا حتى جعلها القاضي رواية واحدة وكذلك ابن بطة تأول الرواية الأولى لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع

ص: 47

القلم عن الصبي حتى يحتلم" وهذا يعم حكم الإثم الحاصل بفعل محرم أو ترك واجب كما شاركه في ذلك المجنون ولأنها عبادة بدنية فلم تجب قبل البلوغ كالحج والجهاد وهذا لأن الصبي في الأصل لما كان مظنة نقص العقل وضعف البنية جعل الشرع بلوغ الأشد حدا للتكليف لأن مظنة استكمال شرائطه غالبا ولأنها لو وجبت عليه لقتل بتركها كالبالغ ولكان الإمام هو الذي يقيم عليه الحد ولم يكتف بضربه ولم يفوض ذلك إلى الوالي وبهذا يعلم أن ضربه عليها ليتمرن عليها ويعتادها وقد يجب لمصالحه وأن لم تكن واجبة عليه كما تضرب البهيمة تأديبا لها ودواء وكما يضرب المجنون لذلك وكان ابن عباس يقيد عكرمة على حفظ القرآن والسنة وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم مم اضرب يتيمي قال مما كنت ضاربا منه ولدك وكما يضرب على الكذب وفعل المحرمات ليكف عنها ويعتاد تعظيم المحرمات وأن كان قلمه مرفوعا إجماعا.

وعلى الروايتين فيؤمر بها إذا بلغ سبع سنين.

قال أصحابنا: ويهدد على تركها ويضرب عليها إذا بلغ العشر كما في الحديث وذلك واجب على وليه وكافله نص عليه وكما تقدم في

ص: 48

الحديث فإن الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب وقد قال الله تعالى: {وأَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال علي عليه السلام علموهم وأدبوهم.

وإهمال ذلك سبب مصيره إلى النار ولأن هذا من مصالحه فوجب مراعاته كما يجب حفظ ماله ومنعه من جميع الفواحش والمعاصي ويؤمر مع ذلك بالطهارة ونحوها مما يشترط للصلاة لأن الصلاة لا تصح بدونها.

فإن بلغ في أثناء الوقت لزمته الصلاة وأن كان قد صلاها أو هو فيها لأنها حينئذ وجبت عليه وما تقدم كان نفلا فلم يمنع الإيجاب كما لو حج قبل البلوغ ثم بلغ.

ولو بلغ في أثنائها ثم خرج الوقت لم تجب عليه لزوال وقت الوجوب هذا هو المذهب المنصوص حتى لو احتلم في أثناء الليل وقد صلى المغرب والعشاء أعادهما نص عليه.

ولو قيل إنه صلاها مرة لم تجب عليه ثانية لكان وجيها لأن تعجيل الصلاة والزكاة قبل وجوبها إذا كان مشروعا منع الوجوب كما لو صلى الثانية من المجموعتين في وقت الأولى أو فعل الجمعة قبل

ص: 49

الزوال وكذلك لو عجل زكاة ماله قبل وجوبه والنفل قد يمنع وجوب الفرض كما لو صلى العيد أول النهار سقطت عنه الجمعة ولأن العادة الغالبة أن الصبيان يحتلمون بالليل ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يؤمرون بإعادة المغرب والعشاء.

ص: 50