المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة: (فإن تركها تهاونا استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل) - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - من كتاب الصلاة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌مسألة: (فإن تركها تهاونا استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل)

‌مسألة: (فإن تركها تهاونا استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل)

أما ترك الصلاة في الجملة فإنه يوجب القتل من غير خلاف لأن الله تعالى قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فأمر بالقتل مطلقا واستثنى منه ما إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فمن لم يفعل ذلك بقي على العموم ولأنه علق تخلية السبيل على ثلاثة شروط والحكم المعلق بشرط ينعدم عند عدمه ولأن الحكم المعلق بسبب عرف أنه يدل على أن ذلك السبب علة له فإذا كان علة التخلية هذه الأشياء الثلاثة لم يجز أن تخلى سبيلهم دونها ولا يجوز أن يقال إقامة الصلاة هنا المراد له التزامها فإن تخليتهم بعد الالتزام وقبل الفعل واجبة لأنا نقول المراد به التزامها وفعلها لأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حقيقة الفعل والالتزام إنما يراد له فإذا التزموا ذلك خليناهم تخلية مراعاة فإن وفوا بما التزموا وإلا أخذناهم وقتلناهم وإنما خليناهم بنفس الالتزام لأنه أول أسباب الفعل كما يخلى من أراد الوضوء والطهارة فإن أتم الفعل وإلا أخذ وحتى لو قيل فإن فعلوا الصلاة فخلوا سبيلهم وأن لم يفعلوها فاقتلوهم ثم قال ألتزم لم يجب تخلية

ص: 60

سبيلهم كما في آية الجزية فإنه مد قتالهم إلى حين الإعطاء فإذا التزموا الإعطاء فهو أول الأسباب بمنزلة الشروع في الفعل فإن حققوا ذلك وإلا قتلناهم ولأنه لو كان المراد مجرد الالتزام وأن عري عن الفعل لم يكن بين الصلاة والزكاة وغيرهما فرق إذ من لم يلتزم جميع الإسلام فإنه يقاتل وأيضا فإن الالتزام قد لا يحصل لقوله: {فَإِنْ تَابُوا} فإن التائب من الكفر لا يكون تائبا حتى يقر بجميع ما جاء به الرسول ويلتزمه ولأن الالتزام أن أريد به اعتقاد الوجوب والإقرار به فليس في اللفظ ما يدل على أنه المراد وحده وأن أريد به الفعل والوعد به فهذا لا يجب إلا إذا وجب قتلهم بالترك وإلا فلو كان قتلهم بالترك غير واجب وقالوا نحن نعتقد الوجوب ولا نفعل لحرم قتلهم وهذا خلاف الآية وأيضا مما هو دليل في المسألة وتفسير للآية ما أخرجاه في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" وليس في لفظ مسلم إلا بحق الإسلام وعن أنس بن مالك قال: "لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال عمر يا أبا بكر كيف تقاتل العرب فقال أبو بكر إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" رواه النسائي فهذا يدل على أن

ص: 61

القتال مأمور به إلى أن يوجد فعل الصلاة والزكاة إذ لو كان مجرد الاعتقاد كافيا لاكتفى بشهادة أن محمدا رسول الله فإنها تنتظم بصدقه بجميع ما جاء به ولم يكن لتخصيص الصلاة والزكاة بالاعتقاد دون غيرهما معنى ثم قوله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم دليل على أن العصمة لا تثبت إلا بنفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع الشهادتين ثم فهم أبو بكر رضي الله عنه منه حقيقة الإتباع بموافقة الصحابة له على ذلك حتى قال لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ولم يقل على جحدها وتعميمه من منعها جاحدا أو معترفا دليل على أن الفعل مراد.

فإن قيل فقد روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" متفق عليه.

قلنا هذا الخبر قد روي فيه::ح تى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ثم قد حرم دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله" رواه ابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه فهذا المقيد يقضي على ذلك المطلق ثم لو كان قد قيل مفردا فإن الصلاة والزكاة من حقها كما قال الصديق لعمر ووافقه عمر وسائر الصحابة على ذلك

ص: 62

ويكون صلى الله عليه وسلم قد قال كلا من الحديثين في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله" ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها وجب الكف عنه وصار دمه وماله معصوما ثم بين في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين ليعلم أن تمام العصمة وكمالها إنما تحصل بذلك ولئلا تقع الشبهة فإن مجرد الإقرار لا يعصم على الدوام كما وقعت لبعض الصحابة حتى طلاها الصديق ثم وافقه وتكون فائدة ذلك أنه إذا قال لا اله إلا الله كان قد شرع في العاصم لدمه فيجب الكف عنه فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه: "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فساره فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أليس يشهد أن لا اله إلا الله قال الأنصاري بلى يا رسول الله ولا شهادة له فقال أليس يشهد أن محمدا رسول الله قال بلى ولا شهادة له قال أليس يصلي قال بلى ولا صلاة له قال أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" رواه الشافعي واحمد في مسنديهما ولو كانت الشهادتان موجبة للعصمة مع ترك الصلاة لم يسأل عنها ولم يسقها مع الشهادتين مساقا واحدا وقوله بعد ذلك: " أولئك الذين نهاني الله عن

ص: 63

قتلهم يوجب حصر الذين نهي عن قتلهم في هذا الصنف وعن أبي سعيد في حديث الخوارج فقال ذو الخويصرة التميمي للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله اتق الله فقال: "ويلك الست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" قال ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله إلا اضرب عنقه فقال: "لا لعله أن يكون يصلي" قال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم" رواه مسلم فلما نهى عن قتله وعلل ذلك باحتمال صلاته علم أن ذلك هو الذي حقن دمه لا مجرد الإقرار بالشهادتين فإنه قد قال يا رسول الله ومع هذا لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وحده موجبا لحقن الدم وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برىء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فقالوا يا رسول الله إلا نقاتلهم فقال لا ما صلوا" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ولأن الصلاة أحد مباني الإسلام الخمسة فيقتل تاركها كالشهادتين.

وعلى هذه الطريقة يقتل تارك المباني الثلاثة.

أما الزكاة فإذا غيب ماله ولم يقدر على أخذها منه.

وأما الصيام فيقتل إذا امتنع منه.

ص: 64

وأما الحج فإذا عزم على الترك بالكلية أو قال لا أحج أبدا بعد وجوبه عليه أو آخره إلى عام يغلب على ظنه موته قبله وهو إحدى الروايتين.

والرواية الأخرى لا يقتل بالحج لأن وجوبه على التراخي عند بعض العلماء ولا بالصيام لأنه يمكن استيفاؤه منه بأن يحبس في مكان ويمنع الأكل والشرب ولأن الآية والأحاديث إنما هي في الصلاة والزكاة ولأن الصلاة تشبه الشهادتين من حيث لا يدخلها الإنسان بنفس ولا مال.

ص: 65

فصل ولا يجوز قتله حتى يدعا إليها فيمتنع لأنه قد يتركها لعذر أو لشبهة عذر أو لكسل يزول قريبا ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة خلف الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها نافلة ولم يأمر بقتلهم ولا قتالهم حيث لا يصرون على الترك وأما التأخير فإذا دعي فامتنع من غير عذر في وقت تحقق على الترك.

ويقتل بإصراره على ترك الصلاة واحدة في أشهر الروايتين.

وعنه لا يقتل إلا بترك ثلاث لأن الموجب الترك عن إصرار وربما كان له عذر وكسل في الصلاة أو الصلاتين فإذا تكرر الترك بعد الدعاء إلى الفعل علم أنه إصرار وروى إسحاق بن شاقلا يقتل بترك الواحدة إلا إذا كانت أولى المجموعتين وهي الظهر أو المغرب فلا يقتل حتى يخرج وقت الثانية لأن وقتها وقت الأولى في حال الجمع فصار شبهة.

وجه الأول ما تقدم من الأحاديث فإنها مطلقة وروى معاذ بن جبل

ص: 66

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله" رواه أحمد ولأنه إذا دعي إليها في الوقت فقال لا أصلي ولا عذر له فقد ظهر إصراره فيجب قتله زجرا له وحملا على الفعل إذ ليس في تقدير ذلك نص ولا إجماع ولا قياس صحيح واحتمال عوده يقتضي تأخير استيفاء القتل دون عصمة الدم كالمرتد.

فصل.

المنصوص عن أحمد أنه يقتل بترك صلاة واحدة أو بترك ثلاث صلوات.

فمن أصحابنا من اقر ذلك على ظاهره فقال إذا دعي في وقت الأولى فلم يصلها حتى فاتت وجب قتله قال وإنما اعتبر أصحابنا أن يضيق وقت الثانية في موضع دعي إلى الصلاة بعد فوت الأولى وقد صارت فائتة ولا يقتل بترك الفائتة وإنما يقتل في تلك الصورة بترك الثانية وهذا ينتقض باعتبارهم ضيق وقت الرابع: ة مع أنهم ذكروا ذلك إذا دعي في وقت الأولى أيضا وعلى مقتضى هذا القول أنه إذا ضاق وقت الأولى وجب قتله.

وقال بعضهم: بل يقتل بترك الأولى وأن كانت فائتة وكذلك يقتل بترك كل فائتة وقال كثير منهم بل لا بد أن يضيق وقت الثانية والرابعة

ص: 67

والقتل عندهم وجب بترك الثانية مع ترك الأولى لأننا نستدل على ترك الثانية بترك الأولى وبتحقق الترك لأن ترك الأولى لا يتحقق حتى يفوت الوقت فتصير فائتة فلا يقتل بها وحدها فإذا ضاق وقت الثانية تحقق الدوام على الترك وهذا كما قلنا في الوعيد أنه ليس بإكراه فإذا عذب ولم يفعل المكره عليه ثم توعد صار إكراها معصوما إلى العذاب الأول.

وقد أشار أحمد إلى هذا فقال إذا ترك الفجر عامدا حتى وجبت عليه أخرى فلم يصلها يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.

وكذلك الأحكام لا يمكن تعلقها بالماضي فإنه فائت ولا بالمستقبل لأنه مظنون فلا تعلق به وإلا أفضى إلى تبطيلها وقد صرح بعض من سلك هذه الطريقة أنه لا بد أن يترك التي دعي في وقتها ويضيق وقت الثانية إلغاء لما تركها قبل الدعاء.

ومنهم من أطلق الترك وهو ظاهر كلام أحمد وإذا دعي إليها فامتنع أن يصليها في الوقت وترك الصلاة بعد خروج الوقت قتل أيضا ذكره بعض أصحابنا وحكم بكفره على الترك.

فصل.

فإذا ترك صلاة عمدا ودعي في وقت الثانية ولم يفعلها حتى ضاق الوقت قتل فصارت ثلاثة أوجه إذا قلنا لا يقتل إلا بترك فائتة.

والأشبه أنا إذا قلنا لا يقتل إلا بترك ثلاث لم يعتبر ضيق وقت الرابع: ة وأن قلنا يقتل بواحدة اعتبر ضيق وقت الثانية لأنه قال في إحدى

ص: 68

الروايتين إذا ترك صلاة وصلاتين ينتظر عليه لكن إذا ترك ثلاث صلوات.

قال في الأخرى إذا ترك الفجر عامدا حتى وجبت عليه أخرى ولم يصلها يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وسواء كان الترك قبل دعائه أو بعد دعائه.

لكن لا يباح إلا بعد دعائه وامتناعه إذا ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها ويدخل وقت غيرها.

والثانية إذا ترك صلاتين.

والثالثة إذا ترك ثلاث صلوات حتى تخرج أوقاتها.

ص: 69

مسألة: (ويستتاب بعد وجوب قتله كما يستتاب المرتد ثلاثا نص عليه).

وهل الاستتابة واجبة أو مستحبة على روايتين.

ويقتل بالسيف ضربا في عنقه لأن ذلك هو الواجب في قتل المقدور عليه من الآدميين والبهائم كالأسير وقاطع الطريق والمرتد فأما العجوز عنه منهما فيقتل كيف أمكن لأن هذه القتلة أهون على المقتول وأوحى لزهوق النفس.

والأصل في ذلك ما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" رواه أحمد ومسلم وقال عليه السلام: "إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان" وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة ولهذا مواضع غير هذا.

ص: 70

فصل.

ويقتل لكفره في إحدى الروايتين.

وفي الأخرى يقتل كما يقتل الزاني والمحارب مع ثبوت إسلامه حدا محضا وهي اختيار ابن بطة وقال هذا هو المذهب وأنكر خلاف هذا لما روى عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق ادخله الله الجنة على ما كان من العمل" وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ قال لبيك يا رسول الله وسعديك قال ما من عبد يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله أفلا أخبر الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا واخبر بها

ص: 71

معاذ عند موته تأثما" متفق عليهما ولما تقدم من حديث عبادة وقوله: "من لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد أن شاء عذبه وأن شاء غفر له" وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة وقال: "دعوت لأمتي وأوجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم تركوا الصلاة فقال أبو ذر يا رسول الله إلا ابشر الناس فقال بلى فانطلق فقال عمر انك أن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا عن العبادة فناداه أن ارجع فرجع والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وأن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} " رواه أحمد وهذا سياقه ورواه النسائي وابن ماجة ولأن الصلاة عمل من أعمال الجوارح فلم يكفر بتركه كسائر الأعمال المفروضة ولأن من أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل السنة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل بخلاف ما عليه الخوارج وإنما الكفر بالاعتقادات وقد روى أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا اله إلا الله لا يكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقاتل أمتي الدجال لا

ص: 72

يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار" رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد في روايه ابنه عبد الله وتارك الصلاة مع إقراره بالوجوب صحيح الاعتقاد فلا يكفر.

والرواية الأولى اختيار أكثر الأصحاب مثل أبي بكر وابن شاقلا وابن حامد القاضي وأصحابه وهو المنقول عن جماهير السلف لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} .

فعلق الإخوة في الدين على التوبة من الشرك وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمعلق بالشرط ينعدم عند عدمه فمن لم يفعل ذلك فليس بأخ في الدين ومن ليس بأخ في الدين فهو كافر لأن المؤمنين إخوة مع قيام الكبائر بهم بدليل قوله في آية المقتتلين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} مع أنه قد سمى قتال المؤمن كفرا ولما روى جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي وفي رواية لمسلم بين الرجل وبين الشرك ترك

ص: 73

الصلاة وفي رواية صحيحة لأحمد ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة وعن بريدة الاسلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وهو على شرط مسلم وعن ثوبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد أشرك" رواه هبة الله الطبري وقال إسناد صحيح على شرط مسلم وعن عبادة بن الصامت قال أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشركوا بالله شيئا ولا تتركوا الصلاة تعمدا فمن تركها تعمدا فقد خرج من الملة" رواه ابن أبي حاتم في سننه ونحوه من حديث معاذ وأبي الدرداء وقال الإمام أحمد في رسالته رسالته في الصلاة جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون منه

ص: 74

الصلاة" قال الإمام أحمد كل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه وعن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" رواه الترمذي وصححه ومتى وقع عمود الفسطاط وقع جميعه ولم ينتفع به ولأن هذا إجماع الصحابة قال عمر رضي الله عنه لما قيل له وقد خرج إلى الصلاة نعم: "ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وقصته في الصحيح" وفي رواية عنه: "قال لا إسلام لمن لم يصل" رواه النجاد وهذا قاله بمحضر من الصحابة وقال علي

ص: 75

عليه السلام: "من لم يصل فهو كافر" رواه البخاري في تاريخه وذكر ابن عبد البر مثله عن أبي الدرداء وابن عباس وجابر وقال عبد الله بن مسعود: "من ترك الصلاة فهو كافر" وفي رواية عنه في إضاعة الصلاة قال: "هو إضاعة مواقيتها ولو تركوها لكانوا كفارا" وقال أبو الدرداء: "لا إيمان لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له" رواهما البخاري وهبة الله الطبري وغيرهما ورأى حذيفة رجلا يصلي وهو لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال لما قضى صلاته: "ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري.

وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال له طبيب حين وقع في عينه الماء استلق سبعة أيام لا تصل قال ابن عباس: "من ترك الصلاة كفر" رواه النجاد وقال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة" رواه الترمذي وقال الحسن: بلغني

ص: 76

"إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون بين العبد وبين أن شرك فيكفر أن يترك الصلاة من غير عذر" رواه النجاد وهبة الله الطبري.

فإن قيل هذا محمول على كفر دون كفر كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إنه كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" وفسره بالرياء وكما قال: "من صام يرائي فقد أشرك ومن صلى يرائي فقد أشرك" وكما قال: "الرياء هو الشرك الأصغر" وقال: "من حلف بشيء

ص: 77

دون الله فقد أشرك" رواه أحمد وكقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر".

وقال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" متفق عليهن وقال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت" رواه

ص: 78

مسلم وقال: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر" وقال: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" رواهما أحمد وقال: "ثلاث من كن فيه كان منافقا من إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا اؤتمن خان" متفق عليه وفي رواية: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" وكما قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه" وكما خاف حنظلة الأسدي أن يكون نافق بنسيانه الذكر واختلاف حاله عند النبي صلى الله عليه وسلم وأهله والحديث في صحيح مسلم وهذا باب واسع متسع.

وربما قال بعض الناس يحمل على كفر النعمة أو على المبالغة

ص: 79

والتغليظ في الشرك لأن الكفر الناقل عن الملة والشرك الذي لا يغفره الله والنفاق الموجب للدرك الأسفل من النار لا يثبت بمجرد هذه الأفعال عند أحد من أهل السنة لكن عند الخوارج والمعتزلة الذين تأولوا ظاهر هذا الكلام على وفق رأيهم واعرضوا عما سواه مما يفسره ويبين معناه الذي هو خلاف الإيمان.

قيل الكفر المطلق لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الذي هو خلاف الإيمان لأن هذا هو المعنى الشرعي ولا سيما إذا قوبل بالإيمان فإنه يجب حمله على ذلك ثم لو صح هذا في بعض المواضع فهنا إنما أراد به الكفر المخالف للإيمان كما نص عليه في الحديث وكما سيأتي تفسيره أن شاء الله تعالى.

وأما تأويله بكفر النعمة فساقط في جميع هذه المواضع ولذلك لم ينقل هذا عن السلف لأن كفر النعمة أن أريد به جحد إنعام الله عليه فهذا كفر صريح مع أن هذه المواضع ليس فيها ما يتضمن جحد الإنعام بخصوصه وأن أريد به التقصير في الشكر فليس بعض الأعمال بهذا أولى من بعض بل كل من ترك شيئا من الفرائض فقد قصر في شكر نعمة الله فينبغي أن يسمى كافرا على هذا الوجه ثم إنه لا مناسبة بين ذلك وبين أكثر هذه المواضع لمن تدبره من الدلالات الكثيرة في الكتاب والسنة.

والإجماع على ثبوت أصل الإيمان مع وجود هذه الأعمال وربما حمله بعضهم على مقارنة الكفر لذلك ومن الناس من يحمل الترك عمن تركها جاحدا غير مقر بوجوبها ولا يستلزمها في الجملة ويكون تخصيصها بالذكر لعموم فرضها زمانا ومكانا وحالا ومحالا.

ص: 80

وأما قول من يقول هو على سبيل المبالغة والتغليظ فلعمري أي مبالغة أو تغليظ لكن على الوجه المحدود من غير مجازفة ولا مجاوزة ومن اعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدح عملا على سبيل الترغيب أو يذمه على سبيل الترهيب بمجاوزة في موضعه وزيادة في نعته فقد قال قولا عظيما بل قد كفر بالله ورسوله أن فهم مضمون كلامه وأصر عليه ولهذا لما نهت قريش عبد الله بن عمرو أن يكتب ما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم توهما أنه قد يقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا قال اكتب والذي نفسي بيده ما خرج بينهما إلا حق كيف وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى نعم هو صلى الله عليه وسلم يرغب في الشيء بذكر أحسن صفاته من غير مجاوزة حده ويذم الفعل القبيح ببيان اقبح صفاته من غير مجاوزة أيضا إنما يجوز أن يظن المبالغة الزائدة عن الحد بسائر الناس الذين لا يحفظون منطقهم ولا يعصمون في كلامهم لا سيما الشعراء ونحوهم ولهذا زجر الإمام أحمد عن تأويل أحاديث الوعيد حيث تأولها المرجئة على أشياء يخرجها عن مقصود الرسول كما تأولت الجهمية والقدرية الأحاديث المخالفة لأهوائهم تأويلا يخرجها عن مقصوده.

وأما حمله على مفر دون كفر فهذا حمل صحيح ومحمل مستقيم في الجملة في مثل هذا الكلام ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين في كثير من المواضع مفسرا لكن الكفر الوارد في الصلاة هو الكفر الأعظم لوجوه:

ص: 81

أحدها: أن الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه وإنما صرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام ومن تأمل سياق كل حديث وجده معه وليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره بل هنا ما تقرره على الظاهر.

الثاني: أن ذلك الكفر منكر مبهم مثل قوله وقتاله كفر هما بهم كفر وقوله كفر بالله وشبه ذلك وهنا عرف باللام بقوله ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك والكفر المعروف ينصرف إلى الكفر المعروف وهو المخرج عن الملة.

الثالث: أن في بعض الأحاديث فقد خرج عن الملة وفي بعضها بينه وبين الإيمان وفي بعضها بينه وبين الكفر وهذا كله يقتضي أن الصلاة حد تدخله إلى الإيمان أن فعله وتخرجه عنه أن تركه.

الرابع: أن قوله ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة وقوله كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".

ص: 82

لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم لأن بينه وبين غير ذلك مما يسمى كفرا أشياء كثيرة ولا يقال فقد يخرج عن الملة بأشياء غير الصلاة لأنا نقول هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة وعلى العموم يوجب تركه الكفر وما سوى ذلك من الاعتقادات فإنه ليس من الأعمال الظاهرة.

الخامس: أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة وبيان مرتبتها على غيرها في الجملة ولو كان ذلك الكفر فسقا لشاركها في ذلك عامة الفرائض.

السادس: أنه بين أنها آخر الدين فإذا ذهب آخره ذهب كله.

السابع: أنه بين أن الصلاة هي العهد الذي بيننا وبين الكفار وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها واقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد فقد كفر كما أن من أتى به فقد دخل في الدين ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج عن الملة.

الثامن: أن قول عمر لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة أصرح شيء في خروجه عن الملة وكذلك قول ابن مسعود وغيره مع أنه بين أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفر وإنما هو الترك بالكلية وهذا لا يكون إلا فيما يخرج عن الملة.

التاسع: ما تقدم من حديث معاذ فإن فسطاطا على غير عمود لا يقوم كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة وفي هذه الوجوه يبطل قول من

ص: 83

حملها على من تركها جاحدا وأيضا قوله كانوا لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر وقوله ليس بين العبد وبين الكفر وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك وترك الجحود لا فرق فيه بين الصلاة وغيرها ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك حتى لو فعلها مع ذلك لم ينفعه فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر ولأن المذكور هو الترك وهو عام في من تركها جحودا أو تكاسلا ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب فلا يلتفت إليه.

وأما الأحاديث المطلقة في الشهادتين فعنها أجوبة.

أحدها: أن الزهري يقول كان هذا قبل أن تنزل الفرائض ثم نزلت فرائض نرى أن الأمر انتهى إليها فمن استطاع إلا يغتر فلا يغتر.

الثاني: أنها مطلقة عامة وأحاديث الصلاة مقيدة خاصة فيقضي المطلق على المقيد وكما روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لقي الله لا يشرك به شيئا يصلي الخمس ويصوم رمضان غفر له قلت أبشرهم يا رسول الله قال دعهم يعملوا" ويحقق هذا أن من جحد آية من كتاب الله تعالى أو علما ظاهرا من أعلام الدين فهو كافر وأن اندرج في هذه العمومات.

الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم قصد بيان الأمر الذي لا بد منه في جميع الأشياء

ص: 84

والذي قد يكتفي به عن غيره في جميع الخلق وهو الشهادتان فإن الصلاة قد لا تجب على الإنسان إذا اسلم ومات قبل الوقت وربما أخرها ينوي قضاءها ومات قبل ذلك.

الرابع: أن هذا كله محمول على من يؤخرها عن وقتها وينوي قضاءها أو يحدث به نفسه كالأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت وكما فسره ابن مسعود وبين أن تأخيرها عن وقتها من الكبائر وأن تركها بالكلية كفر وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال هؤلاء الأئمة ما صلوا فعلم أنهم لو تركوا الصلاة لقوتلوا والإمام لا يجوز قتاله حتى يكفر وإلا فبمجرد الفسق لا يجوز قتاله ولو جاز قتاله بذلك لقوتل على تفويتها كما يقاتل على تركها وهذا دليل مستقل في المسألة ويحمل أيضا على من يخل ببعض فرائضها ببعض الأوقات وشبه ذلك فأما من لا يصلي قط في طول عمرة ولا يعزم على الصلاة ومات على غير توبة أو ختم له بذلك فهذا كافر قطعا وكذلك قوله من لم يحافظ عليها فإنه يفهم منه فعلها مع الإخلال بالمحافظة ومثل ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل من تطوع فأكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر

ص: 85

الأعمال المفروضة مثل ذلك" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وأيضا فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل كما دل عليه الكتاب والسنة واجمع عليه السلف وعلى ما هو مقرر في موضعه فالقول تصديق الرسول والعمل تصديق القول فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا والقول الذي يصير به مؤمن قول مخصوص وهو الشهادتان فكذلك العمل هو الصلاة.

وأيضا ما احتج به ابن شاقلا ويذكر عن الإمام أحمد أن إبليس بامتناعه عن السجود لآدم قد لزمه الكفر واللعنة فكيف من يمتنع عن السجود لله تعالى وهذا لأن الكفر لو كان مجرد الجحد أو إظهار الجحد لما كان إبليس كافرا إذ هو خلاف نص القرآن.

وأيضا فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا ومن لا دين له فهو كافر.

فأما قياس الصلاة على غيرها من الأركان فقد ذكر أبو بكر عن أحمد أنه يصبح مرتدا بترك الأركان الخمسة.

وعنه أنه بترك الصلاة والزكاة فقط.

وعنه بترك الصلاة والزكاة إذا قاتل الإمام عليها.

ص: 86

وعنه بترك الصلاة فقط وبكل حال فالصلاة لها شأن انفردت به على سائر الأعمال وتبين ذلك من وجوه نذكر بعضها مما انتزعه الإمام أحمد وغيره.

أحدها: أن الله سمى الصلاة إيمانا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس لأن الصلاة تصدق عمله وقوله وتحصل طمأنينة القلب واستقراره إلى الحق ولا يصح أن يكون المراد به مجرد تصديقهم بفرض الصلاة لأن هذه الآية نزلت فيمن صلى إلى بيت المقدس ومات ولم يدرك الصلاة إلى الكعبة وول كان مجرد التصديق لشركهم في ذلك كل الناس وفي يوم القيامة فإنهم مصدقون بأن الصلاة إلى بيت المقدس إذ ذاك كانت حقا ولم يتأسفوا على تصديقهم بفرض معين لم يترك كما لم يتأسفوا على ترك تصديقهم بالحج وغيره من الفرائض ولم يكن اعتماد تصديقهم بالصلاة فقط أولى من تصديقهم بجميع ما جاء به الرسول هذا مع أنه خروج عما عليه أهل التفسير وعما يدل عليه كلام الباري لأن الله افتتح أعمال أعمال المفلحين بالصلاة فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} وختمها بالصلاة فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وكذلك في قوله: {إِلَاّ

ص: 87

الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وهاتان الآيتان جمعتا خصال أهل الجنة وملاكها.

الثاني أن الله تعالى قال لنبيه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} وتلاوة الكتاب اتباعه والعمل بما فيه من جميع شرائع الدين ثم قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} فخصها بالذكر تمييزا لها فسبحانه خصها بالأمر بعد دخولها في عموم المأمور به وكذلك قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} خصها بالذكر مع دخولها في جميع الخيرات وكذلك قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} وكذلك قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإن في طاعة الله ورسوله فعل جميع الفرائض وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} تعم جميع الطاعات وقد خصت الصلاة بذلك الأمر والاصطبار عليها وكذلك {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وكذلك قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

ص: 88

وَالصَّلاةِ} فإن الصبر وأن كان هو الحبس عن المكروهات فإن فيه فعل جميع العبادات وكذلك قوله: {قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} فإن الصلاة تعم العمل الصالح كله وأن خص بالصدقة وغيرها وكذلك قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فإن عبادة الله تعم جميع الأعمال الصالحة ثم خص الصلاة بالذكر وقوله لبني إسرائيل {وأوفوا بعهدي} ينتظم جميع الفرائض ثم قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} .

الثالث: أن كل عبادة من العبادات فإن الصلاة مقرونة بها فإن العبادة تعم جميع الطاعات وقد خصت الصلاة بذلك الأمر والاصطبار عليها فإذا ذكرت الزكاة قيل {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وإذا ذكرت المناسك قيل {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وأن ذكر الصوم قيل {واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فإن الصبر المعدود في المثاني هو الصوم قال صلى الله عليه وسلم: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر".

ص: 89

الرابع: أن الله أمر نبيه أن يأمر أهله بالصلاة فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} مع أنه مأمور بالاصطبار على جميع العبادات لقوله: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} وبإنذارهم بجميع الأشياء لقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} .

الخامس: أن الله فرضها ليلة الإسراء وأمر بها نبيه بلا توسط رسول ولا غيره.

السادس: أنه أوجبها على كل حال ولم يعذر بها مريضا ولا خائفا ولا مسافرا ولا منكسرا به ولا غير ذلك بل وقع التخفيف تارة في شرائطها وتارة في عددها وتارة في أفعالها ولم تسقط مع ثبات العقل.

السابع: أنه اشترط لها أكمل الأحوال من الطهارة والزينة باللباس والاستقبال مما لم يشترط في غيرها.

الثامن: أنه استعمل فيها جميع أعضاء الإنسان من القلب واللسان وسائر الجوارح وليس ذلك بغيرها.

التاسع: أنه نهى أن يشتغل فيها بغيرها حتى بالخطرة واللفظة والفكرة.

العاشر: أنها أول ما يجب من الأعمال وآخر ما يسقط وجوبه.

الحادي عشر: أنها دين الله الذي يدين به أهل السماوات والأرض وهي مفتاح شرائع الأنبياء كلهم فإن كل من دان لله من العقلاء فإن عليه

ص: 90

الصلاة ولم يبعث نبي إلا بالصلاة بخلاف الصوم والحج والزكاة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لما اشترطوا إلا يحيوا" بمعنى لا يركعوا لا خير في دين لا تحية فيه.

الثاني عشر: أنها مقرونة بالتصديق بقوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وأن أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} وخصائص الصلاة كثيرة جدا فكيف تقاس بغيرها.

فصل.

قال أصحابنا: يحكم بكفره في الوقت الذي يباح فيه دمه وهو ما إذا دعي فامتنع كما تقدم.

قال الإمام أحمد: إذا قال لا أصلي فهو كافر نص على أنه لا يرث ولا يورث ويكون حكمه حكم المرتد في جميع أموره بحيث لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين إلا أنه لا يسقط عنه شيء من الصلوات وأن أسقطناها عن المرتد لأنه كفر بتركها فلو سقطت

ص: 91

عنه لزال سبب الكفر وإذا صلى بعد الامتناع عاد بذلك إلى الإسلام من الردة وصحت صلاته وأن كان الكافر الأصلي لا تصح صلاته قبل الشهادتين لأن هذا كفره بترك الفعل فإذا فعله عاد إلى الإسلام كما أن من كفره بترك الإقرار إذا أتى بالإقرار عاد إلى الإسلام.

فإن قيل: فالمرتد غير هذا لا يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين كيف ما كانت ردته قبل ذلك لأنه جاحد فلا بد أن يأتي بأصل كلمة الإقرار التي تتضمن جميع التصديق والاعتراف وهذا معترف فيكفيه الفعل.

فأما إذا لم يدع ولم يمتنع فهذا لا يجري عليه شيء من أحكام المرتدين في شيء من الأشياء ولهذا لم يعلم انم أحدا من تاركي الصلاة ترك غسله والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين ولا منع ورثته ميراثه ولا إهدار دمه بسبب ذلك مع كثرة تاركي الصلاة في كل عصر والأمة لا تجتمع على ضلالة وقد حمل بعض أصحابنا أحاديث الرجاء على هذا الضرب.

فإن قيل فالأدلة الدالة على التكفير عامة عموما مقصودا وأن حملتموها على هذه الصورة كما قيل قلت فائدتها وإدراك مقصودها الأعظم وليس في شيء منها هذه القيود.

قلنا الكفر على قسمين قسم تنبني عليه أحكام الدنيا من تحريم المناكح والذبائح ومنع التوارث والعقل وحل الدم والمال وغير ذلك فهذا إنما يثبت إذا ظهر لنا كفره أما بقول الامتناع عن الصلاة وشبه يوجب التكفر أو عمل مثل السجود للصنم وإلى غير القبلة ذلك فهذا النوع لا نرتبه على تارك الصلاة حتى يتحقق امتناعه الذي هو الترك لجواز أن يكون قد نوى القضاء فيما بعد أو له عذر وشبه ذلك.

ص: 92

والثاني: ما يتعلق بأحكام الآخرة والانحياز عن أمة محمد واللحاق بأهل الكفر ونحو ذلك فهذا قد يجوز على كثير ممن يدعي الإسلام وهم المنافقون الذين أمرهم بالكتاب والسنة معلوم الذين قيل فيهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} إلى قوله: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية فمن لم يصل ولم ير أن يصلي قط ومات على ذلك من غير توبة فهذا تارك الصلاة مندرج في عموم الأحاديث وأن لم يظهر في الدنيا حكم كفره.

ومن قال من أصحابنا لا يحكم بكفره إلا بعد الدعاء والامتناع فينبغي أن يحمل قوله على الكفر الظاهر فأما كفر المنافقين فلا يشترط له ذلك فإن أحمد وسائر أصحابنا لم يشترطوا لحقيقة الكفر هذا الشرط.

فأما أن أخرها عن وقتها وفعلها فيما بعد فمات أو كان ممن يلزمه أن يفعلها فيما بعد فمات فهذا مع أنه فاسق من أهل الكبائر ليس بكافر كالأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصلي معهم النافلة ولذلك قال ابن مسعود {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} أخروها حتى يخرج وقتها ولو تركوها لكانوا كفارا.

وهذا الضرب كثير في المسلمين وهم من أهل الكبائر الذين ادخرت لهم

ص: 93

الشفاعة وما جاء من الرجاء لمن يتهاون في الصلاة فإليهم ينصرف ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد" ونفي المحافظة لا ينفي الفعل بخلاف من لم فإنه يكون تاركا بالكلية كما تقدم وكذلك من أخل بما يسوغ فيه الخلاف من شرائطها وأركانها.

وأما من أخل بشيء من شرائطها وأركانها التي لا يسوغ فيها الخلاف فهذا بمنزلة التارك لها فيما ذكره أصحابنا كما تقدم من حديث حذيفة ولأن هذه الصلاة وجودها كعدمها في منع الاكتفاء بها فأشبه من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض.

فأما من يترك الصلاة بعض الأوقات لا يقضيها ولا ينوي قضاءها أو يخل ببعض فرائضها ولا يقضيها ولا ينوي قضاءها فمقتضى ما ذكره كثير من أصحابنا أنه يكفر بذلك فإن دعي إليها وامتنع حكم عليه بالكفر الظاهر وإلا لحقه حكم الكفر الباطن بذلك ثم إذا صلى الأخرى صار مؤمنا كما دل على ذلك قوله " من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمله" وقوله " من ترك الصلاة عمدا فقد برئت منه الذمة" ولا يلزم ذلك أحكام الكفر في حقه كالمنافقين.

والأشبه في مثل هذا أنه لا يكفر بالباطن أيضا حتى يعزم على تركها بالكلية كما لم يكفر في تأخيرها عن وقتها كما تقدم من الأحاديث ولأن الفرائض تجبر يوم القيامة بالنوافل ولأنه متى عزم على بعض الصلاة فقد أتى بما هو مجرد إيمان.

ص: 94