الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة:
(الشرط الرابع: الطهارة من النجاسة
في بدنه وثوبه وموضع صلاته إلا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم ونحوه).
الطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة في الجملة من غير خلاف نعلمه في المذهب فلو صلى بالنجاسة عالما بها قادرا على اجتنابها لم تصح صلاته.
وفي الجاهل بها والعاجز عن إزالتها روايتان كما سياتي أن شاء الله تعالى.
وكذلك قال بعض أصحابنا: يجب اجتناب النجاسة وهل ذلك شرط في صحة الصلاة على روايتين.
اصحهما أنه شرط فمن صلى في موضع نجس حاملا للنجاسة أو أصابها ببدنه أو ثوبه عالما بها قادرا على اجتنابها لم تصح صلاته قولا واحدا إلا النجاسة المعفو عنها وأن صلى في نجاسة بعلمه ولم يمكنه اجتنابها أو علمها وأنسيها أو لم يعلم بها إلا بعد الفراغ فهل يلزمه الإعادة على روايتين.
فصاحب هذه العبارة لا يسميها شرطا إذا قلنا تسقط بالعجز والجهل والنسيان كما لا تسمى واجبات الصلاة أركانا إذا سقطت بالنسيان وإنما يسمى شرطا ما لا ما يسقط عمدا ولا نسيانا كطهارة الحدث والسترة وأكثر أصحابنا يسمونها شرطا وأن قلنا تسقط بالنسيان كما عبر به الشيخ رحمه الله كما أن استقبال القبلة شرط وقد يسقط بالجهل وكما تسقط سائر الشروط ببعض الأعذار ولأن مخالفة هذا الشرط غيره من الشروط في بعض الأحكام لا يمنع اشتراكها في أكثر الأحكام وإنما سمي الشرط شرطا لتقدمه على الصلاة ووجوبه من حين الدخول فيها كأشراط الساعة وشروط الطلاق وشرط الحمل والشروط في العقود ونحو ذلك سواء وجب في كل حال أو سقط في بعض الأحوال.
وفي الجملة فالخلاف في عبارة لا في معنى وإنما قلنا أن طهارة البدن من النجاسة شرط للصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" وقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما
أحدهما فكان لا يستتر من البول".
وأمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار وقال أنها تجزئ عنه ونهى عن الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار وهذا كله دليل على أن إزالة النجاسة فرض.
وإنما قلنا بوجوب ذلك في الثياب أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأسماء حتيه ثم اغسليه ثم صلي فيه" وقال في حديث النعلين: "فإن رأى فيهما خبثا فليمسحه ثم ليصل فيهما" فعلق أذنه في الصلاة في الثوب والنعل على إزالة النجاسة منه" وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال:
"سمعت رجلا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي قال: "نعم إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله" رواه أحمد وابن ماجه فإنما أباح الصلاة فيه إذا رأى فيه نجاسة بعد غسله.
وإنما قلنا بوجوب طهارة المكان الذي يصلي فيه لقوله سبحانه: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وهذه تعم تطهيره من النجاسة الحسية ومن الكفر والمعاصي والأصنام وغيرها وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} فعلل منعهم منه بنجاستهم فعلم أن مواضع الصلاة يجب صونها عن الأنجاس ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا" رواه الخطابي بإسناد صحيح من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وقال ابن المنذر ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والطيبة هي الطاهرة فلما اختص الأرض الطيبة بالذكر دل على اختصاصها بالحكم في كونها مسجدا طهورا.
ولأن الحكم المعلق بوصف مناسب دليل على أن ذلك الوصف علة له فعلم أن طهارتها مؤثرة في كونها مسجدا وطهورا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم.
أمرهم أن يصبوا على بول الإعرابي ذنوبا من ماء وقال أن المساجد لا تصلح لشيء من هذا" فدل على وجوب تطهير موضع الصلاة ووجوب تنزيهه من النجاسات ولأنه نهى عن الصلاة في الأماكن التي هي مظنة النجاسات كما سيأتي أن شاء الله تعالى فالموضع الذي قد تحقق وصول النجاسة فيه أولى أن لا تجوز فيه الصلاة والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لا سيما إذا كان من العبادات وكان النهي لمعنى في المنهي عنه.
وقد استدل كثير من المتأخرين من أصحابنا وغيرهم على وجوب تطهير الثياب بقوله سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} حملا لذلك على ظاهر اللغة التي يعرفونها فإن الثياب هي الملابس وتطهيرها بان تصان عن النجاسة وتجنبها بتقصيرها وتبعيدها منها وبان تماط عنها النجاسة إذا إصابتها وقد نقل هذا عن بعض السلف لكن جماهير السلف فسروا هذه الآية بأن المراد زك نفسك وأصلح عملك قالوا وكنى بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الأرجاس والاثام وذلك أن هذه الآية في أول سورة المدثر وهي أول ما نزل من القران بعد أول سورة اقرأ ولعل الصلاة لم تكن فرضت حينئذ فضلا عن اذى الطهارتين التي هي من توابع الصلاة ثم هذه الطهارة من فروع الشريعة وتتماتها فلا تفرض إلا بعد استقرار الأصول
والقواعد كسائر فروع الشريعة إذ ذاك لم تكن قد فرضت الأصول والقواعد.
ثم أن الاهتمام في أول الأمر بجمل الشرائع وكلياتها دون الواحد من تفاصيلها والجزء من جزئياتها هو المعروف من طريقة القران وهو الواجب في الحكمة ثم ثياب النبي صلى الله عليه وسلم لم تعرض لها نجاسة إلا أن تكون في الأحيان فتخصيصها بالذكر دون طهارة البدن وغيره مع قلة الحاجة وعدم الاختصاص بالحكم في غاية البعد وإذا حملت الآية على الطهارة من الرجس والاثم والكذب والغدر والخيانة والفواحش كانت قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة والكناية بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الفواحش والكذب والخيانة ونحو ذلك مشهور في لسان العرب غالب في عرفهم نظما ونثرا كما قال.
ثياب بني عوف طهارى نقية.
وقال الآخر.
وإني بحمد الله لا ثوب غادر.
لبست ولا من خزية اتقنع.
حتى إذا قيل فلان طاهر الثياب طاهر الذيل لم يفهم منه عند الاطلاق إلا ذلك فيكون قد صار ذلك حقيقة عرفية كما صار المجيء من الغائط حقيقة في قضاء الحاجة وكما صار مسيس النساء ومباشرتهن حقيقة في الجماع فيجب حمل الكلام عليه ولذلك وجهان.
أحدهما: أن اللباس يضاف إليه من الحكم ويقصد به الاضافة إلى الإنسان نفسه للعلم بان المقصود من الثوب لا نفس الثوب ويجعل ذلك نوعا من الكناية كما قال الانصار للنبي صلى الله عليه وسلم: "لنمنعنك مما نمنع
منه أزرنا".
الثاني أن يراد نفس تطهير الثوب لكن الطهارة في كتاب الله على قسمين طهارة حسية من الاعيان النجسة ومن اسباب الحدث المعلومة.
وطهارة عقلية من الاعمال الخبيثة.
فالأول كقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} نزلت في أهل قباء لما كانوا يستنجون من البول والغائط وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أن اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} .
والثاني: كقوله سبحانه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} وقوله تعالى: {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله تعالى: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أنهم أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} في غير موضع وقوله سبحانه وتعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ
أَطْهَرُ لَكُمْ} وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: {إنما المشركون نجس} وقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} إلى غير ذلك من الآيات وإذا كان كذلك فالثوب نفسه يكتسب صفة حقيقية من لابسه أن كان صالحا أو فاسقا حتى يظهر ذلك فيه إذا قوي تاثير صاحبه فيه ويظهر ذلك في مواضع الخير ومواضع الشر ولاجل الارتباط الذي بين اللباس والمقعد وبين صاحبهما أمر بتطهيرهما من النجاسة وكانت طهارة الخفين طهارة للقدمين واستحب تكريم البقاع والثياب التي عملت فيها الصالحات حتى اعد سعد رضي الله عنه جبته التي شهد فيها بدرا كفنا واستوهب بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه بردة لتتخذها كفنا.
وهذا كثير فالأمر بتطهير عينه من الانجاس أمر بطهارة صاحبه بالضرورة.
والأشبه والله أعلم أن الآية تعم نوعي الطهارة وتشمل هذا كله فيكون مأمورا بتطهير الثياب المتضمنة تطهير البدن والنفس من كل ما يستقذر شرعا من الاعيان والاخلاق والاعمال لأن تطهيرها أن تجعل طاهرة ومتى اتصل بها وبصاحبها شيء من النجاسة لم تكن مطهرة على الإطلاق
فانها متى ازيل عنها نجس دون نجس لم تكن قد طهرت حتى يزال عنها كل نجس بل كل ما أمر الله باجتنابه من الارجاس وجب التطهير منه وهو داخل في عموم هذا الخطاب.
يبين ذلك أن الطهارة من الخمر والبول والدم ذلك هي من تتمة الطهارة من اكلها وشربها وتكميل لذلك المقصود وتحقيق للتنزه من الارجاس بكل طريق وإنما حرم الله سبحانه مباشرة هذه الاعيان الرجسة كما حرم ممازجتها بالأكل والشرب لما فيها من الخبث وحرم مباشرتها بالثياب قطعا لملابستها بكل طريق ومبالغة في اجتنابها وعلى هذه فالحجة من الآية اندراج هذه الطهارة في العموم وبذلك تندفع تلك الأسئلة.
فإن قيل فقد روى عيد الله بن مسعود رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم إلا تنظرون إلى هذا المرء ايكم يقوم إلى جزور ال فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه فانبعث اشقاهم فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وانا قائم انظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق انسان فاخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه ثم اقبلت عليهم تسبهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا لاثا وإذا سأل سأل ثلاثا.
ثم قال: "اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ثم قال اللهم عليك بابي جهل ابن هشام
وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وامية بن خلف وعقبة بن أبي معيط" وذكر السابع: ولم احفظه قال فوالذي بعث محمدا بالحق لقد رأيتهم صرعى قد غيرتهم الشمس وكان يوما حارا" متفق عليه فهذا يدل ظاهره على أن اجتناب النجاسة لا يشترط لصحة الصلاة.
قلنا قد قال بعض أصحابنا: هذا منسوخ لأنه كان بمكة في أول الأمر ولعل الصلوات الخمس لم تكن فرضت حينئذ وفرض الطهارة إنما نزل بالمدينة.
وأيضا فإن الحكم بنجاسة الدم ونجاسة ذبائح المشركين إنما علم لما حرمت الميتة والدم ولحم الخنزير ولعل هذا التحريم لم يكن نزل بعد.
وقيل لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضعوا على ظهره حتى قضى صلاته والنجاسة إذا لم يعلم بها لم تبطل ثم أنه لم يطل الفصل لأن فاطمة جاءت فالقتها عن ظهره واقبلت عليهم تسبهم فقد علم أنهم القوا على ظهره شيئا لكن لم يدر ما هو والقي عنه بابي هو وامي لم يدر ما هو.
وقيل هذا يقتضي طهارة الموضوع فوق ظهره فيفيد أن فرث الإبل طاهر والدم فإنه كان دما يسيرا معفوا عنه لأن الذي يعلق بالسلا من الدم لا يكون كثيرا في العادة وأما السلا نفسه فإنه كان من ذبيحة المشركين لكن لم يكن قد حرم اكل ذبائحهم وحكم بنجاستها فإن المسلمين الذين كانوا بين ظهرانيهم إنما كانوا يأكلون من ذبائحهم وإنما حرم الميتة وما أهل لغير الله به ثم انه فيما بعد حرم اللحم وحكم بنجاسته لكونه من
ذبيحة غير مسلم ولا كتابي بمنزلة الميتة والفرث نفسه لم يتغير حكمه لأنه لا يموت وإنما هو كاللبن فبقي على حاله وهذا الوجه اقرب من غيره.
فصل.
ويجب اجتناب حمل النجاسة وملاقاتها بشيء من بدنه أو ثيابه وحمل ما يلاقيها.
فلو كان موضع قدميه أو ركبته أو جبهته في السجود نجسا لم تصح صلاته من أجل الملاقاة وكذلك لو لاقى ثوبه نجاسة في حال قيامه أو سجوده وقال ابن عقيل أن لاقى ثوبه نجاسة يابسة على ثوب انسان في حال القيام لم تبطل صلاته لأنه ليس بمعتمد على النجاسة ولا هي تابعة له فاشبه النجاسة على طرف الحصير قال وأن كان ثوبه يسقط عليها حال السجود فوجهان لأن ثوبه هنا معتمد عليها وليس بمستتبع لها.
ووجه الأول لأن مجرد الملاقاة ما هو حامل له للنجاسة مبطل بدليل ملاقاة الحائط النجس والأرض النجسة.
ولو وقعت عليه نجاسة فازالها في الحال لم تبطل صلاته في المشهور لأن زمن ذلك يسير وقد حصل بغير اختياره فاشبه انكشاف العورة في الزمن اليسير وأن احتاجت إلى زمن كثير أو فصل طويل فينبغي أن يكون كمن سبقه الحدث واولى بالبناء.
ولو حمل قارورة فيها نجاسة بطلت صلاته وأن كانت مشدودة الرأس.
ولو حمل شيئا من الحيونات الطاهرة كالصبي ونحوه كما حمل النبي صلى الله عليه وسلم امامة ابنة أبي العاص وكما كان الحسن يرتحله لم تبطل صلاته وأن كان في جوفه نجاسة من الدم والخمر ونحو ذلك لأن النجاسة هنا مستورة بأصل الخلقة وما هذا سبيله من النجاسات فلا حكم له بخلاف ما في القارورة.
نعم في البيضة التي فيها فروج ميت وجهان لأنه من حيث هو مستور بأصل الخلقة يشبه الدم في الحيوان الطاهر ومن حيث هو مستتر يشبه القارورة.
والأظهر أنه كالقارورة لأن البيضة لم تكن محلا للرطوبات وإنما عرض لها ذلك بخلاف باطن الحيوان ولأن القياس اجتناب جميع النجاسات الظاهرة والباطنة لكن ما في باطن الحيوان تابع للطاهر وفي إخراجه عنه مشقة بخلاف ما في البيضة فإنه هو المتبوع ولا مشقة في إخراجه منه.
فصل.
وأما النجاسة المعفوا عنها فقد تقدم ذكرها قدرا ونوعا والضابط لها
في الغالب أن تكون مما يشق الاحتراز منه مشقة عامة كالدم وما تولد منه وكاثر الاستنجاء فيعفو الشرع عن قليله رفعا للحرج وارادة لليسر دون العسر أو أن يكون مما يخفف تنجيسه لشبهه بالطاهرات من بعض الوجوه المعتبرة كالمذي أو للخلاف في نجاسته أن جعلنا هذا مؤثرا كالنبيذ ونحوه.
وأما الكثير فلا يعفى عنه لأنه لا حرج في الاحتراز منه وقد بلغ بكثرته وقدره ما يبلغ غيره بجنسه ونوعه وسواء كان في موضع واحد أو موضعين من البدن أو الثوب أو المصلى فإن المفترق يجمع فإن كان مجموعه كثيرا ابطل والا فلا أن كان في محل متصل.
فان كان في محلين منفصلين مثل ثوبين أو ثوب وبدن أو ثوب ومصلى ضم أحدهما: إلى الآخر في أحد الوجهين اختاره ابن عقيل لأنه صلى ومعه دم كثير فاشبه ما في الثوب الواحد.
وفي الاخر لا يضم لأن ذلك أقل فحشا واشق غسلا من الثوب الواحد ففي ايجاب غسله عكس لمقصود الرخصة.
فصل.
وإذا بسط على نجاسة شيئا طاهرا أو طينها كرهت الصلاة عليه
وصحت في أشهر الروايتين.
وفي الأخرى لا تصح هكذا حكاهما جماعة.
وقال ابن أبي موسى وغيره من بسط على بول لم يجف أو على غائط رطب حصيرا لم تجزه الصلاة فإن كانت الأرض قد جفت من البول فبسط عليه حصيرا وصلى عليه أجزاه قال ولو طين مسجدا بطين فيه تراب قد بالت عليه الحمير الاهلية لم يصل فيه حتى يقلع الطين منه وكذلك لو كبس ارضه بتراب نجس لم يصل فيه حتى يزال ذلك التراب منه وعلى هذا فإنه يفرق بين أن تكون النجاسة متصلة بالمصلى الذي يصلي عليه تابعة له وبين أن تكون منفصلة عنه لكنه ملاقية وهذا أشبه بمنصوص أحمد فإنه قال إذا لم تعلق نجاسة بالثوب يصلي وقال في المسجد المحشو بالقذر لإذا فرش عليه الطوابيق والآجر لا يصلي فيه إلا أن يخرج عنه وذلك لما روى عن ابن سيرين أنه سئل عن المسجد يعني على مكان نجس فقال مر ابن مسعود على قوم يكبسون مسجدهم بروث أو قذر فنهاهم عن ذلك" رواه سعيد.
ومن قال بالمنع مطلقا قال لأن المقر شرط لصحة الصلاة فتشرط طهارته كالثوب.
ولو كان في السفل نجاسة صحت الصلاة في العلو قولا واحدا من غير
كراهة لأنه ليس بمستقر له بدليل أنه لو كان السفسل مغصوبا والعلو مباحا صحت الصلاة في العلو ولو كان ما تحت البساط المباح والطين المباح مغصوبا لم تصح الصلاة قال بعض أصحابنا: لأن باطن المسجد يجب لا صيانته عن النجاسة كظاهره ولو لم يمنع الصحة لما وجب ذلك كما لو كان المسجد فوق بيت لإنسان فإنه لا يلزمه صونه عن النجاسة ولذلك جوز أحمد بناء المسجد فوق المطهرة.
واحتج أصحابنا للاول بما ذكره أحمد عن أبي موسى أنه صلى على الروث والنتن وصلى والبرية إلى جانبه وقال هذا وذاك سواء وفي لفظ" رواه سعيد أنه صلى في سكة المربد على الروث والنتن والبرية إلى جانبه فقيل له لو صليت في البرية فقال هذا وذاك سواء والحجة بهذا مبنية على أنه فرش على ذلك الروث شيئا وصلى عليه والا فقد يكون من روث ما يؤكل لحمه وعلى قول ابن أبي موسى فإنه يؤخذ بهذا وبقول ابن مسعود واحتجوا بأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلي على حماره وهو متوجه إلى خيبر" رواه مسلم وهذا حجة على من يقول بنجاسة الحمار ويسوي بينه وبين الأرض وأما من لم يقل بنجاسة الحمار بين الدواب وغيرها فلا حجة عليه فيه أن صح قوله ذلك وأيضا فإنه لم يحمل النجاسة ولم يلاقها فاشبه من صلى على سرير تحته
نجاسة أو في بقعة طاهرة متصلة بنجاسة وكونه شرطا للصحة من أجل الاستقرار لا يقتضي وجوب طهارته كمحل السرير.
وأما باطن المسجد فيصان عن النجاسة كهوائه على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" وكان أصحاب النبي يدفنون القمل في المسجد فعلم أن باطنه ليس كظاهره من كل وجه.
ولو صلى على فراش في حشوها وبطانتها نجاسة أو على بساط في باطنه نجاسة لم تنفذ إلى ظاهره أو على طابق طاهر الظاهر نجس الباطن فهو كمن فرش طاهرا على نجس على هذه الطريقة وعلى ما ذكره ابن أبي موسى لا يصلي على هذا المصلى مع الصلاة على المفروش على المكان النجس اليابس.
فصل.
وإذا صلى على حبل أو منديل في طرفه نجاسة صحت صلاته في المنصوص.
وقال بعض أصحابنا: أن كانت النجاسة تتحرك بحركته لم تصح صلاته لأنه يصير مستتبعا لها.
ووجه الأول أنه لم يحمل النجاسة ولم يلاقها ولم يحمل ما يلاقيها فاشبه ما لو صلى في بقعة طاهرة من بيت في جانبه نجاسة.
فان كان يحاذيها بصدره إذا ركع أو إذا سجد ولم تلاقها ثيابه صحت أيضا في المشهور.
وفي وجه مخرج أنها لا تصح كما لو صلى على مدفن النجاسة على الرواية المتقدمة.
ووجه الأول أن ما يحاذي الصدر لا يعتبر استقراره بدليل ما لو كان روزنة أو حفرة بخلاف مساجد الاعضاء السبعة فإن استقرارها معتبر حتى لو وضعها على قطن منتفش ونحوه فلذلك اعتبرت طهارتها واشترطت في رواية.
فان كان المنديل أو الحبل متعلقا به في يده أو وسطه أو نحو ذلك بحيث يتبعه إذا مشى المشى لم تصح صلاته سواء تحركت النجاسة بحركته في الصلاة أو لم تتحرك لأن النجاسة إذا انتقلت لانتقاله كان مستصحبا لها وبمنزلة الحامل لها فاشبه ما لو كانت على ذيل قميصه الطويل أو طرف عمامته المحلولة وسواء كان النجس يتبع باختياره كالحيوان من الكلب ونحوه أو ليس له اختيار كالسفيه الصغير والثوب النجس ونحو ذلك فلو
صلى ومقود الكلب بيده لم تصح صلاته وكذلك أن كان بيده مقود بغل أو حمار إذا قلنا هو نجس.
ويتوجه الفرق بين ما يتبع بارادته وبين الجامد وعلى المعروف في المذهب لو لم يكن له من يمسك بغله أو حماره ولا يمكن ضبطه إلا بامساكه فينبغي أن يكون بمنزلة العاجز عن إزالت النجاسة لأن اجتناب النجاسة هنا لا يمكن إلا بضياع ماله فلم يجب كما لو يمكنه الذهاب إلى الماء إلا بالخوف على ماله أو كانت عليه نجاسة ولا يمكنه غسلها إلا بالخوف على ماله وأولى.
ولو كان الحبل المعلق به واقعا على نجاسة يابسة لم تصح صلاته لأنه حامل لما يلاقي النجاسة فاشبه ما لو القى عليها طرف ثوبه أو كمه.
وان كان الحبل مشدودا في شيء لا ينجر بجره ومشيه كحمل ميت أو حيوان نجس لا يتبعه إذا مشى ولا يقدر على جره إذا استعصى عليه كالفيل أو سفينة كبيرة فيها نجاسة أو ظرف كبير مملوء خمرا فإن كان طرف الحبل متصلا بموضع نجس كمسألة الميتة ونحوها لم تصح صلاته وأن لم يكن متصلا بموضع نجس صحت كمسألة السفينة والظرف لأن هذا ليس حاملا للنجاسة ولا مستصحبا لها وإنما هو حامل للحبل فإذا كان ملاقيا للنجاسة كان كما لو لاقاها ثوبه أو كمه بخلاف ما إذا لاقى محلا طاهرا متصلا بنجس.
ومن أصحابنا من قال لا فرق بين أن يكون المحل متصلا بوضع
طاهر أو نجس فلا تبطل صلاته فيهما إلا إذا كان ينجر معه لأنه لا يقدر على استتباع النجاسة فلا يضر حمله لما يلاقيها كما لو امسك سفينة عظيمة فيها نجاسة وامسك شجرة على غصنها نجاسة وهذا يوافق قول ابن عقيل.
وقال الآمدي إذا كانت النجاسة في مركب فشد حبله إلى وسطه كانت صلاته باطلة ولم يفرق بين أن يستطيع أن يجرها أو لا.
مسألة: (فان صلى وعليه نجاسة لم يكن علم بها أو علمها ثم نسيها فصلاته صحيحة وأن علمها في الصلاة ازالها وبنى على صلاته).
هذه احدى الروايتين عن الامام احمد.
والرواية الأخرى أنه يعيد صلاته سواء علمها قبل الصلاة ثم نسيها أو لم يعلم بها حتى سلم أو علمها في اثناء الصلاة هذه الطريقة المشهورة وهذه الرواية اختيار كثير من أصحابنا كابن أبي موسى والقاضي وأصحابه.
وذكر القاضي في المجرد والآمدي أن الناسي يعيد رواية واحدة لأنه مفرط وقد وجبت عليه الإزالة وإنما الروايتان في الجاهل والروايتان منصوصتان عن أحمد في الجاهل بالنجاسة.
فأما الناسي فليس فيه عنه نص فلذلك اختلفت الطريقتان فإن قلنا يعيد مطلقا فلأنها إحدى الطهارتين فلم يسقط بالجهل والنسيان كطهارة الحدث ولأنه شرط من شروط الصلاة فلم يسقط بالجهل والنسيان كاللباس والقبلة وأن قلنا لا يعيد وهي اختيار طائفة من أصحابنا وهي أظهر فلما روى أبو سعيد الخدري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعيله
فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لم خلعتم قالوا يا رسول الله رايناك خلعت فخلعنا فقال أن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما" رواه أحمد وأبو داود واحتج به اسحق بن راهويه وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره جبريل عليه السلام أن في نعليه قدرا كان راكعا فخلعهما ومضى في صلاته ولو اطيل حملهما بغير علم لاستانف الصلاة ولا يصح أن يقال لعله كان مخاطا أو بصاقا أو نحو ذلك مما لا يبطل الصلاة أو كان يسيرا من دم ونحوه فقد قيل أنه كان دم حلمة لأن الخبث اسم للغائط وكذلك القذر حقيقة في النجاسة.
ولأنه لو كانت الصلاة تصح معه لم يخلع نعليه في الصلاة فإنه عبث والعبث في الصلاة مكروه جدا لا سيما وهو راكع وخلع نعليه يحتاج إلى نوع علاج وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم قد أمر المصلي أن يبصق في ثوبه إذا لم يجد مكانا يبصق فيه وكانوا إذا وجدوا يسير الدم مضوا في صلاتهم فعلم
إن حمل شيء من البصاق ونحوه وحمل شيء من يسير النجاسة المعفو عن يسيرها لا كراهة فيه ولا يشرع لازالته شيء من العمل وأيضا فقوله في الحديث: "فإن رأى خبثا فليمسحه ثم ليصل فيهما" دليل على أن الصلاة لا تصح مع وجوده وهذا لا يكون إلا في خبث هو نجس ولأن النسيان يجعل الموجود كالمعدوم ويبقى المعدوم على حاله لأن الله سبحانه قد استجاب دعاء نبيه والمؤمنين حيث قالوا: {لا تُؤَاخِذْنَا أن نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا} فإنه قال قد فعلت" رواه مسلم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عفي لأمتي عن الخطا والنسيان" فإن ترك المأمور به ناسيا لم
يؤاخذ بالترك ولم تبرا ذمته من عهدة الايجاب لأنه لم يفعله وأن فعل المنهي عنه ناسيا كان كأنه لم يفعله فلا يضره وجوده وحمل النجاسة في الصلاة من باب المنهيات فإذا وقع كان معفوا عنه بخلاف الوضوء والاستقبال والسترة فإنها من باب المأمورات فإذا لم يفعلها بقيت عليه ولهذا لم يفسد الصوم بالأكل ناسيا ومن فرق بين الجاهل والناسي ينتقض عليه بمن ذكر فائتة ثم نسيها حتى صلى الحاضرة فإن حاضرته تصح في ظاهر المذهب.
فإن قيل فلو جهل أن النجاسة محرمة في الصلاة.
قلنا أن كان ممن يعذر بهذا الجهل فسياتي الكلام فيه أن شاء الله تعالى فعلى هذا أن علم النجاسة في اثناء الصلاة فابتدا الصلاة على الرواية التي توجب فيها الإعادة لأن ما مضى من صلاته كان باطلا.
وعلى الأخرى يلقي النجاسة ويتم الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا فأشبه العاري إذا وجد السترة إلا أن تحتاج إزالتها إلى عمل كثير يبطل الصلاة أو زمن طويل فقيل تبطل الصلاة كالعاري إذا وجد السترة بعيدة منه.
ويتخرج في الزمن الطويل أن لا تبطل كما قيل في السترة.
ويتخرج في العمل الكثير أيضا مثل ذلك كما قلنا فيمن سبقه الحدث وفي العاري والمتيمم والمستحاضة على وجه.
مسألة: (والأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها إلا المقبرة والحش والحمام واعطان الإبل).
هذا الكلام فيه فصول.
الفصل الأول.
أن الأرض كلها مسجد لنبينا ولامته صلى الله عليه وسلم في الجملة وقد تواطات بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مسجد وضع في الأرض أول قال: "المسجد الحرام قلت: ثم أي قال: المسجد الاقصى قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد" متفق عليه وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وبعثت إلى الناس كافة" متفق عليه.
ورواه مسلم من حديث أبي هريرة وقد رواه عدة من الصحابة رضي
الله تعالى عنهم منهم أبو ذر وأبو موسى وابن عباس وغيرهم وعن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزاة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف اليهم قال لهم: "لقد اعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي أما انا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملىء مني رعبا واحلت لي الغنائم كلها وكان من قبلي يعظمون اكلها كانوا يحرقونها وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم والخامس: ة هي ما هي قيل لي سل فإن كل نبي قد
سأل فاخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا اله إلا الله" رواه أحمد بإسناد جيد وقد تقدم قوله في حديث حذيفة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وتربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء.
الفصل الثاني.
في المواضع المستثتاة التي نهى عن الصلاة فيها وقد عد أصحابنا عشرة مواضع المقبرة والمجزرة والمزبلة والحش والحمام وقارعة الطريق واعطان الإبل وظهر الكعبة والموضع المغصوب والموضع النجس.
فأما الموضع النجس والمغصوب فقد ذكرنا حكمه.
وأما ثلاثة منها فقد تواطأت الأحاديث واستفاضت بالنهي عن الصلاة فيها وهي المقبرة واعطان الإبل والحمام وسائرها جاء فيها من الأحاديث ما هو دون ذلك.
اما المقبرة والحمام فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا من
صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا" رواه الجماعة وعن أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه وعن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وعن ابن عباس وعائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما نزل به لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وعن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها في الحبشة فيها تصاوير فقال: "أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة" متفق على هذه الأحاديث وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها مساجد والسرج" رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ان من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد".
وفي لفظ: "والذين يتخذون قبورهم مساجد" رواه أحمد بإسناد صحيح.
والأحاديث في هذ المعنى كثيرة يذكر بعضها أن شاء الله في الجنائز والحج مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وقوله عليه السلام: "لا تتخذوا قبري عيد"ا.
وأما أعطان الإبل فقد تقدم في باب نواقض الوضوء النهي عن الصلاة فيها من حديث جابر بن سمرة وهو في صحيح مسلم وتقدم أيضا حديث البراء بن عازب واسيد بن خضير وذي
الغرة وفي حديث البراء لا تصلوا فيها فإنها من الشياطين وهو حديث صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه فال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل" رواه أحمد والترمذي وصححه وفي رواية لاحمد وابن ماجه إذا لم تجدوا إلا مرابض الغنم ومعاطن الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل.
وعن عبد الله بن المغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وفي رواية لأحمد: "إذا حضرت الصلاة وأنتم في
مرابض الغنم فصلوا وإذا حضرت وانتم في أعطان الإبل فلا تصلوا فإنها خلقت من الشياطين" وفي رواية له: "لا تصلوا في عطن الإبل فإنها من الجن خلقت إلا ترون عيونها وهيئتها إذا نفرت".
وأما قارعة الطريق فعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا على جواد الطريق ولا تنزلوا عليها فإنها ماوى الحيات والسباع ولا تقضوا عليها الحوائج فإنها من الملاعن" رواه أحمد وابن ماجة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يصلي على قارعة الطريق أو يضرب الخلا عليها أو يبال فيها" رواه ابن ماجة.
وأما سائرها فروى ابن ماجه من حديث أبي صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها ظاهر بيت الله
والمقبرة والمزبلة والمجزرة والحمام وعطن الإبل ومحجة الطريق" وعن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يصلى في سبع مواطن في المجزرة والمزبلة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله" رواه عبد بن حميد وابن ماجة والترمذي وقال ليس اسناده بذلك القوي وقد تكلم في زيد بن جبيرة من حفظه قال وقد روى الليث ابن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه واصح من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن عمر ضعفه بعض أهل
الحديث من قبل حفظه منهم يحيى بن سعيد القطان.
وهذا الكلام لا يوجب رد الحديث لوجهين.
أحدهما: أن رواته عدول مرضيون وإنما يخاف على بعضهم من سوء حفظه وذلك إنما يؤثر في رفع موقوف أو وصل مقطوع أو اسناد مرسل أو زيادة كلمة أو نقضصاخرى أو اختلاط حديث بحديث وشبه ذلك مما يؤتى الإنسان فيه من جهة تغير حفظه أما حديث كامل طويل يحدد فيه أشياء ويحصيها جملة وتفصيلا فلا يؤتى الإنسان في مثل هذا من جهة حفظه إلا أن يكون اختلقه ولهذا إنما اختلفت الرواية في كونه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى ذلك أشار الترمذي في كون عبد الله بن عمر تكلم فيه من جهة حفظه لكونه ادخل في اسناده عمر والأحاديث الصحاح المشاهير قد يقع فيها أكثر من هذا على أن رواية ابن ماجه قد صرح فيها بان الليث سمعه من نافع والاسناد إليه صالح إلا أن يكون قد وقع فيه وهم ومن الممكن أن يكون ابن عمر سمعه من ابيه فكان تارة يؤثره عنه وتارة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة فإن ابن عمر على خصوصه وغيره من الصحابة لهم من هذا الجنس أحاديث كثيرة.
الوجه الثاني: أن علة الحديث إذا كانت من جهة الخوف من سوء حفظ الراوي فإذا كان قد روي من وجهين مختلفين عن رجلين عدلين ادى كل منهما مثل ما ادى الاخر كان ذلك دليلا على أن كلا منهما حفظ ما حدثه ولم يخنه حفظه في هذا الموضوع ولهذا لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن
لا يكون ذو اليدين ضبط ما قاله استشهد بغيره من الحاضرين وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في طلبه شاهدا اخر مع محمد بن مسلمة على ميراث الجدة حتى شهد المغيرة بن شعبة.
وعمر رضي الله عنه في طلبه شاهدا مع أبي موسى على حديث الاستئذان لم يكن ذلك خشية أن يكون المحدث كذب فإن مقادير هؤلاء عندهم كانت أجل من أن يتوهم فيهم الكذب وإنما هو خشية النسيان وعدم الضبط فإذا اعتضدت رواية برواية اخرى دل ذلك على الحفظ والضبط وقد قال سبحانه لما أمر باستشهاد امراتين {أَنْ تَضِلَّ إحداهما: فَتُذَكِّرَ إحداهما: الآخْرَى} واخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقص عقلهن اوجب أن يكون شهادة امراتين كشهادة رجل واحد فعلم أن الضلال
الذي هو النسيان ونقص العقل الذي هو عدم الضبط ينجبر بانضمام المثل إلى المثل لا سيما إذا كان المحدث جازما بما حدثه وليس الحديث مما يتوهم دخول الغفلة فيه ولم يعارضه ما يخالفه ولا قامت امارة على عدم حفظه بل قامت الشواهد على صحته أما بنصوص اخرى أو بقياس وقول الترمذي ليس اسناده بذلك قوي لاجل ما تكلم في حفظ زيد بن جبيرة وقد تقدم القول في مثل هذا وذكرنا أن الكلام في الحديث تعليلا وتضعيفا شيء وأن العمل به والاحتجاج به شيء اخر وأن أهل الحديث يريدون بالضعيف كثيرا ما لم يكن قويا صحيحا وأن كانت الحجة توجب العمل به وعبارته إنما تدل على أنه ليس بتام القوة وهذا صحيح لكن إذا انجبر هذا الضعيف بالطريق الأخرى صار بمنزلة القوي هذا كله أن كان بين الليث وبين نافع فيه العمري وأن كان قد سمعه منه فالليث حجة امام.
الفصل الثالث:
في الصلاة في المواضع المنهي عن الصلاة فيها وفيها روايتان.
إحداهما: وهي ظاهر المذهب أنها لا تصح ولا تجوز.
والثانية: أنها تكره وتستحب الإعادة ومن أصحابنا من يحكي هذه الرواية بالتحريم مع الصحة ولفظ أحمد فيها هو الكراهة وقد يريد بها تارة التحريم وتارة التنزيه ولذلك اختلفوا في كراهيته المطلقة على
وجهين مشهورين ومن أصحابنا من يقول الروايتان في الجاهل بالنهي كم سيأتي أما أن علم بالنهي لم تصح صلاته رواية واحدة.
والصحيح أن في العالم بالنهي خلافا عنه وقد جاء ذلك صريحا عنه.
فان قلنا تصح فلعموم الأحاديث الصحيحة بان الأرض كلها مسجد كما تقدم ولو كان ذلك يختلف لبينه لأن تاخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ويحمل على النهي عن هذه المواضع على الكراهة جمعا بينهما ولأن علة النهي في بعضها كونها مظنة النجاسة وفي بعضها كونها محلا للشياطين وأن بها ما يشغل قلب المصلي ويخاف أن يفسد عليه صلاته وذلك أكثر ما يوجب الكراهة ولأنه موضع طاهر لا يحرم المقام فيه فاشبه الاصطبلات.
والأول أصح لأن قوله الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام إخراج لها عن أن تكون مسجدا والصلاة لا تصح إلا في مسجد اعني فيما جعله الله لنا مسجدا وهذا خطاب وضع واخبار فيه أن المقبرة والحمام لم يجعلا مسجدا ومحلا للسجود كما بين أن محل السجود هو الأرض الطيبة فإذا لم تكن مسجدا كان السجود واقعا فيها في غير موضعه فلا يكون معتدا به كما لو وقع في غير وقته أو إلى غير جهته أو في أرض خبيثة وهذا الكلام من ابلغ ما يدل على الاشتراط فإنه قد يتوهم أن العبادة تصح مع التحريم
إذا كان الخطاب خطاب أمر وتكليف أما إذا وقعت في المكان أو في الزمان الذي بين أنه ليس محلا لها ولا ظرفا فإنها لا تصح اجماعا وأيضا فإن نهيه عن صلاة المقبرة واعطان الإبل والحمام مرة بعد مرة اوكد شيء في التحريم والفساد لا سيما وهو نهي يختص الصلاة بمعنى في مكانها فإن الرجل إذا صلى في مكان نهاه الله ورسوله أن يصلي فيه نهيا يختص الصلاة لم يفعل ما أمره الله به فيبقى في عهدة الأمر بل قد عصى الله ورسوله وتعدى حدوده.
وأيضا لعنته صلى الله عليه وسلم من يتخذ القبور مساجد ووصيته بذلك في اخر عمره وهو يعالج سكرات الموت بعد أن نهى عن ذلك قبل موته بخمس وبيانه أن فاعلي ذلك شرار الخلق من هذه الأمة ومن الامم قبلها بيان عظيم لقبح هذا العمل ودلالة على أنه من الكبائر وأنه مقارب للكفر بل ربما كان كفرا صريحا وأيضا فإن قوله لا تجوز الصلاة فيها صريح في التحريم والتحريم يقتضي الفساد خصوصا هنا ولذلك لا يصح أن يقال هنا بالتحريم مع الصحة وأن قلنا به في الدار المغصوبة لأن النهي هناك ليس عن خصوص الصلاة وقد يقال أنه ليس لمعنى في المنهي عنه وهنا النهي عن نفس الصلاة في المكان المخصوص لمعنى في نفس المنهي عنه وأيضا فقوله لا يجوز دليل على أنه لا يجزىء لأن العبادة الجائزة هي الماضية النافذة وضدها الموقوفة المردودة وإذا كانت
الصلاة موقوفة محبوسة مردودة لم تكن مجزية بل قوله لا تجوز ابلغ من قوله لا تجزىء لأن هذا يعم الفرض والنفل وذاك يختص النفل وأيضا فإن الصلاة في المكان النجس فاسدة مع أنه لم ينطق كتاب ولا سنة بانها فاسدة ولا أنها غير مجزئة وإنما فهم المسلمون ذلك من نهي الشارع عن الصلاة فيها وتخصيص الاباحة بالأرض الطيبة فهذه المواضع التي سلبت اسم المسجد وترادفت اقاويل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الصلاة فيها أولى أن لا تجزئ الصلاة فيها.
فإذا قيل أن الصلاة على مكان فيه قطرة بول أو خمر أو في بعض مساقط ثوب المصلي لا تصح اعتمادا على قوله جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا واستنباطا من تخصيصه وتعليله مع أنه فهم حسن وفقه صحيح فما هو ابين منه واصرح من النهي الصريح والاستثناء القاطع مع كونه أصح واشهر وهو عن السلف أظهر وأكثر واولى أن يعتمد عليه فإن هذا كالإجماع من الصحابة قال أنس: "كنت اصلي وبين يدي قبر وانا لا اشعر فناداني عمر القبر القبر فظننت أنه يعني القمر فرفعت راسي إلى السماء فقال رجل إنما يعني القبر فتنحيت عنه" رواه سعيد وابن ماجه وغيرهما وذكره البخاري في صحيحه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تصل في حمام أو عند
قبر وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: "لا تصل في أعطان الإبل" وكذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ذلك ابن حامد وعن ابن عمر وابن عباس كراهة الصلاة في المقبرة وهذا أولى أن يكون صحيحا مما ذكره الخطابي عن ابن عمر أنه: "رخص في الصلاة في المقابر" فلعل ذلك أن صح أراد به صلاة الجنازة وعن علي رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا قال: "من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد" رواه عبد الرزاق وعن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل انصلي في مناخ الإبل قال: "لا ولكن صل في مرابض الغنم" رواه مالك وغيره وعن عبد الله بن عمرو قال: "تكره الصلاة إلى حش وفي حمام وفي مقبرة" وقال إبراهيم: "كانوا لا يصلون التطوع فإذا كانوا في جنازة فإن حضرت صلاة مكتوبة تنحوا عن القبور فصلوا" رواهما سعيد وقد قدمنا عن عمر وغيره من الصحابة أنهم نهوا عن قراءة القران في الحمام" فكيف
بالصلاة التي لا بد فيها من القراءة والتي يشترط لها ما لا يشترط لمجرد القراءة.
وهذه مقلالات انتشرت ولم يعرف لها مخالف إلا ما روى عن يزيد ابن أبي مالك قال: "كان واثلة بن الأسقع يصلي بنا صلاة الفريضة في المقبرة غير أنه لا يستتر بقبر" رواه سعيد وهذا محمول على أنه تنحى عنها بعض التنحي ولذلك قال لا يستتر بقبر أو لم يبلغه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة إليها تنحى عنها لأنه هو راوي هذا الحديث ولم يبلغه النهي عن الصلاة فيها عمل بما بلغه دون ما يبلغه.
وأما الأحاديث المشهورة في جعل الأرض مسجدا فهي عامة وهذه الأحاديث خاصة وهي تفسر تلك الأحاديث وتبين أن هذه الأمكنة لم تقصد بذلك القول العام ويوضح ذلك أربعة أشياء.
أحدها: أن الخاص يقضي على العام والمقيد يفسر المطلق إذا كان الحكم والسبب واحدا والامر هنا كذلك.
الثاني: أن قوله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا بيان لكون جنس الأرض مسجدا له وأن السجود عليها لا يختص بان تكون على صفة مخصوصة كما كان في شرع من قبلنا لكن ذلك لا يمنع أن تعرض للأرض
صفة تمنع السجود عليها فالأرض التي هي عطن أو مقبرة أو حمام هي مسجد لكن اتخاذها لما وجد له مانع عرض لها إخراجها عن حكمها ولو خرجت عن أن تكون حماما أو مقبرة لكانت على حالها وذلك أن اللفظ العام لا يقصد به بيان تفاصيل الموانع كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وقد علم أن العقد لا بد فيه من عدم الإحرام وعدم العدة ولا بد له من شروط واركان.
الثالث: أن هذا اللفظ العام قد خص منه الموضع النجس اعتمادا على تقييده بالطهارة في قوله عليه السلام كل: أرض طيبة وتخصيصه بالاستثناء المحقق والنهي الصريح أولى وأحرى.
الرابع: أن تلك الأحاديث إنما قصد بها بيان اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم وامته بالتوسعة عليهم في مواضع الصلاة دون من قبلنا من الأنبياء وأممهم حيث حظرت عليهم الصلاة إلا في المساجد المبنية للصلاة فذكر صلى الله عليه وسلم أصل الخصيصة والمزية ولم يقصد تفصيل الحكم واعتضد ذلك بان هذه الأماكن قليلة بالنسبة إلى سائر الأرض فلما اتفق قلتها وأنه لم يتمحض المقصود لبيان اعيان اماكن الصلاة ترك استثناءها.
فأما أحاديث النهي فقصد بها بيان حكم الصلاة في اعيان هذه الاماكن وهذا بين لمن تامله وما ذكروه من تعليل النهي فسنتكلم عليه إن شاء الله.
إذا ثبت ذلك فمن صلى فيها غير عالم بالنهي فهل تجب عليه الإعادة على روايتين شبيهتين بالروايتين بالتوضىء من لحم الإبل لغير العالم وكثير من متأخري أصحابنا ينصرون البطلان مطلقا للعمومات لفظا ومعنى والذي ذكره الخلال أن لا إعادة وهذه أشبه لا سيما على قول من يختار منهم أن من نسي النجاسة أو جهلها لا إعادة فيكون الجهل بالحكم فيها كالجهل بوجود النجاسة إذا كان ممن يعذر ولأن النهي لا يثبت حكمه في حق المنهي حتى يعلم فمن لم يعلم فهو كالناسي واولى ولأنه لو صلى صلاة فاسدة لنوع تاويل مثل أن يمس ذكره أو يلبس جلود السباع ويصلي ثم يتبين له رجحان القول الاخر لم تجب عليه الإعادة مع سمعة للحجة فالذي لم يسمع الحجة يجب أن يعذر لذلك إذ لا فرق بين أن يتجدد له فهم لمعنى لم يكن قبل ذلك أو سماع لعلم لم يكن قبل ذلك إذا كان معذورا بذلك بخلاف من جهل بطلان الصلاة في الموضع النجس فإن هذا مشهور.
ولو صلى في موضع لم يعلم أنه مقبرة ثم تبين له أنه مقبرة فهنا ينبغي أن يكون كما لو صلى في موضع نجس لا يعلم بنجاسته ثم علم بعد ذلك وقد تقدم قول عمر لأنس القبر القبر ولم يأمره بالاعادة لأنه لم يكن يعلم أن بين يديه قبرا.
الفصل الرابع:
أن أكثر أصحابنا لا يصححون الصلاة في شيء من هذه المواضع ويجعلونها كلها من مواضع النهي ومنهم من لم يعد مواضع النهي إلا أربعة فقط وهي المقبرة والحش والحمام وأعطان الإبل سوى الموضع النجس والمغصوب وهذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله وهو مقتضى كلام الخرقي وغيره لوجهين.
أحدهما: أن النهي إنما صح في المقبرة والحمام وأعطان الإبل والحش اسوا حالا منها فالحق بها وسائر الأمكنة مدارها على حديث ابن عمر واسناده ليس بالقوي ولا يعارض عموم الأحاديث الصحيحة لا سيما وقد استثنى في حديث أبي سعيد المقبرة والحمام خاصة دون غيرهما وقال الأرض كلها مسجد.
الثاني أن النهي إنما كان لأنها مظنة النجاسة وهذه العلة يمكن الاحتراز عنها غالبا في تلك المواضع فلا تبطل الصلاة مع تيقن اجتناب النجاسة غالبا والأول أظهر لوجهين.
أحدهما: الحديث المذكور وقد تقدم الجواب عن تضعيفه لا سيما والحديث الذي يسميه قدماء المحدثين ضعيفا مثل هذا خير من القياس
والمجمل اعني ما ذكر فيه الحكم جملة وأن كان بصيغة العموم وهو احق أن يتبع منه على ما هو مستوفي في مواضعه من اصول الفقه فكيف إذا لم يعارضه إلا عموم ضعيف لكونه مخصوصا بصور كثيرة أو قياس ضعيف ثم أن بعض تلك المواضع قد جاء فيها نصوص اخرى مثل جواد الطريق ومثل ظهر بيت الله الحرام فإن فيه اثارا عن الصحابة.
والمزبلة والمجزرة أولى بالمنع من الطريق والحمام فصار ذلك الحديث معتضدا بالآثار التي توافقه وبفحوى الخطاب الذي يطابقه وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" يشبه والله أعلم أن يكون إنما استثنى ما على هيئة مخصوصة لا يصلح أن تكون إلا على الوجه المنهي عنه فإن المقبرة والحمام لهما هيئة مخصوصة يتميزان بها عن سائر البقاع واعطان الإبل والمزبلة ونحو ذلك فإنها لا تتميز بنفس هيئة الأرض وإنما تتميز بما يكون فيها.
الوجه الثاني: القياس في المسألة وذلك فيه ثلاثة مسالك.
أحدها: وهو مسلك كثير من أصحابنا منهم أبو بكر والقاضي وغيرهما أن الحكم ثبت تعبدا يتعلق بنفس الأسماء ومفهومها من غير زيادة ولا نقص وإذا قال بعض الفقهاء هذا الحكم تعبد فله تفسيران:
أحدهما: أن يكون الحكم شرع ابتلاء وامتحانا للعباد ليتميز المطيع عن العاصي ويثاب المطبع على محض الطاعة والانقياد والاسلام كما يعاقب العاصي على محض المعصية والمخالفة وأن لم يكن في نفس العمل لولا الأمر معنى يقتضي العمل ومثل هذا أمر الله خليله بذبح ابنه وتحريمه على على أصحاب طالوت أن يطعموا من النهر إلا غرفة واحدة وكثير من الأحكام من هذا النمط وهذا التعبد حق واقع في الشريعة عند أهل السنة خلافا للمعتزلة ونحوهم إلا أن الصلاة في هذه الاماكن ليست والله أعلم من هذا القبيل لأنه قد اشير منها إلى التعليل ولأن مواضع الصلاة مبنية على التوسعة والاطلاق في شريعتنا ولا تناسب الحجر والتضييق ولأنه لا بد أن تشتمل هذه الاماكن على معان اقتضت المنع عن الصلاة فيها امتازت بتلك المعاني عن غيرها والا كان النهي عنها دون غيرها تخصيصا بغير مخصص ولأن من امعن النظر علم اشتمالها على معان انفرت بها عن غيرها.
التفسير الثاني أن يعني بالتعبد أن المكلف لم يطلع على حكمه الحكم جملة ولا تفصيلا مع أن العمل يكون مشتملا على وصف لاجله علق به الحكم سواء كان الوصف حاصلا قبل نزول الشريعة وارسال نبينا صلى الله عليه وسلم أو إنما حصل بعد الرسالة والحكم المعلق به قد يطلق على نفس خطاب الله الذي هو الأمر والنهي والاباحة وعلى موجب الخطاب الذي هو الوجوب والحرمة والحل والأول اضافة إلى الفعل والثاني: صفة ثابتة
للفعل لكنها صفة أثبتها الشارع له وقد يطلق الحكم على التعليق الذي بين الخطاب وبين الفعل وقد يعنى بالحكم أيضا صفة ثابتة للفعل قبل الشرع اظهرها الشرع كما يقوله بعض أصحابنا منهم التميمي وأبو الخطاب وأكثرهم لا يثبت حكما قبل الشرع وإنما كان ثابتا عندهم بعض علل الأحكام فمن قال أن الحكم في هذه المواضع تعبد بهذا التفسير فقد ذكر أنه لم يظهر له حكمة الحكم على وجه منضبط فادار الحكم على الاسم فهذا مسلك شديد في نفسه وأن لم يكشف فقه المسألة
والمسلك الثاني: مسلك طائفة من أصحابنا وغيرهم عللوا الصلاة بالمقبرة بان التراب يختلط بصديد الموتى ورطوباتهم فيتنجس ومن قال هذا من أصحابنا قال لما كانت المقبرة في الجملة مظنة النجاسة علق الحكم وأن تخلفت الحكمة إلى احاد الصور لأن المذهب لا يختلف عندنا أنه لا فرق بين المقبرة الحديثة والعتيقة وأن كان بعض الفقهاء يجوز الصلاة في المقبرة الجديدة لزوال هذه المفسدة وكذلك عللوا
الصلاة في الحمام بأنه مصب الاقذار والأوساخ من البول والدم وما تولد منه والقيء وغير ذلك وهذا في الحش والمزبلة والمجزرة ظاهر وكذلك الطريق هو مظنة ارواث الدواب وابوالها.
وما أعطان الإبل فعللها بعض الناس بنجاسة ابوالها.
وأجاب أبو بكر وغيره عن ذلك بأنه لو كان كذلك لم يكن فرق بين أعطان الإبل وبين مرابض الغنم لأن فيها ابوالها أيضا وحكم بول الإبل والغنم واحد.
وعلل ذلك بعضهم بان فيها شموسا ونفورا فربما نفرت فافزعت المصلي وقت صلاته وخبطته وهذا المعنى معدوم في الغنم لضعف حركتها وسكونها.
وأجاب إسحاق بن شاقلا وغيره عن ذلك بأنه لو كان كذلك لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى البعير ولما صلى عليه وأيضا لو كان كذلك لما صلى بين الإبل في السفر وهو خلاف سنة المسلمين وخلاف ما كان يفعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأيضا فلو كانت هذه العلة لكان النهي عن الصلاة عندها سواء كان في اعطانها أو غير اعطانها ولم يكن النهي عن الصلاة في مباركها واعطانها سواء كانت حاضرة أو غائبة.
وقال بعضهم: أن مواضعها مناخ الركبان وكانوا يبولون ويتغوطون في أمكنتهم ثم يرتحلون فنهي أن يصلي في أمكنتها لموضع ابوال الناس.
وقال بعضهم: معنى الحديث أنه كره الصلاة في السهول من الأرض لأن الإبل إنما تأوي إليها وتعطن فيها والغنم إنما تبوء وتراح إلى الأرض الصلبة قال والمعنى في ذلك أن الأرض الخوار التي يكثر ترابها ربما كانت فيها النجاسة فلا يبين موضعها ولا يامن المصلي أن تكون صلاته فيها على نجاسة فأما العزاز الصلب من الأرض فإنه ضاح بارز لا يخفى موضع النجاسة إذا كانت فيه وهذا تكلف بارد.
فان الأول يقتضي أن النهي عن مواضعها في الاسفار وليس بشيء فإن الصلاة في تلك المواضع جائزة بالسنة الماضية ولأن المعطن أما بوقوفها عند صدرها عن الشرب أو المكان الذي تاوي اليه.
الثاني يقتضي كراهة الصلاة في كل موضع سهل وهو باطل ثم هو خلاف تعليل الشارع صلى الله عليه وسلم أن ما ذكره الفرق بين معاطن الإبل ومرابض الغنم ليس بمضطرد بل ربما كان الأمر بخلاف ذلك.
المسلك الثالث: تفسير النهي عن الصلاة في هذه المواضع وتوجيهه بما دل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما القبور فإن الصلاة عندها تعظيم لها شبيه بعبادتها وتقرب بالصلاة عندها إلى الله سبحانه أما من يقصد هذا فظاهر مثل من يجيء إلى قبر نبي أو رجل صالح فيصلي عنده متقربا بصلاته عنده إلى الله سبحانه وهذا نوع من الشرك وعبادة الأوثان بل هو أحد الاسباب التي عبدت بها الأوثان.
قيل أنهم كانوا يصلون عند قبور صالحيهم ثم طال العهد حتى صوروا صورهم وصلوا عندها وعكفوا عليها وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولما كان النصارى قد {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} كان العكوف عند القبور والتماثيل فيهم أكثر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عن الكنيسة التي أخبر عنها: "أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وقال عليه السلام: "أن من كان قبلكم اتخذوا قبور انبيائهم وصالحهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني انهاكم عن ذلك" فإنما نهى عن ذلك لأن الصلاة
عندها وواتخاذها مساجد ضرب من عبادة الأوثان وسبب إليه لأن عبادة الأوثان ما كانوا يقولون أن تلك الحجارة والخشب خلقتهم وإنما كانوا يقولون أنها تماثيل اشخاص معظمين من الملائكة والنجوم أو البشر وانهم بعبادتهم يتوسلون إلى الله فإذا توسل العبد بالقبر إلى الله فهو عابد وثن حتى يعبد الله مخلصا له الدين من غير أن يجعل بينه وبينه شفعاء وشركاء كما أمر الله تعالى بذلك في كتابه ويعلم أنه ليس من دون الله ولي ولا شفيع كما اخبر تعالى.
ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين محق التماثيل وتسوية القبور المشرفة إذ كان بكليهما يتوسل بعبادة البشر إلى الله قال أبو الهياج الاسدي: "قال لي علي رضي الله تعالى عنه إلا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلوا معهم قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن" واخبر: "أنه لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى وحتى تضطرب اليات دوس حول ذي الخلصة صنم كان لهم في الجاهلية" ولهذا قال أصحابنا: وغيرهم من العلماء لا يجوز
أن يبنى مسجد على قبر ولا فيما بين القبور والواجب في المساجد المبنية على ترب الأنبياء والعلماء والشيوخ والملوك وغيرهم أن لا تتخذ مساجد بل يقطع ذلك عنها أما بهدمها أو سدها أو نحو ذلك مما يمنع أن تتخذ مسجدا ولا تصح الصلاة في شيء منها ولا يجوز الوقف عليها ولا اسراج ضوء فيها سواء كان بدهن أو شمع ولا يصح النذر لها بل هو نذر معصية فتجب فيه كفارة يمين لأنه صلى الله عليه وسلم لعن من يتخذ القبور مساجد ولعن من يتخذ عليها السرج ونهى عن اتخاذها مساجد وسيأتي أن شاء الله تعالى تفصيل القول في ذلك.
وام من يصلي عند القبر اتفاقا من غير أن يقصده فلا يجوز أيضا كما لا يجوز السجود بين يدي صنم والنار وغير ذلك مما يعبد من دون الله لما فيه من التشبه بعباد الأوثان وفتح باب الصلاة عندها واتهام من يراه أنه قصد الصلاة عندها ولأن ذلك مظنة تلك المفسدة فعلق الحكم بها لأن الحكمة قد لا تنضبط ولأن في ذلك حسما لهذه المادة وتحقيق الاخلاص والتوحيد وزجرا للنفوس أن يتعرض لها بعبادة وتقبيحا لحال من يفعل ذلك ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس لأن الكفار
يسجدون للشمس حينئذ ونهى أن يصلي الرجل وبين يديه قنديل أو نحوه وكان إذا صلى إلى سترة انحرف عنها ولم يصمد لها صمدا كل ذلك حسما لمادة الشرك صورة ومعنى كما نهى سعدا أن يدعو باصبعين وقال أحد أحد وأن يقول الرجل ما شاء الله وشاء فلان وأن يحلف الرجل بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد
أشرك".
ولعل بعض الناس يخيل إليه أن ذلك كان في أول الأمر لقرب العهد بعبادة الأوثان وأن هذه المفسدة قد امنت اليوم وليس الأمر كما تخيله فإن الشرك وتعلق القلوب بغير الله عبادة واستعانة غالب على قلوب الناس في كل وقت إلا من عصم الله والشيطان سريع إلى دعاء الناس إلى ذلك وقد قال الحكيم الخبير {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وقال امام الحنفاء {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أن نَعْبُدَ الأصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فإنه مِنِّي} وقد قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين عقيب فتح مكة اجعل لنا لنا ذات انواط فقال: "الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا الها كما لهم الهة أنها السنن لتتبعن سنن من قبلكم وسيعود الدين غريبا كما بدأ" ويصير الصغير كبيرا فكيف تؤمن المفسدة بل هي واقعة كثيرة فهذه هي العلة المقصودة لصاحب الشرع في النهي عن الصلاة في المقبرة واتخاذ القبور مساجد لمن تأمل الأحاديث ونظر فيها وقد نص الشارع على هذه العلة كما تقدم.
فأما أن كان التراب نجسا فهذه العلة اخرى قد تجامع الأولى لكن تكون المفسدة الناشئة من اتخاذها اوثانا أعظم من مفسدة نجاسة التراب فإن تلك تقدح في نفس التوحيد والاخلاص الذي هو أصل الدين وجماعه وراسه والذي بعثت به جميع المرسلين كما قال سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} ولهذا كانت فاتحة دعوة المرسلين من نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقد تفارق الأولى إذا كان بينه وبين التراب حائل من البساط ونحوه أو كانت المقبرة جديدة لا سيما المسجد المبني على قبر نبي أو رجل صالح فإن تربته لم يدفن فيها غيره فلا نجاسة هناك البتة مع ما فيه من نهي الشارع.
وأما أعطان الإبل فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في توجيه ذلك بانها من الشياطين وبانها خلقت من الشياطين وفي رواية أنها جن خلقت من جن وفي حديث آخر. "على ذروة كل بعير شيطان".
والشيطان: اسم لكل عات متمرد من جميع الحيوانات والشياطين من ذرية ابليس تقارب شياطين الانس والدواب فمعاطنها ماوى الشياطين اعني أنها في انفسها جن وشياطين لمشاركتها لها في العتو والتمرد والنفر وغير ذلك من الاخلاق وأن ذرية ابليس مقترنة بها وإذا كان كذلك فالمواضع التي هي مالف الشياطين ومثواهم نهى الشارع عن الصلاة فيها لما في الصلاة فيها من المفسدة التي تعكس على المصلي مقصوده من العبادة بل هي من ابلغ الاسباب المانعة من صحة العبادة وصلاحها كما فضل الاماكن التي هي مألف الملائكة والصالحين مثل المساجد الثلاثة لما يرجى هناك من مزيد الرحمة والبركة وكمال العبادة ولما يخاف هنالك من نقص الرحمة والبركة ونقص العبادة إلا ترى إلى قوله: {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أن يَحْضُرُونِ} إلا ترى أن المسجد صين عن كل ما ينفر الملائكة من التماثيل والجنب وارتفاع الاصوات ونحو ذلك فعلم أن مواضع العبادة يقصد أن تكون مما تنزل فيه الرحمة والسكينة والملائكة وأن ما كان محلا لضد ذلك لم يجعل موضع صلاة وهذه العلة التي اوما إليها الشارع هنا أوما إليها في مواضع اخر فانهم لما ناموا عن صلاة الفحر بعد القفول من غزوة خيبر واستيقظوا قال صلى الله عليه وسلم: "ليأخذ كل رجل منكم برأس راحلته فإن
هذا منزل حضرنا فيه الشيطان" مع أمره بصلاة الفائتة حين ينتبه لها وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا كفارة لها إلا ذلك".
فعلم أن الصلاة ببقعة يحضرها الشيطان أمر محذور في الشرع واعتبر هذا المعنى في قطع الصلاة بمرور المار فقال لما سئل عن الفرق بين الكلب الأسود والأبيض والأحمر الكلب الأسود شيطان وقال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه فذعته" الحديث وفي رواية: "مر علي الشيطان فتناولته فأخذته فخنقته" ونحن نقول بجميع هذه السنن ونعلل بما علل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم ما لا نعلم وامره يتبع علمه بأبي هو وامي وحينئذ فيجب طرد هذه العلة فإن الحش مع أنه مظنة النجاسة فإن الشياطين تحضره كما قال صلى الله عليه وسلم: "أن هذه الحشوش محتضرة" وأمر عند دخولها بالتسمية والاستعاذة من الشيطان الرجيم".
وكذلك الحمام فإنه مع أنه مظنة النجاسة فإنه بيت الشيطان كما جاء في الاثر الذي ذكرناه في الطهارة أن الشيطان قال أي رب اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام وهو محل للخبث والملائكة لا تدخل بيتا فيه خبث.
وأما المجزرة والمزبلة فهي كالحمام سواء وأسوأ لأنها مظنة النجاسة وهي والله أعلم محتضرة من الشياطين فانهم ابدا يأوون مواضع النجاسات فما خبث من الجمادات والاجساد مقرون ابدا بما خبث من الحيوانات والأرواح وليس اعتبار طهارة البقعة من الاجسام الخبيثة بدون اعتبار طهارتها من الأرواح الخبيثة بل العناية بتطهيرها من هؤلاء الخبيثين والخبيثات من الاماكن أولى ولما كان هذا مغيبا عن عيون الناس علق الشارع الحكم بمظنة ذلك وعلاقته وهو مكان النجاسات.
وأما قارعة الطريق فقد صرح صلى الله عليه وسلم بانها ماوى الحيات والسباع.
وهذا والله أعلم ينزع إلى ذلك لأن الحيات والسباع من اخبث شياطين الدواب وماواها اسوا حالا من ماوى الإبل.
وقد أشار أبو بكر الأثرم إلى نحو من هذه الطريقة فقال لما ذكر حديث زيد بن جبيرة واعتمده وبين الجمع بينه وبين الأحاديث المطلقة فقال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا" إنما أراد به الخلاف على أهل الكتاب لأنهم لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم فقال فضلت على الناس بذلك وبغيره ثم استثنى بعد الخلاف عليهم مواضع لمعان غير معاني أهل الكتاب قال الحمام والمقبرة فإن الحمام ليس من بيوت الطهارة لأنه بمنزلة المراحيض الذي يغتسل فيه من الجنابة والحيض والمقبرة أيضا إنما كرهت للتشبه بأهل الكتاب لأنهم يتخذون قبور انبيائهم وصالحيهم مساجد وسائر المواضع التي استثناها إنما كره نجاستها ومعاطن الإبل قال أنها خلقت من الشياطين فقد بين في كل معناه هذا كلام الأثرم وقد تبين بما ذكرناه أن العلة في أكثر هذه المواضع كونها مأوى الشياطين ومألفهم وأن الف الشيطان اياها بسبب النجاسة وغيرها.
فإن قيل فعندكم تجوز الصلاة في الموضع الذي نسي الصلاة فيه وهو موضع شيطان وتجوز في السوق بنص السنة وبها يركز الشيطان
مفقودة
ويريد بها مقابر المشركين العتق مع أن المفهوم عندهم مقابرهم ولا يجوز أن يريد بها ما يتجدد من القبور دون المقابر الموجودة في زمانه وبلده فإن ما يعرفه المتكلم من افراد العام هو أولى بالدخول في كلامه ثم أنه لو أراد القبور المنبوشة وحدها لوجب أن يقرن بذلك قرينة تدل عليه والا فلا دليل يدل على أن المراد هو هذا ومن المحال أن يحمل الكلام على خلاف الظاهر المفهوم منه غير أن ينصب دليل على ذلك ثم أنه نهانا عما كان يفعله أهل الكتابين من اتخاذ القبور مساجد وأكثر ما اتخذوه من المساجد مقبرة جديدة بل لا يكون إلا كذلك ثم هم يفرشون في تلك الأرض مفارش تحول بينهم وبين تربتها فعلم أنه صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك.
وبالجملة فمن جعل النهي عن الصلاة في المقبرة لاجل نجاسة الموتى فقط فهو بعيد عن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
ثم لا يخلوا أما أن يكون القبر قد بني عليه مسجد فلا يصلى في هذا المسجد سواء صلى خلف القبر أو امامه بغير خلاف في المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني انهاكم عن ذلك" وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا" الحديث وقال: "لعن الله
زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" فعم بالنهي أن يتخذ شيء من القبور مسجدا وخص قبور الأنبياء والصالحين لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم واتخاذها مساجد أكثر ونص على النهي عن أن يتخذ قبر واحد مسجدا كما هو فعل أهل الكتاب لذلك أن لم يكن عليه مسجد لكن قصده انسان ليصلي عنده فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من اجلها وقد اتخذ القبور مساجد يقصدها للصلاة فيها والصلاة عندها كما يقصد المسجد الذي هو مسجد للصلاة فيه فإن كل مكان اعد للصلاة فيه أو قصد لذلك فهو مسجد بل كل ما جازت الصلاة فيه فهو مسجد كما قال: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وقال عليه السلام: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" وسواء كان في بيت أو مكان محوط وقد بني عليه بناء لاجله أو لم يكن.
وأما أن كان في موضع قبر وقبران فقال أبو محمد لا يمنع من الصلاة هناك لأنه لا يتناولها اسم المقبرة وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق لا بعموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر من القبور وهذا هو
الصواب فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا القبور مساجد" أي لا تتخذوها موضع سجود فمن صلى عند شيء من القبور فقد اتخذ ذلك القبر مسجدا إذ المسجد في هذا الباب المراد به موضع السجود مطلقا لا سيما ومقابلة الجمع بالجمع يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد فيكون المقصود لا يتخذ قبر من القبور مسجدا من المساجد ولأنه لو اتخذ قبر نبي أو قبر رجل صالح مسجدا لكان حراما بالاتفاق كما نهى عنه صلى الله عليه وسلم فعلم أن العدد لا أثر له وكذلك قصده للصلاة فيه وأن كان اغلظ لكن هذا الباب سوى في النهي فيه بين القاصد وغير القاصد سدا للباب الفساد ولأنه قد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال لا تصل في حمام ولا عند قبر.
قال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة من حول القبور لا يصلى فيه فعلى هذا ينبغي أن يكون المنع متناولا لحريم القبر المفرد وفنائه المضاف اليه.
قال أصحابنا: ولا تجوز الصلاة في مسجد بني على المقبرة سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا.
فأما أن لم يكن في أرض المقبرة وكانت المقبرة خلفه أو عن يمينه أو عن شماله جازت الصلاة فيه يعنون إذا لم يكن قد بني لاجل صاحب القبر فأما أن بني لاجل صاحب القبر بأن يتخذ موضعا للصلاة لمجاورته
القبر وكونه في فنائه فهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول صلى الله عليه وسلم.
وأما أن كانت المقبرة امامه فسياتي أن شاء اللله تعالى هذا قول القاضي وغيره.
وقال ابن عقيل أن بني بعد أن تقلبت ارضها بالدفن لم تجز الصلاة فيه وأن بني مسجد في ساحة ظاهرة وجعلت الساحة مقبرة فالمسجد على أصل جواز الصلاة لان أكثر ما فيه أنه في جوار مقبرة فلم يمنع من الصلاة فيه كسائر ما جاورها من الدور والمساجد.
والصحيح أنه لا فرق في بناء المسجد في المقبرة بين أن تكون جديدة أو عتيقة كما تقدم.
وقال جماعة كثيرة من أصحابنا أن بني مسجد في المقبرة لم تصح الصلاة فيه بحال لأن ارضه جزء من المقبرة وأن كان المسجد متقدما فاتخذ ما حوله مقبرة جازت الصلاة فيه إلا أن تكون المقبرة في قبلته وفسروا اطلاق القاضي وغيره بهذا.
فان زال القبر أما بنبش الميت وتحويل عظامه مثل أن تكون مقبرة كفار أو ببلاه وفنائه إذا لم يبق هناك صورة قبر فلا بأس بالصلاة هناك لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين فامر بها فنبشت لما أراد بناءه.
وان لم يعلم بلاه أو كان ممن يعلم أنه لم يبل لكن قد ذهب تمثال القبر واندرس اثره بحيث لم يبق علم الميت ولا يظهر أن هناك احدا مدفونا فهنا ينبغي أن تجوز فيه الصلاة إذا لم يقصد الصلاة عند المدفون هناك لان هذا ليس صلاة عند قبر ولا يقال لمثل هذا مقبرة.
ولهذا يقال أن إسماعيل وامه هاجر مدفونان في حجر البيت ويقال أن جماعة من الأنبياء مدفونون بمسجد الخيف واخرين مدفونون بين زمزم والمقام مع أن الصلاة هناك جائزة حسنة بالسنة المتواترة والإجماع لأنه لا يتوهم أن تلك الأمكنة مقابر ولا أن الصلاة عندها صلاة عند قبر ولأن الصلاة عند القبور كرهت خشية أن تتخذ اوثانا تعبد فإذا كان هناك تمثال أو علم يشعر بالمدفون كان كصورته المصورة إذا صلى عنده فيصير وثنا أما إذا فقد هذا كله فلا عين ولا أثر وليس فيه ما يفضي إلى اتخاذ القبور وثنا حتى لو فرض خشية ذلك نهي عنه.
فصل.
وما الحمام فقال أصحابنا: لا فرق فيه بين المغتسل الذي يتعرى
الناس فيه ويغتسلون فيه من الوسطاني والجواني وبين المسلخ وهو الموضع الذي توضع فيه الثياب بل كل ما دخل في مسمى الحمام لا يصلى فيه ويدخل في ذلك كل ما اغلق عليه بابه وكذلك اتون الحمام لا تجوز الصلاة فيه لأنه مزبلة هذا تعليل القاضي وغيره فعلى هذا إذا علم أنه لا يوقد فيه إلا وقود طاهر فهو كالمزبلة التي علم أنه لا يوضع فيها إلا شيء طاهر وجعل ابن عقيل وغيره الاتون داخلا في مسمى الحمام فيكون النهي فيه لعلتين.
وقيل تجوز الصلاة فيما ليس مظنة للنجاسة من الحمام كالمسلخ ونحوه تعليلا للحكم بكون البقعة مظنة النجاسة فإذا تيقن طهارتها زال سبب المنع.
والأول المذهب للنصوص المتقدمة فإن اسم الحمام يشمل الجواني والبراني فلا يجوز التفريق بينهما في كلام الشارع ولأن العلة لو كانت مجرد النجاسة المتبقية لم يكن فرق بين الحمام وغيره ولو كانت مظنة النجاسة أو توهمها لوجب أن تحرم الصلاة في كل بقعة شككنا في نجاستها إذا أمكن نجاستها.
وقد تقدم أن العلة التي اوما الشارع إليها كونها محتضرة من الشياطين وهذا القدر يعمها كلها ثم لو كانت العلة مجرد أنها مظنة النجاسة فالصور النادرة قد لا يلتفت الشارع إلى استثنائها الحاقا للنادر بالغالب كما هو في أكثر المواضع التي تعلق الأحكام بالمظان.
وأما الحش فهو المكان المعد لقضاء الحاجة فلا تصح الصلاة في شيء من مواضع البيت المنسوب إلى ذلك سواء في ذلك موضع التغوط أو موضع الاستنجاء أو غيرهما فأما المطاهر التي قد بني فيها بيوت للحاجة والاغتسال أيضا وبرانيها للوضوء فقط وللوضوء والبول فينبغي أن تكون نسبة برانيها كنسبة براني الحمام إليها ولا يصلى فيها بل هي أولى بالمنع من الحمام لأنها أولى بالنجاسة والشياطين من الحمام ووجود ذلك في الخارج منها أظهر من وجوده في الخارج من الحمام.
فأما ما ليس مبنيا للحاجة وإنما هو موضع يقصد لذلك كما في البر والقرى ومنه ما قد اعتيد لذلك ومنه ما قد فعل ذلك فيه مرة أو مرتين فينبغي أن يكون من الحشوش أيضا فإن الحش في الأصل هو البستان وإنما كنوا عن موضع التغوط به لأنهم كانوا ينتابونها للحاجة ولأن العرب لم يكونوا يتخذون الكنف قريبا من بيوتهم وإنما كانوا ينتابون الصحراء فعلم أن تلك الأمكنة داخلة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا طهر المكان وقطعت عنه هذه العادة لم يكن حشا.
فصل.
وأما أعطان الإبل فالمنصوص عن أحمد أنها الاماكن التي تقيم بها الإبل وتأوي اليها.
ومن أصحابنا من قال هي المواضع التي تصدر إليها بعد أن ترد الماء وذلك أن الإبل بعد أن ترد الماء فإنها تناخ بمكان لتسقى بعد ذلك عللا بعد نهل فإذا استوفت ردت إلى المراعي.
وعبارة بعضهم أنه المواضع التي بقرب النهر فتناخ فيه الإبل حتى ترد الماء فجعلها مناخها قبل الورود.
والعبارة الأولى اجود لأن هذا تفسير أهل اللغة قالوا أعطان الإبل مباركها عند الماء لتشرب عللا بعد نهل يقال عطنت الإبل تعطن وتعطن إذا رويت ثم تركت فهي ابلا عاطنة وعواطن وقد ضربت بعطن أي بركت ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر رؤياه: "ثم اخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا لم ار عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن كأنهم امتلؤا من تلك البئر ثم صدروا رواء كهيئة الإبل إذا رويت ومنه استقا رواء وقولهم فلان واسع العطن والبلد واعطن الرجل بعيره إذا لم يشرب فرده إلى العطن ينتظر به قال لبيد.
عافتا الماء فلم نعطنهما
إنما يعطن من يرجو العلل.
وتوسعوا في ذلك حتى قالوا لمرابض الغنم حول الماء معاطن.
والصواب أن الاماكن التي تقيم بها مراد من الحديث كما نص أحمد لأن في بعض الفاظ الحديث أن السائل قال انصلي في مبارك
الإبل قال والمبارك التي يكثر بروكها فيها والمواضع التي تقيم بها أولى بهذ الاسم من مصادرها ولأنه قابل بين معاطن الإبل ومراح الغنم ومرابضها فعلم أن المعاطن للابل بمثابة المراح والمرابض للغنم ومراح ما تقيم فيه وتاوي إليه فكذلك معاطن الإبل ولأنه إذا نهي عن الصلاة في المواضع التي تقيم بها ساعة أو ساعتين فالمواضع التي تبيت بها وتأوي إليها أولى بهذا الحكم.
فأما أن يكون الحكم اريد في مبيتها بطريق الفحوى والتنبيه أو يكونوا قد توسعوا في العطن حتى جعلوه اسما لكل ماوى لها كما توسعوا فيه حتى جعلوا للغنم اعطانا وللناس اعطانا فإذا قلنا أنه لا تجوز الصلاة فيما تقيم فيه وتاوي إليه كما نص عليه جازت في مصادرها عند الشرب فيما ذكره من رجح هذا القول من أصحابنا.
والصحيح أن المعاطن تعم هذا كله على ظاهر كلام أحمد فإنه قال هي الاماكن التي تقيم بها وتاوي إليها وعلى هذا فسواء اوت بالليل أو النهار وهذا لأن لفظ المعاطن والمبارك يعم هذا كله كما تقدم فلا وجه لإخراج شيء منه من الحديث وهذا لأن اللفظ إذا توسع أهل العرف فيه حتى صار معناه عندهم اعم من معناه في اللغة لم يخرج ذلك المعنى اللغوي عن اللفظ بل يصير بعضه ولأنه مكان تعتاده الإبل وتاوي إليه فاشبه مبيتها وهذا لأن العطن الذي يكون عند البئر أو الحوض أو النهر قد اعد لمقام الإبل وبروكها فيها فكان من مبركها كما لو اعد لمقامها فيه نهارا
دون الليل.
قال أصحابنا: ولا فرق بين أن تكون الإبل في المعاطن أو أن لا تكون ولا فرق بين أن تكون قائمة حال الصلاة أو غير قائمة لأن النهي تناول الموضع.
وقال ابن حامد والقاضي وسائر أصحابنا فأما مكان نزولها في سيرها أو مكان مقامها لتتنقل عنها أو مكان علفها أو ورودها لتسقى الماء فالصلاة فيه جائزة لأنه لا يسمى عطنا.
وقد قال الأثرم سمعت ابا عبد الله يسئل عن موضع فيه ابعار الإبل نصلي فيه فرخص ثم قال إذا لم يكن من معاطن الإبل التي نهي عن الصلاة فيها التي تاوي إليها الإبل وذلك لأن هذه الاماكن ليست معدة لمقام الإبل وإنما مقامها فيه عارض فلا يتناولها النهي لفظا ولا معنى ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كانوا يرتحلون في أسفارهم في الحج والعمرة والغزو وغير ذلك على الإبل ومع هذا فكانوا يصلون في مناخ ابلهم وكانوا يصلون عليها واليها وهذا ظاهر مشهور في سيرهم ولأن تلك الأمكنة ليست اخص ب الإبل من الناس الذين نزلوا بها والكراهة إنما نشأت لسبب في المكان الذي انفردت به أو غلبت عليه والله أعلم.
فصل.
وأما المجزرة فقال أصحابنا: هي الموضع الذي يذبح فيه الحيوان معروفا بذلك للقصابين والسوابين ونحوهم ولا فرق بين أن يكون الموضع نظيفا من الدماء والارواث أو غير نظيف لأن النهي تناول الموضع والعلة كونه مظنة النجاسة ومحلا للشياطين وهذا عام وهذا هو المشهور وعلى الوجه الذي يعلل الحكم فيه بحقيقة النجاسة تجوز الصلاة في الموضع الذي تيقنت طهارته.
وأما المزبلة فقالوا هو الموضع الذي تجمع فيه الزبالة مثل المواضع التي في الطرقات ونحوها ولا فرق بين أن يكون عليها نجاسة من الزبالة أو تكون طاهرة.
ولفظ بعضهم لا فرق بين أن يرمى فيها زبالة طاهرة أو نجسة وهذا لأن المكان معد لالقاء الزبالات النجسة والطاهرة فخلوه بعض الاوقات عن النجاسة لا يمنعه أن يكون معدا لها كالحمام الذي غسلت ارضه وإذا كان معدا لها تناوله النهي لفظا ومعنى ومن علل بوجود النجاسة فإنه يجوزه إذا تيقنت طهارة المزبلة.
فصل.
وأما قارعة الطريق فقال أصحابنا: هي الجادة التي قد صارت محجة وسواء في ذلك طريق الحاضر والمسافر فطريق الحاضر مثل الشوارع المستطرقة بين الدروب والاسواق وطريق المسافر هي الجادة التي قد صارت محجة سميت جادة من قولهم أرض جدد وهي الصلبة وفي المثل من سلك الجدد امن العثار واجد الطريق صار جددا فالجادة هي الطريق التي اشتدت وصليت بوطئ الناس والدواب وتسمى قارعة لكثرة قرع الارجل لها فأما أن تكون سميت بذلك لأنها تقرع الأرجل إذا قرعتها الأرجل أو يكون المعنى ذات قرع أو فاعلة بمعنى مفعولة.
والمحجة هي الجادة سميت بذلك لأن الحج هو القصد والطريق هي موضع قصد الناس إلى حوائجهم.
قال أصحابنا: وقارعة الطريق هي التي تسلكها السابلة والمارة وليس المراد بذلك كل ما سلك لأن المواضع لا تخلوا من المشي عليها في الجملة قالوا ولا بأس بالصلاة فيما خرج عن قارعة الطريق يمنة ويسرة لأن النهي إنما ورد عن الصلاة في محجة الطريق وفي جواد الطريق والمحجة الوسط والجواد ما صلب بالمشي.
ومنهم من رخص الرخصة بجوانب طرقات المسافرين لأن أحمد
إنما نص على ذلك قال بعضهم: ولا بأس بالصلاة في الطرقات التي يقل سالكوها كطريق الابيات اليسيرة وبكل حال فيجوز أن يصلى في الطرقات التي يكثر لها الجمع كالجمع والاعياد والجنائز لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك.
الفصل السادس:.
في علو هذه الأمكنة وسطوحها قال كثير من أصحابنا منهم القاضي وأكثر أصحابه كالآمدي وابن عقيل وغيرهم لا فرق في الحمام والحش وأعطان الإبل بين سفلها وعلوها لأن الاسم يتناول الجميع والحكم معلق بالاسم.
قال الآمدي وابن عقيل علو المجزرة كسفلها ولم يذكره القاضي في المواضع المنهي عنها ولم يعدها ولا في المنهي عنه علو المزبلة.
ومن أصحابنا طائفة طردوا الحكم في علو جميع المواضع المنهي عنها على طريقة هؤلاء لأنهم منعوا من الصلاة في علو الاتون مع تعليله بأنه مزبلة قالوا ويدخل في كل موضع منها ما يدخل فيه مطلق البيع والهبة من حقوق من سفله وعلوه اعتبارا بما يقع عليها الاسم عند الاطلاق ولأن الحكم تعبد فيناط بما يدخل في الاسم.
والفرق بين علو المزبلة وغيرها على ما ذكره الأولون أن علو المزبلة لا يسمى مزبلة لأن المزبلة المكان المعد لوضع الزبالة في الطريق ونحوه ومعلوم أن علو تلك البقعة لا يسمى مزبلة بخلاف الاعطان والحشوش
والمجازر فإنها ابنية تبنى لشيء يقصد ستره ويجعل سقفه تابعا لقراره فيتناوله الاسم.
وأما أبو الخطاب فلم يمنع من هذه السطوح إلا من سطح الحش والحمام خاصة وهذا اجود مما قبله لأن الحش والحمام اسم لبناء على هيئة مخصوصة لا تتخذ إلا لما بني له حتى لو اريد لاتخاذه لغير ذلك لغير عن صورته فكان الاسم متناولا لجميعه وهو قد عد لشيء واحد بخلاف العطن فإنه اسم لما تقيم فيه الإبل وتاوي إليه لا يختص ببناء دون بناء حتى لو اتخذ عطنها مراحا للغنم جازت الصلاة فيه مع أن صورته باقية وعلو العطن ليس متخذا للابل ولا مبنيا لذلك بناء يخصه فلا يلحق به.
وكذلك المجزرة والمزبلة أنها تصير مجزرة ومزبلة بالفعل فيها لا بنفس بنائها فليس العلو تابعا للسفل في القعل ولا في البناء المختص بذلك.
ومن أصحابنا من قال بجواز الصلاة على علو جميع هذه المواضع وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا لأن ما فوق سقف الحش والحمام قد لا يدخل في النهي لفظا ولا معنى لأن الاسم قد لا يتناوله فإنه لو حلف لا يدخل حشا ولا حماما لم يحنث بصعود على سطح حش أو حمام بخلاف من حلف لا يدخل دارا لأن الحش والحمام ونحوهما اسماء لاماكن معدة لامور معلومة وظهورها ليست من ذلك في شيء وكونها مظنة النجاسة أو مظنة الشياطين لا يتعدى إلى ظهورها والهواء تبع للقرار
في الملك ونحوه أما انه يتبعه في كل شيء فليس كذلك فإن كل أحد يعلم أن هواء المزبلة ليس مزبلة وهواء الحش الذي فوق سطحه ليس حشا.
فأما أن كان العلو قد اتخذ لشيء اخر بحيث لا يتبع السفل في الاسم فإنه تصح الصلاة فيه قال أحمد في رواية أبي داود إذا بنى رجل مسجدا فاراد غيره هدمه وبناءه فابى عليه الأول فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم إذا احبوا هدمه وبناه وإذا ارادوا أن يرفعوا المسجد ويعمل في اسفله سقاية فمنعهم من ذلك مشايخ ضعفى وقالوا لا نقدر نصعد فإنه يرفع ويجعل سقاية لا أعلم بذلك بأسا وينظر إلى قول أكثرهم فقد نص على بناء المسجد على ظهر السقاية قال في رواية حنبل لا ينتفع بسطح المسجد فإن جعل السطح مسجدا انتفع بأسفله وأن جعل اسفله مسجدا لا ينتفع بسطحه وكذلك قال القاضي وغيره فإن كانت المساجد مغلقة على حوانيت أو سقاييات فالصلاة فيها جائزة لأن ما تحتها ليس بطريق وقال أبو محمد المقدسي صاحب الكتاب رحمه الله أن كان المسجد سابقا وجعل تحت طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو كان في غير مقبرة فحدثت المقبرة حوله لم يمنع بغير خلاف لأنه لم يتبع ما حدث بعده وهذا يقتضي أنه جعل من صور الخلاف ما إذا احدث المسجد على عطن ونحوه من أمكنة النهي.
والذي صرح به الأصحاب هو ما ذكرناه وهو منصوص أحمد والفقه فيه ظاهر فإن العلو إذا اتخذ لشيء اخر غير ما اتخذ السفل له لم يكن أحدهما: بان يجعل تابعا للاخر باولى من العكس وإنما يجعل تابعا له عند الاطلاق إلا ترى أنه لو قال بعتك هذا الحش وفوقه مسكن أو مسجد لم يدخل في مطلق البيع بخلاف ما لو كان ظهره خاليا ولأن الهواء إنما يتبع القرار في العقود عند الاطلاق فإذا قيد العقد بان قيل بعتك التحتاني فقط لم يدخل واتخاذ العلو لامر اخر غير ما اتخذ له السفل بمنزلة إخراجه عن كونه تابعا له في القول وتقييد له بصيغة توجب الانفراد ولو حلف لا يدخل حشا أو عطن أو مزبلة أو حماما فدخل مسجدا مبنيا على ظهور هذه الأشياء لم يجز أن يقال أنه يحنث في يمينه.
فصل.
وأما علو المقبرة فإن كان قد بني على المقابر بناء منهي عنه كالمسجد أو بناء في المقبرة المسبلة كانت الصلاة عليه صلاة في موضع محرم أما البناء في المقبرة المسبلة فإن الصلاة عليه صلاة على مكان مغصوب والصلاة في علو المسجد صلاة في مسجد في القبور وأيضا فإن الصلاة على ظهر البناء المذكور اتخاذ للقبور مساجد ودخول في لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب عليه فانهم لما اتخذوا الابنية على قبور انبيائهم وصالحيهم لعنوا على ذلك سواء صلوا في قرار المبنى أو علوه.
وان كان الميت قد دفن في دار واعلاها باق على الاعداد للسكنى فعلى ما ذكره أصحابنا تجوز الصلاة فيه لأن ذلك ليس من المقبرة اصلا ولا تبعا إلا أن نقول بالحاق العلو بالسفل مطلقا على الوجه الذي تقدم في علو العطن والحش إذا كان مسجدا وأن لم يبق معدا للسكنى ونحوها فهو كما لو دفن في أرض مملوكة ثم بني عليه بناء لم يعد للسكنى.
فعلى ما دل عليه كلام أحمد وأكثر أصحابه لا يصلى فيه لأن هذا البناء منهي عنه وهو تابع للقرار في الاسم فيقال هذه التربة وهذه المقبرة للعلو والسفل ولأن الصلاة في علو هذا المكان بالنسبة للميت كالصلاة في اسفله ولأن حكمة النهي عن الصلاة عند القبر هو ما فيه من التشبه بعبادة الأوثان والتعظيم المفضي إلى اتخاذ القبور اوثانا وهذه الحكمة موجودة بالصلاة في قرار الابنية وعلوها سواء قصد المصلي ذلك أو تشبه بمن يقصد ذلك وخيف أن يكون ذلك ذريعة إلى ذلك ومن أجاز هذا البناء من أصحابنا ولم يجعل العلو تابعا للقرار فإنه يلزمه أن يجوز الصلاة فيه.
فصل.
وأما علو الطريق مثل السوابط والاجنحة سواء كانت مساجد أو مساكن فالمشهور عنه أنه لا يصلي على المساجد المحدثة على الطرقات والأنهار التي تجري فيها السفن وقال في رواية عبد الله وجعفر بن محمد:
مفقود
وهذا مفقود في العلو ولأن الصلاة على يمنة الطريق ويسرته تجوز لكونها ليست من الجواد والمحجة فالعلو ابعد عن الجادة والمحجة من ميمنتها وميسرتها.
ولو كان غصب الميمنة والميسرة لا يجوز ولو صلى فيها وهو غاصب لها لم تصح صلاته ولأن العلو إنما يتبع القرار في حكمه إذا لم يميز عن السفل بل يجعل سقفا له فقط فأما إذا اعد لشيء غير ما اعد له السفل لم يكن طريقا البتة كالمسكن والمسجد المبني على ظهر السقاية ونحوها فإنه ليس بسقاية ولأن الصلاة في السفينة وعلى الراحلة تجوز في الجملة مع مسيرها في الطريق فالصلاة على سقف الطريق أولى أن لا يكون صلاة في الطريق واولى بالجواز.
قال بعض أصحابنا: ولأنه لو كان المنع في علو الطريق كونه تبعا له لجازت الصلاة في الساباط على النهر لأنه موضع للصلاة في الجملة بدليل ما لو جمد ماؤه أو كان في سفينة وهذا ضعيف لأنه إذا جمد لم يبق طريقا للسفن فإن مر الناس فيه واتخذوه طريقا لم تجز الصلاة فيه.
وأما الصلاة في السفينة فهي كالصلاة على الراحلة تجوز مع مسيرها في الطريق فثبت أن علة المنع أنه بناء في هواء الطريق وهذا غير جائز لما سنذكره أن شاء الله تعالى في موضعه فيكون كما لو بنى جناحا أو ساباطا في ملك غيره فإنه يكون غاصبا بذلك وتكون الصلاة فيه صلاة في مكان مغصوب فعلى هذا أن كان الساباط جائزا مثل الساباط المبني على درب غير نافذ باذن اهله فإنه جائز بلا تردد وكذلك أن كان الساباط لا يضر
بالمارة وقد اذن فيه الامام فإنه جائز فيما ذكره أصحابنا وأن كان بدون اذن الامام لم يجز في المشهور.
وحكي رواية اخرى بالجواز.
فأما ما يضر بالمارة فإنه ممنوع رواية واحدة.
وأما المسجد المبني في الطريق فإن كان يضيق الطريق لم يجز لأنه غصب للطريق.
وان كان الطريق واسعا بحيث لا يضر المارة بناؤه فيه فعنه يجوز.
وعنه لا يجوز.
وعنه إنما يجوز باذن الامام خاصة فإذا جاز احداثه في جانب الطريق فاحداثه في هوائه إذا لم يكن فيه ضرر أولى بالجواز ولهذا لا يجوز لاحد أن يبني في جانب الطريق الواسع لنفسه بناء وأن جاز أن يبني فيه مسجد للناس وقد يجوز أن يبني لنفسه ساباطا إذا اذن فيه الامام وقد روى محمد بن ماهان السمسار عن أحمد أنه تجوز الصلاة في الساباط المحدث على الطريق دون الساباط المحدث على النهر فعلله بعض أصحابنا بان الطريق محل للصلاة في الجملة إذا اتصلت الصفوف في الجمع والاعياد بخلاف النهر الكبير ويحتمل أن تكون علته أن في اتخاذ الساباط على الطريق منفعة لابناء السبيل أنه يسترهم من الحر والمطر والثلج بخلاف الساباط على النهر فإنه لا منفعة فيه لأحد.
فصل.
وأما الصلاة إلى هذه المواضع فقد نص أحمد في مواضع على كراهة الصلاة إلى المقبرة والحش والحمام قال في رواية الأثرم إذا كان المسجد بين القبور لا تصلى فيه الفريضة وأن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصلوا إلى القبور وقال اسناده جيد وقال في رواية الميموني وقد سئل عن الصلاة إلى المقابر والحش فكرهه وقال في رواية أبي طالب وقد سئل عن الصلاة في المقبرة والحمام والحش وكرهه وقال لا يعجبني أن يكون في القبلة قبر ولا حش ولا حمام وأن كان يجزيه ولكن لا ينبغي قال أبو بكر في الشافي يتوجه من الإعادة قولان.
أحدهما: لا يعيد بل يكره وهذا هو المنصوص منصوص في رواية أبي طالب وهو اختيار القاضي.
والثاني: يعيد لموضع النهي قال أبو بكر وبه اقول قال ابن عقيل نص أحمد على حش في قبلة مسجد لا تصح الصلاة فيه وكذلك قال ابن حامد لا تصح الصلاة في المقبرة والحش ولم يذكر الحمام
وقال كثير من أصحابنا منهم المدي لا تجوز الصلاة إلى القبر وصرح جماعة منهم بان التحريم والابطال مختص بالقبر وإنما كرهت الصلاة إلى هذه الأشياء لما تقدم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا إلى القبور".
وكذلك حديث عمر وغيره في النهي عن الصلاة إلى القبر وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أنه كان يكره الصلاة في مسجد قبالته نتن أو قذر" رواه البخاري في تاريخه وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "تكره الصلاة إلى حش" رواه سعيد وعن إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون ثلاثة أبيات أن يكون قبلة الحمام والحش والقبر" رواه حرب.
وذهبت طائفة من أصحابنا إلى جواز الصلاة إلى هذه المواضع مطلقا من غير كراهة وهو قول ضعيف جدا لا يليق بالمذهب.
ومنهم من لم يكره ذلك إلا في القبر خاصة لأن النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صح في الصلاة إلى القبور كما تقدم ولأنها هي التي يخاف أن تتخذ اوثانا فالصلاة إليها شبيهة بالصلاة بين يدي صنم وذلك أعظم من الصلاة بينها ولهذا كانوا يكرهون من الصلاة إلى القبر ما لا يكرهونه من الصلاة إلى المقبرة وهذه حجة من رأى التحريم والإبطال مختصا
بالصلاة إلى القبر وأن كره الصلاة إلى تلك الأشياء وهو قول قوي جدا وقد قاله كثير من أصحابنا.
ووجه الكراهة في الجميع ما تقدم عن الصحابة والتابعين من غير خلاف علمناه بينهم ولأن القبور قد اتخذت اوثانا وعبدت بالصلاة إليها يشبه الصلاة إلى الأوثان وذلك حرام وأن لم يقصده المرء ولهذا لو سجد إلى صنم بين يديه لم يجز ذلك والحش والحمام موضع الشياطين ومستقرهم وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدنو إلى السترة خشية أن يقطع الشيطان على المصلي صلاته وقال: "تفلت علي البارحة شيطان فاراد أن يقطع علي صلاتي" وقال: "الكلب الأسود يقطع الصلاة" ووجه ذلك بأنه شيطان وتبين بذلك أن مرور الشيطان بين يدي المصلي يقدح في صلاته فالصلاة إلى مستقره ومكانه مروره مظنة بين يدي المصلي ولأن الصلاة إلى الشيء استقبال له وتوجه إليه وجعل له قبلة فإن ما يستقبله المصلي قبلة له كما أن البيت قبلة له يبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن النخامة في القبلة" والاستقبال داخل في حدود الصلاة ولهذا أمرنا أن نستقبل في صلاتنا اشرف البقاع واحبها إلى الله وهو بيته العتيق فينبغي للمصلي أن يتجنب استقبال الأمكنة الخبيثة والمواضع الردية إلا ترى انا نهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول فكيف إذا كان البول والغائط والشياطين ومواضع ذلك في القبلة وقت الصلاة.
قال القاضي ولأن القبر والحش مدفن النجاسة وقد بينا كراهة الصلاة إلى النجاسة.
قال ويكره الصلاة إلى قوم من أهل الذمة نص عليه في رواية عبد الله في ملاحين مجوس يكونون بين يدي القوم في السفينة بنجوفهم ويصلون وقال في رواية أبي طالب هو نجس وكرهه قال وإنما كره ذلك لأن من الناس من يقول أنهم انجاس وقد كره للانسان أن يصلي مستقبلا لنجاسة لأن قبلته جهة رحمته ولهذا منع القاضي أن يستقبل القبلة بغائط أو بول فأولى أن يكره للمصلي ذلك.
وقال غير القاضي لا نكره الصلاة إلى شيء من النجاسات.
ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو في باطنه واختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلي وبين الحش ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره كما لو كان بينه وبين المار حائل.
والأول هو الماثور عن السلف وهو المنصوص حتى قال في رواية أبي طالب في رجل حفر كنيفا إلى قبلة المسجد يهدم وقال في رواية المروذي في كنيف خلف قبلة المسجد لا يصلى إليه وقيل له أن الدار لايتام والحائط لهم ترى أن يضرب على الحائط ساج أو شيء قال أن كان وصيا غير الكنيف أو حوله وأن كانوا صغارا لم يرخص لهم أن يضربوا عليه الساج وقال يعجبني أن يكون بينهما اذرع فقيل له: يضيق
المسجد فقال وأن ضاق قال القاضي فقد نص على إزالة الحش من ظهر القبلة وبين أنه إذا جعل بينه وبين المسجد حائل بالساج لا يزيل الكراهة حتى يفصل بين الحش وبين قبلة المسجد قال ابن حامد وغيره ومتى كان بين الحش وبين حاط المسجد حائط اخر جازت الصلاة اليه.
فأما المقبرة إذا كانت قدام حائط المسجد فقال الآمدي وغيره لا تجوز الصلاة إلى المسجد الذي قبلته إلى المقبرة حتى يكون بين حائطه وبين المقبرة حائل اخر وذكر بعضهم أن هذا منصوص أحمد لقوله المتقدم في رواية الأثرم.
وقال القاضي إذا لم يكن يعني المصلي في أرض المقبرة بل كانت المقبرة امامه فقال شيخنا أن كان بينه وبينها حاجز جازت الصلاة لأنه ليس يصلي فيها ولا إليها وأن لم يكن بينه وبينها حاجز لم تجز الصلاة كما لو كان في ارضها فإن كان بينه وبين هذه الأشياء عدة اذرع لم تكره الصلاة على ما نص عليه في رواية المروذي.
فصل.
وأما الصلاة في سائر المواضع المنهي عنها فقال القاضي تكره الصلاة إليها كما تكره إلى هذه المواضع فتكره الصلاة إلى الطريق واعطان الإبل والمجزرة لأن النص على واحد منها تنبيه على غيرها ولأنها مظان النجاسات وقال كثير من أصحابنا لا تكره الصلاة إلى بقية
المواضع وهذا هو المنصوص عن أحمد في بعضها قال في رواية ابن هانىء وقد سئل عن الصلاة إلى شط النهر والطريق امامه ارجو أن لا يكون به بأس ولكن طريق مكة يعجبني أن يتنحى عنه ونحو ذلك نقل المروذي وذلك لأن الاثر لم يرد بذلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان تنصب له العنزة فيصلي إليها والناس يمرون بين يديه وقال: "إذا صلى أحدكم فليجعل بين يديه مثل اخر الرحل ثم لا يضره ما مر امامه" ولم يفرق بين الطريق وغيرها مع العلم بان المرور أكثر ما يكون في الطرقات وهذه المسائل وما يشبهها تناسب باب القبلة والسترة وإنما هذا استطراد.
فصل.
وأما الصلاة في الكعبة فالنفل فيها اخف من الفرض فإذا صلى النافلة في جوف الكعبة صحت صلاته هذا هو المعروف والمشهور عن أحمد وأصحابه.
وحكي عنه رواية أنه لا يصح النفل فيها.
وحكي عنه أنه يصح ولا يستحب لما سيأتي في الفرض.
ووجه المذهب ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أحب أن ادخل البيت واصلي في فيه فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فادخلني الحجر فقال صلي في الحجر إذا اردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت" رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه قال: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن امرك أن تخمرها فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي" رواه أحمد وأبو داود وعن سالم عن ابيه قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو واسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فاغلقوا عليهم فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسالته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نعم بين العمودين اليمانيين" متفق عليه.
وفي رواية للبخاري عن ابن عمر أنه: "كان إذا دخل الكعبة جعل الباب قبل ظهره ومشى حتى إذا كان بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من
ثلاثة اذرع صلى يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه وفي رواية لأحمد والبخاري أنه قال لبلال: "هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة قال نعم بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين وفي رواية" متفق عليها قال: "جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره وثلاثة اعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة اعمدة ثم صلى" وفي رواية متفق عليها: "ونسيت أن أسأله كم صلى" وهي أصح فلعل ابن عمر فيما بعد علم أنه صلى ركعتين وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: "قلت لعمر بن الخطاب كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة قال: صلى ركعتين" رواه أبو داود وعن ابن عمر وأبي جعفر عن أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة" رواه احمد.
وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين وجاهك حيث تدخل بين الساريتين" رواه أحمد فقد أمر صلى الله عليه وسلم
عائشة بالصلاة في البيت وصلى هو في البيت وأمر بصون البيت عما يلهي المصلي فيه فعلم أن الصلاة فيه جائزة وأنه موضع للصلاة وقوله في الحديث الماضي وظهر بيت الله الحرام دليل على أنه باطنه ليس من مواضع النهي.
فإن قيل فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه" متفق عليه وفي رواية عن ابن عباس عن أسامة نحو ذلك رواه أحمد ومسلم.
قيل أما دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة والصلاة فيها فقد ثبت على وجه لا يمكن دفعه وكان ذلك عام الفتح قال ابن عمر اقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان ذكر الحديث اخرجاه وأما حديث ابن عباس فربما ظن أنه كان في حجة الوداع وأن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يصل فيها إلا أنه قد روي فيه عن ابن عباس ما يدل على أنه أراد دخوله عام الفتح أيضا.
فإن لم يكن حديث ابن عمر وحديث ابن عباس في وقتين متغايرين والا فحديث ابن عمر هو الصواب لأنه مثبت عن بلال شيئا شاهده وعاينه والمثبت أولى من النافي ولأن ابن عباس لم يدخل معهم بل كان إذ ذاك صغيرا له نحو عشر سنين وإنما روى الحديث عن أسامة وقد روى غيره عن أسامة خلافه فإن لم يكونا واقعتين فلعل أسامة كان مشغولا بدعاء وابتهال حين دخول البيت في بعض نواحيه فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لا سيما والباب موجف عليهم ثم لعله بعد ذلك أخبره أسامة أو عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه.
فصل.
ولا بد أن يكون بين يديه شيء من الكعبة في حال قيامه وركوعه وسجوده فلو سجد على منتهى السطح أو على عتبة الباب لم تصح صلاته لأنه لم يستقبل شيئا من القبلة بل هو مصل إلى غير الكعبة فإن كان الذي بين يديه ليس بشاخص مثل أن يصلي إلي الباب وهو مفتوح وليست له عتبة شاخصة أو يصلي على السطح ولا سترة امامه لم تصح صلاته في المنصوص من الوجهين.
قال في رواية الأثرم إذا صلى فوق الكعبة فلا تجوز صلاته وقال
في رواية ابن الحارث لا يصلي فوق بيت الله الحرام وقال في رواية الأثرم أما فوق الكعبة فلم يختلفوا أنه لا يجوز واحتج بالحديث لا قبلة له وهذا اختيار الآمدي وابن عقيل وحكي ذلك عن القاضي وعامة أصحابنا.
وفي الثاني تصح وهو اختيار جماعة من المتاخرين وهو الذي ذكره القاضي في المجرد فإنه قال تجوز الصلاة النافلة فيها إذا توجه إلى غير الباب وأن توجهه إلى الباب وهو مغلق أو مردودا أجزاه وأن كان مفتوحا وكان بين يديه من عرصة البيت جاز وأن لم يكن لم يجز قال وأن انهدم البيت وبقية العرصة ولم يبق هناك منها شيء شاخص عن وجه الأرض وصلى بناحية العرصة متوجها إليها أجزاه وأن وقف على العرصة لم تجزئه الفريضة وأن كانت نافلة ولم يكن بين يديه شيء منها كأن وقف اخرها متوجها إلى غيرها لم تجزه وأن وقف على العرصة وبين يديه منها ما يتوجه إليه وسجد أجزاه.
قال ولا تجوز الفريضة على ظهر الكعبة وتجوز صلاة النافلة إذا كان بين يديه شيء منها فإن لم يكن بين يديه شيء منها كأن وقف على السطح بحيث لا يكون بين يديه شيء من أرض السطح لم يجزه إلا أن يكون بين يديه شيء منصوب بناء أو خشبة مسمرة فإن كان فوقه لبن أو اجر معبا بعضه على بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة لم تجزه لأنه ليس من البيت بدليل أنه لا يتبعه في البيع وكذلك لو كان حبل ممدود فهذا يبين أن
القاضي إنما اشترط البناء الشاخص في موضع لم يكن بين يديه شيء من العرصة وأن المشروط عنده أحد امرين شيء من أرض السطح أو البناء كما أنه في الصلاة إلى الباب اعتبر أحد أمرين أما اما كون الباب سترة له أو كون شيء من العرصة بين يديه وهذا أيضاح وتبيين لأنه يلزم من كون الباب والسترة بين يديه أن يكون بين يديه شيء من العرصة.
ووجه ذلك أن الواجب استقبال هوائها دون بنائها بدليل المصلي على أبي قبيس وغيره من الجبال العالية فإنه إنما يستقبل الهواء لا البناء بدليل ما لو انتقضت الكعبة والعياذ بالله فإنه يكفيه استقبال العرصة والهواء فعلى هذا إذا صلى في الحجر وهو مستدبر البناء أو مستقبل الممر وقلنا أن استقبال الحجر جائز فيجب أن يجزئه وفيه قبح.
والأول أصح لما تقدم من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة مواطن لا تجوز الصلاة فيها وعد منها فوق ظهر بيت الله" وفي لفظ: "ظاهر بيت الله".
وعن عمر رضي الله عنه: "أنه نهى عن الصلاة على ظهر الكعبة" ذكره القاضي فلو لم تجب الصلاة إلى شيء شاخص مرتفع لم يكن بين ظاهر بيت الله وباطنه فرق بل هذا نص في منع الصلاة فوق ظهر بيت الله ولا يجوز أن يحمل على ما إذا سجد على منتهى الكعبة لأن الحديث عام في جميع المواضع التي فوق الظهر عموما مقصودا وهذه الصورة نادرة لا يجوز أن تقصد وحدها من مثل هذا العموم مع غير قرينة يبين بها مراد
المتكلم فإن هذا لو وقع كان تلبيسا ثم أن هذه الصورة امرها ظاهر لا يخفى على أحد فلا تكاد تقصد بالبيان ثم أن مثل هذه الصورة تقع في الصلاة في جوف الكعبة إذا استقبل الباب مفتوحا ثم أنه جميع المواضع التي ذكر أنه لا تجوز الصلاة فيها من المقبرة والحش والحمام لا يصلي في شيء منها كذلك ظهر الكعبة يجب أن لا يصلى في شيء منه وهذا ظاهر لمن تامله وأيضا فإن هذا اجماع عن السلف كما حكاه أحمد رضي الله عنه وكما سيأتي تقريره وأيضا فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه القبلة" وفي حديث اخر استحلال الكعبة البيت الحرام قبلتكم أحياء وامواتا دليل على أن القبلة هو الشيء المبني هناك الذي يشار إليه ويمكن استحلاله وتسمى كعبة وبيتا.
وأيضا فإن الله سبحانه قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} فبين أن الطواف والركوع والسجود إنما هو متعلق بالبيت والبيت أو الكعبة لا يكون اسما إلا للبناء فأما العرصة والهواء فليس هو بيتا ولا كعبة وأيضا فلو كان استقبال هواء العرصة والطواف به كافيا لم يجب بناء البيت ولم يحتج إليه فلما أمر الله إبراهيم خليله ببناء بيته وبدعاء الناس إلى حجه حينئذ
وكان من أشراط الساعة خراب هذه البنية علم أن دين الله منوط ببنية تكون هناك وأن لا يكون وجودها وعدمها سواء وأن هذه البنية إذا زالت زوالا لا تعود بعده فقد اقترب الوعد الحق بما يكون من رفع كتاب الله المنزل من الصدور والمصاحف وقبض ارواح المؤمنين الذين هم أهل دين الله وذلك دليل واضح أنه لا دين يقوم لله إلا بوجود البنية المعظمة المكرمة المشرفة وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن لكل مصلي أن ينصب بين يديه شيئا يصلي إليه وكره الصلاة إلى الهواء المحض فكيف تكون قبلة الله التي يجب استقبالها هواء محضا.
وأما ما ذكروه من الصلاة إلى أبي قبيس ونحوه فإنما ذاك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة وأن لم تكن مسامتة له فإن المسامتة غير مشروطة كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالامام مع أن الماموم خلفه فكذلك المصلي على أبي قبيس خلف الكعبة ووراءها وأن كان اعلا منها وأما إذا زال بناء الكعبة فتقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئا يصلي إليه لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص وكذلك قال الآمدي أن صلى بازاء الباب وكان الباب مفتوحا لم تصح الصلاة وأن كان مردودا صحت الصلاة وأن كان الباب مفتوحا وبين يديه شيء منصوب كالسترة صحت الصلاة لأنه يصلي إلى جزء من البيت فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى وبين يديه شيء صحت الصلاة وأن لم يكن بين يديه شيء لم تصح
الصلاة.
وان صلى على ظهر الكعبة الفرض لم تصح صلاته وأن صلى النفل وليس بين يديه شيء لم تصح صلاته فإن كان بين يديه شيء صحت صلاته وهذا من كلامه يدل على أن البناء لو ازيل لم تصح الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء وإنما يعني به والله أعلم شيئا شاخصا كما قيده فيما إذا صلى إلى الباب وكذلك قوله في الصلاة على الظهر إذ لا يجوز أن يفرق بين الصلاة على الظهر والصلاة على الباب ولأنه علل ذلك بأنه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت فعلم أن مجرد العرصة غير كاف ويدل على ذلك ما ذكره الازرقي في اخبار مكة عن ابن جريج قال سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها وذكر الحديث إلى أن قال فما ترجلت الشمس حتى الصقها كلها بالأرض من جوانبها جميعا وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الاخرة سنة أربع وستين ولم يقرب ابن عباس رضي الله عنه مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها وارسل إلى ابن الزبير لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واحعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ففعل ذلك ابن الزبير رضي الله عنه وذكر الحديث وقد رواه مسلم في صحيحه عن عطاء في قصة ابن الزبير لما هدم البيت واعاده على قواعد إبراهيم قال: فنقضوه حتى
بلغوا به الأرض فجعل ابن الزبير اعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه.
وهذا من ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم دليل على أن القبلة التي يطاف بها ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئا منصوبا شاخصا وأن العرصة ليست قبلة ولم ينقل أن احدا من السلف خالف ذلك ولا انكره.
نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بان يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في اخر الزمان فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة كما يكفي المصلي أن يخط خطأ إذا لم يجد سترة فإن قواعد إبراهيم كالخط ولأنه فرض قد عجز عنه فيسقط بالتعذر كغيره من الفروض ولا يلزم من الاكتفاء بالعرصة عند استقبال البناء الإكتفاء بها عند القدرة على استقبال البناء لأن فرض استقبال القبلة يسقط بالعجز كالخائف والمحبوس بين حائطين وغيرهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم" ولا يمتنع الصلاة في شيء من الاوقات ولا الطواف بالبيت لعدم البناء اصلا إذا تعذر في تلك الساعة الطواف والصلاة إلى بناء كما لا يمتنع الصلاة لتعذر شيء من شروطها واركانها.
وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا أن البناء إذا زالت صحت الصلاة إلى هواء البيت مع قولهم أنه لا يصلي على ظهر الكعبة ومن قال هذا يفرق بأنه إذا زال لم يبق هناك شيء شاخص مستقبل بخلاف ما إذا كان
هناك قبلة تستقبل ولا يلزم من سقوط استقبال الشيء الشاخص إذا كان معدوما سقوط استقباله إذا كان موجودا كما فرقنا نحن بين حال امكان نصب شيء وحال تعذر ذلك وكما يفرق في سائر الشرائط بين حال الوجود والعدم والقدرة والعجز.
فإذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فإنه يكفي شخوصه أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل.
وقال أبو الحسن الآمدي لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان إذا كان مفتوحا لكن أن كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت الصلاة فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها بل لا بد أن يكون مثل مؤخرة الرحل لأنها السترة التي قدر بها الشارع القبلة المستحبة فلان تقدر بها القبلة الواجبة أولى ثم أن كانت السترة فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمرة ونحو ذلك مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت وأن كان هناك لبن أو اجر بقي بعضه فوق بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة أو حبل ونحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره أصحابنا لأنه ليس من البيت.
ويتوجه أن يكتفي في ذلك بما يكون سترة لأنه شيء شاخص في هواء البيت فاشبه بناءه فإن ذلك قبلة سواء اتصل بالعرصة أو لم يتصل بها ولأن البيت كان رضاما من الحجارة غير مبني مع كون الطواف به كان مشروعا ولأن حديث ابن عباس وابن الزبير فيه دليل على الاكتفاء بكل
ما يكون قبلة وسترة فإن الخشب والستور المعلقة عليها لا تتبع في مطلق البيع.
فصل.
فأما استقبال الحجر فقال ابن عقيل في الواضح لا يستقبل هواه ولا يعتد بالصلاة إليه بخلاف هواء الكعبة في العلو إذا صعد على أبي قبيس ولو هدمت العمارة جاز استقبال هوائها بخلاف الحجر قال وخروج الحجر عن خصيصة القبلة في الصلاة كخصيصة القران المنسوخ تلاوة فحكمه ثابت ولا تجوز الصلاة به وذلك لأن الحجر بخروجه عن الكعبة في البناء لم يبق قبلة لأن القبلة ما بني للاستقبال والحجر ليس كذلك وأن كان من البيت ولأنه في المشاهدة والعيان ليس من الكعبة البيت الحرام وإنما وردت أحاديث بأنه كان من البيت فعمل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف به دون الاكتفاء بالصلاة إليه احتياطا للعبادتين.
وقال القاضي في خلافه يجزئه التوجه إليه في الصلاة وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة وهذا اقيس بالمذهب لأنه من
البيت بالسنة الثابتة المستفيضة وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير.
والحجر كله ليس من البيت وإنما الداخل في حدود البيت ستة اذرع وشيء فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته البتة ولا بد أن يستقبل شيئا شاخصا منه فإن استقيل ما ليس بشاخص مثل أن يصلي إلى الممر أو إلى ناحية الشام فإن الجدار الشامي من الحجر ليس مبنيا في الكعبة فعلى الوجهين المتقدمين.
فصل.
وأما صلاة الفرض في الكعبة حيث تصح صلاة النافلة ففيها روايتان.
إحداهما: أنها كصلاة النافلة على ما تقدم من الأحاديث لأن الفرض والنفل مستويان في جميع الشرائط والأركان إلا ما استثني من ذلك مثل القيام والصلاة على الراحلة في السفر حيث توجهت به ونحو ذلك فالتفريق بينهما في غير ذلك يحتاج إلى دليل ولأن الاستقبال الواجب في الفرض واجب في النفل على المقيم ولو لم يكن المصلي في البيت مستقبلا للقبلة لما صح فيها النفل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعائشة صلي في الحجر إذا اردت دخول البيت" ولم يفرق وقال للسادن أنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي ولم يفرق.
والرواية الثانية وهي المشهور نصا ومذهبا أن الفرض لا يصح في الكعبة لأن الله سبحانه قال: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي نحوه وتلقاءه باجماع أهل العلم لأن الشطر له معنيان هذا أحدهما: والاخر بمعنى النصف وذلك المعنى ليس مرادا فتعين الأول وإذا كان الله قد فرض تولية الوجه نحو الكعبة وذلك هو الصلاة إليها فالمصلي فيها ليس بمصل إليها لأنه لا يقال لمن صلى في دار أو حانوت أنه مصل اليه.
وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما إنما أمر الناس أن يصلوا إلى الكعبة ولم يؤمروا أن يصلوا فيها ولأن التوجه إليها إنما يكون باستقبالها كلها أي استقبال جميع ما يحاذيه منها فإذا استقبل بعضها فليس بموول وجهه إلى الكعبة بل إلى بعض ما يسمى كعبة ولأنه إذا استقبل البعض واستدبر البعض فليس وصفه باستقبالها باولى من وصفه باستدبارها بل استدبار بعضها ينافي الاستقبال المطلق ولهذا قال ابن عباس لا تجعل شيئا من البيت خلفك ذكره أحمد يبين هذا أن الله سبحانه أمر بالطواف به كما أمر بالصلاة إليه وإخراجها مخرجا واحدا في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقال
تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ثم الطواف فيه لا يجوز فكذلك الصلاة فيه ولما وجب على الطائف أن يطوف به كله وجب على المصلي أن يستقبله كله واستقبال جميعه يحصل بان تكون القبلة كلها امامه وأن خرج بعضها عن مسامتة بدنه ومحإذاته فإن المطابقة ليس من معنى الاستقبال في شيء إذ لو كانت من معناه ما صح أن يستقبل الجسم الكبير للصغير ولا الصغير للكبير نعم لو خرج هو على مسامتتها ببعضه لم يكن مستقبلا لها فعلى هذا لا يصلي الفرض في الحجر نص عليه فقال لا يصلي في الحجر الحجر من البيت فأما الصلاة فإن نذر الصلاة في الكعبة جاز كما لو نذر الصلاة على الراحلة.
وأما أن نذر الصلاة مطلقا اعتبر فيها شروط الفريضة لأن النذر المطلق يحذى فيه حذو الفرائض فإذا نذره بصفة جائزة في الشرع قبل النذر يعتد بها كما لو نذر أن يهدي هديا لم يجزئه إلا ما يجزئ في الهدايا الواجبة ولو نذر أن يهدي دراهم أو دجاجة ونحو ذلك صح نذره وقد روى أصحابنا أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "يا رسول الله اني نذرت أن اصلي في البيت فقال صلي في الحجر فإنه من البيت".
وهل المانع استدبار بعضه فقط أو استقبال جميعه شرط أيضا على
وجهين:
أحدهما: أن المانع استدبار بعضه وقد أومأ إليه في رواية ابن القاسم وقد سئل عن الصلاة المكتوبة في الكعبة فقال في نفسي منه شيء وحكي عن ابن عباس أنه: كان ينكره ولأنه يجعل بعض البيت خلفه والتطوع أسهل والصلاة فوقه أشد من الصلاة فيه وفي بعض كتب أصحابنا هذه الرواية الصلاة فوقه أسهل من الصلاة فيه واظنه غلطا في الكتاب فعلى هذا إذا وقف على عتبة الباب أو على منتهى السطح بحيث لا يكون خلفه شيء أو وقف خارجا منه وسجد على بعضه كالحجر والشاذوران ونحو ذلك صحت صلاته.
والوجه الثاني: لا بد أن يستقبل جميعه فلا تصح صلاته في هذه الصور وهذا اقيس كالطواف فإن الطواف به لا فيه وكذلك الصلاة إليه لا فيه.
وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في البيت فإنها كانت تطوعا ولذلك اغلق عليه الباب هو واسامة وبلال وعثمان بن طلحة وانما كان يصلي المكتوبة بالمسلمين كلهم في الجماعة العامة ولأن ذلك الوقت لم يكن وقت مكتوبة لأنه دخل مكة ضحى وفي تلك الساعة دخل البيت ثم صلى بالمسلمين صلاة الظهر في المسجد ولا يجب الحاق الفرض به لأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت ركعتين ثم خرج فصلى إلى البيت ركعتين ثم
قال هذه القبلة فيشبه والله أعلم أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقب الصلاة خارج البيت بيانا لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض لاجل أنه صلى التطوع في البيت والا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد أن يكون لهذا الكلام فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع في محل الشبهة وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بما سمع لكن لم يبلغه حديث بلال أنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة فحمل الحديث على العموم في المكتوبة والتطوع فالواجب أن يوضع حديث ابن عباس موضعه وحديث ابن عمر موضعه ويعمل بكلا الحديثين يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى داخله أغلق عليه الباب وكانت الفرائض كلها إنما يصليها خارج البيت ولو كانت المكتوبة جائزة في البيت لكان يمكنه أن يصلي المكتوبة بالناس في الحجر تحصيلا لفضيلة اداء الفرض في الكعبة فلما لم يفعل شيئا من ذلك دل على أن ذلك خاص بالتطوع.
وهذا لأن الشارع يوسع في تجويزه على احوال شتى لا تجوز في المكتوبة خصوصا في أمر القبلة فإنه جوز التطوع للمسافر السائر إلى أي جهة توجه لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} لئلا يكون الاستقبال مانعا له من الصلاة فكذلك من دخل بيت
ربه واحب الصلاة لربه فيه لا يمكنه ذلك مع الاستقبال التام فعفي له عن كمال الاستقبال إذا اتى بالممكن منه تحصيلا لمقصود الزيادة وتحية البيت إذ كان هذا المقصود لا يمكنه فعله إلا في البيت وكان فرض كمال الاستقبال لا يمكن معه تحية البيت والصلاة فيه لله وذلك أمر مطلوب كما قلنا في صلاة المسافر سواء فأما الفرض فلا اختصاص له بمكان دون مكان فكانت المحافظة عى كمال الاستقبال الذي هو شرط أولى من فعله في نفس البيت ولا حاجة إلى فعله في البيت فلم يسقط فرض الاستقبال بحال ولهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين بذلك إلا ترى أن الفرض لو كان مشروعا في البيت لكان ينبغي أن يقف الامام في الحجر ليحصل فضل الصلاة فيه والصلاة إليه فإن ذلك أكمل لو كان ممكنا من الصلاة إليه فقط ومعلوم أن هذا خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة المسلمين اجمعين.
فصل.
قال أكثر أصحابنا لا تكره الصلاة في الكنيسة والبيعة النظيفة.
وذكر ابن عقيل فيهما روايتان.
إحداهما: كذلك.
والثانية: تكره واختارها لأن فيه تعظيما لها وتكثيرا لجمعهم ولأنهم
ربما كرهوا دخولنا إليها فيكون غصبا ولأنها مواضع الكفر ومحل الشياطين فكرهت الصلاة فيها كما كرهت في المكان الذي حضرهم فيه الشيطان.
ووجه الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه: "أنه صلى في كنيسة بالشام" رواه حرب وعن ابن عباس أنه: "لم يكن يرى بأسا بالصلاة في البيع إذا استقبل القبلة" وعن أبي موسى: "أنه صلى بحمص في كنيسة تدعى كنيسة حنا ثم خطبهم ثم قال أيها الناس انكم في زمان لعامل الله فيه اجر واحد وانكم سيكون بعدكم زمان يكون لعامل الله فيه اجران" وعن أبي راشد التنوخي قال: "صلى المسلمون حين فتح حمص في كنيسة النصارى حتى بنوا المسجد" رواهن سعيد ولم يبلغنا عن صحابي خلاف ذلك مع أن هذه الأقوال والافعال في مظنة الشهرة ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت لي الأرض مسجدا" ولم يستثن البيع والكنائس فيما
استثناه ولأن الكفار لو استولوا على مساجد الله واتخذوها معابد لدينهم الذي لم يأذن به الله لم تكره الصلاة فيها لذلك.
فأما أن كان فيها صور فمن أصحابنا من لم يكره الصلاة فيها أيضا قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الفتح دخل إلى البيت فصلى فيه وكانت فيه تماثيل.
والمذهب الذي نص عليه عامة الأصحاب كراهة الصلاة فيها بلا كراهة الدخول إلى كل موضع فيه تصاوير فالصلاة فيه أشد كراهة من دخوله.
فان كانت الصورة قد مثلت في بيوت العبادة فالصلاة هناك اقبح وأشد كراهة حتى قد قال أحمد فيمن صلى وفي كمه منديل حرير فيه صور اكرهه قال القاضي لأن التصاوير في الثوب المحرم فكأنه حامل لشيء محرم فجرى مجرى جلوسه في بيت فيه صور وذلك مكروه وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا ينبغي أن يشك فيه لظهوره في دين الاسلام فإن الذين نقل عنهم الرخصة في الصلاة في الكنائس من الصحابة شرطوا ذلك بأن لا تكون بها تماثيل وقد ذكرناه عن ابن عباس وذكر ابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لنصراني انا لا ندخل بيعكم من أجل الصور التي فيها وعن مقسم قال: "كان ابن عباس لا يصلي في بيت فيه تماثيل" وعنه عن ابن عباس أنه: "قال لا يصلي فى كنيسة فيها
تماثيل وأن صار أن يخرج فيصلي في المطر" رواهما سعيد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له الكنيسة التي بارض الحبشة وما فيها من التصاوير قال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله" وكل واحد من اتخاذ القبور مساجد ومن التصاوير فيها محرم فالصلاة فيها تشبه الصلاة في المسجد على القبر ولأنه بعث عليا رضي الله عنه على أن لا يدع تمثالا إلا طمسه ولا قبرا مشرفا إلا سواه فإذا كان طمسها واجبا لأنها بمنزلة الأوثان فالصلاة في المكان الذي فيه الصور كالصلاة في بيوت الأوثان فهل يقول أحد أن هذا جائز بلا كراهة من غير ضرورة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" فكيف لا تكره الصلاة في مكان تمنع الملائكة من الدخول إليه دائما ولأن الصور قد تعبد من دون الله وفيها مضاهاة لخلق الله فالصلاة عندها تشبه بمن يعبدها ويعظمها لا سيما أن كانت الصورة في جهة القبلة فإن السجود إلى جهتها يشبه السجود لغير الله.
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فهو حجة أيضا قوية لما روى عن ابن عباس قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال: أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم
مصور فما له يستقسم" وفي رواية لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت وراى إبراهيم وإسماعيل بايديهما الأزلام فقال: "قاتلهم الله والله أن استقسما بالأزلام قط" وفي رواية لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فامر بها فاخرجت واخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في ايديهما الأزلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل" رواه البخاري.
فهذا نص في أنه امتنع من الدخول حتى محيت الصور فكيف يقال أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة والتماثيل فيها وقد روى الازرقي: "أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت أرسل الفضل بن عباس فجاء بماء زمزم ثم أمر بثوب فبل بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست" وروي من غير وجه: "أنه لم يدخل حتى محيت الصور" ثم لو قدر أنه قد دخل قبل الطمس فإنه لم يدخل حتى طمست أو شرع في طمسها كما يدل عليه ظاهر بعض الروايات ولو كان قد صلى بعد الأمر بطمسها فهو قد شرع في إزالة المنكر فلا يشبه هذا من صلى في موضع الصور فيه مستقرة ولهذا جاز للرجل أن يحضر الوليمة التي فيها منكر إذا قصد أن ينكر وأن كان الحضور قبل الإنكار.
فصل.
ولا يصلى في مواضع الخسف نص عليه في رواية عبد الله واحتج بما رواه بإسناده عن حجر بن عنبس الحضرمي قال خرجنا مع علي بن أبي طالب إلى النهروان حتى إذا كنا ببابل حضرت صلاة العصر فقلت الصلاة فسكت مرتين فلما خرج منها صلى ثم قال: "ما كنت اصلي بارض خسف بها ثلاث مرات".
وروى أبو داود في سننه عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فاقام الصلاة فلما فرغ قال: "أن حبيبي نهاني أن اصلي في المقبرة ونهاني أن اصلي في أرض بابل فإنها ملعونة" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الدخول إلى المساكن الذين ظلموا
انفسهم وسن أن اجتزنا بها الاسراع" فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا انفسهم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم راسه واسرع السير حتى أجاز الوادي" متفق عليه.
وقد قيل أنه صلى الله عليه وسلم اسرع السير بوادي محسر صبيحة مزدلفة وسن للحجيج الاسراع فيه لأنه المكان الذي نزل على أهل الفيل فيه العذاب وحسر فيلهم فيه أي انقطع عن الحركة إلى جهة مكة ويقال أنه يخسف بقوم فيه فإذا كان المكث في مواقع العذاب والدخول إليها لغير حاجة منهي عنه فالصلاة بها أولى ولا يقال فقد استثنى ما إذ كان الرجل باكيا لأن هذا الاستثناء من نفس الدخول فقط فأما المكث بها والمقام والصلاة فلم ياذن فيه بدليل حديث علي ولأن مواضع السخط والعذاب قد اكتسبت السخط بما نزل ساكنيها وصارت الأرض ملعونة كما صارت مساجد الأنبياء مثل مسجد إبراهيم ومحمد وسليمان صلى الله عليهم مكرمة لاجل من عبد الله فيها واسسها على التقوى فعلى هذا كل بقعة نزل عليها عذاب لا يصلى فيها مثل أرض الحجر وارض بابل المذكورة ومثل مسجد الضرار لقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} .
فان صلى فهل تصح صلاته فعلى ما ذكره طائفة من أصحابنا تصح لأنهم جعلوا هذا من القسم الذي تكره الصلاة فيه ولا تحرم لأن أحمد كره ذلك ولأنهم لم يستثنوه من الأمكنة التي لا يجوز الصلاة فيها ولأصحابنا في الكراهة المطلقة من أبي عبد الله وجهان.
أحدهما: أنه محمول على التحريم وهذا أشبه بكلامه واقيس بمذهبه لأنه قد قال في الصلاة في مواضع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها يعيد الصلاة وكذلك عند القاضي والشريف أبي جعفر وغيرهما طرد الباب في ذلك بان كل بقعة نهي عن الصلاة فيها مطلقا لم تصح الصلاة فيها كالأرض النجسة.
وهذا ظاهر فإن الواجب الحاق هذا بمواضع النهي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه كما نهى عن الصلاة في المقبرة ونهى الله نبيه أن يقوم في مسجد الضرار ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى مساكن المعذبين عموما فإذا
كان الله نهى عن الصلاة في الاماكن الملعونة خصوصا ونهى عن الدخول إليها خصوصا وعمل بذلك خلفاؤه الراشدون وأصحابه مع أن الأصل في النهي التحريم والفساد لم يبق للعدول عن ذلك بغير موجب وجه لا سيما والنهي هنا كان مؤكدا ولهذا لما عجنوا دقيقهم بماء ال ثمود امرهم أن يعلفوه النواضح ولا يطعموه فأي تحريم ابين من هذا قوم مجاهدون في سبيل الله في غزوة العسرة التي غلب عليهم فيها الحاجة وهي غزوة تبوك التي لم يكن يحصي عددهم فيها ديوان حافظ وخرجوا في شدة من العيش وقلة من المال ومع هذا يامرهم أن لا ياكلوا عجينهم الذي اعز اطعمتهم عندهم فلو كان إلى الاباحة سبيل لكان أولئك القوم احق الناس بالاباحة فعلم أن النهي عن الدخول والاستقاء كان نهي تحريم ثم أنه قد قرن بين الصلاة في الأرض الملعونة والصلاة في المقبرة ثم جميع الاماكن التي نهى عن الصلاة فيها إذا صلي فيها لم تصح صلاته فما بال هذا المكان يستثنى من غير موجب إلا عدم العلم بالسنة فيه.
فصل.
قال الآمدي وغيره تكره الصلاة في الرحا ولا فرق بين علوها واسفلها والسطح هكذا روى جماعة من السلف هكذا ذكروا لعل هذا
لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي ويشغله ولذلك كره رفع الصوت في المسجد وكانوا يكرهون رفع الصوت في الذكر.
فصل.
السنة أن يكون موضع الصلاة مستقرا مع القدرة فإن لم يصل على مكان مستقر مثل أن يقوم على الارجوحة التي ترجحه وهو يصلي وهو معلق بالهواء أو يسجد على متن الماء أو الطين أو على منتن الهواء بان يقف على سطح ويسجد على الهواء المسامت له أو يسجد على ثلج أو قطن أو حشيش ونحو ذلك من الاجسام المنتفشة ولا يجد حجمه لم تصح صلاته لأن القيام والقعود والركوع والسجود واجب وإنما تتم هذه الأركان على المكان المستقر ولهذا لا يجوز أن يسجد بالايماء وأن بلغ إلى حد يجزيه لو كان هناك ما يسجد عليه فعلم أن المقصود لا يتم إلا بالاستقرار.
فان وضع يديه أو رجليه على غير مستقر فإن قلنا السجود على الاعضاء السبعة واجب وهو المشهور فهو كالجبهة وأما أن كانت اعضاؤه على مكان مستقر وتحته هواء لم يضر ذلك.
فان صلى في سفينة واتى بجميع أركان الصلاة من القيام والاستقبال وغيرهما أو على راحلة بان تكون معقولة وفوقها مقعد واسع أو يكون في
محفة كبيرة أو محمل واسع فهل تصح صلاة الفرض لغير عذر على روايتين.
أشهرهما عند أصحابنا أنها تصح قالوا وسواء كانت الدابة والسفينة سائرتين أو واقفتين.
وفي الأخرى لا تصح لأن مكانه ليس بمستقر لأنها أن كانت سائرة فهو تابع لها في الحركة وأن لم يكن في نفسه متحركا فهو كالمصلي في الارجوحة وأن كانت واقفة فهي في مظنة الحركة.
ومن أصحابنا من حكى الروايتين في السفينة وقال في الراحلة لا تجوز الصلاة عليها رواية واحدة إلا لعذر كما سياتي أن شاء الله تعالى.
ووجه الأول ما روى عبد الله بن عتبة قال: "سافرت مع أبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلوا من السفينة قياما وامهم بعضهم بمقدمهم قال ولو شئنا أن نخرج إلى الحد الاخر خرجنا والحد هو الشاطىء" رواه سعيد ولأنه مكان معتاد للتمكن عليه اتى فيه بجميع الشرائط والأركان فصحت صلاته عليه كالسرير.
وأما كون المصلي متحركا فليس بصحيح لأنه في نفسه ساكن مستقر وانما يوصف بالحركة على سبيل التبع لأن مستقره متحرك لكن تلك الحركة لا أثر لها في صلاته فإنه لا فرق بين الجلوس في السفينة والجلوس
على الأرض.
وأما الصلاة على العجلة فقال ابن عقيل لا تصح الصلاة على العجلة قال وهي خشبة على بكر تسير على تلك البكر لأن ذلك ليس بمكان مستقر عليه فاشبه الارجوحة وعد غيره من أصحابنا الصلاة فيها كالصلاة في السفينة تصح في ظاهر المذهب وهذا اجود.
فصل.
فأما المعذور فمن لم يمكنه الخروج من السفينة أما لبعده عن الساحل أو لخوفه من عدو أو نحو ذلك فإنه يصلي فيها على حسب حاله فإن أمكنه القيام والاستقبال لزمه ذلك سواء كانت سائرة أو واقفة لما روى ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف اصلي في السفينة قال: "صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق" رواه الدارقطني والحاكم في صحيحه ولأن أركان الصلاة يجب فعلها مع القدرة عليها لما نذكره أن شاء الله من ادلة وجوبها.
وإذا دارت السفينة فقال ابن أبي موسى وغيره يستقبل القبلة في الفرض ويدور إليها كلما دارت السفينة ويعذر في النفل أن لا يدور إلى
القبلة إذا دارت السفينة وهذا يشبه الراكب في العمارية والمحمل ونحوهما.
وفي وجوب الاستدارة عليه في النفل إذا أمكنه وجهان.
وان لم يمكنه القيام في السفينة بان يخاف الغرق أو يهيج به الموج فيمرض ونحو ذلك لصغرها وسيرها أو تكون مسقوفة ولا يمكنه الصعود إلى الطبقة العليا أو يخاف أن يراه عدو يؤذيه ونحو ذلك صلى جالسا وسجد على ما فيها من الاحمال والثياب والامتعة وغيرها أن أمكنه ولا بد من استعلاء عجيزته على رأسه مع القدرة فإن عجز اوما ايماء.
فان أمكنهم أن يصلوا قياما فرادى واحد بعد واحد ولم يمكنهم أن يصلوا جميعا إلا بجلوس بعضهم فقال جماعة من أصحابنا يصلون وحدانا مع اتساع الوقت ولا يسقط القيام هنا للجماعة بخلاف المريض الذي لا يمكنه القيام في الجماعة ويمكنه في الانفراد فإنه يصلي في الجماعة أن شاء لأن حكم العجز لا يثبت لغير معين ولهذا قلنا في العراة أنهم يصلون في الثوب واحد بعد واحد وعلى هذا فإذا خافوا خروج الوقت بالصلاة قياما صلى بعضهم قاعدا كما في العراة وقال ابن أبي موسى لم يختلف قوله أنه أن قدر جميعهم على القيام جاز أن يصلوا جماعة في السفينة فإن عجزوا عن القيام فهل يصلون جماعة أم لا؟ على
روايتين أجاز ذلك في إحداهما: ومنع منه في الأخرى واختياري أن ذلك جائز.
وقال غيره أن أمكن أن يقوم بعضهم دون بعض صلى من أمكنه القيام ثم قعدوا أو صلى الاخرون وأن ضاق بهم الوقت صلى كل واحد بحسب امكانه.
وان عجزوا عن القيام فهل يصلون جماعة على روايتين.
وظاهر ما اختاره ابن أبي موسى من الروايتين هو قياس المذهب وهو أن يصلوا جماعة مع قعودهم أو قعود بعضهم ثم أن كان موضع القيام واحدا قام فيه الامام وأن كان أكثر من واحد صلوا على المقاعد التي كانوا عليها قبل الصلاة لأن من اصلنا جواز القعود خلف الامام إذا صلى قاعدا لأن فضل الجماعة اسقط القيام وكذلك المريض له أن يصلي جماعة مع قعوده وأن أمكنه الصلاة وحده قائما ولأن الجماعة مع الخوف فيها مما يفسد الصلاة في الجملة أعظم من ترك القيام ثم احتمل ذلك لاجل الجماعة ومن تأمل الشريعة علم أن الشارع يحافظ على صلاة الجماعة كيفما أمكن ولا يبالي ما فات في ضمن الجماعة ولأن من أصلنا أن الجماعة واجبة والقيام واجب أيضا لكن القيام ركن خفيف يسقط في النوافل مطلقا ويسقط في الفرائض في مواضع وأما الجماعة فلم نجد الشارع اسقطها إذا أمكنت من غير ضرر قط.
فصل.
وأما العذر في الراحلة فثلاثة اسباب الخوف والوحل والمرض.
فأما الخوف فمثل الذي يخاف في نزوله من عدو أو من انقطاعه عن الرفقة الذين لا يحتبسون له أو لا يمكنه النزول لكونه على مركوب لا ينزله عنه إلا انسان وليس هناك من ينزله عنه أو يمكنه النزول ولا يمكنه الصعود ولا يقدر على المشي أو يخاف انفلات الدابة بنزوله ونحو ذلك مما يخاف في نزوله ضررا في نفسه أو ماله فإنه يصلي على حسب حاله كما يصلي الخائف من العدو على ما سنذكره أن شاء الله تعالى لعموم قوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً} .
وفي حديث ابن عمر فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا ركبانا ورجالا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لا سيما إذا قلنا أن طالب العدو يصلي على الدابة إذا خاف من فوته فإن ما يخافه في هذه المواضع قد يكون أشد ضررا مما يخافه من فوت العدو يخاف في النزول ضررا فجاز أن يصلي على الدابة كالخائف نم العدو ولأن القيام والاستقبال من اخف فروض الصلاة يسقطان في التطوع فإذا كانت الطهارة والسترة تسقط بمثل هذا الخوف فسقوط القيام والتوجه أولى هكذا ذكر طائفة من أصحابنا.
وقال ابن أبي موسى لم يختلف قوله أن التوجه إلى القبلة في المكتوبة في سائر الأحوال من شرط صحة الصلاة إلا في حال المسايفة خاصة.
السبب الثاني: الوحل فإذا خاف التأذي في بدنه أو ثيابه بالوحل والمطر والثلج بان لا يمكنه بسط شيء عليه أما لكثرته وإذاه للبسط أو لعدم البسط ولا يمكنه الوقوف عليه إلا بضرر فإنه يصلي على الراحلة بان يستقبل القبلة ويقف أن كان مسيره إلى غير قبلة.
وان كان جهة مسيره إلى القبلة فقال أصحابنا: يصلي في حال سير الدابة كما يصلي في السفينة هذه احدى الروايتين.
وعنه يلزمه النزول إلى الأرض والسجود على متن الطين نقلها حنبل.
وكذلك الروايتان فيمن كان في ماء أو طين فعلى الرواية الأولى يومىء إلى الحد الذي لو زاد عليه تلوث وهذه الرواية اختيار الخرقي وأكثر أصحابنا.
وعلى الرواية الأخرى يسجد على متن الماء أو الطين وهو اختيار أبي بكر.
وقال ابن أبي موسى اختلف قوله في الغريق يصلي في الماء والطين على روايتين قال في إحداهما: يومىء بالركوع والسجود.
وقال في الأخرى يسجد على متن الماء.
والقائم في الماء والطين العاجز عن الخروج عنه يصلي ويومىء في الركوع والسجود في ماء قولا واحدا وفرق بين الماء والطين وهو فرق حسن فإن قلنا يجب النزول ويجب السجود على الطين فلما روى أبو سعيد قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته.
وعن عطاء قال سالت عائشة هل رخص للنساء أن يصلين على الدواب قالت ما رخص لهن في شدة ولا رخاء" رواه أبو داود.
ووجه الأول ما روى يعلى ابن امية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فامر المؤذن فاذن واقام ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ ايماء يجعل السجود اخفض من الركوع" رواه أحمد والترمذي وعن أنس بن مالك: "أنه صلى بهم المكتوبة على
دابته والأرض طين" ذكره أحمد وغيره وقد رواه الدارقطني مرفوعا إلا أنه قال المحفوظ عن أنس فعله غير مرفوع ولم ينقل عن صحابي خلافه.
السبب الثالث: المرض فعنه أنه ليس بعذر في الصلاة على الراحلة نص عليه مفرقا بينه وبين الوحل لأن ابن عمر رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يوتر على راحلته ويسبح عليها ولا يصلي عليها المكتوبة" متفق عليه.
وكان ابن عمر ينزل مرضاه فيصلون بالأرض ذكره أحمد فعلم أنه فهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم استواء الصحيح والمريض في هذا الحكم ولأن المريض لا ضرر عليه في صلاته بالأرض بل ذلك اهون عليه من صلاته على الدابة وإنما قد يشق عليه حركة النزول فقط وهذا يعارضه حركة هز الدابة.
وعنه أن المريض يصلي على الدابة لأن المشقة عليه في نزوله أعظم من مشقة التلوث بالطين ثم من أصحابنا من اطلق الروايتين وعلى هذه الطريقة فقد اختار جدي رحمه الله أن تضرر بنزول أو لم يكن له من ينزله فإنه يصلي على الدابة وأن لم يتضرر فهو كالصحيح.
ومن أصحابنا من جوز ذلك فقال أن كان النزول يزيد في مرضه أو لا
يقدر على الركوب إذا نزل أو لا يجد من ينزله جازت صلاته على الراحلة رواية واحدة وأن لم يكن عليه مشقة في النزول وجب عليه النزول رواية واحدة وأن شق عليه النزول من غير زيادة في المرض فهو على الروايتين وهذه الطريقة اصوب والله أعلم.