المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الشرط الخامس: استقبال القبلة - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - من كتاب الصلاة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌(الشرط الخامس: استقبال القبلة

مسألة: ‌

‌(الشرط الخامس: استقبال القبلة

إلا في النافلة على الراحلة للمسافر فإنه يصلي حيث كان وجهه والعاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره فإنه يصلي كيف ما أمكنه ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة).

الكلام في فصلين.

أحدهما: أن استقبال الكعبة البيت الحرام شرط لجواز الصلاة وصحتها وهذا مما اجمعت الأمة عليه.

والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إلى قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} الآيات واستدل بعض أصحابنا من القران على ذلك بقوله أيضا: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلّىً} .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يصلون إلى بيت المقدس وكان صلى الله عليه وسلم يجعل الكعبة بينه وبينها محبة منه لقبلة إبراهيم فلما هاجر صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وبعض اخر ثم حولت القبلة إلى الكعبة فعن

ص: 521

ابن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة".

والأحاديث في ذلك مشهورة متواترة وقال صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر" متفق عليه وعن أنس بن مالك قال قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله ورسوله فلا تخفروا الله في ذمته" رواه البخاري.

الفصل الثاني: ان استقبال القبلة يسقط مع العلم بجهتها في موضعين.

أحدهما: إذا عجز عن استقبالها لخوفه أن استقبلها من عدو أو سيل أو سبع بان يهرب من العدو المباح هربه منه.

أو يسايفه العدو الذي يباح له أن يسايفه.

وأما أن يكون مربوطا إلى غير القبلة.

أو يكون بين حائطين ولا يمكنه الاستدارة إلى القبلة.

ص: 522

وأما بان يكون مريضا لا يجد من يديره فإنه في هذه الحال لا يتعين عليه استقبال جهة الكعبة بل أي جهة قدر على الصلاة إليها فهي قبلته لأن في حديث ابن عمر فإن كان خوف وأشد من ذلك صلوا قياما على اقدامهم أو ركبائهم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع: "لا أرى عبد الله ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا" رواه البخاري ورواه ابن ماجة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير تردد ولأن عبد الله بن انيس لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن سفيان الهذلي صلى ماشيا بالايماء إلى غير الكعببة وهذا لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهذه الآية تعم جميع المصلين لكن نسخ منها أو خص منها القادر فيبقى حكمها في العاجز كما جاء في الحديث ولأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فإذا تضرر باستقبال القبلة الكعبة كان أن يصلي إلى جهة اخرى أولى من تفويت الصلاة.

فإن قيل فهلا اوجبتم الإعادة على المربط ونحوه لأنه ترك الشرط لعذر نادر غير متصل كمن صلى بلا ماء ولا رتاب وكالعاجز عن إزالة النجاسة.

قلنا قد قال ابن أبي موسى من كان مصلوبا على خشبة مستدبر

ص: 523

القبلة أو محبوسا في موضع نجس لا يجد وضوءا ولا يقدر على التيمم صلى على حاله يومىء ايماء ويعيد إذا قدر على الوضوء في احدى الروايتين فقد جعلهما سواء.

وأما غيره فلم يوجب الإعادة بحال أما على احدى الروايتين فإن جميع الشرائط تسقط بالعجز من غير إعادة وأما على الرواية الأخرى فإن القبلة أشبه بالسترة منها بالطهارة ولهذا فرق فيها بين الفرض والنفل كما فرق في السترة عندنا فإذا سقطت السترة فالقبلة الأولى لأنها اخف فإن سائر الجهات عوض عن جهة الكعبة عند العجز عنها بدليل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والشرط إذا كان له بدل لم تجب الإعادة بالعجز عنه كالوضوء ولأن الطهارة اوكد الشروط واستقبال الكعبة اخف الشروط لهذا سقطت في النافلة على الراحلة فصارت بمنزلة القيام في الأركان فلا يصح الحاق أحدهما: بالاخر.

الموضع الثاني في صلاة النافلة في السفر وهو مجمع عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على راحلته قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" متفق عليه وعن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعا اينما توجهت به وهو جاي من مكة إلى المدينة وقرا ابن عمر هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقال ابن عمر في هذا أنزلت هذه

ص: 524

الآية" رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي صححه.

وعن عامر بن ربيعة قال: "رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته يسبح يومىء برأسه قبل أي وجه توجه ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة" متفق عليه وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته تطوعا حيث توجهت به في السفر فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة" رواه أحمد والبخاري وهذا في الحقيقة يعود إلى المعنى الأول لأن المسافر أكثر اوقاته سائر وإذا كان سائرا لا يمكنه التنفل إلى جهة قصده أو أن يبطل سفره وفي ابطال السفر ضرر عليه فصار عاجزا عن النافلة إلا على هذا الوجه بخلاف المكتوبة فإن زمنها يسير ولا فرق في ذلك بين السفر الطويل والقصير لأن احتياج الإنسان إلى التطوع في السفر القصسير كالحتياجه إليه في الطويل.

فأما الراكب السائر في المصر فلا يجوز ذلك في المشهور عنه.

وعنه يجوز له ذلك كما يجوز له في السفر.

ووجه الأول أن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو في معنى المنقول

ص: 525

عنه لأن المسافر لو لم يجز له التطوع لافضى إلى ترك التنفل فإن اغلب اوقاته يكون سائرا بخلاف المقيم في الحضر فإن اغلب اوقاته المكث فلا يفضي منعه إلى تعطيل التطوع في حقه.

فصل.

ويجوز التنفل على الدابة سواء كانت بعيرا أو فرسا أو بغلا أو حجمارا أو فيلا أو غير ذلك من المراكب وسواء كان طاهرا أو نجسا إذا كان ما يلاقي المصلي طاهرا هذه احدى الطريقتين لأصحابنا.

ومنهم من قال إذا كانت الدابة نجسة نجاسة عينية أو عارضة خرج فيه الروايتيان فيمن فرش طاهرا على نجس لأنه كذلك.

ومن فرق بينهما قال ابدان الدواب غالبا لا تسلم من نجاسة لا سيما والبغل والحمار إذا قلنا هما نجسان فإن الحاجة ماسة إلى ركوبهما فعفي عن ذلك للحاجة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلي على حماره وقد تقدم ذلك فلا وجه لخلاف السنة ولا يجوز أن يجعل في هذه الصور خلاف في المذهب لكن يكون من اشترط الطهارة يقول بطهارة الحمار أو يفرق بين الدواب وغيرها أو يفرق بين الفرش على نجاسة رطبة أو يابسة وأما مخالفة عين ما جاءت به السنة فلا يحل بوجه من الوجوه ولذلك لم

ص: 526

يختلف نص أحمد في جواز التطوع على الحمار والبعير وغيرها.

فصل.

وهل يجوز التطوع إلى غير القبلة للماشي حيث يجوز للراكب على روايتين.

إحداهما: لا يجوز وهو مقتضى ما ذكره الخرقي والشيخ المصنف وغيرهما لان ذلك لم ينقل عن النبي إلا في حال الركوب وليس الماشي كالراكب لأن الماشي متحرك بنفسه فهو يعمل في الصلاة عملا كثيرا وذلك مبطل للصلاة إلا إذا كان لضروروة مثل صلاة الخوف ولا ضرورة هنا ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زالوا يسافرون مشاة والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان احيانا يتعقب هو وبعض أصحابه على بعير واحد ومع ذلك لم ينقل أنهم صلوا مشاة.

والثانية: يجوز اختارها القاضي وأبو الخطاب وكثير من أصحابنا وذكره عن أحمد عن عطاء لعموم قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد ذكر ابن عمر أنها نزلت في التطوع في السفر لأن راكبها لا أثر له كما سياتي وذلك المعنى الذي أبيح للراكب الذي يصلي لأجله موجود في

ص: 527

الماشي لأنه مسافر سائر فأما أن يترك التطوع حال سيره أو يترك الاستقبال فقط وكونه يعمل عملا كثيرا يقابله أن الراكب ليس على مكان مستقر فإن كليهما مبطل ويقابله أن الراكب بمنزلة الجالس والماشي قائم والقائم صلاته أفضل من صلاة القاعد.

ويجوز أن يصلي ماشيا طالبا للعدو في المكتوبة كما فعل عبد الله بن انيس رضي الله عنه فكذلك في النافلة في عموم السفر.

فصل.

ويلزم الماشي أن يستقبل الكعبة حين الافتتاح وهو واقف ثم يسير إلى جهة قصده فإذا أراد أن يركع ويسجد ففيه وجهان.

أحدهما: يلزمه أن يقف ويركع ويسجد إلى الكعبة ويسجد بالأرض قاله القاضي وغيره لأن ذلك متيسر عليه فاشبه الافتتاح.

والثاني: له أن يركع ويسجد موميا ماشيا إلى جهة قصده كما في القيام قاله الآمدي وغيره وهو الأظهر لأن الركوع والسجود وما بينهما مكرر في ركعة ففي الوقوقف له وفعله بالأرض قطع لسيره فاشبه الوقوف حالة القيام.

ص: 528

وأما الراكب فإن كان يشق عليه استقبال القبلة حين الاستفتاح مثل أن تكون دابته مقطورة بغيرها ويشق عليه أن يستدبر أو تكون الدابة مستعصية يشق ادارتها إلى الكعبة لم يجب عليه في المشهور في المذهب.

وقد قيل أنه يجب عليه ذلك.

فأما أن تعذر ذلك عليه فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف.

وان تيسر ذلك عليه وجب عليه في احدى الروايتين المنصوصتين.

وفي الأخرى لا يجب كسائر اجزاء الصلاة لكن يستحب وهذا قول أبي بكر وابن أبي موسى.

وجه الأول وهو اختيار أكثر أصحابنا ما روى أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فاراد أن يتطزع استقبل القبلة بناقته فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه" رواه أحمد وأبو داود ومدار تطوع الراكب على فعله صلى الله عليه وسلم فإذا كان إنما كان يفتتح الصلاة مستقبلا للكعبة وجب اتباعه في ذلك وحديث أنس قد فسر فعله وسائر الأحاديث لم يتعرض لذلك بنفي ولا اثبات ولأنه قد تيسر عليه الاستقبال حيث الافتتاح فاشبه الماشي.

وأيضا فإن الاستقبال شرط من شروط الصلاة فمتى اتى به في اوله جاز أن يستصحب حكمه إلى اخرها إذا شق استصحاب حقيقته كالنية وإذا

ص: 529

استفتح الصلاة إلى القبلة ثم الصلاة إلى جهة مسيره فإن كان سيره يختلف فينحرف فيه تارة إلى جهة ثم ينحرف عنها إلى جهة اخرى كان على صلاته لأن قبلته جهة سيره فأيهما ولى سيره إليه فذاك قبلته هكذا ذكره القاضي وغيره من أصحابنا وعلى هذا فلا فرق بين راكب التعاسيف وغيره.

ومن أصحابنا من قال لا تباح الصلاة لراكب التعاسيف لأنه ليس له صوب معين.

وإذا عدل راحلته عن جهة سيره فإن كان إلى جهة القبلة لم تبطل صلاته لأنها القبلة الاصلية.

وان عدل إلى غيرها فقال أصحابنا: تبطل صلاته سواء عدلها هو أو عدلت هي فلم يرددها مع قدرته على ذلك لأن جهة سيره هي قبلته وقد تركها عمدا.

وان عدلت لغفلته أو نومه أو عجز عن ضبطها أو عدلها ظنا أنها جهة سيره لم تبطل صلاته سواء تمادى بهخ به أولم يتماد به إلا أن يتمادى به بعد زوال العذر ولا يرددها فإنه تبطل صلاته هذا أشهر الوجهين ولأنه معذور في ذلك قال القاضي وغيره ويسجد للسهو أن تمادى به لأنه ادخل في الصلاة ما ليس منها.

وفي الاخر أن تمادى به ذلك بطلت صلاته بكل حال لأنه عمل كثير في الصلاة لغير ضرورة.

ص: 530

فصل.

وإذا أمكنه السجود على ظهر الدابة بان يكون في محمل وغيره لزمه لأنه ركن مقدور عليه فإن تعسر ذلك عليه أو اذى الدابة اوما وجعل ايماءه بالسجود اخفض من ايمائه بالركوع وقد نص أحمد على ذلك.

وعنه ما يدل على أن السجود في المحمل ونحوه مستحب وليس بواجب.

وقال ابن أبي موسى أن كان في محمل وقدر على الركوع والسجود بحيث لا يشق على البعير ركع وسجد ولم يجزه الايماء وأن كان ذلك يشق على البعير اوما في الأظهر من قوله وانما جاز الايماء لما تقدم من حديث عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومىء برأسه قبل أي وجهة توجه وعن جابر رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على راحلته النوافل في كل جهة ولكن يخفض السجود من الركعة ويومىء ايماء" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.

وان أمكن الراكب الاستقبال في جميع الصلاة كالراكب في المحفة

ص: 531

الواسعة والعمارية لزمه الاستقبال وأن استدبر جهة سيره نص عليه ال مشقة عليه في ذلك على ما تقدم لأنه ركن يقدر عليه فلزمه فعله كالمصلي في السفينة فإنه يجب عليه أن يستقبل القبلة إذا أمكنه ثم أن قدر على الركوع والسجود لزمه والا اوما.

وعنه ما يدل على أن ذلك مستحب وليس بواجب.

وقال ابن أبي موسى في راكب السفينة: يستقبل القبلة في الفرض ويدور إليها كلما دارت السفينة ويعذر في النفل أن لا يدور إلى القبلة إذا دارت السفينة فإذا لم يلزمه الاستدارة إلى القبلة في السفينة فعلى الراحلة أولى وأن شق ذلك على البعير فهو كما لو شق عليه السجود على ظهر الدابة على ما تقدم من الروايتين.

فصل.

ومتى عزم على الاقامة في اثناء صلاته أو صار مقيما بحصوله في وطنه وجب عليه اتمام صلاة مقيم بأن ينزل ويستقبل فإن اجتاز بمدينة ولم يصر مقيما فله التطوع ما دام سائرا فمتى وصل إلى منزله الذي يريد نزوله نزل واتم الصلاة على الأرض مستقبلا لأن الصلاة على الراحلة إلى غير القبلة إنما تجوز ما دام مسافرا سائرا.

ص: 532

فأما المسافر الراكب الذي ليس بسائر وهو الواقف على الدابة فهذا تجوز له الصلاة عليها لكن عليه استقبال القبلة في جميع صلاته هكذا ذكره القاضي الآمدي وغيرهما من أصحابنا لأنه محتاج إلى التطوع عليها لأن ركوبه عليها مظنة حاجته إليه وليس بمحتاج إلى الاعراض عن جهة القبلة فيلزمه استقبالها ومتى لم يمكنه أن يديرها صلى كيف كان ومتى وقفت به الدابة في اثناء سيره لزمه أن يلوي بالزمام أو اللجام إلى جهة القبلة أن أمكنه.

قال الآمدي ومن أصحابنا من قال لا يجوز التطوع على الراحلة إلا للسائر فأما الواقف فلا.

وان كان يصلي نازلا إلى القبلة ثم عرض له السفر فهل يجوز أن يركب ويتم صلاة مسافر على وجهين ذكرهما الآمدي وغيره.

أحدهما: يجوز وهو قول القاضي لأنه بمنزلة الامن إذا خاف.

والثاني: لا يجوز وهو أظهر لأنه يمكنه أن يتم الصلاة بالأرض من غير مشقة بخلاف الخائف فإنه مضطر إلى الركوب.

فصل.

ولا فرق في هذا بين جميع النوافل من الرواتب وركعتي الفجر والوتر وغير ذلك نص عليه في مواضع وقد توقف في موضع عن ركعتي الفجر.

ص: 533

قال ابن أبي موسى: اختلف قوله في المسافر هل يصلي ركعتي الفجر على الظهر أم لا على روايتين.

اظهرهما أن ذلك جائز قال وله أن يوتر على الراحلة قولا واحدا.

ووجه الفرق أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليهما إلا بالأرض ولأنه يتوكد فعلهما في السفر ويفعلان تبعا للفرض فينزل لهما بالنزول له ويفعلان معه على وجه الأرض وبهذا يظهر الفرق بينهما وبين سائر التطوعات لأنها أما أن لا تتوكد في السفر كسنة الظهر والمغرب أو تفعل منفردة كالوتر.

والصحيح التسوية بين الجميع لعموم المعنى لذلك فإنها من جملة التطوع ويجوز أن يصليهما قاعدا فكذلك على الراحلة.

ص: 534

مسألة: (فان كان قريبا منها لزمته الصلاة إلى عينها وأن كان بعيدا فالى جهتها).

وجملة ذلك أن الناس في القبلة على قسمين.

أحدهما: من يمكنه استقبال عين الكعبة وذلك على ثلاثة أوجه.

أحدها: أن يكون بحيث يراها مثل أن يكون داخل المسجد أو خارجا عنه وهو ينظرها فعليه أن يستقبلها بجميع بدنه حتى لا يخرج شيء منه عنها وأن خرج شيء منه عنها لم تصح صلاته نص عليه.

الثاني: أن يعلم ذلك لكونه من أهل البلد وقد نشأ فيه سواء كان بينه وبينها حوائل حادثة أو لم يكن فإنه من طال مقامه بمكان نم مكة علم أين تكون القبلة منه.

الثالث: أن يخبره بذلك ثقة من أهل البلد لكونه غريبا أو بينه وبينها حائل وعلى الحائل من يخبره بذلك فإن الإخبار بالأخبار كالإخبار بدخول الوقت عن علم فإن هذا الخبر لا يدخله الخطا وجواز الكذب من الثقة غير ملتفت إليه في مثل هذا.

قال أصحابنا: وحكم من كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم حكم من كان بمكة.

ص: 535

لأن قبلته متيقنة الصحة لأنه لا يقر على الخطا.

القسم الثاني البعيد فهذا فرضه الاستدلال والاجتهاد لكن هل الواجب عليه طلب العين أو طلب الجهة على روايتين.

إحداهما: أن فرضه طلب العين فمتى غلب على ظنه أنه مستقبل العين أجزاه ذلك وأن تبين له أنه اخطأها فيما بعد ذلك أو انحرف عنها انحرافا يسيرا وهذا اختيار أبي الخطاب لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} وقد روى ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ثم خرج فركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة" متفق عليه وفي حديث اخر أنه عد الكبائر وذكر منها استحلال الكعبة البيت الحرام قبلتكم أحياء وامواتا وإذا كان نفس الكعبة هي القبلة فيجب عليه أن يستدل على قبلته بحسب الامكان ولا يكفيه مجرد التوجه إلى جهتها لأن المستقبل لجهتها قد لا يكون مستقبلا لها ولأنه مخاطب باستقبال الكعبة فوجب عليه أن يقصد عينها حسب الطاقة كالقريب وذلك لأنهما لا يفترقان في

ص: 536

فرض استقبال الكعبة وإنما يفترقان في أن ذلك متيقن للصواب على التحديد وهذا مجتهد في الاصابة على التقريب.

ولأن المسافر يلزمه حين اشتباه الجهات تحري جهة الكعبة فكذلك العالم بجهة الكعبة يلزمه تحري جهة سمت الكعبة حسب الطاقه وأن كان على وجه التقريب والتخمين وعلى هذه الوراية متى تيامن أو تياسر عن صوب اجتهاده لم تصح صلاته لأنه يغلب على ظنه أنه منحرف عن قبلته فاشبه القريب بخلاف ما إذا توسط الجهة وتحرى نفس البيت.

والرواية الثانية: ما ذكره الشيخ رحمه الله أن فرضه اصابة الجهة فلو تيامن أو تياسر شيئا يسيرا ولم يخرج عن الجهة جاز وأكثر الروايات عن أحمد تدل على هذا ولهذا أنكر وجوب الاستدلال بالجدي وقال إنما الحديث ما بين المشرق والمغرب وهذا اختيار الخرقي وجماهير أصحابنا لأن الله سبحانه قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمسجد الحرام اسم للحرم كله وشطره نحوه واتجاهه فعلم أن الواجب تولية الوجه إلى نحو الحرم والنحو هو الجهة بعينها ثم قال بعد ذلك {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} والوجهة الجهة فعلم أن الواجب تولي جهة المسجد الحرام وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول

ص: 537

الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث صحيح وروي ذلك من حديث أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي أيضا مسندا من حديث ابن عمر وغيره وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا".

وهذا بيان لأن ما سوى التشريق والتغريب استقبال للقبلة أو استدبار لها وهذا خطاب لأهل المدينة ومن كان على سمتهم وقريبا من سمتهم أهل الشام والعراق واليمن ونحوهم دون من كانت إلى الركن الأسود أو الركن الغربي وما يقرب منهما من أهل المشرق والمغرب الذين مساكنهم بين شام الأرض ويمنها على مسامتة مكة وما يقارب ذلك ولأن ذلك اجماع الصحابة رضي الله عنهم قال عمر: "ما بين المشرق والمغرب قبلة كله إلا عند البيت" رواه أبو حفص وذكره أحمد وقال ما بين المشرق والمغرب قبلة إلا عند البيت فهذا لا يكون ثم لأنه يأتم بالبيت كيف دار وأن صلى قريبا من الركن فزال عن الركن قليلا ترك القبلة فمكة غير

ص: 538

البلدان وفي رواية إذا توجهت قبل البيت وروى الأثرم عن عمر وعلي وابن عباس أنهم قالوا ما بين المشرق والمغرب قبلة وعن عثمان أنه قال كيف يخطي الرجل الصلاة وما بين المشرق والمغرب قبلة ما لم يتحر المشرق عمدا وروى أبو حفص عن ابن عمر قال إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق يعني به أهل العراق ونحوهم.

وروى أبو حفص عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا وجهت وجهك نحو البيت الحرام" يعني والله أعلم إذا وجهت وجهك قبله وتجاهه وذلك يحصل باستقبال جهته كما في قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي نحوه وتلقاءه واراد أن يبين صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من قصد جهتها وأيضا فانهم اجمعوا على صحة صلاة الصف المستطيل الزائد طوله على سمة الكعبة مع استقامته بل على صحة صلاة أهل البلد الذي فيه مساجد كثيرة تصلى كلها إلى جهة واحدة مع أنها يمتنع أن تكون قبلتها على خط مستقيم وهي كلها

ص: 539

على سمت عين الكعبة.

فإن قيل مع البعد تحصل المواجهة والمحإذاة لكل واحد مع كثرة المحاذين وطول صفهم لأن المحاذي مع البعد وأن احتاج إلى تقوس وانحناء فهو مع البعد شيء يسير لا يظبط مثله.

قلنا لو كان المفروض محإذاة نفس العين لوجب مراعاة ذلك الشيء اليسير من الانحناء مع القدرة وأن لا يتعمد تركه كما في القريب فمتى سلم جواز تعمد تركه فلا يعني باستقبال جهة الكعبة إلا ذلك فيرتفع الخلاف وهذا المعنى هو الفارق بين القريب والبعيد فإن البعد إذا طال يكون المستقبل للجهة والعين متقاربين جدا حتى لا يكاد يميز بينهما ومثل هذا يعفى عنه كما عفونا عن سائر الشرائط عما يشق مراعاته مثل يسير النجاسة ويسير العورة والتقدم اليسير بالنية وشبه ذلك فإن الدين ايسر من تكلف هذا.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين فيهما أنه قال: "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي".

ص: 540

مسألة: (وان خفيت القبلة في الحضر سأل واستدل بمحاريب المسلمين فإن أخطأ فعليه الإعادة وأن خفيت في السفر اجتهد وصلى ولا إعادة عليه وأن اخطا).

اما الاستدلال بمحاريب المسلمين فلان أهل الخبرة والعلم بجهة الكعبة نصبوها على ذلك وليس فيها خطأ وأن فرض فهو شيء يسير لا يجب مراعاته مع قولنا باستقبال الجهة.

وإذا قلنا يجب استقبال العين فإنه يعفى عن الخطا اليسير مع الجهل.

وكذلك إذا أخبره مخبر ثقة بجهة القبلة عن علم فإنه يقبل خبره وذلك لأن الاخبار عن جهة القبلة ونصب المحراب إليها ليس هو من باب الاجتهاد حتى يكون الرجوع إلى المخبر والثاني: فيه الرجوع إلى تقليد مجتهد وإنما هو من باب الاخبار عن الأمور المعلومة لأن أهل الامصار يعلمون الجهات ولا يخفى ذلك على أحد اصحاء السماء ويعلمون أيضا مكة من جهاتهم فصار ذلك كالعلم بدخول الوقت والعلم بطلوع الشمس من بعض الجهات والراجع إلى المخبر بذلك كالراجع إلى المخبر بدخول الوقت عن علم وبطلوع الشمس من جهة من الجهات.

فان أخطأ في الحضر بان تبين خطأ المخبر أو كذبه أو فساد بناء المحراب أو غير ذلك فعليه الإعادة في المشهور من المذهب وقد نص عليه أحمد فيمن هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة يعيد لأن عليه

ص: 541

أن يسأل وقال القاضي في خلافه ظاهر كلام أحمد حكم المكي وحكم غيره سواء في أنه لا يجب عليه الإعادة فإنه قال في رواية صالح قد تحرى فجعل العلة في الاجزاء وجود التحري وهذا موجود في المكي وغيره وإذا كان هذا في المكي ففي المقيم بسائر الامصار اولى.

ووجه المشهور أنه كان قادرا على اليقين فلم يعذر بالجهل وأن جاز له العمل بغالب الظن كمن افطر بخبر انسان عند غروب الشمس ثم تبين أنها طالعة أو صلى بخبره عن دخول الوقت ثم تبين أنه لم يدخل ولقد كان القياس يقتضي انه لا يجوز له العمل بدليل تدخله الشبهة ولو على بعد مع الاقتدار على الاستيقان وإنما جاز لأن احتمال الخطا في ذلك نادر جدا لا يكاد يقع فجعل كالمعدوم فإذا تبين خطأ الدليل لزمته الإعادة في الوقت إلى اخبار المخبر الواحد إذا أمكنه العلم وهذا الباب مثله فعلى ذلك الوجه لا يرجع إلى اخبار واحد بالجهة مع قدرته على اليقين لكن العلم هنا بالجهة لا يمكن بالعيان لمن لم يسافر إلى مكة ويعلم اين هي من بلده وإنما يمكن بالسماع المتواتر وهو مثل العيان ولذلك جاز الرجوع إلى المحاريب.

فصل.

وأما إذا خفيت في السفر فإنه يجتهد بالاستدلال عليها بالأدلة المنصوبة ولا إعادة عليه وأن تبين له الخطا فيما بعد قال أبو بكر: لا

ص: 542

يختلف قول أبي عبد الله رحمه الله في ذلك.

وكذلك أن صلى بتقليد من فرضه ذلك ثم تبين أنه أخطأ فلا إعادة عليه.

وذكر الامام أبو بكر الدنيوري صاحب أبي الخطاب أن بعض المتأخرين قال يجب عند الاشتباه أن يصلي أربع صلوات إلى الجهات الاربع وزعم أنه رواية عن أحمد قال الدنيوري وهو قياس المذهب كما إذا كان معه ثياب طاهرة ونجسة قال الدنيوري وهذا صحيح فإنه قادر على اداء فرضه بيقين من غير ضرر يلحقه في بدنه وماله فيلزمه ذلك كما لو نسي صلاته من يوم لا يعلم عينها وذلك لأنه اشتبه الواجب بغيره فوجب فعل ما يتيقن به فعل الواجب وكما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها وكما لو اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو اشتبه الموضع الطاهر من ثوبه بالنجس.

وهذا قول شاذ مسبوق الإجماع على خلافه والصواب والمنصوص لأن الله سبحانه قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وهذه الآية تدل على جواز استقبال جميع الجهات نسخ ذلك في حق العالم القادر في صلاة الفرد فيبقى في حق الجاهل بالقبلة والعاجز عن استقبالها لخوف ونحوه في حق المتنفل في السفر لم

ص: 543

ينسخ وهذا لأن الأصل جواز استقبال الوجه إلى جميع الجهات لكن إذا لم يكن بد من الصلاة إلى واحدة منها عين الله سبحانه لنا استقبال أحب الوجوه إليه واوجب ذلك فإذا تعذر ذلك بالجهل وبالعجز سقط هذا الوجوب حينئذ لأن الايجاب حينئذ محال.

وأيضا ما روى عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ابيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في ليلة مظلمة فلم يدر اين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما اصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن ليس اسناده بذلك لا نعرفه إلا من حديث اشعث السمان واشعث يضعف في الحديث قلت وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن اشعث بن سعيد وعمر بن قيس عن عاصم بن عبيد الله وهو يقوي رواية اشعث ويزيل تفرده به.

ص: 544

وقد روي هذا المتن من حديث جابر من حديث محمد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فاصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل احدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يامرنا بالاعادة وقال قد اجزات صلاتكم" رواه الدارقطني وغيره وقال هما ضعيفان.

ورواه الباغندي والحسن بن علي المعمري وغيرهما عن أحمد ابن عبيد الله بن الحسن العنبري قال وجدت في كتاب أبي ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فاصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا القبلة ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطأ وقال بعضنا القبلة ها هنا قبل الجنوب وخطوا خطأ فلما اصبحنا وطلعت الشمس أصبحت

ص: 545

تلك الخطوط لغير القبلة فقدمنا من سفرنا فاتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسالناه عن ذلك فسكت وانزل الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " وهو اسناد مقارب.

وبعض هذه الطرق مما يغلب على القلب أن الحديث له أصل وهو محفوظ فإن المحدث إذا كان إنما يخاف عليه من سوء حفظه لا من جهة التهمة بالكذب فإذا عضده محدث اخر أو محدثان من جنسه قويت روايته حتى يكاد احيانا يعلم أنه قد حفظ ذلك الحديث لا سيما إذا جاء به محدث اخر عن صحابي اخر فإن تطرق سوء الحفظ في مثل ذلك إلى جماعة بعيد لا يلتفت إليه إلا أن يعارض حديثهم ما هو أصح منه وقد روى أصحاب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة فتحروا القبلة وصلوا فمنهم من صلى قبل المشرق ومنهم من صلى قبل المغرب فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا فلما قدموا سالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية فهذا وأن لم يكن مما يحتج به منفردا فإنه يشد تلك الروايات ويقويها وقد استدل أحمد بهذه الآية وتاولها على ذلك قال إذا تحرى القبلة ثم صلى فعلم بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة مضت فتأول بعض

ص: 546

قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاينما تولوا فثم وجه الله.

وقال في موضع اخر في الرجل يصلي لغير القبلة لا يعيد فاينما تولوا فثم وجه الله وهذا دليل على أن الصحابة تأولوها على حال التحري كما ذكرنا ويشبه والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم تلك الليلة وإنما كان قد سراهم سرية فلما اصبحوا لقوه وقد قفلوا من وجوههم ذلك هكذا تدل عليه الروايات.

فإن قيل ففي حديث ابن عمر أن هذه الآية نزلت في صلاة التطوع في السفر.

قلنا لا منافاة بين هذين فإن الآية الجامعة العامة تنزل في أشياء كثيرة أما أن يراد به جميع تلك المعاني بإنزال واحد وأما أن يتعدد الإنزال أما بتعدد عرض النبي صلى الله عليه وسلم القران على جبريل عليه السلام أو غير ذلك وفي كل مرة تنزل في شيء غير الأول لصلاح لفظها لذلك كله على أن قول الصحابة نزلت الآية في ذلك قد لا يعنون به سبب النزول وإنما يعنون به أنه اريد ذلك المعنى منها وقصد بها وهذا كثير في كلامهم وأيضا فإن المصلي استقبل غير القبلة جاهلا بها جهلا يعذر به فلم تجب عليه الإعادة كاهل قباء فانهم لما بلغهم الخبر في اثناء الصلاة استداروا إلى جهة الكعبة ولم يستانفوا الصلاة إلى الكعبة ولم يامرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاعادة مع أن القبلة كانت قد حولت بعد دخولهم في الصلاة ولا فرق بين عدم العلم

ص: 547

بوجود الاستقبال لتجدد النسخ وعدم العلم بالجهة الواجبة إذا كان في كلا الأمرين معذورا ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهذه الدلالة اعتمدها أحمد رضي الله عنه في غير موضع من مسائله.

وقد ذكر عن عطاء وقتادة أن النجاشي كان يصلي إلى بيت المقدس إلى أن مات وقد مات بعد نسخ القبلة بسنين متعددة فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقي في انفس الناس لأنه كان يصلي إلى غير الكعبة حتى انزل الله هذه الآية وهذا والله أعلم بأنه قد كان بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس فصلى إليه ولهذا لم يصل إلى المشرق الذي هو قبلة النصارى ثم لم يبلغه خبر النسخ لبعد البلاد فعذر بها كما عذر أهل قباء وغيرهم فإن القبلة لما حولت لم يبلغ الخبر إلى من بمكة من المسلمين ومن كان بارض الحبشة من المهاجرين مثل جعفر وأصحابه ومن كان قد اسلم ممن هو بعيد عن المدينة إلى مدة طويلة أو قصيرة ولم يامر النبي صلى الله عليه وسلم احدا منهم باعادة ما صلاه إلى بيت المقدس قبل علمه بالناسخ وما ذلك إلا لأنه معذور لعدم العلم وأنه كان متمسكا بشريعة فلما لم يبلغه نسخها لم يثبت في حقه حكم النسخ لأن الله لا يكلفه علم الغيب فكذلك من اجتهد واستفرغ وسعه أو عميت عليه الأدلة لا يكلفه الله إلا وسعه ولأن القبلة المعينة تسقط بالعجز حال المسايفة وكذلك بالجهل حال الاشتباه لأن كلاهما معذور في ذلك ولأنه فعل ما أمر به كما أمر به فلم تلزمه الإعادة كالمصلي إلى القبلة وذلك أن السماء إذا اطبقت بالغيوم وهو

ص: 548

في صحراء من الأرض قد عميت عليه سبل الأدلة وانحسمت مسالك الاجتهاد فمن المحال أن يؤمر باستقبال جهة الكعبة.

ولأن الطهارة ابلغ من الاستقبال ولو اجتهد في طلب الماء ثم تبين أنه كان مدفونا تحت الأرض التي هو عليها لم تجب عليه الإعادة حيث لم يقصر في الطلب فالمجتهد في القبلة أولى ولهذا حيث اوجبنا الإعادة على من اخل ببعض الشرائط ناسيا أو جاهلا اوجبناها لأنه في مظنة التقصير.

فصل.

وأما دلائل القبلة فقد جرد الناس التصنيف فيها من أهل الفقه والحساب فإنها تختلف باختلاف البلاد فاهل كل ناحية يخالف وجه استدلالهم وجه استدلال الناحية الأخرى والاشتباه له سببان.

أحدهما: أن لا تعرف الجهات لغيم السماء ونحو ذلك ولو علم الجهات لعلم اين مكة منه لعلمه بانها يماني بلده أو شامي بلده ونحو ذلك وهذا هو الاشتباه الذي يعرض كثيرا فمتى قدر هذا على معرفة جهة القبلة فقد اجزاته صلاته وأن قلنا أن الفرض تحري عينها مع القدرة لأنه عاجز عن ذلك في هذه الحالة.

الثاني: أن يعلم الجهات لكن لا يدري اين مكة منه فهذا لا يكاد يشتبه عليه جهة القبلة وإنما يشتبه عليه عينها وصلاته أيضا مجزئة إلى الجهة إذا لم يمكنه أكثر من ذلك قولا واحدا وقد يقع هذا كثيرا لمن قرب

ص: 549

من مكة وهو سائر لا يعرف الأرض إذا وقع في طرقات مشيه.

والأدلة العامة ثلاثة أصناف سمائية وهوائية وارضية كل منها مبني على مقدمتين.

إحداهما: أن يعلم النسبة التي بين مكان الصلاة التي يريد معرفة قبلته وبين الكعبة أن قصدت الاستدلال على العين أو بينه وبين جهة الكعبة أن قصدت الاستدلال على الجهة.

والثانية: أن يعلم النسبة التي بين الدليل أو بين الكعبة أو جهتها فإذا علمت هاتين المقدمتين علمت النسبة التي يجب أن يكون المصلي إلى ذلك الدليل.

مثال ذلك إذا اردت الاستدلال على قبلة أهل الشام والعراق وما بينهما من الجزيرة فقد علمت أن جهة الكعبة من هؤلاء الجهة اليمانية وأما العين فإن أهل الشام يستقبلون ما بين الركن الشامي والميزاب وأهل العراق يستقبلون ما بين الركن الشامي والباب واهل نجران ونحوهم يستقبلون نفس الركن الشامي والعلم بهذا ونحوه من مسامتات الأرض بعضها بعضا تحريره لأهل الحساب.

والمقدمة الثانية العلم بجهة المشرق والمغرب وهذا ظاهر وأما العين فإن تعلم أن القطب يحاذي الركن الشامي ويواجهه وحينئذ تعلم أن الشامي إذا جعل القطب بين اذنه اليسرى ونقرة القفا فقد استقبل ما بين الركن الشامي والميزاب وأن العراقي إذا جعل القطب بين اذنه اليمنى ونقرة القفا فقد استقبل قبلته.

فأما دلائل السماء فمنها الشمس إذ هي أظهر والاستدلال بها أيسر

ص: 550

فانها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب فمن كانت قبلته الركن الذي يلي الحجر من ناحية المشرق ويسمى الركن الشامي والركن الاخر الذي يلي الحجر الركن الغربي ويسميان جميعا الركنين الشاميين وقد يسمى الأول الركن العراقي والثاني: الركن الشامي وركن الحجر الأسود الركن البصري وأما الركن الرابع: فإنه يسمى اليماني بلا اختلاف في العبارة ويسمى هو وركن الحجر الأسود الركنين اليمانيين فمن كانت قبلته هذا الركن الذي يسمى العراقي والشامي وما يليه من ناحية الباب وما يليه من ناحية الحجر من أهل لمدينة والشام والجزيرة والعراق وخراسان وما وراء هذه البلاد إذا جعلوا المغرب عن ايمانهم والمشرق عن شمائلهم فقد استقبلوا جهة القبلة وفي ذلك جاءت الاثار المتقدمة.

قال أبو عبد الله رحمه الله بين المشرق والمغرب قبلة ولا يبالي مغرب الصيف ولا مغرب الشتاء إذا صلى بينهما فصلاته جائزة إلا انا نستحب أن يستقبل القبلة ويجعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره فيكون وسطا من ذلك وأن هو صلى فيما بينهما وكان إلى أحد الشقين اميل فصلاته جائزة إذا كان بين المشرق والمغرب ولم يخرج من بينهما.

ومنها القمر فإنه يستدل بطلوعه في النصف الاخر من الشهر فإنه يطلع من المشرق لا سيما اواخر الشهر فإنه يطلع اخر الليل من المشرق وأما النصف الأول فإنه يستدل بغروبه فإنه يغرب في ناحية المغرب لا سيما ليالي الاهلال فإنه يغرب ويطلع في المغرب وليلة السابع: يكون أول الليل

ص: 551

في وسط السماء بين المشرق والمغرب وليلة احدى وعشرين يكون اخر الليل في وسط السماء.

ويستدل أيضا باستواء الشمس وقت الزوال لمن يعرفه بزيادة الظل فإنها تكون حينئذ بين المشرق والمغرب والظل بعد يميل إلى جهة المشرق فمتى جعلها على رأسه أو تجاهه والفيء عن يساره كان مستقبلا جهة القبلة وكذلك القمر ليلة سابعة وقت المغرب وليلة احدى وعشرين وقت المشرق يكون في وسط الفلك فمن جعله فوق راسه أو تجاهه فقد استقبل القبلة.

فصل.

ومنها النجوم قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق في رواية عنه تعلموا من النجوم ما تهتدون في بركم وبحركم ثم امسكوا" رواه حرب.

وعن علي رضي الله عنه قال: "أيها الناس اياكم وتعلم النجوم إلا ما

ص: 552

تهتدون بها في ظلمات البر والبحر" رواه أبو حفص ولذلك استحسن أحمد معرفة منازل القمر وأن يتعلم بها كم مضى من الليل وكم بقي وذكر أنه تعلمها من أهل مكة.

والنجوم اقسام.

إحداها: منازل القمر الثمانية والعشرون فالاستدلال بها كالاستدلال بالشمس والقمر سواء لأنها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب وهي السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزباني والأكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد الاحبية وسعد السعود والفرع المتقدم والفرع المؤخر وبطن الحوت فمن عرف كل منزل منها بعينه أمكنه الاستدلال بها فإن الاربعة عشر الأول هي شامية تميل في طلوعها إلى جهة الشمال والاربعة عشر الاواخر يمانية تميل في طلوعها إلى ناحية الجنوب ومن عرف المتوسط منها وقت طلوع الفجر وراه متوسطا استدل به كما يستدل بتوسط الشمس والقمر.

وأثبت الأدلة على نفس الكعبة القطبان الشمال والجنوبي والقطب الشمالي هو الظاهر في عامة المسكون من الأرض مثل أرض الشام والعراق وخراسان والمشرق ومصر والمغرب وهذان القطبان هما قطبا الفلك المذكور في قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}

ص: 553

قالوا فلكه مثل فلكة المغزل ويقرب من القطب الشمالي نجم صغير يسميه الفقهاء القطب وهو كوكب خفي يمتحن الناس به ابصارهم يرى إذا لم يكن في السماء قمر وحوله انجم دائرة كفراشة الرحا في أحد طرفيها الفرقدان وفي الاخر الجدي وهو كوكب نير معروف إذا جله المصلي خلفه كان مستقبلا القبلة في الشام والجزيرة العراق وخراسان.

وقال أبو عبد الله في غير موضع الجدي يكون على قفاه ويطلع من قبل المشرق وقال أيضا قبلتنا نحن وقبلة أهل المشرق كلهم واهل خراسان الباب وقد قال مرة اخرى وقيل له اين تحب أن يكون الجدي من الإنسان إذا قام إلى القبلة فقال أما الجدي فلم يرد في الجدي شيء إنما يروى إذا جعلت المشرق عن يسارك والمغرب عن يمينك فما بينهما قبلة وقيل له أيضا قبلة أهل بغداد على الجدي فجعل ينكر الجدي وقال ليس الجدي ولكن على حديث ابن عمر ما بين المشرق والمغرب قبلة ومعنى كلامه هذا أنه لا يجب على المصلي أن يتحرى الجدي ولا القبلة معلقة باستدباره كما يقول من يعتبر استقبال العين وإنما الواجب استقبال الجهة ويكفي في ذلك ما بين المشرق والمغرب لأن السائل كان غرضه أن ذلك كان واجبا فانكر أحمد رضي الله عنه ذلك فأما المستحب فهو تحري الجدي كما نص عليه في موضع اخر لأنه اقوم استقبالا وبه يخرج من الشبهة والخلاف ثم أن أهل الشام ينحرفون إلى

ص: 554

الشرق قليلا فيكون القطب بين الاذن اليسرى وصفحة العنق وكلما امعن في المغرب كان الانحراف أكثر.

واهل العراق ينحرفون إلى المغرب أكثر من ذلك فيكون القطب محاذيا لظهر الاذن اليمنى وكلما امعن في المشرق كان الانحراف أكثر وما كان بحران وسميساط وما كان على سمتها بين المشرق والمغرب محاذيا لمكة شرفها الله فإنه يجعل القطب خلف نقرة القفاء ولهذا يقولون اعدل القبل قبلة حران لكون القطب الذي هو أثبت الدلائل وابينها يجعل خلق القفا بلا انحراف فيتيقن اصابة العين لكون البلدة محاذية للركن الشامي بعدها عن المشرق والمغرب كبعد مكة ولهذا يجعل الشام من المغرب حتى فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين" بأنهم أهل الشام ويجعل العراقي من المشرق لأن الأرض إذا قسمت قسمين قسما شرقي مكة وقسما غربي مكة كانت الشام في الجانب الغربي والعراق في الجانب الشرقي وحران وما كان على سمتها على مسامته مكة بين الجانب الشرقي والجانب الغربي فالمستقبل لعين الكعبة في البلاد الشرقية والغربية لا بد له من انحراف وقد لا ينضبط ذلك غاية الضبط لما

ص: 555

في رعايته من الكلفة ولأن قدر الانحراف قد لا يتحقق والا فلا بد لكل بلاد من قبلة معتدلة وأن شق ضبطها وهذا القدر من الإنحراف معفو عنه بالإجماع وأن قلنا يجب استقبال العين.

ومتى كان الجدي عاليا والفرقدان تحته أو بالعكس فالقطب بينهما فاستدبارهما كاستدباره وأن كان أحدهما: في المشرق والاخر في المغرب فالقطب بينهما وهو إلى الجدي اقرب وبكل حال فإذا استدبر الجدي أو الفرقدين أو بنات نعش فهو مستقبل للجهة بكل حال وهو كافيه فإذا أراد مراعاة التحديد انحرف إلى ناحية القطب قليلا.

فصل.

وأما الدلائل الهوائية فهي الرياح ومهابها أربع تخرج من زوايا الأرض الاربعة ويقال أن الكعبة مبنية على مهابها فجدر الكعبة الاربعة مستقبلة لمهاب الريح واركان الكعبة مستقبلة بجهات الأرض الاربعة.

احداهن الصبا سميت بذلك لأنها تصبو إلى الكعبة وهي تهب إلى وجهها ما بين مطلع الثريا ومطلع الجدي.

والدبور تجاهها تهب إلى دبر الكعبة ما بين مطلع سهيل ومغرب الثريا.

والجنوب تهب إلى جانب الكعبة اليماني ما بين مطلع الثريا ومطلع سهيل.

والشمال تجاهها ما بين مطلع الجدي ومغرب الثريا فهذه الرياح من عرف خواصها وصفاتها أمكنه أن يستدل بها إذا كان في فضاء من

ص: 556

الأرض حيث تجري الريح على سنها ثم نسبة المصلي إليها تختلف باختلاف مكانه ولهذا تختلف عبارة أصحابنا العراقيين والشاميين وغيرهم في نسبة الرياح والشمس والقمر والجدي إلى المصلي لأن كل قوم وصفوا دلائل قبلة ارضهم خاصة على سبيل التحديد.

فصل.

وأما دلائل الأرض فقد قال بعض أصحابنا: أن ذلك لا ينضبط انضباطا عاما لكن من كان في موضع قد علم جهات ما فيه من الجبال والأنهار والابنية ونحو ذلك أمكنه الاستدلال.

فأما بدون ذلك فإن الجبال والأنهار ليست كلها على وجهة واحدة حتى يحكم عليها بحكم عام.

وقال كثير من أصحابنا يستدل بالجبال والأنهار الكبار.

اما الجبال فإن لها وجوها يعرفها سكانها ولذلك لكل شيء وجه يعرف بالمشاهدة قالوا ووجوه الجبال جميعها إلى جهة بيت الله سبحانه وتعالى.

اما الأنهار فقالوا أكثر الأنهار الكبار التي خلقها الله سبحانه وتعالى لم يحتفرها الناس لاغراضهم تجري من مهب الريح الشمال إلى مهب الريح

ص: 557

الجنوب مثل الفرات ودجلة قالوا إلا نهرين أحدهما: بالشام يسمى العاصي والاخر بخراسان يسمى جيحون يسمى كل واحد منهما المقلوب فإذا كانت هذه الأنهار تجري من يمنة المصلي إلى يسرته وقرب كتفه الايمن من الماء وبعدها اليسرى منه إذا كان الماء امامه وأن كان الماء خلفه فبالعكس فقد استقبل جهة الكعبة والنهران المقلوبات يجعلهما بالعكس جاريين من ميسرته إلى ميمنته وهذا والله أعلم في قبلة أهل العراق وخراسان ومن قاربهم من أهل الشام ونحوهم والا فنيل مصر يجري من الجنوب إلى الشمال ونهر الاردن بالشام يجري إلى ناحية الجنوب وهي ناحية القبلة.

ص: 558

مسألة: (وان اختلف مجتهدان لم يتبع أحدهما: صاحبه وتبع الأعمى والعامي اوثقهما في نفسه).

وجملة ذلك أن المجتهد في القبلة هو العالم بدلائلها القادر على الاستدلال بها سواء كان فقيها أو لم يكن.

فأما الأعمى أو البصير الذي لا يعلم ادلتها أو يعلمها اسما ووصفا ولا يعلمها عينا فليس بمجتهد سواء كان فقيها أو لم يكن لأن المجتهد في كل فن هو القادر على الاستدلال على مطالبه بسهولة فأما المجتهد ففرضه العمل بما اداه اجتهاده إليه سواء خالفه غيره أو وافقه وسواء كان أعلم منه أو لم يكن وسواء اجتهد أو لم يجتهد إذا كان الوقت متسعا للاجتهاد كما قلنا في المفتي والقاضي وكما في الاجتهاد في امور الدنيا وغيرها.

قال أصحابنا: وأن أمكنه أن يتعلم دلائل القبلة ويستدل بها قبل أن يضيق الوقت لزمه ذلك لأنه قادر على التوجه بالاجتهاد فلم يجز له التقليد كالعالم بالأدلة وذلك لأن مؤنة تعلم ادلة القبلة يسيرة لا تشغل الإنسان عن مصالحه فاشبه تعلم الفاتحة وصفة الوضوء وغيرها من فرائض الصلاة بخلاف تعلم ادلة الأحكام الشرعية وطريق الاجتهاد فيها فإن تكليف العامة ذلك يشغلهم عن كثير من مصالحهم التي لا بد منها لهم منها.

فان ضاق الوقت عن تعلم الأدلة والاستدلال بها فهو بمنزلة العاجز عن

ص: 559

تعلم الأدلة يقلد غيره فإن تعذر عليه الاجتهاد مع قدرته عليه لكونه محبوسا في ظلمة صار فرضه التقليد بمنزلة المقلد الذي لا يحسن الاستدلال هكذا ذكر القاضي وغيره من أصحابنا وذكروا أن أحمد اوما إليه ومن أصحابنا من قال هذا بمنزلة المقلد الذي لا يجد من يقلده يصلي على حسب حاله.

والصواب أن هذا الاطلاق يجب أن يحمل على ما إذا لم يجد من يقلده والا فلا فرق بين المحبوس في ظلمة وبين الأعمى.

وان ضاق الوقت عن الجتهاد مع علمه بالأدلة فخاف أن اشتغل به أن يفوته الوقت فإنه يصلي بالتقليد عند جماهير أصحابنا.

ومنهم من قال يصلي على حسب حاله وهو كالذي قبله وقال أبو محمد المقدسي صاحب الكتاب رحمه الله بل يجتهد لأن الاجتهاد في حقه شرط صحة الصلاة فلم يسقط بخروج الوقت كسائر الشرائط ولأنه مجتهد لا يجوز له التقليد مع سعة الوقت فلا يجوز له مع ضيقه كالمجتهد في الأحكام الشرعية مفتيا وقاضيا.

والأول هو الصواب لأن الصلاة في الوقت بالتقليد خير من الصلاة بعد خروج الوقت بالاجتهاد كمن يقدر على تعلم الأدلة لكن يخاف أن اشتغل بتعلمها فوات الوقت ولأن الصلاة في الوقت الحاضر فرض فلم يجز

ص: 560

تفويتها للاشتغال باسباب الشرائط كمن يعلم أنه يقدر على الماء أو على الثوب بعد الوقت ولأن الاجتهاد ليس هو الشرط وإنما هو الطريق إلى معرفة الشرط فلم يجز تفويت الصلاة بسببه كطلب الماء ولأن التقليد طريق صحيح وهو يدل على الاجتهاد فوجب العمل به عند خشية الفوات كالتيمم عند الماء ولا نسلم أن الاجتهاد هو الشرط كما تقدم ثم ينتقض بمن يعلم أنه يجد الماء بعد الوقت أو تتبين له القبلة أو يجد السترة أو يقدر على إزالة النجاسة بعد الوقت ولأنه لو أدركته الصلاة حال المسايفة وجب عليه أن يصلي في الحال إلى غير القبلة وأن كان بقتاله مجتهدا في الامن الذي يقدر به على استقبال القبلة.

فإن قيل أما أن كان زمن الاجتهاد يطول فما ذكرتموه ظاهر أنه قد تقدم أن الشروط كلها متى كان الاشتغال بتحصيلها من أول الوقت تفوت معه الصلاة لم يجز تفويت الصلاة لاجلها وأما أن كان زمن الاجتهاد قريبا مثل رجل استيقظ قبيل طلوع الشمس فقد قلتم في مثل هذا أنه يشتغل باسباب التوضىء واللبس وأن فات الوقت لأن ذلك وقته.

قلنا الخلاف في هذه الصورة اقرب والفرق بين القبلة وغيرها أن امرها خفيف يسقط في حال الخوف وفي صلاة التطوع في السفر من غير إعادة بالإجماع ويسقط بالجهل كاهل قباء ومن تحرى فاخطا ولأن المقلد عامل بطريق وأن كان اضعف الطريقين {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وأما المفتي والحاكم فليس للإجتهاد به وقت

ص: 561

محدود في الشرع ولم يتعين على هذا الحاكم والمفتي ومتى تبين له أنه خالف النص نقض حكمه وفتياه ولا يجوز له العمل بخلاف النص في وقت من الاوقات واستقبال الكعبة يسقط بالجهل والعجز من غير إعادة وفي القبلة إذا استوت عنده الجهات صلى إلى أي جهة شاء والعالم إذا استوت عنده الاقوال لم يجز له أن يفتي أو يحكم بشيء وذلك لأن العالم قد أخذ عليه أن لا يقول إلا بعلم والتقليد له طريق إلى العلم الذي أمر به فيسكت كما لو لم يكن مجتهدا والصلاة لا بد له من فعلها أما باجتهاد أو تقليد.

وفي الحقيقة لا فرق بين الموضعين لأن الوقت إذا ضاق عن الاجتهاد صار المجتهد كالقاضي في الموضعين والعامي يصلي بالتقليد في الموضعين ويحرم عليه أن يفتي أو يقضي بالتقليد.

فصل.

وان استوت الجهات كلها في نظر المجتهد لتعارض الأدلة في نظره أو لعدمها بان تكون السماء مطبقة بالغيوم ولا دليل له يستدل به فهذا أيضا كالعاجز عن الاستدلال لكونه محبوسا في ظلمه ونحوه.

قال بعض أصحابنا: يصلي على حسب حاله إلى أي جهة شاء.

وعلى ما ذكره سائر أصحابنا فإنه يقلد غيره أن وجد من يقلده لأن استواء الجهات في نظره تلحقه بالعامي فيقلد كما يقلد العامي

ص: 562

فأما إذا تعذر التحري على المجتهد لاستواء الجهات في نظره أو لكونه ممنوعا من رؤية العلامات أو لضيق الوقت على المشهور أو ضاق الوقت عن التعلم على من يمكنه التعلم وتعذر عليهم التقليد أيضا كالجاهل بدلائل القبلة إذا تعذر عليه التقليد وكالأعمى إذا تعذر عليه التقليد وجماع ذلك أن تستوي الجهات عند المكلف فلا يترجح بعضها على بعض باجتهاد ولا تقليد فهذا يصلي على حسب حاله إلى أي جهة شاء ويسقط عنه فرض استقبال جهة معينة هذا هو المذهب.

وعلى الوجه الذي ذكره أبو بكر الدينوري عليه أن يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات.

وعلى المذهب هل يستحب أن يصلي أربع صلوات قال ابن عقيل الاحوط أن يصلي أربع صلوات وظاهر كلام أحمد وأكثر أصحابنا أن هذا لا يستحب بل يعيد قال أبو بكر فيه قولان يعني روايتين.

أحدهما: لا يعيد لأنه لم يكلف غير هذا.

والثاني: يعيد لأنه دخل في الصلاة بغير دليل ولذلك خرجها القاضي على الروايتين فيمن عدم الماء والتراب وقال ابن حامد أن أخطأ اعاد وأن اصاب فعلى وجهين.

ص: 563

فان قلنا يعيد مطلقا فلأنه ترك المفروض عليه في الاستقبال بعذر نادر غير متصل فاشبه الحائض إذا تركت الصوم ومن عدم الماء والتراب لأنه وأن اصاب فذاك على وجه البحث والاتفاق وذلك لا يكفي.

وان قلنا يعيد أن أخطأ فقط فلان المقصود استقبال القبلة وقد حصل وانما يعيد إذا قدر على التحري وصلى بغير تحر وأن اصاب لأنه ترك المفروض عليه وهذا فعل ما أمر به.

وان قلنا لا يعيد مطلقا وهو الصحيح وهو الذي يدل عليه كلام أحمد واستدلاله قال في رواية محمد في الرجل يصلي لغير القبلة لا يعيد {وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهو الذي تقتضيه اصوله خصوصا في مسائل القبلة.

والقولان الاخران بعيدان على المذهب فإن القبلة إذا لم يمكن العلم بها صارت جميع الجهات له قبلة كما نص عليه أحمد ولهذا لم يختلف قوله أنه لا إعادة على المخطىء وذلك لأن الله سبحانه قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد تقدم أنها نزلت في الجاهل بالقبلة والعاجز عنها وكذلك الحديث المذكور ظاهره أن القوم لا يترجح عندهم جهة القبلة فصلى كل رجل على حسب حاله وجميع الأدلة المذكورة في مسألة: (من اجتهد فاخطا يعم هذا الموضع لأن سقوط الاصابة عن المجتهد والمقلد لكونه غير قادر عليها كسقوط

ص: 564

الاجتهاد والتقليد عن العاجز عنهما ولأن القبلة شرط من الشروط فسقط بالجهل به على وجه يعذر به كسائر الشروط والتعليل بالندرة ضعيف كما تقدم وبتقدير صحته فالقبلة اخف من غيرها كما تقدم وسر المسألة ان المصلي إلى أي الجهات توجه فثم وجه الله وقبلته لكنه سبحانه عين اشرف الجهات عند العلم والقدرة فإذا تعذر ذلك استوت الجهات كلها والله سبحانه أعلم هذا فيمن كان بدار الاسلام.

فأما من كان بدار الحرب ولا طريق له إلا إلى العلم بالقبلة فقال أبو بكر لا إعادة عليه هنا قولا واحدا بخلاف من هو في دار الاسلام لأن العذر يكثر ويطول في اسارى المسلمين المحبوسين في مطامير الكفار وقصة النجاشي تؤيد هذا.

فصل.

فان ترك الاجتهاد مع قدرته عليه أو التقليد مع قدرته عليه أو صلى إلى غير الجهة التي أمر من قلده بها فإنه يعيد بكل حال اصاب أو أخطأ في ظاهر المذهب لأنه فعل ما لم يؤمر به فلم تنفعه الاصابة اتفاقا كمن افتى بغير علم أو قضى للناس على جهل أو قال في القران برايه أو شهد بما لا يعلم فإن هؤلاء لا ينفعهم الاصابة في نفس الأمر لأنهم لم يعلموا أنهم مصيبون وعكس هؤلاء من اجتهد فاخطا في قضاه أو فتياه أو حلف على

ص: 565

شيء يظنه كما حلف عليه أو اجتهد أو قلد في القبلة فأخطا فإن الخطأ عن هؤلاء محطوط لأنهم فعلوا ما يقدرون عليه.

فصل.

وأما الأعمى والجاهل بادلة القبلة الذي لا يمكنه التعلم أو الذي يضيق وقته عن التعلم فإنه إذا اختلف عليه مجتهدان فإنه يتبع اوثقهما عنده علما بدلائل القبلة وورعا في تحريها وذلك واجب عند أكثر أصحابنا فإن قلد المفضول لم تصح صلاته.

وقال بعض أصحابنا: يجوز تخريجا على أن للعامي أن يقلد من شاء من المفتين فإن فيه روايتين أشهرهما جوازه لأنه أخذ بدليل يجوز العمل به منفردا فكذلك إذا كان معه غيره كما لو استويا فانهما إذا استويا قلد من شاء منهما وحكى الحلواني في هذه المسألة روايتين أيضا وقدم رواية التخيير كالروايتين في الاستفتاء.

والأول اقيس لأنه إنما جاز له أن يقلده حال النفراد لعدم المعارض كما يعمل في خبر الواحد والقياس والعموم مع عدم المعارض فإن غلبة الظن بمعرفة المجتهد تزول إذا خالفه من هو أعلم منه ولأن أمر

ص: 566

القبلة مبني على العمل بالأقوى فلم يجز العمل بالاضعف كما لو تعارضت الأدلة عند المجتهد فإنه يجب عليه العمل باقواها وكما لو اخبر المحبوس والأعمى رجلان كل مهما يزعم أنه يخبره عن علم بجهة القبلة واختلفا فإنه يجب عليه أن يعمل باصدقهما واوثقهما ولأنه عمل بالمرجوح فيما لم يبن على التوسعة والرخصة فلم يجز كالعمل بالدلالة الضعيفة.

وأما تقليد المفتين فإن ابن عقيل وغيره سووا بينهما في وجوب تقليد اوثقهما في نفسه وهو احدى الروايتين طردا للقياس قالوا لأن الحق في جهة واحدة وعلى المكلف أن يطلبه بأقوى الأدلة في نفسه واقوال المفتين للعامي كالأدلة الخاصة للمجتهد وله نوع اجتهاد فيمن يقلده فكما وجب على المجتهد رايه في ادلة الأحكام أن يتبع أقوى الدلالتين كذلك يجب على المجتهد رايه في اقوال المفتين أن يتبع اوثق القائلين وأكثر أصحابنا جوزوا له تقليد من شاء وهو أشهر الروايتين إذا لم يكن من أحد الجانبين نص ونحوه.

ثم أن طائفة من أصحابنا منهم ابن عقيل وأبو بكر الدينوري ذكروا رواية عن أحمد أن كل مجتهد مصيب بناء على اذنه لبعض من استفتاه أن يقلد غيره من المفتين إذا افتاه بخلاف قوله وصنف رجل كتابا سماه كتاب الاختلاف فقال سمه كتاب السعة ولا تسمه كتاب الاختلاف وقال لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه قال ولو كان يعتقد أنهم على خطأ لما دل عليهم وأمر بالاستفتاء لهم وبنى الدينوري على

ص: 567

هذا أن المصلي إلى القبلة باجتهاده مصيب لما عند الله وأن استقبل غير جهة الكعبة وعلى هذا فيظهر تخيير العامي في تقليد من شاء في القبلة وأيضا فلا فرق بل يقال التخيير في القبلة أولى من التخيير بين اعيان المفتين لأن من استوت عنده الجهات صلى إلى حيث شاء ومن تكافات عنده الدلالات امسك عن الفتيا حتى يتبين له الحق وذلك لأن {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ولا يجوز أن يقال أي شيء قلتم فهو حكم الله ولأن التخيير بين الجهات لا تناقض فيه بل هو كالتخيير بين انواع القراءات في التشهد بخلاف التخيير بين اعتقاد التحليل والتحريم ونحو ذلك فإنه متناقض والمنصوص عنه في غير موضع وهو مذهب معروف أن الحق عند الله واحد وعلى المكلف أن يطلبه والمصيب له واحد وليس هذا موضع استقصاء في ذلك ولا ريب أن كون الحق عند الله واحدا في باب الأحكام ابلغ في باب الاستقبال ونحوه لأن المختلفين في القبلة وأن كان يعلم أن بعضهم مستقبل غير القبلة فجعل جهة غير القبلة قبلة أمر معهود في الشرع في حال الخوف والتطوع على الراحلة وهو في هذه الحال مستقبل القبلة التي شرعها الله له ظاهرا وباطنا فكذلك في حال الجهل بها للاشتباه أي جهة ولاها فثم وجه الله بخلاف حكم غير الحكم الذي حكم الله فإنه لا يجوز أن يكون هو حكم الله ظاهرا وباطنا بالنسبة إلى أحد من المكلفين كما هو مقرر في موضعه وأن قلنا هو مصيب في اجتهاده مخطىء بحكم الله أو قلنا هو مخطئ فيهما جميعا لكن الفرق بين التقليد في القبلة والتقليد في الأحكام أن تقليد الاوثق فيه

ص: 568

القبلة ليس فيه عسر ولا حرج إذ الجهات بالنسبة إلى المصلي سواء فيبقى تقليد المرجوح لا وجه له بخلاف الأحكام فإن الزام العامة بقول واحد بعينه في جميع الأحكام فيه عسر وحرج عظيم منفي بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقد جعل اختلاف العلماء رحمة وتوسعة على الأمة وما زال المسلمون في كل عصر ومصر يقلدون من العلماء من علم عندهم بالعلم وقد كان الصحابة يعلمون فضل بعضهم على بعض في بعض انواع العلم ثم لم يقصروا العامة على استفتاء ذلك الافضل في ذلك النوع وأيضا فإنه يجب الرجوع إلى قول اوثق الطبيبين والقائفين والمقومين فكذلك في قول اوثق المجتهدين في القبلة لأنها امكور جزئية ولا يشق تعيين الأقوى منها بخلاف الأحكام الشرعية فإنها كثيرة ومتسعة ولربما كان المفضول في كثير من المسائل اوثق من الفاضل ختلاف المطلوبات فيها والمسألة محتملة.

هذا إذا اختلف مجتهدان وعلم اختلافها فأما إذا كانت هناك عدة مجتهدين ولم يدر ايتفقون أم يختلفون.

مثل أن يكون في جيش عظيم أو ركب عظيم فهل له أن يقلد من تيسر عليه منهم أم يجب عليه أن يسال اوثقهم لأصحابنا في الاستفتاء وجهان فكذلك يخرج هنا مثله لكن ظاهر كلامهم هنا أن ذلك لا يجب عليه لأنهم قصروا اتباع الاوثق على حال الاختلاف ولأنه لو كان قريبا منه امارة تدل على القبلة جاز له اتباعها ولم يجب عليه أن يقطع مسافة إلى

ص: 569

امارة اخرى لجواز أن تخالفها ولأن الأصل عدم الاختلاف.

فصل.

وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يجز أن يأتم أحدهما: بصاحبه في المنصوص المشهور ومتى ائتم أحدهما: بالاخر فصلاة الماموم باطلة وفي صلاة الامام وجهان.

وقال بعض أصحابنا: قياس المذهب جوازه كما لو ائتم بمن يخالف اجتهاده في بعض شروط الصلاة كمن يصلي خلف من يصلي في جلود السباع فإنه تصح صلاته في المنصوص عنه ولأن خطأ الامام هنا لا يمنع صحة الصلاة ظاهرا ولا باطنا لأن الامام لا يعيد إذا تبين له الخطا بخلاف ما لو اعتقد الماموم أن الامام محدث.

ووجه الأول ما تقدم من الحديث المذكور فإن الصحابة ضوان الله عليهم حينئذ صلى كل واحد منهم على حدته ولم يصلوا جماعة واحدة ولو كان ذلك جائزا لفعلوا لأن الجماعة واجبة أو سنة مؤكدة ولأن الماموم يعتقد أن الامام يترك شرطا من شرائط الصلاة للعجز عنه فاشبه ما لو كان الامام عاريا أو محدثا وعدم الماء والتراب أو مربوطا إلى غير القبلة أو حاملا لنجاسة لا يقدر على إزالتها أو اميا أو اقطع وأيضا فإنه هنا يتيقن أن

ص: 570

صلاته اشتملت على ترك استقبال القبلة وكل صلاة تيقن أنه ترك فيها استقبال القبلة فهي باطلة لأنه أن كان هو المصيب فصلاته مبنية على صلاة امامه وصلاة امامه على هذا التقدير إلى غير القبلة فتكون صلاته إلى غير القبلة مع القدرة على ترك ذلك.

وان كان امامه هو المصيب فصلاته هو إلى غير القبلة وبهذا يظهر فقه المسألة فان العفو عما يجوز أن يكون صوابا أو خطأ إذا ضم إليه ما يتيقن باجتماعهما حصول الخطا لم يحصل العفو عنهما جميعا كما لو احدث أحد رجلين ولم يعلم عينه وقلنا لكل منهما أن يصلي فليس لأحدهما: أن يأتم بالاخر وكما لو قال رجل أن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر وقال اخر أن لم يكن غرابا فعبدي حر فإذا اجتمع العبدان في ملك واحد حكمنا بعتق أحدهما وبهذا يظهر الفرق بينه وبينما إذا ترك الامام ما يعتقده الماموم ركنا أو شرطا لأنه لا يتيقن اشتمال الصلاتين على مبطل لجواز أن يكون اعتقاد امامه صوابا وحينئذ فتكون صلاة الامام صحيحة في الباطن وكذلك صلاته لأنه لم يترك شيئا ومجرد اعتقاد ايمانه لا يؤثر في صلاته نعم نظير مسألة القبلة أن يفعل أحدهما: شيئا ويتركه الاخر وهو عند أحدهما واجب فعله وعند الاخر مبطل فإنه هنا أن كان واجبا فقد تركه أحدهما: وأن كان مبطلا فقد فعله أحدهما: فالصلاة مشتملة على ترك واجب أو فعل محرم بيقين على أن القياس على مسائل الاجتهاد الفقهية قد فرق بينهما إذا سلم بما تقدم في التي قبلها وذلك أن مسائل الاجتهاد إذا لم يخالف الرجل فيها كتابا ولا سنة ولا اجماعا فإنه لا ينقض حكمه ولا حكم بخطاه ولا يحكم ببطلان صلاته ولا ينهى عن

ص: 571

استفتائه ولا ينهاه أن يعمل باجتهاده بل قد يؤمر باستفتائه أما لأن الحكم يختلف باختلاف الاجتهادات كما يقوله من يعتقد كل مجتهد مصييب ولأن الناس لم يكلفوا إلا ما يقتضيه رأيهم وأن كان في الباطن أشبه كما يقول أصحاب الشبه أو لم يكلفوا إلا طلب ما هو الحق في الباطن سواء اصابوه أو اخطاوه وقد عفي عنهم إذا اخطاوه.

أو لأنه وأن كان مخطئا في اجتهاده وحكمه فإن الله تعالى رفع الحرج فيها عن المخطىء وجعل له اجرا على اجتهاده اقرارا لكل ذي راي على رأيه مع أن الحق عند الله واحد بخفاء مدركها وخفة امرها ومشقة اصابة الحق فيها وعموم الرحمة والمصلحة في تيسير ذلك وتفاقم الفساد من هدم بعض الاجتهادات ببعض وهذان القولان هما اللذان يقولهما أصحابنا وأن كان الأول قد حكي في المذهب أيضا وهذا الواقع في احكام الشريعة لا يلزم مثله في قبله يقع في الدهور مرة ولا يلزم العفو فيما تعم به البلوى العفو عما لا تعم به البلوى.

فان اتفقا على الجهة واختلفا في العين فقال أحدهما: تنحرف يمينا وقال الآخر تنحرف شمالا فقال القاضي في الجامع أن قلنا المطلوب العين لم يجز له أن يتبعه وأن قلنا المطلوب الجهة وهو الصحيح من قوله جاز له أن يتبعه وقال في المجرد وغيره من أصحابنا من يجوز الائتمام هنا مطلقا وهذا أصح لانا أن قلنا المطلوب العين فإن الانحراف اليسير مع الخطا معفو عنه بكل حال بالإجماع والصلاة إلى قبلة واحدة في مثل هذه الحال.

ص: 572

فصل.

إذا صلى بالاجتهاد ثم تبين له في اثناء الصلاة أن جهة القبلة خلاف ذلك عن يقين استقبل القبلة ويبني على صلاته كاهل قباء لأن أولى صلاته كانت صحيحه ظاهرا وباطنا فهو كالعاري إذا وجد السترة في اثناء صلاته.

وان تبين له ذلك باجتهاد انحرف إلى الجهة التي تبين له أنها القبلة نص عليه وهو قول أكثر الأصحاب وقال ابن أبي موسى والآمدي وغيرهما يبنى على صلاته لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.

والأول أصح لاننا لا ننقض الاجتهاد الأول وإنما نامر أن يتم الصلاة إلى الجهة الأخرى كما لو علم القبلة يقينا وهذا ممكن هنا دون القضايا والفتاوى فإن ذلك لا يمكن فيها إلا في حادثتين ثم أن كان امام فارقه المامومون إذا لم يتغير اجتهادهم واتموا جماعة وفرادى.

وان كان ماموما فارق امامه وبنى ولم يبق اجتهاده إلى تلك الجهة ولم يؤده اجتهاده إلى جهة اخرى وبنى على جهته لأنه لم يتبين له خطاه وقد دخل دخولا صحيحا.

وان صلى بتقليد ثم أخبره في اثناء صلاته مخبر أن القبلة في جهة اخرى فإن كان الثاني ممن لا يقبل خبره ولا اجتهاده أو أخبره باجتهاده وهو عنده مثل الأول لم ينصرف عن قبلته وأن كان الأول أخبره باجتهاده والثاني: عن علم انحرف إلى الجهة التي أخبره بها وأن كان الثاني أخبره

ص: 573

باجتهاد وهو اوثق من الأول فهو كما لو تغير اجتهاده وهو من أهل الاجتهاد فهل ينحرف على وجهين

فصل.

وإذا صلى بالاجتهاد ثم حضر صلاة اخرى جدد الاجتهاد فإن تغير اجتهاده صلى بالثاني ولم يعد ما صلى بالأول كالمفتي والحاكم يجدد اجتهاده في قضاياه وفتاويه والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد لأنه لم يتيقن الخطا فيما فعله اولا مع أنه لو يتيقن ذلك في القبلة لم يعد فاولى أن لا يعيد مع استمرار الشك في الجملة.

فصل.

ولا يتبع دلالة مشرك بحال مثل أن يدخل بلدا فيه محاريب هل هي بناء المسلمين أو المشركين أو يخبره الكفار أنها مبنية إلى القبلة ونحو ذلك.

ولو رأى على المحراب اثار المسلمين وهو في بلد كفار أو في بلد خراب لا يعلم هل هو بلد مسلم أو كافر لم يصل إليه لإحتمال أن يكون الباني له كافرا مستهزئا غارا للمسلمين إلا أن يكون مما يعلم أنه من

ص: 574

محاريب المسلمين.

قال بعض أصحابنا: لو علم قبلة الكفار فله أن يستدل بها على قبلة المسلمين مثل أن يرى قبلة النصارى في كنائسهم وقد علم أنهم يصلون إلى الشرق فإنه يستدل بها على القبلة فيجعله عن يساره وأن كانت هذه قبلته لأن خبرهم عن قبلتهم بمنزلة التواتر وهم لا يتهمون فيه.

ص: 575