المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة: (ولا يحل تأخيرها عن وقتها إلا لناو جمعها أو مشتغل عنها بشرطها) - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - من كتاب الصلاة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌مسألة: (ولا يحل تأخيرها عن وقتها إلا لناو جمعها أو مشتغل عنها بشرطها)

‌مسألة: (ولا يحل تأخيرها عن وقتها إلا لناو جمعها أو مشتغل عنها بشرطها)

.

أما فعلها في الوقت المضروب لها ففرض وتأخيرها عنه عمدا من الكبائر لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} والمحافظة عليها فعلها في الوقت لأن سبب نزول الآية تأخير الصلاة يوم الخندق دون تركها لأن السلف فسروها بذلك ولأن المحافظة خلاف الإهمال والإضاعة ومن أخرها عن وقتها فقد أهملها ولم يحافظ عليها.

وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} وأضاعتها تأخيرها عن وقتها كذلك فسرها ابن مسعود وإبراهيم والقاسم بن محمد والضحاك وغيرهم من غير مخالف لهم قال ابن مسعود إضاعتها صلاتها لغير وقتها لأن الشيء الضائع ليس هو معدوما إنما هو مهمل غير محفوظ وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} والمشهور منها إضاعة الوقت كذلك فسر هذه المواضع جماهير الصحابة والتابعين وهو معقول من الكلام وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} وأمر سبحانه الخائف أن يصلي مع الإخلال بكثير من الأركان وكذلك المتيمم ونحوه ولو جاز التأخير لما احتاج ذلك إلى شيء من ذلك وسائر

ص: 53

الآيات الموجبة فعلها في الوقت المحدود مثل قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} دليل مفصل على ذلك وكذلك الأحاديث.

عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر أنها ستكون عليكم أئمة يميتون الصلاة فإن ادركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة" رواه أحمد ومسلم وعن أبي قتادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر صلاة إلى وقت الصلاة الأخرى" رواه مسلم والنصوص في ذلك كثيرة وهو مجمع عليه.

وأما الذي يؤخرها ينوي جمعها إلى التي بعدها حيث يجوز ذلك فهذا في الحقيقة قد صلاها في وقتها وكذلك يصليها أداء لأن الوقت للصلاة هو الذي حده الله سبحانه لجواز فعلها وإنما استثناه الشيخ لسببين.

أحدهما: أنه ليس هو الوقت المطلق وإنما هو وقت في حال العذر خاصة وقد لا يفهم هذا من مطلق الوقت.

الثاني أن التأخير إليه لا يجوز إلا بنية العزم على الفعل فلو قصد تركها في الوقت ولم يقصد فعلها فيما بعد إثم بذلك.

فأما تأخيرها عن أول الوقت إلى آخره فيجوز وهل يشترط له العزم

ص: 54

ليكون بدلا عن التعجيل فيه وجهان.

أحدهما: يشترط قاله القاضي وابن عقيل وغيرهما لأن الصلاة تجب في أول الوقت وجوبا موسعا واعتقاد الوجوب واجب على الفور ومتى وجب الاعتقاد وجب العزم لأنه لو جاز التأخير من غير بدل عنه لبطل معنى الوجوب في اأول الوقت ولأن العزم على الترك حرام فإذا لم يكن ذاهلا أو ناسيا فلا بد من العزم على الفعل.

والثاني: لا يشترط قاله أبو الخطاب وغيره وذكره القاضي في بعض المواضع لأن النصوص الدالة على جواز التأخير ليس فيها شرط العزم فاشتراطه تحكم ولان العزم لو كان بدلا عن الفعل فينبغي أن لا يجب الفعل وأن كان بدلا عن تعجيله فالتعجيل ليس بواجب ولان الإنسان إذا دخل وقت الصلاة فإن لم يعلم به بنوم أو غيره فلا إثم عليه اتفاقا وأن علم الوقت وعزم على الترك أثم اتفاقا لكن لنفس العزم على المعصية كما لو عزم على الترك قبل الوقت وأن لم يعزم على واحد منهما أو هم بالترك وحدث به نفسه فهذا مورد الوجهين أنه لا يجب تأثيمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لامته عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به" متفق عليه.

ص: 55

فصل.

وإنما يجوز التأخير من أول الوقت إلى آخره إذا لم يغلب على ظنه الفوات بالتأخير فأما أن غلب على ظنه الفوات بالتأخير أو حدوث أمر يمنع منها أو من بعض فروضها قبل خروج الوقت كمرض يغلب على ظنه الموت أو من يقدم للقتل أو امرأة عادتها تحيض في أثناء الوقت أو غير ذلك أو أعير سترة في أول الوقت ولم يمهل إلى آخره أو متوضئ عادم للماء في السفر لا تبقى طهارته إلى آخر الوقت ولا يرجوا وجود الماء لم يجز له التأخير إلى الوقت الذي يغلب على ظنه فوت ذلك كالتأخير إليه لأنه يفضي إلى تفويت واجب فإنه إذا أخرها في هذه المواضع فمات مات عاصيا.

وإن تخلف ظنه أثم وكانت الصلاة أداء لأنه تبين أن الوقت الشرعي باق والقضاء فعل العبادات بعد الوقت المحدود بالشرع فلهذا لو نام عنها أو نسيها حتى خرج الوقت صلاها قضاء وأن لم يجب عليه فعلها إلا في ذلك الوقت ولهذا فإن ما تقضيه الحائض ونحوها من الصوم يكون قضاء وأن لم يجب فعله إلا بعد خروج الوقت ومثل هذه الصورة العبادة الواجبة على الفور فإنها لو أخرت عن أول أوقات الإمكان كانت أداء وأن أثم بالتأخير إذ لم يوقت لها الشرع وقتا عاما ومما يكون أداء مع الإثم صلاة العصر بعد الإصفرار والعشاء في النصف الثاني من الليل.

ص: 56

ولو أخرها تأخيرا جائزا ومات قبل الفعل فقيل يموت عاصيا لأن التأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة.

والمشهور أنه لا إثم عليه لأن اشتراط ما لا يعلم ولا دليل عليه غير جائز والتأخير هنا له حد ينتهي إليه بخلاف الواجب المطلق أن جوزنا تأخيره فإنا نؤثمه إذ ليس للتأخير حد مؤقت.

وأما قوله أو مشتغل بشرطها فمثل أن يستيقظ فيخاف أن توضأ أو لبس ثوبه أو أن أزال عنه نجاسة طلعت الشمس فإن هذا يفعلها بشروطها وأركانها إذ لا يقدر على أكثر من ذلك وليس تضييعا ولا تفريطا إذ ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة.

وكذلك الكافر إذا اسلم والمجنون إذا أفاق والحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ وقد ضاق الوقت عنها وعن شرائطها فإنهم يشتغلون بشرطها وأن خرج الوقت لأنه حينئذ أمر بإقامة الصلاة وقد أمر الله بالوضوء عند القيام إلى الصلاة وهذا هو الوقت الذي وجب فعلها فيه وأن كان بعد خروج الوقت المحدد في الأمر العام وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها".

ومسائل هذا الباب منقسمة إلى ما ترجح فيه الوقت والى ما ترجح فيه السبب أي الشرط كما يذكر مفصلا في موضعه بخلاف من ضاق الوقت عن تعلمه الفاتحة والتشهد فإنه يصلي بحسب حاله ولا يتعلم لأن

ص: 57

الأول قادر على نفس الشرط مشتغل بفعله وهذا عاجز عن الركن وإنما يشتغل بتعلمه وليس هو نفس الركن وأيضا فإن محل الشرط ما قبل الصلاة وحكمه مستدام إلى أخرها فإذا اشتغل به في وقته لم يكن آخر الصلاة والقراءة محلها في نفس الصلاة فإذا اشتغل بتعلمها فهو اشتغل في وقت خطابه بالصلاة.

وإذا تعمد تأخير الصلاة حتى ضاق الوقت عن فعل شروطها وأركانها مثل أن تكون عليه نجاسة أو هو جنب وآخر الصلاة بحيث متى اشتغل بالطهارة خرج الوقت فعليه أن يشتغل بالطهارة أيضا وهو آثم بفعلها في غير الوقت لأنه كان يجب عليه الطهارة قبل ضيق الوقت والصلاة فيه فمتى أخر ذلك فعليه أن يفعله كما وجب عليه مع إثمه بالتأخير ولو آخر التيمم بالسفر وهو عادم للماء ثم وجده قبل خروج الوقت فهنا وجهان والفرق بينهما أنه كان قد وجب عليه الصلاة بتيمم ولم يرخص له في التأخير إلى أن يخرج الوقت فمتى صلى بالتيمم فقد فعل ما وجب عليه وقد تقدم هذا فأما أن عجز في الوقت عن بعض الشروط والأركان وعلم أنه يقدر عليه بعد خروج الوقت كعار يعلم أنه يجد الثياب بعد الوقت أو محدث يعلم أنه يجد الماء بعد الوقت أو خائف يعلم أنه يأمن بعد الوقت أو مريض يعلم أنه يصح بعد الوقت ونحوهم فإنه لا يجوز له التأخير بالنصوص الظاهرة في وجوب الصلاة في حال الخوف والمرض والعري والتيمم والى غير القبلة ولا فرق في هذا ولا بين من يشتغل تحصيل الشرط ويعلم أنه يحصله بعد الوقت أو من ينتظر حصوله بعد الوقت لأن

ص: 58

الشرط متى طال زمن حصوله سقط وكانت مصلحة الصلاة في الوقت مقدمة على مصلحة حصوله بخلاف ما زمنه قريب ولأن الشرط هنا معجوز عنه وإنما يريد أن يشتغل بتحصيل القدرة عليه وهذا غير واجب فلا يفوت بسببه واجبا وهو الصلاة في الوقت.

مثل هذا لو دخل عليه الوقت والقبلة مشتبهة لا يعلم جهتها إلا بعد خروج الوقت فإنه ليس له الاشتغال بشرط يستغرق الوقت.

وان كان الاجتهاد ممكنا لكن قد ضاق الوقت بحيث إذا اجتهد فات الوقت فإنه يصلي بالتقليد أيضا في أشهر الوجهين كما لو لم يكن عالما بالدليل والوقت ضاق على التعلم والاجتهاد ولأنه ليس مشتغلا بشرطها وإنما هو طالب للتعلم به فأشبه من طلب العلم بالدلالة.

وفي الآخر عليه أن يجتهد مع ضيق الوقت كما على المفتي والحاكم أن يجتهدا مع ضيق الوقت وسعته.

ص: 59