الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة:
(الشرط الثالث: ستر العورة
بما لا يصف البشرة).
أما ستر العورة عن أعين الناظرين بما لا يصف البشرة فواجب في الجملة في الصلاة وخارج الصلاة وقد تقدم بعض هذا في باب الغسل.
لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وحفظ الفرج يعم حفظة من مس من لا يحل له مسه بجماع وغير جماع ومن النظر إليه بل قد قال بعض التابعين أنه عنى به هنا النظر لأنه قرنه بغض البصر ولأنه ذكر معه استتار النساء عن رؤية الرجال ولقوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} إلى قوله: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} وقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} يريد كشف السوءة ونحوه {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أمرنا بِهَا قُلْ أن اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وهذه الآيات كلها تتضمن فرض ستر العورة وذم من يتدين بغير ذلك في حال من الأحوال وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة القشيري جد بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك".
قال القوم يكون بعضهم في بعض قال أن استطعت أن لا يرنيها أحد فلا يرنيها" وأمر من كشف فخذه أن يغطيه وقال: "الفخذ عورة" فعلم أن العورة يجب سترها وفرض على داخل الحمام أن لا يدخل إلا بمئزر وهذا كثير تقدم بعضه.
ويجب سترها في الخلوة وغيرها إلا من حاجة وقال القاضي يكره التعري في الخلوة ولا يحرم ومن أصحابنا من يحكيها على روايتين والأول أبين في كلام أحمد وأشبه بظاهر السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية ابن حيدة: "فالله أحق أن يستحيا منه" لما قال له فإن كان أحدنا خاليا ونهى أن يحتبئ الرجل في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء" وفي
لفظ: "ليس على فرجه منه شيء" رواه الجماعة وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم" رواه الترمذي وعن عتبة بن عبد الرحمن السلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين" رواه ابن ماجة ولأن الله أحق أن يستحيا منه من الناس وكذلك ملائكته وغيرهم من خليقته فتجب السترة في الخلوة كما تجب عن أعين الناس ولهذا وجبت في الصلاة خلوة وليس الاستتار لأجل الاستخفاء من الله تعالى إذ هو سبحانه بصير لا تخفى عليه خافية وإنما ذلك ظن الذين كفروا والذين اخبر الله عنهم بقوله: {أَلا أنهم يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ إلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ولكن يعني الاستحياء منه مبلغ الجهد كما اخبر الله
تعالى عن آدم وحواء حين بدت سوآتهما أنهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
وكما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول أيها الناس استحيوا من الله فإني لأدخل الخلاء فاحني ظهري حياء من ربي وكذلك قال أبو موسى في الاغتسال.
فصل.
وأما التزين للصلاة فأمر زائد على ستر العورة.
والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أنزله الله سبحانه لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة إلا الحمس ويقولون ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها إلا الحمس لفضلهم في أنفسهم وهم قريش ومن دان دينها وكان من حصل له ثوب احمسي طاف فيه ومن لم يحصل له ثوب احمسي طاف عريانا فإن طاف في ثوبه حرم عليه فحرم الله ذلك وأمر بأخذ الزينة وهي اللباس ولو كان عباءة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن ينادي بالناس عام حج: "ألا لا يطوفن بالبيت
عريان" متفق عليه وكل محل للسجود فهو مسجد وهذا يدل على أن السترة للصلاة والطواف أمر مقصوده التزين لعبادة الله ولذلك جاء باسم الزينة لا باسم السترة ليبين أن مقصوده أن يتزين العبد لا أن يقتصر على مجرد الاستتار.
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله الصلاة حائض إلا بخمار".
وقوله: إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء وغير ذلك من الأحاديث وسنذكر أن شاء الله تعالى بعضها.
وأما الإجماع: فقال أبو بكر ابن المنذر اجمع أهل العلم على أن على المرأة الحرة البالغة أن تخمر رأسها إذا صلت وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها إعادة الصلاة وكذلك حكى غيره الإجماع على اشتراط السترة في الجملة.
وإذا كان مقصود السترة في الصلاة أن يتزين العبد لربه في الصلاة لأنه يناجيه فإنه يجب عليه السترة عن نفسه وعن غيره فلو صلى في قميص واسع الجيب ولم يزره ولا شد وسطه بحيث يرى عورته منه في قيامه أو ركوعه لم تصح صلاته وأن كان يجوز أن يرى عورة نفسه ويمسها لما روى سلمة بن الاكوع قال قلت يا رسول الله إني أكون في الصيد واصلي وليس علي إلا قميص واحد قال: "فزره وأن لم تجد إلا شوكة" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وعن أبي هريرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل حتى يحتزم" رواه أحمد وأبو داود ولذلك وجب أن تستر المرأة رأسها وأن كان يجوز أن تقعد خالية مكشوفة الرأس ولذلك وجب ستر المنكبين كما سيأتي أن شاء الله تعالى فليس كل ما جاز كشفه خارج الصلاة جاز في الصلاة إذ هي أشد وسواء سترها بنفسه أو بغيره مثل أن يكون ذو الجيب الواسع عريض اللحية أو غليظ الرقبة لا يرى عورته من جيبه لذلك أو يضع يده على خرق في السترة يستره بيده لأن المقصود السترة وقد حصل.
مسألة: (وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة).
في هذا الكلام فصول.
أحدها: أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة وهذا أشهر الروايتين والأخرى أنها القبل والدبر لأن ذلك هو مفهوم من قوله تعالى: {لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} .
وفي قوله: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} ولما روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه قال حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد والبخاري وكذلك روي عنه من حديث عائشة وحفصة رضي الله عنهما: "إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما دخلا عليه وهو كاشف عن فخذه فلم يغطها فلما دخل عثمان غطاها وقال إلا استحي من رجل والله أن الملائكة لتستحي منه" رواه احمد.
ووجه الأول ما روى جرهد الاسلمي قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي
بردة وقد انكشف فخذي فقال: "غط فخذك فإن الفخذ عورة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" رواه أبو داود وابن ماجة وعن ابن عباس قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة فقال غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته" رواه أحمد وروى الترمذي قوله الفخذ عورة وقال حديث حسن غريب وروي ذلك من وجوه أخرى يشد بعضها بعضا ولأن ستر العورة إنما وجب لما في كشفها من الفحش والقبح وهذا يشترك فيه الفخذ وغيره ولأن ما حول السوءتين من حريمهما وستره تمام سترهما والمجاورة لها تأثير في مثل ذلك فوجب أن يعطى حكمهما.
وما نقل من كشف فخذه فهو والله أعلم أما أن يكون منسوخا لأن أحاديثنا ناقلة حاظرة أو يكون حصل بغير قصد أو يكون المكشوف أوائل الفخذ من جهة الركبة وفوق ذلك بقليل فإن الركبة والسرة ليستا من العورة
وكذلك ما دون السرة بقليل وفوق الركبة بقليل نص عليه في مواضع.
وحكي عنه أنهما من العورة لأنهما تمام الحد ولا يحصل تمام السترة إلا بهما فوجب سترهما كما وجب غسل جزء من الرأس وإمساك جزء من الليل.
والأول أصح لأن العمدة في ذلك على أحاديث الفخذ وهي لا تتناول الركبة والسرة وقد روى الدارقطني عن أيوب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسفل السرة وفوق الركبتين من العورة" وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين السرة والركبة عورة" وهذا صريح بأنهما ليستا من العورة وقوله هما تمام الحد غير مسلم بل إذا نزل عن السرة قليلا وصعد عن الركبة قليلا جاز نص عليه لأن عادة الصحابة والعرب في زمانه صلى الله عليه وسلم كانت الاكتفاء بالمآزر والعادة انحطاطها عن السرة وقد ذكر الإمام أحمد عن ابن عمر أنه: "كان يشد إزاره
تحت السرة".
وسواء في ذلك الحر والعبد لعموم الأدلة.
فصل الثاني.
في عورة المرأة الحرة البالغة وجميعها عورة يجب عليها ستر بدنها في الصلاة إلا الوجه وفي الكفين روايتان وذلك لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وعن أم سلمة رضي الله عنهما أنها قالت: "إذا تنكشف أقدامهن قال فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه" رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن ابن عمر أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الذيل فقال: "اجعلنه شبرا فقلن أن شبرا لا يستر من عورة فقال اجعلنه ذراعا" فكانت إحداهن إذا أرادت أن تتخذ ذراعا أرخت ذراعا فجعلته ذيلا" رواه أحمد وعن أم
سلمة: "أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم اتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار قال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" رواه أبو داود والدارقطني والمشهور أنه موقوف على أم سلمة إلا أنه في حكم المرفوع لأنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يخفى عليها مثل هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهي مبتلاة بهذا الأمر ولا يجوز أن تفتي بخلاف ما تعلم منه صلى الله عليه وسلم.
وتبث بهذه الأحاديث أن قدميها ورأسها عورة يجب سترها في الصلاة فسائر بدنها أولى.
وأما الوجه فلا تستره في الصلاة إجماعا.
وأما الكفان إلى الرسغين ففيهما روايتان.
إحداهما: أنهما ليستا من العورة التي يجب سترها في الصلاة كما اختاره الشيخ رحمه الله وطائفة من أصحابنا لقوله سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال ابن عباس هو الوجه والكفان وهو كما قال لأن الوجه والكفين يظهران منها في عموم الأحوال ولا يمكنها سترهما مع العمل المعتاد ولأنه قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فأمرهن بإرخاء الخمر على الجيوب لستر أعناقهن وصدورهن فلو كان ستر الوجه واليدين واجبا لأمر كما أمر بستر الأعناق.
وعن أسماء رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه" رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد وقال فلا تكشف إلا وجهها ويدها ولأنه أذن للنساء في إطالة الذيول وفي حديث أمر سلمة أنها تصلي في درع سابغ ولم تذكر طول الكم بأمر ولا اشتراط فدل على أنه غير مشترط وأن الصلاة تجوز معه وأن لم يكن سابغا ولأن الكف لا يجوز أن تغطيه في الإحرام بلباس مصنوع على قدر فلم يكن من العورة كالوجه وعكسه القدمان ولأنها تحتاج إلى كشفه غالبا فأشبه الوجه ولأن مباشرة المصلي باليدين مسنون كالوجه لأن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه خفضا ورفعا فإذا لم يكن سترهما مكروها فلا أقل من أن لا يكون واجبا.
ومن نصر هذه الرواية فله أن يبني ذلك على أن الوجه والكفين ليسا بعورة مطلقا بل يجوز النظر إليهما لغير شهوة.
وله أن يقول وأن كان في باب النظر فلا يلزم أن يسترا في الصلاة كالوجه وكالأمة الحسناء ونحو ذلك مما يجب ستره عن الأجانب ولا يجب ستره في الصلاة.
والثانية: هما عورة وهي اختيار الخرقي وكثير من أصحابنا لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال عبد الله بن مسعود الزينة الظاهرة الثياب وذلك لأن الزينة في الأصل اسم للباس والحلية بدليل قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} وقوله تبارك وتعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} وإنما يعلم بضرب الرجل الخلخال ونحوه من الحلية واللباس وقد نهاهن الله عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها وأباح لهن إبداء الزينة الخفية لذوي المحارم ومعلوم أن الزينة التي تظهر في عموم الأحوال بغير اختيار المرأة هي الثياب فأما البدن فيمكنها أن تظهره ويمكنها أن تستره ونسبة الظهور إلى الزينة دليل على
أنها تظهر بغير فعل المرأة وهذا كله دليل على أن الذي ظهر من الزينة الثياب.
قال أحمد الزينة الظاهرة الثياب وقال كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها وقد روي في حديث المرأة عورة وهذا يعم جميعها ولأن الكفين لا يكره سترهما في الصلاة فكانا من العورة كالقدمين ولقد كان القياس يقتضي أن يكون الوجه عورة لولا أن الحاجة داعية إلى كشفه في الصلاة بخلاف الكفين ولذلك اختلفت عبارة أصحابنا هل يسمى عورة أو لا فقال بعضهم: ليس بعورة وقال بعضهم: هو عورة وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة.
والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه.
وقال الآمدي من أصحابنا من قال هو على الروايتين في اليدين ومنهم من قال ليس بعورة رواية واحدة وهو الصحيح وهذا الخلاف الذي حكاه هو عورة في الجملة وأما صحة الصلاة مع كشفه فلا خلاف بين المسلمين بل يكره للمرأة ستره في الصلاة كما يكره للرجل حيث
يمنع من إكمال السجود ومن تحقيق القراءة على ما يأتي أن شاء الله ذكره اللهم إلا أن تكون بين رجال أجانب وربما يذكر هذا أن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع.
فأما المرأة المراهقة فعورتها كعورة الأمة ما لا يظهر غالبا لأن قوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" يدل بتعليله ومفهومه على أن غير الحائض بخلاف ذلك وكذلك قوله في حديث أسماء: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" دليل على انتفاء ذلك قبل بلوغ المحيض وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت في حجري جارية فألقى علي حقوه فقال شقه بين هذه وبين الفتاة التي في حجر أم سلمة فإني لا أراها إلا قد حاضت أو لا أراهما إلا قد حاضتا" رواه أحمد وأبو داود.
والخنثى المشكل كالرجل في أشهر الوجهين لان الأصل براءة ذمته مما زاد على ذلك.
وفي الآخر هو كالمرأة لأنه لا يتبين براءة ذمته إلا بذلك وبكل حال فالمستحب له أن يستتر كالمرأة احتياطا.
الفصل الثالث: في عورة الأمة.
ولا يختلف المذهب أن رأسها مع العنق ويديها وقدميها ليس بعورة في الصلاة وقد نص أحمد على ذلك والمراد بذلك يداها إلى المرفقين وقدماها إلى الركبتين في المشهور.
وقال الآمدي القدمان إلى أنصاف الساقين وتسمى هذه الأعضاء ضواحيها لأنها تضحي أي تبرز غالبا وهو بمعنى قول الفقهاء ما يظهر غالبا وينبغي أن يكون المرفق والركبة مما لا يظهر غالبا لأن الحد الذي بين العورة وما ليس بعورة ملحق بالعورة كالحد الذي بين رأس الحرة ووجهها فإن عليها أن تستره لأن ستر الوجه لا يمكن إلا به وقد مضت السنة بالفرق بين الحرة والأمة في باب العورة ويذكر أن شاء الله في موضعه ما يجب أن تستره إذا خيف الافتتان بها ونحو ذلك.
والأصل في ذلك أن الله سبحانه قال: {يَا أيها النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} الآية والجلابيب هي الملاحف التي تعم الرأس والبدن وتسميها العامة الأزر وتسمى الجلباب الملآة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لتلبسها أختها من جلبابها" أي لتعيرها طرف الجلباب تلتحف به فتلتحف امرأتان بجلباب واحد فاختص الله سبحانه بالأمر بإدناء الجلابيب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين ولم يذكر إماءه ولا إماء المؤمنين ولسن داخلات في نساء المؤمنين بدليل أن قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} وقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} إنما عنى به الأزواج خاصة وإذا لم يكن داخلات في الأمر بالالتحاف بقين على أصل الإباحة لا سيما وتخصيص المذكورات بالحكم يدل على انتفائه فيما سواهن.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنّ} الآية لم تدخل فيه الأمة لأنه لم يستثن سيدها ولأنه قد قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ} وإنما يكون هذا للحرة وهذه كانت سنة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بذلك فروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: "لما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية قال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه فقالوا أن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وأن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب" متفق عليه فعلم بهذا أن ما ملكت أيمانهم لم
يكونوا يحجبونهن كحجب الحرائر وأن آية الحجاب خاصة بالحرائر دون الإماء وقد روى أبو حفص بإسناده عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب رأى على أمة قناعا فتناولها بردته وقال لا تتبشهي بالحرائر.
وعن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يدع أمة تقنع في خلافته وقال إنما القناع للحرائر وروى الأثرم بإسناده عن علي رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج وهو كما قال علي رضي الله عنه فإن مثل هذا لا يجوز أن يخفى عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر فإن الأمة إذا كانت تخرج مكشوفة الرأس بان تصح صلاتها هكذا كان أولى وأحرى فإن ما تستره المرأة عن الناس أشد مما تستره في الصلاة ولأنه إذا لم يكن الاختمار واجبا عليها ولا كانت عادة إمائهن ذلك فمعلوم أنهم لم يكونوا وقت الصلاة يضعون لهن خمرا ولا يغيرون لهن هيئة وهذا مما لا نعلم فيه خلافا.
إذا ثبت ذلك فلا يختلف المذهب أيضا أن ما بين السرة إلى الركبة منها عورة.
وقد حكى جماعة من أصحابنا رواية أن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل وهو غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا
وعلى الشريعة عموما فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم وكلام أحمد ابعد شيء عن هذا القول وإنما كان يفعل مثل هذا أهل الجاهلية حين كانت المرأة الحرة والأمة تطوف بالبيت وقد سترت قبلها ودبرها تقول.
اليوم يبدو بعضه أو كله.
وما بدا منه فلا احله.
حتى نهى الله تعالى عن ذلك وأمر بأخذ الزينة عند المساجد وسمى فعلهم فاحشة وإنما وقع الوهم فيه من جهة أن بعض أصحابنا قال عورة الأمة كعورة الرجل بعد أن حكى في عورة الرجل الروايتين وإنما قصد أنها مثله في المشهور في المذهب.
ثم اختلف أصحابنا فيما عدا ضواحيها وما بين السرة والركبة وهو الظهر والصدر والمنكب ونحو ذلك هل هو عورة في الصلاة على وجهين.
ومنهم من يحكيه على روايتين لأنه قد أومأ إليهما ومنهم من يقول أن المنصوص عورة.
أحدهما: أنه ليس بعورة كما ذكره الشيخ رحمه الله وهو قول أبن حامد وأبي الخطاب وابن عقيل لما روى أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زوج أحدكم خادمه أو
عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة" والمراد بالخادم الأمة وإذا جاز للسيد النظر إلى ذلك مع أنها حرام عليه لم يكن عورة.
والثاني: هو عورة قاله القاضي في الجامع وابنه أبو الحسين وذكر أنه منصوص أحمد وهو اختيار أبي الحسن الآمدي وهو أشبه بكلام أحمد واصح لأن عليا رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج ومعلوم أنها لا تخرج عارية الصدر والظهر ولأن الفرق بين الحرة والأمة إنما هو في القناع ونحوه كما دلت عليه الآثار ولأنهن كن قبل أن ينزل الحجاب مستويات في ستر الأبدان فلما أمر الحرائر بالاحتجاب والتجلبب بقي الإماء على ما كن عليه.
فأما كشف ما سوى الضواحي فلم يكن عادتهن ولم يأذن لهن في كشفه فلا معنى لإخراجه من العورة ولأن الله تعالى أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد وقميص الأمة ورداؤها من زينتها بخلاف الخمار ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى الرجل أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء".
تكميلا للتزين بستر المنكب فكيف يأذن للامة أن تصلي وظهرها وصدرها مكشوف مع العلم بان انكشاف ذلك منها أشد قبحا وتفاحشا من انكشاف منكب الرجل ولأن الأصل أن عورة الأمة كعورة الحرة كما أن عورة العبد كعورة الحر لكن لما كانت مظنة المهنة والخدمة وحرمتها تنقص عن حرمة الحرة رخص لها في إبداء ما تحتاج إلى إبدائه وقطع شبهها بالحرة وتمييز الحرة عليها وذلك يحصل بكشف ضواحيها من رأسها وأطرافها الأربعة فأما الظهر والصدر فباق على الأصل.
والحديث المتقدم لا دليل فيه لأنه لا يلزم من إباحة النظر إليها بالملك أن يكون المنظور ليس بعورة فإن النظر يباح من المالك والمملوك وذوي المحارم إلى أشياء يجب سترها في الصلاة لكن نظر الزوج والسيد المباح لهما الوطء اعم من نظر غيرهما.
فصل.
وسواء في ذلك الأمة المزوجة والمتسراة غير المستولدة والمدبرة والمكاتبة والمعلق عتقها بصفة لأن رقهن باق بحاله وما انعقد لهن من أسباب الحرية ليس بلازم وقد تقدم حديث أنس في صفية بأنه دليل على أن السرية لم تكن تحجب حجب الزوجة هذا قول أكثر أصحابنا
وقال أبو علي بن البناء حكم المكاتبة والمدبرة والمعلق عتقها بصفة حكم أم الولد والمعتق بعضها لأنه قد انعقد لهن سبب الحرية فخرجن عن محض العبودية فرجعن إلى الأصل.
وأما أم الولد فقد نص أحمد على أنها تصلي كما تصلي الحرة لأنه انعقد لها سبب الحرية لازما وينجر لها من أحكام الحرية أنها لا تباع ولا توهب ولا توقف ولا ينقل الملك في رقبتها فصار فيها شائبة الحرية فغلب حكمها لوجهين.
أحدهما: أنه لا يمكن تمييز حق الحرية عن حق العبودية والعمل بمقتضى ما فيها من الحرية واجب وهو لا يمكن إلا بان تكون كالحرة وما لا يتم الواجب إلا به فواجب.
والثاني: أن الأصل أن السترة في الأمة والحرة سواء وإنما ترك ذلك في الأمة المحضة لما فيها من معنى الابتذال والإمتهان وهذا غير مقصود في أم الولد.
ثم اختلف أصحابنا هل هذا على سبيل الوجوب أو الاستحباب على وجهين وذكر القاضي وأبو الخطاب وغيرهما في ذلك روايتين.
إحداهما: أنه على سبيل الاستحباب كما ذكره الشيخ رحمه الله وهو اختيار الخرقي وغيره فيكره لها كشف رأسها لكن لا تبطل صلاتها أن صلت مكشوفة لأنها أمة فأشبهت المكاتبة ولأنها مال بدليل أنها تقوّم
بالقيمة إذا قتلت أو ماتت تحت اليد العادية فتكون كسائر الإماء وما فيها من منع التصرف في رقبتها لا يخرجها عن ذلك كالأمة الموقوفة وما فيها من انعقاد سبب الحرية لا يوجب أخذ أحكام الحرية كالمدبرة ولقد ميزت على غيرها لما فيها من شوب الحرائر بكراهة كشف رأسها.
والثاني: على سبيل الوجوب لما تقدم.
وأما المعتق بعضها فهي على هذا الخلاف المذكور إلا أن القول بالوجوب هنا هو القوي عند أصحابنا لأن فيها جزءا حرا فوجب أن يعطى حكم الحرة وذلك لا يمكن إلا بستر جميعها فيجب لأن ما لا يتم الواجب إلا به فواجب ولهذا قلنا فيما لا يمكن تقسيطه من الأحكام مثل الطلاق أنه يكمل فإن المعتق نصفه يطلق ثلاثا لأنه لا يمكن أن يطلق طلقتين وربعا.
مسألة: (ومن صلى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصح صلاته).
هذا أشهر الروايتين عن الإمام احمد.
والأخرى تصح صلاته مع التحريم وهي اختيار الخلال قال الآمدي وهذا في الفرض فأما النفل فتبطل رواية واحدة لأن المقصود به القربة وهي لا تحصل بالمحرمات بخلاف الفرض فإنه يقصد به القربة وبراءة الذمة فإذا بطلت القربة تبقى براءة ذمته وأكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف وهو الصواب لأن منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه كما تبرأ الذمة فإنها لا تبرا إلا بامتثال الأمر وامتثال الأمر طاعة والصلاة في الثوب الحرير ممن يحرم عليه لبسه على هذا خلاف لأن المذهب أنه حرام.
وكذلك من لبس ثوبا فيه تصاوير إذا قلنا أنه حرام قال أبو عبد الله السامري كل من صلى في سترة يحرم عليه لبسها ولا سترة عليه غيرها كره له ذلك وهل تبطل صلاته على روايتين وذلك مثل المغصوب وما اشتري بعين مال الحرام في حق الرجال والنساء ومثل الحرير وما غالبه
الحرير وما نسج بالذهب ونحو ذلك في حق الرجال.
ووجه الإجزاء أن تحريم ذلك لا يخص الصلاة فأشبه من صلى وهو حامل ثوبا مغصوبا ولأن النهي عن الصلاة في المكان والثوب المغصوبين ليس لمعنى في نفس الصلاة كالصلاة مع الحدث والنجاسة وإنما هو لمنع في غيرها وهو ما فيه من ظلم الغير والانتفاع بملكه بغير إذنه وهذه جهة غير جهة العبادة فيكون مطيعا من حيث هو مصلي عاصيا من حيث هو غاصب.
ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" متفق عليه ومعنى رد أي مردود وفي لفظ: "من صنع أمرا علي غير أمرنا فهو مردود" رواه أحمد وهذه الصلاة ليس عليها أمر الله ورسوله بل هي على غير أمر الله ورسوله ولأنه منهي عن هذه الصلاة فلا يكون مأمور بها فلا يكون قد فعل ما أمر به فيبقى في عهدة الأمر.
وقولهم النهي لمعنى في غير المنهي عنه وهي مأمور بها من وجه آخر ليس بجيد لأن هذه الصلاة المعينة لم يأمر الله بها قط بل نهى عنها لمعنى فيها ولمعنى في غيرها فإن التقرب إلى الله بالحركات المحرمة وبالزينة المحرمة توجب أن تكون المفسدة في نفس حركات الصلاة ونفس الزينة التي هي شرط الصلاة وأنه نهى عن غير هذه الصلاة لمعنى يعود إليها كما
هو منهي عن الصلاة في المكان النجس وبالثوب النجس وأولى فإن اشتراط حل المكان واللباس أولى من اشتراط طهارته لما فيه من تعلق حق الغير به يبين ذلك أنا إنما علمنا كون النجاسة مفسدة للصلاة بالنهي عنها والنهي عن لبس الحرير ولبس المغصوب والاستقرار في المكان المغصوب أشد ولأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه إذ لو كان فعلا صالحا صحيحا لما نهي عنه ولأن الصلاة طاعة وقربة والحركات في هذا الثوب والمكان معصية والشيء الواحد لا يكون طاعة ومعصية مع اتحاد عينه فإنه جمع بين النقيضين.
وحقيقة المسألة أن السترة والمكان شرط لصحة الصلاة كالطهارتين والأركان ومتى أتى بفرائض الصلاة على الوجه المنهي عنه لم يكن ما أتى به هو المفروض فلم يصح إتيانه به وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين من ارتكب في الصلاة محظورا لا تعلق له بواجباتها مثل لبس خاتم الذهب وحمل المغصوب فإن ذلك معصية منفصلة عن العبادة وأن كانت فيها فأشبهت الظلم والبغي للصائم والمحرم فإن هذه المعاصي تقابل الثواب أن كانت بقدره مع براءة الذمة من عهدة الواجب فيبقى لا له ولا عليه لا يعاقب عقوبة التارك ولا يثاب ثواب الفاعل كما في الحديث رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر أما إذا كان شرط صحة العبادة التي لا تتم إلا به أو شرط وجوبها
الذي به يمكن أداؤها أيضا مفعولا على الوجه المحرم كالماء والتراب في الوضوء والتيمم وكالزينة والبقعة في الصلاة وكالمال في الحج فإنه يكون متقربا إلى الله بنفس ما حرمه ومطيعا له بقدر ما حرمه والتقرب إلى الله والطاعة له بفعل ما حرمه محال ولا يصح ولا يجزئ.
ولو كان عليه ثوبان أحدهما: محرم فقال أكثر أصحابنا لا يصح أيضا لأن المباح لم يتعين ساترا سواء كان فوقانيا أو تحتانيا إذ أيهما قدر عدمه ستر الآخر وكذلك لو كان بعض الثوب مغصوبا ولم يكن ساترا لشيء من العورة لأنه تابع للساتر.
ومنهم من خص الروايتين بمن صلى في سترة يحرم عليه لبسها ولا سترة عليه غيرها.
فأما تكة السراويل أن كانت غصبا أو حريرا فالمنصوص عن أحمد التوقف عن الإعادة إذا صلى بها فتخرج على وجهين.
وقال أبو بكر والقاضي وغيرهما حكمهما حكم السراويل لأنها من مصالحه.
وأما عمامة الغصب والحرير ففيها وجهان.
أحدهما: لا يبطل اختاره ابن عقيل وأبو محمد لأنها ليست مما
يجب للصلاة فأشبهت خاتم الذهب.
والثاني: يبطل اختاره القاضي لأنها وأن لم تكن شرطا فهي من جنس الشرط لأنها لباس وهي ملحقة في الاستحباب فألحقت به في الحكم كما تلحق اللفافة الثانية والثالث: ة بالأولى في قطع النباش إذ شاركتاها في الاستحباب وأن لم تحلق بها الرابع: ة والخامس: ة لما لم تكن مستحبة.
فان لم يجد غير المغصوب فهو كما لو وجد غيره إذا كان التحريم باقيا.
وأما الثوب الحرير إذا لم يجد غيره فتصح صلاته فيه لزوال التحريم.
وقيل هو كالصلاة في الثوب النجس إذا لم يجد طاهرا وهذا ضعيف لأن المقتضي للفساد الحرمة وقد زالت فأشبه ما لو كان المصلي فيه امرأة أو كان قد لبسه لحكة أو جرب وأولى فإن لبسه عند عدم غيره جائز إجماعا.
ولو كان جاهلا بأن المكان أو الثوب محرم أما لعدم علمه بأنه مغصوب كرجل صلى في مسجد مدة أو في دار ثم علم أنه مكان
مغصوب ورجل لبس ثوبا هو حرير وهو لا يعلم أنه حرير أو لعدم علمه بأن الحرير محرم أو بان القعود في هذا المكان حرام ونحو ذلك فلا إعادة عليه هنا سواء قلنا أن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة وهنا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة وأن وجب عليه ضمان لحق ادمي.
فصل.
ولا فرق في المكان المغصوب أو الثوب المغصوب بين أن يكون قد غصب الرقبة بيد قاهرة أو دعوى فاجرة وبين غصب منافعها بان يدعي إجارتها دعوى كاذبة أو يسكنها مدة بدون أذن أربابها ولا فرق بين غصب القرار وغصب الهواء مثل أن يخرج روشنا أو ساباطا في موضع لا يحل له ولا فرق بين أن يجعل المغصوب دارا أو مسجدا مثل أن يغصب أرضا فيبنيها مسجدا أو يبني المسجد في الطريق الضيقة.
ولا فرق بين أن يغصب جميع البقعة أو جزءا مشاعا منها مثل أن يكون بينه وبين غيره أرض مشتركة فيغصبه حصته وكذلك لو كان بعض بدنه في موضع مباح وبعضه في موضع محرم لم تصح صلاته كما لو كان بعض موضعه طاهرا وبعضه نجسا.
فإن صلى على راحلة مغصوبة أو سفينة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة لأنها مستقر له ينتقل بانتقالها ويقف بوقوفها وأن صلى على فراش مغصوب كالبساط والحصير والمصلى ففيه وجهان.
وإن صلى على سرير مغصوب ففيه وجهان أظهرهما البطلان.
وإن غصب مسجدا بان حوله عن كونه مسجدا بدعوى ملكه أو وقفه
على جهة أخرى أو تغيير بنيته لغير الصلاة لم تصح الصلاة فيه وأن بقاه مسجدا ومنع الناس من الصلاة فيه ففيه وجهان.
أحدهما: تصح وهو اختيار طائفة من المتأخرين قال ابن عقيل لأنه لم يصح غصبه حكما بمعنى أنه لو تلف المسجد في مدة منعه لم يلزمه ضمانه كالحر إذا غصب وإذا لم يصح غصبه حلمت صلاته فيه ولأن صلاته فيه ولبثه فيه غير محرم وإنما المحرم منع الغير منه فيكون هذا مستثنى من غصبه إياه كما استثنيت مواقيت الصلاة في حق العبد الأبق.
والثاني: لا يصح وهو قول قوي لقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أن يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فعاقب الله سبحانه من منع المساجد أن يذكر فيها اسم الله وسعى في خرابها بمنع العمار الذين يعمرونها بذكر الله بان حكم عليه بأنه ليس له أن يدخلها إلا خائفا فيكون هذا الغاصب ممنوعا من لبثه في هذا المسجد عقوبة على منعه الناس واستثناؤه ودخوله خائفا دليل على ثبوت المنع لأنه أما أن يكون خائفا من الله تعالى أن يعاقبه وذلك دليل على أن دخوله سبب العقوبة فيكون حراما وأما أن يكون خائفا من الخلق بتسليط الله
إياهم عليه عقوبة له وإذا كان الله قد عاقبه بان جعله لا يدخل إلا خائفا كان دخوله سببا لحصول الخوف له والخوف عقوبة فلا يكون الدخول إليها مأذونا فيه لأن ما أذن الله فيه لم يجعله سببا للعقوبة ولأن الله تعالى منعه أن يدخل إلا معاقبا بالخوف فعلم أن الدخول ليس مباحا مع مقامه على منع غيره لأن ما أبيح لا يشترط في الإذن فيه حصول عقوبة ولأن دخول المسجد وأن كان مباحا لكن إباحة الشيء قد تكون شرطا بالكف عن محرمات تتعلق بجنسه كما قال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فإنما أباح الأنعام لمن يعتقد تحريم الصيد في الإحرام فمن لم يلتزم هذا التحريم لم يكن مأذونا له في ذلك المباح من جهة الشارع فكذلك الدخول إلى المسجد يجوز أن يكون مشروطا برعاية حرمته والكف عن منع عباد الله من بيته وذلك أن المسجد إنما أبيح له أن يدخله بوصف الاشتراك فأما دخوله بوصف الانفراد فليس بجائز كمن منع غيره من أخذ المباحات ليأخذها هو مثل أن يمنعه عن الاحتشاش والاحتطاب والاصطياد ثم يأخذ ما منعه منه فإن هذا حرام وأن كان مباحا لو لم يمنع غيره وكذلك لو منع الناس أن يبيعوا أموالهم ليبيع هو ماله كان بيعه حراما لأنه إنما باعه على الوجه المحرم وهو بمنزلة المكره على الشراء منه.
وأيضا فمن صور هذه المسألة إذا احتجر موضعا من المسجد ومنع الناس من الصلاة فيه مثل المقصورة وقد كان السلف يكرهون الصلاة في المقصورة ويرون الصف الأول الذي يلي المقصورة ولولا أنهم اعتقدوا
إن دخولها مع الاحتجار منهي عنه لم ينهوا عن الصلاة في مقدم المسجد بل لما كرهت الصلاة فيها صارت كأنها ليست من المسجد فكيف يصح مع هذا أن يكون دخوله ولبثه غير محرم إذا دخل على هذا الوجه.
وأما قول ابن عقيل أن المسجد لو تلف في مدة منعه لم يلزمه ضمانه فليس الأمر كذلك بل المسجد عقار من العقار يضمن بالإتلاف إجماعا ويضمن بالغصب عند من يقول أن العقار يضمن بالغصب وهو المشهور في المذهب ومن لم يضمنه بالغصب لم يفرق بين المسجد وغيره ولا خلاف أنه متقوم تقوم الأموال بخلاف الحر فإنه ليس بمال نعم هو يشبه العبد الموقوف على خدمة الكعبة فإنه ليس له مالك معين ومع هذا فهو مضمون بالغصب بلا تردد وكذلك المال الموقوف على مصالح المسجد حكمه من هذا الوجه.
مسألة: (ولبس الحرير والذهب مباح للنساء دون الرجال إلا عند الحاجة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: "هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها").
هذا الحديث رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه ورواه أيضا علي بن أبي طالب رضي الله عنهولفظه: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه واخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
والكلام في فصلين.
أحدهما: في الحرير فإنه حرام على الرجال كما ذكر في الحديثين المذكورين وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه فروى عمخر وأنس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قال من لبس الحرير في الدنيا
لم يلبسه في الآخرة" متفق عليهما وأخرجه البخاري أيضا من حديث ابن الزبير ومسلم من حديث أبي أمامة وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الحرير والديباج" متفق عليهما ويحرم بيعه من رجل يلبسه والإعانة على لبس الرجل إياه بتفصيل أو تخييط أو غير ذلك والثمن والأجرة التي تؤخذ عليه بهذا السبب من الخبائث.
فأما بيعه مطلقا فيجوز إذا أمكن أن يلبسه رجل وامرأة وكذلك صنعته على وجه يشترك في لبسه الرجال والنساء مثل البندك.
وأما النساء فيباح لهن لبسه للحديث المذكور ولما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أهديت للرسول صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فبعث بها إلى فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: "إني لم ابعث بها إليك لتلبسها
إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء" متفق عليه وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" فلما كان بعد ذلك: "أتي بحلل فبعث إلى أسامة بن زيد بحلة فراح أسامة في حلته فنظر إليه نظرا عرف أنه قد أنكر ما صنع فقال أسامة يا رسول الله ما تنظر إلى بعثت بها إلى فقال: "لم ابعثه بها إليك لتلبسها ولكن بعتها لتشققها خمرا بين نسائك" رواه مسلم.
ومن حرم عليه لبسه حرم عليه سائر وجوه الاستمتاع به مثل الجلوس عليه والاستناد إليه وتعليقه ستورا فإن لفظ اللباس يشمل ذلك بدليل قول أنس ولنا حصير قد اسود من طول ما لبس وقد جاء ذلك صريحا فروى أبو إمامة أنه دخل على خالد بن يزيد فألقى له وسادة فظن أبو إمامة أنها حرير فتنحى وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله" رواه أحمد وعن حذيفة بن اليمان قال: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير
والديباج وأن نجلس عليه" رواه البخاري وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن المياثر الحمر" متفق عليه ورواه الترمذيولفظه: "نهى عن ركوب المياثر.
والمياثر المراكب التي تكون على الرحل والسرج سميت مياثر لدثارتها وليها ومنه الوثر والوثير وهو الفراش الطوىء.
قال أبو عبيد وأما المياثر الحمر التي جاء فيها النهي فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير.
وعن علي بن أبي طالب قال: "نهاني يعني النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي وعن الجلوس على المياثر والمياثر شيء كان يجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطايف الأرجوان" رواه مسلم ولأن تحريمه إنما هو والله أعلم لما فيه من السرف والفخر والخيلاء ونحو ذلك وذلك موجود في لبسه على البدن وفي افتراشه وجعله ستورا بل ربما كان ذلك بغير اللبس أعظم إلا أنه ارخص فيه للنساء لأن بهن حاجة إلى التزين للبعولة في الجملة كما ارخص لهن في التحلي بالذهب وكما ارخص لهن في إطالة الثياب لمصلحة الستر ولأنهن خلقن في الأصل ناقصات
محتاجات إلى ما يتجملن به ويتزين قال سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ويباح لهن افتراشه والاستناد إليه كما يباح لهن لبسه على أبدانهن في المشهور من المذهب الذي عليه جمهور أصحابنا.
قال ابن عقيل لا يباح ذلك لأن حاجة المرأة إنما هي إلى لبسه على بدنها دون افتراشه وتوسده ولأنه أحد المحرمين فلم يبح للنساء منه إلا ما تبع أبدانهن كالذهب.
ووجه الأول عموم أحاديث الرخصة ولأن ذلك كله لباس وقد أبيح لهن لباس الحرير.
فصل.
وما يحرم على الرجال فإنه عام في حق الكبير والصغير في المشهور من الروايتين.
وفي الأخرى لا بأس بإلباسه الصبي لأنه غير مكلف ولأنه ضعيف العقل فأبيحت له الزينة كالمرأة كما يباح له من اللعب ما لا يباح للبالغ بحيث لا يمنع منه.
ووجه الأول عموم النهي فإنه قال حرام على ذكور أمتي ولم يفرق بين الكبير والصغير ومعنى التحريم في الصغير أنه يمنع منه كما يمنع من شرب الخمر ومن الكذب وغير ذلك من المحرمات وأن كافله يأثم بتمكينه من ذلك وأن لكل واحد ولاية منعه من ذلك لأنه من باب النهي عن المنكر ولما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: "كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري" رواه أبو داود.
ومعلوم أنهم إنما يفعلون هذا مفرقين هذا التفريق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يقدمون على نزع لباس كانوا يلبسونه أولادهم ثم ينزعونه عن أحد الصنفين دون الآخر إلا عن توقيف وأيضا كما روي أن عبد الرحمن بن عوف دخل على عمر ومعه ابنه محمد عليه قميص من حرير فادخل عمر يده في جيبه فشقه فقال عبد الرحمن بن عوف فزعت الصبي أطرت قلبه فقال عمر تلبسونهم الحرير وعن عبد الرحمن بن يزيد قال كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود فاتاه ابن له صغير وقد ألبسته أمه قميصا من حرير وهو معجب به فقال له يا بني من ألبسك قال أمي قال أدنه فدنا منه فشقه ثم قال اذهب إلى أمك فلتلبسك ثوبا غيره وعن
سعيد بن جبير قال: "قدم حذيفة من سفر وعلى صبيانه قمص من حرير فمزقه على الغلمان وتركه على الجواري" رواهن الخلال وهذا كله دليل على أنهم فهموا من الحديث عموم التحريم في الرجال وعمر وحذيفة من رواة حديث التحريم فهم أعلم بمعنى ما سمعوا ولأن ذلك إجماع منهم فإنه لم يبلغنا أحدا منهم ارخص فيه وعبد الرحمن لم يخالف عمر في إنكاره عليه إلباسه الحرير بل اقره على إنكاره عليه إلباسهم الحرير وإنما قال له أفزعت الصبي فعلم أنه وافق عمر على أن الصبيان ممنوعون من لبس الحرير وأن ذلك الإلباس أما يكون من فعل النساء ويكون عبد الرحمن لم يكن سمع النهي وقد روي أنه قاس ابنه على نفسه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ارخص له في لبس الحرير للحكة فقال له عمر أنه ليس مثلك وهذا دليل على أن أحدا منهم لم يفرق بين الصغير والكبير ولأن تزيين الغلام بما تزين به الجارية ليس بجائز لأنه ليس محلا للشهوة بل يجب صونه عما يشبه به النساء ويصير به بمنزلة المخنث فإن ذلك سبب لاعتياده التشبه بالنساء وتخنيثه إذا كبر وربما كان سببا للفتنة به إلى غير ذلك من المفاسد.
وأما إلباسه الذهب فالمنصوص عنه فيه التحريم لكن أصحابنا اجروا فيه الروايتين لعدم الفرق بينه وبين الحرير.
فصل.
ويباح لبس الحرير وهو ما كان أربع أصابع مضمومة إذا كان تابعا لغيره مثل العلم والرقعة في الثوب ولبنة الجيب الذي تسميه العامة الزيق وسجف الفراء وغيرها والإزرار وكف الأكمام والفروج به وطرف العمامة هذا هو المذهب المنصوص عنه في عامة جواباته.
وقد روي عنه كراهة العلم لأن ابن عمر كان ينزعه من الثوب قال وهو أسهل من المصمت قال الخلال ذكر حنبل عن أبي عبد الله العلم في موضعين أحدهما: توقف فيه والآخر أباحه على رواية أصحابه وهو إجماع التابعين وذلك لما روى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" رواه الجماعة إلا البخاري وفي لفظ: "احمد وأبي داود وأشار بكفه وذلك إنما
يكون إذا كانت مضمومة فإنها إذا فرقت كان موضعها أكثر من أربع أصابع لأجل الفرج وعن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: "أنها أخرجت جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج كسرواني وفرجيها مكفوفين به فقالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسها كانت عند عائشة فلما قبضت عائشة قبضتها إلى فنحن نغسلها للمريض يستشفي بها" رواه أحمد ومسلم وهذا لفظ أحمد وفي رواية قالت: "يا جارية ناوليني جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت جبة طيالسة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج" رواه أبو داود وابن ماجة وعن معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الحرير إلا مقطعا" رواه احمد.
فأما اليسير المفرد كالتكة والشرابة والمنطقة والخيط ونحو ذلك فيحرم في المنصوص لأنه نهى عن الحرير إلا مقطعا والمقطع المفرق في غيره وكذلك قوله عليه السلام: "إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" يدل على أنه موضوع في غيره ولأنه قرن الحرير بالذهب والذهب يحرم
منفردا فكذلك الحرير ولأن الذهب والفضة في الآنية والذهب في اللباس إنما يباح يسيره إذا كان تابعا فكذلك يسير الحرير لأن هذه الأشياء تجتمع في السرف والفخر والخيلاء.
ولو لبس ثيابا في كل ثوب حرير يسير بحيث لو جمع ما في جميعها صار ثوبا جاز ذلك وأن لم يجز لبس ذلك الحرير لو جمع ونسج ثوبا على حده لأن هذا هو معنى قوله نهى عن لبس الحرير إلا مقطعا فإنه إذا فرق في الثياب صار مقطعا لأن كل ثوب له حكم نفسه.
فصل.
فان نسج مع الحرير غيره كالقطن والكتان والوبر والصوف ونحو ذلك فالذي ذكره أكثر المتأخرين من أصحابنا القاضي وأصحابه ومن بعدهم أنه أن كان الحرير هو الغالب حرم وأن كان الحرير هو الأقل جاز قال بعضهم: قولا واحدا.
وإن استويا فوجهان.
أحدهما: يحرم أيضا وهو أشبه بكلام أحمد لأن الرخصة إنما جاءت في اليسير الذي هو مقدار أربعة أصابع وفي الخز فألحقنا بذلك ما إذا كان الحرير هو الأقل لأن الحكم للأكثر أما إذا تتساويا فأحاديث التحريم تعمه ولم يجيء فيه رخصة ولأنه قد تعارض المبيح والحاظر فغلب الحاظر كالمتولد من بين ما يؤكل وما لا يؤكل
والآخر يكره ولا يحرم لما روى ابن عباس قال: " إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير" قال ابن عباس فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به" رواه أبو داود وأحمد احتج به ولأنه قد تعارض الحاظر والمبيح فيرجع إلى الأصل وهو الحل وإذا شككنا هل هو من القسم المباح أو القسم المحرم كره لبسه ولا يثبت التحريم بالشك.
وجعل بعض المتأخرين من أصحابنا الملحم والقنسي والخز من صور الوجهين وجعل التحريم قول أبي بكر لأنه حرم الملحم والقسي.
والإباحة قول ابن البناء لأنه أباح الخز وهذا مع أن أبا بكر قال:
ويلبس الخز ولا يلبس الملحم ولا الديباج وقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي وعن الحرير والذهب".
وأما المنصوص عن أحمد وقدماء الأصحاب فإباحة الخز دون الملحم وغيره وهذا أكثر في كلامه قال اكره لباس الملحم للرجال فأما الخز فلا بأس به الخز ثخين يلي الجلد والحرير لا يكاد يستبين من تحته وقال أيضا يكره لباس الملحم إلا الخز فإنه على جلده الخز وقال لا يعجبني إلا الخز قد لبسه القوم وأما هذا الملحم المحدث فما يعجبني وسئل في موضع آخر عن الثوب سداه حرير ولحمته قطن فقال هذا يشبه بالخز لأن الخز سداه حرير وهو الذي لبسه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكره هذا لأن سداه قطن وهو محدث وكذلك ذكر أبو بكر وعامة قدماء الأصحاب أن الخز الذي لبسته الصحابة رضوان الله عليهم مباح وكرهوا الملحم وغيره وصرحوا بأن هذه كراهة تحريم فمن زعم أن في الخز خلافا فقد غلط.
والأصل في إباحة الخز ما روى عبد الله بن سعد عن أبيه قال: "رأيت رجلا نجارا على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال: كسانيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود وقد صح عن خلق من الصحابة أنهم لبسوا الخز وارخصوا فيه منهم عبد الرحمن بن عوف وأبو قتادة وعمران بن حصين وعائشة والحسن بن علي وأبو هريرة وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وابن أبي أوفى وانس بن مالك وأبو أبي الأنصاري ابن أم حرام ووابصة ومروان في أوقات متفرقة ولم ينكر ذلك أحد فصار إجماعا فثبت إباحة الخز وهو الذي يكون سداه حريرا ولحمته وبرا أو صوفا ونحوه وكذلك في حديث ابن عباس فأما العلم من الحرير وسى الثوب فلا بأس وقد احتج به احمد.
وإنما كرهنا الملحم لعموم أحاديث التحريم وإنما استثني منها ما استثني وليس في الملحم معناه كما سيأتي ولإن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن
لبس القسي" والقيسي ثياب مخلوطة بحرير قال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة قلنا لعلي: ما القسي؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير أمثال الاترج وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة والحديث ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير قال بعضهم: هو ضرب من ثياب كتان مخلوط بحرير يؤتى بها مصر نسبة إلى قرية على ساحل البحر يقال لها القس ويقال القسي القزي ابدلت الزاء سينا كما يقال السمته الحجة أي ألزمته الحجة وقيل هو منسوب إلى القسي وهو الصقيع لبياضه ونسبتها إلى المكان هو قول الخليل بن أحمد وغيره فقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير وليست حريرا مصمتا وهذا ليس هو الملحم وأيضا فإن الخز أخف من وجهين.
أحدهما: أن سداه حرير والسدى ايسر من اللحمة وهو إلذي بين ابن عباس جوازه بقوله فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به.
والثاني: أن الخز الثخين والحرير مستور فيه بين الوبر فيصير الحرير بمنزلة الحشوة ويصير الذي يلي الجلد ويظهر هو الوبر ومعلوم أن الحرير الباطن ليس بمنزلة الحرير الظاهر إذ ليس في الباطن سرف ولا فخر ولا خيلاء ولهذا كان الصحيح جواز حشو الجلباب والفرش به وقد ذكر احمد
رضي الله عنه هذين الفرقين فإذا كان الحديث عاما في التحريم بل خاصا في الملحم وإنما أبيح الخز لم يجز أن يلحق به إلا ما في معناه فعلى هذا كل ما سوى الخز من الملحم يكره لذلك والخز ما كان لحمته من الوبر ونحوه مما له ثخانة تغطي الحرير فتكون الرخصة معلقة بكون السدى حريرا وكون اللحمة من الوبر ونحوه.
وقال القاضي الملحم هو الذي سداه حرير ولحمته غزل أو لحمته حرير وسداه غزل والخز ما كانت لحمته أو سداه خزا فجعل الاعتبار بنفس ما ينسج مع الحرير من غير فرق بين السدى واللحمة لأن أحمد علل بثخانة الخز وأنه يلي الجلد والحرير لا يكاد يستبين من تحته.
وعنه أن كان السدى حريرا حل مطلقا على ما" رواه صالح لحديث ابن عباس.
ثم كراهة الملحم كراهة تحريم ذكره القاضي وغيره وقال غيره من أصحابنا هي كراهة تنزيه إلا أن يكون المنسوج مع الإبريسم أكثر وقد روي عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تركبوا الخز ولا النمار" رواه أبو داود وفي حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ولينزلن
أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم رجل فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" رواه البخاري بلفظ الحر ورواه أبو داود.
قال أصحابنا: وهذا محمول على خز كثير حريره أو نوع من الحرير يسمى خزا كما يسمى قزا قال بعض أصحابنا: الذي يسميه الناس اليوم الخز هو ما يعملونه من سقط الحرير ومشاقته والتبر الذي يلقيه الصايغ من فمه من تقطيع الطاقات فيدقونه كالقطن ثم يغزلونه ويعملونه ثيابا وهذا حكمه حكم الحرير فظهر بهذا أن الخز اسم لثلاثة أشياء للوبر الذي ينسج مع الحرير وهو وبر الأرانب واسم لمجموع الحرير والوبر واسم لرديء الحرير فالأول والثاني: هو الحلال والثالث: حرام.
وأما حشو الثياب والفرش بالحرير فالمشهور من الوجهين أنه مباح من غير كراهة لأنه لا يستبين ولا يستمتع به وليس فيه سرف والوجه الأخر يحرم.
فصل.
وإذا احتاج إلى لبس الحرير لدفع حر أو برد أو ستر عورة أو تحصن
من العدو ولم يقم غيره مقامه أبيح قولا واحدا لأنه إذا أبيح للنساء لعموم حاجتهن إليه للزينة فلان يباح عند الضرورة أولى فإن الضرورة الخاصة ابلغ من الحاجة العامة ولأنه إذا اضطر إلى ما حرم من الأطعمة أبيح له فكذلك المحرم من اللباس لأنهما يشتركان في الاضطرار.
وإن احتاج إليه لمرض أو حكة يرجى نفع الحرير وتأثيره فيه ففيه روايتان.
إحداهما: لا يباح لعموم أحاديث النهي ولأنه تداو بمحرم يشتهى فأشبه التداوي بالخمر وتحمل إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن على تخصيصهما بذلك لعلمه بانتفاء مفسدة اللبس في حقهما كما شهد لأبي بكر أنه ليس ممن يجر ثوبه خيلاء.
والثانية: يباح وهي الصحيحة لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "رخص للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير من حكة كانت بهما" رواه الجماعة وما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع إلا ما خص مع أن أحدا لم يخص بحكم إلا لسبب اختص به وهنا لم يختصا بالسبب لأن الحكة هي السبب وهي
تعرض لغيرهما كما عرضت لهما ولأن النساء ارخص لهن في لبسه للحاجة إلى التزين به فالحاجة إلى التداوي أولى بخلاف الخمر فإنها محرمة مطلقا على كل أحد وفي كل حال وقد حرم قليلها وكثيرها.
فصل.
وفي لبسه في الحرب روايتان.
إحداهما: يحرم للعمومات فيه ولأنه يحرم في غير الحرب فحرم في الحرب كالذهب.
والأخرى يباح وهي أقوى لما روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "كانت عندي للزبير ساعدان من ديباج كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهما إياه يقاتل بهما" رواه أحمد وروى وكيع بإسناده قال قال ناس من المهاجرين لعمر بن الخطاب إنا إذا لقينا العدو وأريناهم قد كفروا على سلاحهم بالحرير والديباج فرأينا لذلك هيبة فقال عمر وانتم أن شئتم فكفروا على سلاحكم بالحرير والديباج ولأن في ذلك إرهابا للعدو وكسرا لقلوبهم وإظهارا لأبهة جيش الإسلام فجاز ذلك وأن كان
فيه اختيال لأن الاختيال عند القتال غير مكروه لما روى جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الخيلاء ما يحب الله ومنها ما يبغض الله فالخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل في القتال واختياله في الصدقة والخيلاء التي يبغض الله الخيلاء في البغي أو قال في الفخر" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأبي دجانة لما اختال يوم أحد أنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" وقد ذكر بعض أصحابنا أن الروايتين في لبسه في دار الحرب وذلك اعم من لبسه وقت الحرب.
فصل.
ولا بأس أن يوضع المصحف في كيس حرير أو ديباج نص عليه في مواضع قال القاضي.
والمسألة محمولة على أن ذلك قدر يسير فلا يحرم استعماله كالطراز والذيل والجيب.
والصواب إقرار النص على ظاهره لأن الكيس إنما يكون أكثر من أربع أصابع وذلك كثير ولأنه مفرد ولا فرق في المفرد بين اليسير والكثير
كالتكة وإنما وجه ذلك أن المحرم إنما هو لباس الحرير والاستمتاع به ووضع المصحف فيه إنما هو جعله لباسا للمصحف ووعاء له ليصان ويحفظ وما شرع له الكسوة من شعائر الله جاز أن يكسى الحرير كالكعبة وأولى ولأن لباس الحرير إنما يكره للآدمي لما فيه من العظمة والسرف وهذا أمر مطلوب لكتاب الله وبيته.
والفرق بين هذا وبين الزخرفة أن الكسوة فيها منفعة للبيت والمصحف فإذا حصلت باشرف الثياب كان ذلك تعظيما لحرمات الله بخلاف الزخرفة فإنه لا منفعة فيها بل تلهي المصلين.
الفصل الثاني: في الذهب وهو قسمان.
أحدهما: لبسه.
والثاني: التحلي به.
أما لبسه فيحرم على الرجال لبس المنسوج بالذهب والمموه به إذا كان كثيرا لما تقدم من حديث علي وأبي موسى رضي الله عنهما ولأنه ابلغ في السرف والفخر والخيلاء من الحرير والحاجة إليه أقل فيكون أولى بالتحريم.
وإذا استحال لونه ففيه وجهان.
أحدهما: يحرم لعموم النهي.
والثاني: لا يحرم لأنه قد زالت مظنة الفخر والخيلاء.
فإنه لم يحصل منه شيء إذا جمع أبيح قولا واحدا.
وفي يسير الذهب في اللباس مثل العلم المنسوج بالذهب روايتان مومىء إليهما.
إحداهما: يحرم وهو اختيار كثير من أصحابنا لعموم النهي ولأنه استعمال للذهب فحرم كاليسير في الآنية.
والثانية: لا يحرم وهي اختيار أبي بكر وغيره لما روى معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا" رواه أحمد وأبو داود والنسائي واحتج به أحمد وفسر قوله إلا مقطعا باليسير ولأنه أحد الأصناف الثلاثة فحل منه اليسير التابع لغيره كيسير الحرير ويسير الفضة في الآنية.
والفرق بين يسير الذهب في الآنية ويسيره في اللباس ونحوه ظاهر لأن الآنية تحرم من الفضة ومن الذهب على الرجال والنساء واللباس يباح للنساء من الذهب والفضة مطلقا ويباح للرجال يسير الفضة منه مفردا كالخاتم ونحوه ولا يصح إلحاق أحدهما: بالآخر.
وعنه رواية ثالثة أنه يباح اليسير لحاجة سواء كان مفردا أو تابعا ولا
يباح للتزين وهي المنصوصة عنه صريحا وكذلك ذكر القاضي في اللباس قال في رواية صالح وعبد الله وأبي طالب وأبي الحارث واللفظ له أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا" قال الشيء اليسير كشد أسنانه وما كان مثله مما لا يتزين به الرجل فأما الخاتم ونحوه فلا وذلك لأنه قد دل ذلك على أن القطع من الذهب وهو اليسير منه مباح مطلقا لكن لا بد أن يكون لحاجة لأنه قد دلت النصوص على تحريم خاتم الذهب ونحوه.
وعن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تحلى أو حلى بخر بصيصة من ذهب كوي يوم القيامة" رواه أحمد وهذا نهي عن التحلي بقليل الذهب مطلقا ومفهومه يدل على أنه لا يحرم
منه ما ليس بتحلي.
القسم الثاني التحلي به فيحرم على الرجل أن يتحلى بالذهب المفرد كالخاتم والسوار ونحو ذلك لما تقدم من قوله عليه السلام: "هذان حرام على ذكور أمتي" ولما روى البراء بن عازب وأبو هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن خاتم الذهب" وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب فجعله في يمينه وجعل فصه مما يلي باطن كفه فاتخذ الناس خواتيم الذهب قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فألقاه ونهى عن التختم بالذهب" متفق عليهن وجاء ذلك من عدة وجوه وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "من تحلى أو حلى بخر بصيصة من ذهب كوي يوم القيامة".
قال أبو زيد الأنصاري يقال ما عليها خر بصيصة أي شيء من الحلي.
فأما التابع من الذهب فيباح من حلية السيف مثل القبيعة نص عليه.
وعنه ما يدل على المنع لما تقدم.
والأول أصح لما روى مزيدة العصري قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة قال الراوي كانت قبيعة السيف فضة" رواه الترمذي وذكر أحمد أنه كان لعمر بن الخطاب سيف فيه سبائك من ذهب وكان في سيف عثمان بن حنيف مسمار ذهب.
ثم من أصحابنا من لا يبيح إلا القبيعة قال ابن عقيل قال أصحابنا: هذا في القبيعة فأما تحلية جوانبه وحمائله ومنطقته بالذهب فلا يباح لأن القياس المنع مطلقا والمنصوص عن أحمد الإباحة في القبيعة وغيرها من حلية السيف مثل المسمار فيه والسبائك للأثر في ذلك ولعدم الفرق.
وأم تحلية غير السيف ففيه ثلاثة أوجه موميا إليها في كلامه.
أحدها: وهو قول القاضي وأكثر أصحابه مثل ابن عقيل وأبي الخطاب لا يباح لأن العموم والقياس يقتضي التحريم مطلقا وإنما خص من ذلك السيف للأثر فيبقى الباقي على الأصل.
والثاني: وهو قول أبي بكر وغيره أنه يباح التحلي باليسير منه مطلقا
إذا كان على وجه التبع كما تقدم في اللباس وأولى.
والثالث: أنه يباح في السلاح دون غيره قال الآمدي فأما استعمال الذهب في سلاحه كالمسمار في السيف والسبائك فيه وقبيعة السيف ونعله فيجوز وهذا أبين في كلام أحمد قال في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث في الفص يخاف أن يسقط يجعل فيه مسمار من ذهب قال إنما رخص في الأسنان يعني وما كان لضرورة قيل له قد كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب قال ذاك الآن سيف وذلك لأن المقصود من السلاح قتال العدو وإرهابه فجاز أن يحلى بما يفيد إرهاب العدو وخيلاء المسلم تكميلا لهذا المقصود ولذلك جاز لبس الحرير حين القتال ولأن اللت ونحوه في معنى السيف على هذا القول فيخرج فيه وجهان كالفضة.
أحدهما: الجواز وهو قول الآمدي ذكره في المنطقة وفي حمائل السيف.
والثاني: المنع قاله جماعة وحكاه القاضي عن احمد.
وسائر مسائل التحلي في الزكاة.
مسألة: (ومن صلى من الرجال في ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزاه ذلك).
أما الصلاة في ثوب واحد إذا ستر عورته ومنكبيه فلا بأس بها لما روى جابر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد متوشحا به" متفق عليه وقال عمر بن أبي سلمة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحا به قد ألقى طرفيه على عاتقيه" رواه الجماعة لكن الأفضل أن يصلي في ثوبين لما روى أبو هريرة قال: "قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أوكلكم يجد ثوبين" رواه الجماعة إلا الترمذي زاد البخاري ثم سأل رجل عمر فقال إذا وسع الله فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى في إزار ورداء في إزار وقميص في إزار وقباء في سراويل ورداء في سراويل وقميص في سراويل وقباء في تبان وقباء في تبان وقميص قال واحسبه قال في تبان ورداء وهذا يدل على أن
عادته كانت الصلاة في ثوبين ويدل على أن الإذن في الثوب الواحد إنما وقع رخصة وذلك لأن المقصود من اللباس التزين لله في الصلاة ولذلك جاء باسم الزينة في القران ولهذا كان تميم الداري قد اشترى حلة بألف درهم فكان يصلي فيها بالليل وقال نافع: "راني ابن عمر وإنا اصلي في ثوب واحد فقال ألم اكسك قلت بلى قال ارأيتك لو بعثتك في حاجة كنت تذهب هكذا قلت لا قال الله أحق أن تزين له" رواه ابن بطة ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فالله أحق إستحياء منه.
ويستحب له أيضا تخمير الرأس بالعمامة ونحوها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي كذلك وهو من تمام الزينة والله تعالى أحق من تزين له وقد روي عن ركانة بن عبد يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس" رواه أبو داود والترمذي وقال غريب وليس إسناده بالقائم وعن أبي المليح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتموا تزدادوا حلما" رواه هشام بن عمار وهو مرسل وقد روى أبو حفص مرفوعا: "صلاة بعمامة أفضل من سبعين صلاة بغير عمامة إن الله
وملائكته يصلون على المتعممين".
والاستحباب كذلك في حق الإمام اوكد نص عليه لأن صلاة المأمومين مرتبطة بصلاته وهو أحد المصلين ومتقدمهم وهم ينظرون إليه ويقتدون به ولهذا كان استحباب التزين في الجماعات العامة مثل الجمعة والعيد ونحو ذلك اوكد.
فصل.
وإذا صلى في ثوبين فافضل ذلك ما كان اسبغ وهو القميص والرداء ثم القميص مع السراويل ثم القميص مع الإزار ثم الرداء مع الإزار ثم الرداء مع السراويل.
وإنما استحببنا مع الرداء الإزار لأنه كان عادة الصحابة ولأنه لا يحكي تقاطيع الخلقة واستحببنا السراويل مع القميص لأنه استر ولا يحكي الخلقة مع القميص وقد روي عن ابن عباس قال: "لما اتخذ الله إبراهيم خليلا قيل وار من الأرض عورتك فاتخذ السراويلات ورواه أبو محمد الخلال مرفوعا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان إبراهيم الخليل إذا صلى ذكر كلمة فكره له ربي عز وجل ذلك
فبعث جبريل فأتى بثوب فقطعه سراويل فأعطاه وخيطه ولبسه إبراهيم فقال ما استر هذا وأحسنه".
وعن أبي إمامة قال: "قلنا يا رسول الله أن أهل الكتاب يسرولون ولا يأتزرون قال تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب" رواه حرب والقميص وحده أفضل من الرداء لأنه استر وأوسع قالت أم سلمة: "كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن والإزار وحده أفضل من السراويل وحده لما تقدم.
فصل.
وأما إذا جرد منكبيه مع قدرته على سترتهما فلا تصح صلاته في الجملة نص عليه في مواضع ونص على أنه إذا ستر منكبا وأبدى الآخر له كره ذلك ونص في موضع على أنه لا إعادة عليه فمن أصحابنا من
اقر النص على ظاهره وقال تصح صلاته إذا ستر أحدهما: دون ما إذا جردهما.
ومنهم من قال لا تصح حتى يسترهما لإطلاقه الكراهة لذلك وجعل النص الثاني رواية أخرى أنه تصح الصلاة بدون الستر مطلقا مع القول بوجوبه كما قالوا في المواضع المنهي عنها ومنهم من جعل الروايتين في وجوب ستر المنكبين.
ثم إذا قلنا بوجوبه ففي صحة الصلاة بدونه روايتان.
وعنه رواية أخرى أنه لا يكره كشف أحد المنكبين أصلا بناء على أن ذلك هو اشتمال الصماء لأنه ليس بعورة ولا يجب ستر مخارج الصلاة فأشبه الرأس.
والمذهب أنه لا تصح الصلاة مع تجريد المنكبين لقوله سبحانه: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وما يستر المنكبين داخل في مسمى الزينة شرعا وعرفا فإنه يفهم من ذلك ان لا يكون عريانا وإنما يزول التعري بستر المنكبين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" رواه البخاري ورواه مسلم وقال على عاتقيه".
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في لحاف لا يتوشح به وأن تصلي في سراويل ليس عليك رداء" رواه أبو داود وهذا يدل على تحريم تجريد المنكبين في الصلاة وفساد الصلاة معه وعن سهل بن سعد قال: "كان رجال يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على أكتافهم كهيئة الصبيان ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا" متفق عليه وعن جابر وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء إذا سجد الرجال فاغضضن أبصاركن لا ترين عورات الرجال من ضيق الأزر" رواه أحمد ولولا أن ستر المنكب واجب لم يكونوا يحافظون عليه مع ضيق الأزر وخوف بدو العورة ولوجب تكميل ستر العورة حتى يؤمن النظر إليها ولأن المقصود من الاستتار في الصلاة التزين لله بدليل أنها تجب حيث يجوز الكشف خارج الصلاة فإن المرأة الحرة يجوز لها أن تقعد في بيتها مكشوفة الرأس وكذلك بين النساء ولا تجوز صلاتها إلا مختمرة وكذلك يجوز للإنسان أن ينظر إلى عورة نفسه ولا تصح صلاته كذلك وفي إبداء المنكبين خروج عن التزين مطلقا ولهذا لم تجر العادات الحسنة بأن أحدا يجالس في مثل هذا الحال ولا أن
يكشفه بين الناس والرأس بخلاف ذلك ولأن من جرد منكبيه يسمى عاريا وأن كان مختمرا ومن سترهما مع عورته سمي كاسيا وأن كان بلا عمامة والتعري مكروه بين الناس لغير حاجة فجاز أن يكون شرطا في الصلاة ولهذا لم يشرع التعري إلا في الإحرام وإنما شرع كشف الرأس خاصة ونهيه صلى الله عليه وسلم: "أن يطوف بالبيت عريان" يعم تعرية المنكبين وتعرية السوءتين.
إذا ثبت هذا فإنما كرهنا كشف أحدهما: أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن اشتمال الصماء" ومعناها إبداء المنكبين كما سيأتي أن شاء الله تعالى وقرن بين إشتمال الصماء وبين الاحتباء في ثوب واحد فعلم أن كشف المنكب يشبه كشف السوءة ثم من قال من أصحابنا لا يجوز كشف واحد منهما احتج بذلك وبظاهر قوله ليس على عاتقيه منه شيء ولأنه أحد المنكبين فوجب ستره كالآخر ولقوله عليه السلام: "إذا كان الثوب واسعا فالتحف به" وفي لفظ: "تتعاطف به على منكبيك ثم صل" ونهيه أن يصلي في لحاف لا يتوشح به وأن يصلي في سراويل
ليس عليك رداء وهذا أمر بستر المنكبين.
ومن فرق على المنصوص قال النهي إنما جاء أن يصلي في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء أو على عاتقيه فمتى ستر أحدهما: فقد صار على عاتقه منه شيء وجاز أن يقال على عاتقيه منه شيء وأن كان على أحدهما: كما قال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} وهو في إحداهن وقال سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من الملح وحده.
فصل: والواجب ستر المنكب عند القاضي وغيره من أصحابنا لأمره بالتوشح والتعاطف والارتداء فإن ذلك يقتضي الستر.
وقال كثير منهم إذا ترك على منكبيه شيئا ولو خيطا أو حبلا أجزأ لقوله: "ليس على عاتقه منه شيء" وقال إبراهيم النخعي كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد أحدهم ثوبا يصلي فيه وضع على عاتقيه عقالا ثم صلى وقال أيضا السيف بمنزلة الرداء "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في سيوفهم" رواهما سعيد في سننه وقال بعضهم: إن وضع
على عاتقه شيئا من اللباس الذي يصلح لستر أجزاه ولو كان يصف البشرة أو كان لا يستوعب العاتق فأما ما لا يقصد به الستر كالحبل والخيط فلا يجزيه.
فصل: ويصح النفل مع إبداء المنكبين في أشهر الروايتين.
والأخرى لا يصح كالفرض لعموم الحديث ولان باب الزينة واللباس لا يفترق فيه الفرض والنفل.
ووجه الأول: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل بالثوب الواحد بعضه على أهله" والغالب أن الثوب لا يكفي لذلك مع لستر المنكبين ولان النفل يجوز قاعدا أو راكبا موميا كل ذلك تسهيلا لطريقه والعادة أن الإنسان في بيته قد يكون عاري المنكبين بخلاف الفرض فإنه يشترط له أكمل الأحوال وأفضلها.
فصل: ويستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب درع وخمار وجلباب تلتحف به أو إزار تحت الدرع أو سراويل فإنه أفضل من الإزار لما روي عن ابن عمر أنه: "قال تصلي المرأة في الدرع والخمار والملحفة" رواه حرب وعن عائشة أنها كانت تقوم إلى الصلاة في الخمار والإزار والدرع فتسبل الإزار فتجلبب به وكانت تقول: "ثلاثة أثواب لابد للمرأة منها في الصلاة إذا وجدتها الخمار والجلباب والدرع" رواه سعيد وذكر إسحاق عن ابن عمر أنها كانت تصلي في درع وخمار وإزار تحت الدرع ويذكر في الحديث يرحم الله المتسرولات ولا تضم ثيابها في حال قيامها لئلا يبدو تقاطيع خلقها.
مسألة: (فان لم يجد إلا ما يستر عورته سترها).
هذه المسألة: (لها صورتان.
إحداهما: أن لم يجد إلا ثوبا يستر عورته فقط أو منكبيه فقط فإنه يستر العورة ويصلي قائما عند كثير من أصحابنا.
وقال القاضي وطائفة بل يستر المنكبين ويصلي جالسا موميا لأن نص أحمد في الصورة الثانية يدل على أن ستر المنكبين مع ستر العورة بالقعود أولى من ستر العورة فقط وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" ولم يفرق فمتى ستر العورة به فقد ارتكب النهي.
وحمل أبو بكر والقاضي الأحاديث التي تخالف ذلك على النافلة فإن ستر المنكب فيها ليس بواجب وهذا لأن ستر المنكب لا بدل له وستر العورة له بدل وهو الجلوس بالأرض وضم فخذيه على عورته.
والأول أصح لما روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وأن كان ضيقا فاتزر به" متفق عليه وفي رواية لأحمد إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء ولأن ستر العورة أولى لأنها اغلظ وافحش وهو مجمع على وجوبه
وواجب داخل الصلاة وخارجها في الفرض والنفل وستر جميعها واجب اتفاقا بخلاف المنكب ولأنه إذا ستر المنكب فوت القيام وستر العورة المخففة وتكميل الركوع والسجود ولا يفوت بستر العورة إلا ستر المنكب فقط ومعلوم أن هذا أخف فيكون التزامه متعينا.
الصورة الثانية أن يستر الثوب منكبيه وعجيزته أو عورته فالمنصوص هنا أن يستر منكبيه وعجيزته ولا يقتصر على عورته فمن أصحابنا من قال بذلك هنا وفرق بين هذه الصورة والتي قبلها لأنه هنا إذا ستر عجيزته وقعد لم يبق من عورته شيء ظاهر إلا اليسير الذي يعفى عنه من أفخاذه ولم يفته إلا القيام ولأنه يتمكن من الركوع والسجود بالأرض ويحصل له ستر المنكبين وهو واجب والستر الواجب مقدم على القيام كما سيأتي.
وستر المنكب وأن سقط في النفل كما يسقط القيام لكن السقوط القيام فيه ثابت بالنص والإجماع والقيام يسقط عن المأموم إذا ائتم بإمام راتب قعد لمرض عارض لتحصيل الجماعة وقد علله النبي صلى الله عليه وسلم بان في ذلك تعظيما للإمام كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضا فيكون ستر المنكب اوكد منه لذلك.
وقد احتج أحمد لذلك بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعقدون
أزرهم وتبدو بعض عوراتهم في السجود" فعلم أن ستر المنكب اوكد من ستر بعض العورة.
ومن أصحابنا من سوى بين هذه الصورة والتي قبلها في أنه يستر عورته ويصلي قائما لظاهر الخبر المتقدم والمحافظة على القيام وستر بقية العورة أوجب من ستر المنكب لأن القيام واجب بالإجماع والعورة يجب سترها في الصلاة وخارجها والفرض والنفل فكان أولى وهذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله تعالى.
مسألة: (فان لم يكف جميعها ستر الفرجين فإن لم يكفهما ستر أحدهما).
ذلك لأن الفرجين اغلظ من غيرهما وإنما صار غيرهما عورة لمجاورتهما تبعا لهما.
وكونهما عورة ثابت بالنص المتواتر والإجماع فيكون سترهما مقدما على ستر غيرهما فإن خالف وستر غيرهما لم يصح لأنه ترك الستر الواجب فإن لم يكف الفرجين ستر أحدهما: أيهما كان لأن كلاهما عورة مغلظة مجمع عليها لكن ستر أيهما أولى فيه وجهان.
أحدهما: القبل لأنه يستقبل به القبلة ولأنه يبرز إذا صلى قائما ولأنه اغلظ بدليل أن من العلماء من يجوز استدبار القبلة دون استقبالها ولأنه يكره استقبال الشمس والقمر عند التخلي دون استدبارهما ولأن القبل عورة ناتية ظاهرة والدبر عورة داخلة كامنة فكان ستر ما ظهر من العورة أولى.
والوجه الثاني: الدبر وهو أصح بناء على صلاته جالسا أفضل فيستر القبل بجلوسه وضم فخذيه فإذا ستر الدبر أمكنه السجود بالأرض ولو ستر القبل فأما أن يسجد بالأرض فيفضي بدبره إلى السماء أو يومىء بالسجود فيفوت كمال الركن.
مسألة: (فان عدم بكل حال صلى جالسا يومىء بالركوع والسجود وأن صلى قائما حاز).
المشهور عن أحمد أن العريان ينبغي له أن يصلي قاعدا يومئ بركوعه وسجوده وهو اختيار الخرقي وأبي بكر وعامة الأصحاب فإن صلى قاعدا أو سجد بالأرض جاز وهو أفضل من أن يصلي قائما وأن صلى قائما وسجد بالأرض جاز أيضا مع الكراهة فيهما هكذا ذكر أصحابنا.
وعنه أنه يجب أن يسجد بالأرض سواء صلى قاعدا أو قائما اختاره ابن عقيل وكان أبو بكر يقول هذا قول لأبي عبد الله أول فأما القيام فلا يجب قولا واحدا.
ووجه هذه الرواية أن السجود ركن في الصلاة مقصود لنفسه بل هو أفضل أركانها الفعلية وهو مجمع على وجوبه فكان مراعاته أولى من مراعاة السترة ولقد كان القياس يقتضي إيجاب القيام أيضا لذلك إلا أنه أخف من السجود ولسقوطه مع القدرة في النافلة وخلف إمام الحي إذا صلى قاعدا وهو مريض يرجى برؤه وأنه يطول زمنه وأن فيه إفضاء بعورة بارزة خارجة إلى جهة القبلة فلما فحشت العورة فيه وطال زمن كشفها وخف أمره كان الاعتياض عنه بالستر أولى بخلاف السجود فإن زمنه قصير وهو أعظم أركان الصلاة ولا يبدو فيه إلا عورة الدبر وهي أخف من القبل.
والأول المذهب لما روى سعيد وأبو بكر وغيرهما عن نافع عن ابن عمر في قوم انكسرت بهم مراكبهم في البحر فخرجوا عراة قال يصلون جلوسا يومئون برؤوسهم إيماء.
ولم يبلغنا عن صحابي خلافه ولأنه إذا صلى قاعدا موميا فقد أتى ببدل القيام والركوع والسجود بل قد أتى بركوع وسجود هو بعض الركوع والسجود التامين فإن الإيماء بالرأس يدخل في عموم الأمر بالركوع والسجود أو أتى ببعض الركوع والسجود الواجبين مع التمكن وهذه صلاة مشروعة في الجملة للراكب على الراحلة والمريض أيضا وأتى أيضا بمعظم الستر وهو ستر العورة المغلظة فإنه إذا انضام ستر قبله بفخذيه وستر دبره بالأرض ولم يفته إلا تكميل الأركان وتكميل الشرط المعجوز عنه وهذا غير خارج عن جنس الصلاة المشروعة.
أما إذا قام وسجد بالأرض فإنه يستقبل القبلة بقبله حال القيام والسماء بدبره منفرجا حال السجود ويكشف في الجملة عورته وهذه الأشياء محرمة خارج الصلاة فكيف تكون في الصلاة ولهذا لم يشرع مثل هذه الصلاة في موضع آخر أبدا لا سيما أن كان العراة جماعة أو كان العريان في فضاء من الأرض فإن كشف عورته يتفاقم فحشه والستر أهم من تكميل الأركان لأنه يجب في الصلاة وخارج الصلاة وتكميل
الأركان إنما يجب في الصلاة وما كان مقصودا في نفسه ومقصودا للصلاة فهو أولى مما يقصد في الصلاة فقط لا سيما والستر يعم جميع أركان الصلاة والركن ينقضي في أثنائها يوضح هذا أن تكميل الأركان واجب في غير هذا الموضع وكذلك كشف عورته والإفضاء بها إلى اشرف الجهات محرم في غير هذا الموضع في غير الصلاة وهو في الصلاة أشد قبحا وتحريما فإذا كان هذا الموضع لا بد فيه من التزام بدل واجب أو فعل محرم كان ترك الواجب أسهل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمرتكم بأمر فآتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" فالمنهي عنه يجب تركه بكل حال والمأمور به إنما يجب فعله في حال دون حال ولهذا لو لم يمكنه فعل فرائض الصلاة إلا بارتكاب محرم لم يجب فعلها إلا ترى أنه لو لم يمكنه ثوب يلبسه سقط عنه حضور الجمعة والجماعة مع أن الجمعة من اوكد الواجبات وأن شهود الجمعة والجماعة اوكد من تكميل الأركان بدليل أن المريض الذي يمكنه إتمام الأركان في بيته ولا يمكنه إتمامها في الجماعة فإن صلاته في الجماعة افضل.
وقد كان يتوجه أن لا تصح صلاته قائما لذلك وإنما صححناها لأنه يعتاض عن ستر العورة بتكميل الأركان وهو مقصود في الجملة ولأنه إذا لم يكن بد من الإخلال ببعض فروض الصلاة لم يتعين أحدها لكن الأحسن ما كان أشبه بالأصول ولأن الستر قد عجز عنه إلا بترك واجب آخر كما عجز عن تكميل الأركان إلا بترك واجب فصارت الأدلة الموجبة لأحدهما: بعينه معارضة كالأخرى
وهل يصلون متربعين أو منضامين على روايتين ذكرهما الآمدي.
إحداهما: يتربعون كسائر من يصلي جالسا من المريض والمتنفل.
والثانية: أنهم ينضامون ولا يتربعون نص على ذلك وهو الصحيح لأن ذلك استر فكانت رعايته أولى من رعاية هيئة مستحبة ولهذا استحببنا للمرأة أن تنضام في ركوعها وسجودها وأن كان التفرج هو المسنون للرجال ولهذا لم يسن للمرأة بشيء من هيئات العبادات التي هي مظنة ظهورها كالرمل والاضطباع والرقي على الصفا والمروة ومزدلفة ورفع الصوت بالإهلال فكيف بهيئة تظهر بها العورة المغلظة من الرجل.
فصل.
فان لم يمكنه تكميل السجود إلا بانتفاض طهارته مثل أن يطعن في دبره فيصير الريح يتماسك في حال جلوسه فإذا سجد خرجت منه فإنه يسجد بالأرض نص عليه.
ومن أصحابنا من خرج أنه يومىء كالعريان وكإحدى الروايتين في المصلي في الموضع النجس لأن الطهارة شرط فأشبهت السترة بل هي اوكد من السترة للإجماع على وجوبها وللاختلاف في سقوطها بالعجز
بخلاف الستارة والمنصوص أقوى لأن السجود ركن مقصود لنفسه فلا يجوز تركه مع القدرة إذا لم يكن في فعله مفسدة.
والفرق بين الطهارة والستارة أن الطهارة إنما تراد للصلاة والمقصود لا يصعب لتكميل الوسيلة ولهذا كانت الطهارة شرطا محضا لا تجب في غير الصلاة إلا أن يكون لصلاة أخرى وأما الستارة فأمر مقصود في نفسه واجب في نفسه ومقصود في الصلاة واجب لها وكشف السوءة محرم وأيضا فإن من جنس الحدث الدائم ما يصلى معه كما في المستحاضة والسلس والجريح فأما سجود الإنسان مفضيا بسوءته إلى السماء فلا عهد لنا به في الشرع.
مسألة: (ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا أو مكانا نجسا صلى فيهما ولا إعادة عليه).
أما من لم يجد إلا ثوبا نجسا فإنه يجب أن يصلي فيه.
وخرج بعض أصحابنا أنه يصلي عريانا بناء على أن صلاة حامل النجاسة تجب إعادتها في رواية وصلاة العريان لا تجب إعادتها إجماعا ولأن اجتناب النجاسة يجب في البدن والثوب والبقعة وستر العورة يختص موضعها.
والأول هو المذهب المعروف من غير خلاف عن أبي عبد الله رضي الله عنه.
ذكر ابن أبي موسى فيمن لم يجد إلا ثوبا نجسا وصلى فيه هل يعيد على روايتين ولو لم يصل فيه أعاد قولا واحدا لأن مصلحة الستر أهم من مصلحة اجتناب النجاسة لأنه يجب في الصلاة وغيرها وثبت وجوبه بالكتاب والسنة والإجماع المتقدم وسمى الله تركه فاحشة بخلاف اجتناب النجاسة ولأن هذا الثوب يجب لبسه قبل الصلاة فلم تصح صلاته بدونه كما لو لم يجد إلا ثوب حرير أو ما يستر بعض عورته ولأنه إذا تعرى سقط القيام والركوع والسجود الكاملان وحصل الإخلال بالشرط وإذا لبس الثوب النجس لم يحصل إلا الإخلال بشرط مختلف فيه بين
السلف فكان أولى وأنها لم تجب الإعادة على العريان لأن اللباس فعل أمر به وقد عجز عنه فأشبه ما لو عجز عن الاستقبال أو القراءة أو الركوع أو السجود وهو عذر غالب واجتناب النجاسة هو من باب الترك والعجز عن إزالتها عذر نادر فلهذا فرق من فرق بينهما إلا ترى أن مفسدة التعري في الوقت لا تنجبر باللباس بعد خروج الوقت لأن مفسدته لا تختص الصلاة بخلاف حمل النجاسة فإن مفسدته تختص الصلاة.
فصل.
وأما الإعادة ففيها روايتان حكاهما ابن أبي موسى وهو من أوثق الأصحاب نقلا وأقربهم إلى نقل نصوصه وحكاهما غيره.
وأما القاضي وأصحابه ومن تبعهم فذكروا أنه نص هنا على الإعادة ونص في مسألة المكان النجس على عدم الإعادة.
ثم أكثر هؤلاء جعلوا في المسألتين روايتين بطريق النقل والتخريج كما في نجاسة البدن المعجوز عن إزالتها وكما في عدم الماء والتراب وجعلوا هذا النص بناء على قوله بوجوب الإعادة في النجاسة المعجوز عنها وقد وافقوا في هذا التخريج لما نقله ابن أبي موسى.
وعلى هذا فالصحيح أنه لا إعادة عليه في شيء من ذلك كما أن الصحيح أن لا إعادة في النجاسة المعجوز عن إزالتها وكما في المنسية
والمجهولة وأولى فإن طهارة الحدث والسترة تسقط بالعجز ولا تسقط بالنسيان ولأن العاجز فعل ما أمر كما أمر وامتثال الأمر يقتضي الأجزاء بفعل المأمور به فمن امتثل ما أمره الله به فلا إعادة عليه البتة لأن الله تعالى لم يفرض على عباده إلا صلاة واحدة وقد قال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم لما فاتتهم الصلاة وسألوه عن الإعادة مرتين " أينهاكم عن الربا ويقبله منكم?" فكيف بمن لم يفوت وإنما اتقى الله ما استطاع.
وطرد هذا أن لا تجب الإعادة على من تيمم في الحضر لعدم الماء أو خشية أذى البرد ونحوهم وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن المستحاضة تصلي مع وجود النجاسة ولا إعادة عليها وقد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دما ولم يعد ولأنا لو أوجبنا عليه الإعادة إذا صلى في ثوب نجس ولم نوجبها إذا صلى عريانا لكان التعري أحسن حالا فكان ينبغي أن يصلي عريانا وقد تقدم تضعيف ذلك.
ومن أصحابنا من فرق بين مسألتي المكان والثوب على ظاهر ما بلغه من النص بأنه هنا قادر على اجتناب النجاسة وعلى الاستتار لكن إنما يمكنه كل واحد منهما بتقريب الآخر فإذا تزاحما قدمنا أوكدهما ثم
أوجبنا القضاء لكونه قادرا على اجتناب النجاسة من بعض الوجوه بخلاف المحبوس وبكل حال فعليه أن يتقي النجاسة ما أمكن فإذا كان معه ثوبان نجسان صلى في اقلهما نجاسة.
وإن كانت النجاسة في طرف ثوب كبير استتر بالطاهر منه وأن كان حاملا للنجاسة لأن محذور الحمل بدون الملاقاة أقل من محذورهما جميعا وقد تقدم حكم من لم يجد إلا ثوب حرير أو ثوبا مغصوبا.
فصل.
وأما من لم تمكنه الصلاة إلا في موضع نجس كالمحبوس فيه إذا لم يكن عنده ما يحتجر به فإنه يصلي فيه بلا خلاف لأنه لا يقدر على غير ذلك وفي الإعادة روايتان.
المنصوص منهما أنه لا إعادة عليه وهي الصحيحة وكذلك كل من عليه نجاسة يعجز عن إزالتها أما بأن لا يجد لها طهورا أو يجده ولا يستطيع إزالتها لكونها على جرح يضره الماء.
فان قلنا يعيد على إحدى الروايتين فلأنها إحدى الطهارتين ولم يأت بها ولا ببدل عنها فأشبهت طهارة الحدث ولأنه قد ترك العبادة لعذر نادر غير متصل فأشبه صوم المستحاضة
والأول أصح لما تقدم ولأنه شرط عجز عنه فلم تلزمه الإعادة من اجله كالسترة والقبلة حال المسايفة هكذا ينبغي أن يكون الكلام إذا حبس في المواضع المنهي عن الصلاة فيها كالحش والحمام والإعادة هنا اضعف لأنه في هذه الحال ليس بمنهي عن الصلاة فيها فأشبه المصلي في الثوب الحرير إذا لم يجد غيره.
وإذا اقيمت الجمعة في مكان مغصوب فإنه يصلي فيه ولا يحل لأحد تركها نص عليه لأن الجمعة لا تفعل إلا في مكان واحد فلو لم يشهدها لأفضى إلى تركها بالكلية ولهذا تصلي خلف كل إمام برا كان أو فاجرا وكذلك تصلى خلف الإمام وأن كان ثوبه حريرا أو مغصوبا لذلك.
ثم أن أمكنه الاقتداء بالإمام في غير المكان المغصوب لم يجز الدخول إليه وألا جاز للضرورة ولا يتفل فيه لعدم الضرورة.
وإذا كان الإمام جاهلا بالغصب فإن صلاته وصلاة من لم يعلم بالغصب وصلى فيها وصلاة من صلى خارجا عنها صحيحة إذا بلغوا العدد المعتبر لأن قصارى صلاة من صلى فيها عالما بالغصب أن تكون معدومة.
وأما بدون ذلك ففي وجوب الإعادة روايتان خرجهما أصحابنا على الائتمام فيها بالفاسق.
فأما المحبوس في مكان مغصوب فينبغي أن لا تجب عليه الإعادة قولا واحدا كمن لا يجد إلا الثوب الحرير لأن لبثه فيه ليس بمحرم عليه
لأنه لم يدخل باختياره إلا أن يكون قادرا على الخروج بخلاف من لم يجد إلا الثوب المغصوب فإن التحريم ثابت في حقه هذه الطريقة الصحيحة.
ومن أصحابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد إلا الثوب النجس وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع المغصوب فيه الروايتان وأولى وكذلك من يكره على الكون بأماكن النجس والمغصوب بحيث يخاف من الخروج منه ضررا في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس في الموضع النجس والمحبوس في الموضع النجس يجلس في صلاته على قدميه لأن ما سواهما يمكن صونه عن النجاسة من غير إخلال بركن لأن إلصاق الآليتين بالأرض حال القعود ليس بواجب وأما السجود ففيه روايتان.
إحداهما: أنه يومىء إلى الحد الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة كالعريان.
والثانية: يسجد بالأرض لأنه فرض مقصود في نفسه ومجمع على افتراضه فأشبه من تنتقض طهارته بالسجود وأولى لأن طهارة الحدث اوكد من طهارة الخبث.
فصل.
ومتى بذل للعريان إعارة سترة لزمه قبولها كما يلزمه قبول الماء إذا وهب له والدلو والحبل إذا أعيره.
وقيل لا يجب عليه قبولها كما لا يلزمه قبولها إذا بذلت له هبة وكما لا يلزمه قبول الماء في الحج والكفارات.
وقد خرج وجه بأنه يلزمه قبول الهبة لأن العار في بقاء عورته مكشوفة أكثر من الضرر في المنة التي تلحقه لأشياء عند من قال من أصحابنا أنه يلزمه قبول المال في الحج فإن قبول السترة اوكد لأن فرض السترة لا يتوقف على وجودها وإنما يتوقف على القدرة على تحصيلها كالماء في الوضوء بدليل أنه لو أمكنه تحصيل السترة من المباحات لزمه ولا يلزمه تحصيل ما يحج به من المباحات.
ووجه الأول وهو المشهور أن قبول العارية لا منة فيه في الغالب بخلاف قبول الهبة فصار قبولها كقبول الماء والتراب في الطهارة وكالاسترشاد إلى طريق الجامع ووجود السترة لا يعتمد وجودها وإنما يعتمد القدرة عليها وهي حاصلة بخلاف قبول الهبة فإن فيه ضررا عليه بالحق الذي يجب للواهب عليه وإمكان إلحاق المنة به.
قال بعض أصحابنا: ولا يجب على مالك الثوب أن يعيره إذ لا ضرورة بالعريان إليه كما لا يجب عليه أن يبذل له ماء للوضوء مع أنه يجب عليه بذل الماء للعطش واللباس لخوف الضرر بالحر والبرد ونحو ذلك.
وقياس المذهب أن هذا واجب لأن ستر العورة من الحوائج الأصلية التي لا تختص بالصلاة فمتى اضطر الإنسان إليه وجب بذله له وأن لم يخف ضررا بالتعري بخلاف الطهارة وكشف السوءة فيه ضرر على الإنسان في نفسه أعظم من كثير من الضرر الذي يلحقه في بدنه فيجب إعانته على إزالته ببذل الفضل كإغاثة الجائع والعطشان وأيضا فإن هذا بذل منفعة لتكميل عبادة هي واجبة في الأصل ولا ضرر في بذلها فوجب كتعليم الجاهل ودلالة الغريب على طريق الجامع ومناولة الماء والتراب لمالكهما وتوجيه الأعمى إلى القبلة بخلاف الماء فإنه بذل عين وبكل حال فالمستحب أن يبذل لهم السترة لأنه إعانة على تكميل العبادة فأشبه المتصدق على الرجل بالصلاة معه جماعة وأولى.
ويبدأ بإعارة النساء قبل الرجال لأن عورتهن اغلظ.
فصل.
وإن لم يجد إلا حشيشا أو ورقا يربطه عليه لزمه الستر به لأنه مغط للبشرة من غير ضرر فأشبه الجلود والثياب وقد اخبر الله تعالى عن آدم وحواء أنهما {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} وامرر النبي صلى الله عليه وسلم بمصعب بن عمير يوم أحد أن يجعل على رجليه شيء من الاذخر فإذا كان الاذخر كالثوب في ستر الميت فكذلك في ستر الحي.
وإن لم يجد إلا طينا ففيه وجهان.
أحدهما: وهو اختيار ابن عقيل أنه يلزمه أن يتطين به بدل الثوب فما سقط منه سقط حكم الوجوب فيه وتحصل السترة بما بقي.
والثاني: لا يجب وهو اختيار الآمدي وغيره وقيل أنه المنصوص قال أحمد لأنه يتناثر ولا يبقى وهو الصواب المقطوع به لأن السلف من الصحابة ومن بعدهم أمروا العراة الذين انكسر بهم المركب أن يصلوا بحسب حالهم مع العلم بأنه قد كان يمكنهم أن يجبلوا من ماء البحر
بتراب البر فيصير طينا فإن أكثر السواحل يقرب منها التراب وأيضا فإن هذا مثله وهو ملوث مؤذ يتناثر رطبا ويابسا فلا يحصل به مقصود الستر في الغالب وأيضا فإن الفرائض من الجمعة والجماعة تسقط إذا خيف تأذيه بمطر أو بوحل مع سخونة الهواء فكيف يؤمر بان يتطين وأيضا فسنبين أن شاء الله تعالى إنه لا يجب عليه أن يسجد على الطين فإذا سقط تكميل الركن لتلوث جبهته ويديه فتلويث جميع عورته أولى أن لا يجب.
وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه وأن كان كدرا وكذلك أن وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لأن ذلك لا يحصل مقصود الستر الواجب لكن ينبغي أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إذا أمكن لأن ذلك أحسن من التعري في الفضاء ولذلك أمر المغتسل والمتخلي أن يستتر بما أمكنه من ذلك.
وإن وجد سترة تضره كالبارية لم يلزمه الاستتار بها.
فصل.
إذا وجد السترة في أثناء الصلاة قريبة منه استتر وبنى لأنها حينئذ وجبت عليه وليس الاستتار بها عملا يبطل الصلاة فأشبه الأمة إذا أعتقت في الصلاة والخمار بقربها وأن كانت السترة بعيدة منه بحيث تكون مسافتها مما يبطل الصلاة يقطعها أو كان يحتاج إلى الاستتار بها إلى عمل كثير فإنه يستتر ويستأنف في ظاهر المذهب كالمتيمم إذا وجد الماء وقلنا يخرج وكالمستحاضة إذا انقطع دمها انقطاعا يوجب الوضوء.
وفيه وجه مخرج على من سبقه الحدث أنه يستتر ويبني كالوجه المخرج في المتيمم والمستحاضة.
والصحيح الفرق بين من حدث المبطل له في أثناء الصلاة ومن كان المبطل موجودا معه من أولها لكن لم يظهر علمه للعذر كما تقدم وإنما نظير المتوضئ هنا الأمة إذا اعتقت في أثناء الصلاة والسترة بعيدة منها أو كان المصلي مستترا فاطارت الريح سترته واحتاج ردها إلى عمل كثير فإن هذا كالمتطهر الذي سبقه الحدث لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا من غير قيام المبطل بخلاف العاري والمستحاضة والمتيمم فإن المبطل كان مقارنا لأول الصلاة وإنما عفي عنه للضرورة ولا ضرورة إذا زال العذر في أثناء الصلاة ولهذا قلنا أن الإمام إذا علم بحدث نفسه في أثناء الصلاة استأنف المأمومون الصلاة ولو لم يعلم حتى قضوا الصلاة لم يعيدوا.
وإن وجد البعيد عن السترة من يناوله إياها من غير عمل بطلت في أحد الوجهين لانكشاف العورة زمنا طويلا بعد وجوب الستر.
ولم تبطل في الآخر إذا ناوله إياها من غير تراخ وهو اختيار الآمدي لأنه لم يوجد منه عمل وقد أتى بالستر على الوجه الممكن لأن وجوب الستر بالقدرة على الستر لا بنفس ظهور السترة.
فصل: ولا تسقط السترة بجهل وجوبها ولا نسيان لها كما تسقط بالعجز فلو نسي الاستتار وصلى أو جهل وجوبه أو أعتقت الأمة في أثناء الصلاة ولم تعلم حتى فرغت لزمتهم الإعادة قاله أصحابنا لأن الزينة من باب المأمور به فلا تسقط بالجهل والنسيان كطهارة الحدث وهذا لأن الناسي والجاهل يجعل وجود ما فعله كعدمه لأنه معفو عنه فإذا كان قد فعل محظورا كان كأنه لم يفعله فلا إثم عليه ولا تلحقه أحكام الإثم وإذا ترك واجبا ناسيا أو جاهلا فلا إثم عليه بالترك لكنه لم يفعله فيبقى في عهدة الأمر حتى يفعله إذا كان الفعل ممكنا وبهذا يظهر الفرق بين الزينة واجتناب النجاسة ولأن التزين هو الأمر المعتاد الغالب فتركه مع القدرة لا يكون إلا نادرا فلم يفرد بحكم.
فصل.
ويعفى عن يسير العورة قدرا أو زمانا فلو انكشف منها يسير وهو ما لا يفحش في النظر في جميع الصلاة أو كشفت الريح عورته فأعادها بسرعة أو انحل مئزره فربطه لم تبطل صلاته وسواء في ذلك العورة المغلظة والمخففة.
إلا أن ما يعفى عنه من العورة المخففة أكثر مما يعفى عنه من المغلظة لأنه يفحش من هذا في العرف أكثر مما يفحش من هذا.
وقال القاضي وغيره هما سواء في مقدار العفو.
وعن أحمد ما يدل على أنه لا يعفى عن يسير العورة كما لا يعفى عن يسير طهارة الحدث ولأنه يجب ستره عن العيون فاشترط ستره في الصلاة.
وعنه التوقف في ظهور جميع العورة إذا أعاد الستر بسرعة.
وحكي عنه أن اليسير إذا طال زمانه ابطل وأن لم يبطل الكثير إذا قصر زمانه وقال أبو الحسن التميمي أن بدت عورته وقتا واستترت وقتا فلا إعادة عليه ولم يقيده بالزمن اليسير لظاهر حديث عمرو بن سلمة.
والأول هو المشهور لما روى عمرو بن سلمة في قصة إسلام قومه لما ذكر أنه صلى بقومه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي إلا تغطوا عنا أست قارئكم فقطعوا لي قميصا" رواه البخاري ومن احتج بهذا قال هذه قضية جرت لهؤلاء الصحابة ولا يكاد مثلها يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه ولم ينكر فصارت حجة من جهة إقراره ومن جهة أن أحدا من
الصحابة لم ينكر ذلك ولا يقال فانتم تقولون بهذا في إمامة الصبي في الفرض لانا سنتكلم عليه أن شاء الله تعالى في موضعه ولأنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: "لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا لا ترين عورات الرجال" من ضيق الأزر وكانوا يعقدون أزرهم على أكتافهم ولولا أن يسير العورة يعفى عنه لأمر الرجال بإعادة الصلاة منه كما أمر النساء بغض أبصارهن عنه أو لأمر بذلك من كان يمكنه الاتزار بإزار واسع ولأمرهم بالائتزار على وجه لا يؤدي إلى كشف شيء من العورة بان يأتزروا على العورة فقط كما ذكره في الإزار الضيق فإن ستر العورة أهم من ستر المنكب فإن الناس قائلان قائل يقول يجب عليه أن يستر العورة ويسجد وقائل يقول يستر المنكب ويصلي جالسا مومئا فأما أن يستر المنكب ويسجد مكشوف السوءة فليس بجائز وفاقا وأيضا فإن ذلك يشق عموم الاحتراز منه فإن المأزر والسراويلات تنحط في العادة عن السرة قليلا والمرأة يبدوا أطراف شعرها ورسغها كثيرا وأكثر الفقراء لا تسلم أثوابهم من يسير فتق أو خرق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد أولكلكم ثوبان" فلم يوجب من السترة إلا ما يجده عامة الناس دون ما يجده ذوو اليسار وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يبدو بعض فخذه" فعلم أنه ليس بمحرم ولأنه لما عفي عن الكثير في الزمن
اليسير فكذلك اليسير في الزمن الكثير ولأنه شرط للصلاة ليس له بدل فعفي عن يسيره كاجتناب النجاسة وطرده القبلة في الانحراف اليسير والنية في تقدمها بالزمن اليسير ولأنه إخلال بيسير من الشرائط يشق مراعاته في الجملة فعفي عنه كيسير النجاسة وطرده طهارة الحدث عفي فيها عن باطن الشعور الكثيفة لما شقت مراعاتها بخلاف البشرة الظاهرة فإنه لا يشق غسلها ولأن الصلاة تصح مع كثيرها للضرورة فجاز أن تصح مع يسيرها مطلقا كالعمل الكثير والمناسبة في هذه الاقيسة ظاهرة.
وحد اليسير ما لا يفحش في النظر في عرف الناس وعادتهم إذ ليس له حد في اللغة ولا في الشرع وأن كان يفحش من الفرجين ما لا يفحش من غيرهما.
فصل.
والعراة يصلون جماعة ويقف أمامهم وسطهم لأنهم من أهل الجماعة وهي واجبة عليهم ولأن الجماعة مشروعة في الخوف مع ما فيها من العمل الكثير وفراق الإمام وغير ذلك فلان تشرع هنا أولى ويؤمر كل واحد منهم بغض بصره كما " أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بغض أبصارهن عن الرجال".
ويصلون صفا واحدا أن أمكن وأن ضاق المكان عنهم فقيل:
يصلون جماعتين.
وقيل بل يصلون صفوفا وهو أصح.
وإن كانوا رجالا ونساء والمكان واسع صلى كل نوع لأنفسهم وأن كان ضيقا صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال.
وإن بذلت سترة واحدة للعراة فقال أصحابنا: يصلون فيها واحد بعد واحد لأن مصلحة الستر أهم من مصلحة الجماعة إلا أن يخافوا ضيق الوقت فيستتر بها أحدهم ويصلي الباقون عراة.
وقيل يصلون فيه واحد بعد واحد وأن فات الوقت لأن المحافظة على الشرط مع إمكانه أولى من إدراك الوقت كما لو وجد ماء لا يمكنه استعماله إلا بعد فوات الوقت أو سترة يخاف فوات الوقت أن تشاغل بالمشي إليها والاستتار بها.
والأول مذهب لأن من خوطب بالصلاة في أول الوقت وهو عاجز عن شرط أو ركن في الحال قادرا على تحصيله بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة عن وقتها ولو جاز هذا لكان من عجز عن الطهارة أو السترة أو الركوع أو السجود وغير ذلك من الشرائط والأركان يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه يقدر على ذلك وهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع فإن رعاية الشرع للوقت أعظم من رعايته
لجميع الشرائط والأركان المعجوز عنها ولهذا لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها البتة للعجز عن بعض الأركان ومتى ضاق وقت الوجوب عن تحصيل الشرط والفعل قدم الفعل في الوقت بدون الشرط وإنما تكون المحافظة على الشرط أولى إذا كان الوجوب في آخر الوقت مثل نائم يستيقظ آخر الوقت فإن الصلاة واجبة عليه حينئذ فعلها بشروطها كما لو استيقظ بعد الوقت.
وأما أن وجد سترة يخاف فوت الصلاة بالمشي إليها والتشاغل بالاستتار فإن كانت الصلاة قد أمر بها في أول الوقت أو وسطه والسترة بعيدة بحيث لا يصل إليها إلا بعد فوت الوقت فهذا يجب عليه أن يصلي عريانا وهذه مسألة العراة المتقدمة فإنه ما من عار إلا وهو يرجو الكسوة فيما بعد فإن أحدا من الناس لا يكاد يبقى عاريا على الدوام وهذا لأن وقت الصلاة يتسع للاستتار والفعل على الوجه المعتاد لو كانت السترة مكنة فإذا تعذرت سقطت.
وكذلك أن استيقظ آخر الوقت والسترة بعيدة عنه بعدا لا يجب عليه طلبها منه فأما أن استيقظ آخر الوقت والسترة قريبة منه بحيث لا تجوز صلاته إلا بها فهنا لا يتسع ما بقي من الوقت للسترة والفعل على الوجه المعتاد فلا تكون السترة متعذرة فيكون الوقت متسعا لشرائط الصلاة وأفعالها بخلاف مسألة الواحد بعد الواحد فإن الوقت متسع للسترة لو كانت ممكنة وإنما السترة متعذرة وفرق بين تعذر ينشا من ضيق الوقت وتعذر ينشا من تعذر الشرط فإن نشأ من ضيق الوقت وسعه الشارع وأن نشا من تعذر الشرط على الوجه المعتاد أسقطه الشارع ولهذا لو كانوا في
سفينة أو موضع ضيق لا يمكن جميعهم الصلاة قياما صلى واحد بعد واحد إلا أن يخافوا فوت الوقت فيصلي واحد قائما والباقون قعودا تقديما للصلاة في الوقت على ركن القيام وقد تقدم مثل هذا الكلام في الطهارة وسيجيء مثله في استقبال القبلة أن شاء الله.
وإن كانت السترة ملكا لبعضهم لم تصح صلاته إلا فيها وينبغي له أن يعيرها لسائرهم ليصلوا فيها كما تقدم إلا أن يضيق الوقت فينبغي أن يعيرها لمن هو أحق بالإمامة وأن أعارها لغيره جاز.
وإن بذل الثوب لهم مطلقا وقد ضاق الوقت اقرع بينهم فمن قرع فهو أحق به إلا أن يكون أحدهم أولى بالإمامة فهو أولى به وأن كانوا رجالا ونساء فالنساء أحق ومتى لم يستتروا إلا واحد لضيق الوقت أو لعدم الإعارة فإنه يؤمهم الكاسي ويتقدم إمامهم قال بعض أصحابنا: يستحب ذلك وقياس المذهب أن إمامته واجبة لأنه الجماعة واجبة على جميعهم وهي لا تمكن إلا كذلك إلا أن يكون أميا فإنه يصلي وحده لأنه لا يجوز أن يؤمهم لأنه أمي وهم قراء أو أحدهم ولا يأتم لأنه كاسي وهم عراة.
فصل.
يكره السدل في الصلاة وهو أن يطرح على كتفيه ثوبا ولا يرد أحد طرفيه إلى كتفه الآخر
وقال الآمدي وابن عقيل السدل هو إسبال الثوب بحيث ينزل عن قدميه ويجره فيكون من باب إسبال الثوب.
والتفسير الأول هو الصحيح وهو المنصوص عنه.
وعنه إنما يكره على الإزار أما على القميص فلا حملا للنهي على اللباس الذي كانوا يعتادونه وهو الارتداء فوق المآزر وتعليلا للنهي بخشية انكشاف المنكب وذلك مأمون على المتقمص ونحوه وقد روى أبو الزبير قال رأيت ابن عمر يسدل في الصلاة فيحمل هذا على أن عليه قميصا.
ووجه الكراهة ما روى عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن السدل في الصلاة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وإسناده حسن وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن أباه كره
السدل في الصلاة قال أبو عبيدة وكان أبي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عنه" ورواه عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عنه وعن علي أنه رأى قوما قد سدلوا فقال ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم" رواه سعيد ورواه ابن المبارك ولفظه: "رأى قوما قد سدلوا في الصلاة".
وعن ابن عمر أنه: "كان يكره السدل في الصلاة" وقال إبراهيم: "كانوا يكرهون السدل في الصلاة" رواهما سعيد وعن ابن مسعود كراهته ذكره ابن المنذر وعلى هذا فإنه يكره السدل سواء كان تحته ثوب أو لم يكن.
فان صلى سادلا قال أبو بكر أن لم تبد عورته فلا يعيد باتفاق وقال ابن أبي موسى في الإعادة روايتان أظهرهما لا يعيد.
فصل
ويكره اشتمال الصماء لما روى أبو هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبي الرجل الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وأن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه يعني منه شيء" متفق عليه وعن أبي سعيد قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبستين واللبستان اشتمال الصماء والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب واللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء" رواه البخاري وعن جابر بن أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتدوا الصماء في ثوب واحد" رواه أحمد واشتمال الصماء عند أحمد وأصحابه أن يضطبع بالثوب وهو أن يجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه فوق عاتقه الأيسر أو بالعكس لأنه كذلك جاء مفسرا في الحديث أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب" وفي الآخر: "ليس على أحد شقيه منه شيء".
وفي لفظ لأبي سعيد من رواية أحمد وأبي داود: "واللبستان اشتمال الصماء يشتمل في ثوب واحد يضع طرفي الثوب على عاتقه الأيسر ويبرز شقه الأيمن والأخرى أن يحتبي في ثوب واحد ليس عليه غيره يفضي بفرجه إلى السماء" وفي رواية: "أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ويرد طرفيه على منكبه الأيسر" وهذا مكروه في الصلاة وخارج الصلاة إذا لم يكن عليه إلا الثوب الذي اشتمل به فإن كان عليه ثوب آخر من سراويل أو إزار وقميص ففي الكراهة روايتان.
إحداهما: يكره وهي اختيار ابن أبي موسى لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أحدكم أن يشتمل في إزاره إذا ما صلى إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقه" رواه أحمد وذكر أحمد عن ابن عباس أنه: "كرهه وأن كان عليه قميص" وقد روى سعيد عن ابن عباس أنه: "كان يكره اشتمال الصماء في الصلاة" وفي لفظ: "كان يكره أن يلتحف الرجل بثوبه في الصلاة فيخرج يده من قبل صدر"هـ ولأنه تخصيص لأحد العضوين المتشابهين باللباس فكره كالمشي في نعل واحد.
فإن قيل الحديث المشهور مقيد بالثوب الواحد فيحمل هذا المطلق عليه ولأن الاضطباع لبسة المحرم فكيف تكون مكروهة.
فيقال الاضطباع في الثوب الواحد أشد محذورا لأن فيه إبداء المنكب ويخشى معه من ظهور العورة ولا يحصل معه مقصود اللباس ولهذا لا يشرع الاضطباع للطائف طواف القدوم إلا أن يكون تحته ثوب قال أحمد في رواية حنبل الاضطباع إذا كان عليك إزار أو قميص وإذا لم يكن عليك إزار ولا قميص ففعلت ذلك كانت لبسة الصماء تبين شقة الأيسر وفرجه.
بل هذه اللبسة محرمة تبطل الصلاة معها قال ابن أبي موسى وغيره أن اضطبع بثوب كان تحته غيره أجزأته صلاته مع الكراهة وأن لم يكن تحته غيره أعاد الصلاة وهذا المعنى معنى قول أحمد كانت لبسة الصماء تبين شقه الأيسر وفرجه وذلك لأن هذا تبدو معه العورة غالبا ويظهر من غير أن يشعر اللابس بذلك.
والحكمة إذا كانت غالبة غير منضبطة علق الحكم بالمظنة وأقيمت مقام الحقيقة لوجودها معها غالبا ولعدم انضباطها كما أقيم النوم مقام الحدث ولأن الله أمر بالزينة عند الصلاة ومن لبس هذه اللبسة لم يتزين لله في الصلاة.
وأما اضطباع المحرم فذلك موضع مخصوص من النهي لما كان فيه أولا من إظهار الجلد ثم صار سنة وشعارا ولهذا لا يشرع إلا في أول طواف يطوفه الأفقي خاصة ولهذا فإنه إذا أراد أن يصلي ركعتي الطواف سوى ردائه.
والرواية الأخرى إنه لا يكره إلا إذا كان عليه ثوب واحد قال الآمدي وغيره هو الصحيح لأن الأحاديث الصحاح المفسرة إنما هي في الثوب الواحد وقد علله في الحديث يبدو أحد شقيه وهذا مفقود في الثوبين.
ومن أصحابنا من قال يكره الاضطباع على المئزر ولا يكره على القميص وهذا قول قوي فإن الأغلب على القوم كان الارتداء فوق المآزر وقد نهوا عن الاشتمال ولأن في ذلك كشفا للمنكب في الصلاة وهو مكروه أو مبطل لما تقدم وقد نص أحمد على كراهته ولأن الذي في الحديث كراهة بروز الشق الأيمن ولو لم يكن تحته مئزر لكانت العورة قد تظهر من الناحية اليسرى فكان التعليل بكشف العورة أولى من التعليل ببروز الشق فقط.
فإن قيل فقد قال أبو عبيد اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوب يجلل به جسده كله ولا يرفع منه جانبا تخرج فيه يده كأنه يذهب به إلى أنه لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه ولا يقدر عليه.
وتفسير الفقهاء أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه قال والفقهاء أعلم بالتأويل.
وقد ذكر أبو عبد الله السامري من أصحابنا مثل ما حكاه أبو عبيد عن العرب فقال اشتمال الصماء هو أن يلتحف بالثوب ويرفعه إلى حد جانبيه فلا يكون ليده موضع تخرج منه فلذلك تسمى الصماء قال بعض الفقهاء يحتاج أن يخرج يده من صدره فتبدو عورته.
والتفسير الذي ذكرتموه مخالف لهذين قلنا.
أما التفسير الذي ذكرناه فهو منصوص مفسر في الحديث والتفسير الذي حكاه أبو عبيد عن الفقهاء يدل عليه الحديث أيضا لأنه قال الصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه وهذا يعم ما إذا اضطبع بالثوب من الناحية الأخرى أو لم يضطبع فإنه إذا اضطبع أبدى منكبه الأيمن وستر منكبه الأيسر وبقي شقه الأيسر غير مستور والصورة التي ذكر أبو عبيد يكون المنكب الأيمن مستورا والمنكب الأيسر لكن الشق الأيسر باديا وظهور العورة فيه أشد لكن المنكبين مستوران وهذا أيضا مما يحرم وتبطل الصلاة معه بلا ريب واشتمال الصماء يعمهما.
وأما الذي نقل عن ابن عباس أنه: "يخرج يده من قبل صدره" فإن أخرجها من فوق حاشية الرداء صار مضطبعا وأن أخرجها من تحت الرداء فهو الذي ذكره أبو عبيد وأما التفسير المحكي عن العرب فهو أشبه بالاشتقاق لأن الصخرة الصماء التي لا منفذ فيها ومنه الأصم وهو الذي لا ينفذ الصوت إليه ويؤيده ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجل ثوبا واحدا يأخذ.
بجوانبه على منكبه فتدعى الصماء".
وروى أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن الصماء اشتمال اليهود" واليهود تلتحف ولا تضطبع وهذه الصورة مكروهة أيضا لما يخاف معها من انكشاف العورة وهي السدل المتقدم وربما عرض الشيء فلا يستطيع أن يخرج يده إلا أن تبدو سوءته وهذه اللبسة مكروهة في الصلاة وخارج الصلاة.
فظهر أن اشتمال الصماء يعم هذا كله لكن منه ما يحرم ويبطل ومنه ما يكره فقط ومنه ما اختلف فيه كما تقدم.
فصل.
يكره للمصلي تغطية الوجه سواء كان رجلا أو امرأة فيكره النقاب والبرقع للمرأة في الصلاة لأن مباشرة المصلي بالجبهة والأنف أما واجب أو مؤكد الاستحباب ولأن الرجل إذا قام إلى الصلاة فإن الله تعالى قبل وجهه وأن الرحمة تواجهه فينبغي له أن يباشر ذلك بوجهه من غير وقاية وقد كره له تغميض العين فتغطية الوجه أولى وقد روى الفقهاء في كتبهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه رأى رجلا غطى لحيته في الصلاة فقال: "اكشف
لحيتك فإن اللحية من الوجه".
ويكره التلثم على الفم لما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة" رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه تشبه بفعل المجوس في عبادة النيران ويخاف معه من ترك تجويد القراءة والذكر والدعاء لا سيما والملك يضع فاه على فيه.
وهل يكره التلثم على الأنف على روايتين.
إحداهما: يكره لأن ابن عمر كره تغطية الأنف ولأنه عضو في الوجه يسجد عليه فأشبه الجبهة ولأن مباشرته إذا قلنا بوجوب السجود عليه واجبة أو سنة مؤكدة فإن سجد على الحائل كان مكروها وأن حسر اللثام احتاج إلى عمل ولأنه ربما حصلت معه غنة في الحروف ولأنه من الوجه وهو ابلغ من اللحية.
والثانية: لا يكره تغطيته لأن النهي إنما جاء في الفم وقد روى أحمد بإسناده عن قتادة حدثني عكرمة عن ابن عباس كان يغطي انفه يعني في الصلاة قال قتادة وكان سعيد بن المسيب وعطاء يكرهان
ذلك ولأنه يمكن الإفصاح بحروف القران والذكر معه هذه طريقة الجماعة.
وأما الآمدي فقال روي عنه هو ما كان على الفم والأنف.
وروي عنه على الأنف فحسب فعلى قوله إذا كان على الفم وحده لم يكره وهذا غلط على المذهب.
فصل.
ويكره شد الوسط بالزنار والخيط ونحو ذلك مما يشبه زي أهل الذمة في أشهر الروايتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في عدة مواضع.
وعنه لا يكره لحديث الحزام ولأنه لم يرد في ذلك نهي.
وأما ما لا يشبه شدهم كالحبل والمنديل والمنطقة التي تسميها العامة الحياصة فلا يكره نص عليه وعليه أصحابنا.
وقال ابن عقيل والسامري يكره بالزنار والحياصة ونحوها وليس بشيء بل يستحب لمن ليس تحت قميصه مئزر ولا سراويل أن يحتزم لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصلي أحدكم إلا وهو محتزم".
احتج به أحمد وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنايم حتى تقسم وعن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض وأن يصلي الرجل بغير حزام" رواه أبو داود وذكر أحمد عن ابن عمر أنه: "كان يصلي وعليه القميص يأتزر بالمنديل فوقه" وعن الشعبي قال: "كان يقال شد حقويك في الصلاة ولو بعقال وعن يزيد بن الأصم مثله" رواهما الخلال وقد روى حرب قال قلت لأحمد الرجل يشد وسطه بخيط ويصلي قال على القباء لا بأس به وكرهه على القميص وذهب لما أنه من زي اليهود فذكرت له السفر وأنا أشد ذلك على الوسط فرخص فيه قليلا أما المنطقة والعمامة ونحو ذلك فلم يكرهه إنما كره الخيط وقال هو أشنع فقد كره ما وافق زي أهل الكتاب وهو الخيط على القميص ونحوه ولم يكره على القباء لأنه ليس من زيهم ولم يكره ما سوى الخيط ونحوه ورخص في الخيط على القميص عند الحاجة.
وكذلك ذكر القاضي قال نص أحمد على كراهة الخيط على القميص لما فيه من التشبه بأهل الكتاب لأن من عادتهم شد الوسط بالزنار
ولم يكره شد القباء والمنطقة لأن هذا عادة المسلمين.
وأطلق جماعة من أصحابنا الكراهة على عموم كلامه في سائر الروايات.
فصل.
ويكره إسبال القميص ونحوه إسبال الرداء وإسبال السراويل والإزار ونحوهما إذا كان على وجه الخيلاء وأطلق جماعة من أصحابنا لفظ الكراهة وصرح غير واحد منهم بان ذلك حرام وهذا هو المذهب بلا تردد.
قال أبو عبد الله لم احدث عن فلان كان سراويله شراك نعله وقال ما أسفل من الكعبين في النار والسراويل بمنزلة الإزار لا يجر شيئا من ثيابه.
فأما أن كان على غير وجه الخيلاء بل كان على علة أو حاجة أو لم يقصد الخيلاء والتزين بطول الثوب ولا غير ذلك فعنه أنه لا بأس به وهو اختيار القاضي وغيره وقال في رواية حنبل جر الإزار وإرسال الرداء في الصلاة إذا لم يرد الخيلاء لا بأس به وقال ما أسفل من الكعبين في
النار والسراويل بمنزلة الرداء لا يجر شيئا من ثيابه.
ومن أصحابنا من قال لا يحرم إذا لم يقصد به الخيلاء لكن يكره وربما يستدل بمفهوم كلام أحمد في رواية ابن الحكم في جر القميص والإزار والرداء سواء إذا جره لموضع الحسن ليتزين به فهو الخيلاء وأما أن كان من قبح في الساقين كما صنع ابن مسعود أو علة أو شيء لم يتعمده الرجل فليس عليه من جر ثوبه خيلاء فنفى عنه الجر خيلاء فقط.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} وقال سبحانه: {كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} .
فذم الله سبحانه وتعالى الخيلاء والمرح والبطر وإسبال الثوب تزينا موجب لهذه الأمور وصادر عنها وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: "إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال انك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" متفق عليه وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم
القيامة" رواه البخاري وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" متفق عليه وفي رواية لأحمد والبخاري " ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" وعن أبي هريرة قال: "بينما رجل يصلي مسبلا إزاره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فتوضأ فذهب فتوضا ثم جاء ثم قال اذهب فتوضا فقال له الرجل يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه قال أنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وأن الله لا يقبل صلاة رجل مسبلا" رواه أبو داود.
وعن ابن مسعود قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته فليس من الله في حل ولا حرام" رواه أبو داود وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وهذه منصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة والمطلق منها محمول على المقيد وإنما أطلق ذلك لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة.
ومن كره الإسبال مطلقا احتج بعموم النهي عن ذلك والأمر بالتشمير فعن أبي جري جابر بن سليم الهجيمي قال: "رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه قلت من هذا قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت عليك السلام يا رسول الله مرتين قال لا تقل عليك السلام عليك السلام تحية الميت قلت أنت رسول الله قال أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وأن أصابك عام سنة فدعوته انبتها لك وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك قال قلت اعهد إلى قال لا تسبن أحدا قال فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا
ولا شاة قال ولا تحقرن من المعروف ولو أن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك أن ذلك من المعروف وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الأزر فإنها من المخيلة وأن الله لا يحب المخيلة وأن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه" رواه الخمسة إلا ابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح.
وعن عبد الله بن عمر قال: " مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته ثم قال زد فزدت فما زلت اتحراها بعد فقال له بعض القوم إلى أين قال إلى أنصاف الساقين" رواه مسلم وعن ابن الحنيظلة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل خريم الاسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذه شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى نصف ساقيه" رواه أحمد وأبو داود ولأن الإسبال مظنة الخيلاء فكره كما يكره مظان سائر المحرمات.
ومن لم ير بذلك باسا احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "إنك لست
ممن يفعل ذلك خيلاء" وعن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال له: "ارفع فقال له الرجل وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك فقال عبد الله إني لست مثلك أن لساقي حموشة وأنا أؤم الناس فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فاقبل على الرجل ضربا بالدرة وقال أترد على ابن مسعود أترد على ابن مسعود ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه وما سوى ذلك فهو باق على الإباحة وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة وإنما كلامنا فيمن يتفق عنه عدم ذلك.
فصل: وبكل حال فالسنة تقصير الثياب وحد ذلك ما بين نصف الساق إلى الكعب فما كان فوق الكعب فلا بأس به وما تحت الكعب في النار لما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأبي جري وابن عمر ولما روى أبو سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إزره المؤمن إلى نصف الساق لا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وعن حذيفة
رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو ساقي فقال: "هذا موضع الإزار فإن أبيت فأسفر فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين" رواه الخمسة إلا أبو داود قال الترمذي حديث حسن صحيح وعن سمرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تحت الكعبين من الإزار في النار" رواه أحمد والنسائي.
وأما الكعبان أنفسهما فقد قال بعض أصحابنا: يجوز إرخاؤه إلى أسفل الكعب وأما المنهي عنه ما نزل عن الكعب وقد قال أحمد أسفل من الكعبين في النار وقال ابن حرب سألت أبا عبد الله عن القميص الطويل فقال إذا لم يصب الأرض لأن أكثر الأحاديث فيها ما كان أسفل من الكعبين في النار وعن عكرمة قال رأيت ابن عباس يأتزر فيضع حاشية إزاره من مقدمه على ظهر قدمه ويرفع من مؤخره فقلت لم تأتزر هذه الأزرة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتزرها" رواه أبو داود.
وقد روي عن عبد الله أنه قال لم احدث عن فلان لأن سراويله
كان على شراك نعله وهذا يقتضي كراهة ستر الكعبين أيضا لقوله في حديث حذيفة لا حق للإزار بالكعبين وقد فرق أبو بكر وغيره من أصحابنا في الاستحباب بين القميص وبين الإزار فقال يستحب أن يكون طول قميص الرجل إلى الكعبين أو إلى شراك النعلين وطول الإزار إلى مراق الساقين وقيل إلى الكعبين.
ويكره تقصير الثوب الساتر عن نصف الساق قال إسحاق بن إبراهيم دخلت على أبي عبد الله وعلي قميص قصير أسفل من الركبة وفوق نصف الساق فقال ايش هذا وأنكره وفي رواية إيش هذا لم تشهر نفسك وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حد آزره المؤمن بأنها إلى نصف الساق" وأمر بذلك وفعله ففي زيادة الكشف تعرية لما يشرع ستره لا سيما أن فعل تدينا فإن ذلك تنطع وخروج عن حد السنة واستحباب لما لم يستحبه الشارع.
ويكره إسبال العمامة أيضا قاله أصحابنا لما تقدم من الأحاديث العامة وقد جاء ذكرها مصرحا به في حديث ابن عمر
فصل.
فأما النساء فإن إطالة الذيول لهن سنة نص عليه لما روت أم سلمة أنها قالت: "يا رسول الله كيف يصنع النساء بذيولهن قال: "يرخين شبرا فقالت إذا تنكشف أقدماهن قال يرخينه ذراعا لا يزدن عليه" رواه الخمسة إلا ابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح.
وعن ابن عمر قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبرا ثم استزدنه فزادهن شبرا فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا" رواه أبو داود والنسائي وفي رواية لأحمد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الذيل فقال: "اجعلنه شبرا فقلن أن شبرا لا يستر من عورة فقال اجعلنه ذر فكانت إحداهن إذا أرادت أن تتخذ ذراعا أرخت ذراعا فجعلته ذيلا".
ولهذا قال أصحابنا: أقل ذيل المرأة شبر وأكثره ذراع.
قال بعض أصحابنا: هذا في حق من مشى بين الرجال كنساء العرب اللاتي يمشين بين الحلل والصحراء فأما نساء المدن اللاتي في بيوتهن ولا يراهن رجل أجنبي فيكون ذيلها كذيل الرجل.
فصل.
يكره للرجل الأحمر المشبع حمرة في جميع أنواع اللباس من الثياب والفرش والأكسية وآلات الدواب والأغطية وغير ذلك ولا بأس بذلك للنساء.
والمعصفر المشبع من هذا النوع نص على ذلك في عدة مواضع قال وقد سئل عن لباس المعصفر المشبع اكره لباسه وسئل عن الأكسية المصبوغة كالدم فقال إذا كانت حمرة تشابه المعصفر يكره ذلك وفي موضع آخر أنه كره المعصفر كراهة شديدة للرجال وقال أيضا يكره المعصفر للرجال ولا يكره للنساء وسئل عن المعصفر للنساء فلم ير به باسا وقال المروذي صبغت بطانة جبتي حمراء فقال لم صبغتها حمراء قلت للرقاع التي فيها قال وأي شيء تبالي أن يكون فيها رقاع وقال أول من لبس الثياب الحمر قارون وآل فرعون ثم قرأ: {فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}.
قال في ثياب حمر قلت له الثوب الأحمر تغطى به الجنازة ترى أن أخذ به قال نعم قال وأمرني أبو عبد الله أن اشتري له تكة لا يكون فيها حمرة قال وأمرني أن اشتري له مدا فقال لا تكون فيه حمرة وقد نقل عنه أحمد بن واصل المقرئ أنه سئل عن كساء اسود له علم احمر فقال لا بأس به قال القاضي فظاهر رواية المروذي أنه كره العلم الأحمر أجراء له مجرى طراز الذهب وظاهر رواية المقرىء أنه لم يكرهه وأجراه مجرى الطراز الحرير.
وهذه الكراهة في الجملة قول عامة الأصحاب وذكر القاضي في موضع من خلافه وبعض من اتبعه أن المعصفر لا يكره للرجال والنساء وأن النهي كان خاصا لعلي لقوله في الحديث لم ينهه ولا إياك وإنما نهاني.
ومن أصحابنا من قال إنما يكره المعصفر خاصة فأما ما صبغ بالحمرة من مدر وغيره فلا بأس به سواء صبغ قبل النسج أو بعده وهذا
اختيار أبي محمد رحمه الله وقد أومأ إليه في رواية حنبل فقال قد لبس النبي صلى الله عليه وسلم بردة حمراء كذلك الترمذي في حديث الرجل الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أحمران قال معنى هذا الحديث عند أهل العلم أنهم كرهوا لبس المعصفر ورأوا أن ما صبغ بالمدر أو غير ذلك فلا بأس إذا لم يكن معصفرا وذلك لأن المعصفر صحت في كراهته أحاديث كثيرة في حق علي وغيره للرجال دون النساء فعن عبد الله بن عمرو قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال أن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" رواه أحمد ومسلم والنسائي وفي رواية لمسلم: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال أمك أمرتك بهذا قلت اغسلهما قال بل احرقهما".
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر فقال: "ما هذه قال فعرفت ما كره قال فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها ثم أتيته فأخبرته فقال إلا كسوتها بعض اهلك فإنه لا بأس بذلك للنساء" رواه أبو داود وابن ماجة وقال هشام بن
الغاز المضرجة التي ليست بمشبعة ولا الموردة وقال الخطابي المضرج الذي ليس صبغه بالمشبع التام وإنما هو لطخ عق به يقال تضرج الثوب إذا تلطخ بدم ونحوه والريطة ملاة ليست بفلقتين إنما نسج واحد وقال الجوهري يقال ضرجت الثوب تضريجا إذا صبغته بالحمرة وهو دون المشبع وفوق الموردة وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب مصبوغ بعصفر مورد قال: ما هذا فانطلقت فأحرقته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما صنعت بثوبك فقلت أحرقته قال أفلا كسوته بعض اهلك" وعن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المقدم وهو المشبع بالعصفر" رواه أحمد وابن ماجة وعن علي بن أبي طالب قال: "نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القس وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر" رواه أحمد ومسلم وفي رواية صحيحة نهاني عن المعصفر المقدم.
قالوا وأما الأحمر غير المعصفر فلا بأس به لما روى البراء بن عازب
قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم عظيم الجمعة إلى شحمة أذنيه ورايته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه" رواه الجماعة وعن أبي جحيفة قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح وهو في قبة له حمراء ثم ركزت له عنزة فخرج وعليه جبة له حمراء أو حلة حمراء فكأني انظر إلى بريق ساقيه قال فصلى بنا إلى العنزة الظهر أو العصر ركعتين" متفق عليه وعن عامر بن أبي هلال المزني قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بمنى على بغلة وعليه برد احمر وعلي رضي الله عنه أمامه يعبر عنه" رواه أحمد وأبو داود وعن أنس قال: "كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة" متفق عليه.
والأول هو المذهب المعروف المنصوص لما احتج به أحمد من
قوله سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} الآية قال جابر بن عبد الله في القرمز وقال إبراهيم والحسن في ثياب حمر على لفظ أحمد وقال مجاهد على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات وكذلك ذكر قتادة وابن زيد وغيرهما أنه خرج وعلى دوابه وجنده الأرجوان والمعصفرات قال ابن زيد وكان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات فيما كان يذكر لنا ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا في سياق الذم له والعيب لما خرج فيه من الزينة فعلم أن الثياب الحمر معيبة عند الله مذمومة ولا معنى لكراهتها إلا ذلك وعن عبد اله بن عمرو قال: "مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحمرة قد ظهرت فكرهها وفي رواية قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواحلنا وعلى ابلنا أكيسة فيها خيوط عهن حمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفر ابلنا فأخذنا الاكيسة ونزعناها عنها" رواه أحمد وأبو داود من حديث محمد بن عمرو بن عطاء عن رجل من بني
حارثة عنه وعن حريث بن الابج السليحي أن امرأة من بني أسد قالت: "كنت يوما عند زينب امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المعرة رجع فلما رأت ذلك زينب علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كره ما فعلت فأخذت فغسلت ثيابها ووارت كل حمرة ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع فاطلع فلما لم ير شيئا دخل" رواه أبو داود وعن عمران بن حصين أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أركب الأرجوان ولا البس المعصفر ولا البس المكفف" رواه أحمد وأبو داود وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن المياثر الحمر" متفق عليه وعن مالك بن عمير قال كنت قاعدا عند علي قال فجاء صعصعة بن صوحان فسلم ثم قام فقال يا أمير المؤمنين انهنا عما نهاك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير ونهانا
عن القسي والميثرة وعن الحرير وحلق الذهب" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وعن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس القسي والميثرة الحمراء" رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وعن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال: "نهى عن مياثر الأرجوان" رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح وفي رواية عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس الحمرة" وفي لفظ: "الحمراء وعن القراءة في الركوع والسجود" وفي رواية: "عن لباس القسي والمياثر والمعصفر" رواهما عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وعن أبي بردة أن عليا قال: "نهاني النبي صلى الله عليه وسلم أن اجعل خاتمي في هذه أو التي تليها واوما إلى الوسطى والتي تليها ونهاني عن لبس القسي وعن جلوس على المياثر" قال يعني عليا فأما القسي فثياب مضلعة يؤتى بها
من مصر والشام وأما المياثر فشيء كانت تجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطايف الأرجوان.
فقد نهى صلى الله عليه وسلم: "عن المياثر الحمر" وذلك يقتضي أن تكون الحمرة مؤثرة في النهي والحديث عام في المياثر الحمر سواء كانت حريرا أو لم تكن ولو كان المراد بها الحرير فتخصيصه الحمر بها دليل على أن الأحمر من الحرير أشد كراهة من غيره وذلك يقتضي أن يكون للحمرة تأثير في الكراهة وكذلك قوله في حديث عمران لا اركب الأرجوان وهو الأحمر ولابس المعصفر ودليل على أن الحمرة مؤثرة ثم أحاديث علي في بعضها عن القسي والميثرة الحمر والحرير وفي بعضها عن القسي والمعصفرة وفي بعضها عن القسي والميثرة الحمراء وفي بعضها عن مياثر الأرجوان وهي كلها دليل على أن المياثر هي الحمر وأن لم تكن حريرا وأن مناط الحكم حمرتها لا مجرد كونها حرير وذلك أن الأرجوان هو الأحمر الشديد الحمرة كان اشتقاقه من الأرج وهو توهج رائحة الطيب لأن الأحمر يسطع لونه ويتوقد كما تسطع الرائحة الزكية في الارائج قال أبو عبيد الأرجوان الشديد الحمرة والنهرمان دونه في الحمرة
والمفدم المشبع حمرة والمضرج دونه ثم المورد بعده ثم قول علي رضي الله عنه في حديث آخر: " نهى عن لبس الحمرة والحمراء وعن الميثرة الحمراء" بدل قوله المعصفر دليل على أن المعصفر إنما نهاه عنه لحمرته فتارة يعبر عنها باسمه الخاص وتارة يعبر عنه بالاسم العام الذي هو مناط الحكم وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان" رواه الخلال وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشيطان يحب الحمرة والحمرة من زينة الشيطان".
وعن سعيد بن أبي هند قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الحمرة ويحب الخضرة" وعن ابن عمر أنه: "رأى على ابن له ثوبا معصفرا فنهاه وأبصر على أهله ثيابا معصفرة فلم ينههم" رواهن وكيع وهذان المرسلان من وجهين مختلفين وقد اعتضدا بقول الصحابة وذلك يؤكد الاحتجاج بها ويقتضي تعاضدها على الدلالة وأيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن المعصفرة فغيره من الأحمر المشبع أولى بالنهي منه إذ ليس في المعصفر ما يكره منه سوى لونه وليس هو باشدها حمرة فغيره من الأحمر
الذي يساويه في لونه وبريقه أو يزيد عليه أولى أن ينهى عنه والتفريق بينهما تفريق بين الشيئين المتماثلين وذلك غير جائز وأيضا فإن هذا اللون يوجب الخيلاء والبطر والمرح والفخر فكان منهيا عنه كالحرير والذهب ولهذا أبيح هذا للنساء كما أبيح لهن الحرير والذهب.
فأما الخفيف الحمرة مثل المورد ونحوه فقد ذهبت بهجته وتوقده وصار قريبا من الاصفر فلا يكره والأحاديث التي جاءت في الرخصة في الأحمر محمولة على هذا فإنه يسمى احمر وأن كانت حمرته خفيفة وعلى ما يكون بعضه احمر مثل البرود التي فيها خطوط حمر وهذا معنى قولهم حلة حمراء.
وهل هذه كراهة تحريم أو تنزيه فيه وجهان ويبنى على ذلك صحة الصلاة فيه وفيها وجهان.
أحدهما: تصح قاله طائفة من أصحابنا لأنه لم يجيء في ذلك تصريح بالتحريم ولو كان حراما لصرح بتحريمه كما صرح بتحريم الذهب والحرير فإن الفرق بينه وبين الحرير ظاهر في الحديث.
والثاني: لا تصح الصلاة فيه قال ابو بكر يعيد كل من صلى في ثوب نهي عن الصلاة فيه كالمعصفر والأحمر والغصب ونحوه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهيا مطلقا وموجب النهي التحريم لا سيما وقد قرنه بالقسي وبخاتم الذهب فإن ظاهره يدل على أن المعصفر والحرير والذهب من باب واحد كيف وسبب الكراهة فيها واحد
وقد امتنع من رد السلام على لابسها وإنما يترك رد السلام المفروض على المتلبس بمعصية وقد أمر عبد الله بن عمرو باتلافها ولو كان الانتفاع بها جائزا لم يامره باتلاف ماله فعلم أن ذلك كاراقة الخمر وإنما لم ياذن له في الغسل والله أعلم لأن اللون لا يزول بالغسل مرة أو مرتين.
وأما قوله في الرواية الأخرى لما أخبره أنه حرقها: "هلا كسوتها بعض اهلك فإنه لا بأس بذلك للنساء" فيحتمل أن يكون لما استاذن النبي صلى الله عليه وسلم في غسلها ليلبسها بعد الغسل أراد صلى الله عليه وسلم أن يقطع طمعه في اللبس قبل الغسل وبعده وأن يعرفه أن اتلافه المضرج وإخراجه عن ملكه هو الواجب دون الغسل فلما راه قد سمح بذلك قال فإن كنت كذلك فإن تعطيه بعض اهلك خير من أن تتلفه".
فصل.
فأما الاصفر فلا يكره سواء صبغ بزعفران أو غيره وكذلك الأحمر المورد ونحوه نص عليه في مواضع وقال لا بأس بالمورد ومكان يصبغ بالزعفران وقيل الثوب المصبوغ بالزعفران للرجل فلم ير به بأسا وهول قو أكثر أصحابة حتى جعلها الخلال رواية واحدة.
ونقل صالح عنه أنه سأله أيصلي الرجل وعليه القميص المصبوغ بالنشاستج فقال قد: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل ونهى عن المعصفر" فأما النشاستج والزعفران فإن كان شيئا خفيفا فلا بأس وهذا يقتضي كراهة المزعفر وهو قول أبي الخطاب وأبي محمد لما روى أنس ابن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يتزعفر الرجل" رواه الجماعة وفي حديث يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "له وقد احرم في جبة وهو متضمخ بخلوق اغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عبرتك ما كنت صانعا في حجك" متفق عليه.
والأول هو الصحيح لما روي عن ابن عمر أنه: "كان يصبغ بالصفرة وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها" متفق عليه.
ولأبي داود والنسائي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصبغ ثيابه بالخلوق كلها حتى عمامته" ولفظ أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه منها وكان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته" وفي
رواية لأحمد عنه أنه كان يصبغ ثيابه ويدهن بالزعفران وقال كان أحب الإصباغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدهن به ويصبغ به ثيابه وعن قيلة بنت مخرمة: "أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمال مليتين كانتا بزعفران وقد نفضتا" رواه الترمذي وقد تقدم جواز صبغة اللحية بالزعفران وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: "أن يلبس المحرم ثوبا فيه ورس أو زعفران" فدل على أنه لا ينهى عنه غير المحرم وعن يحيى بن عبد الله بن مالك قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ ثيابه بالزعفران حتى العمامة" وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة وعليها عمائم صفر" رواهما وكيع في باب اللباس.
وأما نهيه أن يتزعفر الرجل فالمراد به أن يخلق بدنه بالزعفران فإن طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه وكذلك أمره للذي احرم وعليه جبة وهو متضمخ بخلوق: "أن ينزع عنه الجبة ويغسل عنه أثر الخلوق" وقد
جاء مفسرا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يزعفر الرجل جلده" رواه النسائي
فصل.
ولا بأس بلبس السواد في الحرب وغيرها سواء كان عمامة أو غيرها نص عليه فقال لا بأس بالعمامة السوداء في الحرب وغير الحرب لبس النبي صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء وقال أيضا لا بأس بلبس العمامة السوداء قد لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عمامة سوداء وعم عليا بعمامة سوداء وذلك لما روى جابر قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء" رواه الجماعة إلا البخاري وعن عمرو بن حريث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء" وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحل من شعر اسود" رواهما أحمد ومسلم وعن أم خالد
ابنة سعد بن العاص: "أن النبي صلى الله عليه وسلم البسها بيده خميصة سوداء وقال: "أبلى واخلقي" رواه أحمد والبخاري وقد كره أحمد رضي الله عنه لبس السواد في الوقت الذي كان شعار الولاة والجند واستعفى الخليفة المتوكل من لبسه لما أراد الاجتماع به فأعفاه بعد مراجعة وكان هذا الزي إذ ذاك شعار أهل طاعة السلطان في أمارة ولد العباس رضي الله عنه.
وكان من لم يلبسه ربما اتهم بمعصية السلطان والخروج عليه والقصة في ذلك مشهورة لما أظهر المتوكل أحياء السنة واطفاء ما كان الناس فيه من المحنة وأجاز ابا عبد الله واهل بيته بالجوائز المعروفة وطلب اجتماعه به وكان يرسل إليه يستفتيه ويستشيره فأحب أبو عبد الله أن لا يدخل في شيء من أمر السلطان ولم يقبل الجوائز ونهى أهل بيته عن قبولها ففي تلك المرة استعفى من لبس السواد وسأله رجل عن خياطة الخز الأسود فقال إذا علمت أنه لجندي فلا تخطه وسأله رجل أخيط السواد قال لا وسئل عن المراة تامر زوجها أن يشتري لها ثوب خز اسود فقال هو للمرأة أسهل قيل له فأي شيء ترى للرجل قال لا
يروع به قيل فترى للخياط أن يخيط له قال إذا خاطه فايش قد بقي قد أعانه وقال في رجل مات وترك سوادا وأوصى إلى رجل فقال يحرق حتى لا يروع به مسلم قيل له لصبيان ترى أن يحرق قال يحرقه الوصي وكان يعذر في لبسه من يعلم منه الخير وأنه كالمكره عليه وهذا لأنه كان لباس الولاة والأمراء وأعوانهم مع ما كانوا فيه من الظلم والكبرياء وأخافة الناس وترويعهم ولم يكن يلبسه إلا أعوان السلطان وكان الرجل المسودي إذا رؤي خيف ورعب منه لأنه مظنة الترويع حتى قال بعض أهل العلم يضرب المثل بذلك ترى الرجل مطمئنا ثابت القلب ساكن الأركان فإذا عاين صاحب سواد رعب من سلطانه ودخله من الرعب ما غير لونه ورجف قلبه واسترخت قدماه وذهب فؤاده فلما كان معونة على الظلم والشر وإيذاء المسلمين صارت خياطته وبيعه بمنزلة بيع السلاح في الفتنة وكره أن يلبسه الرجل إذ ذاك لأنه من تشبه بقوم فهو منهم ولأنه يصير بذلك من أعوان الظلمة أو يخاف عليه أن يدخل في أعوانهم.
وفي معنى هذا كل شعار وعلامة يدخل بها المرء في زمرة من تكره طريقته بحيث يبقى كالسيما عليه فإنه ينبغي اجتنابها وإبعادها وكل لباس يغلب على الظن أن يستعان بلبسه على معصية فلا يجوز بيعه وخياطته لمن يستعين به على المعصية والظلم ولهذا كره بيع الخبز واللحم لمن يعلم أنه يشرب عليه وبيع الرياحين لمن يعلم أنه يستعين به على الخمر
والفاحشة وكذلك كل مباح في الأصل علم أنه يستعان به على معصية وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأوقات والأحوال فهذه كراهة لسبب عارض.
فأما لبس الجند أو غيرهم له في دار الحرب أو غيرها إذا لم يكن مظنة الظلم ولا سيما الظلمة فلا يكره البتة.
وكذلك أيضا لو لبست المراة السواد تحد به على ميت أو لبسه الرجل لم يجز لبسه حدادا على الميت لأنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث أيام فهذه كراهة للاحداد حتى لو فرض أن الاحداد كان بلبس القطن أو تغيير الهيئة ونحو ذلك دخل في النهي كما يذكر أن شاء الله تعالى في موضعه.
فصل.
ولا يجوز لبس ما فيه صور الحيوان من الدواب والطير وغير ذلك ولا يلبسه الرجل ولا المرأة ولا يعلق ستر فيه صورة وكذلك جميع أنواع اللباس إلا الافتراش فإنه يجوز افتراشها هذا قول أكثر أصحابنا وهو المشهور عن أحمد قال في رواية صالح الصورة لا ينبغي لبسها وقال في رواية الأثرم وسئل عن الستر عليه يكون صورة قال لا وما لم يكن له
رأس فهو أهون وأن كان له رأس فلا وقال أيضا إنما يكره منها ما علق وقال أيضا إنما يكره ما كان نصبا وإذا كنا تمثالا منصوبا يقطع رأسه وقال في الرجل يصلي وفي كمه منديل حرير فيه صور اكرهه وقال التصاوير ما كره منها فلا بأس وسئل عن الرجل يصلي على مصلى عليه تماثيل فلم ير به باسا وقال أيضا إذا كانت توطأ فلا بأس بالجلوس عليها.
وعنه أن الصور التي على الثياب تكره ولا تحرم قال في رواية وقد سئل عن الوليمة يرى الجدران قد سترت أيخرج قال قد خرج أبو أيوب وعبد الله بن يزيد قيل وإذا رأى على الجدران صورا يخرج فقال نعم قيل له فإن كان في الستر فقال هذا أسهل من أن تكون على الجدران لا تضيق علينا وضحك ولكن إذا رأى هذا وبخهم ونهاهم فقد نص على التفريق بين الصور في الثياب فحرمها في الجدران وكرهها في الثوب.
وكذلك قال ابن أبي موسى جميع التماثيل الصور في الأسرة والقباب والجدران وغير ذلك مكروهة عنده إلا أنها في الرقم أيسر وتركه أفضل وأحسن وكذلك قال ابن عقيل يكره لبس ما فيه صور حيوان ولا
يحرم.
وأما صنعتها واتخاذها في غير الثوب والأبنية ونحوها مثل السقوف والحيطان والأسرة أو اصطناعها مجسدة للبنات أو غير ذلك فيحرم ذلك كله قولا واحدا وسنذكر أن شاء الله تعالى حكم الدخول في بيت فيه صور والصلاة فيه.
ومن أصحابنا من جعل تعليق الستر المصور حراما قولا واحدا وجعل الخلاف في الكرهة أو التحريم في الملابس خاصة.
والصواب أن لا فرق بينهما.
ومن لم يحرم ذلك استدل بما روى أبو طلحة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة إلا رقما في ثوب" فاستثنى الرقم في الثوب وذلك مختص بما رقم في اللباس والستور ونحوها لكن كره ذلك أيضا لأن في الأصل التصوير أنه محرم بالتفاق وليس في الحديث إلا استثناء ما يوجب التحريم وذلك يكون مع الكراهة.
ولما يأتي من الأحاديث الدالة على كراهة الصور المرقومة في الثياب فتحمل تلك الأحاديث على الكراهة وهذا على عدم التحريم
جمعا بينهما.
والفرق بين المرقوم في الثوب وغيره أن الصورة على غيره من الأجسام الصلبة تبقى ثابتة منتصبة على هيئة الصورة التي خلقها الله فتتحقق فيها مفسدة الصور بخلاف الصورة على الثوب فإنها تلتوي وتنطوي ويتغير وضعها بطي الثوب ونشره ولا تبقى على صورة الحيوان الذي خلقه الله وفيه ابتذال لنفس الصورة فأشبهت الصورة التي توطأ وتداس.
ووجه الأول ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة كلب ولا جنب" رواه أحمد وأبو داود وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته" وفي رواية: "ولا صورة إلا طلمستها" رواه مسلم وغيره وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة".
رواه البخاري وعن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل كأنها نمرقة فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه فقلت ما لنا يا رسول الله قال: "ما بال هذه الوسادة" قلت وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها قال: "أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة وأن من صنع هذه الصور يعذب يوم القيامة فيقال احيوا ما خلقتم" متفق عليه وعن عائشة: "أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه قالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما" متفق عليه وفي رواية أحمد: "فقد رايته متكئا على إحداهما وفيها صورة" وعن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه" رواه البخاري وأبو داود واحمد ولفظه: "لم يكن يدع
في بيته ثوبا فيه تصليب إلا نقضه" ورواه البرقاني والإسماعيلي ولفظهما: "لم يكن يدع في بيته سترا أو ثوبا فيه تصاوير إلا نقضه" ورواه الخلال ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى ثوبا فيه تصاوير إلا نقضه" وهذا صريح في النهي عن الثوب والستر ونحوهما وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقال إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن ادخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه في البيت تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فأمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كراس شجرة وأمر بالستر يقطع فيجعل وسادتين توطان وأمر بالكلب يخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد لهم" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وفي رواية النسائي: "استاذن جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادخل فقال كيف ادخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير أما أن تقطع رؤوسها أو تجعل بساطا يوطأ فانا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه تصاوير".
وهذه الأحاديث دالة على أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه صور على الستور والثياب ونحوها وإنما رخص فيما كان يوطأ لحديث عائشة
وأبي هريرة ولأن الصورة تبتذل بذلك وتهان فتزول مظنة تعظيم الصورة التي امتنعت الملائكة من الدخول لأجله.
وأما نفس التصوير عملا واستعمالا فحرام في كل موضع لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال احيوا ما خلقتم" متفق عليه وروى البخاري عن عائشة نحوه وعن سعيد بن أبي الحسن قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني رجل أصور هذه التصاوير فافتني فيها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم" فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له" متفق عليه وفي رواية عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ومن استمع إلى حديث قوم يغرون منه صب في أذنه الانك يوم القيامة" قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وأما حديث أبي طلحة فالأشبه والله أعلم أن ذلك الاستثناء فيه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإن ابن عباس روى عن أبي طلحة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" وفي رواية: "ولا تماثيل" وفي رواية: "ولا تصاوير" قال بعض الرواة يريد صور التماثيل التي فيها ارواح متفق عليه وكذلك مسلم من حديث سعيد بن يسار عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل" فلو كان أبو طلحة قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إلا رقما في ثوب" لما جاز له أن يروي اللفظ العام دون ما استثنى منه ولو رواه كذلك لحفظه عنه مثل ابن عباس وغيره فعلم أن حديثه عام كما أن أحاديث علي وأبي هريرة وعائشة عامة أيضا وأن الصور التي على الثياب من الستور ونحوها مقصودة من هذا العام فإن تلك أحاديث صريحة في هذا وقد ذكر فيها الستر والثياب يبين ذلك أن حديث الاستثناء مبهم محتمل إذا سيق بلفظه عن بسر بن سعيد عن
زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" قال بسر بن سعيد ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة قال فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم الم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول قال عبيد الله الم تسمعه حين قال إلا رقما في ثوب فهذه الزيادة لم يقلها زيد كما قال أول الحديث وإنما خفض به صوته حتى سمعها عبيد الله دون بسر بن سعيد فلعله قالها من عنده ولم يرفعها في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكثيرا ما يدرج المحدث في حديثه زيادة يحسب المستمع أنها مسوقة عمن حدث عنه يؤيد ذلك أنه اعتقد رقم الستور من جملة المستثنى منه وقد صحت الأحاديث الصحيحة الصريحة أنها من جملة التي قصدت بالحديث وبان الملائكة لا تدخل بيتا هي فيه وقد روى غير واحد الحديث عن أبي طلحة دون هذه الثنيا.
وان كانت هذه الزيادة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بها والله أعلم ما رقم من الصور التي لا روح فيها أو كان يوطا ويداسس من الصور في الثياب كما جاء ذلك مفسرا بالأحاديث الاخر وقد روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده فوجد
عنده سهل بن حنيف قال فدعا أبو طلحة إنسان ينزع نمطا تحته فيه تصاوير فقال له سهل لم تنزعه قال لأن فيه تصاوير وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "ما قد علمت قال سهل أو لم يقل إلا ما كان رقما في ثوب قال بلى ولكنه أطيب لنفسي" رواه مالك واحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح فهذا الحديث قد قال فيه ابن عبد البر هو منقطع غير متصل لأن عبيد الله بن عبد الله لم يدرك سهل بن حنيف ولا أبا طلحة ولا حفظ عنهما ولا له عن أحدهما: سماع ولا له سن يدركهما به ولا خلاف أن سهل ابن حنيف مات سنة ثمان وثلاثين بعد شهود صفين وصلى عليه علي وكبر عليه ستا وليس كما قال ابن عبد البر.
فهذا الحديث يقتضي أن أبا طلحة علم أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الرقم في الثوب وليس فيه أنه سمعه منه فيجوز أن يكون المستثنى ما كان من الثياب يوطأ ويداس أو أن تلك التصاوير لم تكن صور ما فيه روح كما فسرته سائر الأحاديث.
فصل.
فأما تمثيل غير الصورة فلا بأس به قال أحمد وقد سئل عن الثوب الذي عليه تماثيل لا بأس بذلك لأن النهي إنما جاء في الصورة
وكذلك الحيوان إذا قطع رأسه أو طمس لم يبق من الصور المنهي عنها قيل لأحمد في الرجل يكتري البيت فيه تصاوير يحكه قال نعم قيل له وأن دخل حماما ورأى صورة حك الرأس قال نعم وقال إذا كان تمثالا منصوبا يقطع رأسه وسئل عن الوصي يشتري للصبية إذا طلبت منه لعبة فقال إذا كانت صورة لم يشترها فقيل له إذا كانت يدا ورجلا فقال يحك منه كل شيء له رأس فهو صورة قيل له فعائشة تقول كنت العب بالبنات قال نعم وقال أيضا لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة فإذا كان صورة فلا وقال أيضا الصورة الرأس وقال بعض أصحابنا: إذا قطع رأس الصورة أو لم يكن لها رأس جاز لبس ما فيه ذلك مع الكراهة وقد اوما أحمد إلى ذلك فإنه سئل عن الستر يكون عليه صورة قال لا وما لم يكن له رأس فهو أهون وأن كان له رأس فلا وذلك لأن سائر الأعضاء ابعاض الحيوان ففي إبقائها إبقاء لبعض الصورة لكن لما كان الحيوان لا تبقى فيه حياة بدون الرأس كان بمنزلة الشجر فزال عنه التحريم وبقيت فيه الكراهة.
ووجه الأول حديث أبي هريرة المتقدم فإن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم
برأس التمثال الذي في البيت أن يقطع ويصير كهيئة الشجرة" فعلم أن الكراهة تزول بذلك وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس بصورة" رواه الخلال وأبو حفص وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تلعب البنات وتصنع لها لعبا تسميها خيل سليمان وإنما ذلك لأنه لم يكن لها رؤس ولأن ما ليس له رأس لا يكون فيه حياة ولا روح ولا نفس وإنما هو بمنزلة الشجر ونحوها والنهي إنما كان عن تصوير ذوات الأرواح كما تقدم ولهذا لم يكره أصحابنا تمثيل ما لا روح له كالارتج والنارتج والشجر ونحوها كما نص عليه أحمد فإنه لم يكره إلا الصورة لأن النهي إنما جاء فيها خاصة.
وكره بعض أصحابنا التصليب في الثوب وفسره بصورة الصليب الذي تعظمه النصار وحمل حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه على ذلك ولأن هذا الشكل تعظمه النصارى
ويعبدونه فصار بمنزلة الأصنام التي كان المشركون يعظمونها فكره لما فيه من التشبه بهم وكلام أحمد يدل على أنه لا يكره من التماثيل سوى الصورة وكذلك كلام سائر أصحابنا فانهم قالوا بلا بأس بلبس ما فيه التماثيل التي لا تشبه ما فيه الروح وفسر القاضي وغيره حديث عائشة بالتصاوير كما رواه الخلال.