الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البراهين المعتبرة في هدم قواعد المبتدعة
تأليف الشيخ عبد العزيز بن محمد المديهش
توفي سنة (1350 هـ)[*]
تحقيق وعناية
إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن المديهش
عضو هيئة التدريس في كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن مسعود
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كان بالمطبوع (1351 هـ تقريبا)، وقد أصلحها المحقق - جزاه الله خيرا- بالمثبت أعلاه
حقوق الطبع محفوظة للمحقق
الطبعة الأولى
ربيع الأول - 1434 هـ
البراهين المعتبرة في هدم قواعد المبتدعة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
وتشتمل على:
أهمية الرد على المخالف في أصول الدين
التعريف بالمؤلِّف
التعريف بالمؤلَّف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
فَإنَّ مِنَ النَّصِيحةِ لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ الردَّ على أهل الأهواء والبدع، وبيانَ باطلهم، ومقارعتهم بالحجة والبيان من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بفهم سلفِ هذه الأمة خيرِ القرون، ومن اتبعهم بإحسان.
والمخالفُ في أصْلٍ مِن أُصُوْلِ الدِّين ما خَالَف إلا بإعراضِهِ عن ألفاظ النصوص الشرعية، أو معانيها؛ بتأويلها، وتحريفها؛ وما ساء فهمه وعظم غلطه إلا بإعراضه عن فهم خير القرون، ومن اتبعهم على هُدَى وعلم، وتلَقُّفِهِ الدِّيْنَ عَنْ أهْلِ الأهواء والكلام
…
ومن أعظم مراصد الشيطان لابن آدم مخالفة الدين بشبهة، يتبعها شبهة أخرى تقول: أختي أختي، والبدعة بريد الكفر ..
يترصد لابن آدم في هذا الباب؛ بدءاً من تلقفه شبهة المبتدع، وتزيينها، ثم تنميتها، فنشرها نشراً، حتى ليظن العامة أنها الحق الذي لامرية فيه، ولَشُبْهَةٌ واحِدةٌ لِبدعَةٍ ضَلَالَةٍ، أحبُّ إلى الشيطان من آلاف المعاصي الشهوانية؛ لأن الثانية أحرى أن يتوب صاحبها ويؤوب؛ والأُولى يظن صاحبها أنه في قربة وزلفى إلى الله
…
فخطر المبتدعة أعظم من خطر أهل الملل؛ من جهة عظم الفتنة بهم، والتباس أمرهم على العامة (1).
لذا، يُعتبَر من «شعائر علماء الأمة الإسلامية، ووظائفهم المِلِّيَّةِ، وأصولهم التعبدية «مشروعية الرد على كل مخالف بمخالفته» ، وأخذه بذنبه، وإدانته بجريرته، ولايجني جانٍ إلا على نفسه.
كلُّ هذا؛ لحراسة الدين، وحمايته من العاديات عليه، وعلى أهله من خلال هذه الوظيفة الجهادية التي دأبها: الحنين إلى الدين، والرحمة بالإنسانية، لتعيش تحت مظلته، تكفُّ العدوان، وتصدُّ المعتدين، وتقيمُ سوق الأمر بالمعروف ورأسه «التوحيد» ، والنهي عن المنكر، وأصله
(1) ينظر: «دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون» د. حمد العثمان (ص 125)، المطبوعة في ذيل كتابه «الصوارف عن الحق» ـ ط. الدار الأثرية ـ.
«الشرك» ؛ وتحافظ على وَحْدَةِ الصفِّ، وجمع الكلمة، تقيم طَوْلَ الإسلام، وَقُوْتَهُ، وظُهُورَه على الدين كلِّه ولو كرِهَ المشركون.
وتحطِّمُ الأهواء ولو كَرِهَ المبتدعون.
والفجور ولو كره الفاسقون.
والجور ولو كره الظالمون» (1).
وهذه الشعيرة العظيمة من أعظم الجهاد في سبيل الله، قال ابن تيمية رحمه الله:(الراد على أهل البدع مُجَاهِدٌ، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد)(2). ا. هـ
وقال ابن القيم رحمه الله: (فَجِهَادُ المُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَوَرَثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ، وَالمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَقَلِّينَ عَدَداً، فَهُمُ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّه قَدْراً)(3).
(1) بتصرف من كتاب «الرد على المخالف من أصول الإسلام» للشيخ: بكر أبو زيد رحمه الله (ص 5).
(2)
«مجموع الفتاوى» (4/ 13).
(3)
«زاد المعاد» (3/ 5).
قال ابن تيمية رحمه الله: (فالمُرصِدُونَ لِلْعِلْمِ عَلَيْهِمْ لِلْأُمَّةِ حِفْظُ عِلْمِ الدِّينِ وَتَبْلِيغُهُ؛ فَإِذَا لَمْ يُبَلِّغُوهُمْ عِلْمَ الدِّينِ أَوْ ضَيَّعُوا حِفْظَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) فَإِنَّ ضَرَرَ كِتْمَانِهِمْ تَعَدَّى إلَى الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا فَلَعَنَهُمْ اللَّاعِنُونَ حَتَّى الْبَهَائِمُ. كَمَا أَنَّ مُعَلِّمَ الْخَيْرِ يُصَلِّي عَلَيْهِ اللهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ) (2).
وقال رحمه الله: (وإذا كان الرجل مبتدعاً يدعو إلى عقائدَ تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقاً يخالف الكتاب والسنة، ويُخافُ أن يُضلَّ الناس بذلك، بُيِّنَ أمرُه للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله، وهذا كلُّه يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاءِ وجه الله تعالى، لا لهوى الشخص مع الإنسان، مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساويه، مظهراً للنصح، وقصده في الباطن الغضُّ
(1) سورة البقرة، آية (159).
(2)
«مجموع الفتاوى» (28/ 187).
من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى بل يكون الناصح قصده أن يصلح الله ذلك الشخص وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم.) (1) ا. هـ.
وقال رحمه الله:
(وَإِذَا كَانَ النُّصْحُ وَاجِبًا فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ: مِثْلَ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَغْلَطُونَ أَوْ يَكْذِبُونَ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت مَالِكاً وَالثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ ـ أَظُنُّهُ ـ وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ فِي الْحَدِيثِ أَوْ لَا يَحْفَظُ؟ فَقَالُوا: بَيِّنْ أَمْرَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيَّ أَنْ أَقُولَ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا. فَقَالَ: إذَا سَكَتّ أَنْتَ وَسَكَتّ أَنَا فَمَتَى يُعْرَفُ الْجَاهِلُ الصَّحِيحُ مِنْ السَّقِيمِ. وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ المُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؟ فَقَالَ: إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا
(1)«مجموع الفتاوى» (28/ 221).
هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا أَفْضَلُ.
فَبَيَّنَ أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيلِ الله وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ وَلَوْلَا مَنْ يُقِيمُهُ الله لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّينُ وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ فَسَادِ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا اسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعاً وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ ابْتِدَاءً. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} (1) فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ كَمَا ذَكَرَهُ. فَقِوَامُ الدِّينِ بِالْكِتَابِ الْهَادِي وَالسَّيْفِ النَّاصِرِ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (2).
(1) سورة الحديد، آية (25).
(2)
سورة الفرقان، آية (31).
وَالْكِتَابُ هُوَ الْأَصْلُ؛ وَلِهَذَا أَوَّلُ مَا بَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ؛ وَمَكَثَ بِمَكَّةَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى هَاجَرَ وَصَارَ لَهُ أَعْوَانٌ عَلَى الْجِهَادِ.
وَأَعْدَاءُ الدِّينِ نَوْعَانِ: الْكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ، وَقَدْ أَمَرَ الله نَبِيَّهُ بِجِهَادِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (1) فِي آيَتَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ.
فَإِذَا كَانَ أَقْوَامٌ مُنَافِقُونَ يَبْتَدِعُونَ بِدَعًا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَيُلْبِسُونَهَا عَلَى النَّاسِ وَلَمْ تُبَيَّنْ لِلنَّاسِ: فَسَدَ أَمْرُ الْكِتَابِ وَبُدِّلَ الدِّينُ؛ كَمَا فَسَدَ دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّبْدِيلِ الَّذِي لَمْ يُنْكَرْ عَلَى أَهْلِهِ. وَإِذَا كَانَ أَقْوَامٌ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ لَكِنَّهُمْ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ، قَدْ الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ حَتَّى ظَنُّوا قَوْلَهُمْ حَقًّا؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَصَارُوا دُعَاةً إلَى بِدَعِ المُنَافِقِينَ كَمَا قال تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (2) فَلَا بُدَّ أَيْضاً مِنْ بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ الْفِتْنَةُ بِحَالِ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ فَإِنَّ فِيهِمْ إيمَانًا يُوجِبُ مُوَالَاتَهُمْ وَقَدْ
(1) سورة التوبة، آية (73)، وسورة التحريم، آية (9).
(2)
سورة التوبة، آية (47).
دَخَلُوا فِي بِدَعٍ مِنْ بِدَعِ المُنَافِقِينَ الَّتِي تُفْسِدُ الدِّينَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْذِيرِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَهُمْ وَتَعْيِينَهُمْ؛ بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الْبِدْعَةَ عَنْ مُنَافِقٍ؛ لَكِنْ قَالُوهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا هُدًى وَأَنَّهَا خَيْرٌ وَأَنَّهَا دِينٌ؛ وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بَيَانُ حَالِهَا.
وَلِهَذَا وَجَبَ بَيَانُ حَالِ مَنْ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ وَمَنْ يَغْلَطُ فِي الرَّأْيِ وَالْفُتْيَا وَمَنْ يَغْلَطُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ؛ وَإِنْ كَانَ المُخْطِئُ الْمُجْتَهِدُ مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ. فَبَيَانُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاجِبٌ؛ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ. وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ السَّائِغُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّأْثِيمِ لَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ؛ بَلْ يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مُوَالَاتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ مِنْ حُقُوقِهِ: مِنْ ثَنَاءٍ وَدُعَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَإِنْ عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ كَمَا عُرِفَ نِفَاقُ جَمَاعَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِثْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي وَذَوِيهِ وَكَمَا عَلِمَ المُسْلِمُونَ نِفَاقَ سَائِرِ الرَّافِضَةِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ وَأَمْثَالِهِ: مِثْلَ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبِ؛ فَهَذَا يُذْكَرُ بِالنِّفَاقِ. وَإِنْ أَعْلَنَ بِالْبِدْعَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا ذُكِرَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْفُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا قَاصِداً بِذَلِكَ وَجْهَ الله تَعَالَى وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَأَنْ
يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله.
فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ كَانَ آثِمًا. وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَالشَّاهِدُ وَالْمُفْتِي كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ» وَقَدْ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1) وَ «اللَّيُّ» هُوَ الْكَذِبُ وَ «الْإِعْرَاضُ» كِتْمَانُ الْحَقِّ.
وَمِثْلُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا؛ وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» .
ثُمَّ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ فَلَوْ تَكَلَّمَ بِحَقِّ لَقَصَدَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ أَوْ الْفَسَادَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَرِيَاءً.
(1) سورة النساء، آية (135).
وَإِنْ تَكَلَّمَ لِأَجْلِ الله تَعَالَى مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ كَانَ مِنْ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الله مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ.
وَلَيْسَ هَذَا الْبَابُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ: «الْغِيبَةُ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» فَإِنَّ الْأَخَ هُوَ المُؤْمِنُ وَالْأَخُ المؤمِنُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي إيمَانِهِ لَمْ يَكْرَهْ مَا قُلْته مِنْ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَوِيهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ وَيَكُونُ شَاهِدًا لله وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ أَقْرَبَيْهِ وَمَتَى كَرِهَ هَذَا الْحَقَّ كَانَ نَاقِصًا فِي إيمَانِهِ يَنْقُصُ مِنْ أُخُوَّتِهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ كَرَاهَتَهُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي نَقَصَ مِنْهَا إيمَانُهُ؛ إذْ كَرَاهَتُهُ لِمَا لَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ تُوجِبُ تَقْدِيمَ مَحَبَّةِ الله وَرَسُولِهِ كَمَا قال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (1).
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ: هَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِيثِ الْغِيبَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَقَدْ يُقَالُ: دَخَلَ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ خَصَّ مِنْهُ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ وَالْعُمُومَ المَعْنَوِيَّ وَسَوَاءٌ زَالَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعِهِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ.
(1) سورة التوبة، آية (62).