المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ شدة الخوارج في القتال - البراهين المعتبرة في هدم قواعد المبتدعة

[عبد العزيز المديهش]

الفصل: ‌ شدة الخوارج في القتال

وأرهقوا الولاة، والعلماء، والديار؛ فكفَّروا المسلمين، ومن ثمَّ سفكوا دماءهم، واستحلوا أموالهم ..

ومن أسباب تكفيرهم المسلمين: زعمهم أنَّهم لم يهاجروا من البادية إلى القرى!

وكذا من قدم من «عقيلات» من خارج الجزيرة، لأنهم جاؤوا من الكفار، فهم كفار!

ولهم بسالة وشجاعة وإقدام، كما هو حال سلفهم «الخوارج» في كل قرن (1)، من لدن القرن الأول إلى زماننا ـ نسأل الله أن يقي المسلمين

= لابن سحمان (ص 46)، «الاخوان في المملكة

بقلم أحد الغربيين» ترجمة: د. عبدالله النفيعي (ص 33)، والخاتمة، وفي بعض معلومات الكتاب نظر، «الخبر والعيان في تاريخ نجد» لخالد الفرج، تحقيق: الشقير (ص 477، 513)، و «تاريخ هجر» لعبدالرحمن آل ملا (2/ 368)، «من سوانح الذكريات» للعلامة: حمد الجاسر (1/ 222)، و «جزيرة العرب» لحافظ وهبة (ص 373)، و «نشأة الإخوان والأرطاوية» لعبدالله الماضي، «الدعوة الوهابية» ديفيد كمنز (ص 138)].

(1)

قال ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (12/ 291): (مع ما عرفَ من‌

‌ شدَّةِ الْخَوَارِجِ فِي الْقِتَالِ

، وَثَبَاتِهِمْ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى المَوْتِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكرَ أَهلُ الْأَخْبارِ من أُمُورهم تحقَّق ذَلِك). =

ص: 88

شرَّهم، ويقطع دابرهم ـ.

هذه الأسباب زادت من تداول هذه المسألة.

والمؤلف رحمه الله لم يخرج في رَدِّهِ، واختِيَارِهِ عمَّا قرَّرَهُ عُلماءُ الدَّعوةِ وأتباعُهُم ـ رحمهم الله تعالى ـ.

وهذه المسألة تدور حول أبواب كبيرة من أبواب الاعتقاد:

1.

أصلها من باب أوثق عرى الإيمان: الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين (1).

= قال ابن عبدربه في «العقد» ـ ط. المصرية ـ (5/ 118): (وليس في الفرق كلِّها وأهلِ البدع أشدُّ بصائر من الخوارج، ولا أكثر اجتهاداً، ولا أوطن أنفساً على الموت؛ فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول: عجلت إليك ربّي لترضى).

وانظر: «البداية والنهاية» (9/ 12)، و «الخوارج» لعمر أبو النصر (ص 89)، «تاريخ المذاهب الإسلامية» لأبي زهرة (1/ 66)، «الخوارج .. » للسعوي (ص 193 ـ 195)، «الخوارج .. » د. غالب عواجي (ص 231 ـ 239)، «الخوارج .. » د. أحمد عوض (ص 63 ـ 67).

(1)

ينظر: مواضع عديدة في «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» ، و «أوثق عُرى الإيمان» للشيخ المحدث: سليمان بن عبدالله بن الإمام محمد بن عبدالوهاب، طبع ضمن مجموع رسائله بتحقيق الشيخ د. الوليد الفريان ـ وقد نقل منها المؤلِّف المديهش كما في =

ص: 89

2.

وعليه: فالهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد الإسلام، باقية إلى قيام الساعة (1)،

وهي واجبة إلا لمن قدر على إظهار دينه، بشرط أمن الفتنة (2).

= (ص 309) ـ، «سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك» للشيخ العلامة: حمد بن علي بن عتيق (1301 هـ)، «تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران» للشيخ: حمود التويجري، «الولاء والبراء» د. محمد بن سعيد القحطاني، و «الموالاة والمعاداة» لمحماس الجلعود، و «حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسنة بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين» د. عصام السناني.

(1)

كُتب في المسألة رسائل، وأفضل من بين مسألة السفر إلى بلاد المشركين، ومسألة الهجرة، وضابط إظهار الدين بين المشركين هو الشيخ المحدث: إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب في رسالته «الأجوبة السمعيات لحل الأسئلة الروَّافيَّات» طبعت حديثاً بتحقيق: عادل بن بادي المرشدي ـ ط. دار أطلس الخضراء في الرياض ـ.

وقد سبق أن طُبعت ضمن «الدرر السنية» (12/ 393 ـ 460)، وفيه سقط في مواضع كما بين محقق الأجوبة، وطبعت مفردة بعنوان من تصرف محققها وناشرها الشيخ: إسماعيل بن سعد ين عتيق، عنون لها ب «سلوك الطريق الأحمد» .

قال الشيخ: إبراهيم ابن عبيد آل عبدالمحسن في «تذكرة أولي النهى والعرفان» (1/ 377) عن إسحاق بن عبدالرحمن: (وغالب مؤلفاته فيما يتعلق بالإقامة بين أظهر المشركين، والسفر إلى بلدان أعداء الملة والدين، والهجرة، والولاء والبراء). =

ص: 90

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وذكر ابن سحمان في كتابه «منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع» (ص 102) بعض العلماءَ الذين كتبوا في المسألة.

وانظر: [«أحاديث الهجرة ـ جمع، وتحقيق، ودراسة ـ» د. سليمان بن علي السعود، «دراسات فقهية ـ مجموعة بحوث للدكتور: نزيه حمَّاد، منها بحث عن الهجرة والأحكام المتعلقة بها في الفقه (ص 157 ـ 201)، «إعلام الزمرة بأحكام الهجرة» للشيخ: حماد الأنصاري، «الفصل المبين في مسألة الهجرة ومفارقة المشركين» لحسين ابن عودة العوايشة، «أسنى المطالب في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر» للونشريسي المالكي، وهي في «المعيار المعرَّب» له (2/ 119)، «إرشاد الأخيار إلى وجوب الهجرة من بلاد الكفار» لعبدالكريم بن أحمد العَمْري، «رسالة في التحذير عن السفر إلى بلاد المشركين، ويليها رسالة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» للشيخ: حمد بن علي بن عتيق (ت 1301 هـ)، «الجيوش الربانية في كشف الشبه العَمْرِيَّة» للشيخ: سليمان بن سحمان (ت 1349 هـ)، «الجواب الفائض لأرباب القول الرائض» لابن سحمان ـ وكلاهما رد على عبدالله بن عمرو، وله رد ثالث سماه بعضهم «القول المنيف في الرد على ابن عمرو» ينظر مقدمة الشيخ: سليمان الخراشي لكتاب «الجيوش الربانية» ، «الهجرة إلى بلاد غير المسلمين ـ حكمها، وضوابطها، وتطبيقاتها» لعماد بن عامر، رسالة ماجستير من الجزائر ـ ط. دار ابن حزم ـ، وقد أخطأ في تجويزه السفر إلى بلاد المشركين لغير حاجة، والحصول على =

ص: 91

3.

وأُلْحِقَ بدار الكفر دار البدعة والفسق، إذا لم يقدر المؤمن على إظهار السُّنَّة فيها (1).

4.

ودار الكفر عند أئمة الدعوة هي الدار التي يجري عليها أحكام الكفار، ولو كان أهلها مسلمين، فالبلاد التي لايطبَّق فيها شرع الله، ممن

= جنسية دولة كافرة، «الدرر السنية» (2/ 269)، (8/ 305)، (12/ 393)، (15/ 481)].

(2)

ينظر: «المغني» (10/ 515)، «سبيل النجاة والفكاك» لحمد بن عتيق (ص 98)(ص 102)، «مجموع رسائل وفتاوى حمد بن معمر» (ص 127)، «الأجوبة السمعيات» (ص 97، 142)، «منهاج أهل الحق والاتباع» (ص 83)، «الدرر السنية» (8/ 304، 335، 361، 457)، و (12/ 398، 403، 420)، «مجموع الرسائل والمسائل النجدية» (3/ 32)، وكلام الشيخ العلامة: محمد بن عبدالله بن سليم فيما نقله عنه المؤلف المديهش (ص 307).

(1)

وانظر: «كشاف القناع» للبهوتي ـ ط. العدل ـ (7/ 259 ـ 260)، وسيأتي النقل منه، «المنهاج في شعب الإيمان» للحليمي (2/ 183)، «تحفة المنهاج» (12/ 110)«شرح منتهى الإرادات» للبهوتي (2/ 94)، «عارضة الأحوذي» لابن العربي (7/ 88)، «السيل الجرار» للشوكاني (4/ 576)، الأجوبة السمعيات» لإسحاق ابن عبدالرحمن (ص 91) وما بعدها، «مجموع الرسائل والمسائل النجدية» (3/ 34).

ص: 92

استولى عليها أهل القبور والأوثان، أو ما يسمى بالمستعمرات الأجنبية، هذه تعتبر عند أئمة الدعوة «دار كفر» (1).

5.

وضابط إظهار الدين: الدعوة إلى توحيد الله تعالى، والتحذير من الشرك، وإظهار العداوة للكافرين، وإعلان البراءة منهم ومن شركهم، حتى يَدَعُوا ما هم عليه، مع مباينتهم وعدم الخلطة معهم.

إضافة إلى إظهار العبادات: كالصلاة، والصيام، وغيرها.

وردُّوا على مَنْ قَصَرَ إظهار الدِّين على إظهار العبادات فقط (2).

(1)«الأجوبة السمعيات» (ص 70 وما بعدها)، «مجموع الرسائل والمسائل النجدية» (3/ 203، 255)،

وانظر: بحث بعنوان «تحديد بلد الكفر والعلاقة بالكافرين» د. حسن العواجي (ص 99) المنشور في «مجلة الدراسات العقدية» التابعة للجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة (عدد 3)، (محرم 1431 هـ).

و«اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة» د. عبدالعزيز بن مبروك الأحمدي ـ رسالة دكتوراه ـ ط. الجامعة الإسلامية في مجلدين، انظر فيها (2/ 170)، وغيرها.

(2)

ينظر: «الأجوبة السمعيات» لإسحاق بن عبدالرحمن (ص 77)، و «الجيوش الربانية» لابن سحمان (104، 119).

ص: 93

6.

وذكروا أن إظهار الدين في تلك الديار على الوجه الصحيح الذي بيَّنوه، مما لايمكن تطبيقه في ذلك الزمن، والمظهر لدينه إما أن يُخْرَجَ، وإما أن يُعَذَّبَ، أو يُقْتَلْ (1).

7.

وبيَّنُوا أن أكثر المسافرين إلى تلك الديار للتجارة وغيرها، هم أكثر إثماً من المسلمين المقيمين من أهلها، الذين لم يتمكنوا من إظهار الدين.

8.

وذكروا أن غالب المسافرين إلى تلك الديار ـ في زمانهم ـ، لم يكونوا ممن يظهرون دينهم (2).

هذه خُلاصَةٌ مُوْجَزَةٌ في نُقَاطٍ، مِمَّا فَهِمْتُهُ من كُتبِ أئِمَّةِ الدَّعوَة.

وربما ينعت بعض المتعجلين هذه الاختيارات العلمية بالتعنُّت، وما علِمَ أن أئمة الدعوة يعلمون من ملابسات الموضوع، وخفاياه، وتبعاته، ما

(1) ينظر: كلام المؤلف المديهش (ص 433)، و «الأجوبة السمعيات» لإسحاق بن عبدالرحمن (ص 91 ـ 92، 110)، «سبيل النجاة والفكاك» لحمد بن عتيق (ص 102)، «الجيوش الربانية» لابن سحمان (ص 105)، و «الدرر السنية» (8/ 335).

(2)

«الأجوبة السمعيات» لإسحاق بن عبدالرحمن (ص 91، 110)، و «سبيل النجاة والفكاك» لحمد بن عتيق (ص 102)، و «الدرر السنية» (8/ 341).

ص: 94

لايعلمه مَن جاء بعدهم؛ لمعايشتهم أهل ذلك الزمان، وعلمهم بوقائع متواترة؛ فجاءت اختياراتهم؛ لظواهر النصوص الشرعية، وإعمال المصالح والمفاسد، وقياماً بما تقتضيه السياسة الشرعية، وسداً للذريعة الموصلة إلى وَهَنِ الدِّين، واختلاطه، وفساده، ومن مجموع هذه الأنظار وغيرها، جاءت تحقيقاتهم قويمة في ألفاظها، سديدة في معانيها؛ للأمن العقدي، والفكري؛ ولتقوية بلدان أهل السنة والجماعة.

قال الشيخ: عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ رحمه الله في معرض تعداده لأوجه التحريم في مسألة السفر إلى بلاد المشركين: (إن سَدَّ الذرائع، وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده؛ وقد رتَّبَ العلماء على هذه القاعدة، من الأحكام الدينية تحليلاً وتحريماً، ما لا يحُصَى كثرةً، ولا يخفى على أهل العلم والخبرة.

وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية ـ قدَّسَ اللهُ رُوْحَهُ ـ لهذه القاعدة في كتاب التوحيد، فقال:«باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك» ، وساق بعض أدلة هذه القاعدة.

ص: 95

وقد قرأتَ (1) علينا في الرسالة المدنية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أن اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك، قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك.

ولو أفتينا بتحريم السفر، رعاية لهذا الأصل فقط، وسداً لذرائعه المفضية، لكنا قد أخذنا بأصل أصيل، ومذهب جليل) (2).

وسأعرض بعد هذه الخلاصة كلاماً موجزاً من كُتُبِهِمْ رحمهم الله.

ولأنَّ المسألة ـ في عصرنا هذا ـ لها تَفْصيْلاتٌ أكْثرُ تعْقِيدَاً؛ فإنِّي أعرضُ كلامَ أئمة العلم والفتيا في زماننا ـ، خاصةً: ما حرَّرَهُ فقيه العصر الشيخ الإمام: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في فتوى مُقَيَّدَةٍ بِقَلَمه، مُفَصَّلَةٍ مُقَسَّمَةٍ، جَامِعَةٍ شَعَثَ أجزاء المسألة ـ فرحمه الله رحمةً واسعة ـ.

أجمع أهل العلم على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، حكى الإجماع ابنُ كثير في «تفسيره» (2/ 389)، وابن هبيرة في «الإفصاح» (9/ 162)، وانظر:«الأجوبة السمعيات» (ص 82).

(1) هذا الجواب من رسالة كتبها الشيخ العلامة: عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب، إلى الشيخ: إبراهيم بن عبدالملك رحمهم الله.

(2)

«الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (8/ 336)، «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية» (3/ 33).

ص: 96

وقال البهوتي رحمه الله: [«وتكره التجارة والسفر إلى أرض العدو، وبلاد الكفر مطلقاً» أي: مع الأمن والخوف، «وإلى بلاد الخوارج، والبغاة، والروافض، والبدع المُضِلَّة، ونحو ذلك»؛ لأن الهجرة منها ـ أن لو كان فيها ـ مُستَحبَّةٌ إنْ قَدِرَ عَلى إظهار دِيْنِه، «وإن عَجَزَ عن إظهار دينه فيها؛ حَرُمَ سَفَرُهُ إليها»؛ لأنه تعريضٌ بنفسه إلى المعصية](1).

وقال الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله: وما ذكرت من حال من يكون بين ظهراني المشركين، فإن كان يقدر على إظهار التوحيد، بحيث يظهر لهم القول بأن هذه الأمور الشركية، التي تفعل عند القبور وغيرها، باطل وضلالة، وأنا بريء منه وممن يفعله، فمثل هذا لا تجب عليه الهجرة. وإن كان لا يقدر على إظهار ذلك، مع اعتقاد بطلانه، وأنه الشرك العظيم، فهذا ترك واجباً عليه، ولا يكفُر بذلك (2).

قال الشيخ العلامة: حمد بن علي بن عتيق (ت 1301 هـ تقريباً) رحمه الله في مسألة إظهار الدين: [إنَّ كثيراً من الناس، قد ظن أنه إذا قدر على أنْ يتلفَّظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلوات، ولا يرد عن المساجد،

(1)«كشاف القناع» ـ ط. العدل ـ (7/ 259 ـ 260).

(2)

«الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (8/ 295).

ص: 97

فقد أظهر دينه وإن كان مع ذلك بين المشركين، أو في أماكن المرتدين. وقد غلطوا في ذلك أقبح الغلط.

فاعلم أنَّ الكفرَ له أنواعٌ وأقسامٌ تتعدَّدُ بِتَعدُّد المكفرات، وقد تقدم بعض ذلك، وكلُّ طائفة من طوائف الكفر فلا بد أن يشتهر عندها نَوعٌ منه، ولا يكون المسلم مُظهِراً لدينه، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عندها، ويُصرِّح لها بعداوته، والبراءة منه، فمن كان كفره بالشرك، فإظهار الدين عنده التصريح بالتوحيد، أو النهي عن الشرك والتحذير منه، ومن كان كفره بجحد الرسالة، فإظهار الدين عنده التصريح بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى اتباعه. ومن كان كفره بترك الصلاة، فإظهار الدين عنده فعل الصلاة، والأمر بها، ومن كان كفره بموالاة المشركين والدخول في طاعتهم، فإظهار الدين عنده التصريح بعداوته، والبراءة منه ومن المشركين.

وبالجملة فلا يكون مظهراً لدينه، إلا من صرَّح لمن ساكنه من كل كافر ببراءته منه، وأظهر له عداوته لهذا الشيء الذي صار به كافراً، وبراءته منه، ولهذا قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: عابَ ديننَا وسفَّهَ أحلامَنا، وشتمَ آلهتنا.

ص: 98

وقال اللهُ تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} (1)

فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: (يا أيها الناس .. ) إلى آخره، أي: إذا شككتم في الدين الذي أنا عليه، فدينكم الذي أنتم عليه أنا بريء منه، وقد أمرني ربي أن أكون من المؤمنين الذين هم أعداؤكم، ونهاني أن أكون من المشركين الذين هم أولياؤكم.

وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} (2) إلى آخر السورة.

فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: دينكم الذي أنتم عليه، أنا بريء منه، وديني الذي أنا عليه أنتم برآء منه. والمراد: التصريح لهم بأنهم على الكفر، وأنه بريء منهم ومن دينهم.

(1) سورة «يونس» ، آية (104 ـ 106).

(2)

سورة «الكافرون» .

ص: 99

فمن كان متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يقول ذلك، ولا يكون مظهراً لدينه إلا بذلك، ولهذا لما عمل الصحابة بذلك، وآذاهم المشركون، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، ولو وجد لهم رخصة في السكوت عن المشركين، لما أمرهم بذلك إلى بلد الغربة.

إلى أن قال:

والمقصود منه: أن الرجل لا يكون مظهراً لدينه حتى يتبرأَ من أهل الكفر الذي هو بين أظهرهم، ويصرِّح لهم: بأنهم كفار، وأنه عدوٌ لهم، فإن لم يحصل ذلك لم يكن إظهار الدين حاصلاً. (1)

قال الشيخ: إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (واستثناء المستضعفين في هذه الآية، يبطل دعوى من قصر إظهار الدين على مجرد العبادة، لأنه إذا حمل على ذلك، فقد تساوى المستثنى والمستثنى منه، إذ هو مناط الرخصة في زعم المجيز؛ ولا يُتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه، فما فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة، دون من لم يقدر؟ وقد عُلِم أن الاستثناءَ مِعيارُ العموم .... (2)

(1)«سبيل النجاة والفكاك» للشيخ: حمد بن عتيق (92 ـ 95).

(2)

«الأجوبة السمعيات» (ص 77).

ص: 100

وقال بعد بيان مطوَّل:

فالحاصل هو ما قدمناه من أن إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة، هو الامتياز عن عباد الأوثان بإظهار المعتقد، والتصريح بما هو عليه، والبعد عن الشرك، ووسائله؛ فمن كان بهذه المثابة إن عرف الدين بدليله، وأمن الفتنة، جاز له الإقامة، والله أعلم. (1)

وقال: وقد علمتَ معنى إظهار الدين فيما مرَّ من كلامهم، وقد جعلوا هنا حكم المسافر حكم المقيم صريحاً، موافقين للسلف في ذلك، فجزاهم الله عن الإسلام خيراً.

قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في بعض رسائله: ولا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين، من أمن الفتنة؛ فإن خاف بإظهار الدين الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه (2).

وقال: والحاصل أن المسلم لا يكون مظهراً لدينه، سواءٌ كان مسافراً

(1)«الأجوبة السمعيات» (ص 97)، وانظر:«مجموع الرسائل والمسائل النجدية»

(3/ 32)، «الدرر السنية» (8/ 335).

(2)

«الأجوبة السمعيات» للشيخ: إسحاق بن عبدالرحمن آل الشيخ (ص 99).

ص: 101

أو مقيماً، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، وهو الذي يفهم من كلام السلف. أما قول: يا كافر! وقولك: أوجدنا عليه دليلاً، ولو من تاريخ، أو غيره، فهذا لفظ لا يقول به أحد، ولا نعلم أحدا قال باشتراطه، لأنه مما لا مصلحة فيه حتى لو الداعي إلى الدين.

فإن الله قال لموسى وهارون، في حق من ادعى الربوبية:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1)، بل يكتفي من ذلك بإظهار التوحيد، وإنكار الشرك والبراءة منهم، والتصريح لهم بذلك؛ والله أعلم. (2)

قال الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: (وإظهاره دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك. إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أَنواع الكفر والضلال)(3).

وأما مسألة بلد الكفر، وبلد الإسلام:

فقد سُئل شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: عَنْ بَلَدِ «مَارِدِينَ» هَلْ

(1) سورة طه، آية (44).

(2)

«الأجوبة السمعيات» للشيخ: إسحاق بن عبدالرحمن آل الشيخ (ص 140).

(3)

«فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم» (1/ 91).

ص: 102

هِيَ بَلَدُ حَرْبٍ أَمْ بَلَدُ سِلْمٍ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ الْمُقِيمِ بِهَا الْهِجْرَةُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَسَاعَدَ أَعْدَاءَ المُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ هَلْ يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَأْثَمُ مَنْ رَمَاهُ بِالنِّفَاقِ وَسَبَّهُ بِهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ رحمه الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُمْ مُحَرَّمَةٌ حَيْثُ كَانُوا فِي «مَارِدِينَ» أَوْ غَيْرِهَا. وَإِعَانَةُ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَارِدِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ. وَالمُقِيمُ بِهَا إنْ كَانَ عَاجِزاً عَنْ إقَامَةِ دِينِهِ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ. وَإِلَّا اُسْتُحِبَّتْ وَلَمْ تَجِبْ. وَمُسَاعَدَتُهُمْ لِعَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَمْكَنَهُمْ مِنْ تَغَيُّبٍ أَوْ تَعْرِيضٍ أَوْ مُصَانَعَةٍ؛ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْهِجْرَةِ تَعَيَّنَتْ. وَلَا يَحِلُّ سَبُّهُمْ عُمُومًا وَرَمْيُهُمْ بِالنِّفَاقِ؛ بَلْ السَّبُّ وَالرَّمْيُ بِالنِّفَاقِ يَقَعُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ أَهْل مَارِدِينَ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا كَوْنُهَا دَارَ حَرْبٍ أَوْ سِلْمٍ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ: فِيهَا الْمَعْنَيَانِ؛ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ دَارِ السِّلْمِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ؛ لِكَوْنِ جُنْدِهَا مُسْلِمِينَ؛ وَلَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي أَهْلُهَا كُفَّارٌ؛ بَلْ هِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ

ص: 103

يُعَامَلُ المُسْلِمُ فِيهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيُقَاتَلُ الْخَارِجُ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ (1).

قال الشيخ: عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (مذهب الحنابلة وغيرهم أن البلدة التي تجري عليها أحكام الكفر ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر، وما ظهر فيها هذا وهذا فقد أفتى فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه يراعى فيها الجانبان، فلا تعطى حكم الإسلام من كل وجه، ولا حكم الكفر من كل وجه، كما نقله عنه ابن مفلح وغيره (2).

قال الشيخ: عبدالرحمن السعدي رحمه الله:

(قد ذكر أهلُ العِلم رحمهم الله الفَرق بين بلاد الإسلام وبلاد الكُفَّار.

فبِلاد الإسلام: التي يحكمها المسلمون، وتجري فيها الأحكام الإسلامية،

(1)«مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام (28/ 240)، وانظر:«الآداب الشرعية» لابن مفلح (1/ 211)، و «تحديد بلد الكفر والعلاقة بالكافرين» بحث للدكتور: حسن العواجي (ص 99)، منشور في «مجلة الدراسات العقدية» التابعة للجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة (عدد 3)، (محرم 1431 هـ).

(2)

«مصباح الظلام» للشيخ: عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ص 53).

ص: 104

ويكون النفوذ فيها للمسلمين، ولو كان جمهور أهلها كفاراً.

وبلاد الكفر ضدها، فهي التي يحكمها الكفار، وتجري فيها أحكام الكفر، ويكون النفوذ فيها للكفار. وهي على نوعين: بلاد كفار حربيين، وبلاد كفار مهادنين، بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة، فتصير إذا كانت الأحكام للكفار والنفوذ لهم، دار كفار؛ ولو كان بها كثير من المسلمين. وكل أحد يعرف ولا يشك أن العراق والبحرين وغيرهما من البلاد المجاورة ونحوها: من المستعمرات الإنجليزية، وأنهم لهم النفوذ والحكم بها، ولكنهم يدخلون في الكفار المهادنين، لما بينهم وبين المسلمين من الأمان في عدم تعدي أحدهما على الآخر، وارتباط التجارة، كما هو معروف لكل أحد

(1)

وسئل فضيلة الشيخ: محمد بن عثيمين رحمه الله: بماذا تصير بلد الإسلام دار حرب، وهل الدول التي تحكم بالقانون الوضعي دار إسلام أم دار حرب، وما هو إظهار الدين في بلد الكفر؟

فأجاب بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم.

دارُ الإسلام لا يمكن أن تكون دار حرب، إلا أن تكون حرباً على

(1)«الفتاوى السعدية» (ص 104 ـ 105).

ص: 105

أعداء الله، ودار الإسلام هي التي تُعْلَن فيها شعائر الإسلام، كالأذان وصلاة الجماعة وصلاة الجمعة وما أشبه ذلك، ويكون أهلها ينتمون إلى الإسلام مطبِّقون لشرائعه.

وأما الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل فهذا قد يؤدي إلى الكفر، وقد يؤدي إلى ما دون الكفر، كما ذكر الله في سورة المائدة: الكافرون، والظالمون، والفاسقون، حسب ما تقتضيه حال هذا الذي حَكَمَ بغير ما أنزل الله، وإذا قدر أنه وصل إلى درجة الكفر فإنه لا يغير دار الإسلام ما دام أهلها مسلمون كارهين لما عليه هذا الحاكم.

وأما إظهار الدين في دار الكفر، فدار الكفر إذا كان الإنسان لا يستطيع إظهار دينه فيها فإنَّه يجب عليه الهجرة منها، وإن كان يستطيع فإنَّه ينبغي أن يخرج منها؛ لأنَّ بقاءه فيها على خطر، فإذا كان في بلد الكفر يصلِّي ويتصدق ويقيم الجماعة والجمعة ولا أحد يمنعه من ذلك، فهذا قادر على إظهار دينه، لكن مع ذلك لا نُحبُّ له أن يبقى في دار الكفر (1).

قال العلامة: سليمان بن سحمان رحمه الله: وأما قولهم: ويسلمون على المسافرين: فنقول: اعلم يا أخي أنّا قد بينا فيما تقدم براءة المشايخ مما نسبه

ص: 106

عنهم هؤلاء المفترون من إباحة السفر إلى بلاد المشركين.

وأما السلام على المسافرين فقد بينا في مسألة الهجر، أن ذلك من باب التأديب والتعزير لأهل الذنوب والمعاصي، وأن ذلك مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدته، وأما إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته فليس بمشروع. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ.

إلى أن قال ابن سحمان: فإذا تحققت هذا، فقد هجر المشايخ المسافرين إلى بلاد المشركين مدة طويلة، فلما لم ينجع فيهم الهجر، ولم ينزجروا عن السفر، رأوا أن درأ المفسدة التي تفضي إلى المقاطعة والمدابرة والتباغض والتحاسد والشحناء أرجح من مصلحة الهجر، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً» (1).

قال الشيخ العلامة: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:

[السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.

(1)«منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع» لابن سحمان (ص 105)، وانظر كلام المؤلِّف المديهش في (ص 305).

ص: 107

الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.

الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.

فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.

أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.

وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة، وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها).

وسئل رحمه الله عن حكم الإقامة في بلاد الكفار؟

فأجاب رحمه الله: وأما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين الإسلام، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فساقاً، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان ـ والعياذ بالله ـ حتى صاروا إلى

ص: 108

الجحود المطلق والإستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك.

فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين أساسين:

الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ، وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم مبتعداً عن موالاتهم، ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم، مما ينافي الإيمان بالله قال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) الآية

وقال تعالى: {

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ

(1) سورة المجادلة، آية (22).

ص: 109

فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (1).

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن من أحب قوماً فهو منهم، وأن المرء مع من أحب» .

ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحب قوماً فهو منهم» .

الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة، لوجوب الهجرة حينئذ، قال في «المغني» (ص 457 ج 8) في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه من إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه

(1) سورة المائدة، آية (51 ـ 52).

ص: 110

الهجرة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ا. هـ.

وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفار إلى أقسام:

القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال صلى الله عليه وسلم:«بلغوا عني ولو آية» .

(1) سورة النساء، آية (97).

ص: 111

القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة، وبطلان التعبد، وانحلال الأخلاق، وفوضوية السلوك؛ ليحذر الناس من الاغترار بهم، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه، لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. لكن لا بد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامة، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).

ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين؛ ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل

(1) سورة الأنعام، آية (108).

ص: 112

النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم.

القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دول الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.

القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول، بلاد الكفر للتجارة (1) وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.

القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل،

(1) ينظر: «الأوسط» لابن المنذر ـ ط. الفلاح ـ (6/ 406).

ص: 113

ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:

الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد فأما بعث الأحداث «صغار السن» وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في دياناتهم، وأخلاقهم، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.

الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم

ص: 114

عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.

وفي الدعاء المأثور «اللهم أرني الحقَّ حقَّاً وأرزقني اتِّباعَه، وأرني الباطل باطلاً وارزُقنِي اجتنابه، ولا تجعلْه ملتبساً علي فأَضِلّ» .

الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها.

الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.

القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن

ص: 115

ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله» . وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر؛ فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى نارهما» . رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي: سمعت محمداً

ـ يعني البخاري ـ يقول الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل. ا. هـ.

وكيف تطيب نفسُ مُؤمنٍ أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله، وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهلِه وأولادِه في دينِهم وأخلاقِهم.

ص: 116

هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقاً للحق والصواب]. انتهى كلام الشيخ العلامة: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله (1).

وقال أيضاً رحمه الله:

أقسام الهجرة:

الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.

القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك.

وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم إنه يجب على الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان غير قادر على إظهار دينه.

وأما إذا كان قادراً على إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب، وبناء على ذلك يكون

ص: 117

السفر إلى بلد الكفر أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته، والهجرة منه.

فذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر؛ لما في ذلك من الخطر على دينه، وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من الخطر على دينه، وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع، كما قال الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1). وقال تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2)

فالكافر أيَّاً كان، سواءٌ كان من النصارى، أو من اليهود، أو من الملحدين، وسواءٌ تسمَّى بالإسلام أم لم يتسم بالإسلام، الكافر عدو لله

(1) سورة التوبة، آية (123).

(2)

سورة التوبة، آية (120).

ص: 118

ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً، مهما تلبس بما تلبس به؛ فإنه عدو! !

فلا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة:

الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ لأن الكفار يوردون على المسلمين شبهاً في أخلاقهم، وفي كل شيء يوردون الشبهة؛ ليبقى الإنسان شاكاً متذبذباً، ومن المعلوم أن الإنسان إذا شك في الأمور التي يجب فيها اليقين؛ فإنه لم يقم بالواجب، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ـ الإيمان بهذه ـ يجب أن يكون يقيناً؛ فإن شك الإنسان في شيء من ذلك فهو كافر.

فالكفار يدخلون على المسلمين الشك، حتى إن بعض زعمائهم صرح قائلاً: لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم من دينه إلى دين النصارى، ولكن يكفي أن تشككوه في دينه؛ لأنكم إذا شككتموه في دينه سلبتموه الدين، وهذا كاف، أنتم أخرجوه من هذه الحظيرة التي فيها الغلبة والعزة والكرامة ويكفي. أما أن تحاولوا أن تدخلوه في دين النصارى ـ المبني على الضلال والسفاهة ـ فهذا لا يمكن، لأن النصارى ضالون، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان دين المسيح عليه الصلاة والسلام دين حق، لكنه

ص: 119

دين الحق في وقته قل أن ينسخ برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الهدي والحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ لأن الإنسان يدفع به الشبهات الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلى بلاد الكفر انغمس؛ لأنه يجد زهرة الدنيا، هناك شهوات، من خمر، وزنا، ولواط. كل إجرام موجود في بلاد الكفر. فإذا ذهب إلى هذه البلاد يخشى عليه أن ينزلق في هذه الأوحال، إلا إذا كان عنده دين يحميه. فلابد أن يكون عند الإنسان دين يحميه من الشهوات.

الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك؛ مثل أن يكون مريضاً؛ يحتاج إلى السفر إلى بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجاً إلى علم لا يوجد في بلد الإسلام تخصص فيه؛ فيذهب إلى هناك ويتعلم، أو يكون الإنسان محتاجاً إلى تجارة، يذهب ويتجر ويرجع. المهم أنه لابد أن يكون هناك حاجة ولهذا أرى أن الذين يسافرون إلى بلد الكفر من أجل السياحة فقط، أرى أنهم آثمون، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم، وإضاعة لمالهم، وسيحاسبون عنه يوم القيامة؛ حين لا يجدون مكاناً يتفسحون فيه أو يتنزهون فيه، حين لا يجدون إلا أعمالهم، لأن هؤلاء

ص: 120

يضيعون أوقاتهم، ويتلفون أموالهم، ويفسدون أخلاقهم، وكذلك ربما يكون معهم عوائلهم، ومن عجب أن هؤلاء يذهبون إلى بلاد الكفر التي لا يسمع فيها صوت مؤذن، ولا ذكر ذاكر، وإنما يسمع فيها أبواق اليهود، ونواقيس النصارى، ثم يبقون فيها مدة هم وأهلوهم وبنوهم وبناتهم، فيحصل في هذا شر كثير، نسأل الله العافية والسلامة.

وهذا من البلاء الذي يحل الله به النكبات التي تأتينا، والتي نحن الآن نعيشها كلها بسبب الذنوب والمعاصي، كما قال الله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1)

نحن غافلون، نحن آمنون في بلادنا. كأن ربنا غافل عنا، كأنه لا يعلم، كأنه لا يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

والناس يعاصرون في هذا الحوداث، ولكن قلوبهم قاسية والعياذ بالله! وقد قال الله سبحانه:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (2) أخذناهم بالعذاب، ونزل بهم، ومع ذلك ما استكانوا إلى الله،

(1) سورة الشورى، آية (30).

(2)

سورة المؤمنون، آية (76).

ص: 121

وما تضرعوا إليه بالدعاء، وما خافوا من سطوته، ولكن قست القلوب ـ نسأل الله العافية ـ وماتت؛ حتى أصبحت الحوادث المصيرية تمر على القلب وكأنها ماء بارد ـ نعوذ بالله من موت القلب وقسوته ـ وإلا لو كان الناس في عقل، وفي قلوب حية، ما صاروا على هذا الوضع الذي نحن عليه الآن، مع أننا في وضع نعتبر أننا في حال حرب مدمرة مهلكة، حرب غازات الأعصاب والجنود وغير ذلك، ومع هذا لا تجد أحداً حرك ساكناً إلا أن يشاء الله، هذا لا شك أنه خطأ، إن أناسا في هذه الظروف العصيبة ذهبوا بأهليهم يتنزهون في بلاد الكفر، وفي بلاد الفسق وفي بلاد المجون والعياذ بالله!

والسفر إلى بلاد الكفر للدعوة يجوز؛ إذا كان له أثر وتأثير هناك فإنه جائز، لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عمي عليهم الإسلام، لا يدرون عن الإسلام شيئاً، بل قد ضللوا، وقيل لهم إن الإسلام دين وحشية وهمجية ورعاع، ولا سيما إذا سمع الغرب بمثل هذه الحوادث التي حصلت على أيدي من يقولون إنهم مسلمون، سيقولون أين الإسلام؟ ! هذه وحشية! وحوش ضارية يعدو بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضا، فينفر الناس من الإسلام بسبب أفعال المسلمين، نسأل الله أن

ص: 122

يهدينا جميعاً صراطه المستقيم.

القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه» فتهجر كل ما حرم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتهجر السبَّ والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلى هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.

القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.

والمصلحة والفائدة إنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية.

ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلى صوابه، ورجل ثالث ـ وهو أعظمهم ـ لا يصلي؛ فهذا مرتد كافر ـ

ص: 123

والعياذ بالله ـ؛ يجب أن يهجر؛ فلا يرد عليه السلام، ولا يسلم عليه، ولا تجاب دعوته حتى إذا عرف نفسه ورجع إلى الله وعاد إلى الإسلام انتفع بذلك.

أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفع، وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر، لأن الهجر إذا كان للكفر فإنه يهجر. والكافر المرتد يهجر على كل حال ــ أفاد أم لم يفد ــ لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» .

ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان.

فيبقى النظر بعد ذلك؛ هل الهجر مفيد أو لا؟ فإن أفاد، وأوجب أن يدع الإنسان معصيته فإنه يهجر، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم الذين تخَلَّفُوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعاً عظيماً ولجؤوا إلى الله، وضاقت عليهم الأرض بما

ص: 124

رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم.

هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العامل (1).

وقال ابن عثيمين أيضاً:

الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.

وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.

وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟

والجواب: أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلايتم إسلامه إذا كان لايستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لايتم الواجب إلا به فهوواجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.

فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله، أي: يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2)

(1)«شرح رياض الصالحين» للعثيمين (1/ 21).

(2)

سورة الأحزاب، آية (29).

ص: 125

إذن يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.

ويريد رسول الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ عنه، ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعَاً

»

فإذا أراد الله، فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل ......

مسألة: هل الهجرة واجبة أم مستحبة؟

الجواب: فيه تفصيل، إذا كان الإنسان يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولايجد من يمنعه في ذلك، فالهجرة هنا مستحبة. وإن كان لايستطيع فالهجرة واجبة وهذا هو الضابط للمستحبّ والواجب. وهذا يكون في البلاد الكافرة، أما في البلاد الفاسقة ـ وهي التي تعلن الفسق وتظهره ـ فإنا نقول: إن خاف الإنسان على نفسه من أن ينزلق فيما انزلق فيه أهل البلد فهنا الهجرة واجبة، وإن لا، فتكون غير واجبة. بل نقول إن كان في بقائه إصلاح، فبقاؤه واجب لحاجة البلد إليه في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والغريب أن بعضهم يهاجر من بلد الإسلام إلى بلد الكفر لأنه إذا هاجر أهل الإصلاح من هذا البلد، من الذي يبقى لأهل

ص: 126

الفساد، وربما تنحدر البلاد أكثر بسبب قلة أهل الإصلاح وكثرة أهل الفساد والفسق.

لكن إذا بقي ودعا إلى الله بحسب الحال فسوف يصلح غيره، وغيره، يصلح غيره حتى يكون هؤلاء على أيديهم صلاح البلد، وإذا صلح عامة الناس فإن الغالب أن من بيده الحكم سيصلح، ولو عن طريق الضغط، ولكن الذي يفسد هذا ـ للأسف ـ الصالحون أنفسهم، فتجد هؤلاء الصالحين يتحزبون ويتفرقون وتختلف كلمتهم من أجل الخلاف في مسألة من مسائل الدين التي يغتفر فيها الخلاف، هذا هو الواقع، لاسيما في البلاد التي لم يثبت فيها الإسلام تماماً، فربما يتعادون ويتباغضون ويتناحرون من أجل مسألة رفع اليدين في الصلاة، وأقرأ عليكم قصة وقعت لي شخصياً في منى، في يوم من الأيام أتى لي مدير التوعية بطائفتين من إفريقيا تكفّر إحداهما الأخرى، على ماذا؟ ؟ قال: إحداهما تقول: السنة في القيام أن يضع المصلي يديه على صدره، والأخرى تقول السنة أن يُطلق اليدين، وهذه المسألة فرعية سهلة ليست من الأصول والفروع، قالوا: لا، النبي صلى الله عليه وسلم:«يقول مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ» . وهذا كفر تبرَّأَ منه

ص: 127

الرسول صلى الله عليه وسلم فبناءً على هذا الفهم الفاسد كفَّرتْ إحداهما الأخرى.

فالمهم: أن بعض أهل الإصلاح في البلاد التي ليست مما قوي فيها الإسلام يبدع ويفسق بعضهم بعضاً، ولو أنهم اتفقوا وإذا اختلفوا اتسعت صدورهم في الخلاف الذي يسوغ فيه الخلاف وكانوا يداً واحدة، لصلحت الأمة، ولكن إذا رأت الأمة أن أهل الصلاح والاستقامة بينهم هذا الحقد والخلاف في مسائل الدين، فستضرب صفحاً عنهم وعما عندهم من خير وهدى، بل يمكن أن يحدث ركوس ونكوس وهذا ماحدث والعياذ بالله، فترى الشاب يدخل في الاستقامة على أنَّ الدين خيرٌ وهدى وانشراح صدر وقلب مطمئن ثم يَرى مايرى من المستقيمين من خلاف حاد وشحناء وبغضاء فيترك الاستقامة؛ لأنه ماوجد ماطلبه، والحاصل أن الهجرة من بلاد الكفر ليست كالهجرة من بلاد الفسق، فيقال للإنسان: اصبر واحتسب ولاسيما إن كنت مُصلحاً، بل قد يقال: إن الهجرة في حقك حرام (1).

(1)«شرح الأربعين النووية» للعثيمين (ص 11، و 16 وما بعدها).

ص: 128

ذكر الشيخ ابن سعدي رحمه الله مسألةَ الهجرة

وأنَّ أهل العلم متفقون على الوجوب إذا عجز عن إظهار دينه، واستحبابها إذا كان قادراً على ذلك، وليس لأحد خروج عما قالوا، واستدلوا عليه وعلَّلُوه.

ثم قال: يبقى علينا: ماهو إظهار الدين؟ وما هو الدين؟

فالإظهار ضدُّ الإخفاء، فالمظهرُ لدينه هو الذي يتمكن من إعلانه، ولا يُضطهد على ذلك، ولايخفيه، والعاجز عن الإظهار هو الذي لايقدر على إظهار إيمانه وتوحيده، وعقائد دينه، وشرائعه، والدين لايحدُّ ولا يُفسَّر بتفسير أحسن ولا أوضح من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ولا أجمع فإنه فسره بمجموع عقائد الدين، وشرائعه وحقائقه، حيث بين أن الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّهِ، والإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وقال في آخره: هذا جبريل أتاكم يُعلِّمُكم أَمْرَ دِينِكم، أو دينَكُم. رواه البخاري، وغيره.

فجعل ذلك كلَّه هو الدين، فمتى قَدِر الإنسان على إظهار هذه الأمور وعدَمِ إخفاء شيء منها، فهو المظهر لدينه، ومتى عجز عن إظهارها

ص: 129

أو إظهار شئ منها، فهو عاجز عن إظهار دينه؛ وهذا بحمد الله واضحٌ لا إشكال فيه، فلو كان يقدر أن يصلي ويصوم، لكن لايقدر أن يظهر توحيده وإيمانه وعقيدته؛ كان عاجزاً عن إظهار دينه.

وقد تقدّم أنَّ بِلادَ الكُفر نوعان: بلادَ حربٍ واضطهادٍ ، وبِلادَ عهدٍ وهُدْنةٍ وأَمْنٍ.

ويدلُّ على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لأصحابِه أن يُهاجِروا من مكّة ، حيث كانت بِلاد كُفر واضطِهاد وأذِيّة وفِتنة للمؤمنين ، إلى بلاد الحبَشة ، وهي بلاد كفر، ولكنها بلاد أمن واطمئنان، وهي أخفُّ بكثير من بلاد الفتنة، والشرُّ القليل أهون من الشر الكثير، ولهذا تمكن الصحابة رضي الله عنهم من إظهار دينهم فيها. حتى إنَّ الوفد الذي أرسلته قريش إلى النجاشي بهدايا كثيرة، عالجوا النجاشي في تسليم المؤمنين إليهم، فلم يفعله ...... إلخ.

والمقصود أنه لا بد من إظهار أصول الدِّين وشرائعه.

فإذا نظرنا إلى ما حولنا من الممالك المذكورة في هذه الأوقات، وجدنا أنه يتمكن كل أحد من إظهار دينه ومعتقده، لانتشار الحرية، فصار المؤمن والكافر والبر والفاجر كلٌّ يعلن بما اعتقده، وإن حصل تقصير أو افتتان

ص: 130

فهو من كثرة الشر، ولا يؤتى العبد إلا من قبل نفسه، ولهذا كان الدعاة لمذهب السلف، كالشيخ محمد رشيد، والألوسيين، والشيخ قاسم بن مهزع وغيرهم، يظهرون من مذهب السلف والدعوة إلى الدين الإسلامي أصوله وشرائعه، ما هو معروف معلوم من غير معارض ولا ممانع.

وكذلك من عنده دين من «أهل نجد» إذا ذهبوا لتلك الأقطار المذكورة (1)، فإنهم يتمكنون من إظهار ما هم عليه، وهذا أمر لا يُشك فيه.

ولكن من أعظم الأخطار الإقامة مع العائلة هناك ، وإدخالهم في المدارس التى لا يخرج منها أحد ، إلا وهو مُختَلُّ العقيدة ، إلا ما شاء الله.

وبهذا الذى ذكرناه يُعلم أنَّ من كان عاجزاً عن إظهار دينه لا يَحِلُّ له المُقام بلا شَكٍّ ، لكن بشرط قُدرته على الهجرة. وأما السّفر إلى هذه الأقطار للاتِّجارِ ، مع حِفظ العبد لِدِينه ، وقُدرته على إظهارِه ، فما المانع من ذلك؟

والمسلمون ما زالوا يُسافرون للتِّجارة لبِلاد الكُفر في عهدِ الصّحابة رضي الله عنهم وقد ذكر ذلك أهلُ العلمِ -رحمهم الله تعالى- ، وذكروا ما يدُلُّ عليه

ثم نقل الشيخ من «المغني» ، و «الشرح» ، و «الفروع» ....

(1) يتحدث المؤلف عن عصره.

ص: 131

ثم قال: وكل هذا دليل على جواز الاتجار في بلدانهم بشرط أن يتمكن الإنسان من إقامة دينه وحفظه.

ومن فضل الله أن «أهل نجد» أعزاء في كل مكان يأتون إليه من هذه الأقطار، وذلك بفضل الله، ثم بفضل سعي حكومتهم، يتمكنون من إظهار دينهم ومعتقداتهم، ومَن قصَّر في شئ من ذلك فذلك من قِبَل نَفْسِه .... إلى آخر الفتوى.

وقال رحمه الله في مسألة أخرى:

الاختلاط بين المسلمين والكفار الذي لايحصل منه إلا شر وضرر وتهاون بالدين، ورغبة في أمور الكفار وأحوالهم؛ فهذا من أعظم المنكرات وأشدها ضرراً.

وعلى ولاة الأمر ـ وفقهم الله لإقامة دينهم ـ إذا ابتلوا بمثل هذا الاختلاط أن يراقبوا المسلمين ويُلزموهم بإقامةِ دينهم، ويمنعوهم أشدَّ المنع من مجاراة الكفار على التهاون بأمور الدين، ويتفقدوهم تفقُّداً دقيقاً، فإنَّ خُلطتهم لهم فيها خَطرٌ كَبيرٌ.

ص: 132

فيجب أن يتلافى هذا الخطر من لهم الأمر، وهم المسؤولون عن ذلك المتعين عليهم، نرجو أن يأخذ الله بنواصيهم إلى الخير، إنه جواد كريم (1).

وفي فتاوى سماحة الشيخ: عبدالعزيز بن باز رحمه الله

سؤال: نحن طلبة مسلمون ندرس في أمريكا لفترات تتراوح ما بين ستة أشهر وأربع سنوات وجئنا للدراسة هنا بمحض إرادتنا ـ أي لسنا مبتعثين من أي جهة ــ والدراسة هنا في أمريكا لا تختلف عن الدراسة في بلادنا سوى بالحصول على اللغة الإنجليزية، فما حكم جلوسنا في هذه البلاد للدراسة؟ جزاكم الله خيراً.

(ع. س. غ أمريكا)

الجواب: من كان منكم لديه علم وبصيرة بدين الله يمكنه أن يدعو إلى الله، ويُعلِّمَ الناس الخيرَ، ويَدفعَ الشبهة عن نفسه، ويُظهِرَ دِينَهُ بين من لديه من الكفار؛ فلا حرج عليه؛ لأنَّ إقامتَه والحال ما ذكر وتزوُّدَهُ من العلم الذي يحتاج إليه؛ ينفعه وينفع غيره، وقد يهدي الله على يديه جمعاً غفيراً إذا اجتهد في الدعوة وصبر وأخلص النية لله سبحانه وتعالى، أما من ليس عنده علم وبصيرة، أو ليس عنده صبر على الدعوة، أو يخاف على

(1)«الفتاوى السعدية» (ص 104 ـ 112).

ص: 133

نفسه الوقوع في ما حرم الله، أو لا يستطيع إظهار دينه بالدعوة إلى توحيد الله والتحذير من الشرك به وبيان ذلك لمن حوله؛ فلا تجوز له الإقامة بين أظهر المشركين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» .

ولما عليه من الخطر في هذه الإقامة، والله ولي التوفيق (1).

وقال أيضاً:

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأخ المكرم: ن. م ـ وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم وإلإيمان ـ آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فإشارة إلى رسالتك التي تذكر فيها أنك شاب مسلم تقيم في إيطاليا، وأن بها شباباً من المسلمين كثيرين، وأن أغلبهم استجاب لرغبة الصليبيين في إبعادهم عن دين الإسلام وتعاليمه السامية، فأصبح أغلبهم لا يصلي، وتخلق بأخلاق سيئة، ويعمل المنكرات ويستبيحها .. إلى غير ذلك مما ذكرته في رسالتك.

ص: 134

وأفيدك بأن الإقامة في بلد يظهر فيها الشرك والكفر، ودين النصارى وغيرهم من الكفرة لا تجوز، سواء كانت الإقامة بينهم للعمل أو للتجارة أو للدراسة، أو غير ذلك؛ لقول الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} (1).

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» .

وهذه الإقامة لا تصدر عن قلب عرف حقيقة الإسلام والإيمان، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، ورضي بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسُولاً.

فإنَّ الرضا بذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه،

(1) سورة النساء، الآيات (97 ـ 99).

ص: 135

والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة التامة والتباعد كل التباعد من الكفرة وبلادهم، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجتمع مع هذه المنكرات، وصح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله بايعني واشترط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين» أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث السابق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله عز وجل من مشرك عملا بعد ما أسلم؛ أو يفارق المشركين» . والمعنى: حتى يفارق المشركين.

وقد صرَّحَ أهل العلم بالنهي عن ذلك، والتحذير منه، ووجوب الهجرة مع القدرة، اللهم إلا رجل عنده علم وبصيرة، فيذهب إلى هناك للدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وشرح محاسن الإسلام لهم، وقد دلت آية سورة براءة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا

ص: 136

وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (1)

على أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي، بل فاعِله فاسِقٌ متوعَّدٌ بعدم الهداية إذا كانت هذه الأمور أو بعضها أحبَّ إليه من الله ورسوله، ومن الجهاد في سبيل الله. وأيُّ خَيرٍ يبقى مع مشاهدة الشرك وغيره من المنكرات والسكوت عليها، بل وفعلُها، كما حصل ذلك من بعض من ذكرتَ من المنتسبين للإسلام.

وإن زعم المقيم من المسلمين بينهم أنَّ له أغراضاً من الأغراض الدنيوية، كالدراسة، أو التجارة، أو التكسب، فذلك لا يزيده إلا مقتاً.

وقد جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى الوعيد الشديد والتهديد الأكيد على مجرد ترك الهجرة، كما في آيات سورة النساء المتقدم ذكرها، وهي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (2) الآيات وما بعدها.

(1) سورة التوبة، آية (24).

(2)

سورة النساء، آية (97).

ص: 137

فكيف بمن يسافر إلى بلاد الكفرة، ويرضى الإقامة في بلادهم، وكما سبق أن ذكرت أن العلماء -رحمهم الله تعالى- حرَّموا الإقامة والقدوم إلى بلاد يعجز فيها المسلم عن إظهار دينه، والمقيم للدراسة أو للتجارة أو للتكسب، والمستوطن، حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق، إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم، وهم يقدرون على الهجرة.

وأما دعوى بغضهم وكراهتهم مع الإقامة في ديارهم فذلك لا يكفي، وإنما حرم السفر والإقامة فيها لوجوه، منها:

1.

أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر وغير حاصل.

2.

نصوص العلماء -رحمهم الله تعالى-، وظاهر كلامهم وصريح إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه، ويستطيع المدافعة عنه، ويدفع شبه الكافرين، لا يباح له السفر إليهم.

3.

من شروط السفر إلى بلادهم: أمن الفتنة بقهرهم وسلطانهم

ص: 138

وشبهاتهم وزخرفتهم، وأمن التشبه بهم والتأثر بفعلهم.

4.

أن سد الذرائع وقطع الوسائل الموصلة إلى الشرك من أكبر أصول الدين وقواعده؛ ولا شك أنما ذكرتَهُ في رسالتك مما يصدر عن الشباب المسلمين الذين استوطنوا هذه البلاد هُوَ من ثمرات بقائهم في بلاد الكفر، والواجب عليهم الثبات على دينهم والعمل به، وإظهاره، واتباع أوامره، والبعد عن نواهيه، والدعوة إليه، حتى يستطيعوا الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.

والله المسؤول أن يصلح أحوالكم جميعاً، وأن يمنحكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعينكم على الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لكل ما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان، وأن يعيننا جميعا على كل خير، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه، وأن يوفقهم

ص: 139

لتحكيم شريعة الله في بلادهم، والتحاكم إليها، والرضا بها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مفتي عام المملكة العربية السعودية

ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء (1)

ص: 140