المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الأولىإذا بلغ الماء قلتين لم ينجس - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١١

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌المسألة الأولىإذا بلغ الماءُ قُلَّتَين لم ينجَسْ

- ‌المسألة الثانيةرفع اليدين

- ‌ المسألة الثالثةأفطر الحاجم والمحجوم

- ‌ المسألة الرابعةإشعار الهدي

- ‌ المسألة الخامسةالمحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخفَّولا فديةَ عليه

- ‌ المسألة السادسةدرهم وجوزة بدرهمين

- ‌ المسألة السابعةخيار المجلس

- ‌ المسألة التاسعةالطلاق قبل النكاح

- ‌ المسألة العاشرةالعقيقة مشروعة

- ‌ المسألة الحادية عشرةللراجل سهم من الغنيمة، وللفارس ثلاثة:سهم له وسهمان لفرسه

- ‌ المسألة الثانية عشرةأما على القاتل بالمثقل قصاص

- ‌ المسألة الثالثة عشرةلا تعقل العاقلة عبدًا

- ‌إذا قتل حرٌّ حرًّا خطأ [2/ 91] محضًا أو شبهَ عمد

- ‌المسألة الرابعة عشرةتقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا

- ‌ المسألة الخامسة عشرةالقضاء بشاهد ويمين في الأموال

- ‌المسألة السادسة عشرةنكاح الشاهد امرأة شهد زورًا بطلاقها

- ‌ المسألة السابعة عشرةالقرعة المشروعة

- ‌ مقدمة

- ‌ 177] 1 - فصل

- ‌2 - فصل

- ‌3 - فصل

- ‌4 - فصل

- ‌5 - فصل

- ‌3 - يفكِّر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية

- ‌4 - يفكر في حاله مع الهوى

- ‌9 - يأخذ نفسَه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه

- ‌10 - يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات

- ‌ الباب الأولفي الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهاتوبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

- ‌ علم الكلام والفلسفة ليسا من سراط المُنْعَم عليهم

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌ الكَشْف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين

- ‌ فصل

- ‌ الباب الثانيفي تنزيه الله ورسله عن الكذب

- ‌تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب

- ‌ تنزيه الأنبياء عن الكذب

- ‌ الباب الثالثفي الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد

- ‌ قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية

- ‌قول العضد وغيره

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات

- ‌ الباب الرابعفي عقيدة السلف وعدة مسائل

- ‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

- ‌القرآن كلام الله غير مخلوق

- ‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌معيارُ الإيمان القلبي: العمل

- ‌قول: أنا مؤمن إن شاء الله

- ‌ الخاتمةفيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحقوما يجب على أهل العلم في هذا العصر

- ‌الأول: العقائد

- ‌ الثاني: البدع العملية

- ‌ الثالث: الفقهيات

الفصل: ‌المسألة الأولىإذا بلغ الماء قلتين لم ينجس

‌المسألة الأولى

إذا بلغ الماءُ قُلَّتَين لم ينجَسْ

في "تاريخ بغداد"(13/ 389 [405]) من طريق "الفضل بن موسى السِّيناني يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: مِن أصحابي مَنْ يبول قلَّتين. يردُّ على النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قُلَّتين لم ينجَسْ".

قال الأستاذ (ص 83): "وحديث القلَّتين (1) لم يأخذ به أحد من الفقهاء قبل المائتين، (2) لأن في ذلك اضطرابًا عظيمًا، (3) ولم يقل بتصحيحه إلا المتساهلون، (4) ولم ينفع تصحيحُ من صحَّحه في الأخذ به، لعدم تعيُّن المراد بالقلتين؛ (5) حتى إن ابن دقيق العيد يعترف في شرح "عمدة الأحكام" بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم في "الصحيح". (6) فدَعُونا معاشرَ الحنفية نتوضأ من الحنفيات ولا نغطِس في المستنقعات".

أقول: في هذه العبارة ستة أمور، كما أشرت إليه بالأرقام.

فأما الأمر الأول: فالمنقول عن السلف قبل أبي حنيفة وفي عصره مذهبان:

الأول: أن الماء سواء أكان قليلًا أم كثيرًا لا ينجَس إلا أن تخالطه النجاسة فتُغيِّر لونَه أو ريحَه أو طعمَه. وإليه ذهب مالك، وكذلك أحمد في روايةٍ، وهو أيسر المذاهب علمًا وعملًا. وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث أن الماء طَهورٌ لا يُنجِّسه شيء

(1)

. وجاء في رواياتٍ

(1)

أخرجه أبو داود (66) والترمذي (66) والنسائي (1/ 174) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسَّنه الترمذي. قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 13): صححه أحمد ويحيى بن معين وابن حزم. وأخرجه أبو داود (68) والترمذي (65) وابن ماجه (370) من حديث ابن عباس، وصححه ابن خزيمة (91) وابن حبان (1241، 1242) والحاكم في "المستدرك"(1/ 159).

ص: 6

استثناءُ ما غيَّرت النجاسة أحدَ أوصافه، وهي ضعيفة من جهة الإسناد

(1)

، لكن حكوا الإجماع على ذلك

(2)

.

المذهب الثاني: أن هذا حكم الماء الكثير بحسب مقداره في نفسه. فأما القليل، فينجَس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم تُغيِّر أحدَ أوصافه. والقائلون بهذا يستثنون بعض النجاسات كالتي [2/ 6] لا يدركها الطرف، والتي تعمُّ بها البلوى، وميتة ما لا دم له سائل؛ وتفصيل ذلك في كتب الفقه. ثم المشهور في التقدير أن ما بلغ قلَّتين فهو كثير، وما دون ذلك فهو قليل. جاء في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثُ القلَّتين

(3)

، وروي من قول عبد الله بن

(1)

أخرجه ابن ماجه (521) والدارقطني (1/ 28) والبيهقي (1/ 259) من حديث أبي أمامة الباهلي، وفي إسناده رشدين بن سعد وهو متروك.

وأخرجه الدارقطني (1/ 28) من طريق راشد بن سعد عن ثوبان مرفوعًا. وفي إسناده أيضًا رشدين. ورواه الدارقطني (1/ 28) من طريق الأحوص عن راشد بن سعد مرسلًا. قال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه.

وانظر "علل" الدارقطني (12/ 434 - 436) و"التلخيص الحبير"(1/ 26).

(2)

قال الشافعي في "اختلاف الحديث" من "الأم"(10/ 87، 88): وما قلتُ من أنه إذا تغيَّر طعم الماء أو ريحه أو لونه كان نجسًا، يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ لا يُثبت مثلَه أهلُ الحديث، وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه اختلافًا. وانظر "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2/ 82).

(3)

سيأتي كلام المؤلف عليه.

ص: 7

عمر، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، ومن قول مجاهد

(1)

وغيره من التابعين، وأخذ به نصًّا عبيدُ الله بن عبد الله بن عمر وبعضُ فقهاء مكة. والظاهر أنَّ كلَّ مَن روى الحديث من الصحابة فمَنْ بعدهم يأخذ به، ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلا بإثبات خلافه. ولم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير آخر، فأما من بعده فرويت أقوال:

أولها: عن ابن عباس، ذكر ذَنوبَين

(2)

، وفي سنده ضعف. ولو صحَّ لما تحتَّمت مخالفته للقلتين، فإن ابن عباس معروف بالميل إلى التيسير والتوسعة، فلعله حمل القلَّتين على الإطلاق، فرأى أنه يصدُق بالقلتين الصغيرتين اللتين تسع كلٌّ منهما ذَنوبًا فقط.

ثانيها: عن سعيد بن جبير، ذكر ثلاثَ قِلال

(3)

. وسعيد كان بالعراق، فكأنه رأى قلال العراق صغيرةً، كما أشار الشافعي إلى ذلك في القِرَب، فحزَرَ سعيد أنَّ ثلاثًا من قلال العراق تعادل القلتين اللتين يُحْمَلُ عليهما الحديث.

ثالثها: عن مسروق قال: "إذا بلغ الماءُ كذا لم ينجِّسه شيء". ونحوه عن ابن سيرين، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود

(4)

. وهؤلاء عراقيون، فإما أن

(1)

انظر لهذه الآثار "مصنف" ابن أبي شيبة (1/ 144) و"سنن" الدارقطني (1/ 24، 25).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 144).

(3)

أخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (1/ 144).

(4)

أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة (1/ 144). وفيها جميعًا: "كُرًّا" بدل "كذا". والكُرُّ كَيْل يُقدَّر باثني عشر وَسَقًا، والوسق ستون صاعًا.

ص: 8

يكونوا لم يحققوا مقدار القلتين في الحديث بقلال العراق، فأجملوا. وإما أن يكون كلٌّ منهم أشار إلى ماء معيَّن، فأراد بقوله:"كذا" أي بمقدار هذا الماء المشار إليه. وقد ثبت بقولهم أنهم يرون التقدير، ولَأَنْ يُحْمَل ذلك على التقدير المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى من أن يُحمَل على تقديرٍ لا يُعلَم له مستند من الشرع.

رابعها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ذكر أربعين قلة

(1)

. ورُوِيَ مثله من وجه ضعيف عن أبي هريرة

(2)

. وقيل عنه: أربعين غَرْبًا

(3)

. وقيل: أربعين دلوًا

(4)

. وهذا القول يحتمل معنيين: الأول المعنى المعروف لحديث القلتين. المعنى الثاني أن ما بلغ الأربعين لا ينجَس البتة، لا

(5)

بمخالطةِ نجاسةٍ لا تُغَيِّر أحد أوصافه لأنه قلتان وأكثر، ولا بمخالطةِ نجاسةٍ تغيِّر أحد أوصافه لأن ذلك لا يقع عادة؛ إذ لا يُعرف في ذاك العصر ببلاد العرب ماء يبلغ أربعين أو [2/ 7] أزيد تقع فيه نجاسةٌ تغيِّره.

والمعنى الأول يحتاج إلى الاستثناء من منطوقه، فيقال: إلا أن يتغير؛ ومن مفهومه فيقال: إلا بعضَ النجاسات كميتة ما لا دم له سائل. ومع ذلك لا يكون لمفهومه مستند معروف من الشرع، بل المنقول عن الشرع خلافه،

(1)

أخرجه أبو عبيد في كتاب "الطهور"(160) وابن أبي شيبة (1/ 144) والدارقطني (1/ 27).

(2)

أخرجه أبو عبيد في كتاب "الطهور"(161) والدارقطني (1/ 27).

(3)

أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار"(مسند ابن عباس) رقم (1091).

(4)

أخرجه أبو عبيد في كتاب "الطهور"(162) والطبري برقم (1092).

(5)

في المطبوع: "إلا". والمثبت يقتضيه السياق.

ص: 9

وأيضًا فلم يذهب إليه أحد من الفقهاء.

فإما أن يترجح المعنى الثاني، وتكون فائدة ذاك القول أن مَن ورد ماءً فوجده متغيرًا، فإن كان من الكثرة بحيث لا يُعرف في العادة أن تقع فيه نجاسة تُغَيِّره، فله استعماله بدون بحث. وإن كان دون ذلك فعليه أن يَتروَّى ويبحث. وإما أن يُحمَل على المعنى الأول، ويُطرَح مفهومه، ويقال: لعل ذاك القول كان عند سؤال عن ماء بذاك المقدار وقعت فيه نجاسة ولم تغيِّره، فذكر الأربعين لموافقة الواقع لا للتقييد.

هذا، ولم أجد عن المتقدمين من الفقهاء وغيرهم حرفًا واحدًا فيه التفاتٌ إلى ما اعتمده الحنفية من اعتبار مساحة وجه الماء دون مقداره. وكأنَّ الأستاذ شعر بهذا، فحاول عبثًا أن يُشرك مع مذهبه في ذلك مذهبَ القلتين، إذ قال:"لم يأخذ به أحد من الفقهاء قبل المائتين". وقد عَلِمتَ أنَّ القول بالقلَّتين مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم.

فأما الحنفية، فذهبوا في الجملة إلى الفرق بين القليل والكثير، لكنهم لم يعتبروا مقدار الماء في نفسه، وإنما نظروا إلى مساحة وجهه، وعندهم في ذلك روايات:

الأولى: أن الماء الراكد الذي تقع فيه نجاسة لا تُغَيِّر أحد أوصافه، إذا كانت مساحة وجهه بحيث يظن المحتاجُ خلوصَ النجاسة من أحد طرفيه إلى الآخر= تنجَّس

(1)

، وإلا فلا.

(1)

في الأصل: "بنجس"، ولعل الصواب ما أثبتُّه كما سيأتي في السطر التالي. ويمكن أن يكون "ينْجَسُ".

ص: 10

الثانية: أنه إذا كانت بحيث إذا حُرِّك أدناه اضطرب أقصاه تنجَّس، وإلَّا فلا.

ولهم في الترجيح والتفريع اختلافٌ واضطرابٌ شديدٌ جدًّا، كما تراه في كتبهم المطولة

(1)

. واستبعد بعضهم عدمَ اعتبار العمق، فاشترطوا عمقًا واختلفوا في قدره. فقيل: أن يكون بحيث لا ينحسر بالاغتراف. وقيل: أربع أصابع، وقيل: ما بلغ الكعبين، وقيل: شِبْر، وقيل: ذراع، وقيل: ذراعان!

واختلفوا على الرواية الثانية في الحركة، فقيل: حركة المغتسل، وقيل: المتوضئ، وقيل:[2/ 8] اليد. ولم يعتبروا وقوع الحركة، وإنما ذكروها لمعرفة قدر المساحة. وسواءٌ في الحكم عندهم أكان الماء عند وقوع النجاسة وبعدها ساكنًا أم تحرَّك، وقالوا: إذا كان بالمساحة المشروطة فللمحتاج أن يستعمل من موضع النجاسة وإن لم يكن قد تحرَّك! وقالوا: إذا كانت مساحة وجه الماء تساوي القدر المشروط كفى، وإن كان دقيقًا كأن يكون طولُه مائة ذراع، وعرضُه ذراعًا! وقال محققهم ابن الهمام

(2)

في ترجيح الرواية الأولى: "هو الأليق بأصل أبي حنيفة، أعني عدم التحكم بتقدير فيما لم يرِدْ فيه تقدير شرعي".

أقول: والرواية الأولى فيها تحكُّم. والبول مثلًا إذا وقع في الماء ثم حُرِّك الماء خلصتْ ذرَّات البول إلى جميع الماء، كما تشاهده إذا صببتَ قارورة مداد في حوض، فقد يظهر لون المداد في الماء واضحًا، وقد يظهر

(1)

انظر "فتح القدير"(1/ 77 وما بعدها)، و"حاشية ابن عابدين"(1/ 191 وما بعدها).

(2)

في "فتح القدير"(1/ 77).

ص: 11

بتأمل، وقد لا يظهر. وذلك بحسب اختلاف قدر الماء، وقدر المداد، وقدر لونه، وعلى كل حال فالخلوص محقَّق، وإنما لا يظهر اللون لتفرُّق الذرات. وظنونُ الناس لا ترجع غالبًا إلى دلالة، وإنما ترجع إلى طبائعهم، فمنهم متقزِّز ينفر عن حوض كبير إذا رأى إنسانًا واحدًا بال فيه. وآخر لا ينفر، ولكن لو رأى ثلاثة بالوا فيه لنفر. وثالث لا ينفر، ولو رأى عشرةً بالوا فيه! وإذا جردت الرواية الأولى عن التحكم لم يكد يتحصل منها إلا أنَّ قائلها وَكَل الناس إلى طباعهم، وفي عدِّ هذا قولًا ومذهبًا نظر.

وقد حكى الحنفية أن محمد بن الحسن كان يقول بعشرٍ في عشر، ثم رجع وقال:"لا أوقِّت شيئًا"

(1)

. وعقد الشافعي لهذه المسألة بابًا طويلًا تراه في كتاب "اختلاف الحديث" بهامش "الأم"(ج 7 ص 105 - 125)

(2)

، وذكر أنه ناظر بعضهم، والظاهر أنه محمد بن الحسن، وفي المناظرة

(3)

: "قال: قد سمعتُ قولك في الماء، فلو قلتَ: لا ينجس الماء بحال للقياس على ما وصفتَ أن الماء يزيل الأنجاس، كان قولًا لا يستطيع أحدٌ ردَّه

قلت: ولا يجوز إلا أن لا ينجس شيء من الماء إلا بأن يتغير

أو ينجس كلُّه بكلِّ ما خالطه. قال: ما يستقيم في القياس إلّا هذا، ولكن لا قياسَ مع خلافِ خبرٍ لازم. قلتُ: فقد خالفتَ الخبرَ اللازم، ولم تقل معقولًا، ولم تقِسْ". وقال في موضع آخر

(4)

: "فقال: لقد سمعتُ أبا يوسف يقول: قول

(1)

انظر "حاشية ابن عابدين"(1/ 191).

(2)

(10/ 82 - 95) ط. دار الوفاء.

(3)

المصدر السابق (10/ 89، 90).

(4)

المصدر السابق (10/ 93).

ص: 12

الحجازيين [2/ 9] في الماء أحسنُ من قولنا، وقولنا فيه خطأ". وقال في موضع آخر

(1)

: "فقال: ما أحْسَنَ قولَكم في الماء! ".

أقول: فانحصر الحق في المذهبين الأولين، وسقط ما يخالفهما.

وأما الأمر الثاني، وهو الاضطراب في روايات ذاك الحديث، فالاضطراب الضارُّ أن يكون الحديث حجةً على أحد الوجهين مثلًا دون الآخر، ولا يتجه الجمع ولا الترجيح، أو يكثر الاضطراب ويشتدُّ بحيث يدل أن الراوي المضطرب الذي مدار الحديث عليه لم يَضبط. وليس الأمر في هذا الحديث كذلك، كما يُعلم من مراجعة "سنن الدارقطني"، و"المستدرك"، و"سنن البيهقي"

(2)

.

وأما الأمر الثالث، وهو قول الأستاذ:"ولم يقُلْ بتصحيحه إلا المتساهلون"، ففيه مجازفة. فقد صحَّحه الشافعي

(3)

، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه

(4)

، وأبو عبيد القاسم بن سلام

(5)

. وحكى الشافعي عن مناظره من الحنفية ــ ويظهر أنه محمد بن الحسن ــ أنه اعترف بثبوته، كما

(1)

المصدر السابق (10/ 93).

(2)

انظر "سنن" الدارقطني (1/ 17، 18) و"المستدرك"(1/ 133) والبيهقي (1/ 260 - 262). وراجع "التلخيص الحبير"(1/ 29 وما بعدها) وتعليق أحمد شاكر على الترمذي (1/ 97 - 99).

(3)

في "اختلاف الحديث" من كتاب "الأم"(10/ 89).

(4)

نقل الترمذي (67) أقوال هؤلاء العلماء الذين أخذوا بهذا الحديث، وهذا يشير إلى صحته عندهم وعنده، كما ذكر ذلك أحمد شاكر في شرح الترمذي (1/ 98).

(5)

انظر كتاب "الطهور" له (ص 133).

ص: 13

في كتاب "اختلاف الحديث" بهامش "الأم"(ج 7 ص 115)

(1)

ولفظه: "فقلتُ: أليس تثبت الأحاديث التي وصفتُ؟ فقال: أما حديث الوليد بن كثير [وهو حديث القلتين]، وحديث ولوغ الكلب في الماء، وحديث موسى بن أبي عثمان = فتثبت بإسنادها. وحديث بئر بضاعة، فيثبت بشهرته وأنه معروف". واعترف الطحاوي

(2)

بصحته، كما يأتي. وصححه ابن خزيمة

(3)

، وابن حبان

(4)

، والحاكم

(5)

، وغيرهم. قال الحاكم في "المستدرك" (ج 1 ص 132): "حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجَّا جميعًا بجميع رواته ولم يخرجاه. وأظنهما ــ والله أعلم ــ لم يخرجاه لخلافٍ فيه

" ثم ذكر الخلاف، وأثبت أنَّ ما هو متابعة تزيد الحديث قوة.

وأما الأمر الرابع، وهو قول الأستاذ:"ولم ينفَعْ تصحيحُ مَن صحَّحه لعدم تعيُّن المراد بالقلتين". ففي "فتح الباري"

(6)

: "واعترف الطحاوي من الحنفية بذلك [يعني بصحة الحديث]، لكنه اعتذر عن القول به بأن القُلَّة في العُرف تُطلَق على الكبيرة والصغيرة كالجَرَّة، ولم يثبت في الحديث تقديرُهما، فيكون مجملًا، فلا يُعمل به. وقوَّاه ابن دقيق العيد

".

(1)

(10/ 89) ط. دار الوفاء.

(2)

رواه في "شرح معاني الآثار"(1/ 15) و"شرح مشكل الآثار"(2644) بإسناد صحيح، وبنى عليه الكلام.

(3)

في "صحيحه"(92).

(4)

في "صحيحه"(1249).

(5)

في "المستدرك"(1/ 132، 133).

(6)

(1/ 348).

ص: 14

[2/ 10] أقول: قال الله عز وجل: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. ومن المساكين الصغير والكبير، والطويل الجسيم والقصير القضيف

(1)

. ومن المماليك الصغير والكبير. وقد يقال نحو ذلك في الإطعام والكسوة، إذ يَصدُقان بتمرة تمرة وقَلَنْسُوَة قلنسوة. وأمثال هذا في النصوص كثير. وفيها ذكر المقادير كالصاع والرطل والمثقال والميل والفرسخ وغير ذلك مما وقع فيه الاشتباه والاختلاف، ولم يقل أحد في شيء من ذلك: إنه مجمل. بل منهم من يقول بمقتضى الإطلاق، ومنهم من يذهب إلى الغالب أو الأوسط، ومنهم من يختار الأكمل.

فيمكن الأخذ بمقتضى الإطلاق في القلتين، فيؤول ذلك إلى تحقيق المقدار بما يملأ قلتين من أصغر ما يكون من القلال. ولا يَخْدِش في ذلك أنه قد يكون مقدار قُلَّةٍ كبيرة أو نصفها مثلًا، كما قد يأتي نحو ذلك في كسوة المساكين على القول بأنه يكفي ما يُسمَّى كسوة مساكين.

ويمكن الأخذ بالأحْوَط كما فعل الشافعي وغيره. ولا ريب أنَّ ما بلغ قلتين من أكبر القلال المعهودة حينئذٍ وزاد على ذلك داخلٌ في حكم منطوق الحديث حتمًا على كل تقدير، وهو أنه لا ينجَس، وأن ما لم يبلغ قلَّتين من أصغر القلال المعهودة حينئذ داخلٌ في حكم مفهوم الحديث حتمًا، وهو أنه ينجس. فلا يتوهم في الحديث إجمال بالنظر إلى هذين المقدارين، وإنما يبقى الشك في ما بينهما، فيؤخذ فيه بالاحتياط.

(1)

أي النحيف.

ص: 15

وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي"

(1)

: "قد اختُلِف في تفسير القُلَّتين اختلافًا شديدًا كما ترى، ففُسِّرتا بخمس قِرَب، وبأربع، وبأربعة وستين رطلًا، وباثنين وثلاثين رطلًا، وبالجرَّتين مطلقًا، وبالجرّتين بقيد الكبر، وبالخابيتين، والخابية: الحُبُّ. فظهر بهذا جهالة مقدار القُلّتين، فتعذَّر العملُ بها".

أقول: أما الاختلاف في تفسير القُلة بمقتضى اللغة، فمَنْ تأمَّلَ كلامَ أهل اللغة وموارد الاستعمال وتفسير المحدِّثين السابقين ظهر له أن القُلّة هي الجَرَّة، وإنما جاء قيد الكبر من جهتين:

الأولى: تفسير أهل الغريب لما ورد في الحديث

(2)

في ذكر سدرة المنتهى: "فإذا نَبِقُها مثلُ [2/ 11] قِلالِ هَجَر، وإذا ورقُها مثل آذان الفِيَلة". وقِلال هَجَر مشهورة بالكبر، وتفخيمُ شأن السدرة يقتضي الكبر.

الثانية: تفسير المحتاطين لحديث القلتين. وفي "سنن البيهقي"(ج 1 ص 264) عن مجاهد تفسيرُ القلَّتين بالجرَّتين. ونحوه عن وكيع، ويحيى بن آدم. وعن ابن إسحاق:"هذه الجِرار التي يُستقى فيها الماء والدواريق". وعن هشيم: "الجرَّتَين الكبار". وعن عاصم بن المنذر: "الخوابي العظام".

(1)

(1/ 265) بهامش "السنن الكبرى".

(2)

أخرجه البخاري (3887) عن مالك بن صعصعة في حديث المعراج. وانظر "أعلام الحديث" للخطابي (3/ 1680) و"معالم السنن"(1/ 57) و"النهاية" لابن الأثير (4/ 104).

ص: 16

وأكثرُ الآخذين بحديث القلتين أخذوا بالاحتياط، فاشترطوا الكبر. والخابية هي الحُبُّ، والحُبُّ هو الجرة أو الجرة الكبيرة. وعلى كل حال فما بلغ جرَّتين من أكبر ما يُعهد من الجِرار داخلٌ في حكم منطوق الحديث حتمًا، وما لم يبلغ جرتين من أصغر ما يُعهد من الجِرار داخلٌ في حكم مفهومه حتمًا كما سلف.

وأما الاختلاف في مقدار ما تسع، فأكثرُ الأوجه التي ذكرها ابن التركماني جاءت في خبرٍ

(1)

رواه ابن جريج عن محمد بن يحيى، عن يحيى بن عُقَيل، عن يحيى بن يعمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسًا ولا بأسًا". رواه أبو قرة

(2)

عن ابن جريج وقال فيه: "قال محمد: فرأيت قِلالَ هَجَر، فأظنُّ كلَّ قُلَّة تأخذ قِرْبتَين".

ورواه الدارقطني

(3)

، عن أبي بكر النيسابوري، عن أبي حميد المِصِّيصي، عن حجاج، عن ابن جريج؛ وقال فيه:"قال: فأظن أن كلَّ قُلَّةٍ تأخذ الفَرَقَيْن".

ورواه البيهقي

(4)

عن أبي حامد أحمد بن علي الرازي، عن زاهر بن أحمد

(5)

، عن أبي بكر النيسابوري بإسناده مثله، وزاد: "والفَرَق ستة عشر

(1)

أخرجه البيهقي (1/ 263).

(2)

أخرجه البيهقي (1/ 264) من طريقه.

(3)

(1/ 24).

(4)

(1/ 263).

(5)

في الأصل: "طاهر" وهو خطأ. والتصويب من البيهقي. وهو أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي المترجم في "سير أعلام النبلاء"(16/ 476).

ص: 17

رطلًا".

ورواه الشافعي

(1)

: "ثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج بإسنادٍ لا يحضرني ذكرُه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل خبثًا". وقال في الحديث: بقلال هَجَر. قال ابن جريج: وقد رأيت قِلال هَجر، فالقُلَّة تَسَعُ قِربَتين أو قِربتين وشيئًا". قال الشافعي

(2)

: "كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القِربة أو نصفُ القِربة، فيقول: خمسُ قِرَب هو أكثر ما يَسَعُ قلتين، وقد تكون القلتان أقل من خمس قِرَب". قال الشافعي

(3)

: "فالاحتياط أن تكون القُلَّة قِربتين ونصف

وقِرَبُ الحجاز كِبار

".

ومسلم بن خالد وإن ضعَّفه الأكثرون [2/ 12] ونسبوه إلى كثرة الغلط، فقد وثَّقه ابنُ معين وغيره، وقالوا: كان فقيه أهل مكة، وكانت له حلقة في حياة ابن جريج. وهذا الخبر مما يحتاج إليه الفقيه، فلا يُظَنُّ به الغلط فيه

(4)

.

وقد تابعه في الجملة أبو قُرَّة وهو ثقة. فلفظ "القِربتين" ثابت عن ابن

(1)

في كتاب "الأم"(2/ 10، 11) و"اختلاف الحديث"(10/ 85).

(2)

"الأم"(2/ 23).

(3)

"الأم": (2/ 11).

(4)

قلت: هذا غير مُسلّم، فإن لازمه قبول أحاديث الأحكام والزيادات التي تفرد بها بعض الفقهاء المتكلم فيهم أمثال أبي حنيفة وابن أبي ليلى وغيرهما؛ وهو مما لا يقوله المؤلف ولا غيره من أهل العلم، ثم لو سلمنا بذلك هنا فإسناد الزيادة من فوق مسلم بن خالد ضعيف لجهالة مَن فوق ابن جريج، فإن حمل على رواية أبي قرة عنه، فهي ضعيفة ايضًا لأن يحيى بن يعمر تابعي، ومحمد بن يحيى مجهول. وأما متابعة أبي قرة له في الجملة، فلا تفيد هنا لأن البحث خاص بزيادة "بِقلال هجر" وهي مما لم يتابعه عليها أبو قرة، وهب أنه قد توبع فهي لا تثبت لما عرفت من الضعف. على أن قوله:"وقال في الحديث: بقلال هجر" ليس صريحًا في الرفع، فكيف وقد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج بلفظ:"قال ابن جريج زعموا أنها قلال هجر". فهذا صريح في الوقف. فسقط الاستدلال بها جملة.

ثم كيف يمكن أن تكون هذه الزيادة محفوظة، ولم ترد في شيء من طُرق الحديث المحفوظة التي بها ثبت أصل حديث القُلتين لا برواية مسلم بن خالد له، بل القواعد الحديثية تعطي أن هذه الزيادة منكرة لتفرد ابن خالد بها وقد ضعَّفه الأكثرون، ومن شاء الاستزادة من التحقيق فعليه بـ "الإرواء"(1/ 60).

والحق أن حديث القلتين مع صحته، فالاستدلال به على ما ذهب إليه الشافعية صعب إثباته، وعليه اعتراضات كثيرة لا قِبل لهم بردها، ولقد جهد المؤلف رحمه الله لتقرير الاستدلال به وتمكينه من بعض الوجوه من حيث منطوقه ومفهومه، ولم يتعرض للإجابة عن الاعتراضات المشار إليها، فمن شاء الوقوف عليها فليرجع إلى تحقيق ابن القيم في "تهذيب السنين"(1/ 56 - 74).

والمختار في هذه المسألة إنما هو المذهب الأول الذي قرره المؤلف رحمه الله تعالى، لأن حديثه مع ثبوته فالاستدلال به سالم من أي اعتراض علمي، بل هو الموافق لسماحة الشريعة ويُسرها. [ن].

ص: 18

جريج.

فأما لفظ "الفَرَقيْن"، فإن كان بفتح الراء فيدفعه أن قِلال هَجَر معروفة بالكِبَر بحيث يضرب بها المثل كما مرَّ. وقد قال الأزهري

(1)

بعد أَنْ عاش في هَجَر ونواحيها سنين: "قِلال هَجَر والأحساء ونواحيها معروفة، تأخذ القُلَّةُ منها مزادةً كبيرةً من الماء، وتملأ الراوية قُلتين". والقِربة تكون من جلد واحد، والمزادة من جلدين ونصف أو ثلاثة، والراوية هي البعير الذي يحمل

(1)

انظر "تهذيب اللغة"(8/ 288).

ص: 19

مزادتي الماء. فالمراد هنا أن المزادتين اللتين يُستقَى فيهما على البعير تملآن قلتين، فكيف يعقل أن يكون [2/ 13] ما تسعُه القُلتان من قِلال هَجَر من الماء أربعة وستين رطلًا فقط؟ فإما أن يكون لفظ "الفَرقين" تصحيفًا من بعض الرواة، والصواب "القِرْبتين". وإما أن يكون "الفَرْقين" بسكون الراء، والفَرْق بسكون الراء مائة وعشرون رطلًا. وما وقع في رواية البيهقي عن الرازي عن زاهر:"والفرق ستة عشر رطلًا" تقديرٌ من بعض الرواة ظنَّ الفرقين بفتح الراء. وزاهر فيه كلام

(1)

.

وأما ما ذكره ابن التركماني من تفسير القُلَّتين معًا باثنين وثلاثين رطلًا، فإنما أخذه من قوله

(2)

: "وقد جاء ذكر الفرق من طريق آخر أخرجه ابن عدي

(3)

من جهة المغيرة بن سِقْلاب، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان الماء قُلتين من قِلال هَجَر لم يُنجِّسه شيء"، وذكر أنهما فرقان"

(4)

. قال ابن التركماني: "وهذا يقتضي أن تكون القلتان اثنين وثلاثين رطلًا. والمغيرة هذا ضعَّفه ابن عدي، وذكر ابن أبي حاتم

(5)

عن أبيه أنه صالح. وعن أبي زرعة: جَزَري لا

(1)

هذا إذا كان زاهر بن طاهر [الشحّامي المتوفى سنة 533]، كما أثبته المؤلف. وقد نبَّهنا أنه أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي المتوفى سنة 389، ولم نجد أحدًا تكلم فيه.

(2)

"الجوهر النقي"(1/ 264).

(3)

"الكامل"(6/ 359).

(4)

كذا ذكره ابن التركماني. والذي عند ابن عدي: "وذكر أنهما من قِلال هَجَر"، وليس فيه ذكر "الفرق".

(5)

"الجرح والتعديل"(8/ 224).

ص: 20

بأس به".

أقول: الراوي الذي يطعن فيه محدثو بلده طعنًا شديدًا لا يزيده ثناءُ بعض الغرباء عليه إلا وهنًا، لأن ذلك يُشعِر بأنه كان يتعمد التخليط، فتزيَّن لبعض الغرباء، واستقبله بأحاديث مستقيمة، فظن أن ذلك شأنه مطلقًا، فأثنى عليه. وعرف أهل بلده حقيقة حاله. وهذه حال المغيرة هذا، فإنه جزري أسقطه محدثو الجزيرة. فقال أبو جعفر النفيلى: لم يكن مؤتمنًا. وقال علي بن ميمون الرقي: كان لا يَسْوَى بَعْرةً. وأبو حاتم وأبو زرعة رازيان كأنهما لقياه في رحلتهما، فسمعا منه، فتزيَّن لهما ــ كما تقدَّم ــ فأحسنا به الظنَّ. وقد ضعَّفه ممن جاء بعد ذلك: الدارقطني وابن عدي، لأنهما اعتبرا أحاديثه. وحسبك دليلًا على تخليطه هذا الحديث، فإن الناس رَووه عن ابن إسحاق، عن ابن عبد الله بن عمر، عن أبيه. ولا ذِكر فيه لقِلال هَجَر، ولا للتقدير؛ فخلَّط فيه المغيرة ما شاء.

هذا، والذي في "الميزان"

(1)

في ترجمة المغيرة هذا: "

عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: إذا كان الماء قُلتين لم ينجِّسه شيء، والقُلة أربعة آصُع". ففي هذا أن القلة الواحدة اثنان وثلاثون رطلًا، لا القُلتان معًا. والصاع عند العراقيين ثمانية أرطال، وقد [2/ 14] يكون المغيرة رأى في بعض الروايات التقدير بالفَرْقين، فظنَّه بفتح الراء كما تقدم. وهو تالف على كل حال.

هذا، والفَرْقان بسكون الراء قريبٌ من قِربتين وشيء من قِرَب الحجاز،

(1)

(4/ 163)، وكذا في "الكامل" لابن عدي (6/ 359).

ص: 21

فإنها كِبار كما ذكره الشافعي، فالفرقان مائتان وأربعون رطلًا. ومرَّ عن الشافعي وشيخِه مسلم بن خالد صاحبِ ابن جريج جعلُ الشيء نصفًا، وحرَّر بعض أصحاب الشافعي القِرْبة بمائة رطل، فتكون القلة مائتين وخمسين رطلًا. فتقاربت روايتا الفَرْقين، والقِرْبتين وشيء.

فأما ما روي عن الإمام أحمد أن القُلتين أربع قِرَب

(1)

فكأنه رجَّح رواية أبي قُرَّة عن ابن جريج، ورأى أن القُلتين في أصل الحديث مطلقتان، وأن قِلالَ هَجَرٍ أكبر من قلال المدينة، فرأى أن الزيادة على أربع قِرَب غلوٌّ في الاحتياط لا حاجة إليه.

وأما قول إسحاق بن راهويه إن القُلتين ستُّ قِرَب، فكأنه أخذه من قول الشافعي:"خمس قِرَب" مع قوله: إن قِرَبَ الحجاز كبار، فاحتاط إسحاق، فجعلها ستَّ قِرَب بقِرَب العراق.

وعلى كل حال، فذاك المقدار ــ أعني خمسَ قِرَب من قِرَب الحجاز ــ داخل هو وما زاد عليه في حكم منطوق الحديث حتمًا، أعني أنه لا ينجَس، لأنه يشتمل على قُلتين أو قلتين وزيادة، على جميع التفاسير؛ فدلالةُ الحديث على أنه لا ينجس حتمية. وكذلك دلالة الحديث على أن الماء القليل الذي لا يبلغ أن يكون قلَّتين في تفسير من التفاسير ينجَس= واضحة. فبطلت دعوى تعذُّر العمل بالحديث، وتحتَّم على مَن يعترف بصحته أن يعمل به فيما ذكر.

وأما الأمر الخامس، وهو الاحتجاج بحديث الماء الدائم، فإنه صح في

(1)

كما في "المغني" لابن قدامة (1/ 37).

ص: 22

ذلك حديثان:

الأول في النهي عن البول فيه. ففي "صحيح مسلم"

(1)

من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى أن يُبال في الماء الراكد، ومن حديث أبي هريرة

(2)

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه". وفي رواية

(3)

: "لا تَبُلْ في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل فيه". وحديث أبي هريرة في "صحيح البخاري"

(4)

، وفيه:"ثم يغتسل فيه".

فقد يقال من جانب الحنفية: هاهنا ثلاث قضايا:

الأولى: فرَّق الحديثُ بين الراكد وغيره، وهو قولنا.

[2/ 15] الثانية: دلَّ على أنَّ البول في الماء الراكد ينجِّسه، ولم يشترط التغيير، فهو حجة لنا على من يشترطه.

الثالثة: قال في رواية البخاري: "ثم يغتسل فيه". وهو ظاهر في شمول الحكم للماء الذي يُمكِن الإنسانَ أن يغتسل فيه، ولابد أن يكون أكثر من قلتين؛ فهو حجة لنا على مَن يقول بالقُلتين.

أقول: أما القضية الأولى، فدلالة الحديث على التفرقة إنما هي بمفهوم المخالفة، والحنفية لا يقولون بها، فيلزمهم إلحاق الجاري بالراكد قياسًا،

(1)

رقم (281).

(2)

رقم (282).

(3)

لمسلم رقم (282/ 96).

(4)

رقم (239).

ص: 23

أو يقيموا على مخالفته له دليلًا آخر. أما نحن فنقول بدلالة مفهوم المخالفة، ولكننا نقول: ليس وجه المخالفة ما توهَّمه الحنفية أو بعضُهم حتى قال بعضُهم

(1)

: "إناءان ماءُ أحدِهما طاهر، والآخر نجس، فصُبَّا من مكان عالٍ، فاختلطا في الهواء، ثم نزلا= طهُرَ كلُّه! ولو أُجريَ ماءُ الإناءين في الأرض صار بمنزلة ماء جار"! وقال بعضهم

(2)

: "لو حفر نهرًا من حوض صغير، أو صبَّ رفيقُه الماءَ في ميزاب وتوضأ فيه، وعند طرفه الآخر إناءٌ يجتمع فيه الماءُ= جاز توضُّؤُه به ثانيًا وثم وثم"! وذكروا أن هذا معتبر حتى على القول بنجاسة الماء المستعمل.

وقضية هذا أنه لو عمد إلى جرَّةٍ يصبُّ الماءَ منها في ميزاب، وقعد آخر على وسط الميزاب يبول فيه ويسيل بوله مع الماء، وعلى طرف الميزاب إناء يجتمع فيه ذاك الماء= كان ذاك الماء الذي خالطه البول واجتمع في ذاك الإناء طاهرًا مطهرًا، مع أنه لو وُضع في الجرة ابتداءً شيء يسير من ذاك البول لصار ماؤها نجسًا!

ولا يخفى أن مثل هذا الفرق لا يُعقَل له وجه. وإنما الماء الجاري الخارج بمفهوم المخالفة في الحديث هو ــ بمقتضى التبادر والنظر ــ ما كان جاريًا بطبعه كالأنهار والعيون، مما ليس مفسدة البول فيه كمفسدة البول في الراكد، فإن الراكد يختلط به البول ويبقى بحاله؛ فإن اغتسل منه البائل وغيره كان مغتسلًا بماءٍ مخالطُه البول من أول اغتساله إلى آخره. وأما الجاري كماء النهر، فإن الدفعة التي وقع فيها البول تذهب فورًا ولا تعود، فلا يمكن

(1)

كما في "حاشية ابن عابدين"(1/ 187، 326).

(2)

كما في "حاشية ابن عابدين"(1/ 188).

ص: 24

البائلَ أن يعود فيغتسل فيها. وإنما يمكنه أن يعود فيغتسل في تلك البقعة، ولا ضَير؛ فإنَّ الماء الذي يكون فيها ماء جديد لم يخالطه بوله. ومن شأن الماء الجاري أن يتلاحق، فلا تكاد تمرُّ الدفعة التي وقع فيها البول مسافةً لها قدر حتى يتلاحق بها الماء المتجدِّد فيتغلب [2/ 16] عليها. وعلى فرض أنها حفظت بعضَ حالها حتى مرّت بإنسان يغتسل، فسرعانَ ما تُجاوزه ويعقُبها الماء الجديد بل المتجدد، فيذهب بأثرها. فهذا هو المعنى المعقول الذي به خالف الجاري الراكد، فوجب البناء عليه. وبذلك عُلِمَ الجواب.

وأما القضية الثانية، فلو دل حديث جابر على تنجُّس الراكد بالبولة الواحدة لدلَّ على تنجُّس كل ماء راكد قلَّ أو كَثُر حتى البحر الأعظم. فالصواب أن هناك عدة علل إذا خُشيت واحدة منها تحقَّق النهي:

الأولى: التنجيس حالًا. إما بأن يكون الماء قليلًا جدًّا تغيِّره البولة الواحدة، وإما بأن يكون دون المقدار الشرعي، وقد تقدم الكلام فيه.

الثانية: التنجيس مآلًا. وذلك أنه لو لم يُنْهَ عن البول في الماء الراكد لأوشك أن يبول هذا، ثم يعود فيبول ويتكرر ذلك، وكذلك يصنع غيره، فقد يكثر البول حتى يغيِّر الماء، فينجِّسه.

الثالثة: التقذير حالًا. قال الشافعي كما في هامش "الأم"(ج 7 ص 111)

(1)

: "ومن رأى رجلًا يبول في ماء ناقع قذِرَ الشُّربَ منه والوضوءَ به". وقال قبل ذلك: "كما يُنهَى أن يتغوَّط على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوي الناس إليها، لما يتأذى به الناس من ذلك".

(1)

"اختلاف الحديث"(10/ 86).

ص: 25

الرابعة: التقذير مآلًا. قد يكون الغدير أو المصنعة

(1)

كبيرًا جدًّا لا يقذَره الإنسان لبولةٍ واحدة، لكن إذا علم أن الناس يعتادون البول فيه قذِرَه.

الخامسة: فشوُّ الأمراض. فقد تحقق في الطب أن كثيرًا من الأمراض إذا بال المبتلى بأحدها خرجت جراثيم المرض مع البول. فإن كان البول في ماء راكد بقيت تلك الجراثيم حتى تدخل في أجسام الناس الذين يستعملون ذاك الماء، فيصابون بتلك الأمراض. والإصابةُ بذلك أكثرُ جدًّا من الإصابة بالجُذام للقرب من المجذوم. وقد ثبت في "الصحيح"

(2)

: "فِرَّ من المجذوم كما تفِرُّ من الأسد". وكثيرٌ منها أشدُّ ضررًا من جَرَب الإبل. وقد ثبت في "الصحيح"

(3)

: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ".

وبهذا يبقى الحديث على عمومه، ولا يحتاج إلى إخراجه عن ظاهره بمجرد الاستنباط. فأما حال الضرورة فمستثنى من أكثر النواهي. ثم إن تحقَّق بعض [2/ 17] هذه العلل في ماء يصدق عليه أنه ليس براكد وجب أن يشمله الحكم. أما على قول مَن لا يَعتَدُّ بمفهوم المخالفة كالحنفية فواضح، وأما على قول من يعتد به فيُخَصُّ عمومُه بالقياس الواضح.

ولا ريبَ أن الشرع لا يبيح أن يُلْقَى في الماء الجاري ما يضرُّ بالناس أو يؤذيهم. وعلى هذا، فلا حاجة في التخصيص إلى القياس، بل النصوص الزاجرة عن الإضرار والإيذاء كافية.

(1)

المصنعة: شبه الحوض يُجمع فيه ماء المطر ونحوه.

(2)

أخرجه البخاري (5707) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه البخاري (5771) ومسلم (2221) من حديث أبي هريرة.

ص: 26

فإن قيل: لو اعتبرنا العلل المذكورة واعتبرنا القياس لزم شمولُ المنع لكل ماء جارٍ، فيلزم اطِّراحُ المفهوم رأسًا.

قلت: بل تبقى مياه السيول ونحوها التي تمرُّ بنفسها على مواضع النجاسة، فلا يبقى وجهٌ لمنع الإنسان عن البول فيها؛ على أن الذين يعتدّون بمفهوم المخالفة يشترطون ما لعلَّنا لو دقَّقنا للاحَ لنا أنه غير متحقِّق هنا. وفي القرآن عدة آيات لا يأخذون فيها بمفهوم المخالفة، ويعتلّون بوجوهٍ إذا تدبرتَ وجدتَ بعضها واردًا هنا.

وأما حديث أبي هريرة، فإن كان قوله:"ثم يغتسلُ منه" على معنى الخبر ــ كما قرّره القرطبي، قال

(1)

: كحديث: "لا يضرِبْ أحدكم امرأته ثم يضاجعُها"

(2)

ــ فالكلام فيه كما مرَّ، إلّا أنَّه زاد بقوله:"ثم يغتسل منه" التنبيهَ على بعض العلل. كأنه قال: كيف يبول فيه، ثم لعله يحتاج إليه فيغتسل منه، فيتنجَّس أو يتقذَّر؛ أو يدع الاغتسال مع حاجته إليه؟ وإذا كان هو يستقذره لبوله فيه، فغيرُه أولى بالاستقذار. والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ولا يدفع هذا أن تكون هناك علة أخرى، فإنّ النهي عامٌّ، وقد جاء مثله بدون هذا التنبيه، وهو حديث جابر.

وإن كان المعنى على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال، انصبَّ النهيُ على الاغتسال بعد البول، كأنه قيل: لا يغتسل في ماء دائم قد بال فيه.

(1)

في "المفهم"(1/ 542).

(2)

ذكره الحافظ في "الفتح"(1/ 347) نقلًا عن القرطبي. ولفظ الحديث كما عند البخاري (4942) ومسلم (2855) من حديث عبد الله بن زمعة: "يَعمِد أحدكم يَجْلد امرأته جَلْدَ العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه".

ص: 27

ويحتمل هذا النهي عللًا: إحداها التنجُّس، ثانيتها التقذر، ثالثتها أن يكون عقوبة للبائل؛ لأن الإنسان إذا علم أنه إن بال في الماء حُظِر عليه الاغتسالُ منه كان مما يمنعه عن البول. وقريب منه حديث المرأة التي لعنت ناقتَها، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتخلية الناقة

(1)

، كأنه جعل عقوبة المرأة على لعنها الناقةَ أن لا تنتفع بها، لكي تنزجر هي وغيرها عن اللعن. فأي واحدة من هذه العلل وُجِدَت وُجِدَ النهيُ، وبذلك يساوق التعليلُ عمومَ النص. وإن كان المعنى: لا يبُلْ في الماء الدائم، فإن عصى فبال، فلا يغتسلْ منه؛ فآخره كما ذكر، وأوله كما مرَّ في حديث جابر.

[2/ 18] وأما القضية الثالثة، فقد مرَّ ما يُعلم به الجواب عنها، على أن الماء إذا كان دون القُلتين بقليل، وكان في حفرة ضيقة أو حوض بقدر قعدة الإنسان إلا أنه عميق، أمكن الانغماس فيه؛ لأنه إذا قعد ارتفع الماء من الجوانب فيغمره. ومع ذلك فالاغتسال في الماء يصدُق بأن يقعد وسطَه ويغرف على نفسه. وفوق هذا، فكلمةُ "فيه" كأنها شاذة، والغالب في الروايات من ذلك الوجه وغيره كلمة "منه"

(2)

.

الحديث الثاني: النهي عن اغتسال الجنب فيه. وهو في "الصحيحين"

(3)

عن أبي السائب "أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا".

(1)

أخرجه مسلم (2595) من حديث عمران بن حصين.

(2)

انظر "فتح الباري"(1/ 348).

(3)

أخرجه مسلم (283). ولم أجده عند البخاري.

ص: 28

قد يستدل به على أن الماء يصير باغتسال الجنب فيه نجسًا أو غير مطهِّر. فأما النجاسة، فرويت عن أبي حنيفة، ثم رغب عن ذلك الحنفيةُ أنفسهم. وأما سلب التطهير فوافقهم عليه فيما دون القُلتين الشافعية والحنابلة. ومن يأبى ذلك يقول: إن علة النهي هي التقذير. وقد يحتمل غير ذلك من العلل تظهر بالتأمل، فيساوق التعليل عموم النص. وأما التفرقة بين الدائم والجاري فقد مرَّ ما فيها. وكذا إن قيل: إنَّ الحديث يدل على حصول المفسدة في الماء الذي يمكن أن يغتسل فيه الجنب ولا يكون إلا فوق القُلتين. فقد مرَّ مثله، والجواب عنه.

وأما الأمر السادس، وهو قول الأستاذ:"فدعونا معاشرَ الحنفية نتوضأ من الحنفيات ولا نَغْطِس في المستنقعات"، فيأبى الأستاذ إلا التقليد حتى في السخرية

(1)

!

(1)

أقول: لقد فات المصنفَ رحمه الله تعالى النظرُ فيما ادعاه الأستاذ من اعتراف ابن دقيق العيد بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم، فإن الواقع خلافه. فهاك نصَّ كلامه في الشرح المذكور (1/ 121 - 125 بحاشية "العدّة"):"وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد وإن كان أكثر من قُلتين، فإن الصيغة صيغة عموم. وأصحاب الشافعي يخصون هذا العموم، ويحملون النهي على ما دون القُلتين. فيحمل هذا الحديث العام في النهي على ما دون القُلتين جمعًا بين الحديثين، فإن حديث القُلتين يقتضي عدم تنجيس القُلتين فما فوقهما. وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه. والخاص مقدم على العام".

فليتأمل القارئ في كلام ابن دقيق هذا: أهو اعتراف أم اعتراض! [ن].

ص: 29