الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعلوم من أمره إياهم بسؤال الهداية إلى هذا دون ذاك: أنه يأمرهم بلزوم هذا واجتناب ذاك. والمُنْعَم عليهم هم الأنبياء ومن اهتدى بهديهم، فهم من هذه الأمة: محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وخيارُ أصحابه، ومن اهتدى بهديهم ممن بعدهم.
[2/ 207] ولا خفاء أن المأخذَين السلفيَّين هما سراط هؤلاء، وأن علم الكلام والفلسفة ليسا من سراطهم. وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير "المغضوب عليهم" و"الضالين" باليهود والنصارى
(1)
. ولا خفاء أن موسى وعيسى عليهما السلام ومَن كان على هديهما هم من المنعَم عليهم، وإنما وقع الغضب والضلال على اليهود والنصارى الذين خالفوا هديَ موسى وعيسى وأصحابهم وأتباعهم المهتدين بهديهم. وكان من تلك المخالفة الأخذُ في علم الكلام والفلسفة اتباعًا لسراط الأمم التي هي أوغلُ في الضلال كاليونان والرومان.
فمن الواضح الذي لا يخفى على أحد أن
علم الكلام والفلسفة ليسا من سراط المُنْعَم عليهم
، بل هما من سراط المغضوب عليهم والضالِّين. فثبت بهذا أوضحَ ثبوتٍ أن الشرع لم يقتصر على الإعراض عن علم الكلام والفلسفة، بل حذَّر منهما، ونفَّر عنهما. فهل يقول مسلم بعد هذا: إن المأخذين السلفيين غير كافيين في معرفة الحق في العقائد، وأن ما يؤخذ من علم الكلام والفلسفة مقدَّم على المأخذين السلفيين ومهيمنٌ عليهما؟!
(1)
أخرجه أحمد (19381) والترمذي (2954) وابن حبان (6246، 7206) من حديث عدي بن حاتم.
وقد قال الله تبارك وتعالى لمحمد وأصحابه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وإكمالُ الدين وكمالُ إيمان الصحابة صريحٌ في أن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبيَّنَةً
(1)
موضَّحةً حاصلةً لهم. وليس هذا كالأحكام العملية، فإنه لا يُطلب معرفةُ ما لم يقع سببه منها، فقد يُكتفَى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الأصل الذي إذا رُجِع إليه عند وقوع سبب الحكم عُرِف منه الحكم.
ثم رأيتُ في "شرح المواقف"
(2)
بعد ذكر الأحكام العملية ما لفظه: "وإنها لا تكاد تنحصر في عدد، بل تتزايد بتعاقب الحوادث الفعلية، فلا يتأتى أن يُحَاط بها
…
بخلاف العقائد فإنها مضبوطة لا تزايُدَ فيها أنفسِها، فلا تَعَذَّرُ الإحاطةُ بها".
وأيضًا فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند [2/ 208] الجمهور، فأما تأخيره عن وقت الحاجة فممتنع باتفاق الشرائع، كما نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني. ووقتُ الحاجة إلى العقائد المطلوب اعتقادُها في الشرع لا يمكن تأخّرُه عن حياة النبي صلى الله عليه آله سلم. ووقتُ الحاجة في
(1)
(ط): "مبنية" خطأ.
(2)
(1/ 38).
النصوص المتعلقة بالعقائد هو وقت الخطاب، لأن المكلَّف يسمع، فيعتقد. والقضية العملية التي تستدعي الحكمَ لا محيصَ للقاضي عن النظر فيها والقضاءِ عندما تحدُث. فأما العقائد فلو فُرِض أن فرعًا منها لم يُعرَف حالُه من المأخذَين السلفيَّين فحقُّه تركُ الخوض فيه، وأن يكون الخوض فيه بدعة ضلالةٍ، إذ لا مُلجِئ إلى النظر فيه، فضلًا عن الكلام!
وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرقٍ أنه قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"
(1)
في أحاديث كثيرة في أفضلية الصحابة وكمال إيمانهم ثم أتباعهم. ولا خفاء أنه لم يكن إذ ذاك عند المسلمين خبر لعلم الكلام ولا الفلسفة، وأنه لما حدث بعضُ النظر في الكلام كان بقايا الصحابة ثم أئمة التابعين ينكرونه. وهكذا لم يزل علماء الدين العارفون بالكتاب والسنة المتحققون باتباع السلف ينكرون الكلام والفلسفة، ويشدِّدون على من ينظر فيهما إلى أن قلَّ العلماء، وفَشَتِ الفتنة.
وبالجملة، فشهادةُ الإسلام بكفاية المأخذين السلفيَّين في العقائد وتحذيرُه مما عداهما بغاية البيان، ودلالةُ العقل بذلك واضحة، والله المستعان.
فهل يسوغ مع هذا لمسلمٍ أن يرضى طعن الكوثري في أئمة السنة باقتباسهم العقائد من المأخذين السلفيَّين وردِّهم ما يخالف ذلك؟ كقوله
(1)
أخرجه البخاري (2651، 3650) ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين بلفظ: "خير الناس قرني
…
"، وأخرجه البخاري (6429) ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود، وأخرجه مسلم (2534) من حديث أبي هريرة. وفي الباب عن غيرهم من الصحابة.
(ص 115) في الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: "وقد ذكر في كتاب "الرد على الجهمية" ما يدلّ على ما أُصيب به عقله
…
وهو الذي اعترف أنه يجهل علم الكلام
…
ومع ذلك تراه يدخل في مضايق علم أصول الدين
…
".
وقال (ص 151) في الإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل: "وعبد الله بن أحمد صاحب كتاب "السنة"، وما حواه كتابه هذا كافٍ في معرفة الرجل، ومثلُه لا يصدَّق في أبي حنيفة
…
".
[2/ 209] وقوله (ص 16) في الإمام الجليل عثمان بن سعيد الدارمي: "وعثمان بن سعيد في السند هو صاحب "النقض" (كتابٌ في الرد على الجهمية) مُجَسِّم مكشوف الأمر، يعادي أئمة التنزيه
…
ومثلُه يكون جاهلًا بالله سبحانه".
وقوله (ص 19) في الإمام الشهير محمد بن إسحاق بن خزيمة: "واعتقاد ابن خزيمة يظهر من كتاب "التوحيد"
…
وعنه يقول صاحب "التفسير الكبير"
…
إنه كتاب الشرك. فلا حبَّ ولا كرامة".
ويتتبع أصحابَ الإمام أحمد طاعنًا في اعتقادهم، يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء، يقصد الطعن في الإمام أحمد. بل رمز في بعض المواضع إلى الطعن في الإمام أحمد بما هو أصرح من هذا.
وطعن (ص 5) في رواة السنة وفي أئمتها الذين امتحنهم المأمون وآله، فقال: "وكانت فلَتاتٌ تصدر من شيوخهم في الله سبحانه وصفاته بما ينبذه الشرع (الفلسفي) والعقل (الجهمي) في آنٍ واحد، فرأى المأمونُ امتحانَ المحدِّثين والرواة في مسألة كان يراها من أجلى المسائل ليوقفهم موقف التروِّي فيما يرون ويروون. فأخذ يمتحنهم في مسألة القرآن، يدعوهم إلى القول بخلق القرآن
…
فمنهم من أجاب مرغَمًا من غير أن يعقِل المعنى، ومنهم من تورَّع من الخوض فيما لم يخُضْ فيه السلف".
ولا ذنبَ لهؤلاء الأئمة إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله، وصدَّقوا كتاب الله وسنة رسوله، ولم يلتفتوا إلى ما زعمه غيرُهم أنه لا يوثق بالفطرة والعقل إلا بعد إتقان علم الكلام والفلسفة، وأن النصوص الشرعية من كلام الله تعالى وكلام رسوله لا تصلح حجةً في العقائد؛ لأنها لا تفيد اليقين، كما في "المواقف" وشرحها
(1)
في أواخر الموقف الأول: "الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ قيل: لا تفيد، وهو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، .. وقد جزم الإمام الرازي بأنه لا يجوز التمسُّك بالأدلة النقلية".
فلو أنَّ الطاعنَ في أئمة السنة طعن فيهم من جهة العقل ساكتًا عن الدين لكان الخطبُ أيسرَ، إذ يقال: إنه لم يتناقض، بل غاية أمره أنه سكت عن الطعن في القرآن والنبي اكتفاءً بما يلزم منه ذلك. فأما الطاعن فيهم من جهة الدين، فينسبهم إلى الزيغ والبدعة والجهل بعقائد الإسلام، فلا يخفى كذبه على عارف. والله المستعان.
* * * *
(1)
(2/ 51، 58).