الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 42]
المسألة الرابعة
إشعار الهدي
في "تاريخ بغداد"(13/ 390 [407]) عن يوسف بن أسباط: "
…
وأشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال أبو حنيفة: الإشعار مُثْلَة".
قال الأستاذ (ص 87): "ليس من قوله فقط، بل هو أثر يرويه عن حماد عن إبراهيم النخعي، كما يشير إلى ذلك الترمذي
…
، يريدان: إشعار أهل زمانهما المبالَغ فيه، ولام التعريف تُحمل على المعهود في زمانهما
…
على أن الأعمش يقول: لم نسمع إبراهيم النخعي يقول شيئًا إلا وهو مروي، كما تجد ما بمعناه في "الحلية" لأبي نعيم. فيكون قول النخعي هذا أثرًا يحتج به، وأنت عرفت قيمة مراسيل النخعي عند ابن عبد البر وغيره".
أقول: أما الترمذي
(1)
، فروى من طريق وكيع حديث إشعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال:"سمعت يوسف بن عيسى (وهو ثقة) يقول: سمعت وكيعًا يقول حين روى هذا الحديث قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة".
قال الترمذي: "سمعت أبا السائب (سَلْم بن جُنادة، وهو ثقة) يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أَشْعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو حنيفة: هو مُثْلَة! قال الرجل: فإنه قد رُوِي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: قال إبراهيم! ما أحقَّك بأن تُحبَس، ثم لا تخرج
(1)
رقم (906) من حديث ابن عباس.
حتى تَنزِعَ عن قولك هذا! ".
القائل: "فإنه قد رُوي عن إبراهيم" لا يُدرى من هو؟ وممن سمعه؟ وكيف إسناده؟ ولكن الأستاذ بنى على دعاوى:
الأولى: أن ذاك الرجل ثقة.
الثانية: أن قوله: "فإنه قد رُوِي" معناه فإن أبا حنيفة روى.
الثالثة: أنه سمع ذلك من أبي حنيفة.
[2/ 43] الرابعة: أن أبا حنيفة روى ذلك عن حماد، مع أنه لا ذِكر لحماد في الحكاية.
الخامسة: أن ذلك أثر، مع أن الأستاذ نقَمَ نحو ذلك في "الترحيب" (ص 28) فقال:"وإطلاق الأثر على ما لم يُؤثَر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في دين الله شيء مبتكر في سبيل تقوية الخبر الزائف من هذا الناقد الصالح! ".
السادسة: أن إبراهيم النخعي لم يكن يستنبط ولا يقيس، وإنما كان يقول ما يرويه بنصه. والأستاذ يعلم أن المتواتر عن إبراهيم خلاف ذلك. غاية الأمر أنه يسوغ أن يقال: إنه لم يكن يفتي برأيه المحض، وإنما كان يستنبط من المرويات ويقيس عليها، فيكون عرضة للخطأ كغيره.
السابعة: أن تلك المرويات التي كان إبراهيم لا يتعدَّى منصوصَها لا تشمل أقوالَ مَن قبله من التابعين ولا الصحابة، وإنما هي النصوص النبوية، فتكون أقوال إبراهيم وفتاواه كلُّها مراسيل أرسلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: أن ذلك حجة.
ولا أطيل بمناقشة الأستاذ في هذه المزاعم، وقد رجع هو عن الثلاث الأخيرة بقوله: "يريدان: إشعار أهل زمانهما المبالَغ فيه
…
" ومع ذلك فهذه دعوى جديدة، والظاهر الواضح من قول القائل: "الإشعار مُثلة" الحكم على الإشعار مطلقًا. ولو أراد ما زعمه الأستاذ لقال: "المبالغة في الإشعار مُثلة" أو نحو ذلك.
فأما إبراهيم، فلم يثبت ذاك القول عنه، فلا ضرورة إلى الاعتذار عنه بعذر، إنْ دَفعَ الملامة من جهة، أوقَعَ فيها من جهتين:
الأولى: الإطلاق الموهم للباطل.
الثانية: اتهامه جميعَ أهل زمانه ــ وفيهم بقايا الصحابة والتابعون ــ بالإطباق على ما لا يجوز، حتى استساغ أن يُطلِق ولا يفصِّل.
وأما أبو حنيفة، فقد اعتذر عنه الطحاوي
(1)
بقوله: "إنما كره ما يُفعل على وجه يُخاف منه هلاك البُدْن
…
فأراد سدَّ هذا الباب عن العامة، لأنهم لا يراعون الحدّ في ذلك. وأما مَن كان عارفًا بالسنة في ذلك، فلا".
والمقصود هنا إثبات أن الإشعار سنة، وذلك حاصل على كل حال.
(1)
كما نقل عنه السرخسي في "المبسوط"(4/ 138) والحافظ في "الفتح"(3/ 544)، وعزاه الحافظ إلى كتابه "المعاني"، ولم أجده في "معاني الآثار" المطبوع.