الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - فصل
هذه أمور ينبغي للإنسان أن يقدّم التفكُّر فيها ويجعلها نُصْبَ عينيه.
1 -
يفكِّر في شرف الحق وضَعَةِ الباطل. وذلك بأن يفكِّر في عظمة الله عز وجل وأنه رب العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق ويكره الباطل، وأن من اتبع الحق استحقَّ رضوانَ رب العالمين، فكان سبحانه وليَّه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كلَّ ما يعلمه خيرًا له وأفضل وأنفع وأكمل وأشرف وأرفع، حتى يتوفَّاه راضيًا مرضيًّا، فيرفعه إليه ويقرِّبه لديه، ويُحِلَّه في جواره مكرمًا منعَّمًا في النعيم المقيم، والشرف الخالد، الذي لا تبلغ الأوهامُ عظمتَه؛ وأن من أخلد إلى الباطل استحقَّ سخطَ ربِّ العالمين وغضبه وعقابه. فإن آتاه شيئًا من نعيم الدنيا، فإنما ذلك لهوانه عليه، ليزيده بُعْدًا عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأوهام شدَّته.
2 -
يفكِّر في نِسْبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ونسبة بؤس الدنيا إلى سخط رب العالمين وعذاب الآخرة، ويتدبر قول الله عز وجل:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 31 - 35].
ويُفْهَم من ذلك أنه لولا [2/ 191] أن يكون الناسُ أمةً واحدةً لابتلى الله المؤمنين بما لم تجرِ به العادة من شدّة الفقر والضرّ والخوف والحزن وغير ذلك. وحسبك أن الله عز وجل ابتلى أنبياءه وأصفياءه بأنواع البلاء.
وفي "الصحيحين"
(1)
من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَثَلُ المؤمنِ كمثل الخامة من الزرع تُفِيئُها الرياحُ، تَصْرعُها مرةً وتَعدِلها أخرى حتى يأتي أجله. ومَثَلُ المنافق كمثل الأَرْزة المُجْذِية التي لا يُصيبها شيء حتى يكون انْجعافُها مرةً واحدة". وفي "الصحيحين"
(2)
أيضًا نحوه من حديث أبي هريرة.
ومعنى الحديث ــ والله أعلم ــ أن هذا من شأن المؤمن والمنافق، فلا يلزم منه أن كل منافق تكون تلك حاله لا يناله ضرر ولا مصيبة إلا القاضية.
والمقصود من الحديث تهذيب المسلمين، فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب، ويتلقَّاها بالرضا والصبر والاحتساب، راجيًا أن تكون خيرًا له عند ربه عز وجل. ولا يتمنى خالصًا من قلبه النعمَ، ولا يحسد أهلها، ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا يركن إليها، بل يتلقَّاها بخوف وحذر وخشية أن تكون إنما هُيِّئت له لاختلال إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله عز وجل، فلا يُخْلِد إلى الراحة ولا يبخل، ولا يُعجَب بما أوتِيَه ولا يستكبر ولا يغترّ.
ولم يتعرَّض الحديث لحال الكافر، لأن الحجة عليه واضحة على كل حال.
(1)
البخاري (5643) ومسلم (2810).
(2)
البخاري (5644) ومسلم (2809).
وأخرج الترمذي
(1)
وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشدّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل. يُبْتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ هُوِّن عليه
…
" الحديث. قال الترمذي: "حسن صحيح".
وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور. وابتلى يعقوب بفقد ولدَيْه وشدَّد أثر ذلك على قلبه، فكان كما قصَّه الله عز وجل في كتابه:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84].
وابتلى محمدًا عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في أوائل السيرة. فكلَّفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعًا [2/ 192] لآبائهم من الشرك والضلال، ويُصارِحَهم بذلك سرًّا وجهارًا، ليلًا ونهارًا، ويدورَ عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم. فاستمرَّ على ذلك نحو ثلاثَ عشرة سنة، وهم يؤذونه أشدّ الأذى، مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذَى، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقَّرة، في بيتٍ شريف محترم موقَّر، ونشأ على أخلاقٍ كريمة احترمه لأجلها الناسُ ووقّروه. ثم كان مع ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزَّة النفس. ومن كانت هذه حاله يشتدّ عليه غاية الشدة أن يؤذَى، ويشقّ عليه غاية المشقة الإقدامُ على ما يعرِّضه لأن يؤذَى. ويتأكد ذلك في جنس ذاك الإيذاء: هذا يسخر منه، وهذا يسبُّه،
(1)
برقم (2400). وأخرجه أيضًا الدارمي (2/ 320) وابن ماجه (4023). وصححه ابن حبان (2901) والحاكم (1/ 41).
وهذا يبصُق في وجهه ــ بأبي هو وأمي ــ، وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سَلَى
(1)
الجَزور على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنُقه، وهذا ينخُس دابته حتى تُلقيه
(2)
.
وهذا عمُّه يتبعه أنَّى ذهب، يؤذيه ويُحذِّر الناسَ منه ويقول: إنه كذَّاب، وإنه مجنون. وهؤلاء يُغْرون به السفهاء، فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دمًا. وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة طويلة في شِعْب ليموتوا جوعًا. وهؤلاء يعذِّبون من اتبعه بأنواع العذاب، فمنهم من يُضْجِعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم من ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا وَدَكُ ظهره، ومنهم امرأةٌ عذَّبوها لترجع عن دينها، فلما يئسوا منها طعنها أحدُهم بالحربة في فرجها، فقتلها
(3)
. كلُّ ذلك لا لشيء إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، [2/ 193] ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى
(1)
السَّلَى: غشاء يحيط بجنين البهيمة.
(2)
علق الشيخ عبد الرزاق حمزة: نخسُ الدابة كان لزينب بنت الرسول، فسقطت عنها وأجهضت حينما هاجرت رضي الله عنها.
يقول المؤلف: بل روي مثل ذلك في شأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه. راجع ترجمة ضباعة بنت عامر من "الاصابة"[14/ 7 ط. دار هجر، قال الحافظ: هذا مع انقطاعه ضعيف].
قال الألباني: لكن في إسناد الرواية المشار إليها: الكلبي، وهو متهم.
(3)
من تدبر هذه الحال علم أنها من أعظم البراهين على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة. فإن العادة تُحيل أن يُقدِم مثله في أخلاقه وفيما عاش عليه أربعين سنة لما يعرِّضه لذلك الإيذاء ثم يصبر عليه سنين كثيرة وله عنه مندوحة. ولهذا كان العارفون به من قومه لا ينسبونه إلى الكذب وإنما يقولون: مسحور، مجنون. قال الله تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. [المؤلف]