المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الرابعة عشرةتقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١١

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌المسألة الأولىإذا بلغ الماءُ قُلَّتَين لم ينجَسْ

- ‌المسألة الثانيةرفع اليدين

- ‌ المسألة الثالثةأفطر الحاجم والمحجوم

- ‌ المسألة الرابعةإشعار الهدي

- ‌ المسألة الخامسةالمحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخفَّولا فديةَ عليه

- ‌ المسألة السادسةدرهم وجوزة بدرهمين

- ‌ المسألة السابعةخيار المجلس

- ‌ المسألة التاسعةالطلاق قبل النكاح

- ‌ المسألة العاشرةالعقيقة مشروعة

- ‌ المسألة الحادية عشرةللراجل سهم من الغنيمة، وللفارس ثلاثة:سهم له وسهمان لفرسه

- ‌ المسألة الثانية عشرةأما على القاتل بالمثقل قصاص

- ‌ المسألة الثالثة عشرةلا تعقل العاقلة عبدًا

- ‌إذا قتل حرٌّ حرًّا خطأ [2/ 91] محضًا أو شبهَ عمد

- ‌المسألة الرابعة عشرةتقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا

- ‌ المسألة الخامسة عشرةالقضاء بشاهد ويمين في الأموال

- ‌المسألة السادسة عشرةنكاح الشاهد امرأة شهد زورًا بطلاقها

- ‌ المسألة السابعة عشرةالقرعة المشروعة

- ‌ مقدمة

- ‌ 177] 1 - فصل

- ‌2 - فصل

- ‌3 - فصل

- ‌4 - فصل

- ‌5 - فصل

- ‌3 - يفكِّر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية

- ‌4 - يفكر في حاله مع الهوى

- ‌9 - يأخذ نفسَه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه

- ‌10 - يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات

- ‌ الباب الأولفي الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهاتوبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

- ‌ علم الكلام والفلسفة ليسا من سراط المُنْعَم عليهم

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌ الكَشْف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين

- ‌ فصل

- ‌ الباب الثانيفي تنزيه الله ورسله عن الكذب

- ‌تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب

- ‌ تنزيه الأنبياء عن الكذب

- ‌ الباب الثالثفي الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد

- ‌ قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية

- ‌قول العضد وغيره

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات

- ‌ الباب الرابعفي عقيدة السلف وعدة مسائل

- ‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

- ‌القرآن كلام الله غير مخلوق

- ‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌معيارُ الإيمان القلبي: العمل

- ‌قول: أنا مؤمن إن شاء الله

- ‌ الخاتمةفيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحقوما يجب على أهل العلم في هذا العصر

- ‌الأول: العقائد

- ‌ الثاني: البدع العملية

- ‌ الثالث: الفقهيات

الفصل: ‌المسألة الرابعة عشرةتقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا

‌المسألة الرابعة عشرة

تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا

في «تاريخ بغداد» (13/ 391 [408]) حكايتان عن أبي عوانة: «كنت عند أبي حنيفة جالسًا، فأتاه رسول من قبل السلطان

فقال: يقول الأمير: رجل سرق وَدِيًّا، فما ترى؟ فقال غير متعتع: إن كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه

».

قال الأستاذ (ص 92): «قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في «الآثار»

(1)

: أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: لا يُقطع السارق في أقلَّ من ثمن المِجَنِّ، وكان ثمنه يومئذ عشرة دراهم، ولا يُقطَع بأقل من ذلك

قال الإمام محمد في «الموطأ»

(2)

: قد اختلف الناس فيما تُقطع فيه اليد، فقال أهل المدينة: ربع دينار، ورووا أحاديث. وقال أهل العراق: لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم، ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعن عثمان، وعن عليّ، وعن عبد الله بن مسعود، وعن غير واحد. فإذا جاء الاختلاف في الحدود أخذ فيها بالثقة، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعني أن ربع الدينار نحو ثلاثة دراهم. والحدود مما يدرأ بالشبهات، فالأخذُ برواية عشرة دراهم في القطع أحوطُ، فيؤخذ بها حيث لم يُعلم الناسخ من المنسوخ من تلك الآثار المختلفة».

أقول: رأيت للحنفية مسالكَ في محاولة التخلُّص من الأحاديث الصحيحة في هذه المسألة، نشِطتُ للنظر فيها هنا.

(1)

رقم (629).

(2)

(ص 239).

ص: 156

المسلك الأول: هذا الذي تقدم. وحاصله أن الدليلين إذا تعارضا عُمِل بالناسخ، فإن لم يُعلم فبالراجح. تعارضت الأدلة هنا ولم يُعلَم الناسخ فتعيَّن العملُ بالراجح. ومن المرجِّحات نفيُ [2/ 94] الحد، أي أنه إذا كان أحدُ الدليلين المتعارضين مثبتًا لحدٍّ والآخرُ نافيًا له، كان ذلك مما يقتضي ترجيح الثاني. فالأحاديث الموجبة للقطع في ربع دينار مثبِتة للحدِّ في ما ساوى ذلك وما زاد عليه. والأحاديث الدالة على أنه لا قطع في أقلَّ من عشرة دراهم نافية للحدّ فيما دون ذلك، فجاء التعارض فيما يساوي ربع دينار، أو يزيد عليه ولكنه لا يبلغ العشرة، ولم يُعلم الناسخ، فترجَّح النافي.

والجواب عن هذا أن ما يذكر في أنه لا قطع فيما دون العشرة لا يَثبتُ، كما ستراه مفصلًا، فليس بدليلٍ أصلًا. هَبْه ثبَتَ، فعدُّ نفي الحدِّ من المرجِّحات فيه نظر، وما يذكر فيه من السنة لا يثبت. هَبْه ثبَتَ، فلا حجة فيه، للاتفاق على أن الحد يثبت بخبر الواحد ونحوه مما يقول الحنفية إنه دليل فيه شبهة. وإنما الشبهة التي يُدرأ بها الحدُّ ما يقتضي عذرًا ما للفاعل، كمن أخذ ما له فيه حق، فإن له أن يقول: لم أسرق وإنما توصلت إلى أخذ حقي؛ وكالواطئ في نكاح بلا ولي، فإن له أن يقول: لم أزْنِ وإنما أتيت امرأتي. فأما من يقول: سرقتُ عالِمًا بأن السرقة حرام، لكن قد تعارضت الأدلة في أن سرقتي هذه توجب الحد، فلا عذر له، ولا يُدرأ عنه الحدُّ، كما لا يُدرأ عمن قال: سرقت عالمًا بأن السرقة حرام، ولكن لم أعلم بأن حكم الإسلام قطع يد السارق. بل ذاك أولى، فإنه إذا لم يُعذر بجهل وجوب الحد من أصله، فكيف يُعذر بالتردد فيه؟ هَبْه ثبت أن نفي الحد من مقتضيات الترجيح، فللمثبت مرجحاتٌ أقوى من ذلك كما ستراه إن شاء الله.

ص: 157

المسلك الثاني للطحاوي. بدأ في كتابه «معاني الآثار»

(1)

بذكر حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع في مِجَنٍّ ثمنُه ثلاثة دراهم» ، وهو في «الموطأ» و «الصحيحين»

(2)

وغيرها. رواه مالك وجماعة عن نافع عن ابن عمر، فهو في أعلى درجات الصحة. ثم ذكر الطحاوي أنه لا حجة فيه على أنه لا يُقطَع فيما دون ذلك. ثم روى

(3)

من طريق أبي واقد صالح بن محمد بن زائدة، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رفعه:«لا يُقطَع السارق إلا في ثمن المِجَنِّ» . قال الطحاوي: «فعلمنا بهذا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقَفَهم عند قطعه في المجنِّ على أنه لا يُقطع فيما قيمته أقلُّ من قيمة المجن» .

[2/ 95] أقول: أبو واقد هذا ذُكر بصلاح في نفسه وغزو. قال أحمد: «ما أرى به بأسًا» . لكنهم ضعَّفوه في روايته، قال ابن معين:«ضعيف الحديث» . وضعَّفه أيضًا علي ابن المديني، والعجلي، وأبو زرعة، وأبو داود، والنسائي، وأبو أحمد الحاكم، وابن عدي. وقال البخاري وأبو حاتم والساجي:«منكر الحديث» . وقال ابن حبان: «كان ممن يقلب الأخبار والأسانيد ولا يعلم، ويُسند المرسل ولا يفهم، فلما كثر ذلك في حديثه وفحش استحقَّ الترك» . ومما أنكروه عليه حديثُه عن سالم عن أبيه عن عمر رفعه: «من وجدتموه قد غَلَّ فأحرِقوا متاعَه»

(4)

قال البخاري: «هوحديث باطل ليس له أصل» .

(1)

(3/ 162).

(2)

«الموطأ» (2/ 831) والبخاري (6795) ومسلم (1686).

(3)

(3/ 163). وضعَّفه الحافظ في «الفتح» (12/ 105).

(4)

أخرجه أحمد (144) وأبو داود (2713) والترمذي (1461) وغيرهم، قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال: وسألتُ محمدًا (أي البخاري) عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة، وهو أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث. قال محمد: وقد روي في غير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغال، ولم يأمر فيه بحرق متاعه. وقال الجوزقاني في «الأباطيل» (588): حديث منكر. وقال الدارقطني (كما في «العلل المتناهية» 2/ 584): أنكروا هذا الحديث على صالح، وهو حديث لم يُتابَع عليه، ولا أصل له في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي «علل» الدارقطني (2/ 53): أبو واقد هذا ضعيف.

ص: 158

وقد ذكر الطحاوي حديثه هذا عن سالم في «مشكل الآثار»

(1)

على ما في «المعتصر» (ج 2 ص 238)

(2)

. وفي «المعتصر» عن الطحاوي

(3)

: «وكتاب الله يخالف ذلك، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فإذا لم يكن في سرقة مال ــ ليس للسارق فيه شركة ــ سوى قطع اليد، لا جزاء له غير ذلك، فأحرى أن لا يجب عليه في غلول مال له فيه حظٌّ إحراقُ رحله» .

أقول: دلالةُ الآية على أنه لا جزاء غير ذلك دلالةٌ لا يقول بها الجمهور. وعلى القول بها فإنما يتجه ما بناه الطحاوي عليها لو كان على الغالِّ قطعٌ، إذ يقال: ليس على السارق إلا القطع مع أنه لا شبهة له، فكيف يُزاد الغالُّ على القطع مع أن له شبهة؟ فأما أن يكون على السارق الذي لا شبهة له القطع وليس على الغال لشبهته قطع، ولكن عليه عقوبة دون ذلك= فليس في هذا ما يُنكَر، كما أن على الزاني المحصَن الرجم فقط، وليس على غير المحصن

(1)

رقم (4240 - 4242).

(2)

الطبعة الثانية. [المؤلف].

(3)

«مشكل الآثار» (10/ 449).

ص: 159

رجم ولكن عليه الجلد. وكما أن من ارتكب موجبَ الحدِّ يُحَدُّ ولا يعزَّر، ومن ارتكب ما دون ذلك لم يُحَدَّ ولكنه يعزَّر.

ردَّ الطحاوي حديث أبي واقد في الغالِّ بدعوى مخالفة لا حقيقة لها، لدلالة لا يقول بها الجمهور، ثم احتج بحديث أبي واقد نفسه هنا مع مخالفته مخالفةً محققةً لدلالة متفقٍ عليها من الآية نفسها. فإن حديثه هنا ينفي القطع عن عدد كثير يحقُّ على كلٍّ منهم اسم «السارق» ، وهم كلُّ مَن كان مسروقه أقل من قيمة المجنّ، والآية توجب بعمومها قطعَ كلِّ مَن يحق عليه [2/ 96] اسمُ «السارق» . ودلالة العموم متفق عليها، بل يقول الحنفية: إنها قطعية. ثم يبالغ الطحاوي فيقول: «فعلمنا بهذا

» كأنه يرى أبا واقد معصومًا يوجب حديثه العلم، ويجعل ذلك أمرًا مفروغًا منه، وإنما الشأن في معرفة قيمة المجن!

ومع ذلك نجاري الطحاوي في النظر في قيمة المجن. ذكر الطحاوي أن بعض أهل العلم يقول: إنها ثلاثة دراهم بحديث ابن عمر السابق. قال

(1)

: «وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يُقطَع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعدًا، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود (وهو إبراهيم بن سليمان بن داود الأسدي البُرُلُّسِي) و (أبو زرعة) عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قالا: ثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان قيمة المجنّ الذي قَطع فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» .

(1)

«معاني الآثار» (3/ 163).

ص: 160

أقول: ابن إسحاق متكلَّم فيه، وفي حفظه شيء، كما في «الميزان» ، وقد اضطرب في الخبر كما يأتي. فخبره هذا غير صالح للحجة أصلاً، فكيف يعارَض به حديثُ «الموطأ» و «الصحيحين» وغيرهما المتواتر عن نافع عن ابن عمر؟

ومع هذا فالظاهر أن هذا لفظ ابن أبي داود، كما يشير إلى ذلك تقديم الطحاوي له. فأما الدمشقيُّ، فقال الحاكم في «المستدرك» (ج 4 ص 378):«حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب (الأصم)، ثنا أبو زرعة الدمشقي، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، ثنا محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان ثمن المجنِّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقوَّم عشرةَ دراهم» .

وهذا هو الصواب من حديث الوهبي، كذلك أخرجه الدارقطني في «السنن» (ص 369)

(1)

: «نا محمد بن إسماعيل الفارسي، نا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة، نا أحمد بن خالد الوهبي» . وكذلك أخرجه البيهقي في «السنن» (ج 8 ص 257): «ثنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر القطان، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن خالد الوهبي

» كلاهما بلفظ الأصم عن الدمشقي، إلا أن ابن نجدة قدَّم كلمة «يقوَّم» ، ذكرها بعد كلمة «المجن» .

فإن قيل: فالمعنى واحد.

قلت: كلّا، لفظ الطحاوي يجعل العشرة قيمة «المجنّ الذي قطَع فيه

(1)

(3/ 192).

ص: 161

النبيُّ صلى الله عليه وسلم ». والمحفوظ ــ وهو لفظ الدمشقي وابن نجدة [2/ 97] والسلمي ــ يجعلها قيمة المجنّ مطلقًا، كما تقول: كانت الغنم رخيصة في عهد فلان، كان ثمن الشاة يقوَّم درهمين.

فإن قيل: وكيف يستقيم ذلك والمجانُّ تختلف جودةً ورداءةً، وجِدَّةً وبِلًى، وسلامةً وعيبًا، وتَرخُص في وقت وتغلو في آخر؟

قلت: كأَنَّ قائل ذلك بلغه أن أقلَّ ما قطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مجنٌّ، ورأى أنه لا ينبغي القطعُ في أقل من ذلك، وأعوزه أن يعرف ذاك المجنَّ، أو يعرف قيمتَه على التعيين، أو يجد دليلًا يُغنيه عن ذلك؛ ففزع إلى اعتبار جنسه، ليحمله على أقصى المحتملات احتياطًا، أو على أولاها في نظره، فرأى أن العشرة أقصى القِيَم، أو أوسطها، أو غالبها، أو أقصى الغالب، أو أوسطه.

فإن قيل: فهلَّا تَحملُ كلمةَ «المجن» في لفظ الجماعة على ذلك المجنِّ المعهود الذي قطع فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فتوافق لفظَ الطحاوي؟

قلت: يمنع من ذلك أمور:

الأول: أن الظاهر إرادة الجنس.

الثاني: قوله «كان

يقوَّم». وهذا يقتضي تكرار التقويم، ولا يكون ذلك في ذاك المجنِّ المعيَّن.

الثالث: أنه لا داعي إلى حمل المحفوظ على الشاذِّ بما يخالف الحديث الثابت المحقَّق، وهو حديث ابن عمر.

فإن قيل: قد يكون ابن عمر قوَّم [ذلك المجن المعين] باجتهاده، فقال:

ص: 162

[ثلاثة، وقوَّمه غيرُه باجتهاده، فقال: ]

(1)

عشرة.

قلت: هذا باطل من أوجه:

الأول: أن الواجب في التقويم أنه إذا رُفعت إلى الحاكم سرقةٌ، وكان

(2)

المسروق مما لا يُعلم لأول وهلة أنه بالقدر الذي يُقطَع فيه أو لا: أن يبدأ الحاكمُ، فيأمر العدولَ العارفين بتقويم المسروق. وابنُ عمر في دينه وتقواه وورعه، وعلمِه بأنه سيُبنَى على خبره قطعُ أيدٍ كثيرةٍ، لا يُظَنُّ به أن يَجزم إلا مستندًا إلى ما جرى به التقويمُ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم .

الثاني: أن أثبت الروايات وأكثرها عن ابن عمر بلفظ: «ثمنه» ، كما تراه في «صحيح البخاري» مع «فتح الباري»

(3)

. وأصل الفرق بين الثمن والقيمة: أن الثمن هو ما يقع عوضًا عن السلعة، والقيمة ما تقوَّم به السلعة. فمن اشترى سلعة بثلاثة دراهم، وكانت تساوي أكثر أو أقل، فالثلاثة ثمنها، والذي تساويه هو قيمتها. فإذا أتلف رجلٌ سلعة الآخر فقُوِّمت بثلاثة دراهم، [2/ 98] فقضى بها الحاكم، فقد لزمت الثلاثةُ عوضًا عن السلعة، فصحَّ أن تسمى ثمنًا لها. فهكذا السلعة المسروقة لا يحسن أن يقال:«ثمنها ثلاثة دراهم» إلا إذا كانت قُوِّمت بأمر الحاكم بثلاثة دراهم، فقضى بحسب ذلك. وكأن هذا هو السرُّ في اعتناء البخاري باختلاف الرواة في قول بعضهم:«ثمنه» ، وبعضهم:«قيمته» ، مع أن قول بعضهم:«قيمته» لا يخالف ما تقدَّم؛ لأن ما وقع به التقويم فالقضاء يصح أن يسمى «قيمةً» ، لكن مالم يُعلَم أنه

(1)

ما بين المعكوفتين ساقط من (ط)، استدركناه من المخطوط، وبه يستقيم السياق.

(2)

(ط): «فكان» . والتصويب من المخطوط.

(3)

(12/ 97، 105).

ص: 163

وقع به التقويم فالقضاء، فإنه لا يصح أن يسمَّى ثمنًا. فتدبَّرْ.

الثالث: أن ابن عمر لو بنى على حَدْسه لكان الغالب أن يتردَّد.

الرابع: أن الاختلاف في تقويم السلعة بين عارفيها وعارفي قِيَم جنسها في المكان والزمان الواحد لا يكون بهذا القدر، يقول هذا: ثلاثة، ويقول الآخر: عشرة. قال ابن حجر في «الفتح»

(1)

: «محال في العادة أن يتفاوت هذا التفاوت الفاحش

وإنما يتفاوت بزيادة قليلة أو نقص قليل لايبلغ المثل غالبًا». ومع هذا فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عمر ــ كما في «سنن أبي داود» والنسائي

(2)

ــ «أن النبي صلى الله عليه وسلم قطَع يد سارقٍ سرَق تُرْسًا من صُفَّةِ النساء ثمنه ثلاثة دراهم» . وهذا يدل على إتقان ابن عمر للواقعة ومعرفته بها، فهو المقدَّم على غيره.

هذا كلُّه على فرض صحة خبر ابن إسحاق، وقد علمتَ أنه لا يصح، وسيأتي تمام ذلك. والصواب ــ مع صرف النظر عن الصحة ــ أن القائل:«عشرة دراهم» إنما نظر إلى الجنس، على ما تقدَّم بيانه.

فإن قيل: فقد قال أبو داود في «السنن»

(3)

: «حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن أبي السَّرِيّ العسقلاني ــ وهذا لفظه، وهو أتم ــ قالا: ثنا ابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجلٍ في مجنٍّ قيمته دينار أو عشرة دراهم» .

(1)

(12/ 102).

(2)

أبو داود (4386) والنسائي (8/ 77).

(3)

رقم (4387).

ص: 164

قلت: هذا لفظ ابن أبي السَّري كما صرَّح به أبو داود. وابن أبي السَّري وإن حكى ابن الجنيد أن ابن معين وثَّقه، فقال: قال أبو حاتم: «لين الحديث» . وقال مسلمة: «كان كثير الوهم، وكان لا بأس به» . وقال ابن وضاح: «كان كثير الحفظ، كثير الغلط» . وقال ابن [2/ 99] عدي «كثير الغلط» . والمحفوظ عن ابن نمير كما تقدم

(1)

: «نا شعيب بن أيوب نا عبد الله بن نمير

». والظاهر أن لفظ عثمان بن أبي شيبة هكذا.

فإن قيل: فقد قال ابن أبي شيبة في «المصنف»

(2)

: «حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس: لا يُقطَع السارق في دون ثمن المجن، وثمنُ المجن عشرة دراهم» . وذكره البخاري في «التاريخ» (ج 1 قسم 2 ص 26) عن عياش عن عبد الأعلى نحوه. فكلمة «المجن» الأولى للعهد، فكذلك الثانية.

قلت: ليس هذا بلازم، بل الثانية للجنس كما في غالب الروايات، على أنه يمكن أن تكون الأولى للجنس أيضًا، ويمكن أن تكونا معًا للعهد، ولكن التقويم استنباطي على ما تقدَّم، لا تحقيقي.

فإن قيل: فقد قال ابن التركماني

(3)

: «قال صاحب «التمهيد» : ثنا عبد الوارث، ثنا قاسم، ثنا محمد، ثنا يوسف، ثنا ابن إدريس، ثنا محمد بن إسحاق، عن عطاء، عن ابن عباس قال:«قُوِّم المجنُّ الذي قطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عشرةَ دراهم» .

(1)

لم يتقدم، ولكنه في «سنن الدارقطني» (3/ 192) بهذا الإسناد.

(2)

(9/ 474).

(3)

«الجوهر النقي» (8/ 257). وانظر «التمهيد» (14/ 380).

ص: 165

قلت: المحفوظ عن ابن إدريس ما قاله الدارقطني (ص 368)

(1)

: «ثنا ابن صاعد، ثنا خلاد

(2)

بن أسلم، ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عطاء، عن ابن عباس قال:«كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» . سندُ الدارقطني أقصَرُ وأثبَتُ، فإن محمد بن وضاح كان ممن يخطئ، وقاسم بن أصبغٍ اختلط بأخرةٍ».

هذا، وقد اضطرب ابن إسحاق في هذا الحديث، فرواه مرةً عن عطاء عن ابن عباس كما هنا، ومرةً عن أيوب بن موسى عن عطاء كما مرَّ، وقال مرة: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما يأتي، ومرةً عن عمرو بن شعيب عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله، ذكره البخاري في «التاريخ»

(3)

، ومرةً عن عمرو بن شعيب عن عطاء أن ابن عباس كان يقول:«ثمنه يومئذ عشرة دراهم» ، أخرجه النسائي

(4)

، وذكره البخاري في «التاريخ» (ج 1 قسم 2 ص 26). ورواه مرةً عن عمرو بن شعيب عن عطاء مرسلًا كما في «الفتح»

(5)

، ومرةً عن أيوب بن موسى عن عطاء مرسلًا، لم يذكر فيهما ابن عباس وجعله من كلام عطاء. ذكر النسائي

(6)

الثانية قال: «أخبرني [2/ 100] محمد بن وهب قال: حدثنا محمد بن سلمة قال: حدثني

(1)

(3/ 191).

(2)

(ط): «ابن خلاد» خطأ، والتصويب من الدارقطني.

(3)

«الكبير» (2/ 26).

(4)

(8/ 83).

(5)

(12/ 103).

(6)

(8/ 83).

ص: 166

ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء. مرسل».

فإن قيل: فقد قال أبو داود

(1)

: «رواه محمد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده» ، وظاهر هذا الوصل.

قلت: لم يذكر أبو داود مَن حدَّثه عن محمد بن سلمة، والنسائي ذكر ذلك وحقَّقه، فهو أولى. وفي كلام النسائي ما يدل على ترجيح الإرسال، فإنه قال عقب ذلك

(2)

: «أخبرني حُميد بن مَسعدة عن سفيان ــ هو ابن حبيب ــ عن العرزمي ــ هو عبد الملك بن أبي سليمان ــ عن عطاء قال: أدنى ما يُقطع فيه ثمنُ المجن. قال: وثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» . وفي «مصنف ابن أبي شيبة»

(3)

: «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: أدنى ما يُقطع فيه السارق ثمن المجن. وكان يقوَّم المجن في زمانهم دينارًا أو عشرة دراهم» . وقال ابن التركماني

(4)

: «في كتاب «الحجج» لعيسى بن أبان

»، ثم قال:«وفي كتاب «الحجج» عن مصعب بن سلَّام ويعلى بن عبيد قالا: ثنا عبد الملك عن عطاء أنه سئل: ما يُقطع فيه السارق؟ قال ثمن المجن، وكان في زمانهم يُقوَّم دينارًا أو عشرةَ دراهم».

وهذا الحديث في حُكمٍ مختلَفٍ فيه تعمُّ به البلوى، وعطاء إمام جليل فقيه معمَّر، كان بمكة حيث ينتابها أهل العلم من جميع الأقطار، وله

(1)

عقب رقم (4387).

(2)

النسائي (8/ 83).

(3)

(9/ 475).

(4)

«الجوهر النقي» (8/ 258، 259).

ص: 167

أصحاب أئمة حفاظ فقهاء كانوا أعلمَ به وألزمَ له من أيوب بن موسى وعمرو بن شعيب، فلو كان عنده هذا الحديث عن ابن عباس لما فاتهم. وهذا عبد الملك بن أبي سليمان، وهومن أثبت أصحاب عطاء، لم يكن عنده عنه إلا قوله كما تقدَّم.

وهذا ابن جريج أعلم أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه أنه قال: «لزمتُ عطاءً سبع عشرة سنة» وقال: «جالستُ عمرو بن دينار بعد ما فرغتُ من عطاء» ، وكان يدلِّس عن غير عطاء، فأما عن عطاء فلا. قال:«إذا قلتُ: قال عطاء، فأنا سمعته منه، وإن لم أقل: سمعتُ» . وإنما هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء فإذا سمع رجلًا يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحِلَّ أن يحكيه عن عطاء. وهذا كما قال أبو إسحاق: «قال أبو صالح (ذكوان) و (عبد الرحمن بن هرمز) الأعرج: ليس أحد يحدِّث عن أبي [2/ 101] هريرة إلا علِمنا أصادق هو أم كاذب» . يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علِما أنه كاذب، لإحاطتهما بحديث أبي هريرة. وقال الإمام أحمد:«ابن جريج أثبتُ الناس في عطاء» ، وكان ابن جريج يذهب إلى هذا المذهب. قال ابن التركماني

(1)

: «في «مصنف عبد الرزاق» عن ابن جريج قال: كان يقول

(2)

: لا تُقطع يدُ السارق في أقل من عشرة دراهم». ومع هذا كله لم يكن عند ابن جريج عن عطاء في هذا إلا ما ذكره الطحاوي في أواخر كلامه، قال

(3)

: «حدثنا إبراهيم بن

(1)

«الجوهر النقي» (8/ 259). وانظر «المصنف» (18947).

(2)

كذا في (ط) و «الجوهر النقي» . وفي المصنف: «كان عطاء يقول» .

(3)

«معاني الآثار» (3/ 167).

ص: 168

مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب: لا تُقطَع اليد في أقل من عشرة دراهم». وهذا يُشعِر بأن عطاء إنما أخذ هذا القول عن عمرو بن شعيب، وهذا عكسُ ما زعمه ابن إسحاق. أفيجوز أن يكون عند ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، فيترك أن يقول: كان قول عطاء على قول ابن عباس، ويعدل إلى عمرو بن شعيب؟ !

وقد كان لابن عباس أصحاب حفَّاظ فقهاء كأنوا ألزمَ له وأعلمَ به من عطاء، ولم يروِ أحد منهم عنه في هذا الباب شيئًا. فأما ما روى عبد الرزاق

(1)

، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:«ثمن المجنّ الذي يُقطع فيه دينار» ذكره ابن التركماني

(2)

= فليس بشيء. إبراهيم ساقط، ولاسيَّما إذا لم يُصرِّح بالسماع. وأما حسنُ ظنِّ الشافعي به، فكأنه كان متماسكًا لمَّا سمع منه الشافعي، ثم ظهر فساده.

وقد قال ابن أبي شيبة في «المصنف»

(3)

: «حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد (بن مهران الحذاء)، عن عكرمة قال: تُقطع اليد في ثمن المجن. قال قلت له: ذكرَ لك ثمنَه؟ قال: أربعة أو خمسة» . وعبد الوهاب وخالد من الثقات المشهورين. أفتراه يكون عند عكرمة عن مولاه ابن عباس أنه دينار أو عشرة دراهم، فيعدل عنه إلى ما لا يدري عمن أخذه مع شكِّه فيه؟

فهذا كلُّه يبيِّن أن ابن عباس لم يقل ما رواه ابن إسحاق قطُّ، وأن عطاء

(1)

في «المصنف» (18956).

(2)

في «الجوهر النقي» (8/ 257).

(3)

(9/ 471).

ص: 169

لم يحدِّث به عن ابن عباس قط. وإنما هو قول عطاء، وقد علمتَ مع ذلك أنه مبني على الحدس. والله الموفق.

فإن قيل: فقد قال البخاري في «التاريخ»

(1)

: «وقال الوليد بن كثير: حدثني مَن سمع عطاءً عن ابن عباس ــ مثله» .

قلت: وصله الدارقطني (ص 369)

(2)

«حدثنا أحمد، نا شعيب بن [2/ 102] أيوب، نا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، حدثني مَن سمع عطاءً، عن ابن عباس أن ثمن المجن يومئذ عشرة» .

قلت: أبو أسامة كان يدلِّس، ثم ترك التدليس بأَخَرة، ولا يُدرى متى حدَّث بهذا؟ وشيخ الوليد لا يُدرى من هو؟ ولو كان به طِرْق لما كنى عنه. وقد كان من أهل بلد الوليد ممن يحدِّث عن عطاء: محمد بن عبد الله العرزمي الهالك، ولا يبعد أن يكون الوليد إنما سمعه منه، فليس في هذا ما يُجدِي. والصواب ما تقدم.

قال الطحاوي

(3)

: «حدثنا ابن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قالا

(4)

: ثنا الوهبي قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ــ مثله». يعني مثلَ حديثه المتقدم الذي رواه بهذا السند عن ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس. وقد أقمنا

(1)

«الكبير» (2/ 26).

(2)

(3/ 192). قال الدارقطني: خالفه منصور، رواه عن عطاء عن أيمن، وأيمن لا صحبة له.

(3)

في «معاني الآثار» (3/ 163).

(4)

(ط): «قال» . والتصويب من الطحاوي.

ص: 170

الحجة على أنَّ ذاك اللفظ ليس هو لفظ الدمشقي ولا الوهبي ولا ابن إسحاق، فيأتي مثل ذلك هنا. وقد قال الدارقطني (ص 369)

(1)

: «نا محمد بن القاسم بن زكريا، نا هارون بن إسحاق، نا المحاربي، نا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. نا محمد بن مخلد، نا محمد بن هارون الحربي أبو جعفر هو أبو نشيط، نا أحمد بن خالد الوهبي، نا محمد بن إسحاق بإسناده نحوه» .

وفي «نصب الراية» (ج 3 ص 359) أنَّ ابن أبي شيبة روى في «مصنفه»

(2)

عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق «عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يُقطع السارق في دون ثمن المجن» . قال عبد الله: وكان ثمن المجن عشرة دراهم». وفي «تفسير ابن كثير»

(3)

أن ابن أبي شيبة روى عن ابن نمير وعبد الأعلى عن ابن إسحاق ــ فذكر مثله.

والذي وجدته في النسخة التي وقفتُ عليها من «المصنف»

(4)

: «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: القطع في ثمن المجن» . وفيها

(5)

: «حدثنا عبد الأعلى وعبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن

(1)

(3/ 193).

(2)

(9/ 474). وقد حصل هنا تداخلٌ بين روايتين، وسيشير إليه المؤلف.

(3)

(3/ 396).

(4)

(9/ 470).

(5)

(9/ 474).

ص: 171

إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان يقول: ثمن المجن عشرة دراهم».

وفي «سنن البيهقي» (ج 8 ص 259) من طريق أبي يعلى «ثنا ابن نمير، ثنا أبي، ثنا محمد بن إسحاق [عن عمرو بن شعيب]

(1)

عن أبيه، [2/ 103] عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم».

وقال الدارقطني (ص 368)

(2)

: «حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا عبد الله بن إدريس، وعبد الله بن نمير، عن ابن إسحاق ح ونا محمد بن القاسم بن زكريا، نا هارون بن إسحاق، نا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» .

وفي «مسند أحمد» (ج 2 ص 180)

(3)

: «ثنا ابن إدريس، ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن قيمة المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عشرة دراهم» .

وقال النسائي في «السنن»

(4)

: «أخبرنا خلاد بن أسلم، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» .

(1)

سقطت من الأصل. [ن].

(2)

(3/ 190).

(3)

رقم (6687). وفي (ط): «ج 2 ص 18» ، والتصويب من المخطوط.

(4)

(8/ 84).

ص: 172

وفي «نصب الراية» (ج 3 ص 466) عن «مسند إسحاق بن راهويه» : «حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت محمد بن إسحاق يحدِّث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بلغ ثمنَ المجنّ ففيه القطع. وكان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. قال: وسئل عن اللقطة؟ فقال: عرِّفها سنة» . هذه الرواية تدل أن هذا الحديث هو في الأصل قطعة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في اللقطة وغيرها

(1)

.

وفي «مسند أحمد» (ج 2 ص 203)

(2)

: «ثنا ابن إدريس، سمعت ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلًا من مزينة يسأله عن ضالَّة الإبل

وسأله عن الحَرِيسة التي تُوجد في مراتعها، قال: فقال: فيها ثمنُها مرتين وضربُ نَكَالٍ. قال: فما أُخِذ من أعطانه، ففيه القطعُ إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن. فسأله، فقال: يا رسول الله، اللقطةُ نجدها في السبيل العامر؟ قال: عرِّفها سنة

».

وفي «المسند» (ج 2 ص 207)

(3)

: «ثنا يزيد (بن هارون)، أنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رجلًا من مُزينة وهو يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ــ فذكر نحو حديث ابن إدريس. قال: وسأله عن الثمار

فقال

ومن وجدته

(4)

قد احتمل، ففيه ثمنه مرتين وضرْبُ نَكالٍ،

(1)

أخرجه أحمد (6683، 6891) وأبو داود (1710) والدارقطني (3/ 194 - 195) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 190) وغيرهم.

(2)

رقم (6891). وفي (ط): «ج 2 ص 303» . والتصويب من المخطوط.

(3)

رقم (6936).

(4)

في «المسند» : «ومن وُجِد قد» .

ص: 173

فما أُخِذ من جِرانه، ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمنَ المجن

».

فأما الحديث المختصر في القطع وقيمة المجن، ففي «المسند» (ج 2 ص 204)

(1)

: «حدثنا نصر بن باب، [2/ 104] عن الحجاج (بن أرطاة)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا قَطْعَ فيما دون عشرة دراهم» .

وأخرج الدارقطني (ص 369)

(2)

من طريق أبي مالك الجَنْبي عن حجاج بسنده نحوه. وكذلك من طريق زفر بن الهذيل عن حجاج. وأخرج

(3)

من طريق سلمة بن الفضل «عن حجاج بإسناده: لا يُقطع السارق في أقلَّ من ثمن المجن، وكان ثمنُ المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» .

والحجاج بن أرطاة معروف بالتدليس عن الضعفاء، وفيه كلام غير ذلك. وفي «نصب الراية»

(4)

: «قال في «التنقيح» : والحجاج بن أرطاة مدلّس، ولم يسمع من عمرو هذا الحديث». وابن إسحاق أيضًا مدلِّس، وهو ممن يروي عن الحجاج، فأخلِقْ به أن يكون سمع بعض رواياته لهذا الحديث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب، فرواها عن عمرو بن شعيب تدليسًا على تدليس.

(1)

رقم (6900).

(2)

(3/ 192، 193).

(3)

(3/ 193).

(4)

(3/ 359).

ص: 174

لكن قال البخاري في «التاريخ» (ج 1 قسم 2 ص 26): «قال لنا علي: حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن شعيب أن شعيبًا حدَّثه أن عبد الله بن عمرو كان يقول ــ وحدثني أن مجاهدًا أخبره أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدَّثه أن ثمن المجن يومئذ عشرة» . فهذا اللفظُ الذي في هذه الرواية قويٌّ، لتصريح ابن إسحاق بالسماع.

وقال الدارقطني (ص 368)

(1)

: «نا أحمد بن علي بن العلاء، نا أبو عبيدة بن أبي السفر، نا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجن [يومئذٍ]

(2)

عشرة دراهم». وأبو أسامة كان أولًا يدلِّس كما سبق، فإن سَلِمتْ هذه الرواية من تدليسه كانت متابعةً جيدةً لابن إسحاق في هذا اللفظ الذي صرَّح فيه بالسماع.

فإن أغمضنا عن اضطراب ابن إسحاق وعن تدليس أبي أسامة قلنا: إنه يثبت أن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جدِّه هذا القدر الذي اتفقت عليه رواية ابن إسحاق المصرِّحة بالسماع ورواية أبي أسامة عن الوليد بن كثير، وهو:«كان ثمنُ المجن يومئذٍ عشرةَ دراهم» .

ويبقى النظر في عمرو بن شعيب. وقد لخَّص ابنُ حجر كلامهم فيه بقوله: «ضعَّفه ناس مطلقًا، ووثَّقه الجمهور. ومن ضعَّفه مطلقًا فمحمول على روايته عن أبيه عن جده. فأما روايته عن أبيه، فربما دلَّس ما في الصحيفة

فإذا قال: حدثني أبي، فلا ريب في صحتها

وقد صرَّح شعيب بسماعه

(1)

(3/ 191).

(2)

الزيادة من الدارقطني.

ص: 175

من عبد الله بن عمرو في أماكن

لكن هل سمع منه جميعَ ما روى [2/ 105] عنه، أم سمع بعضَها والباقي صحيفة؟ الثاني أظهر عندي، وهو الجامع لاختلاف الأقوال فيه، وعليه ينحطُّ كلام الدارقطني وأبي زرعة».

فإن قيل: فإذا لم يصرِّح بسماعه من أبيه من عبد الله بن عمرو، فغاية ذلك أن يكون من الصحيفة. وقد قال ابن حجر:«قال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه، وما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل، وهو ضعيف من قِبَل أنه مرسل. وجَدَ شعيب كُتُبَ عبد الله بن عمرو، فكان يرويها عن جدِّه إرسالًا، وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو غير أنه لم يسمعها» . قال ابن حجر: «فإذا شهد له ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصحَّ سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل» . وذكر بعد ذلك كلامًا ليعقوب بن شيبة، وفيه:«وقال علي ابن المديني: وعمرو بن شعيب عندنا ثقة، وكتابه صحيح» .

قلت: الساجي لم يدرك ابن معين، وقول ابن المديني:«كتابه صحيح» لعله أراد كتابه الخاص الذي قيَّد فيه سماعاته لا تلك الصحيفة. وقد قال الإمام أحمد: «له أشياء مناكير، وإنما يُكتب حديثُه يُعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا» . وقال مرة: «ربما احتججنا به، وربما وَجَس في القلب منه شيء» ، كأنه يريد أن يحتج به إذا لم يكن الحديث منكرًا. وفي كلام لأبي زرعة:«ما أقلَّ ما نُصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر! » . وهذا يدل أن في روايته عن أبيه عن جده مناكير غير قليلة. وبذلك صرَّح ابن حبان في «الثقات»

(1)

.

(1)

بل في «المجروحين» (2/ 72). ولم يترجم له في «الثقات» .

ص: 176

وراجع «أنساب ابن السمعاني» (الورقة 319 ألف)

(1)

. وذلك يدل على أحد أمرين: إما أن تكون تلك الصحيفة ــ مع صحتها في الجملة عن عبد الله بن عمرو ــ لم تُحفَظ كما يجب، فوقع العبث بها. وإما أن يكون عمرو أو أبوه أو كلاهما كما يدلِّس عن الصحيفة، يدلِّس عن غير الصحيفة.

فالذي يتحصل أنَّ ما صرَّح فيه عمرو بالسماع من أبيه، وبسماع أبيه من عبد الله بن عمرو، فإنها تقوم به الحجة. وما لم يصرِّح بذلك ففيه وقفة. ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث التصريحَ بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو. فأما سماعه من أبيه، فوقع التصريح به في لفظ «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» في رواية ابن إسحاق عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن [2/ 106] عمرو، ورواية أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو؛ إلا أن فيه اضطرابَ ابن إسحاق وتدليسَ أبي أسامة، مع عدم التصريح بسماع شعيب.

وقد قال الشافعي

(2)

لمن ناظره من الحنفية: «عمرو بن شعيب قد روى أحكامًا توافق أقاويلنا وتخالف أقاويلكم عن الثقات، فرددتموها، ونسبتموه إلى الغلط، فأنتم محجوجون. إن كان ممن ثبت حديثه، فأحاديثه التي وافقناها وخالفتموها أو أكثرها ــ وهي نحو ثلاثين حكمًا ــ حجة عليكم، وإلا فلا تحتجُّوا به» .

وبعد اللَّتيا والتي، إن صحَّ شيء عن عبد الله بن عمرو فهو:«كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» ، فعلى فرض صحته فهو محمول على الجنس

(1)

(7/ 201).

(2)

في كتاب «الأم» (6/ 345).

ص: 177

كما توضِّحه أكثر الروايات: «كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» . وقد مرَّ أنه لا حجة بذلك بعد قيام الحجة المحققة أن المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم كانت قيمته ثلاثة دراهم.

فأما الجملة المرفوعة، ولفظها فيما نسبه الزيلعي وابن كثير إلى «مصنَّف ابن أبي شيبة»:«لا يُقطَع السارق في دون ثمن المجن» ، وفي النسخة التي وقفتُ عليها من «المصنَّف»:«القطع في ثمن المجن» ، وفي رواية ابن راهويه، عن ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن عمرو:«ما بلغَ ثمنَ المجن ففيه القطع» = فقد تقدم أنها قطعة من حديث اللقطة الطويل، وقد تقدم رواية ابن إسحاق له عن عمرو.

ورواه النسائي

(1)

من طريق ابن عجلان عن عمرو «عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلَّق قال:

ومن خرج بشيء منه فعليه غرامةُ مثلَيْه والعقوبة، ومن سرق شيئًا بعد أن يُؤويه الجَرينُ، فبلغ ثمنَ المجن، فعليه القطع

».

ومن طريق ابن وهب

(2)

«أخبرني عمرو بن الحارث وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن رجلًا من مُزينة أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله كيف ترى في حَرِيسة الجبل؟ فقال: هي ومثلُها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع إلا فيما آواه المُرَاحُ، فبلغ ثمنَ المجن، ففيه قطع اليد

».

(1)

(8/ 85).

(2)

(8/ 86).

ص: 178

ومن طريق عبيد الله بن الأخنس

(1)

«عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : في كم تُقطَع اليد؟ قال: لا تُقطَع اليد في ثمر معلَّق. فإذا ضمَّه الجَرينُ قُطِعت في ثمن المجن، ولاتقطَع في حَرِيسة الجبل، فإذا آوى المراحُ قُطِعت في ثمن المجن» .

وأخرجه أبو داود

(2)

في «اللقطة» من طرق عن [2/ 107] عمرو، ويظهر منه أن الحديث أطول مما ساقه النسائي.

فمدار تلك الجملة المرفوعة على هذا الحديث. ولم أر في شيء من طرقه التصريحَ بسماع عمرو من أبيه، ولا بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو.

وقد ذكر البيهقي في «السنن» (ج 8 ص 263) حديث رافع بن خديج مرفوعًا: «لا قطعَ في ثَمَرٍ ولا كَثَرٍ» وحديثَ عمرو بن شعيب هذا. فقال ابن التركماني

(3)

: «ذكر الطحاوي أن الحديث الأول تلقَّت العلماء متنه بالقبول، واحتجُّوا به. والحديث الثاني لا يحتجون به، ويطعنون في إسناده، ولا سيما ما فيه مما يدفعه الإجماع من غُرم المثلَيْنِ» .

أقول: وإنما الطعن في إسناده، لمكان عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فليس للطحاوي أن يحتج بتلك القطعة من هذا الحديث ولا بشيء من رواية عمرو عن أبيه عن جده. وقد أخرج مالك في «الموطأ»

(4)

قطعة من الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي عن النبي صلى الله عليه وسلم .

(1)

(8/ 84). وفيه «عبد الله» مكبرًا، خطأ.

(2)

رقم (1710 - 1713).

(3)

في «الجوهر النقي» (8/ 263).

(4)

(2/ 831).

ص: 179

وابن أبي الحسين إنما سمعه من عمرو بن شعيب كما صرَّح به مالك في رواية الشافعي عنه، كما في «مسنده»

(1)

بهامش «الأم» (ج 6 ص 255).

وعلى فرض صحة حديث اللقطة، فالمراد بكلمة «المجن» ذاك المجن المعهود الذي قطع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، كأنه بعد أن قطع في المجن جاءه ذلك السائل، فاستشعر من سؤاله حرصَه على الالتقاط وما يقرب من السرقة أو يكونها، فشدَّد عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذكر غرامة المثلين وجَلَدات النكال. ثم ذكر له القطعَ، وعدَلَ عن أن يقول:«ما بلغ ثلاثة دراهم» أو «ما بلغ ربع دينار» ، ليتنبه السائل لموضع العبرة، ويعلم أن ذلك أمر مفروغ منه، قد نفذ به الحكم وجرى به العمل، ليكون ذلك أبلغ في المقصود من رَدْعه.

ولمثل هذا كثر في القرآن ترداد التذكير بأيام الله تعالى في الأمم السابقة. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا على عتبة بن ربيعة أوائل سورة (فصلت)، فلما بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} بادر عتبةُ فوضع يدَه على فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وناشده الرحمَ أن يكُفَّ

(2)

.

(1)

(2/ 84 من ترتيب السندي). وهو في كتاب «الأم» (7/ 376).

(2)

أخرجه البغوي في «تفسيره» (7/ 327) من طريق الحماني ثنا ابن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله. وأعلَّه الحافظ ابن كثير في تفسيره (3197) بالأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي فقال: «وقد ضعف بعض الشيء» . قلت: والذيال هذا ترجمه ابن أبي حاتم (1/ 2/451) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. والحماني هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي قال الحافظ: «صدوق يخطئ» . وسيأتي كلام المصنف فيه ص 110 [ص 185]. [ن]. والذي تكلم فيه المصنف هو يحيى بن عبد الحميد الحماني.

ص: 180

وكأن عبد الله بن عمرو حفظ هذا، ولم يبحث عن قيمة ذاك [2/ 108] المجن، ولا بلغه ما يُغني عن ذلك؛ فلما سئل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اضطُرَّ إلى الحدس باعتبار الجنس، كما تقدَّم شرحه. وقد علم عبد الله بن عمر بن الخطاب قيمة ذاك المجن على التحقيق. وإذا جاء نهرُ الله بطَلَ نهرُ مَعْقِل

(1)

.

قال الطحاوي

(2)

: «حدثنا فهد، قال ثنا محمد بن سعيد ابن الأصبهاني، أخبرني معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدنى ما يُقطَع فيه السارق ثمنُ المجن» . قال: وكان يُقوَّم يومئذٍ دينارًا».

أقول: هذا بهذا اللفظ غريب من هذا الوجه، وابن الأصبهاني كثير الغلط

(3)

. وقد قال النسائي في «السنن»

(4)

: «حدثنا محمود بن غيلان قال:

(1)

هذا مثل، انظر «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب» (ص 30، 31).

(2)

في «معاني الآثار» (3/ 163).

(3)

كذا الأصل، وهو سهو من المصنّف رحمه الله تعالى، أراد أن يقول:«معاوية بن هشام» فسبقه القلم وقال: «ابن الأصبهاني

» ثم لم ينتبه لذلك، فأعاده في الموضع الآخر ص 110 س 5 [ص 184]، وجلَّ مَن لا يسهو ولا ينسى. أقول هذا لأن ابن الأصبهاني متفق على توثيقه، وهو من شيوخ البخاري في «الصحيح» ، ولم يجرحه أحد البتة، ولذلك قال الحافظ في ترجمته من «التقريب»:«ثقة ثبت» . وأما معاوية بن هشام فهو الذي ينطبق عليه قول المصنف: «كثير الغلط» ، وهو أخذه من قول أحمد فيه:«كثير الخطأ» ، وقول الحافظ:«صدوق له أوهام» فهو علة هذا اللفظ، حفظه عنه ابن الأصبهاني. [ن].

(4)

(8/ 82).

ص: 181

حدثنا معاوية قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد وعطاء

(1)

، عن أيمن قال: لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم السارقَ إلا في ثمن المجن، وثمن المجن يومئذ دينار». محمود أثبَتُ جدًّا من ابن الأصبهاني.

وأخرجه النسائي

(2)

من طريق ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أيمن:«لم تكن تُقطَع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن، وقيمته يومئذ دينار» . ومن طريق

(3)

محمد بن يوسف، عن سفيان، عن منصور

(4)

، عن الحكم، عن مجاهد، عن أيمن مثله. أدخل في هذه الرواية الحكم بين منصور ومجاهد. وكذلك رواه الحسن وعلي ابنا صالح عند النسائي

(5)

. وكذلك رواه أبو عوانة وشيبان عند البخاري في «التاريخ» (ج 1 قسم 2 ص 25) كلُّهم عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن. ورواه جرير عن [2/ 109] منصور، فلم يذكر الحكَم. أخرجه النسائي

(6)

. وكذلك رواه شريك، كما يأتي.

والمحفوظ ذكرُ الحكَم، والحكم مدلِّس ولم يصرِّح بالسماع. وأيمن هو أيمن الحبشي كما صُرِّح به في الرواية. ولفظ البخاري في «التاريخ»

(7)

:

(1)

في النسخة «عن مجاهد عن عطاء» . [المؤلف].

(2)

(8/ 82).

(3)

(8/ 82).

(4)

«عن منصور» ساقط من (ط)، وهو موجود في المخطوط والنسائي.

(5)

(8/ 83).

(6)

(8/ 83).

(7)

(2/ 25).

ص: 182

قال «قال لنا موسى (بن إسماعيل) عن أبي عوانة ــ وتابعه شيبان ــ عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي

». فإما أن يكون هو أيمن الحبشي والد عبد الواحد، كما يدل عليه ما رواه الدارقطني

(1)

من طريق عبد الله بن داود: «سمعت عبد الواحد بن أيمن [يذكر] عن أبيه قال: وكان عطاء ومجاهد قد رويا عن أبيه» ، ووالد عبد الواحد تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين؛ وإما أن يكون آخر لا يعرف.

فإن قيل: فقد قال النسائي

(2)

: «أخبرنا علي بن حجر، قال أنبأنا شريك، عن منصور، عن عطاء ومجاهد، عن أيمن ابن أم أيمن [يرفعه قال: «لا يُقطع إلّا في ثمن المجنِّ، وثمنه يومئذٍ دينار» . وقال البخاري في «التاريخ»

(3)

: «قال لنا أبو الوليد: عن شريك، عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن ابن أم أيمن]

(4)

ــ قال أبو الوليد: رفعه: لا يُقطَع السارقُ إلا في مجنٍّ أو حَجَفةٍ قيمته دينار».

قلت: شريك ــ على فضلِه ــ سيئ الحفظ كثير الغلط. ونسبه الدارقطني وعبد الحق إلى التدليس. وأيمن ابن أم أيمن ليس بحبشي، بل هو ــ كما نسبه غير واحد ــ أيمن بن عبيد بن زيد

بن عوف بن الخزرج. فهو عربي أنصاري.

فإن قيل: لعله قيل له: الحبشي، لأن أمه حبشية.

(1)

(8/ 194).

(2)

(8/ 83) وكذا في «السنن الكبرى» (7394).

(3)

(2/ 25 - 26).

(4)

ما بين المعكوفتين ساقط من (ط)، استدركناه من (خ).

ص: 183

قلت: هذا بعيد. ومع ذلك، اختُلف في أم أيمن، نسبها غير واحد كابن عبد البر في «الاستيعاب»

(1)

: «

بنت ثعلبة بن عمرو بن حِصْن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان». فعلى هذا هي عربية لا حبشية.

فإن قيل: لعل أمها كانت حبشية.

قلت: وما الموجِب لهذا التعسف؟ وقد ذكر أهل المغازي وغيرهم أن أيمن ابن أم أيمن استُشهد يوم حنين. وشريك قد تقدم حاله، وقد تفرَّد بقوله:«ابن أم أيمن» ، ويجوز أن يكون زاد ذلك وهمًا، أو يكون قال:«أيمن ابن أم أيمن» كما يقال: «أحمد ابن أم أحمد» ، وإن لم تكن كنية أمه أم أحمد. وفي محاورةٍ جرت بين سلمان وحذيفة أن حذيفة قال: يا سلمان ابن أم سلمان. فقال سلمان: يا حذيفة ابن أم حذيفة

(2)

.

[2/ 110] فلهذا الخبر علتان: الأولى: تدليس الحكم. الثانية: أن أيمن تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين، أو غير معروف.

هذا، وقد تفرَّد شريك بقوله:«قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم» . وشريك قد تقدم حاله، والأئمة الأثبات لا يذكرون ذلك. ورواية الطحاوي عن فهد، عن ابن الأصبهاني، عن سفيان شاذة، بل باطلة. وابن الأصبهاني كثير الغلط جدًّا

(3)

.

فإن قيل: فقد قال الطحاوي

(4)

: «ثنا ابن أبي داود قال: ثنا يحيى بن

(1)

(4/ 1793).

(2)

أخرجه أحمد في «المسند» (23721).

(3)

قلت: بل هو ثقة حجَّة. والعلة من معاوية بن هشام، كما بيَّنَّاه (ص 108)[ص 181]. [ن].

(4)

في «معاني الآثار» (2/ 163).

ص: 184

عبد الحميد الحِمَّاني قال: ثنا شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن، عن أم أيمن، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يُقطع السارق إلا في حَجَفة» ، وقُوِّمت يومئذٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم».

قلت: زاد ابن الحِمَّاني ضِغْثًا على إبَّالة. وهو متكلَّم فيه، وإن ألحَّ ابن معين في توثيقه. وفي كتاب «العلل» لابن أبي حاتم (ج 1 ص 457): «سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن صالح

قال أبي: هو مرسل، وأرى أنه والد عبد الواحد بن أيمن، وليست له صحبة. قلت لأبي: قد روى هذا الحديث يحيى الحِمَّاني .. ؟ قال أبي: هذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن أصحاب شريك لم يقولوا: عن أم أيمن

والوجه الآخر: أن الثقات رووه عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن أيمن قوله».

فأما المتن في رواية الجماعة، ففيه جملتان:

فالأولى: في رواية سفيان: «لم تكن تُقطَع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المِجنّ» . وفي رواية علي بن صالح: «لم تقطع اليد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن» . وفي رواية جرير: «لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن» . وفي رواية الحسن بن صالح وأبي عوانة وشيبان: «يقطع السارق في ثمن المجن» . وسفيان إمام، وعلي ثقة، والباقون جماعة. وقد كان أبو نعيم الفضل بن دكين يقول:«ما رأيت أحدًا إلا وقد غلط في شيء غير الحسن بن صالح» .

والجملة الثانية: لم تقع في رواية جرير، ولفظها

(1)

في رواية سفيان: «ثمن المجن يومئذ [2/ 111] دينار» . وفي رواية الباقين نحوه إلا الحسن بن

(1)

في (ط): «ولفظه» . والمثبت من المخطوط.

ص: 185

صالح فلفظها عنده: «كان ثمن المجن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا أو عشرة دراهم» ، ولعل هذا هو الأصل، فاختصره الجماعة.

وعلى كل حال، فهذا من قبيل ما تقدَّم من اعتبار الجنس، وقد ثبت التحقيق بحديث ابن عمر، فسقط الحدس.

قال الطحاوي

(1)

: «فلما اختُلِف في قيمة المجن الذي قَطَع فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم احْتِيطَ في ذلك، فلم يُقطَع إلا فيما أُجمِع أن فيه وفاءً بقيمة المجن التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدارًا لا يُقطع فيما هو أقل منها، وهو عشرة دراهم» .

أقول: قد علمتَ أنه ليس فيما ذكره الطحاوي ما يصلح دليلًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا قطعَ فيما دون قيمة ذاك المجن، ولا ما يصلح دليلًا يخالف الحجة الواضحة المحققة أن قيمته ثلاثة دراهم.

ثم قال الطحاوي

(2)

: «وقد ذهب آخرون إلى أنه لا يُقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا، واحتجُّوا على ذلك بما حدثنا يونس، أخبرنا به ابن عيينة

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار فصاعدًا. قيل لهم: ليس هذا حجة، لأن عائشة إنما أخبرت عمَّا قَطَع فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قوَّمت ما قُطِع فيه [فكانت قيمته عندها ربع دينارٍ، فجعلت ذلك مقدارَ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع فيه]

(3)

».

(1)

«معاني الآثار» (3/ 163).

(2)

(3/ 163، 164).

(3)

زيادة من كتاب الطحاوي لإكمال المعنى. وفي المخطوط بياض مكان كلام الطحاوي كله.

ص: 186

أقول: روى ابن شهاب الزهري وجماعة، عن عمرة، عن عائشة في القطع في ربع دينار، واختلفوا. ثم وقع خلاف عن بعض أصحاب الزهري، ثم وقع خلاف يسير عن ابن عيينة في روايته عن الزهري. وهذا الذي ذكره الطحاوي هو رواية يونس بن عبد الأعلى، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة. وهكذا رواه جماعة عن ابن عيينة، منهم يحيى بن يحيى عند مسلم

(1)

، وأحمد في «مسنده»

(2)

، وإسحاقُ وقتيبةُ عند النسائي

(3)

. وخالفهم جماعة عن ابن عيينة.

قال ابن حجر في «الفتح»

(4)

: «أورده الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقطع اليد ــ الحديث» . ولفظ الشافعي كما في «مسنده»

(5)

بهامش «الأم» (ج 6 ص 254): «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: القطع في ربع دينار» . ولفظ الحميدي كما ذكره الطحاوي

(6)

فيما بعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا» . [2/ 112] وأخرجه الطحاوي

(7)

فيما بعدُ من طريق الحجاج بن منهال عن ابن عيينة، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «السارق إذا سرق ربعَ دينار قُطِع» .

(1)

رقم (1684).

(2)

رقم (24078) ومن طريقه أبو داود (4383).

(3)

(8/ 78، 79).

(4)

(12/ 102).

(5)

(2/ 83 - ترتيب السندي). وهو في كتاب «الأم» (7/ 372).

(6)

«معاني الآثار» (3/ 166). وهو في «مسند الحميدي» (279) بلفظ: «القطع في ربع دينار فصاعدًا» .

(7)

(3/ 167).

ص: 187

ولنجب عن قول الطحاوي: «ليس هذا بحجة» ، ثم ننظر في الروايات.

فأما الجواب: فإن أراد أن الحديث بذاك اللفظ ليس بحجة على أنه لا قطع فيما دون ربع دينار، فجوابه مبني على رأي أصحابه في إهدار مفهوم المخالفة، ولا شأن لنا به الآن. وإن أراد: ليس بحجة على القطع فيما دون عشرة دراهم، فقد أبطل.

قوله: «يحتمل أن يكون ذلك لأنها قَوَّمت ما قطع فيه» . قلنا: وعلى هذا الاحتمال يكون حجة.

فإن قيل: قد خالفها غيرها.

قلنا: كلا، لم يخالفها أحد.

فقد اتضح بما تقدم أنه لا يثبت مما ذكره الطحاوي غيرُ حديث ابن عمر، وهو موافق لهذا الحديث؛ لأن صرف الدينار كان حينئذ اثني عشر درهمًا. وقول الحنفية: كان صرفه عشرة دراهم، مردود كما بُيِّن في محلِّه. وهَبْ أنه كان صرفه في وقتٍ ما عشرة، فذلك لا يدفع أن يكون صرفه في وقت آخر اثني عشر. وهَبْ أن صرفه كان في طول العهد النبوي عشرة دراهم، فالفرق نصف درهم. وليس في حديث ابن عمر نفيٌ للقطع فيما دون ثلاثة دراهم. وهَبْ أن عائشة قوَّمت ذاك المجنَّ درهمين ونصفًا، فقد اتفقنا على القطع في ثلاثة دراهم، لأنه إذا قُطِع فيما دونها قُطِع فيها.

وأما الروايات، فالواجب أن يُبدَأ باستقصاء النظر في الاختلاف عن ابن عيينة عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم برواية غير الزهري عن عمرة. والطحاوي عدل عن هذا، فأخذ إحدى الروايتين عن ابن

ص: 188

عيينة، وهي المخالفة لرواية غيره. وإنما بدأ بها الطحاوي، ثم قال

(1)

: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا»

(2)

ثم قال: «يونس بن يزيد عندكم لا يقارب [2/ 113] ابن عيينة» . ثم ذكر بعض روايات غير الزهري عن عمرة، وأنهم اختلفوا، فمنهم من رفعه ومنهم من وقفه، وحاول ترجيح الوقف، ثم عاد فذكر رواية الحميدي والحجاج بن منهال عن ابن عيينة، وروايةَ إبراهيم بن سعد عن الزهري بنحوها، ثم قال

(3)

: «فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، واختلف على غيره عن عمرة على ما وصفنا، ارتفع ذلك، فلم تجب الحجة بشيء منه، إذ كان بعضه ينفي بعضًا» . كذا قال، حسيبه الله! فلندَعْه، ولنسلكِ الجادة.

أما الروايتان عن ابن عيينة، فقد ترجَحُ رواية الشافعي والحميدي ومن وافقهما بأمور:

الأول: أن رواتها عن ابن عيينة ممن سمع منه قديمًا. وقد جاء عن يحيى القطان

(4)

: «قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث، وتحدِّث اليوم وتزيد في

(1)

(3/ 164).

(2)

قلت: هذا أخرجه مسلم أيضًا في «صحيحه» (5/ 112) من طرق أخرى قالوا: حدثنا ابن وهب به مرفوعًا بلفظ: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» . [المؤلف].

(3)

(3/ 167).

(4)

كما في «تهذيب التهذيب» (4/ 121).

ص: 189

إسناده أو تنقص منه. فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت»

(1)

. كأنه يريد: سئِمَ من مراجعة أصوله.

الوجه الثاني: أن من رواتها عنه الشافعي والحميدي، وكان لهما مزيد اختصاص به، وجاء عن الحميدي أنه لزمه سبع عشرة سنة. وقال الإمام أحمد:«الحميدي عندنا إمام» . وقال أبو حاتم: «هو أثبت الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام» .

الوجه الثالث: أن الحميدي لما روى هذا في «مسنده» عن ابن عيينة ذكر كلام ابن عيينة في الحديث، فقال ــ كما ذكره الطحاوي وقرأتُه في نسخة من «مسند الحميدي»

(2)

ــ: «عن سفيان قال: حدثنا أربعة عن عمرة عن عائشة لم ترفعه: عبد الله بن أبي بكر، ورزيق بن حكيم الأيلي، ويحيى، وعبد ربه ابنا

(3)

سعيد، والزهري أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: ما نسيتُ ولا طال عليَّ، القطعُ في ربع دينار فصاعدًا». فهذا يدل أن ابن عيينة لما حدَّث الحميديَّ اعتنى بالحديث واحتفل له. وذلك أحرى أن يتحرى التحقيق في روايته، ولعله راجَعَ أصلَ كتابه.

الوجه الرابع: أن الذين رووه عن الزهري غير ابن عيينة رووه بلفظ الحميدي عن ابن عيينة عن الزهري أو معناه.

الوجه الخامس: أن الذين رووه عن عمرة غير الزهري، رواه أكثرهم بلفظ الحميدي أو معناه أيضًا.

(1)

في التهذيب: «سمنت» تحريف.

(2)

رقم (279).

(3)

(ط): «بن» . والمثبت من (خ). ويحيى وعبد ربه كلاهما ابنا سعيد.

ص: 190

[2/ 114] الوجه السادس: أن في «الصحيحين»

(1)

من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تُقطَع يدُ سارقٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المِجَنِّ: تُرْسٍ أو حَجَفةٍ. وكان كل واحد منهما ذا ثمن» . فقولها: «تُرس أو حَجفة» يدل أنها لم تعرفه، وإذا لم تعرفه لا يمكنها أن تُقوِّمه.

وقولها: «وكان كل واحد منهما ذا ثمن» ظاهر في أنها لم تعرف ثمن ذاك المجن، وإلا لَبيَّنته لتتم الفائدة المقصودة.

فإن قيل: لا يلزم من عدم معرفتها بقيمة ذاك المجنّ أن لا تعرف قيمة غيره مما قَطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم .

قلت: قد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقَ رداءِ صفوان، وكان ثمنه ثلاثين درهمًا

(2)

. وقطع يدَ المخزومية التي كانت تستعير الحُلِيَّ وتجحده

(3)

. وهاتان الواقعتان ليس فيهما ربع دينار، فكيف تأخذ عائشة منهما أو من إحداهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار.

فإن قيل: لعلها أخذت ذلك من واقعة أخرى غير هذه الثلاث.

قلت: لا يُعرَف ذلك، ولو كان ذاك عندها لما احتاجت أن تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها، بل كانت تذكر ذاك الشيء الآخر الذي عَرَفَتْ قيمته،

(1)

البخاري (6794) ومسلم (1685).

(2)

أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 834) عن صفوان بن عبد الله بن صفوان مرسلًا. ووصله النسائي (8/ 68، 69) وابن ماجه (2595).

(3)

أخرجه مسلم (1688/ 10) من حديث عائشة.

ص: 191

فذلك أوفى بمقصودها من ذكر ما لم تَعرفْه

(1)

ولا عَرفَتْ قيمته.

فإن قيل: قد قال النسائي

(2)

: «أخبرنا قتيبة، ثنا جعفر بن سليمان، عن حفص بن حسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قطع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ربع دينار»

قلت: جعفر فيه كلام، وحفص مجهول.

فإن قيل: فقد يُعكَس عليك الأمر فيقال: لو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا» أو نحوه لما احتاجت أن تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها.

قلت: هناك مسألتان:

[2/ 115] الأولى: هل يقطع في ربع دينار؟

الثانية: هل يُقطَع فيما دون ذلك؟

فحديثها مرفوعًا: «تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا» يدل على المسألة الأولى بمنطوقه، ولا يدل على الثانية إلا بمفهوم المخالفة. فكأنها لما أرادت الاحتجاج على أنه لا يُقطَع في الشيء التافه، استضعفت أن تخصِّص القرآنَ بمفهوم المخالفة، فلم تحتجَّ بهذا الحديث، وعدلتْ إلى ما رواه هشام عن أبيه عنها. وكأنها كانت تُجوِّز أن تكون قيمة ذاك المجنّ كانت أقلَّ من ربع دينار، فأخبرت بما عندها، وهو أنه أقلُّ ما يَقطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وتركت النظرَ لغيرها.

(1)

(ط): «لم تعرف» . والمثبت من (خ).

(2)

(8/ 77).

ص: 192

فإن قيل: فقد جاء في بعض روايات حديث عمرة عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا» ، وهذا واضح الدلالة على المسألة الثانية.

قلت: هذا اللفظ مرجوح. والمحفوظ: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا» أو ما في معناه، كما يأتي بيانه إن شاء الله. وكأن من روى بلفظ: «لا تُقطع

» إنما روى بالمعنى، فصرَّح بمقتضى مفهوم المخالفة.

إذا تقرر هذا فلو صحَّ عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع اليد في ربع دينار» لوجب حملُه على أنها إنما أخذته من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا» ، بناء على أن من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يوافق فعلُه قولَه، فإذا قال:«تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا» ، عُلِمَ منه أنه كان إذا رُفِع إليه في سرقة ربع دينار قَطَع. فإن لم يقع القطع بالفعل لعدم الرفع، فهو واقع بالقوة.

والحق أن ذاك اللفظ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقطَع في ربع دينار فصاعدًا» لا يثبت عن عائشة. ولكن يمكن أن تكون تلك حال ابن عيينة، سمع الحديث بلفظ:«تُقطَعُ يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا» ، فرواه تارة كذلك، وذلك حين اعتنى بالحديث عند تحديثه للحميدي كما مرَّ، وتارة بلفظ:«القطع في ربع دينار» ، وتارة:«السارقُ إذا سَرَقَ ربع دينار قُطِع» ، وتارة:«قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار فصاعدًا» . والثلاثة الأخيرة كلها من باب الرواية بالمعنى. أما الثاني والثالث، فظاهر. وأما الرابع فلِمَا استقرَّ [2/ 116] في نفس ابن عيينة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئًا فقد عمل به أو كأنه قد عمل به.

ص: 193

وقد ذكر الطحاوي في «مشكل الآثار» (ج 2 ص 270)

(1)

حديثًا من طريق شجاع بن الوليد عن ابن شبرمة بسنده: «قال رجل: يا رسول الله، أيُّ الناس أحقُّ مني بحسن الصحبة؟ قال: «أمك» . قال: ثم مَن؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» ــ ثلاث مرات. قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك» ». ثم رواه

(2)

من طريق ابن عيينة، وفيه ذكر الأم مرتين فقط. ثم قال الطحاوي

(3)

: «قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفِظه شجاع، لأن ابن عيينة كان يحدِّث من حفظه، وشجاع

(4)

كان يحدِّث من كتابه». وعَبَّرَ عن هذا

(5)

صاحب «المعتصَر» (ج 2 ص 286)

(6)

بعبارة منكرة.

وفي «المعتصر» (ج 2 ص 205) في الكلام على حديث: «أخرجُوا يهودَ الحجاز وأهلَ نجران من جزيرة العرب» أن ابن عيينة روى: «أخرِجُوا المشركين من جزيرة العرب»

(7)

، ثم قال في «المعتصر»:«ففيه غلط من ابن عيينة، لأنه كان يحدِّث مِن حفظه، فيحتمل أن يكون جعل مكان «اليهود والنصارى» : المشركين، إذ لم يكن عنده من الفقه ما يميِّز [به] بين ذلك». كذا في «المعتصر» ، وقوله: «إذ لم يكن

» عبارة بَشِعة لا أرى الطحاوي

(1)

رقم (1666) من حديث أبي هريرة.

(2)

رقم (1670، 1671).

(3)

في «مشكل الآثار» (4/ 371).

(4)

«كان يحدث

وشجاع» ساقطة من (ط). وهي في (خ) والطحاوي.

(5)

«عن هذا» ساقطة من (ط)، استدركناها من (خ).

(6)

طبعة ثانية. [المؤلف].

(7)

«مشكل الآثار» (2766) من حديث ابن عباس. وقد أخرجه البخاري (3053، 3168) ومسلم (1637).

ص: 194

يتفوَّه بها

(1)

، وإنما هي من تغيير المختصِر الذي ليس عنده من العلم ما يعرف به مقام ابن عيينة، كما فعل المختصِر في الموضع السابق.

والمقصود هنا إنما هو أن ابن عيينة كان كثيرًا ما يروي من حفظه، ويروي بالمعنى. هذا، وصنيع مسلم في «صحيحه» يقتضي أنه لا فرق في المعنى، فإنه صرَّح أولًا بلفظ ابن عيينة الأول

(2)

: «قالت عائشة: كان رسول الله

»، ثم ساق الإسناد عن معمر، وإبراهيم بن سعد، وسليمان بن كثير؛ وقال:«كلهم عن الزهري بمثله» ، مع أن لفظ معمر وإبراهيم كلفظ الحميدي عن ابن عيينة، ولفظ سليمان كلفظ الشافعي عن ابن عيينة. أما البخاري، فأعرض عن رواية ابن عيينة البتة، كأنه يقول: اختلفت الرواية عنه، وفي رواية غيره الكفاية.

والحق أن رواية الحميدي ومَن وافقه هي أرجح الروايتين عن ابن عيينة، وأنه لو لم يُعرَف أرجحُ الروايتين بصرف النظر عن رواية غيره، فإنه يعرف بالنظر في رواية غيره. فنقول مثلًا: يونس وابن عيينة من جانب، وابن عيينة [2/ 117] وحده من جانب، أيهما أرجح؟ على أن مع يونس جماعة كما يأتي.

وفي «فتح الباري»

(3)

: «وأما نقلُ الطحاوي عن المحدِّثين أنهم يقدِّمون ابن عيينة في الزهري على يونس، فليس متفقًا عليه عندهم، بل أكثرهم على العكس. وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري:

(1)

بل هو كذلك في «مشكل الآثار» (7/ 192). ولم يغيّره المختصِر.

(2)

رقم (1684/ 1).

(3)

(12/ 102، 103).

ص: 195

يحيى بن معين، وأحمد بن صالح المصري. وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة، وكان يزامله في السفر، وينزل عليه الزهري إذا قدم أَيلَة. وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من الزهري مرارًا. وأما ابن عيينة، فإنما سمع منه سنة ثلاث وعشرين ومائة. ورجع الزهري، فمات في التي بعدها».

أقول: أما الحفظ، فابن عيينة أحفظ وأضبط بلا شك، ولاسيَّما فيما رواه قديمًا، إلا أنه كثير الرواية بالمعنى. ويونس دونه في الحفظ، ولكن كتابه صحيح، كما شهد له ابن المبارك وابن مهدي. وعلى كل حال فلا معنى للموازنة بينهما هنا، ولكن الطحاوي لأمرٍ ما ذكر رواية ابن عيينة المرجوحة، وعقَّبها برواية يونس، ونصب الخلافَ بينهما. وقد علمتَ أن الواقع رواية ابن عيينة المرجوحة من جانب، وروايته الراجحة ويونس من جانب؛ فأيُّ معنى للموازنة بين الرجلين؟

أما بقية الرواة عن الزهري فجماعة:

الأول: يونس بن يزيد. تقدمت رواية الطحاوي عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عنه. وبنحوه رواه البخاري في «الصحيح»

(1)

عن ابن أبي أويس عن ابن وهب. وكذلك رواه عن ابنِ وهبٍ: الحارثُ بن مسكين عند النسائي

(2)

، وابن السرح ووهب بن بيان وأحمد بن صالح عند أبي داود

(3)

.

(1)

رقم (6790).

(2)

(8/ 78).

(3)

رقم (4384).

ص: 196

ورواه مسلم

(1)

عن حرملة والوليد بن شجاع عن ابن وهب، وقالا في المتن:«لا تُقطَع اليدُ إلا في ربع دينار فصاعدًا» . وهذه رواية بالمعنى بالتصريح بمفهوم المخالفة، والأولون أكثر وأثبت.

وأخرج الإمام أحمد في «المسند» (ج 6 ص 36)

(2)

عن عتَّاب، وأخرج النسائي

(3)

عن حبان بن موسى، كلاهما عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا:«تُقطع اليدُ في ربع دينار فصاعدًا» . وهذا أثبت مما تقدم، لأن ابن المبارك أثبت من ابن وهب، وكان يقول: كتاب يونس صحيح. وكان من عادة ابن المبارك تتبُّعُ [2/ 118] أصول شيوخه، فالظاهر أنه أخذ هذا عن يونس من أصل كتابه. ويشهد لذلك أنه لم يذكر عروة، وبقية الرواة عن الزهري غير يونس في رواية ابن وهب لا يذكرون عروة، وحديث عروة عن عائشة ليس بهذا اللفظ.

وفي «الفتح»

(4)

: «يحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه، وحمل يونس حديثَ عروة على حديث عمرة، فساقه على لفظ عمرة. وهذا يقع لهم كثيرًا» .

أقول: وإنما يتصرف يونس هذا التصرف إذا حدَّث من حفظه أو من فرعٍ خرَّجه من أصوله. فأما إذا حدَّث من أصله فإنما يكون على الوجه. فبان بهذا أن ابن المبارك أخذ الحديث عن يونس من أصل كتابه، ولِقوَّة هذه الرواية

(1)

رقم (1684/ 2).

(2)

رقم (24079). وفي (ط): «ص 311» خطأ.

(3)

(8/ 78).

(4)

(12/ 104).

ص: 197

ذكرها الإمام أحمد عقبَ رواية ابن عيينة، كأنه يشير إلى أن رواية يونس هذه هي الصواب.

الثاني: إبراهيم بن سعد. عند البخاري في «الصحيح»

(1)

عن القعنبي عن إبراهيم بمثل رواية ابن المبارك عن يونس. وكذلك ذكره الطحاوي

(2)

: «ثنا ربيع المؤذن، ثنا أسد، ثنا إبراهيم» . وأخرجه مسلم في «الصحيح»

(3)

عن أبي بكر بن أبي شيبة «ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سليمان بن كثير وإبراهيم

» ولم يسق المتن. وفي «مصنف ابن أبي شيبة»

(4)

: «القطع في ربع دينار فصاعدًا» ، وهذا لفظ سليمان.

الثالث: سليمان بن كثير. تقدمت روايته قريبًا.

الرابع والخامس والسادس: قال البخاري في «الصحيح»

(5)

عقب رواية إبراهيم: «وتابعه عبد الرحمن بن خالد، وابن أخي الزهري، ومعمر» .

وفي «الفتح»

(6)

: «أما متابعة عبد الرحمن .. فوصلها الذهلي في «الزهريات» عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عنه نحو رواية إبراهيم

وأما متابعة ابن أخي الزهري

فوصلها أبو عوانة في «صحيحه» من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه

وأما

(1)

رقم (6789).

(2)

«معاني الآثار» (3/ 167).

(3)

رقم (1684).

(4)

(9/ 468، 469).

(5)

رقم (6789).

(6)

(12/ 101).

ص: 198

متابعة معمر، فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسُقْ لفظه. وساقه النسائي، ولفظه:«تُقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا» . ووصلها هو أيضًا وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر. وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد: نبَّلنا معمرًا، رويناه عنه [2/ 119] وهو شابٌّ

وسعيد أكبر من معمر، وقد شاركه في كثير من شيوخه. ورواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه، أخرجه النسائي».

أقول: رواية أحمد في «المسند» (ج 6 ص 163)

(1)

. ورواية مسلم

(2)

هي عن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد عن عبد الرزاق. ورواية النسائي

(3)

هي عن إسحاق عن عبد الرزاق. وكذلك أخرجه البيهقي في «السنن» (ج 8 ص 254) من طريق أحمد بن يوسف السُّلَمي عن عبد الرزاق. ورواية سعيد بن أبي عروبة عند النسائي

(4)

هي عن عبد الوهاب الخفاف عنه. وقد عدُّوا عبد الوهاب من أثبت الناس عن ابن أبي عروبة، لكن ذكر بعضهم أنه سمع من قبل الاختلاط وبعده. وهذا لا يضرُّ هنا، فإن قول سعيد:«نبَّلنا معمرًا، رويناه عنه وهو شاب» يقضي بأن سعيدا روى هذا قديمًا، فإن معمرًا ولد سنة ست أو سبع وتسعين، وسعيد بدأ به الاختلاط أواخر سنة 143، واشتد به قليلًا سنة 145 هـ، واستحكم سنة 148. هذا هو الجامع بين الحكايات المتصلة في ذلك، فأما المنقطعة فلا عبرة بها.

(1)

رقم (25304).

(2)

رقم (1684).

(3)

(8/ 78).

(4)

(8/ 78).

ص: 199

فأما رواية ابن المبارك فهي عند النسائي

(1)

عن سويد بن نصر عنه. وسويد مات سنة 240، وعمره 91 سنة. فقد أدركه الشيخان، ولكنهما لم يخرجا عنه في «الصحيح» . وإنما روى له النسائي والترمذي، ووثَّقه النسائي ومسلمة بن قاسم. وقال ابن حبان:«كان متقنًا» ، فالله أعلم. وقد روى النسائي

(2)

عنه، عن ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: يُقطع في ربع دينار فصاعدًا.

وأثبت الروايات عن يحيى ما رواه مالك

(3)

وابن عيينة

(4)

عنه عن عمرة عن عائشة: «ما طال عليَّ ولا نسيتُ: القطعُ في ربع دينار فصاعدًا» . فإن لم يكن وهم في روايته عن ابن المبارك عن معمر فالتقصير من معمر. وقد قال الإمام أحمد

(5)

: «حديث عبد الرزاق عن معمر أحبُّ إلي من حديث هؤلاء البصريين (عن معمر)، كان (معمر) يتعاهد كتبه وينظر فيها باليمن (حيث سمع منه عبد الرزاق)، وكان يحدِّثهم حفظًا بالبصرة» .

وسعيد بن أبي عروبة أقدم سماعًا، فإن لم يكن الوهم من سويد، فكأنَّ معمرًا حدَّث بالحديث مرةً من حفظه حيث سمع منه ابن المبارك فشكَّ في

(1)

(8/ 78).

(2)

(8/ 79).

(3)

في «الموطأ» (2/ 832) ومن طريقه النسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165) وابن حبان (4462).

(4)

أخرجه من طريقه الحميدي في «مسنده» (280) والنسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165).

(5)

كما في «تهذيب التهذيب» (6/ 312).

ص: 200

الرفع، فقصَّر به، كما كان يقع مثل هذا لحماد بن زيد. وقد حدَّث به معمر قبل ذلك حيث سمع منه ابن أبي عروبة، فرفعه. وحدَّث به باليمن حيث كان يتعاهد كتبه فرفعه. والإمام [2/ 120] أحمد إنما سمع من عبد الرزاق من أصوله، كما تراه في ترجمة عبد الرزاق من «التهذيب» .

السابع: زَمْعة بن صالح. في «مسند أبي داود الطيالسي» (ص 220)

(1)

: حدثنا زمعة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تُقطع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا».

فهؤلاء سبعة رووه عن الزهري كما رواه الحميدي والشافعي وغيرهما عن ابن عيينة عن الزهري. وإنما هناك اختلاف على ابن عيينة ومعمر، وأرجح الروايتين عن كل منهما هي الموافقة للباقين. وهَبْ أن الاختلاف عنهما ضارٌّ، فبروايتهما فقط، ويثبت الحديث برواية الباقين. وليس وراء ذلك إلا اختلاف يسير في الألفاظ، مع اتحاد المعنى. فليس في حديث الزهري ما يسوغ أن يسمَّى اضطرابًا، فضلًا عن أن يكون اضطرابًا مُسْقِطًا، كما زعم الطحاوي بقلة مبالاة، مع تشبُّثه بحديث ابن إسحاق الذي تقدم حاله!

وأما بقية الرواة عن عمرة فجماعة:

الأول: ابن ابن أخيها محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد

(2)

بن زرارة الأنصاري. قال البخاري في

(1)

رقم (1582).

(2)

(ط): «سعدة» خطأ، والتصويب من (خ). وراجع «التهذيب» (9/ 298).

ص: 201

«الصحيح»

(1)

: حدثنا عِمران بن ميسرة، ثنا عبد الوارث، حدثنا الحسين (المعلم)، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن حدَّثَته أن عائشة حدثتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تُقطَع اليد في ربع دينار» .

ورواه عن عبد الوارث أيضًا ابنه عبد الصمد، وصرَّح بسماع يحيى بن أبي كثير. ورواه عن يحيى أيضًا حرب بن شداد وهمام بن يحيى، كما في «الفتح»

(2)

عن الإسماعيلي. ورواية حرب في «مسند أحمد» (ج 6 ص 252)

(3)

. وكذلك رواه هِقْل بن زياد عن يحيى كما في «الفتح»

(4)

عن «مسند أبي يعلى» .

وقال النسائي

(5)

: «أنا حُميد بن مسعدة، ثنا عبد الوارث، ثنا حسين، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، ثم ذكر كلمةً معناها: عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار» . لم يُتقِن حميدٌ بدليل قوله: «فذكر كلمةً معناها» ، والصواب:«تُقطع اليد في ربع دينار» كما مرّ.

وروى النسائي

(6)

من طريق إبراهيم بن عبد الملك أبي إسماعيل

(1)

رقم (6791).

(2)

(12/ 101).

(3)

رقم (26141).

(4)

(12/ 101). وليس فيه ذكر «مسند أبي يعلى» وإنما عزاه إلى أبي نعيم في «المستخرج» .

(5)

(8/ 80).

(6)

(8/ 80).

ص: 202

القنَّاد، عن يحيى بن أبي كثير، [2/ 121] عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عمرة، عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع اليد في ربع دينار. والقنَّاد ليس بعمدة، وذكر الساجي أن ابن معين ضعَّفه. وقال العقيلي:«يهم في الحديث» . وقال ابن حبان في «الثقات»

(1)

: «يخطئ» . فقد وهم في السند بقوله: «بن ثوبان» ، ووهم في المتن كما رأيت.

الثاني: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. رواه عنه جماعة، منهم يزيد بن الهاد عند مسلم في «صحيحه»

(2)

من وجهين، وعند الطحاوي

(3)

من وجهين آخرين. ومنهم عبد الرحمن بن سلمان عند النسائي

(4)

، ومنهم ابن إسحاق عند الطحاوي

(5)

والبيهقي

(6)

. وقال في المتن المرفوع: «لا تُقطَع اليد إلا في ربع دينار» .

وفي رواية البيهقي (ج 8 ص 255) من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر: «أُتِيتُ بنبطي قد سرَق، فبعثتْ إليَّ عمرةُ بنت عبد الرحمن: أي بُنيَّ إن لم يكن بلغ ربع دينار فلا تقطعه؛ فإن عائشة حدثتني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

(6/ 26).

(2)

رقم (1684/ 4).

(3)

(3/ 165).

(4)

(8/ 80). وعبد الرحمن بن سلمان إنما يرويه عن يزيد بن الهاد كما في «السنن الكبرى» (7376) و «التحفة» (17951) وقد سقط «يزيد بن الهاد» من نسخ المجتبى سهوًا.

(5)

(3/ 166).

(6)

في «الكبرى» (8/ 255).

ص: 203

يقول: لا يُقطع في دون ربع دينار».

وفي «مسند أحمد» (ج 6 ص 80)

(1)

و «سنن البيهقي» (ج 8 ص 255) من طريق محمد بن راشد، عن يحيى بن يحيى الغساني قال: «قدمتُ المدينة، فلقيتُ أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو عامل على المدينة، فقال: أُتِيتُ بسارق (زاد البيهقي: من أهل بلادكم حوراني قد سرق سرقة يسيرة. قال) فأرسلتْ إليَّ خالتي عمرةُ بنت عبد الرحمن أن لا تَعجَلْ

قال: فأتتْني، فأخبرتْني أنها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا في ربع الدينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك».

الأثبت عن عمرة لفظ «تُقطَع اليد في ربع دينار فصاعدًا» . وقد دل حديث عروة ــ كما تقدَّم ــ على أن هذا هواللفظ الذي كان عند عائشة، فما وقع في هذه الرواية: «لا تُقطَع اليد إلا

» ونحوه= من الرواية بالمعنى. والمقتضي لذلك هنا ــ والله أعلم ــ أن الحديث يدل على حكمين:

الأول: إثبات القطع في ربع دينار.

الثاني: نفي القطع فيما دون ذلك.

فإذا كان الأول هو الأهم، فحقُّه أن يقال مثلاً:«تُقطع اليد في ربع دينار» . وإذا [2/ 122] كان الثاني هو الأهم، فحقُّه أن يقال مثلًا:«لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار» . وإذا كانا سواءً جُمع بين اللفظين. فلما كان الأهم في الواقعة التي ذكرها أبو بكر هو الحكم الثاني وقع التعبير بما يوافقه. والأشبه أن التصرف من أبي بكر، سمع الحديث في صدد بيان الحكم الثاني، فثبت

(1)

رقم (24515).

ص: 204

في ذهنه بالمعنى المقتضي للفظ الثاني، فعبَّر بذلك. ثم كأنه استشعر حيث أخبر الغساني أن أصل لفظ عمرة يقتضي المعنيين على السواء، فجمع بين اللفظين. وإنما كان لفظ الحديث يقتضي أهمية الأول، والمقام يقتضي أهمية الثاني، فتدبَّرْ.

الثالث: سليمان بن يسار. أخرجه مسلم في «الصحيح»

(1)

من طريق ابن وهب، عن مخرمة بن بكير بن الأشج «عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عمرة أنها سمعت عائشة تحدِّث أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تُقطَع اليدُ إلا في ربع دينار فصاعدًا» . وأخرجه الطحاوي

(2)

عن يونس عن ابن وهب مثله، إلا أنه قال:«يد السارق» .

قال الطحاوي

(3)

: «أنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا ابن أبي مريم، عن خاله موسى بن سلمة قال: سألت مخرمةَ بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئًا؟ فقال: لا» .

أقول: قال أبو داود: «لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر» . فقد سمع من أبيه في الجملة، فإن كان أبوه أذن له أن يروي ما في كتابه ثبت الاتصال، وإلا فهي وجادة؛ فإن ثبت صحة ذاك الكتاب قوي الأمر. ويدل على صحة الكتاب أن مالكًا كان يعتدُّ به. قال أحمد: «أخذ مالك كتاب مخرمة، فكل شيء يقول: بلغني عن سليمان بن يسار، فهو من

(1)

رقم (1684/ 3).

(2)

(3/ 164).

(3)

(3/ 164).

ص: 205

كتاب مخرمة عن أبيه عن سليمان». وربما يروي مالك عن الثقة عنده عن بكير بن الأشج. وقد قال أبو حاتم: «سألت إسماعيل بن أبي أويس قلت: هذا

(1)

الذي يقول مالك: حدثني الثقة ــ مَن هو؟ قال: مخرمة بن بكير».

وأخرج النسائي

(2)

من طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن عمرة أنها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تُقطَع اليد إلا في ثمن المجنِّ» . قيل لعائشة: ما ثمنُ المجنِّ؟ قالت: ربع دينار». ومن طريق مخرمة

(3)

عن أبيه [2/ 123] «سمعتُ عثمان بن الوليد

(4)

الأخنسي يقول: سمعت عروة بن الزبير يقول: كانت عائشة تُحدِّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تُقطع اليد إلا في المجنّ أو ثمنه» ، وزعم أن عروة قال: المجن أربعة دراهم. وسمعتُ سليمان بن يسار يزعم أنه سمع عمرة تقول: سمعتُ عائشة تحدِّث أنها سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه».

أقول: ابن إسحاق في حفظه شيء، ويدلِّس، وكأنه أو مَنْ فوقه سمع الحديث كما ذكره مخرمة عن أبيه، فخلط الحديثين. والصواب حديث مخرمة. فذكرُ المجنّ إنما هو من رواية بُكير عن عثمان بن الوليد عن عروة، ورواية سليمان لا ذِكر فيها للمجن. وعثمان بن الوليد ذكره ابن حبان في

(1)

(ط): «هذا هو» . والمثبت من (خ).

(2)

(8/ 81).

(3)

(8/ 81).

(4)

عند النسائي: «بن أبي الوليد» . وكلاهما يقال. انظر «التقريب» .

ص: 206

«الثقات»

(1)

، وذاك لا يخرجه عن جهالة الحال، لما عُرِف من قاعدة ابن حبان. لكن إن صحت رواية بكير بن الأشج عنه، فإنها تُقوِّيه، فقد قال أحمد بن صالح:«إذا رأيت بكير بن عبد الله (بن الأشج) روى عن رجل فلا تسأل عنه، فهو الثقة الذي لا شك فيه» . وهذه العبارة تحتمل وجهين:

الأول: أن يكون المراد بقوله: «فلا تسأل عنه» . أي: عن ذاك المروي. أي: لا تلتمس لبكير متابعًا، فإنه أي بكيرًا الثقةُ الذي لا شك فيه، ولا يحتاج إلى متابع.

الوجه الثاني: أن يكون المراد: فلا تسأل عن ذاك الرجل، فإنه الثقة. يعني أن بكيرًا لا يروي إلا عن ثقة لا شك فيه. والله أعلم.

وعلى كل حال، فالصواب من حديث عروة ما في «الصحيحين»

(2)

عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تُقطَع يدُ سارقٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المِجَنِّ: تُرْسٍ أو حَجَفةٍ، وكان كلُّ واحد منهما ذا ثمن» .

الرابع: أبو الرجال. وهو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان. قال النسائي

(3)

: «أخبرني إبراهيم بن يعقوب، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يُقطَع يد

(1)

(7/ 193).

(2)

البخاري (6794) ومسلم (1685).

(3)

(8/ 80).

ص: 207

السارق في ثمن المجن، وثمنُ المجن ربع دينار».

ذكر ابن حجر هذه الرواية في «الفتح»

(1)

بقوله: «أخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن [2/ 124] أبي الرجال، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمرة» . كذا وقع في النسخة، والصواب إسقاط كلمة «عن» الواقعة قبل «محمد» .

هذا، وأبو الرجال ثقة عندهم، وعمرة أمه. وابنه عبد الرحمن وثَّقه أحمد وابن معين وغيرهما، لكن ليَّنه أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود. وقال ابن حبان في «الثقات»

(2)

: «ربما أخطأ» . وأُراه خلط حديثين، فإنه لا يُعرَف عن عمرة ذكرُ المجن. وقد دل حديث «الصحيحين» عن عروة أن عائشة لم تكن تَحُقُّ ثمنَ المجن، كما تقدَّم شرحُه.

الخامس والسادس والسابع: قال الطحاوي

(3)

: «حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن العلاء بن الأسود بن جارية (ويقال: الأسود بن العلاء بن جارية) وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خُنَيس، أنهم تنازعوا في القطع، فدخلوا على عمرة يسألونها، فقالت: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يُقطَع إلا في ربع دينار» .

قال الطحاوي: «أما أبو سلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة عنه سماعًا، ولا

(1)

(12/ 101).

(2)

(7/ 92).

(3)

«معاني الآثار» (3/ 166). وفيه تصحيف في رجال الإسناد، صححه المعلمي.

ص: 208

نعلمه لقيه أصلًا».

أقول: ذكروا أن جعفر بن ربيعة رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وعبد الله توفي سنة 86 على الراجح، وقيل: في التي قبلها، وقيل: في التي بعدها، وقيل: بعدها بسنتين؛ فيشبه أن يكون مولد جعفر نحو سنة 75. وقد اختلف في وفاة أبي سلمة، فقيل: سنة 94، وقيل: سنة 104، فاللقاء ممكن. والله أعلم.

وكان في المدينة ربيعة الرأي الفقيه، وكان قوله: القطع في ما يبلغ درهمًا، فكأن هذا هو الباعث على ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الحديث بلفظ «لا تُقطع اليد

» أو نحو ذلك، كما وقع في رواية سليمان بن يسار وغيرها.

الثامن: أبو النضر. فيما رواه ابن لهيعة «ثنا أبو النضر، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُقطع يد السارق إلا في ثمن المجن فما فوقه» . قالت عمرة بنت [2/ 125] عبد الرحمن: فقلت لعائشة: ما ثمن المجن يومئذ؟ قالت: ربع دينار». أخرجه البيهقي (ج 8 ص 256). وابن لهيعة ضعيف.

التاسع: يحيى بن يحيى الغساني. فيما أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (ص 3 وص 89)

(1)

عن أحمد بن أنس بن مالك الدمشقي المقري، وعن خالد بن أبي روح الدمشقي، كل منهما عن إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني، عن أبيه، عن جده، عن عمرة، عن عائشة

(1)

(1/ 10، 159). والصواب في اسم شيخ الطبراني: «خالد بن روح» كما في مصادر ترجمته.

ص: 209

قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «القطع في ربع دينار فصاعدًا» .

قال الطبراني: «لم يروه عن يحيى بن يحيى إلا ولده» ، زاد في الموضع الثاني:«وهُم ثقات» . وإبراهيم بن هشام ذكره ابن حبان في «الثقات»

(1)

، وأخرج له في «صحيحه» . لكن طعن فيه أبو حاتم

(2)

، وذكر قصة تدل على أن إبراهيم كان به غفلة. والله أعلم.

العاشر: يحيى بن سعيد الأنصاري. وهو أجلُّ

(3)

من كثير من الذين تقدموا، وإنما أخرته لأن بعضهم نسب رواة هذا الحديث عنه إلى الخطأ كما يأتي. قال النسائي

(4)

: «أخبرنا الحسن بن محمد (بن الصباح الزعفراني)، قال: حدثنا عبد الوهاب (بن عطاء)، عن سعيد (بن أبي عروبة)، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «تُقطع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا» . أخبرني يزيد بن محمد بن فضيل قال: أنبأنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُقطع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا». وقال الطحاوي

(5)

: «حدثنا محمد بن خزيمة، ثنا مسلم بن إبراهيم

» فساقه مثله.

الحسن ثقة من رجال البخاري. وعبد الوهاب من رجال مسلم، وثَّقه

(1)

(8/ 79).

(2)

«الجرح والتعديل» (2/ 142).

(3)

في (ط): «من أجل» خطأ.

(4)

(8/ 79).

(5)

«معاني الآثار» (3/ 164).

ص: 210

جماعة مطلقًا، وليَّنه آخرون. وقدَّموه في روايته عن سعيد، قال الإمام أحمد:«كان عالمًا بسعيد» . وسُئل أبو داود عنه وعن السهمي في حديث ابن أبي عَروبة؟ فقال: عبد الوهاب أقدم. فقيل له: عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط (يعني اختلاط سعيد). فقال: مَن قال هذا؟ سمعت أحمد يقول: «عبد الوهاب أقدم» . وقال ابن سعد: «لزم سعيد بن أبي عروبة، وعُرف بصحبته، وكتب كُتبه

». وقال البخاري: «يُكتب حديثه» قيل له: يُحتَج به؟ قال: [2/ 126]«أرجو، إلا أنه كان يدلِّس عن ثور وأقوام أحاديث مناكير» . وسعيد ثقة جليل إلا أنه اختلط بأَخَرةٍ، وسماع عبد الوهاب منه قديم.

وأما السند الثاني، فشيخ النسائي لم يوثَّق، ولكن قد تابعه محمد بن خزيمة كما رأيت. ومسلم ثقة متفق عليه. وأبان من رجال مسلم، وأخرج له البخاري في «الصحيح»

(1)

بلفظ: «قال لنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبان

».

وبالجملة فمجموع السندين صالح للحجة حتمًا. لكن أعلَّه بعضهم بأن مالكًا

(2)

وابن عيينة

(3)

رويا عن يحيى عن عمرة: قالت عائشة: «ما نسيتُ ولا طال عليَّ، القطع في ربع دينار» . وبنحوه رواه جماعة عن يحيى. وروى أخوه عبد ربه وعبد الله بن أبي بكر ورُزَيق بن حكيم عن عمرة: قالت عائشة: «القطع في ربع دينار» . بل حاول الطحاوي إعلال الحديث من أصله.

(1)

عقب الحديث رقم (2320).

(2)

في «الموطأ» (2/ 832)، ومن طريقه النسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165) وابن حبان (4462) والبيهقي في «المعرفة» (12/ 371).

(3)

أخرجه الحميدي في «مسنده» (280) والنسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165) والبيهقي في «المعرفة» (12/ 370، 371).

ص: 211

وأجاب البيهقي

(1)

وغيره بأنه لا منافاة بين أن يكون الحديث عند عائشة، فتخبر به تارة، وتُستفتى فتفتي بمضمونه أخرى. وفي «الموطأ»

(2)

عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة قالت: «خرجت عائشة

إلى مكة ومعها مولاتان لها

فسئل العبد عن ذلك فاعترف، فأمرت به عائشة

فقُطعت يده. وقالت عائشة: القطع في ربع دينار فصاعدًا».

ويؤيد الجمعَ أن لفظ المرفوع في أثبت الطرق وأكثرها: «تُقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا» . ولفظ الموقوف في جميع طرقه إلا ما شذَّ: «القطع في ربع دينار فصاعدًا» . وزاد يحيى قبله: «ما طال عليَّ ولا نسيتُ» . والمدار في هذا الباب على غلبة الظن، ولا ريب أن من تدبَّر الروايات غلب على ظنه غلبةً واضحةً صحةُ كلٍّ من الخبرين، وأنه لا تعارض بينهما، وعلم أن الحمل على الخطأ بعيد جدًّا.

هذا، وقد قال ابن التركماني

(3)

: «قال الطحاوي: حدثني غير واحد من أصحابنا من أهل العلم عن أحمد بن شيبان الرملي، ثنا مؤمَّل بن إسماعيل الرملي (كذا)، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عمرة، عن عائشة قالت: يُقطع السارقُ في ربع دينار فصاعدًا. قال أيوب: وحدَّث يحيى، عن عمرة، عن عائشة، ورفعه. فقال له عبد الرحمن: إنها كانت لا ترفعه، فترك يحيى رفعه» .

(1)

في «المعرفة» (12/ 372).

(2)

(2/ 832، 833).

(3)

في «الجوهر النقي» (8/ 255).

ص: 212

وبمثل هذا السند لا يثبت هذا الخبر عن حماد بن زيد

(1)

، لكن يظهر أن [2/ 127] له أصلًا. فقد تقدم رواية سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا باللفظ الذي رواه الأثبات الذين رفعوا الحديث:«تُقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا» . وروى مالك وابن عيينة، عن يحيى، عن عمرة أن عائشة قالت:«ما طال عليَّ ولا نسيتُ: القطعُ في ربع دينار» . وقوله: «القطع في ربع دينار» هو اللفظ الذي رواه الواقفون، فهذا يدل أنه كان عند يحيى كلا الخبرين، فكان يحدِّث بالمرفوع، فأنكر عليه بعضُ من لم يسمعه وسمع الموقوف، فأعرض يحيى عن رواية المرفوع صونًا لنفسه عن أن يتهمه مَن لا يعلم حقيقة الحال بالإصرار على الخطأ.

هذا، وقد ذكر ابن عيينة رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربه ورُزَيق ثم قال:«إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: ما نسيتُ ولا طال عليَّ، القطع في ربع دينار» . اعترضه

(2)

الطحاوي بقوله: «قد يجوز أن يكون معناها في ذلك: ما طال عليَّ ولا نسيتُ ما قطع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مما كانت قيمته عندها ربع دينار» .

أقول: قد مرَّ دفعُ الاحتمال، وبيانُ أنه لا يُعرف فيما قطع فيه النبي

(1)

قلت: يعني لأن مؤمل بن إسماعيل سيئ الحفظ، كما سبق في ترجمته من الكتاب برقم (252). وهو بصري نزيل مكة. فالظاهر أن الذي عند الطحاوي (الرملي) صوابه:(المكي). والله أعلم. [ن].

(2)

في (ط): «اعترف به» . والمثبت من (خ). وقول الطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 165).

ص: 213

صلى الله عليه وآله وسلم ما هو قليل إلا المجن. وقد دل حديث «الصحيحين»

(1)

عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة على أنها لم تكن تعرف المِجنَّ ولا قيمته. وبهذا يتبين أن رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربه ورُزَيق تدل أيضًا على الرفع، فإن التقدير بربع دينار ليس مما يقال بالرأي، ولا يُعرف ما تأخذ عائشة منه ذلك إلا ما ثبت عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ثم جعجع الطحاوي بما عُلِم ردُّه مما تقدَّم، ثم قال

(2)

: «فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، واختُلِف على غيره عن عمرة كما وصفنا، ارتفع ذلك كله، فلم تجب الحجة بشيء منه إذ كان بعضه ينقض بعضًا» . [2/ 128] كذا قال، وقد أقمنا الحجة الواضحة على أنه لا اضطراب ولا تناقض

(3)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

(3/ 167).

(3)

قلت: ومما يُسهِّل على القارئ المنصف تبيّن سقوط كلام الطحاوي أنه لو سلمنا جدلًا بصحة ما ادعاه من الاضطراب في الحديث فهي محصورة في الطرق التي ساقها هو إلى الزهري، ومَن تابعه في روايته عن عمرة، ولكن الطحاوي لم يستوعب الطرق كلها أو جلَّها إليه وإليها، كما فعل المصنف جزاه الله خيرًا، فقد ذكر متابعة عشرة من الثقات للزهري عن عمرة عن عائشة. وكلهم اتفقوا على رفعه، إلا يحيى بن سعيد في إحدى الروايات عنه، وهي في حقيقتها لا تخالف الروايات الأخرى المرفوعة، وهَبْ أن الرواية عند يحيى مضطربة أيضًا. ففي الروايات التسع ما يكفي ويشفي، وكلها متفقة على الرفع، وبأقل من ذلك يثبت الرفع كما لا يخفى على المنصف، وهي وإن اختلفت في ضبط المتن، هل هو «تقطع اليد

» أو «لا تقطع

» والمؤلف رجح الأول، وقد يمكن ترجيح الآخر بقاعدة:«زيادة الثقة مقبولة» ، وسواء كان هذا أو ذاك، فالحجة في الحديث قائمة على أن اليد تقطع في ربع دينار، وذلك ما لا يقوله الطحاوي تبعًا لمذهبه. والله المستعان. [ن].

ص: 214

ثم قال: «ورجعنا إلى أن الله عز وجل قال في كتابه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فأجمعوا أن الله عز وجل لم يَعْنِ بذلك كل سارق، وإنما عنى به خاصًّا

فلا يدخل إلا ما قد أجمعوا أن الله تعالى عناه، وقد أجمعوا أن الله تعالى عنى سارق العشرة الدراهم».

أقول: عليه في هذا أمور:

الأول: دعواه الإجماعَ غير مقبولة. وفي «الفتح»

(1)

في تعداد المذاهب: «الأول: يُقطع في كل قليل وكثير، تافهًا كان أو غير تافه. نُقِل عن أهل الظاهر والخوارج، ونُقل عن الحسن البصري. وبه قال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي

الثالث: مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئًا تافهًا، لحديث عروة الماضي:«لم يكن القطع في شيء من التافه» ، ولأن عثمان قَطَع في فخارة خسيسة، وقال لمن يسرق السياط: لئن عُدْتم لأقطعنَّ فيه. وقطع ابن الزبير في نعلين. أخرجهما ابن أبي شيبة

(2)

. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مُدٍّ أو مُدَّين. الرابع: تُقطع في درهم فصاعدًا. وهو قول عثمان البتِّي

من فقهاء البصرة، وربيعة من فقهاء المدينة

».

وأقول: لا أرى هذه المذاهب الثلاثة إلا متفقةً على إبقاء الآية على

(1)

(12/ 106).

(2)

«المصنف» (9/ 473).

ص: 215

عمومها. وإنما المدار على تحقُّق اسمِ «السارق» ، فإنه لا ريب أن عمومها إنما يتناول من يحقُّ عليه اسمُ «السارق» ، ولا ريب أنَّ مَن أخذ لوزةً أو تمرةً أو نحو ذلك لا يتبيَّن أنه يحقُّ عليه اسمُ «السارق» . وهذا لازم [2/ 129] للمذهب الأول، إذ يمتنع أن يقول عالم أن مَن أخذ حبةَ بُرٍّ مثلًا حقَّ عليه اسم «السارق» . وأما المذهب الثالث، فلعل قائله نحا هذا المنحى أي أن الشيء التافه الذي لا يتبين أنه يحقُّ على آخذه اسمُ «السارق» = لا يتبيَّن دخولُه في الآية، والقطع إنما هو على من يتبيَّن دخولُه فيها. وأما المذهب الرابع، فالبتِّي وربيعة الرأي كانا ممن يتفقَّه ويتعانى الرأيَ والنظر، فكأنهما رأيا أن التفاهة التي لا يتبيَّن بها الدخول في الآية معنًى غيرُ منضبط، فرأيا ضبطَها بالدراهم.

الأمر الثاني: هَبْ أنه سلِمَ للطحاوي ما ادعاه من الإجماع، فقد علِمنا أن ظاهر القرآن وجوبُ القطع على كل سارق، وظاهر القرآن حجة قطعًا. ويوافقه حديث «الصحيحين»

(1)

: «لعن الله السارقَ يسرق البيضةَ فتُقطَع يدُه، ويسرق الحبلَ فتُقطَع يدُه» . وهذه الحجة لا يجوز الخروج عنها إلا بحجة. فإن لم يثبت من السنة ما يوجب إخراج شيء من ذاك العموم رجعنا إلى الإجماع، فإن كان هناك إجماع على خروج شيءٍ خَرجَ ذاك الشيء. فأما ما اختلُف فيه، فقيل بخروجه، وقيل ببقائه؛ فهو باقٍ على ظاهر القرآن؛ لأن القائلين بخروجه بعض الأمة، وليس في قول بعض الأمة حجةٌ يُترَك بها ظاهرُ القرآن.

فإن قيل: فقد اختلف النُّظَّارُ في العامِّ الذي قد خُصَّ، فقال بعضهم: إنه

(1)

البخاري (6783، 6799) ومسلم (1687) من حديث أبي هريرة.

ص: 216

لا يبقى حجة في الباقي.

قلت: هذا قول مخالف لإجماع السلف، وقد رغب عنه الحنفية أنفسهم، وتمام الكلام في ردِّه في أصول الفقه.

الأمر الثالث: هَبْ أنه قويتْ دعوى الإجماع، وقوي ما يترتب على ذلك من دعوى أن الآية صارت مجملة؛ ففي السنة الثابتة ما يكفي. فقد صحَّ حديث ابن عمر، واندفع ما عورض به. وصحَّ حديث عائشة، وبطلت دعوى اضطرابه. فثبت القطعُ في ثلاثة دراهم، وفي ربع دينار. وبقي النظر فيما هو أقل من ذلك، وليس هذا موضع البحث فيه.

ثم ذكر الطحاوي

(1)

خبرَ المسعودي، عن القاسم، عن ابن مسعود:«لا تُقطَع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم» . ورواه بعضهم

(2)

، عن المسعودي، عن القاسم، عن أبيه.

والمسعودي اختلط. ثم هو منقطع، لأن القاسم لم يدرك ابن مسعود. وكذلك أبوه عبد الرحمن، نفى جماعةٌ سماعَه من [2/ 130] ابن مسعود، وأثبت بعضهم سماعَه منه لأحرفٍ معدودة ذكرها ابن حجر في «طبقات المدلسين» (ص 13)، ثم قال: «فعلى هذا يكون الذي صرَّح فيه بالسماع من أبيه (ابن مسعود) أربعة، أحدها موقوف. وحديثه عنه كثير

معظمها بالعنعنة، وهذا هو التدليس».

(1)

في «معاني الآثار» (3/ 167). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في «المصنف» (18950) وابن أبي شيبة (9/ 474) والطبراني في «الكبير» (9742).

(2)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7142) والدارقطني (3/ 193).

ص: 217

أقول: وليس هذا الخبر من تلك الأربعة.

وروى الثوري

(1)

عن «حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لا تُقطَع اليدُ إلا في تُرْس أو حَجَفة. قلت لإبراهيم: كم قيمته؟ قال: دينار» . والثوري يدلِّس. وحماد سيئ الحفظ، حتى قال حبيب بن أبي ثابت:«وكان حماد يقول: قال إبراهيم. فقلت: والله إنك لتكذب أو إن إبراهيم ليخطئ» . وقد قال حماد نفسه لما قيل له: قد سمعتَ من إبراهيم؟ : «إن العهد قد طال بإبراهيم» .

وإبراهيم عن عبد الله منقطع. وما روي عنه

(2)

أنه قال: «إذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله» لا يدفع الانقطاع، لاحتمال أن

(1)

أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة (9/ 475).

(2)

قلت: تصدير المصنف رحمه الله لقول إبراهيم المذكور بقوله: «روي» مما يشعر اصطلاحًا بأنه لم يثبت عنده، ولعل عذره في ذلك أنه لم يقف على إسناده، وإلا لجزم بصحته، فقد أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6/ 190): أخبرنا عمرو بن الهيثم أبو قطن قال: حدثنا شعبة عن الأعمش قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسند، قال: إذا قلت: قال عبد الله، فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان». وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقد أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخ دمشق» (ق 131/ 2): حدثنا أحمد بن شبويه قال: حدثنا عمرو بن الهيثم به، إلا أنه قال:«فحدثني وحده» .

أقول: وإذا تأمل الباحث في قول إبراهيم «من غير واحد من أصحابه» يتبين له ضعف بعض الاحتمالات التي أوردها المصنف على ثبوت رواية إبراهيم إذا قال: قال ابن مسعود، فإن قوله:«من أصحابه» يبطل قول المصنف: «أن يسمع إبراهيم من غير واحد ممن لم يلق عبد الله» ، كما هو ظاهر. وعذره في ذلك أنه نقل قول إبراهيم هذا من «التهذيب» ، ولم يقع فيه قوله:«من أصحابه» الذي هو نص في الاتصال. [ن].

ص: 218

يسمع إبراهيم من

(1)

غير واحد ممن لم يلق عبد الله، أو ممن لقيه وليس بثقة

(2)

، واحتمالِ أن يغفُلَ [2/ 131] إبراهيم عن قاعدته، واحتمالِ أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ «قال عبد الله» ، ثم يحكي عن عبد الله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف، فلا يتنبه مَن بعده للفرق، فيرويه عنه بلفظ «قال عبد الله» ، ولاسيَّما إذا كان فيمن بعده مَن هو سيئ الحفظ كحماد.

وفي «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص 108) من طريق «خلف بن سالم قال: سمعت عدة من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلِّسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فاشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن، وإبراهيم بن يزيد النخعي

وإبراهيم أيضًا يُدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هُنَيّ بن نويرة، وسهم بن مِنجاب، وخِزامة الطائي، وربما دلَّس عنهم».

وقد ذكر الأستاذ (ص 56) قول يحيى الحِمَّاني: «سمعت عشرة كلُّهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق» . فقال الأستاذ: «قول الراوي: سمعت الثقة، يُعَدُّ كرواية عن مجهول، وكذا الثقات» .

وما روي عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم: «لا تُقطَع اليدُ في أقل من ثمن الحَجَفة، وكان ثمنها عشرة دراهم» قولُ إبراهيم، وقد يكون إنما

(1)

(ط): «عن» . والمثبت من (خ).

(2)

قلت: هذا فيه بُعد. فإننا لا نعلم في أصحاب ابن مسعود المعروفين مَن ليس بثقة، ثم إن عبارته المتقدمة مِنّا آنفًا صريحة في أنه لا يسقط الواسطة بينه وبين ابن مسعود إلا إذا كان الذي حدثه عنه أكثر من واحد من أصحابه. فكون الأكثر منهم ــ لا الواحد ــ غير ثقة بعيد جدًّا. لاسيَّما وإبراهيم إنما يروي كذلك مشيرًا إلى صحة الرواية عن ابن مسعود. والله أعلم. [ن].

ص: 219

أخذ من عمرو بن شعيب، أو مما روي عن مجاهد وعطاء، وقد تقدَّم ما فيه.

وقد روى الثوري

(1)

أيضًا عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجنٍّ ثمنه خمسة دراهم. قال ابن التركماني

(2)

: «فيه ثلاث علل: الثوري مدلِّس وقد عنعن. وابن أبي عزة ضعَّفه القطان، وذكره الذهبي في كتابه في «الضعفاء» . والشعبي عن ابن مسعود منقطع».

أقول: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فإنما حكى ذلك العُقَيلي

(3)

، وهو لم يدرك القطَّان

(4)

،

[2/ 132] ومع ذلك فهو جرح غير مفسَّر، وابن أبي عزة وثَّقه أحمد وابن معين وابن سعد. فأما الذهبي، فمعلوم أن قاعدته أن يذكر في «الميزان»

(5)

كلَّ مَن تُكُلِّم فيه، ولو كان الكلام يسيرًا لا يقدح. وأما

(1)

أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (9/ 469) وأبو داود في «المراسيل» (243) والنسائي (8/ 82).

(2)

في «الجوهر النقي» (8/ 262).

(3)

في «الضعفاء الكبير» (3/ 390).

(4)

كذا قال المصنف رحمه الله، وعُمدتُه في ذلك قول الحافظ في «التهذيب»:«وذكره العقيلي في «الضعفاء» وقال: ضعَّف حديثه يحيى بن سعيد القطان»، فإن ظاهره أن العقيلي حكى التضعيف ولم يروه بسنده كما هو الغالب عليه وعلى أئمة الجرح والتعديل، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد قال العقيلي في كتابه المذكور:«حدثنا محمد بن عيسى، قال حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثنا علي، قال سألت يحيى عن حديث عيسى بن أبي عزة (قلت: فذكره وقال: ) فضعَّف الحديث» . [ن].

وعلي هو ابن المديني الحافظ، وقد تقدمت ترجمته برقم (162).

(5)

قلت: «الميزان» غير «الضعفاء» ، وهذا هو الذي عزى إليه ابن التركماني تضعيف القطان. وجواب المصنف يشعر بأنه هو «الميزان» نفسه، وليس كذلك، فإنهما كتابان، قاعدته في الأول منهما كما ذكره المصنف، وقاعدته في الآخر كما نص عليه هو في مقدمته:«فهذا ديوان أسماء الضعفاء والمتروكين، وخلق من المجهولين، وأناس ثقات فيهم لين» . وقد طبع أخيرًا بتحقيق الشيخ حماد الأنصاري، وطريقته فيه، إما أن يذكر رأيه في المترجم، كأن يقول فيه:«ضعيف» أو «متروك» أو «متهم» ونحوه، كما هو أسلوب الحافظ ابن حجر في «التقريب» . وإما أن ينقل الجرح عن بعض الأئمة، كأن يقول:«ضعَّفه الدارقطني» أو «قال النسائي: ليس بقوي» أو «قال أبو حاتم: لا يحتج به» وهكذا، فكل من يورده فيه ضعيف إلا أفرادًا قليلين يصرح بتوثيقهم، إما تمييزًا وإما لدفع التهمة عنه، فمن الأول قوله:«إبراهيم بن نافع الحلاب البصري قال أبو حاتم: كان يكذب. أما إبراهيم بن نافع عن عطاء المكي فثقة» . ومن الآخر قوله: «أحمد بن الحسن بن خيرون، ثقة حافظ تكلم فيه ابن طاهر بكلام بارد، وهو أوثق من ابن طاهر بكثير» ، وقد لاحظنا أنه كثيرًا ما يختلف اجتهاده في هذا الكتاب، عنه في «الميزان» ، ومن الأمثلة القريبة على ذلك، عيسى بن أبي عزة هذا، فإنه حكى فيه تضعيف القطان له، ثم توثيق جماعة من الأئمة له، ثم ختم ذلك برأيه فيه فقال:«حديثه صالح» . وهذا معناه أنه مقبول عنده، ومع ذلك أورده في ديوانه «الضعفاء» وضعَّفه بقوله:«قال القطان: حديثه ضعيف» . والظاهر أن المصنف لم يراجع «الميزان» حين كتب الجواب، وإلا لكان يجد فيه ردًّا أقوى في قول الذهبي:«حديثه صالح» ، وذلك بيِّن لا يخفى. والمعصوم مَن عصمه الله. [ن].

ص: 220

الثالثة فنعم، ولكن الشعبي جيِّد المرسَل، قال العجلي:«لا يكاد الشعبي يُرسل إلا صحيحًا» . وقال الآجري عن أبي داود: «مرسل الشعبي أحبُّ إليَّ من مرسل النخعي» .

والظاهر أنه إن صح عن ابن مسعود شيء، فهو في ذكر القطع في المجنِّ مطلقًا. وأما التقويم، [2/ 133] فممن بعده أخذًا من حديث أنس عن أبي بكر وسيأتي، أو يكون ابن مسعود إنما ذكر قطع أبي بكر.

ص: 221

وروى الشافعي

(1)

عن ابن عيينة عن حميد الطويل قال: «سمعت قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع. فقال: حضرتُ أبا بكر قَطَع سارقًا في شيء ما يسوَى ثلاثة دراهم. أو: ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم» . وقد رواه أبو حاتم الرازي، عن الأنصاري، عن حميد. وفيه:«ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم» بدون شك. أخرجه البيهقي

(2)

. ولا يلزم من قول أنس: «ما يسرني

» أن تكون القيمة أقل من ثلاثة دراهم؛ فإنَّ من لا يحتاج إلى سلعة لا يسرُّه أنها له بقيمة مثلها، وإنما يسرُّه أن تكون بأقل من قيمتها، ليبيعها فيربح فيها، أو يدَّخرها لوقت الحاجة.

وقد روى قتادة عن أنس قصة أخرى، وهي أنه قُطِع في مجنٍّ قيمته خمسة دراهم. رواه النسائي

(3)

والبيهقي في «السنن» (ج 8 ص 259) من طريق الثوري، عن شعبة، عن قتادة. ورواه النسائي

(4)

أيضًا من طريق أبي داود الطيالسي قال: «حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنسًا يقول: سرق رجل مجنًّا على عهد أبي بكر، فقُوِّم خمسةَ دراهم، فقُطِع» . ورواه أبو هلال محمد بن سليم عن قتادة فقال: «عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم

». وأبو هلال ليس بعمدة، ولاسيَّما في قتادة. ورواه هشام عن قتادة فوافق أبا هلال. وسئل هشام مرةً فقال:«هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو عن أبي بكر» . ورواه عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس أن أبا بكر قطَع في

(1)

في كتاب «الأم» (7/ 321، 373).

(2)

في «الكبرى» (8/ 259).

(3)

(8/ 77).

(4)

(8/ 77).

ص: 222

مجنٍّ قيمته خمسة دراهم، أو أربعة دراهم. شكَّ سعيد. وصوَّب النسائي وغيره رواية شعبة، وذلك واضح. ومن أحبَّ تتبُّعَ هذه الروايات، فليراجع «سنن النسائي» ، و «سنن البيهقي»

(1)

.

وفي «مصنف ابن أبي شيبة»

(2)

عن شريك، عن عطية بن مِقْسم، عن القاسم بن عبد الرحمن قال:«أُتيَ عمرُ بسارق، فأمر بقطعه. فقال عثمان: إن سرقته لا تساوي عشرة دراهم، قال: فأمرَ به عمرُ، فقُوِّمتْ ثمانيةَ دراهم، فلم يقطعه» . القاسم لم يدرك عمر ولا كاد. وعطية مجهول الحال. وشريك سيئ الحفظ، ونسبه بعضهم إلى التدليس، كما مضى.

ورواه الثوري

(3)

، عن عطية بن عبد الرحمن الثقفي، عن القاسم قال:«أُتيَ عمرُ بن الخطاب بسارق قد سرَق ثوبًا، فقال لعثمان: [2/ 134] قوِّمه، فقوَّمه ثمانية دراهم، فلم يقطعه» .

ويؤخذ من كلام البخاري وأبي حاتم

(4)

أن عطية هذا هو الذي روى عنه شريك. فإن صحَّ هذا، فهو مجهول الحال، وإلا فكلاهما مجهول. ولو صحت القصة، فلفظ الثوري أقرب، ويكون تركُ القطع لمانع آخر كشبهة ظهرت. وسيأتي عن عثمان أنه قطَع في أُتْرُجَّة قُوِّمَتْ ثلاثةَ دراهم، ومرَّ عنه أنه قطع في فخارة خسيسة، فكيف يقول ما وقع في لفظ شريك!

(1)

انظر النسائي (8/ 77) والبيهقي (8/ 259، 260).

(2)

(9/ 476). وفي بعض النسخ: «وكيع» بدل «شريك» .

(3)

أخرجه من طريقه عبد الرزاق في «المصنف» (18953) والبيهقي (8/ 260).

(4)

انظر «التاريخ الكبير» (7/ 10) و «الجرح والتعديل» (6/ 383).

ص: 223

وفي «نصب الراية» (ج 3 ص 363) أن في «مصنف عبد الرزاق»

(1)

: «عن معمر، عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب قال: مَنْ أخذ من الثمر شيئًا، فليس عليه قطعٌ حتى يأويَ الجرين، فإن أخذ منه بعد ذلك ما يساوي ربعَ دينار قُطِع» . عطاء الخراساني لم يدرك عمر، لكن هذا أقوى من رواية عطية.

وفي «الفتح»

(2)

: «أخرجه ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: إذا أخذ السارق ربعَ دينار قُطِع» . وفيه

(3)

أن ابن المنذر أخرج من طريق منصور، عن مجاهد، عن ابن المسيب، عن عمر:«لا تُقطَع الخمسُ إلا في خمس» . ابن المسيب عن عمر منقطع، إلا أنه جيد، لكن لا نعلم كيف السند إلى منصور؟ وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»

(4)

من طريق قتادة عن ابن المسيب، وقتادة مشهور بالتدليس.

وروى مالك في «الموطأ»

(5)

، وابن عيينة ــ كما في «مصنف ابن أبي شيبة»

(6)

ــ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أن سارقًا سرَقَ في زمن عثمان أترجَّةً، فأمر بها عثمان أن تُقوَّم، فقُوِّمت ثلاثَة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار، فقطَع عثمان يدَه». وعمرة يقال: إنها ماتت سنة 98، وعمرها سبع وسبعون سنة. فعلى هذا يكون سنُّها لمقتل عثمان فوق أربع عشرة سنة.

(1)

رقم (18918).

(2)

(12/ 107).

(3)

المصدر نفسه.

(4)

(9/ 472).

(5)

(2/ 832)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (7/ 320، 373) والبيهقي (8/ 262).

(6)

(9/ 472).

ص: 224

وقد جاء عن عثمان ما هو أشدُّ من هذا، كما تقدم.

وروى حاتم بن إسماعيل كما في «مصنف ابن أبي شيبة»

(1)

، وسليمان بن بلال كما في «سنن البيهقي»

(2)

عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه قطَع يد سارق في بَيضة حديد ثمنُها ربع دينار.

وقال الشافعي في «الأم» (ج 6 ص 116)

(3)

: «أخبرنا أصحاب جعفر، عن جعفر، عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه قال: القطع في ربع دينار» . محمد بن علي لم يدرك عليًا، لكن لم يعارِض هذا عن علي ما هو أقوى منه.

وإنما ذكر البيهقي [2/ 135] في «السنن» (ج 8 ص 261) أثرًا عن علي فيه: «لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم» . ثم قال: «هذا إسناد يجمع مجهولين وضعفاء»

(4)

. فقال ابن التركماني

(5)

: «قد جاء من وجه آخر

(1)

(9/ 470).

(2)

(8/ 260).

(3)

(7/ 323) ط. دار الوفاء.

(4)

قلت: بل هو ضعيف جدًا، فإن مِن رواته جويبرًا وهو ابن سعيد البلخي أورده الذهبي في «الضعفاء» وقال:«متروك الحديث» . وقال الحافظ في «التقريب» : «ضعيف جدًّا» .

قلت: ومع هذا فهو خير من الحسن بن عمارة الآتي روايته، فإنه لم يُنسب إلى كذب أو وضع، بخلاف ابن عمارة، فإنه أشد ضعفًا منه، قد نسبوه إلى الوضع كما يأتي في الكتاب، وقال الإمام أحمد: أحاديثه موضوعة. فهل خفي هذا على ابن التركماني حتى زعم أن روايته أجود من رواية جويبر، أم هو التعصب للمذهب؟ ! [ن].

(5)

في «الجوهر النقي» (8/ 261).

ص: 225

ضعيف، إلا أنه أجود من الرواية التي ذكرها البيهقي بلا شك. فروى عبد الرزاق

(1)

عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، عن علي قال: لا تُقطع الكف

(2)

في أقلَّ من دينار أو عشرة دراهم. فعدلَ البيهقي عن هذه الرواية إلى تلك لزيادة التشنيع».

أقول: وهذه ليست مما يُفرَح به! الحسن بن عمارة طائح، قال شعبة:«أفادني الحسن بن عمارة سبعين حديثًا عن الحكم، فلم يكن لها أصل» . ونصَّ شعبة على أمثلةٍ منها سئل الحكمُ عنها فلم يعرفها. قال شعبة: «قال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي ــ سبعة أحاديث، فسألتُ الحكم عنها فقال: ما سمعتُ منها شيئًا» . وقال ابن المديني في الحسن بن عمارة: «كان يضع» .

المسلك الثالث: لبعض مشاهير الحنفية في هذا العصر. كان الرجل مشهورًا بطول الباع وسعة الاطلاع والزهد والعبادة

(3)

، وكان يقرِّر أن

(1)

في «المصنَّف» (18952).

(2)

(ط): «اليد» . والمثبت من (خ) والجوهر النقي، ولا يوجد في المصنف شيء منهما.

(3)

هو العلّامة الشيخ محمد أنور الكشميري، وكلامه الذي أشار إليه المؤلف مذكور في كتابه «فيض الباري على صحيح البخاري» (4/ 446 - 447)، وهو بحق كما وصفه المصنف في سعة العلم، ولكنه مع الأسف لم يستفد كثيرًا من علمه، صده عن ذلك التقليد المتوارث مع أنه من أحق العلماء المتأخرين بالخلاص منه، والاستقلال في النظر والاختيار، فانظر إليه مثلًا في موقفه من مسألة رفع اليدين في الركوع التي لا يمكن للباحث في أدلتها إلا أن يقول بمشروعيتها واستحبابها، ولو كان حنفيًّا غير متعصب مثل العلامة اللكنوي رحمه الله فإنه لم يسعه إلا القول بالاستحباب في بحث له جيد في «التعليق الممجد» ، أما الشيخ الكشميري فلم يستطع التصريح بالاستحباب، على الرغم من أن التحقيق الذي وصل إليه يُلزِمه ذلك، فهو يقول في الكتاب المذكور (2/ 257 - 259): فقد ثبت الأمران عندي (الرفع والترك) ثبوتًا لا مرد له، ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز». ثم نقل عبارة لأبي بكر الجصاص تؤيد ما ذكره من الجواز، ثم قال:«فاسترحت حيث تخلصت رقبتي من الأحاديث الثابتة في الرفع» ! كذا قال، وفي عبارته من الركة ما لا يخفى، وإذا قال بجواز الرفع وأراد الجواز الذي يستوي فيه الفعل والترك، فلم يأت بشيء جديد بإثباته الرفع، لأن القائلين به لا يقولون بوجوبه، وإن أراد به جوازًا مع استحباب فهلا صرح به، وغالب الظن أنه هو الذي أراده، وإلا كان الرفع عبثًا لا يقول به فقيه مثله، وإنما لم يصرح به؛ لأنه لم يجد في مذهبه مَن سبقه إلى ذلك! ثم إذا صح ظننا به، فهل كان يرفع يديه كسبًا للثواب، بل وبيانًا للجواز ولو بالمعنى الأول؟ عِلْم ذلك عند أصحابه، وظني أنه لم يفعل، لغلبة العصبية المذهبية على مَن حوله. والله المستعان. [ن].

ص: 226

أحاديث «الصحيحين» قطعية الثبوت. [2/ 136] وكان مع ذلك غايةً في الجمود على المذهب، والتفاني في الدفاع عنه. وفي مسلكه هذا ما يظهر منه علوُّ طبقته في ذلك. ذكر أن لأصحابه طرقًا في التملُّص من أحاديث «الصحيحين» في هذه المسألة، من ترجيح غيرها أو دعوى اضطرابها أو نسخها، وأنه لم يَرْتضِ شيئًا من ذلك، واختار طريقًا جديدًا يجمع بين الأدلة في زعمه.

وهو أن القطع أولًا كان في ثمن المجنّ، كما في حديث «الصحيحين» عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وكانت قيمة المجن أولًا قليلة، ثم أخذتْ تزيد بزيادة اتساع حال المسلمين حتى بلغت عشرة دراهم فأُقِرَّ الأمرُ عليها، وتُرِكَ اعتبارُ ثمن المجن. وذلك كما هو الحال عنده في الدية. قال:«وعلى نحو هذا حملتُ حدَّ الخمر ومقدارَ المهر» .

أقول: لم أظفر بتطبيق الأخبار على هذا المسلك، لكن قد يقال: كان

ص: 227

المعيار الشرعي لما يجب فيه القطع هو قيمة المجن، فكأنها كانت أولًا لا تزيد عن أقلِّ ما يحقُّ على آخذه اسم «السارق» ، وحينئذ أنزل الله عز وجل:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ثم كأنها ترقَّتْ قليلًا فصارت كقيمة الحبل والبيضة، وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«لعن الله السارقَ يسرق الحبلَ فتُقطعُ يده، ويسرق البيضة فتقطع يده» ثم ترقَّتْ فصارت ربع دينار، وهو عند الحنفية درهمان ونصف، وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا» ، ثم ترقت فصارت ثلاثة دراهم، وحينئذ قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجنٍّ قيمته ثلاثة [2/ 137] دراهم.

ثم كأنها بقيت كذلك إلى أن قطع أبو بكر في شيء يقول أنس: «ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم» . ثم كأنها ترقَّت، فصارت خمسة دراهم. وحينئذ قطَع أبو بكر في مجنٍّ قيمته خمسة دراهم. وكأنها بقيت على ذلك إلى أوائل عهد عمر، وحينئذ قال ــ لو صحَّ عنه ــ: لا تُقطَع الخمسُ إلا في خمسٍ. ثم كأنها نقصت إلى درهمين ونصف، فحينئذ قال عمر ــ لو صحَّ عنه ــ: إذا أخذ السارقُ ربعَ دينار قُطِع. ثم كأنها ترقَّتْ، فصارت عشرة دراهم. وحينئذ امتنع ــ لو صحَّ عنه ــ من القطع في ما قيمته ثمانية دراهم.

ثم نقصت في عهد عثمان، وحينئذ قَطَع في أترجَّةٍ قيمتها ثلاثة دراهم، ثم ازدادت نقصًا، وحينئذ قَطَع في فخارة خسيسة. ثم تحسنت الحال قليلًا في زمن علي، وحينئذ قَطَع في بيضة حديدٍ قيمتها ربع دينار، وأفتت عائشةُ بالقطع في ربع دينار. ثم لا أدري متى عادت فترقَّتْ إلى عشرة دراهم، وحينئذ ــ بمقتضى هذا المسلك ــ نزل الوحيُ بإلغاء اعتبار قيمة المِجنّ، وأن يكون المعتبر هو العشرة الدراهم!

ص: 228

ولعمري، لقد تكرَّر في الأخبار ذكرُ المِجنّ، وإنَّ بعضَ الألفاظ لَيُوهِم اعتبارَ المِجنّ، إلا أن الناس فهموا أن سبب التكرر هو أن أقلَّ ما قطع [فيه] النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِجَنٌّ، وحملوا ما يُوهِم اعتبارَ المجن على ما تقدَّم مفصلًا. ولم يُعرِّجْ أحد منهم على هذا المسلك الطريف، ولكن:

لكل ساقطةٍ في الأرض لاقطةٌ

وكلُّ كاسدةٍ يومًا لها سوقُ

(1)

ومن العجيب أنه لم يرتضِ دعوى بعض أسلافه النسخَ، ثم وقع فيها؛ وأنه يقول: إن أحاديث «الصحيحين» قطعية الثبوت، ثم يخالف صرائحها، ويتشبث بما لم يثبت مما فيه ذكر العشرة!

فأما حديث هشام عن أبيه عن عائشة فاختلف فيه الرواة عن هشام سندًا ومتنًا.

أما السند، فمنهم من ذكر عائشة، ومنهم من لم يذكرها وجعله مرسلًا من قول عروة. نبَّه على ذلك البخاري في «الصحيح»

(2)

، والصواب ذكر عائشة.

وأما المتن، فعلى ثلاثة أوجه:

[2/ 138] الأول: ما رواه البخاري

(3)

عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة «أن يد السارق لم تُقطَع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

لم أجد البيت في المصادر، والمثل «لكل ساقطة لاقطة» في «الحيوان» (1/ 201).

(2)

عقب الحديث رقم (6793)، قال:«رواه وكيع وابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلًا» .

(3)

رقم (6792).

ص: 229

إلا في مجنٍّ حَجَفةٍ أو تُرْسٍ». ثم روى البخاري

(1)

عن عثمان أيضًا، عن حميد «ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة. مثله» .

الثاني: ما رواه البخاري

(2)

عن محمد بن مقاتل، عن ابن المبارك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة «لم تكن تُقطَع يدُ السارق في أدنى من حَجَفة أو تُرْسٍ كلُّ واحدٍ منهما ذو ثمن» .

الثالث: رواه البخاري

(3)

«حدثني يوسف بن موسى، ثنا أبو أسامة قال: هشام بن عروة أخبرنا عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم تُقطع يدُ سارقٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المِجنّ تُرْسٍ أو حَجَفةٍ، وكان كلٌّ منهما ذا ثمنٍ» .

فالأول: مداره على عثمان بن أبي شيبة، عن عبدة وعن حميد، وقد خولف عن كل منهما. فرواه مسلم في «صحيحه»

(4)

عن محمد بن عبد الله بن نمير عن حميد بسنده: «لم تُقطع يدُ سارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أقلَّ من ثمن المِجنّ حَجَفةٍ أو تُرْسٍ، وكلاهما ذو ثمن» . وهذا على الوجه الثالث كما ترى.

ورواه البيهقي في «السنن» (ج 8 ص 256) من طريق هارون بن إسحاق عن عبدة بسنده «لم تكن يد تُقطَع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن مِجنٍّ حَجَفة أو تُرْسٍ» . وهذا على الوجه الثاني كما ترى.

(1)

عقب الحديث السابق.

(2)

رقم (6793).

(3)

رقم (6794).

(4)

رقم (1685).

ص: 230

وبهذا بان ضعفُ الوجه الأول، بل ظاهره باطل؛ لأنه يعطي أن القطعَ لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة في ذاك المجن. وقد ثبت قطعُ سارق رداء صفوان الذي كانت قيمته ثلاثين درهمًا. وثبت قطعُ يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي ثم تجحده.

وأما الوجه الثاني، فقد اختُلِف على عبدة كما رأيت. وكذلك اختُلِف على ابن المبارك. رواه النسائي

(1)

، عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة:«لم تُقطَع يدُ سارقٍ في أدنى من حَجَفةٍ أو تُرْسٍ، وكلُّ واحد منهما ذو ثمن» .

وهذا على الوجه الثالث كما ترى. فبان رجحان الوجه الثالث، لأنه رواه عن هشام [2/ 139] أبو أسامة، ولم يُختلَف عليه فيه. ورواه ابن نمير، عن حميد، عن هشام؛ وابنُ نمير أثبتُ من عثمان بن أبي شيبة. ورواه سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن هشام.

وقد رجَّح الشيخان والنسائي الوجه الثالث.

أما البخاري، فساقها على هذا الترتيب، ثم عقَّب بحديث ابن عمر، فأشار ــ والله أعلم ــ بالترتيب إلى ترتيبها في القوة. فالثاني أقوى من الأول، والثالث أرجح منهما. أو قل: أشار إلى أن الثاني يُفسِّر الأول من وجه، والثالث

(2)

يُفسِّرهما جميعًا. وأشار بالتعقيب بحديث ابن عمر إلى أن هذا

(1)

(8/ 82).

(2)

في (ط): «والثاني» . وذكر الشيخ الألباني في تعليقه أنه كذا في الأصل، والظاهر أن الصواب: والثالث. وهو في مسودتنا على الصواب كما قال الشيخ.

ص: 231

الحديث وحديث ابن عمر عن واقعة واحدة. فعائشةُ حفظت أنَّ أقلَّ ما قطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هو ذاك المجن ولم تذكر قيمته، وابنُ عمر حفظ قيمتَه ولم يذكر أنه أقلُّ ما قطع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه.

وأما مسلم، فصدَّر بحديثه عن محمد بن عبد الله بن نمير وساقه بتمامه، وهو على الوجه الثالث كما مرَّ، ثم قال

(1)

: «حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن ح وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان ح وثنا أبو كريب، ثنا أبو أسامة= كلُّهم عن هشام بهذا الإسناد نحو حديث ابن نمير عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي

(2)

. وفي حديث عبد الرحيم وأبي أسامة: «وهو يومئذ ذو ثمن» . فحمَلَ سائر الروايات على حديث ابن نمير، وهو على الوجه الثالث كما مرَّ، ولم يعتدَّ بمخالفة بعضها له في الأوجه المذكورة، مع اعتداده بالاختلاف في قول ابن نمير:«وكلاهما ذو ثمن» ، وقول عبد الرحيم وأبي أسامة: «وهو يومئذ ذو

(3)

ثمن». ثم عقَّب مسلم ذلك بحديث ابن عمر.

وأما النسائي، فإنه مع تصدِّيه لجمع الروايات في ذكر المجنّ لم يسُقْ من طرقِ حديث هشام المذكورة إلا روايةَ سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام، وهي على الوجه الثالث.

وصاحب هذا المسلك إنما يكون له متشبَّثٌ ما في الوجه الثاني، وقد

(1)

رقم (1685).

(2)

(ط): «الرواس» . والتصويب من مسلم، وانظر «التقريب» .

(3)

كذا على الصواب في مسودتنا. وقد ذكر الشيخ الألباني في تعليقه على المطبوعة أن في الأصل «ذون» .

ص: 232

علمتَ أنه مرجوح من جهة الرواية. وهكذا هو مرجوح من جهة النظر لما يأتي. وعلى فرض أنه لا يتبين أنه مرجوح، فلا يصحُّ التمسكُ بما اختص به بعض الروايات وخالفها غيرها؛ لأن الاختلاف إنما جاء [2/ 140] من جهة الرواية بالمعنى، فلا يصح التشبث بواحدة منها حتى يترجح أنها باللفظ الأصلي أو موافقة له.

ومع هذا، فاللفظ الواقع في الوجه الثاني لا يتعين حمله على ما زعمه صاحب هذا المسلك، فإنه يحتمل أن يكون المراد أن السارق لم يكن يُقطَع فيما دون ثمن ذاك المجن الذي قطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم. ولا مانع أن تعرف عائشة هذا، ولا تعرف قيمة ذاك المجن. وهذا المعنى أقرب وأولى مما زعمه صاحب هذا المسلك، فإنه يزعم أن المعنى أن اليد لم تكن تُقطَع إلا فيما يبلغ ثمنَ مجنٍّ من المَجان أيَّ مجنٍّ كان. وهذا بغاية البعد، فإن من المجانِّ الرديءَ البالي المعيب الذي تكون قيمته درهمًا واحدًا أو دونه، ومنها ما يزيد على ذلك زيادة متفاوتة، ولم يُعهَد من حكمة الشارع وإيثارِه الضبطَ: أن ينوط مثل هذا الحكم العظيم بمثل هذا الأمر الذي لا ينضبط.

فإن قيل: قد يختار مجنٌّ من أوسط الغالب على نحو ما قدَّمتَ أول المسألة.

قلت: أوسط الغالب بعيد أيضًا عن الانضباط، والذي تقدَّم إنما هو من بعضِ مَن بعدَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رأى أنه لا ينبغي القطع في أقل مما قطع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعرف أنه ذاك المجن ولم يعرف ثمنه، فاضطُرَّ إلى الحدس. والشارع لا ضرورة تُلجِئه ولا حاجة تدعوه إلى مثل هذا، فلماذا يعدل عن سنته من إيثار الضبط، وهو قادر على

ص: 233

الضبط بالذهب أو الفضة، فيكون المناط ظاهرًا منضبطًا سهلَ المعرفة جاريًا على ما يعرفه الناس ويتعارفونه؟

فأما تقدير الدية بالإبل فذلك معروف متعارف من قبل الإسلام، وكان أغلب أموالهم الإبل، ووصفها الشارع بصفات معروفة تقرِّبها من الانضباط، ولا يُخشى بعد ذلك التباسٌ ولا مفسدة، كما يُخشى في نَوط القطع بثمن مِجنّ. فإنَّ مَنْ وجبت عليه الدية لا يلزمه أن يدفع النفيسة. فلو كانت عنده [ناقة]

(1)

نفيسة، وأراد أن يشتري بها عشرًا كلُّهن على وصف الدية مُكِّن من ذلك، فيشتري بتلك الناقة عشرًا ويدفعها، فتُحسَب له عشرًا. واحتمالُ أن لا يتمكن من ذلك بعيد. فإن اتفق ذلك، فللفقيه أن يقول: هي بمنزلة المعدومة، ويعدل إلى قيمة القدر الواجب من [2/ 141] الغالب، كما قيل بنحو ذلك في الزكاة. فأما إذا طابت نفسُ صاحبها فدفَعَها، فلا إشكال. والحنفية لم ينكروا وجوب الإبل، وإنما قالوا: إن الواجب هي أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وإن التعيين بالتراضي أو القضاء.

وأقول: أما التراضي، فلا إشكال فيه. وكذلك القضاء إذا قضى القاضي بالإبل، أو بذاك المبلغ من الذهب أو الفضة، وهو قيمة الإبل. وأما إذا لم يكن ذلك قيمتها، فجعلُ الخِيَرةِ للقاضي منافٍ للعدل، وفتحٌ لباب اتباع القضاة للهوى، وأصول الشرع تأبى ذلك. والمقصود هنا أنه لا مفسدة في جعل الدية

(2)

من الإبل، فإن الواجب الحقيقي هو أقلُّ ما يتحقق به الصفة. فالمستحق بين أن يحصل له حقه، وأن يحصل له دونه برضاه، وأن يحصل

(1)

الزيادة من (خ).

(2)

في (ط): «الزكاة» ، والمثبت يقتضيه السياق.

ص: 234

له فوقه برضا الدافع.

وعلى فرض أن المقوِّم أخطأ في التقويم، فالخطب سهل، إنما هو خسارة مالية يجبُرها الله عز وجل من فضله.

وأما المجن، فإن قيل: إنه يُقطع في سرقته مطلقًا بأي صفة كان، فلا يخفى ما فيه. وإن قيل: لا يُقطع فيه إلا إذا كان بوصف مخصوص، فما هو ذاك الوصف؟ وما الدليل على تعيينه؟ وإن قيل: لا يُقطع فيه إلا إذا بلغت قيمته حدًّا معينًا، كما يدل عليه قول أنس

(1)

: «سرق رجلٌ مِجنًّا على عهد أبي بكر، فقُوِّم خمسةَ دراهم، فقُطِع» ، فهذا قولنا، وبطل هذا المسلك الطريف رأسًا.

وإذا كان المسروق ذهبًا أو فضة، فعلى ذلك المسلك ينبغي أن ينظر هل هو قيمة مجن أو لا؟ وهذا عكس المعروف المتعارف من اعتبار مقادير السِّلع بالذهب والفضة. وإذا كان المسروق سلعة أخرى احتيج إلى تقويمين، تقويم السلعة بالذهب أو الفضة، وتقويم المجن الذي لم تبيَّن صفته بالذهب أو الفضة، واحتمالُ الخطأ في ذلك أشد من احتماله في تقويم واحد.

فإن قيل: إنما كان ذلك في أول الأمر، ثم استقر الحال على العشرة الدراهم.

قلت: فهل كان الشارع يجهل عاقبة الأمر؟ وقد قال الشاعر:

رأى الأمرَ يُفضي إلى آخِرٍ

فصيَّر آخرَه أوَّلا

(2)

(1)

أخرجه النسائي (8/ 77).

(2)

من أبيات لمحمود الوراق في «عيون الأخبار» (3/ 54) و «طبقات» ابن المعتز (ص 367) وغيرهما. وتنسب إلى علي بن أبي طالب. انظر تخريجه في «ديوان الوراق» (139).

ص: 235

[2/ 142] وإذا كان المجن لا يصلح أن يُجعل معيارًا مستمرًّا، فكذلك لا يصلح أن يكون معيارًا موقتًا بلا ضرورة ولا حاجة.

فإن قيل: قد يكون صاحب هذا المسلك إنما عنى ذاك المِجنَّ المعيَّن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فيلزم أن يكون ذاك المِجنُّ بقي محفوظًا في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في بيوت الخلفاء. فكلما رُفِعَ سارقٌ قُوِّم المسروقُ، ثم أُخرج ذاك المجنُّ، فقُوِّم بقيمة الوقت! وهذا باطل من وجوه:

منها: أنه لم يُنقل، ولو كان لَنُقِل لغرابته. ومنها: أن النقل يأباه. ومنها: أنه خلاف المعهود من براءة الشريعة عن مثل هذا التكلف الذي لا تُبرِّره حكمة. وكثيرٌ مما تقدَّم يرد على هذا أيضًا. وأشدُّ ذلك: الداهية الدهياء، وهي النسخُ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فإن قيل: لعل صاحب هذا المسلك إنما أراد أن ذلك التدرج واستقرار الأمر على عشرة الدراهم كان كلُّه في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: ظاهر صنيعه خلاف ذلك، لتنظيره بحدِّ الخمر، ولأنه لا يجهل أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء في ذكر العشرة

(1)

، وإنما يصح ــ إن صحَّ شيء ــ عمن بعده وبعد الخلفاء الراشدين. وهَبْ أنه إنما أراد

(1)

قلت: في هذا نظر، فإن المومى إليه قد صرح بتصحيح حديث ابن عباس في العشرة! [ن].

ص: 236

ما زعمت، لم يأت عليه بشبهة فضلًا عن حجة، ويرد عليه أكثر ما تقدم. وكيف يقول: إن أحاديث «الصحيحين» قطعية الثبوت، ثم ينسخها بما لم يثبت!

وأما قضية المهر فلم يثبت تحديده، وإنما اقتسر الحنفية قياسه على ما يُقطَع فيه السارق. والأصل باطل، والقياس أبطل.

وأما حدُّ الخمر، فالحق أنه أربعون. واستنبط الصحابة من تدريج الأمر في الخمر من حُكمٍ إلى أشدَّ منه رعايةً للحكمة جوازَ زيادة التشديد تعزيرًا، واستأنسوا لتحديد الزيادة بقولهم:«إنه إذا سكر هَذَى، وإذا هَذَى افترى»

(1)

، مع علمهم بأنه لا يلزمه بمجرد الاحتمال حكمُ [2/ 143] المرتد ولا حكم المطلِّق، ولا غير ذلك مما يحتمل صدوره منه عند هذيانه. والسرقةُ لم يقع في تحريمها تدريجٌ، لا من حال إلى أشدَّ منها، ولا من حال إلى أخفَّ منها.

فإن قيل: قد يقال: إن للتدريج حكمةً، وهي أن الناس كانوا في ضيق، فكان المسروقُ منه يتضرَّر بأخذ اليسير من ماله، ثم اتسعوا فصار لا يتضرَّر إلا بأخذ أكثر من ذلك، وهكذا.

قلت: تعقُّلُ الحكمةِ لا يثبت به الحكم، مع أن ما ذكرتم يعارضه أن المناسب في زمن الضيق أن يخفَّف على السارق لكثرة الحاجة. وقد شهدت الشريعة في الجملة لهذا المعنى دون الأول، وذلك بدَرْء

(2)

الحد

(1)

هذا من قول علي بن أبي طالب، أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 842). قال الألباني في تعليقه:«هذا لم يصح، وهو معلل في إسناده ومتنه، وقد بينت ذلك في «إرواء الغليل» (2446)».

(2)

(ط): «يدرء» . والتصويب من (خ).

ص: 237

عن المضطر، وما يُروَى عن بعض السلف أنه لا قطع في زمن المجاعة

(1)

.

فإن قيل: إن المقدار لم يتغير في المعنى، لأن السِّلَع كلها أو غالبها تساير المجنّ، فالسلعة المسروقة التي تكون قيمتها خمسةً حين بلغ ثمنُ المجنِّ خمسة، كانت قيمتها ثلاثة حين كانت قيمة المجن ثلاثة، وهكذا الدراهم نفسها، فإن الثلاثة كانت أولًا تُغْني غَناءً لا تُغْنيه أخيرًا إلا الخمسة

(2)

مثلًا.

قلت: هذا كله لا يُغْني فتيلًا فيما نحن بصدده. ثم هو غير مستقيم، فقد تغلو سلعة وترخص أخرى، ولا تزال تضطرب قيمتها ارتفاعًا وانخفاضًا إلى يوم القيامة. ولماذا إذا كان لوحظ ذاك المعنى وقع التحديد أخيرًا بالعشرة؟ وقد يزيد الاتساع، فتصير خمسة عشر لا تُغني إلا غناء الثلاثة، وقد يعود الضيق ويشتد أشدَّ مما كان أولًا. والمعروف إنما هو ضبط أثمان السلع بالدنانير والدراهم، لا ضبط الدنانير والدراهم بالسلع، فكيف بسلعةٍ لا تنضبط؟

وقد أطلتُ في ردِّ هذا المسلك، مع أنه لا يحتاج في ردِّه إلى هذا كلِّه، ولكن دعا إلى ذلك شهرةُ قائله. والله المستعان.

(1)

قلت: يشير إلى ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «لا قطع في غدق، ولا في عام سنة» . لكن في سنده جهالة كما بينته في المصدر السابق (2496). [ن].

(2)

(ط): «لخمسة» .

ص: 238