الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب
مما عُلِم من الدين بالضرورة، وشهدت به الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة أن من المحال الممتنع أن يقع كذبٌ من رب العالمين. وكيف يُتصوَّر وقوعه منه، وهو عالم الغيب والشهادة، القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الحكيم الحميد الذي له الحمد كله؟ وإنما تخبَّط في ذلك متأخرو الأشعرية. وكأن المُوقِعَ لهم في التخبط ما ألزمهم به المعتزلةُ في مسألة القدر. [2/ 246] والخوضُ في القدر أمُّ كلِّ بلية، ولأمرٍ ما ورد في الشرع النهيُ عن ذلك، وشدَّد فيه السلف.
وإيضاح هذا أن الأشعرية لما صار قولهم إلى أن العباد مجبورون على أفعالهم قال لهم المعتزلة: كيف يُجبِر الله تعالى خلقه على الكفر والفجور ثم يعاقبهم عليه، وهذا قبيح ومفسدة، والله تعالى منزَّه عن القبائح، وأفعاله مبنية على المصالح. فاضطرب الأشعرية في هذا، ثم لم يجدوا محيصًا إلا أن يجحدوا هذين الأصلين، فقالوا: الأفعال كلها سواء عند العقل لا يُدرِك منها حُسنًا ولا قبحًا، والله عز وجل لا يفعل لشيء، ولا لأجل شيء، إنما يفعل ما يريده، وإرادته لا تُعلَّل بشيء البتة. فقال المعتزلة: فيلزمكم أن يجوز عقلًا أن يكذب الله تعالى، فحاول بعض الأشعرية التملُّصَ من هذا الإلزام بوجهين:
الأول: أن الكذب نقص، والله سبحانه منزَّه عن النقص.
الثاني: أنه لو جاز لكان قديمًا، وما ثبت قِدَمُه استحال عَدَمُه، فيمتنع الصدق.
فلم ير بقية الأشعرية هذين الوجهين شيئًا.
أما الأول، فلأنه لم يقم برهان عندهم ــ زعموا ــ على براءته تعالى من النقص، ومن قال منهم بالبراءة، إنما يقول به في الصفات لا في الأفعال، فأما النقص في الأفعال فهو القبح العقلي الذي ينكرونه.
وأما الثاني، فلأنه لو تمَّ فإنه يختص بما يسمُّونه الكلام النفسي، والنزاع إنما هو في الكلام اللفظي.
فصار الأشعرية إلى التزام أنه يجوز عقلًا أن يقع الكذب من الله تبارك وتعالى. ثم حاولوا القول بأنه وإن جاز عقلًا فلا يقع، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن كلام الله تعالى كله صدق.
فقالت المعتزلة: إنما ثبتت نبوة النبي بإخبار الله عز وجل بأنه صادق، وذلك بإظهار المعجزة على يده إظهارًا مستلزمًا لذاك الإخبار؛ إذ هو بمنزلة أن يقول تعالى: صدَق في دعواه أنني أرسلته. قالوا: فإن كان العقل يجوِّز وقوعَ الكذب من الله تعالى جاز أن يكون هذا الخبر كذبًا، فلا يكون مدعي النبوة نبيًّا، فتجويزكم عقلًا أن يقع الكذب من الله تعالى [2/ 247] يلزمه أن لا تثبت نبوة محمد، فكيف يكون لكم أن تحتجوا على نفي وقوعه بخبره؟
أجاب الأشعرية بأن دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة عادية، وذلك أن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقبها، قالوا
(1)
: "فإن إظهار المعجز على يد الكاذب، وإن كان ممكنًا عقلًا، فمعلوم انتفاؤه عادة".
قال العضد
(2)
: "وقد ضربوا لهذا مثلًا قالوا: إذا ادعى الرجل بمشهد
(1)
انظر "المواقف"(ص 341).
(2)
المصدر نفسه.
الجمِّ الغفير أني رسول هذا الملك إليكم، ثم قال للملك: إن كنتُ صادقًا فخالِفْ عادتك، وقم من الموضع المعتاد لك من السرير، واقعد بمكان لا تعتاده، ففعل= كان ذلك بمنزلة التصديق بصريح مقاله، ولم يشكَّ أحد في صدقه بقرينة الحال، وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد، بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية، ونذكر هذا للتفهيم".
أقول: الذين شاهدوا المعجزات لم يوقنوا جميعًا، بل بقي كثيرون منهم مرتابين. وفي القرآن نصوص كثيرة تصرِّح بذلك، وهذا يدفع أن يكون الله عز وجل أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقب المعجزة.
فإن قيل: الذين بَقُوا مرتابين إنما ارتابوا لعدم علمهم بأن ذلك فعل الله عز وجل، بل جوَّزوا السحر.
قلت: فإذا لم يقع العلم بالصدق إلا لمن علم أن ذلك فعلُ الله عز وجل، فهذا نظير المثال الذي ذكروه. فلو فرضنا فيه أن ذلك الجم الغفير كانوا يعتقدون أن الملك لا يبالي أصدق أم كذب، ولا أَفَعَل ما تقتضيه الحكمة أم ما تأباه= لم يحصل لهم بقيامه وقعوده أدنى ظن، فضلًا عن الظن الغالب، فضلًا عن العلم. فأما إذا كانوا يعتقدون أنه لا يفعل شيئًا لأجل شيء، فالأمر أشدُّ. فثبت أن الذين يعلمون أن المعجزة من فعل الله عز وجل إنما يصدِّقون لاعتقادهم أن الله تعالى منزَّه عن أن يقع منه كذب أو فعل مناقض للحكمة، وهذا الاعتقاد هو مقتضى الفطر الزكية والعقول النقية، وهو اعتقاد كلِّ من يؤمن حق الإيمان بوجود الله تعالى وكمال علمه وقدرته حتى من الأشاعرة أنفسهم، يعتقدون ذلك بمقتضى فطرهم، وإن أنكروه بألسنتهم.
* * * *