الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 248]
تنزيه الأنبياء عن الكذب
من المعلوم من الدين بالضرورة أن الأنبياء صادقون في كل ما أخبروا به عن الله عز وجل، وأن من كذّب نبيًّا في خبر من ذلك فقد كفر. ومعلوم أن جميع ما أخبر به الأنبياء في شؤون الدين فهو إخبار عن الله عز وجل، وهذا من الوضوح عند المسلمين بحيث يستغني عن إيراد حججه.
فإن قيل: قد جوَّز بعضُ الناس أن يقول النبي في الدين باجتهاده، ومن هؤلاء من جوَّز أن يخطئ النبي، لكنه إن أخطأ نبَّهه الله عز وجل فورًا. ولعل مَن يجيز مِن هؤلاء تأخير البيان إلى وقت الحاجة يجيز تأخير التنبيه إلى وقت الحاجة.
قلت: إن جاز الخطأ، فإنما يخبر النبيُّ بأنه يظن، ومن قال: أظن كذا، إنما أخبر بأنه يظن، فإذا كان يظن ما ذكر فقد صدق. فإن بان خطأُ ظنه لم يُقَلْ له: كذبتَ، وإن قيل: كذب ظنك. فأما الأمور الدنيوية، فخبر الأنبياء عنها إن تضمن خبرًا عن الله عز وجل فكالأمور الدينية، وإلا فالمعروف بين أهل العلم من المسلمين أن الأنبياء معصومون عن تعمُّد الكذب فيها.
وأُورِد على ذلك كلمات إبراهيم عليه السلام. وفي "الصحيحين"
(1)
من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات
…
"، فذكر تلك الكلمات. وفي "مسند أحمد"
(2)
من حديث ابن عباس نحوه. وفي "الصحيحين"
(3)
من حديث أنس مرفوعًا ذكر فزع الناس إلى الأنبياء
(1)
البخاري (3357، 3358) ومسلم (2371).
(2)
رقم (2546، 2692). وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف.
(3)
البخاري (7510) ومسلم (193/ 322).
يوم القيامة يسألونهم الشفاعة، فيأتون آدم، فنوحًا، فإبراهيم، فموسى؛ فيعتذر كلٌّ من هؤلاء بتقصيرٍ كان منه في الدنيا. فيذكر آدم أكله من الشجرة، وموسى قتله النفس. وفيه في ذكر إبراهيم:"فيقول: لستُ هناكم. ويذكر خطيئته". زاد مسلم: "التي أصابَ فيستحيي ربَّه منها". وفي رواية للبخاري
(1)
في كتاب التوحيد: "فيقول: لست هناكم. ويذكر خطاياه التي أصابها". وفي أخرى
(2)
: "ويذكر ثلاث كذبات كذبهن". وفي "الصحيحين"
(3)
من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفيه مِنْ قول إبراهيم في عذره: "إن ربي قد غضب اليوم
…
وإني قد كنت كذبتُ ثلاثَ كذبات" لفظ البخاري في تفسير سورة (الإسراء)، ولفظ مسلم: "إن ربي قد غضب اليوم
…
، وذكر كذباته". وقد جاء [2/ 249] الحديث من رواية جماعة آخرين من الصحابة.
فإطلاق الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام على تلك الكلمات "كذبات" يدفع أن تكون من المعاريض التي لا رائحة للكذب فيها. ويؤكده أن نبينا كان شديد التوقير لأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. صح عنه أنه قال: "نحن أولى بالشك من إبراهيم
…
"
(4)
. وقال له رجل: يا خير البرية، فقال:"ذاك إبراهيم"
(5)
. فكيف يُظَنُّ به أن يقول: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" وهو يعلم أنها ليست من الكذب في شيء، مع أنه تحرَّى
(1)
رقم (7410).
(2)
رقم (7440).
(3)
البخاري (4712) ومسلم (194).
(4)
أخرجه البخاري (4537) ومسلم (151) من حديث أبي هريرة.
(5)
أخرجه مسلم (2369) من حديث أنس بن مالك.
في هذا الحديث الثناء على إبراهيم؟ فبيَّن أنه لم يقع منه كذب إلا تلك الثلاث، ثم قال: "ثنتين منهن في ذات الله عز وجل: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة (يعني امرأته) إذ أتى على جبَّار من الجبابرة
…
".
فإن قيل: قد يكون الكلام من تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول النابغة
(1)
:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم
…
بهن فلولٌ من قِراع الكتائب
قلت: إنما يحسن مثل هذا حيث يكون المستثنى واضح الخروج من المستثنى منه، وليس الأمر هاهنا كذلك. وقد سمَّاها في الحديث الآخر "خطايا"، ونظَمها في سلك أكلِ آدم من الشجرة وقتلِ موسى للنفس. وحكَمَ إبراهيم بأنها تقصر به عن مقام الشفاعة، وتقتضي
(2)
استحياءَه من ربه لأجلها. وبالجملة فالجواب عن تلك الكلمات بأنها ليست بكذب كما ترى.
وثَمَّ جوابٌ آخر، وهو أن تلك الكلمات وقعت من إبراهيم عليه السلام قبل نبوته، كما أن قتل موسى للنفس كذلك، فقد قصَّ الله تعالى عنه أنه ذُكّر بتلك الفعلة فقال:{فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 20 - 21].
وقريب من ذلك حال آدم، فإنَّ أكلَه من الشجرة كان في الجنة قبل النبوة المعتادة.
(1)
"ديوانه"(ص 44).
(2)
ط: "وتتقضى". ولعله خطأ مطبعي.
وقد قال الله تعالى في القصة التي ذكر فيها قول إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]. وهي إحدى الكلمات: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 59 - 63].
[2/ 250] والكلمة الثانية وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، كانت قبل ذلك.
فأما الثالثة، وهي قوله:"هي أختي"، فالظاهر ــ والله أعلم ــ أنها بعد ذلك، لكن في سياق القصة ما قد يُشعر بأنها كانت قبل النبوة.
فإطلاقهم عليه "فتى" ظاهر في أنه يومئذ لم يبلغ أربعين سنة، فإن الفتى هو الشاب الحدث كما في "المصباح"
(1)
، وقد صرَّح كثير من أهل العلم أن الأنبياء إنما نُبِّئوا بعد بلوغ كلٍّ منهم أربعين سنة، كما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام. وجزم به القاضي أبو بكر ابن العربي وآخرون، وتأولوا ما في قصتي يحيى وعيسى، وقال قوم: إن ذلك هو الغالب.
فإن قيل: فإن اثنتين من تلك الكلمات وقعتا في صدد دعوته قومه إلى التوحيد، والثالثة يظهر أنها بعد ذلك، فكيف يدعو قبل النبوة؟
قلت: قد كان هداه الله تعالى من صباه بتوجيه نظره إلى الآيات الكونية، قال الله عز وجل:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ثم ذكر القمر والشمس: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا
(1)
"المصباح المنير"(ص 462).
رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ
…
} [الأنعام: 75 - 80]. فكان يُحاجُّ قومَه بما هداه الله إليه بنظره.
فإن قيل: لو كانت تلك الثلاث قبل النبوة لذكر معها قوله: هذا ربي، فإن هذه أشدّ.
قلت: قد ذُكِر في بعض الروايات، لكن قيل: إنه خطأ من الراوي
(1)
. وعلى هذا فقد يقال: إنما لم تذكر تلك الكلمة لأنها كانت في الطفولة فيما قاله بعض أهل العلم، وتلك الثلاث كانت بعد البلوغ. وفي هذا نظر، فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذباتٍ" يعمُّ الطفولة.
وقد يقال: إنما لم يذكرها لأن إبراهيم لم يُرِد بها الإخبار، وإنما أراد الاستفهام الإنكاري. وهذا القول حكاه ابن جرير عن بعض أهل النظر، وردَّه
(2)
. وروى عن ابن عباس
(3)
ما ينص على أن الكلام على الإخبار، وأن إبراهيم فعل ما يوافق ذلك، ولم يذكر عن أحد من السلف خلافه. ومع هذا فمن مال إلى هذا التأويل من أهل النظر [2/ 251] وجَّهوه بأن إبراهيم أراد في نفسه الاستفهام، وأراد في الظاهر إيهام قومه أنه موافق لهم ليكون ذلك
(1)
راجع "الفتح"(6/ 391).
(2)
انظر "تفسير الطبري"(9/ 360، 361) ط. دار هجر.
(3)
المصدر السابق (9/ 356) و"تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1328، 1329) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
أقربَ إلى جرِّهم إلى الحق. وعلى هذا فهذه الكلمة بل الكلمات أشدُّ من تلك الثلاث، والحديث السابق يأبى ذلك كما مرَّ.
فإن قيل: أفليس الأنبياء معصومين عن الكفر مطلقًا؟
قلت: ليس هذا بكفر في حكم الشرع، فإن إبراهيم عليه السلام قال ذلك قبل أن تُعرَض عليه ــ فضلًا عن أن تقوم عليه ــ حجة بنظر ولا غيره، وهو حريص على معرفة الحق، باذلٌ وسعَه في تحصيلها، صادق العزم على اتباع الحق على كل حال، ليس في نفسه شائبة هوى في غير الحق. فإن كان ذلك في الطفولة كان الأمر أوضح.
فإن قيل: فعلى هذا أيضًا يبقى الإشكال بحاله أو أشدَّ. فإن قوله: "هذا ربي" يكون خبرًا مخالفًا للواقع ظاهرًا وباطنًا، وتلك الثلاث إن كان الخبر فيها مخالفًا الواقع، فظاهرًا فقط.
قلت: تلك الثلاث كانت عمدًا أي أن إبراهيم كان يعلم أن الظاهر غير واقع، وأمَّا قوله:"هذا ربي" فخطأ محض غير مؤاخذ به
(1)
.
والمتبادر من قولهم "لم يكذب فلان" نفيُ أن يكون وقع منه إخبار بخلاف الواقع يُلام عليه. وفي "صحيح مسلم"
(2)
في أحاديث البكاء على
(1)
هذا هو الجواب عن عدم ذكرها مع الثلاث. ثم ظهر لي جواب آخر، وهو أن قوله:"هذا ربي" لم يكن إخبارًا منه لغيره، بل لعله لم يكن عنده أحد، وإنما قال ذلك على وجه الاعتراف كالمخاطب لنفسه. وجواب ثالث وهو أن القرائن تدل أنه إنما بنى على ظنه، فكأنه قال:"أظن هذا ربي". ومن ظن أمرًا فأخبر بأنه يظنه فهو صادق، وإن أخطأ ظنه كما مرَّ، ويأتي إيضاحه. [المؤلف]
(2)
رقم (932/ 27).
الميت: "فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ". وفي رواية
(1)
: "قالت: إنكم لتحدِّثون عن غير كاذبين ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ".
وقولهم: "كذب فلان" المتبادر منه أنه تعمَّد أو أخطأ خطأً حقُّه أن يُلام عليه. ومن ذلك حديث: "كذب أبو السنابل"
(2)
، وقول عبادة:"كذب أبو محمد"
(3)
، وقول ابن عباس:"كذب نَوف"
(4)
، وما أشبه ذلك.
والكذب لغةً هو مخالفة الخبر ــ أي [2/ 252] ظاهره الذي لم تُنصَب قرينةٌ على خلافه ــ للواقع مطلقًا، لكن لشدة قبح الكذب وأن العمد أغلب من الخطأ كان قولنا:"كذَب فلانٌ" مُشعِرًا بذمِّه، فاقتضى ذلك أن لا يؤتى بذلك حيث ينبغي التحرُّز عن الإشعار بالذم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(1)
لأحمد في "المسند"(288) والنسائي (4/ 19).
(2)
أخرجه الشافعي في "الرسالة"(1711) وفي "مسنده"(2/ 51) وسعيد بن منصور في "سننه"(1506) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 429) من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن سُبَيْعة. وأخرجه أحمد في "المسند"(4273) من طريق عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود. وأصل الحديث ثابت في الصحيحين عن سُبَيعة، أخرجه البخاري (5319) ومسلم (1484)، ولكن ليس عندهما اللفظ المذكور.
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 123)، وأحمد في "المسند"(22693)، وأبو داود (1420)، والنسائي (1/ 230).
(4)
أخرجه مسلم (2380/ 171).
هذا، ولم يُرِد إبراهيم عليه السلام بقوله:"هذا ربي" ربَّ العالمين، وإنما بنى على ما كان يقوله قومه في الكواكب: إن أرواح الملائكة متعلقةٌ بها، مدبِّرةٌ بواسطتها ما أقدرها الله عليه، أو شافعة إليه، ولما رأوا أن الكواكب لا تكون ظاهرةً أبدًا اتخذوا الأصنام تذكاراتٍ لها ولأرواحها. وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب تقربًا إلى تلك الأرواح، ويقولون: إن الله ربُّ الأرباب وإلهُ الآلهة. وقد أوضحتُ هذا بدلائله من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار التاريخية والمقالات في كتاب "العبادة" ولله الحمد.
وعلى كل حال، فتلك الكلمات إنْ ترجَّحَ أنها داخلةٌ فيما يسمَّى كذبًا، فهي من أخفِّ ذلك وأهوَنِه. ولنبيِّنْ ذلك في إحداها:
دخل إبراهيم ومعه امرأته (سارة) بلدًا كان ملكه جبارًا، إذا سمع بامرأة جميلة أخذها، فإن كان لها زوج بطش به. فلما سمع الجبار بسارة أرسل إلى إبراهيم، فسأله عنها، فخاف أن يقول: امرأتي، فيبطش به؛ وأن يقول: أجنبية عني، فيقال: فما شأنك معها؟ فقال: هي أختي، وأراد الأخوة الدينية. فإطلاق أخ وأخت في الأخوة الدينية شائع ذائع، فاحتمال الخبر للمعنى الواقع قريب كما ترى. ومع ذلك فهناك قرينة من شأنها إذا تنبَّه لها المخاطب أن توهن الظاهر، وهي أن تلك الحال يحتاج مَن وقع في مثلها إلى التورية وإيهام خلاف الواقع، ليدفع عن نفسه الظلم، ويدفع عن مخاطبيه الوقوع في الظلم، ولا تترتب على ذاك الإيهام مفسدة. فقد يقال: إن هذه الحال إذا نُظِر إليها على هذا الوجه ولوحظ أن الخبر محتمل احتمالًا قريبًا لغير ظاهره، صار الخبرُ مجملًا محتملًا لكلٍّ من المعنيين على السواء، فعلى هذا لا يكون كذبًا. لكن قد يَرِد على هذا أن تلك الحال إذا لوحظت إنما تقتضي أن
من وقع فيها قد يترخص في الكذب، فالاعتدادُ بها لا يبرئ الخبر عن اسم الكذب. ألا ترى أنه لو علم الجبَّار بالواقع لكان له أن يقول لإبراهيم: لِمَ كذبتَ؟
[2/ 253] وعلى كل حال، فالأحاديث أطلقت على تلك الكلمات:"كذبات"، فإن كانت كذلك حقيقة، فقد يتعيَّن أنها كانت قبل النبوة كما مرَّ، وإلا فسواء أكانت قبلها أم بعدها فالأحاديث صريحة في أنها ــ بالنظر لما فيها من شبه الكذب ــ هي مما يُعَدُّ وقوعُه من مثل إبراهيم عليه السلام خطيئة. فينبغي أن لا يكون وقع مثلُها ــ فضلًا عما هو أشدُّ منها ــ من محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه مبعوث إلى الناس كافةً من حين بُعث إلى يوم القيامة، فالعناية بشأنه آكدُ، وهذا هو الواقع.
أما قبل النبوة، فقد شهد له أعداؤه بالصدق والأمانة حتى سمَّوه "الأمين"، ولم يستطيعوا مع إسرافهم في عداوته، واضطرارهم إلى صدِّ الناس عن اتِّباعه، أن يذكر أحدهم أنه كذَب، أو وقع منه ما يُشبه الكذب. وقد سأل هرقلُ أبا سفيان أشدَّ المشركين عدواةً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وأحرصهم على أن يعيبه، كما يُعلَم من سياق القصة في أوائل "صحيح البخاري"
(1)
وغيره. قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه (يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكذب قبل أن يقول ما قال (يعني قبل النبوة)؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن لِيذَرَ الكذبَ على الناس، ويكذب على الله.
(1)
رقم (7).
وقال الله تبارك وتعالى لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. يعني ــ والله أعلم ــ: لا ينسبونك إلى تعمُّد الكذب. وهذا بيِّن واضح من كلماتهم، كقولهم:"مجنون" أي لا يعقل ما يقول، "كاهن" أي تُلقي إليه الشياطين ما تُلقي فيحسبُه من عند الله. فأما قولهم:"شاعر" فقصدوا به توجيه بلاغة القرآن. وأما قولهم: "ساحر" فقصدوا به توجيه المعجزات، ومنها بلاغةُ القرآن وعجزُهم عن معارضته.
فإن كان في كلماتهم ما فيه ذكرُ تعمُّدِ الكذب، فذاك من باب اللجاج الذي يعرف قائلُه قبلَ غيره أنه لا يخفى بطلانه على أحد. وإنما اعتنى القرآن بحكاية ذلك وإبطاله إبلاغًا في إقامة الحجة، وليبيِّن للناس أنه لا شبهة لهم إلا مثل ذلك اللجاج. وهذا مثل ما قصَّه الله عز وجل من قول بعض اليهود
(1)
:
(1)
علَّق عليه الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة بقوله: "هذا قول بعض المفسرين مستدلًّا على ذلك برد الله عليه بإنزال التوراة التي يعترفون بها. ولكن السياق والأسلوب يدل على أن ذلك من قريش، ورد الله عليهم بإنزال التوراة من باب الإفحام بما لا يمكن رده، فشهرة التوراة وأنها كتاب الله مما لم يجحده قريش، فالحجة قائمة على جاحد الوحي من قريش بشهرة التوارة وأنها كتاب الله، واعتراف جمهور الناس بذلك من يهود ونصارى وعرب وعجم. أفاده المحقق ابن القيم في بعض كتبه".
فتعقبَّه المؤلف بقوله: "جمهور المفسرين على أن القائلين بعض اليهود، وهو المنقول عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، وسيأتي في تفسير (قل هو الله أحد) رأي الشيخ في روايته، وعن عكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي والسدي وغيرهم، ويعينه أو يكاد قوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} هكذا قرأها جمهور القراء، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الالتفات. وأما القول بأن القائلين من قريش، فنقل عن مجاهد واختاره ابن جرير وقال: "والأصوب من القراءة في قوله {يجعلونه قَرَاطِيسَ يبدونها ويُخفون كَثِيرًا} أن يكون بالياء لا بالتاء" كذا قال، واستبعاد أن يقول بعض اليهود ذاك القول ليس في محله؛ لأن اليهود بهت، وقد قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} قاتلهم الله أنى يؤفكون، وأما السياق والأسلوب فلا يقاوم دلالة {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}. على أنه لا مانع من الجمع بين الوجهين، القائل من اليهود، وقريش توافقه على ذاك القول. والله أعلم".
[2/ 254]{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} ، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. حمل اللجاجُ ذلك اليهوديَّ على أن جحد أساسَ دينه، على حدِّ قول الشاعر
(1)
:
اقتلوني ومالكًا
…
واقتلوا مالكًا معي
وفي "جامع الترمذي" و"تفسير ابن جرير"
(2)
وغيرهما بسندٍ رجالُه رجالُ "الصحيح"
(3)
[2/ 255] عن ناجية بن كعب قال: "قال أبو جهل
(1)
هو عبد الله بن الزبير، كما في "مجمع الأمثال"(2/ 105).
(2)
أخرجه الترمذي (3064) والحاكم في "المستدرك"(2/ 315) من طريق ناجية عن علي بن أبي طالب. وأخرجه ابن جرير الطبري (9/ 222، 223) من قول ناجية.
(3)
قلت: لكن هذا السند ينتهي إلى ناجية بن كعب، وهو تابعي يروي عن علي، فالقصة مرسلة، بيد أن الترمذي قد وصله في إحدى روايتيه وكذا الحاكم (2/ 315) عنه عن علي. وقال الحاكم:"صحيح على شرط الشيخين". وأقره ابن كثير، ورده الذهبي في "التلخيص" بقوله:"قلت: ما خرجا لناجية شيئًا".
قلت: وأيضًا فقد قال الترمذي عقب الطريق الأول المرسل: "وهذا أصح". [ن]
للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذِّبك، ولكن نكذِّب الذي جئتَ به". وفي رواية:"ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئتَ به". وفي "تفسير ابن جرير"
(1)
وغيره عن السدِّي قصةٌ وقعت قبيلَ بدر، وفيها: "فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم
…
فقال أبو جهل: ويحك، والله إنَّ محمدًا لصادق، وما كذبَ محمد قطُّ، ولكن إذا ذهب بنو قُصَي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ ".
وأما بعد النبوة، فالأمر أوضح. فمن المشركين من كان مرتابًا فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من استيقنت نفسُه ولكنهم عاندوا، وكلا الفريقين عرفوا من حاله صلى الله عليه وسلم سابقًا ولاحقًا أنه لا مجال لاحتمال تعمُّده الكذب، وأن اتهامه بذلك مكابرة مفضوحة، إلى حدِّ أنهم رأوا أن أقرب منها أن يقولوا: مجنون، مع علمهم وعلم كلِّ من عرف النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعقل الناس.
وفي "المستدرك"(ج 3 ص 45)
(2)
وغيره في قصة ابن أبي سرح لما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه "فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا [ثم بايعه] ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففتُ يدي عن بيعته، فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأتَ إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"
(3)
.
(1)
(9/ 222)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1283).
(2)
من طريق أبي داود في "السنن"(2683).
(3)
قلت: قال الحاكم عقبه: "صحيح على شرط مسلم". ووافقه الذهبي. قلت: وفيه أحمد بن المفضل وهو صدوق في حفظه شيء. عن أسباط بن نصر، وهو صدوق كثير الخطأ، كما في "التقريب". وهما من رجال "الميزان" للذهبي، والآخر من "الضعفاء" له. ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود أيضًا (2683 و 4359) والنسائي (2/ 170) وإلى هذا وحده عزاه الحافظ في "الفتح"(6/ 120) وسكت عليه؛ وما بين المعكوفين، إنما وضعه المصنف بينهما إشارةً إلى أنها ليست في "المستدرك"، وإنما هي عند من ذكرنا بلفظ "فبايعه". ثم خرّجت للحديث شاهدًا حسنًا في "الصحيحة"(1723)[ن].
وجاءت قصة أخرى
(1)
في رجل من المشركين كان شديدًا على المسلمين، فنذرَ أحدُهم قتلَه، ثم جاء المشرك لِيُسلم، فكفَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن مبايعته مرارًا، ثم بايعه، فقال الناذر: إني نذرت
…
القصة. وفيها أيضًا: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ قتلَ الرجلين، إما لأنه قد سبق منهما من شدة الكفر [2/ 256] والإسراف ما أحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن ينالهما عقابه في الدنيا والآخرة، كما قصَّ الله تعالى من دعاء موسى وهارون على آل فرعون:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88].
وإما لمعنى آخر يُعلَم بالتدبر، وكأنه ألطَفُ من هذا. فقد أحبَّ صلى الله عليه وسلم قتل الرجلين، لكن كره أن يصرِّح بالأمر بذلك في تلك الحال، لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل من جاءه تائبًا. فأما إذا قُتِلا بدون أمر جديد منه، فإنه
(1)
أخرجها البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 60) من حديث أنس بن مالك. وأخرجها ابن سعد في "الطبقات"(2/ 141) عن سعيد بن المسيب مرسلًا نحوه. والرجل هو ابن أبي سرح المذكور، والناذر أحد الأنصار.
يقال: إنهما قُتلا بدون أمره. وكره أن يُومِض، لأن الإيماض من شعار أهل الغدر لا ينبغي للأنبياء.
أقول: فإذا لم ينبغِ للأنبياء الإيماضُ في الحق، لأنه في الجملة من شعار أهل الغدر؛ فكيف ينبغي لهم الكذب، وهو نفسه قبيح مذموم؟!
وقال ابن حجر في "الفتح"
(1)
في شرح "باب الكذب في الحرب": "قال النووي: الظاهر إباحة الكذب حقيقة في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى
…
ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي
(2)
…
في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح
…
". ثم قال ابن حجر: "والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقًا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتعاطى شيئًا من ذلك وإن كان مباحًا لغيره. ولا يعارض ذلك ما تقدَّم مِنْ أنه كان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها
(3)
، فإن المراد أنه كان يريد أمرًا فلا يظهره، كأن يريد أن يغزو جهة الشرق، فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر
…
".
أقول: كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوةً شرَعَ في التجهُّز، وأمَرَ أصحابه بذلك. فقد تكون هناك قرينةٌ تُشعِر بالجهة التي يريد، وقد يكون هناك جاسوس لأهل تلك الجهة. فإذا رأى التجهُّز وعرف تلك القرينة أسرع فأنذرهم فتحرَّزوا. فكان النبي صلى الله عليه [2/ 257] وآله وسلم يقول ما يدافع تلك القرينة ليلتبس الأمر على الجاسوس، فإما أن يتأخر ليعرف الحال، فيسبقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. وإما أن
(1)
(6/ 159). وكلام النووي في "شرح صحيح مسلم"(12/ 45).
(2)
(7/ 105، 106).
(3)
أخرجه البخاري (2947، 2948) ومسلم (2769/ 54) من حديث كعب بن مالك.
يرجع إلى جهته، فيخبرهم بأمر محتمل، فلا يقوى الباعث لهم على التحرز. فإن التورية تحصل بهذا، وليس من لازمها أن يكون ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرًا في غير ما في نفسه.
واختصاصُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أفراد أمته بوجوب تنزُّهه عن كلِّ ما يقال إنه كذب= حكمٌ معقولُ المعنى، لأن وقوعَ مثل ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينفكُّ عن احتمال ترتُّب المفاسد عليه.
منها: أنه لو ترخَّص في بعض المواضع لكان ذلك حاملًا على اتهامه في الجملة، فيجرُّ ذلك إلى ما عدا ذاك الموضع. وهو صلى الله عليه وآله وسلم مبلِّغٌ عن الله، فوجب أن لا يكون منه ما قد يدعو إلى اتهامه، ولو في الجملة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل منذ بعثه الله تعالى محاربًا أو في معنى المحارب. فلو وقع منه شيء مما يقال إنه كذبٌ في الحرب لجرَّ ذلك إلى الارتياب في كثير من أخباره؛ إذ يقال: لعله كايَد بها المشركين، لعله، لعله.
ومنها: أن الناس يقيسون، فيقولون: إنما ساغ ذلك في الحرب للمصلحة، فينبغي أن تكون هي المدار، فيسوغ مثلُ ذلك للمصلحة ولو في غير الحرب، فيرتابون في أكثر أخباره صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الدين.
ومنها: أنه فتحُ بابٍ للملحدين ولكلِّ من غلبه هواه. لا يشاء أحدهم أن يدفع نصًّا من النصوص النبوية إلا قال: إنما كان للمصلحة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، وهلم جرًّا. فيصبح الدين ألعوبةً، كما وقع فيه الباطنية.
إلى غير ذلك من المفاسد التي تكون صغراها أكبر جدًّا من جميع المفاسد التي كانت تَعرِض في حروبه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يمكنه أن يدفعها ببعض ما يقال: إنه كذب. فوجب أن تكون كلماته كلها حقًّا وصدقًا.
فأما الخطأ، فلا ريب أن الأنبياء قد يخطئ ظنُّهم في أمور الدنيا، وأنهم يحتاجون إلى [2/ 258] الإخبار بحسب ظنهم، لكنهم إذا احتاجوا إلى ذلك فإنما يخبر أحدُهم بأنه يظنُّ، وذلك ــ كما تقدم ــ صدق، حتى على فرض خطأ الظن. فمن ذلك: ما جاء في قصة تأبير النخل. نشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وليست بأرض نخل، ورأى عامة الأشجار تُثمِر ويَصلُح ثمرها بغير تلقيح، فلا غروَ ظنَّ أن الشجر كلها كذلك. فلما ورد المدينة مرَّ على قوم يؤبِّرون نخلًا، فسأل، فأخبروه، فقال:"ما أظنُّ يغني ذلك شيئًا"
(1)
وفي رواية
(2)
: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، فتركوه، فلم يصلح. فبلغه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:"إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدَّثتُكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية
(3)
: "إنما أنا بشر، إذا أمرتُكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر" أو كما قال.
أخرج مسلم الرواية الأولى من حديث طلحة بن عبيد الله، والثانية من
(1)
أخرجه مسلم (2361) عن طلحة بن عبيد الله.
(2)
أخرجها مسلم (2362) عن رافع بن خديج.
(3)
هي رواية رافع.
حديث رافع بن خديج. ثم أخرج
(1)
من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ وعن ثابت عن أنس القصة مختصرةً، وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لو لم تفعلوا لصَلُح". وحماد على فضله كان يخطئ، فالصواب ما في الروايتين الأوليين. وقولُه صلى الله عليه وآله وسلم:"ولكن إذا حدَّثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذِبَ على الله"، و"إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به" واضحُ الدلالة على عصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب خطأً فيما يخبر به عن الله وفي أمر الدين.
ومن ذلك قصة ذي اليدين: سلَّم صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر من ركعتين، فقام إليه ذو اليدين فقال: أقَصُرَت الصلاة يا رسول الله أم نسيتَ؟ فقال: "كلُّ ذلك لم يكن". فقال ذو اليدين: بل بعض ذلك قد كان. فسأل صلى الله عليه وسلم الناس، فصدَّقوا ذا اليدين. فقام فأتمَّ بهم الصلاة
(2)
.
فقوله: "كلُّ ذلك لم يكن" يتضمن خبرين: الأول: عن الدين، وهو أن الصلاة لم تقصُر، وهو حق. والثاني: عن شأن نفسه، وهو أنه لم ينسَ، والواقع أنه كان قد نسي. والقرائن واضحة في أنه إنَّما اعتمد في الخبر الثاني على ظنه، فهو في قوة قوله:"لم أنسَ فيما أرى".
ومما يدخل في هذا ما جاء في رضاع الغَيْل، ففي "صحيح مسلم"
(3)
(1)
رقم (2363).
(2)
أخرجه مسلم (573) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري (1227، 1228) نحوه.
(3)
رقم (1443) من حديث أسامة بن زيد أنه أخبر سعدَ بن أبي وقاص. وهو من مسند أسامة في "مسند أحمد"(21770) و"المعجم الكبير" للطبراني (382).
من حديث سعد بن أبي وقاص أنه ذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو كان ذلك ضارًّا لأضرَّ فارسَ والرومَ".
وفيه
(1)
من حديث جُذامة
(2)
بنت وهب مرفوعًا: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يُغيلون أولادهم، فلا يضرُّ أولادهم ذلك شيئًا".
وفي "سنن أبي داود"
(3)
: حدثنا أبو توبة، نا محمد بن مهاجر، عن أبيه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغَيل يدرك الفارس، فيُدَعْثِرُه عن فرسه". أبو توبة ومحمد بن مهاجر من رجال "الصحيح"، ومهاجر روى عن
(4)
جماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(5)
فالله أعلم.
(1)
رقم (1442).
(2)
كذا الأصل بالذال المعجمة، وهو رواية لمسلم، وفي أخرى له:"جدامة" بالدال المهملة، قال مسلم:"وهو الصحيح". وقال الدارقطني [في "المؤتلف" (2/ 899)]: "هي بالجيم والدال المهملة، ومن ذكرها بالذال المعجمة فقد صحف". وعلى الصواب وقع فيما يأتي بعد سطور، وبالذال أيضًا، فكأن المصنف ذكره على الروايتين، مشيرًا بذلك إلى أنه لم يترجح عنده الصواب منهما. [ن].
(3)
رقم (3881).
(4)
كذا في المطبوع، ولعل الصواب:"عنه".
(5)
قلت: وهو معروف بتساهله في التوثيق كما سبق بيانه من المؤلف ومنا (ج 1 ص 436 - 438)[730 - 734]، ولم نر أحدًا قد وافقه على توثيقه، بل إن ابن أبي حاتم لما أورده في كتابه (4/ 1/261) سكت عنه، مشيرًا بذلك إلى أنه غير معروف عنده، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في تعليقنا (ص 436). ولذلك لم يعتمد توثيقه الحافظ ابن حجر، فقال في "التقريب":"مقبول" يعني عند المتابعة، وإلا فلين الحديث، كما نص على ذلك في المقدمة. ولذلك، فإن القلب لا يطمئن لصحة هذا الحديث، وقد أشار إلى تضعيفه العلامة ابن القيم في "تهذيب السنن" بقوله (5/ 362):"فإن كان صحيحًا فيكون النهي عن (الغيل) أولًا إرشادًا وكراهة، لا تحريمًا".
قلت: وهذا التأويل وإن كان بعيدًا عن ظاهر حديث أسماء كما بينه المصنف، فالمصير إليه واجب لحديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الاغتيال، ثم قال:"لو ضر أحدًا لضر فارس والروم".
قال الهيثمي في "المجمع"(4/ 298): "رواه الطبراني والبزار ورجاله رجال الصحيح".
قلت: وكذلك رواه ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 401) لكنه قال عن أبيه: "الصحيح مرسل" لكن له شاهد من حديث أبي هريرة مثله. رواه الطبراني في "الأوسط"[رقم (5134)]، وفيه ليث بن حماد وهو ضعيف. [ن]
[2/ 260] زعم الطحاوي
(1)
أن حديث أسماء كان أوّلًا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بنى ذلك على ما هو المشهور بين العرب، ثم كان حديث سعد وجُدامة بعد ذلك عندما اطلع صلى الله عليه وسلم على أن الغَيل لا يضر.
هذا معنى كلامه وليس بمستقيم.
أولًا: لأن حديث أسماء جزمٌ بالنهي، وحديث سعد وجُدامة ظنٌّ مبنيٌّ على أنه صلى الله عليه وسلم بلغه عن فارس والروم أنهم يُغيلون، ثم لا يظهر بأولادهم ضرر لا يظهر مثله بأولاد العرب الذين لم يكونوا يُغيلون، فيتجه حملُه على أنه عن الغَيل.
(1)
في "شرح معاني الآثار"(3/ 47، 48). وانظر "شرح مشكل الآثار"(9/ 284 وما بعدها).
ثانيًا: في حديث أسماء جزمٌ بضرر يخفى على الناس، فإنما يكون ذلك عن الوحي. وحديث سعد وجُدامة إنما فيه نفيُ الضرر الذي يظهر.
ثالثًا: في حديث جُدامة: "لقد هممت أن أنهى"، وفي حديث أسماء نهي صريح.
وكلٌّ من هذه الأوجه يقتضي تأخُّرَ حديث أسماء ــ على فرض صحته ــ وأن حديث سعد وجُدامة كان رأيًا رآه صلى الله عليه وسلم وظنًّا ظنَّه.
هذا، وقد أطلتُ في هذا الفصل، ومع ذلك بقيتْ أمور مما يشتبه على بعض الناظرين، كتأخير البيان إلى وقت الحاجة عند جماعة من أهل العلم، وما روي في نزول قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، وقوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه:"أسرَعُكن لحوقًا بي أطولُكن يدًا"
(1)
.
فأما المجمل الذي لا ظاهر له، فواضح أنه ليس فيه رائحة من الكذب. وأما الذي له [2/ 262] ظاهر، فإنما يتأخر بيانه إذا كانت هناك قرينة تدافع ذاك الظهور، فيبقى النص في حكم المجمل الذي لا ظاهر له. وأما الآية والحديث، فالحق أن فهمَ غيرِ المراد منهما إنما كان من تقصير السامع، ولو تدبرسياق الكلام ولاحظ القرائن لما فهم غير المراد. وقد شرحتُ ذلك بأدلته في رسالة "أحكام الكذب"
(2)
، وشرحت فيها ما حقيقة الكذب؟ وما الفرق بينه وبين المجاز؟ وما هي المعاريض؟ وما هو الذي يصح الترخيص فيه؟ وغير ذلك.
(1)
أخرجه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة.
(2)
واسمها: "إرشاد العامِه إلى معرفة الكذب وأحكامه"، وهي ضمن مجموع رسائل أصول الفقه.