الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذُبابٍ مرَّ على أنفه، فقال به هكذا ــ أي بيده ــ فذبَّه عنه".
4 - يفكر في حاله مع الهوى
. افرِضْ أنه بلغك أنَّ رجلًا سبَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآخرَ سبَّ داود عليه السلام، وثالثًا سبَّ عمرَ أو عليًّا رضي الله عنهما، ورابعًا سبَّ إمامك، وخامسًا سبَّ إمامًا آخر. أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديد بهم موافقًا لما يقتضيه الشرع، فيكون غضبُك على الأول والثاني قريبًا من السواء وأشدَّ مما بعدهما جدًّا، وغضبُك على الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريبًا من السواء ودون ما قبلهما بكثير؟
افرضْ أنك قرأت آيةً، فلاحَ لك منها موافقةُ قولٍ لإمامك، وقرأتَ أخرى، فلاحَ لك منها [2/ 197] مخالفة قول آخر له. أيكون نظرُك إليهما سواء، لا تبالي أن يتبيَّن منهما بعد التدبُّر صحةُ ما لاح لك أو عدم صحته؟
افرِضْ أنك وقفتَ على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولًا لإمامك، والآخر يخالفه. أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصحَّ سندُ كلٍّ منهما أو يضعف؟
افرِضْ أنك نظرت في مسألةٍ قال إمامُك فيها قولًا، وخالفه غيره. ألا يكون لك هوًى في ترجيح أحد القولين، بل
(1)
تريد أن تنظر لتعرف الراجح منهما، فتبيِّن رجحانَه؟
افرِضْ أن رجلًا تحبه وآخر تبغِضه تنازعا في قضية، فاسْتُفْتِيتَ فيها ولا
(1)
كذا في المطبوع، ولعل الصواب:"هل".
تستحضر حكمها، وتريد أن تنظر؛ ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه؟
افرِضْ أنك وعالمًا تحبه وآخرَ تكرهه أفتى كلٌّ منكم في قضية، واطلعت على فتويَيْ صاحبيك فرأيتهما صوابًا، ثم بلغك أن عالمًا آخر اعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدَّد النكير عليها. أتكون حالك واحدة، سواء كانت هي فتواك، أم فتوى صديقك، أم فتوى مكروهك؟
افرِضْ أنك تعلم من رجل منكرًا، وتعذُر نفسَك في عدم الإنكار عليه. ثم بلغك أن عالمًا أنكر عليه وشدَّد النكير. أيكون استحسانك لذلك سواءً فيما إذا كان المنكِر صديقَك أم عدوَّك، والمنكَر عليه صديقَك أم عدوَّك؟
فتِّشْ نفسَك تجدْك مبتلًى بمعصية أو نقصٍ في الدين، وتجدْ من تبغضه مبتلًى بمعصية أو نقصٍ آخر ليس في الشرع بأشدّ مما أنت مبتلًى به. فهل تجد استشناعك ما هو عليه مساويًا لاستشناعك ما أنتَ عليه، وتجد مقتَك نفسَك مساويًا لمقتك إياه؟
وبالجملة، فمسالك الهوى أكثر من أن تُحْصى. وقد جَرّبتُ نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعمًا أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرِّره تقريرًا يُعجبني. ثم يلوح لي ما يخْدِش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرَّم بذلك الخادش، وتُنازعني نفسي إلى تكلُّف الجواب عنه، وغضِّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب. وإنما هذا لأني لمَّا قررتُ ذاك المعنى أولًا تقريرًا أعجبني صرتُ أهوَى صحته. هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنتُ قد أذعتُه في الناس، ثم [2/ 198] لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يَلُح لي الخدش، ولكنّ رجلًا آخر اعترض عليّ به؟ فكيف لو كان المعترضُ ممن أكرهه؟ !
هذا ولم يكلَّف العالِمُ بأن لا يكون له هوى، فإنّ هذا خارج عن الوسع. وإنما الواجب على العالِم أن يفتِّش نفسه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويُمعِنَ النظرَ في الحق من حيث هو حق؛ فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه. وهذا ــ والله اعلم ــ معنى الحديث الذي ذكره النووي في "الأربعين"
(1)
وذكر أن سنده صحيح، وهو:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به"
(2)
.
والعالِم قد يُقصِّر في الاحتراس من هواه، ويسامح نفسَه، فتميل إلى الباطل، فينصره وهو يتوهّم أنه لم يخرج من الحق ولم يُعادِه. وهذا لا يكاد ينجو منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يَكثُر منه الاسترسال مع هواه ويفحُش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمِّد، ومِنهم من يقِلُّ ذلك منه ويخِفُّ. ومن تتبَّعَ كتب المؤلفين الذين لم يُسندوا اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأسًا رأى فيها العجب العُجاب، ولكنه لا يتبين له ذلك إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى، أو يكون هواه مخالفًا لما في تلك الكتب، على أنه إذا استرسل
(1)
هو الحديث رقم (41). وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(15) والخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 369) والبغوي في "شرح السنة"(104) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2)
قلت: أنى له الصحة وفي سنده نعيم بن حماد، وقد سبقت ترجمته، وما فيه من الضعف، ثم هو قد اختلف عليه في إسناده كما بينه الحافظ ابن رجب الحنبلي في "شرح الأربعين"(ص 282 - 283)، وقال: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدًّا من وجوه، منها تفرد نعيم به
…
". ثم بيَّنها، فمن شاء التفصيل فليرجع إليه، وقد أشار البخاري إلى ضعفه في "جزء رفع اليدين" (ص 16)[ن].
مع هواه زعم أن موافقيه براء من الهوى، وأن مخالفيه كلَّهم متبعون للهوى. وقد كان من السلف من يبالغ في الاحتراس من هواه حتى يقع في الخطأ من الجانب الآخر، كالقاضي يختصم إليه أخوه وعدوّه، فيبالغ في الاحتراس حتى يظلم أخاه. وهذا كالذي يمشي في الطريق، ويكون عن يمينه مزلَّة، فيتَّقيها ويتباعد عنها، فيقع في مزِلَّة عن يساره!
5 -
يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو عن أن يكون قد سلف منه تقصير أو لا. فعلى الأول إن استمرّ على ذلك كان مستمرًّا على النقص، ومصرًّا عليه، ومزدادًا منه، وذلك هو نقص الأبد وهلاكه. وإن نظر، فتبيَّن له الحق، فرجع إليه، حاز [2/ 199] الكمال، وذهبت عنه معرَّة النقص السابق؛ فإن التوبة تجُبُّ ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وقد قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وفي الحديث: "كلكم خطَّاؤون وخير الخطَّائين التوابون"
(1)
.
وأما الثاني، وهو أن لا يكون قد سبق منه تقصير، فلا يلزمه بما تقدم منه نقصٌ يُعاب به البتة. بل المدار على حاله بعد أن ينبَّه، فإن تنبَّه وتدبَّر فعرف الحقَّ فاتبعه فقد فاز. وكذلك إن اشتبه عليه الأمر، فاحتاط. وإن أعرض ونَفَر، فذلك هو الهلاك.
6 -
يستحضر أن الذي يهمُّه ويُسأل عنه هو حالُه في نفسه. فلا يضرُّه عند
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(13/ 187) والترمذي (2499) والبيهقي في "الشعب"(7127) من حديث أنس بن مالك بلفظ: "كلُّ بني آدم خطّاء
…
". وإسناده حسن.
الله تعالى ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلِّمه أو مربِّيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص. والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يَسْلَموا من هذا، وأفضل هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم، وكان آباؤهم وأسلافهم مشركين. هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم يُنَبَّهوا ولم تقم عليهم الحجة. وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به، فاتِّباعُك لهم وتعصُّبك لا ينفعهم شيئًا بل يضرُّهم ضررًا شديدًا، فإنه يلحقهم مثل إثمك ومثل إثم من يتبعك من أولادك وأتباعك إلى يوم القيامة. كما يلحقك مع إثمك مثلُ إثم من يتبعك إلى يوم القيامة. أفلا ترى أن رجوعك إلى الحق هو خير لأسلافك على كلِّ حال؟
7 -
يتدبر ما يُرْجَى لِمُؤْثر الحقِّ من رضوان رب العالمين، وحسنِ عنايته في الدنيا، والفوزِ العظيم الدائم في الآخرة؛ وما يستحقه متبعُ الهوى من سخطه عز وجل، والمقتِ في الدنيا والعذابِ الأليم الخالد في الآخرة. وهل يرضى عاقلٌ لنفسه أن يشتري لذَّةَ اتباع هواه بفواتِ حُسنِ عنايةِ ربِّ العالمين وحرمانِ رضوانه والقربِ منه والزُّلْفى عنده والنعيمِ العظيم في جواره، وباستحقاقِ مقتِه وسخطِه وغضبِه وعذابِه الأليم الخالد؟ لا ينبغي أن يقع هذا حتى من أقلِّ الناس عقلًا، سواء أكان مؤمنًا موقنًا بهذه النتيجة، أم ظانًّا لها، أم شاكًّا فيها، أم ظانًّا لعدمها؛ [2/ 200] فإن هذين يحتاطان. وكما أن ذلك الاشتراء متحقِّق ممن يعرف أنه متَّبع هواه، فكذلك من يسامح نفسه، فلا يناقشها ولا يحتاط.
8 -
يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبيَّن له، فلا يسامحها في ترك واجب أو ما يقرب منه، ولا في ارتكاب معصية أو ما يقرب منها، ولا في هجوم على مشتبه. ويروضُها على التثبت والخضوع للحق، ويشدِّد عليها في ذلك