المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١١

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌المسألة الأولىإذا بلغ الماءُ قُلَّتَين لم ينجَسْ

- ‌المسألة الثانيةرفع اليدين

- ‌ المسألة الثالثةأفطر الحاجم والمحجوم

- ‌ المسألة الرابعةإشعار الهدي

- ‌ المسألة الخامسةالمحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخفَّولا فديةَ عليه

- ‌ المسألة السادسةدرهم وجوزة بدرهمين

- ‌ المسألة السابعةخيار المجلس

- ‌ المسألة التاسعةالطلاق قبل النكاح

- ‌ المسألة العاشرةالعقيقة مشروعة

- ‌ المسألة الحادية عشرةللراجل سهم من الغنيمة، وللفارس ثلاثة:سهم له وسهمان لفرسه

- ‌ المسألة الثانية عشرةأما على القاتل بالمثقل قصاص

- ‌ المسألة الثالثة عشرةلا تعقل العاقلة عبدًا

- ‌إذا قتل حرٌّ حرًّا خطأ [2/ 91] محضًا أو شبهَ عمد

- ‌المسألة الرابعة عشرةتقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا

- ‌ المسألة الخامسة عشرةالقضاء بشاهد ويمين في الأموال

- ‌المسألة السادسة عشرةنكاح الشاهد امرأة شهد زورًا بطلاقها

- ‌ المسألة السابعة عشرةالقرعة المشروعة

- ‌ مقدمة

- ‌ 177] 1 - فصل

- ‌2 - فصل

- ‌3 - فصل

- ‌4 - فصل

- ‌5 - فصل

- ‌3 - يفكِّر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية

- ‌4 - يفكر في حاله مع الهوى

- ‌9 - يأخذ نفسَه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه

- ‌10 - يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات

- ‌ الباب الأولفي الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهاتوبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

- ‌ علم الكلام والفلسفة ليسا من سراط المُنْعَم عليهم

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌ الكَشْف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين

- ‌ فصل

- ‌ الباب الثانيفي تنزيه الله ورسله عن الكذب

- ‌تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب

- ‌ تنزيه الأنبياء عن الكذب

- ‌ الباب الثالثفي الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد

- ‌ قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية

- ‌قول العضد وغيره

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات

- ‌ الباب الرابعفي عقيدة السلف وعدة مسائل

- ‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

- ‌القرآن كلام الله غير مخلوق

- ‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌معيارُ الإيمان القلبي: العمل

- ‌قول: أنا مؤمن إن شاء الله

- ‌ الخاتمةفيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحقوما يجب على أهل العلم في هذا العصر

- ‌الأول: العقائد

- ‌ الثاني: البدع العملية

- ‌ الثالث: الفقهيات

الفصل: ‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

أطلقتُ أنا «الأينية» ، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله للسوداء:«أين الله؟» قالت: في السماء. وفي آخر الحديث قولُه صلى الله عليه وآله وسلم لسيِّدها: «أعتِقْها فإنها مؤمنة»

(1)

.

وفي حديث أبي رزين العقيلي

(2)

قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربُّنا قبل أن يَخلُق خلقَه؟ قال: «كان في عَماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخَلَق عرشَه على الماء» .

وفي الأثر عن عثمان

(3)

أنه قال لرجل ظنَّه أعرابيًّا: «يا أعرابي أين ربُّك؟» .

[2/ 348] وأرى أن أسوق هنا عبارة الشيخ أبي الحسن الأشعري في كتابه «الإبانة»

(4)

تأنيسًا للمنتسبين إليه وغيرهم؛ لأنه أشهر المتبوعين في المقالات التعمقية، وفي «روح المعاني»

(5)

وغيره أن كتاب «الإبانة» آخر مصنفاته.

(1)

أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي. وأخرجه أبو داود (3284) بنحوه من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه أحمد في «المسند» (16188) والترمذي (3109) وابن ماجه (182). وقال الترمذي: «حديث حسن» .

(3)

ذكره ابن قتيبة في «غريب الحديث» (2/ 76).

(4)

كتاب مشهور للأشعري طبع مرارًا في الهند ومصر، وقد ذكره جماعة من القدماء ونقلوا عنه، منهم الحافظان الشافعيان أبو بكر البيهقي وأبو القاسم ابن عساكر وجماعة آخرون، كما في رسالة ابن درباس المطبوعة مع الإبانة. [المؤلف].

(5)

(1/ 60). وانظر «مجموع الفتاوى» (5/ 93).

ص: 534

قال

(1)

:

«باب ذكر الاستواء على العرش: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقد قال الله عز وجل:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقال عز وجل:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقال حكاية عن فرعون:{يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] كذَّبَ موسى عليه السلام في قوله: إن الله عز وجل فوق السماوات. وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات

ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات

(سؤال) وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية: إن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إنه استولى وملك وقهر، وإن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة. ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض

وزعمت المعتزلة

(1)

«الإبانة» (ص 33 - 37).

ص: 535

والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في [2/ 349] كل مكان، فلزمهم أنَّه في بطن مريم، وفي الحشوش والأخلية، وهذا خلاف الدين، تعالى الله عن قولهم

».

ثم ساق الكلام، وذكر حديث: «ينزل الله عز وجل كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا

»

(1)

من طرق، ثم قال:

«دليل آخر: وقال الله عز وجل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقال:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، وقال:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وقال:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] فكلُّ ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشه

دليل آخر: وقال جلَّ وعزَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقال:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، وقال:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 8 - 18]، وقال عز وجل لعيسى بن مريم عليه السلام:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا

(1)

حديث متواتر أخرجه الأئمة في مصنفاتهم. وهو متفق عليه من حديث عدد من الصحابة. ويراجع «شرح حديث النزول» لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 536

(157)

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157 - 158]. وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إلى السماء. ومِنْ دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون جميعًا: يا ساكن العرش. ومن حَلِفهم جميعًا: لا والذي احتجب بسبع سماوات

دليل آخر: وقال عز وجل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62]، وقال:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30]، وقال:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، وقال عز وجل:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48]

فلم يُثْبتوا

(1)

له في وصفهم حقيقة، ولا أوجب له الذي يُثبتون له بذكرهم إياه وحدانية، إذ كلُّ كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي أو التعطيل، .... وروت العلماء عن عبد الله بن عباس أنه قال

(2)

: [2/ 350]«تفكَّروا في خلق الله عز وجل، ولا تفكَّروا في الله عز وجل، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام، والله عز وجل فوق ذلك» .

دليل آخر: وروت العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال

(3)

: «إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله عز وجل حتى يسأله عن عمله» . وروت العلماء أن رجلًا

(1)

يعني: الجهمية ومن معهم. [المؤلف].

(2)

أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (2، 3، 22)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (618، 887). وإسناده ضعيف. وانظر «السلسلة الصحيحة» (1788).

(3)

أخرجه الترمذي (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعًا: «لا تزول قدما عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه، وعن

». وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 537

أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأَمة سوداء، فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة، فهل يجوز عتقها؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :«أين الله؟ » قالت: في السماء، قال:«فمن أنا؟ » قالت: أنت رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أعتِقْها فإنها مؤمنة»

(1)

. وهذا يدل أن الله عز وجل على عرشه فوق السماء».

يعلم من عبارة الأشعري وغيرها أن الأمة كانت مجمعة على إثبات الأينية، غير أن السلف يثبتون الفوقية، والجهمية تقول بالمعية، أي أنه تعالى في كل مكان. وثبت السلفيون على قول السلف على الحقيقة، ووافقهم على ذلك في الجملة فِرَقٌ قد انقرضت. وصار المتعمقون إلى فرقتين: الأولى تدَّعي موافقةَ السلف، والأخرى تُنمَى إلى الجهمية. واتفقت الفرقتان على نفي الأينية، لكن الأولى تُطلق ما يظهر منه الفوقية، وتتأول ذلك بالفوقية المعنوية، والثانية: تطلق أنه تعالى في كل مكان، وتتأول ذلك بالعلم والقدرة، وغرضهما التمويه والتمهيد لتأويل النصوص وأقوال من سبق.

وعلى كل حال، فعبارة الأشعري التي سقناها صريحة واضحة في أنه يثبت الفوقية الذاتية على الحقيقة، والمنتسبون إليه يواربون محتجِّين بأنه ينفي الجسمية.

فيقال لهم: إن كان صرَّح بنفي الجسمية، فيحتمل حالُه أوجهًا:

الأول: أن يكون رجع عن ذلك، وقد تقدَّم أن «الإبانة» آخر مصنفاته.

الثاني: أن يكون إنما ينفي الجسمية المستلزمة للمحذور، على حد قول جماعة:«جسم لا كالأجسام» .

(1)

سبق تخريجه (ص 534).

ص: 538

[2/ 351] الثالث: أن يكون يخص اسمَ الجسم بما يستلزم المحذور، ويرى أن ما ثبت لله عز وجل بما ذكره في عبارته السابقة من الفوقية والنزول كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة، وغير ذلك= لا يقتضي أنْ يسمَّى جسمًا، وإن كان يستلزم ما يسمِّيه غيرُه جسمية. وأيًّا ما كان فلنَدَع الأشعري، وننظر في أصل القضية.

احتجَّ مثبتو الأينية مع النصوص الشرعية وإجماع السلف بأنه لا يُعقل الوجودُ بدونها. وهذا من أجلى البديهيات وأوضح الضروريات.

أجاب المتعمقون بأن هذه بديهية وهمية. قال الغزالي في «المستصفى» (ج 1 ص 46): «السادس: الوهميات. وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارًا إلى جهته، فإنَّ موجودًا لا متصلًا بالعالم ولا منفصلًا عنه، ولا داخلًا ولا خارجًا= مُحالٌ، وأن إثباتَ شيء مع القطع بأن الجهات الستَّ خالية عنه مُحالٌ

ومن هذا القبيل: نفرةُ الطبع عن قول القائل: ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ

(1)

. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان. والأولى منهما ربما وقع لك الأنسُ بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة إثباتَ موجودٍ

(2)

ليس في جهة

وهذه القضايا مع أنها وهمية، فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية

بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية».

قال المثبتون: أما أن القضية بديهية فطرية، فحقٌّ لا ريب فيه. وأما زعمُ

(1)

كذا في (ط) هنا وفي المواضع الآتية، وفي «المستصفى» وكتب المتكلمين والفلاسفة:«ملاء» مراعاة لـ «خلاء» .

(2)

(ط): «وجود» . والتصويب من المستصفى.

ص: 539

أنها وهمية، فباطل، فإن القضايا الوهمية من شأنها أن ينكشف حالها بالنظر انكشافًا واضحًا، ومن شأن الشرع إذا كانت ماسَّةً بالدين كهذه أن يكشف عنها؛ وكِلا هذين منتفٍ.

أما الشرع فإنما جاء بتقرير هذه القضية وتثبيتها وتأكيدها بنصوص صريحة تفوق الحصر، بل أصلُ بناء الشرائع على نزول المَلَك من عند الله عز وجل بالوحي على أنبيائه.

وأما النظر، فقد اعترف الغزالي بأن أقصى ما يمكن من مخالفته لهذه القضية أنه ربما حصل الأنس بتكذيبها لمن كثرت ممارسته للأدلة العقلية

، ففي هذا أن تلك الأدلة كلَّها ــ فضلًا عن بعضها ــ لا تُثمِر اليقين، ولا ما يقرب منه، ولا ما يشبهه. وإنما غايتها أنه ربما حصل الأنس لمن كثرت ممارسته لها.

[2/ 352] وقد شرح الغزالي نفسه في «المستصفى» (ج 1 ص 43) يقين النفس بقوله: «أن تتيقن وتقطع به، وينضاف إليه قطع ثان، وهو أن تقطع بأن قَطْعَها به صحيح، وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس؛ فلا يجوز الغلط في يقينها الأول، ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ؛ بل حيث لو حُكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزةً وادعى ما يناقضها، فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبيّ، وأن ما ظن أنَّه معجزة فهي مخرقة، فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله. وإن خطر ببالها إمكانُ أن يكون الله قد أطْلعَ نبيًّا على سرٍّ به انكشف له نقيضُ اعتقادها، فليس اعتقادها يقينًا. مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة

».

ص: 540

فأنت إذا عرضتَ قوله: «ربما حصل لك الأنس

» على هذا اليقين الذي شرحه علمتَ أن بينهما كما بين السماء والأرض. فثبت أنَّ ما سمَّاه أدلةً عقليةً موجبةً إثباتَ موجودٍ ليس في جهة، ليس معنى إيجابها ذلك إثمارَ اليقين ولا ما يقاربه ولا ما يشبهه. فإذ كانت كذلك، فكيف يسوغ أن تعارض بها القضية البديهية الواضحة؟

فإن قيل: لكنها تزلزل اليقين بتلك القضية، فلا تبقى يقينية.

قلت: أما زلزلة اليقين في جميع النفوس فممنوع. وأما زلزلته في بعض النفوس فلا يقدح. ألا ترى أن من العقلاء من شكَّ في البديهيات كلِّها وقدح فيها، كما مرَّ في الباب الأول؟ أَوَلا ترى أن الغزالي نفسه صرَّح في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنه نفسه كان يشك في الحسِّيَّات والبديهيات، وأنه بقي على ذلك نحو شهرين. وقد تقدَّم حكاية ذلك في الباب الأول

(1)

.

فالحق أن اليقين قد يطرأ عليه التفاتٌ إلى الشبهات ورعبٌ منها إذا حُكِيتْ عن جماعة اشتهروا بالتحقيق والتدقيق، وأنهم اعتمدوها، فيعرض التشكك، وهذا هو الذي ربما يعرض هنا، بما ذكره الغزالي من كثرة الممارسة. وقد تقدَّم في الباب الأول أن القادحين في البديهيات احتجوا بقولهم:«من مارس مذهبًا من المذاهب برهةً من الزمان ونشأ عليه، فإنه [2/ 353] يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه»

(2)

. ولم يُجِب مخالفوهم إلا بقولهم: «الجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك» . فإذا كانت كثرة الممارسة للباطل قد تُورِث الجزمَ ببطلان ما

(1)

ص (227 - 228 و 235). [المؤلف]. انظر (ص 362 - 363 و 372 - 373) من هذه الطبعة.

(2)

تقدم ص (216)[ص 346]. [المؤلف]

ص: 541

يخالفه، فكيف لا تُورث ما ذكره الغزالي هنا بقولَه:«ربما حصل لك الأنس» ؟ وإذا وجب أن لا يُعْتَدَّ بالجزم الحاصل عن طول الممارسة، فكيف يُعتدُّ باحتمال حصول الأنس؟ ولو كان هذا كافيًا للتشكيك في البديهيات، وخشية أن تكون وهمية لثبَتَ القدحُ في عامة البديهيات، وطُوِي بساط العقل، وحقَّت السفسطة. وقد تقدَّم في الباب الأول قولُهم في الجواب عن شبهات القادحين في البديهيات:«ولا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبَّ عنها، وليس يتطرق إلينا شكٌّ فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعًا، وإن لم يتيقن عندنا وجهُ فسادها»

(1)

. أفلا يكفي مثبتي الأينية أن يجيبوا عما سمَّاه الغزالي «أدلة» بمثل هذا؟

فإن قيل: إن من تلك الأدلة البراهينَ على وجود واجب الوجود، لأنه لا يصح كونُه واجبَ الوجود إلا إذا لم يكن له أين، فجمودكم على تلك القضية يقتضي نفيَ وجودِ واجبِ الوجود.

قلت: البراهين الصحيحة على وجوده لا تقيِّد بعدم الأين، بل منها ما يقضي بوجوده مع ثبوت الأين له. فأما المقاييس التي يتشبث بها النفاة فهي من الشبهات التي نتيقن فسادها، وإن فُرِض أنه لم يتعيَّن لنا وجهُه.

أقول: وفي هذا مع الأدلة الشرعية ما يكفي الراغبَ في الحق الخاضعَ له، فلا حاجة بنا إلى التشاغل بتلك الشبهات. ولكن أشير هاهنا إلى نكات:

الأولى: المتعمقون يقولون: إنَّ ذات البارئ عز وجل مجردة، ثم منهم من يُثبت ذواتٍ كثيرة مجردة حتى عدُّوا منها الملائكة وأرواح الخلق، ومنهم

(1)

ص 218 [ص 348]. [المؤلف]

ص: 542

من يقتصر على تجويز ذلك، وردُّوا على من نفى ذلك محتجًّا بأنه لو وُجدت ذات أخرى مجردةٌ لكانت مماثلةً لذات الله عز وجل، بأن المشاركة في التجرد لا تقتضي المماثلة التي تستلزم اشتراكَ الذاتَيْن فيما يجب ويجوز ويمتنع.

[2/ 354] وأنت إذا تدبرت علمتَ ما في هذا القول، كما مرَّ في الباب الثالث

(1)

.

فإن قيل: الإنصافُ أنَّ مَن أثبت المشاركةَ في أمرٍ ما فقد أثبت المثل في مطلق ذاك الأمر، ولزومُ التساوي في الأحكام إنما هو بالنظر لذاك الأمر، فالمُثبِتُ الشريكَ في الوجود يلزمه تساوي الذاتين في أحكام مطلق الوجود. وهكذا يقال في التجرد والجسمية والأينية وغيرها، وليس المحذور هنا إثباتَ مثلٍ في أمرٍ ما، ولا إثباتَ مساوٍ في أحكام أمرٍ ما، وإنما المحذور لزوم حكم باطل.

قلت: فهذا يوضِّح سقوطَ تشبُّثِهم بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، ويبيِّن ما قدَّمناه في ذلك في الباب الثالث. ولله الحمد.

ثم أقول: التجرد المزعوم إنما حاصله عند العقول الفطرية: العدمُ، وذلك منافٍ للوجود، فضلًا عن الوجوب. وعلى فرض أنه لا ينافي الوجود، فأيُّ فرق يُعقَل بين ذاتين مجردتين حتى تكون هذه روح بعوضة، وتلك ذات رب العالمين؟ فأما ذاتان مشتركتان في مطلق الأينية، فإن معقولية الفرق بينهما

(1)

(ص 278)[ص 436]. [المؤلف]

ص: 543

بغاية الوضوح، بل يجيء ذلك في الجسمية وإن كنا لا نقول إنه سبحانه وتعالى جسم. فأما زعمهم أن في أحكام مطلق الأينية ما ينافي الوجود، فإنما مستندهم فيه تلك الشبهات التي تقدَّم أنه لا يلزمنا التشاغل بها للعلم ببطلانها، مع اعتراف أشدِّ أنصارها تحمُّسًا ومجازفةً بأن غايتها أنها ربما تُورث مَنْ طالت ممارسته لها الأنس بمقتضاها. ومن تدبَّر تلك الشبهات علم وَهْنَها.

[الثانية:]

(1)

يقول الفلاسفة: إن ذات الله تعالى وجود، ومال إلى هذا كثير من متأخري المتكلمين. وأُورِد عليهم أن الوجود عندهم أمر عدمي، فأجابوا بأنه لا مانع من تفاوت الأفراد، فيكون هذا الفرد المعروف من الوجود أمرًا عدميًّا، وفرد آخر منه واجب الوجود لذاته. ومن العجب أن يزعموا معقولية هذا، وينكروا معقولية التفاوت في الأينية، أو قل في الجسمية.

[2/ 355] الثالثة: القائلون: «جسم لا كالأجسام» يقولون: لا حاجة لأن تُلزِمونا ذلك بإثباتنا الفوقية، بل نحن نُلزِمكم ذلك بما اعترفتم به أنه سبحانه موجود قائم بنفسه، بل ذلك هو معنى القيام بالنفس، وهذه من أجلى البديهيات. وذكروا أن بعضهم أورد هذا على أبي إسحاق الإسفرائني

(2)

ففرَّ إلى قوله: إنما أعني بقولي: «قائم بنفسه» أنه غير قائم بغيره. وهذا عجب! فإنه إذا كان موجودًا، والموجود إما قائم بنفسه، وإما قائم بغيره، فقوله:«غير قائم بغيره» ، إنما حاصله أنه قائم بنفسه، فحاصل جوابه إنما يعني بقوله: «قائم

(1)

زيادة يدلّ عليها قوله فيما يأتي: «الثالثة» .

(2)

كذا الأصل بالهمزة بين الألف والنون، والصواب (الإسفرايني) بالياء المكسورة كما في كتب الأنساب. وقال السيوطي:«قلت: بلا همزة» . ونحوه في «معجم البلدان» إلا أنه زاد في ضبطها ياء أخرى ساكنة. يعني (الإسفراييني). [ن].

ص: 544

بنفسه» أنه قائم بنفسه!

أقام يُعْمِلُ أيامًا رَوِيَّتَه

وشبَّه الماء بعد الجهد بالماء

(1)

الرابعة: في عبارة الغزالي ذكر قضية الخلاء والملأ. فالفلاسفة ومن تبعهم يقولون: إنه ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ، والعقول الفطرية تُنكِر ذلك، وأورد عليهم أنا إذا فرضنا إنسانًا على طرف العالم فمدَّ يده إلى خارجه، فإن امتدت فثَمَّ خلاء، وإلا فثم ملأ، فأجابوا باختيار أنها لا تمتد، لكن لا لوجود ملأ، بل لعدم شرط الامتداد، وهو الخلاء.

أقول: وهذه القضية قريبة من سابقتها، فإن الفطر قاضية بأن الخلاء والملأ إذا فُقد أحدهما وُجِد الآخر، وعلى هذا ففقدُ الخلاء معناه وجود الملأ.

الخامسة: مذهب المتكلمين أن الخلاء أمر عدمي، والأعدام قديمة. واستدل الفلاسفة على أنه أمر وجودي بأنه يشار إليه ويتقدر. ومما يدفع ذلك أنهم يقولون: ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ. فلنفرض أن الله عز وجل خلق وراء العالم جدرانًا، وخلق لها خلاءً

(2)

تقوم فيه، وتكون بحيث يأتلف منها بناءٌ مربَّع يبقى جوفُه على ما كان عليه، فإن ذاك الجوف يكون مشارًا إليه متقدرًا، مع أنه بات على ما كان عليه. والعقول الفطرية يمكنها أن تتصور أن [2/ 356] يكون الكون كلّه جسمًا واحدًا مثلًا، وأن تتصور عدم الأجسام، وأن يكون الكون كله خلاءً؛ ولا تتصور ارتفاع الأمرين. وهذا يقضي بأن الخلاء

(1)

البيت لابن الذروي في «الوافي بالوفيات» (3/ 116).

(2)

أي بناء على زعمهم أن الخلاء أمر وجودي. [المؤلف].

ص: 545

أمر عدمي، فإنه يُعقل ارتفاعُ العدم بالوجود، وارتفاعُ الوجود بالعدم، ويستحيل ارتفاعهما معًا. وظواهر النصوص الشرعية توافق هذا، فإنها تعرضت لخلق العالم في الخلاء، ولم تتعرض لخلق الخلاء، بل في عدة نصوص ما يقتضي أن الخلاء لم يكن مرتفعًا

(1)

قطّ

(2)

قبل وجود الملأ. ولا أعلم من سلف المسلمين قائلًا بأن الخلاء أمر وجودي، وأنه لم يكن خلاء ولا ملأ حتى خلق الله تعالى ذلك.

وقال لي قائل: هَبْ أن زاعمًا زعم أن الخلاء وجودي، وأنه قديم فأيُّ محذور في هذا؟ فإن الخلاء أمر لا يصلح أن يكون منه تخليق ولا تدبير، فلا يتوهم أن يكون هو ربَّ العالمين أو مغنيًا عنه أو شريكًا له. وقضيةُ الافتقار إليه على فرض كونه واجبًا لا تنافي الوجود، ولا تزيد عن الافتقار إليه على فرض أنه أمر عدمي، وعلى الافتقار إلى عدم المانع نحو ذلك.

وأقول: خيرٌ لمن يَعرِض له مثلُ هذا أن يُعرِض عن التفكير، ويستغني بما ثبت بالقواطع. وسيأتي لهذا مزيد. والله الموفق.

السادسة: من تدبَّر عبارة الغزالي علِمَ أنه يعترف أن العرب والصحابة والتابعين وكلَّ من لم تطُل ممارستُه لمزاعم الفلاسفة في التجرد، إذا أيقن أحدهم بوجود الله عز وجل فإنه يوقن بثبوت الأينية له ولابدَّ. وإذ كانت الفِطَر قاضيةً بأنه سبحانه فوق سماواته، فإنهم يوقنون بذلك على ظاهره وحقيقته، فإذا سمعوا النصوص الشرعية الموافقة لذلك، فإنما يفهمون منها [2/ 357] تلك المعاني الموافقة، وليس في وسع أحد منهم أن يتوقف عن فهم ذلك

(1)

أي منفيًّا. [م ع].

(2)

(ط): «فقط» تحريف.

ص: 546

منها. وعلى فرض أن في النصوص ما يُشعر بخلاف ذلك، فإنهم يحملونه على خلاف ما يُشعر به. وبهذا تعلم أن من ينكر تلك المعاني فإنه ينسب النصوص إلى الكذب البتة. ولعل للغزالي عباراتٍ أصرحَ مما ذكر. وفيما ذكر كفاية، فإن الأمر واضح جدًّا. وكذلك غيرهُ من المتعمقين يلزمهم ذلك، ويظهر من حالهم أنهم يعرفونه ويعترفون به. ومن آخرهم السعد التفتازاني، قال في «شرح المقاصد»

(1)

:

«فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفَى الحيز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مُشعرة في مواضع لا تُحصى بثبوت ذلك، مِن غير أن يقع في موضع واحد منها تصريحٌ بنفي ذلك وتحقيق؛ كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع وأكدت غاية التأكيد، مع أن هذا أيضًا حقيقٌ بغاية التأكيد والتحقيق لما تقرَّر في فطرة العقلاء ــ مع اختلاف الأديان والآراء ــ من التوجه إلى العلو عند الدعاء ومدِّ الأيدي إلى السماء؟

أجيب: بأنه لمَّا كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة، حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة، كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى إصلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحقِّ ما يكون ظاهرًا في التشبيه وكون الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عمَّا هو من سمة الحدوث».

أقول: تدبَّرْ عبارةَ هذا الرجل، وانظر ما فيها من التلبيس والتدليس!

أولًا: قوله: «الدين الحق» . وكلُّ مسلم يعلم {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ

(1)

(4/ 50، 51).

ص: 547

الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والإسلامُ باعتراف هذا الرجل جاء بنقيض ما زعم أنه الدين الحق، وكذلك جميع أديان الأنبياء. فكيف يقول مسلم إن الدين الحق نقيض ما جاء به الأنبياء؟ ثم ما الذي جعله حقًّا، وهو مع مخالفته للكتاب والسنة وسائر كتب الله تعالى وأنبيائه منابذٌ لبدائه العقول؟ !

ثانيًا: قوله: «مُشعرة» . ومن عرف الكتاب والسنة علم يقينًا أن نصوصهما بغاية الصراحة في الإثبات.

[2/ 358] ثالثًا: قوله: «تقصر عنه عقول العامة» . والحق أن العقول كلَّها تنبذه البتة، إلا أن من أرعبته شُبَهُ المخالفين لعظمتهم في وهمه، وطالت ممارسته لها، قد يأنس بالنفي الساقط كما تقدم. وهذا الأنس إنما هو ضربٌ من الحيرة، بل هو ضربٌ من الجنون! افرض أنك خرجت من بيتك، وعلى رأسك عمامة، فيلقاك رجل، فيقول لك: لِمَ خرجتَ بلا عمامة؟ فترى أنه يمازحك، ثم يلقاك آخر فيقول لك نحو ما قال الأول، ثم يلقاك ثالث ثم رابع ثم خامس وهكذا= كلٌّ منهم يقول لك نحو مقالة الأول، ألا ترتاب في نفسك وتخاف أن تكون قد جُنِنتَ، حيث تعتقد أن على رأسك عمامة تراها، وتلمسها، وتُحِسُّ بثقلها؛ وهؤلاء كلهم ينفون ذلك. وقد ينتهي بك الحال إلى أن تحاول أن تُقِنعَ نفسك بأنه ليس على رأسك عمامة، وتتقي أن تخبر أحدًا بأنك تعتقد أن على رأسك عمامة. بل قد ترى الأَوْلَى أن ترمي العمامة عن رأسك حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس. ولكن افرض أنك رميتَ بها واعتقدتَ أنه ليس على رأسك عمامة، فلقيك رجل، فقال لك: عمامتك هذه كبيرة، ثم لقيك آخر فقال: عمامتك هذه وسخة، ثم ثالث ثم رابع ثم خامس وهلم جرًّا= كلٌّ منهم يُثبت لك أن على رأسك عمامة، فماذا يكون حالك؟

ص: 548

وقد وقع ما يشبه هذا، فكانت نتيجته الجنون!

أُخبِرتُ أنه كان في هذه البلدة امرأة من نساء كبار الأمراء، وكان لها ولدٌ يعارضها ويمانعها عما تريد، واشتدت مضايقته لها، حتى عمدت إلى جماعة أعدَّتْهم لمجالسة ولدها وصحبته وأن يتعمَّدوا مخالفته وإظهارَ التعجب منه في أشياء كثيرة. كانوا يقولون في الحُلْو: إنه حامض، وفي الأصفر: إنه أحمر، ونحو ذلك. ففعلوا ذلك وألحُّوا فيه حتى تشكك الولد وجُنَّ!

وأُخبرت أنه كان لرجل من كبار الوزراء ابنٌ وابن أخ أو قريب آخر، وكان القريب عاقلًا ذكيًّا فطنًا مهذبًا نبيل الأخلاق، وكان الابن دون ذلك. فخاف الوزير أن يموت، فيتولى الوزارةَ قريبُه دون ابنه، فأعدَّ جماعةً لمجالسة قريبه، وأمرهم بمخالفته وتشكيكه. ففعلوا ذلك حتى جُنَّ المسكين.

[2/ 359] رابعًا: قوله: «حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة» . والحق الواضح أنها تجزم بذلك كلَّ الجزم، إلا أن يُبتلى بعضُها بالتشكك، كما مرَّ.

خامسًا: قوله: «مع تنبيهات دقيقة» . إن أراد بالتنبيهات قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ونحوها فقد تقدم الجواب. وإن أراد الدلائل على وجوب الوجود والغنى، فقد تقدَّم الكلامُ فيها. وعلى كل حال، فليس في العقول الفطرية ولا النصوص الشرعية ما يصح أن يُعَدَّ قرينةً صارفة للنصوص عن المعاني التي زعم التفتازاني أنها مناقضة للدين الحق، فقد لزمه ونظراءه لزومًا واضحًا تكذيبُ النصوص ولابد.

وقد حكى بعضُ المحشِّين على «المواقف» عبارة التفتازاني المذكورة، ثم تعقبَّها بقوله: «فيه فتحُ بابِ الباطنية، لأنه كما جاز إظهارُ الباطل حقًّا في

ص: 549

آيات كثيرة وتقريرُه في عقول عامة المسلمين لقصور دركهم جاز مثلُه في سائر الأحكام كخلود العذاب الجسماني والجنة الجسمانية والصراط الأدقِّ من الشعر، لأن الصرف عن الظاهر لا يتوقف على استحالته، بل الاستبعادُ كافٍ، نحو رأيت الأسد في الحمام. فالحق أن تأويل تلك الآي بظهور المجرد في صورة الجسماني».

أقول: حاصل هذا التعقب موضَّحًا أن الاستحالة المزعومة لم تكن تدركها عقول المخاطبين، فلا يصح عدُّها قرينةً تدفع الكذب. فإن زعمتم أنه اقتضت المصلحةُ التسامحَ في هذا، والاكتفاءَ بجواز الكذب من الله ورسله، والتكذيب منكم بأن هناك ما لو علمه المخاطبون لكان قرينةً، وهو الاستحالة العقلية= كان للباطنية أن يعتذروا بنحو عذركم عن تأويلاتهم لغالب العقائد والأحكام متشبِّثين بدعوى الاستبعاد، كما تشبثتم بدعوى الاستحالة. والحاصل أنكم تشبثتم باقتضاء المصلحة ودعوى وجود ما لو علمه المخاطبون لكان قرينة، وهذه حال الباطنية أيضًا.

ثم أقول: الاستحالة مدفوعة، وكثير من النصوص صريح لا يحتمل غير ذاك المعنى الذي [2/ 360] ينكره المتعمقون. والكلام الذي يحتمل غير الظاهر احتمالًا قريبًا لا يُصرف عن ظاهره إلا بقرينة، ومن شرط القرينة أن يكون من شأنها أن لا تخفى على المخاطب. فإن لم يحتمل غيرَ ظاهره أو احتمله ولا قرينةَ، فزعمُ أن ظاهره باطل تكذيبٌ له ولابد. ومعلوم من الدين بالضرورة استحالةُ أن يقع كذب من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر به عنه، والله تعالى أجلُّ وأعظمُ من أن يكذب لمصلحة، والمصلحة المزعومة قد مرَّ إبطالها في الباب الثالث، ومرَّ هناك ما يكفي ويشفي.

ص: 550

فأما ظهور المجرد في صورة الجسماني، فالتجرد المزعوم لا حقيقة له، وإنما المعروف تمثُّل الملك بشرًا، ولا يلزم من جواز ذلك في المخلوق جوازُه أو نحوُه في الخالق جل وعلا. ومع ذلك فتلك حال عارضة، والنصوص صريحة في حال مستقرة مستمرة، وبدائهُ العقول تقضي بذلك كما لا يخفى. والله الموفق.

السابعة: المباحث التي تتعلق بالتدقيق في شأن وجود الله عز وجل، يلتبس فيها الأمر، فيزلُّ النظر من الوجود الواجب الذاتي الذي لم يزل إلى الوجود الممكن والحادث، كما تقدَّم في الباب الثالث

(1)

، وتقدم هناك المخلص من أمثال ذلك. وامتثالًا لذلك نقول: إننا لا نطلق ما لم يطلقه الشرع ولا وضح به الحق، وإنما ندين بما ثبت بالمأخذين السلفيين، عالمين أنه لا يلزم الحقَّ إلا حقٌّ. فكلُّ ما ثبت بالمأخذين السلفيين فهو حق، وما أُورد عليه من الإلزامات التعمقية لم يخل الحال أن يكون اللزوم باطلًا، أو يكون اللازم حقًّا لا ينافي ما ثبت بالمأخذين السلفيين.

اللهم يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك، واهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

* * * *

(1)

ص 284 - 289 [ص 444 - 449]. [المؤلف]

ص: 551