الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنظر الواضح يكشف هذا. فإنك لو كنتَ مريضًا فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سمٌّ قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سمًّا، ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضارٌّ، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع= أفلا يقضي عليك العقلُ ــ إن كنت عاقلًا ــ بأن تجتنب ذاك الشيء؟
أوَ ليس مَن يأمرك ويُلِحُّ عليك أن تصرِفَ وقتك في تناول ذاك الشيء تاركًا ما اتفقوا على نفعه بحقيقٍ أن تَعُدَّه ألدَّ أعدائك؟
وتدبَّرْ في نفسك: أيصح من عاقل محبٍّ للإيمان خائفٍ من الشرك أن يستحضر هذا المعنى، ثم يصرَّ على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركًا؟ أوَ ليس مَنْ يُصِرُّ إنما يشهد على نفسه بأنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركًا؟!
المطلب
الثالث: الفقهيات
. والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه ــ كما مرَّت الإشارة إليه ــ لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فِرَقًا متنازعةً وشِيَعًا متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديمِ أقوالِ الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص. وإذْ كان المسلمون قد وقعوا في ذلك، فإنما أوقعهم الهوى، فلا مَخْلَصَ لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحوها عن الغَيِّ، ويتناسَوا ما استقرَّ [2/ 384] في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبَوها مذهبًا واحدًا اختلف علماؤه، وأنَّ على العالم في زماننا النظرَ في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيارَ الأرجح منها.
وقد نصَّ جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلِّد إذا ظهر له رجحانُ الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليدُ إمامه في تلك القضية. بل يأخذ بالحق، لأنه إنما رُخِّص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعةُ الله وطاعة رسوله. ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحانُ خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلَف فيه، فيترجَّح عندك قولُ مجتهد آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متَّبعًا الدليلَ الراجح من جهة، ومقلِّدًا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة. والفقهاءُ يجيزون تقليد المقلِّد غيرَ إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلِّده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟
وقضية التلفيق إنما شدَّدوا فيها إذا كانت لمجرد التشهِّي وتتبُّع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرَّى الحقَّ وإن خالف هواه فأمرها هيِّن. فقد كان العامة في عهد السلف تَعرِض لأحدهم المسألةُ في الوضوء، فيسأل عنها عالمًا فيفتيه، فيأخذ بفتواه. ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضًا أو الصلاة، فيسأل عالمًا آخر، فيفتيه، فيأخذ بفتواه، وهكذا. ومن تدبَّر علِمَ أن هذا تعرُّضٌ للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف، فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذ كان غيرَ مقصود، ولم ينشأ عن التشهِّي وتتبُّع الرخص.
فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسَه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل، ويسوغ له أن يثق بما تبيَّن له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه. نعم، قد غلب اتباعُ الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا
احتيط لذلك بأن يرتَّب جماعةٌ من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى، فينظروا فيها مجتمعين، ثم يُفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم= لكان في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى.
فتلخَّص مما تقدَّم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معهما، واتقى البدعَ، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرَّى الأرجح، وكان مع ذلك محافظًا على الفرائض، مجتنبًا للكبائر، فإن عثر استقال ربَّه وتاب وأناب= فهو من الطائفة [2/ 385] التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تزال قائمةً على الحق. فليتعرَّفْ إخوانَه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوعِ بالمسلمين إلى سواء السراط. فأما من أبى إلا الجمودَ على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23].
اللهم يا مقِّلبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك، واهْدِنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].