الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الصَّالِحِ لَأَنْ يَتَقَيَّدَ بِخَشْيَةِ الْعَنَتِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ.
وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [الْبَقَرَة: 220] وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَشَقَّةُ الْعُزْبَةِ الَّتِي تَكُونُ ذَرِيعَة إِلَى الزِّنَا، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعضهم: أُرِيد الْعَنَت الزِّنَا.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِذَا اسْتَطَعْتُمُ الصَّبْرَ مَعَ الْمَشَقَّةِ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ، لِئَلَّا يُوقِعَ أَبْنَاءَهُ فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الْمَكْرُوهَةِ لِلشَّارِعِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ، وَلِئَلَّا يُوقِعَ نَفْسَهُ فِي مَذَلَّةِ تَصَرُّفِ النَّاسِ فِي زَوْجِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ إِنْ خِفْتُمُ الْعَنَتَ وَلَمْ تَصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَتَزَوَّجْتُمُ الْإِمَاءَ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ. مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لِأَجْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ. غَفُورٌ فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا بِمَعْنَى التجاوز عمّا مَا يَقْتَضِي مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهُ، فَلَيْسَ هُنَا ذَنْبٌ حتّى يغْفر.
[26]
[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 26]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
تَذْيِيلٌ يُقْصَدُ مِنْهُ اسْتِئْنَاسُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِنْزَالُ نُفُوسِهِمْ إِلَى امْتِثَالِ الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ جَمَّةٌ وَأَوَامِرُ وَنَوَاهٍ تُفْضِي إِلَى خَلْعِ عَوَائِدَ أَلِفُوهَا، وَصَرْفِهُمْ عَنْ شَهَوَاتٍ اسْتَبَاحُوهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ
[النِّسَاء: 27] ، أَيِ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ بَيَانًا وَهُدًى. حَتَّى لَا تَكُونَ شَرِيعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ شَرَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ تَفُوقَهَا فِي انْتِظَامِ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. فَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ كَيْ لَا يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أَهْدَى مِمَّا قَبْلَهَا.
وَقَوْلُهُ: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بَيَانٌ لِقَصْدِ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَزَايَا الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالْإِرَادَةُ: الْقَصْدُ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَالِامْتِنَانُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تَوْضِيحِ الْأَحْكَامِ قَدْ حَصَلَتْ إِرَادَتُهُ فِيمَا مضى، وإنّا عُبِّرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْبَيَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ دَائِمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ تَكُونُ بَيَانًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُبْقِي بَعْدَهَا بَيَانًا مُتَعَاقِبًا.
وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ انتصب فعل (لِيُبَيِّنَ) بِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ مَحْذُوفَةٍ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَفْعُولُ (يُرِيدُ) ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لَكُمْ وَالْهُدَى وَالتَّوْبَةَ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ ذِكْرَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَاللَّامُ هُنَا لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدْ شَاعَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ اللَّامُ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَبَعْدَ مَادَّةِ الْأَمر معاقبة لِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ. تَقُولُ، أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ وَأُرِيدُ لِتَفْعَلَ، وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: 32] وَقَالَ:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: 8] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [غَافِر: 66] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: 15] فَإِذا جاؤوا بِاللَّامِ أَشْبَهَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ فَقَدَّرُوا (أَنْ) بَعْدَ اللَّامِ المؤكّدة كَمَا قد روها بَعْدَ لَامِ كَيْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» .
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عِلَّةٌ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لِيُبَيِّنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيُقَدَّرُ: يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لِيُبَيِّنَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْعِلَّةِ نَفْسَ الْمُعَلَّلِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: اللَّامُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْفِعْلِ السَّابِقِ،
وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ دُونَ سَابِكٍ عَلَى حَدِّ «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ إِرَادَةُ اللَّهِ كَائِنَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ انْحَصَرَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهَا إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوْ بِالتَّأَخُّرِ. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَى كَيْ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيِّ.
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا
…
سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ